ترجمة سعيد بوخليط
لقد فضل ريجيس دوبري دائما، الواقع على النصوص، من جوزيف كونراد إلى إيمانويل كانط. غير معتقد دينيا، لكن يسحره اسم الله. انكب على مهمة تأمل، مايفلت عن العقل الفطن. من انخراطه الثوري في أمريكا اللاتينية، إلى إعادة اكتشافه للحدود. مسيرة رجل، لا يمكنك أبدا أن تجده، حيث تعتقده مقيم.
يقول دوبري: "أنا لست فيلسوفا منذ عهد بعيد، بل كاتب. بهذا المعنى، لاينفصل لدي، العمل حول شكل وكذا إعداد الأفكار. هذا يستبعد، الحوار حول موضوعات العمق، باستثناء معاودة كتابتها ثانية. بالتالي، ما فائدة إجراء حوار، إذن؟ أيضا، ينبغي أن تأخذوا بعين الاعتبار، بأنه ليس لدي أية رسالة أود تمريرها، أو نظرية أتوخى بثها، وجماعة المثقفين الفرنسيين، إما يصيبونني بالضجر أو يثيرون ضحكي. باختصار، أنا زبون سيئ". هكذا، جاء جوابه حينما اقترحنا عليه إجراء هذا الحوار، كما هو بين أياديكم الآن.
"زبون سيئ"؟ مع ذلك، هو أحد الفلاسفة الفرنسيين، الأكثر إنصاتا لهم. ذاك، من ترك مقاعد المدرسة العليا للأساتذة في سن العشرين، ملتحقا بتشي غيفارا، كي يستنشق هواء الثورة، فكان اعتقاله لأربع سنوات. عاشر، سلفادور أليندي، بابلو نيرودا، ورفيق درب فرانسوا ميتران وروبير بادينتي. جسد، فكرة الجمهورية إلى جانب جان بيير شوفينمان. استشرف، قبل الآخرين عودة الديني، فأظهر وظيفته المركزية في دستور التجمعات السياسية، ثم الوحيد من بين جماعة المثقفين، الذي امتلك شجاعة الكتابة حول النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، فتستمع إليه الأطراف المتجابهة.
أخيرا، دوبري مؤسس مبحث جديد اسمه الميديولوجيا la médiologie، الذي وضح ارتباط اعتقاداتنا وكذا كيفيات تنظيمنا الجماعي، قياسا إلى تقنيات التواصل. مع لحظة الثورة الرقمية، سنستوعب في نهاية المطاف كل حمولة هاته العلاقة.
لا، بعيدا على أن يكون زبونا سيئا، يعتبر دوبري بالأحرى، عقلا مناقضا: "شخص يعمل دائما على الميل بكفة ميزانه إلى الجهة الثانية، حيث يستكين، ليس من أجل الإثارة، بل كي يحافظ على التوازن". فاعل في الثورة، لما كان الآخرون يفلسفون للدوغما الثورية. مستشار للرئيس، خلال لحظة مناهضته للتوتاليتارية. جمهوري، مهووس بالتسامي، حينما يقسم الآخرون، فقط بالمساواة الديمقراطية. ثم ملاحق للحدود -ترياق ضد الجدران- لما يعتقد أيضا الآخرون، استحالة تجاوزها.
حول الوحدة البيوغرافية والفلسفية لمساره ذاك، توخينا محاورته. هذا سبب استجابته، مع دقة لازالت تميزه: يريد أولا الإجابة كتابة، ثم إبان نقاش دام أكثر من ثلاث ساعات، هاهي بعض الشذرات، من تماسك تمت استعادته ثانية.
* * * *
1س- مع أنكم قمتم بدراسات فلسفية وطورتم تساؤلا فلسفيا، حول السياسي والديني ثم الصورة إلخ، فإنكم تبعدون عنكم لقب فيلسوف. كيف تعرفون شخصيتكم؟
ج- مثل كاتب. إنه محايد وفي موقع وسط. أنا لست بباحث، فلا أرتدي وزرة بيضاء، كما أن الميديولوجيا(الاهتمام بالميديا)، لاتبتغي أن تكون علما. أما، صفة فنان، فسيكون الأمر ادعاء. لذلك أدقق، أنا كاتب-عارض. لقد احتجت بخصوص الإلهي والمقدس، كي أفهم وأُنقل مافهمته، إلى صور وبيانات وخرائط أو رسوم إعدادية. في المعتاد، نعثر على مفتاح، ثم بعد ذلك، نموضع العالم داخل قفل. أنا، حاولت القيام، بالعكس، القفل أولا، ثم المفتاح بعده. خلال الذهاب والإياب، بين اختبار شخصي -انتقاد الأسلحة، السياسي، التحول- ثم تطور أطروحة، فالصحيح ما احتفظت به التجربة أو الذاكرة. يعثر له الخطاب على شكل، واضح وجلي، إذا أمكن. تساعد الفلسفة على التبسيط، والتسامح مع التناقض، وليس كما يقول ستراوس: "الخلط بين تقدم المعرفة مع تعقد أبنية العقل". تعلمت ذلك، من أساتذتي القدامى كـ: موغليوني، ألتوسير وداغوني، وأشكرهم بهذه المناسبة. وجهة جيدة، فقد قادني ذلك، نحو إعطاء كتبي حول الميديولوجيا هندسة مبنينة قليلا، مع لوحات كرونولوجية ومعاجم وتعريفات للعبارات، ضد الانطباعية والتجريبية، إلى أبعد حد. أما، عن كوني فيلسوف؟ فسيرتي العلمي حسب الأصول المتوخاة (شهادة التبريز، دكتوراه الدولة، إلخ…)، بيد أنه قد مرت الآن عشرون سنة، لم أفتح خلالها كتابا فلسفيا. لنقل إذن: فيلسوف سابق.
2س- ماهي مؤاخذاتكم على الفلسفة؟
ج- انكباب بالمطلق، على المعارف المستقاة من الكتب. ستكتب مؤلفات، حول أخرى، تعلق بدورها على مؤلفات غيرها، مجرد رشْح داخل مجال مغلق وتقديس أعمى للنص. نفوري، يعود كثيرا إلى تمركز آنوي مفرط، ساد باريس فترة شبابي. كل شيء، كان لغة: اللاوعي، الإشهار، الجسد، المجتمعي. السيميولوجيا في كل مكان، بالتالي، لامرجعية قط. تنظير قاطع، لكنه غير مطلع كثيرا. هذا، يعوز بشكل مهول علم الحيوان والاتنولوجيا، من هنا الرغبة، كي أذهب لرؤية ماهو أبعد. حاليا، لا أتمثل الواقع انطلاقا من نصوص كنسية، بل النصوص قياسا للواقع. إذا نجح الأمر، وتوافق مع ملاحظاتي، فذلك جيد، يحتم علي أخذه بعين الاعتبار. أستفيد من أوغست كونت، في حين كانط، لا يفيدني في شيء، جماليته غريبة. لقد توجهت، نحو مؤرخين وجغرافيين ودبلوماسيين وعسكريين وكذا المختصين في عهود ماقبل التاريخ ثم الإثنوغرافيين. هؤلاء، من يشتغلون حقا على الدليل، دون أن ننسى الروائيين الحقيقيين، الذين لا يمتدحون لغة زائفة، مثل جوزيف كونراد وديستويفسكي وسيزار بافيز وجوليان غراك وكلود سيمون…، إنها الأنتروبولوجيا في حالتها العذراء، هي أقل طموحا لكن أكثر نفاذا، وضع يزعج. أتذكر، سجالا بين مينون Ménon وسقراط، فآثرت الأبله مثلما جسده مينون. أبحث، عن أمثلة مادية للفضيلة، تخول للعقول المتفوقة، التعهد بتعليم ماهية الفضيلة، في ذاتها. ينبغي، أن تعرف كيف تتموضع، في مكانه.
3س- سنة 1960بينما كان رفاقك في المدرسة العليا للأساتذة، ينّظّرون للثورة، اخترتم أنتم الرحيل نحو أمريكا اللاتينية، كيف حدث الأمر؟
ج- لا أحد بمقدرته القفز فوق زمانه وحقبته: حرب الفيتنام، "عصر الأنوار" للكاتب الكوبي أليغو كاربونتي، حرب إسبانيا من خلال فيلم فريدريك روسيف"الموت في مدريد"، تراجع المسلك الأناني للأنتلجنسيا الفرنسية، إلخ، ثم أيضا كان هناك التحريض الماركسي: "لايتعلق الأمر بتأويل العالم، لكن بتغييره"، مما يحتم الانتقال من موقع الملاحظ إلى الفاعل.
4س- عمليا هذا يقدم ماذا؟
ج- نوادر، فغداة عملية إنزال، لمعارضي كاسترو، فوق خليج الخنازير، سنة1961. توجهت صحبة برنار كوشنير، صوب سفارة كوبا، يحكمنا هاجس: الانضمام إلى صفوف ألوية جديدة. السفير، وهو عازف بيانو، تفاجأ قليلا، ثم أخبرنا بمايلي: "ارجعا غدا، سنرى ماذا يمكننا فعله". خلال اليوم التالي، لم يحدث الاجتياح، فقد تمكن الكوبيون من التصدي له. هكذا، قرر كوشنر، البقاء في فرنسا، بينما اخترت أنا الذهاب. شهران فيما بعد، وصلت الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن لدي نقود، أذكر التاريخ، كان الرابع من شهر يونيو، الذي يصادف عيدا وطنيا. توجهت إلى ميامي، مجانا باستيقاف صاحب سيارة على الطريق العامة، بحيث امتطيت آخر طائرة متوجهة إلى هافانا يوم 4 يونيو1961. هناك، التقيت حشدا من جنسيات تنتمي إلى غواتيمالا وفنزويلا والأرجنتين، أي كل الناجين وكذا ثوار القارة. بعد مرور ستة أشهر، قلت مع نفسي ينبغي العودة إلى فرنسا والالتحاق ثانية بالمدرسة العليا، ولأنني كنت قد غادرتها بغير ترخيص، فقد عوقبت، بتوبيخ دون أن يتم طردي، نتيجة إجلال قديم، مرده كوني حصلت على المرتبة الأولى، خلال امتحان الدخول، ثم بفضل مساندة جون هيبوليت الذي كان وقتها مديرا للمدرسة. مكثت في باريس حتى سنة 1963، حتى عاودت ثانية الذهاب لفترة عام ونصف، مرتديا قبعة مزدوجة: مبعوث من طرف مجلة "الأزمنة الحديثة" لسارتر، وكذا مجلة أخرى هي "ثورة"، التي كان يشرف عليها جاك فيرجيس. اكتشفت، بأن الماوية، لم يكن لها من معنى في أمريكا اللاتينية، وحدها حرب العصابات، بالطريقة التي يقودها كاسترو، كان لها مستقبلا. مانسميه، بخلق بؤر ثورية. لقد قضيت ثمانية عشر شهرا، بين فنزويلا والبرازيل مع تمرين صغير في سجن بالبيرو. لحسن الحظ، تمكن مديروكالة الصحافة الفرنسية، وهو صديق لأبي، من إطلاق سراحي. كل شيء، كان تواليا لصدف ولقاءات، هيأتها العقيدة الثورية، أو نوع من الأخوية القائمة على الثقة.
5س- في خضم كل هذا حصلتم على شهادة التبريز في الفلسفة؟
ج- بل كنت من بين الأوائل، لم أكرس كثيرا من الوقت للتحضير، ما آزرني بخصوص الفكرة، أن الفلسفة لم تكن شيئا جادا جدا، وبوسعنا أن ننتهي معها إلى تأرجح، بين مفهومين أو ثلاثة مفاهيم. هكذا، كتبت ملخصا، عن تجربتي في أمريكا اللاتينية، أصدره سارتر ولانزمان، في مجلة "الأزمنة الحديثة". عنوان النص: "الكاستروية، المسيرة الطويلة في أمريكا اللاتينية". كان، دقيقا بما يكفي. وقع بين يدي غيفارا، لحظة مروره من الجزائر، فنقله إلى فيديل كاسترو، الذي قال عنه: "لكن من، هذا الفرنسي المحيط بكثير، مما يجري حولنا؟" استدعاني، إلى مؤتمر القارات الثلاث، تحت يافطة خبير ثوري، التي لم تكن تنطبق علي. هنا وجدتني ثانية، مرتبطا بالمشاريع المتمردة خلال تلك الحقبة. اقتفيت خطى غيفارا، في أراضي بوليفيا سنة1967، اعتقلتني القوات الحكومية البوليفية، ثم صدر في حقي حكم بالسجن لمدة ثلاثين سنة. بعد انقضاء أربع سنوات، أطلق سراحي نتيجة تغير النظام البوليفي ثم بفضل حملة دولية. تجلت دوافعي، في انتشال ذاتي من بورجوازيتي التي ولدت بها، ثم فضول نحو العالم، وكذا اليقين بأن أوروبا تسير في طريق مسدود، وينبغي أن يتأتى لها سبيل اشتراكية، قابلة للحياة، خارج القوالب الصينية أو السوفياتية.
6س- ماهو نمط العمل الذي قمتم به في أمريكا اللاتنية؟
ج- أحرس، كي لا ألوث مجلة فلسفية رفيعة وجيدة، بحكايات صغيرة. بالتالي، من يهمهم الأمر، بوسعهم العودة دائما لقراءة، كتابي: "Loués soient nos seigneurs" والجزء الثاني، من كتابي الآخر: "حقبة، تعلم أن تعيش"، الصادر لدى غاليمار. باختصار، يمكن إجمال الفكرة الأساس، في كون الفعل الذي يخلق الشروط الموضوعية لنجاحه، يجدر به تعلم استعمال الأسلحة والبازوكا، من هنا، ضرورة القيام بتدريب عسكري على تقنيات النضال السري. أنا، لم أستعمل متفجرات، وعملت فقط على استكشاف أراضي، كي أمهد للمواقع التي تمكن المقاتل، من التوطد في القارة.
7س- كاسترو ونظام كوبا، كيف نظرتم إليه؟
ج- النظام الكوبي، لايهمني. لن تعثروا، ضمن ما كتبته خلال تلك الحقبة، عن اعتبارات تصب حول النظام الداخلي، بل، ولا ثناء. كان قاعدة خلفية، وليس نموذجا. جسد قلعة صغيرة، نقاتل انطلاقا منها النظام الإمبريالي المنتمي لشمال القارة الأمريكية، الذي يدعم كل الديكتاتوريات العسكرية. كان كاسترو رجلا جذابا ومثقفا ومصغيا. اختلفنا، لكنه ظل مؤمنا، فيما يفعله. لقد تبلوت صداقتنا، على الرغبة في صنع الثورة، داخل أمريكا اللاتينية، ثم نقطة إلى السطر.
8س- وماذا عن تشي غيفارا؟
ج- قطب مقابل لفيديل، هو ليس بصاحب مزاج حامي الطبع، بل، يتميز أكثر بشخصية انطوائية، شخص يبتعد ويرسم المسافات.
9س- هل كان السجن اختبارا للحقيقة؟
ج- لنقول، يمثل لحظة جوهرية للتأمل. لقد، كانت المحاكمة مهزلة. داخل الزنزانة، تنتشل نفسك من الدمية، ويكون لك الوقت الكافي، كي تلج إلى عمق الأشياء. دون الكتب السياسية التي كانت محظورة، فقد تمكنت من قراءة أشياء من نوع "كيشوت"، و"التوراة". اكتشفت، بأني كنت فرنسيا، والثورة في جوهرها، ليست وطنا. أيضا، استحالة تجاوز الطبائع، بحيث أعتبر، لا يمكن أن يكون وطنيا، غير من هاجر. ثم إن حركة ليبرتادوريس، في أمريكا اللاتينية، مع ممثليها: بوليفار، سان مارتان، فرانسيسكو ميراندا والآخرين، تم اكتشافهم لاتنيا في باريس. هم مغتربون، بالمعنى القوي للمفهوم، أي غادروا محيطهم، تقول عنهم الكلمة الجميلة جدا لفيكتور سيغالين: "ينتظرك الجواني، في الخارجي". فمن لايعرف الخارجي، يستحيل عليه معرفة الداخلي. لقد أدركت، بأنه في إطار الصراعات الوطنية المسماة تحريرية، يظل الملتحقون الأجانب، أجساما غريبة كليا، من هنا شجبي الفطري، لتدخلاتنا الإستعمارية الجديدة أو المحافظين الجدد، من العراق إلى ليبيا. سينظر إلينا دائما، كغزاة ومحتلين. باختصار، لقد جعل مني السجن قياسا إلى السياق السياسي، ديغوليا منتميا إلى أقصى اليسار. أحب، الصور البلاغية التي تنعت الشيء بنقيضه.
10س- لكن أيضا، أنتم مفكر يشتغل على مسألة انغلاق المجتمعات على ذاتها، والحدود…، من أجل فهم ماالذي يشغل مجتمعا على العموم، لقد وظفتم مفهوما ينتمي لحقل الرياضيات "اللا-اكتمال"، لكورت غوديل (1906-1978)، بماذا يتعلق الأمر؟
ج- غوديل، لم يلهمني قط. بل ساعدني، على صياغة أفكاري، بطريقة أفضل . لقد دأبت طيلة سنوات على التفكير، وأنا أشاهد الأديرة مع قراءة الأساطير المؤسسة للحواضر، بأن أنفث دخانا حول ماسمي سابقا بالساحة الحمراء (كان ذلك محظورا)، أو أكابد اليأس والملل داخل السجن، كي أستوعب لماذا، عندما يقوم انفتاح نحو الأعلى، يقابله انغلاق في الأدنى، ثم العكس صحيح، يتحصن الروحي. حينما، ترسم محيطا، أو تموضع نطاقا، سيكون لك معبدا (عند اليونان "temno")، أو فضاء يتعذر، حينئذ انتهاكه بعقوبة الإعدام، في روما. لدي مئات الأمثلة الملموسة، التي بوسعي سردها عليكم، حيث يتمفصل تعيين الحدود، وكذا الارتفاع المفرط، ثم الانتماء ونقطة البؤرة. فيما بعد، اهتديت إلى نظريات غوديل، المعقدة جدا كما يعلم كل واحد، والتي أحتفظ بخصوصها على ملخصات، لكنها تقول شيئا، مثل: "لايمكننا تأسيس قضية (ب)، توضح كثافة نظام (س)، بحيث تنتمي (ب) إلى (س)". بالتأكيد، المجتمع ليس نظاما منطقيا، لكنها صيغة بدت إلي، من طبيعة توضح العلاقة غير المتطابقة، وحتى نكون مختزلين، بين الحدود والمقدس. الاكتمال، هو استواء. نتناهى، سواء في المكان والزمان. اللا-اكتمال، متعرج، هذا يصل الخارجي بالداخلي، يلحم العمودي بالأفقي، الهنا بالهناك، ثم الغد أو المرة المقبلة، باليوم. نسق ثابت، لايتأسس على ذاته. الإتيقا، لاتنبني من خلال حد الإتيقا، ولا الفن في إطار حد الفن، بل تلزم دائما عمودية، ضمّ، أو مفهوم خارجي، على سطح الماثل. هذا النقص في الوجود، يشكل عاهة. لكنه منتج، بحيث يمنح القوة لمن هو أخمص القدم، الآكل لكل شيء، والحكم عليه كي يمشي مرفوع الهامة. ما يندرج تحت هذا المعنى، يحيل على ما يتجاوزه، مما يمنحه قيمته الحقيقية. إله، بطل مؤسس، فكرة تنظم، مجتمع بلا طبقات، ثم الإمام الثاني، إلخ. لايمكننا الحديث هنا عن نظرية، بل الأكثر ملاءمة، بديهة أو مبدأ. منطقيا، لايبرهن عليها، وإذا نظرتم إلى الوقائع التاريخية، فهي بديهياعملية. احذفوا، الإحالة غير القابلة للنقد، ثم يتشظى المجموع المتشكّل. لايمكن للاتحاد السوفياتي، الاستمرار مع إبطال صفة القداسة عن لينين. كما، يستحيل على الولايات المتحدة الأمريكية، البقاء لأمد بعيد، لو تسببت موجة تعديلية، في إسقاط لنكولن من قاعدة تمثاله، وأزالوا من عملة الدولار شعار:(in God we trust). يلتحم، الدين التوراتي-الوطني والإله الكونفدرالي، هناك ستبطل القوى النابذة، حرب الأقليات والطبقات، مما يفسح المجال للمُربكة. إن فرنسا، حين تسمح بتبدد مقدسها الجمهوري، فإنها تتمزق إلى جماعات، تتغذى كل واحدة منها بمقدسات خاصة، بمساعدة قوانين تذكارية. يستكشف المقدس، مجاله بوجود المحظور والقوانين الإجبارية، وهو مالايقتضي مجرد قيمة بسيطة.
11س- ألا تخشون حاليا من انكفاء الأوطان على ذاتها؟بين طيات الخطاب الذي ألقته ماري لوبن يوم 1ماي الأخير، استشهدت بمقولة لكم، حول الحدود، تقول: "هي جوهرية بالنسبة للبلد كما البَشَرة ضرورية لكل فرد"، بهدف فضح الخطر المحدق بهم نتيجة الهجرة الجارية في فرنسا، بماذا يوحي إليكم هذا النوع من الاستعادة؟
ج- عليها أن تقرأ عملي: لحظة الأخوة. المفهوم الأخير، نقيض للأشقاء المنحدرين من أسرة واحدة. هذا، يرتكز على تشكيل عائلة مع أفراد غير منتمين إليها، بحيث نستبدل رابطة المعنى بالأخرى القائمة على الدم، أن نقول لا للرابطة البيولوجية. هي فكرة، ذات منبع مسيحي، ولن تكون جمهورية أو اشتراكية. العائلة المقدسة، عائلة يعاد تأليفها، حيث الابن متبنى، والأب اسم مستعار، ثم الأم بطن مستأجر من الفكر-المقدس. لقد كانت بتلك الصفة ثورية، تقطع مع الأمرالمفروض من لدن الجينيالوجيات وكذا الوراثة. من جهة ثانية، لقد استندت الثورة العمالية لسنة 1848، على المسيح البروليتاري. إذا عملت على استحضار الحدود، فلتقوية كرامة الأجنبي وخصوصيته، مع تذكير الغرب الإمبريالي، بعدم أحقيته كي يشعر في كل مكان كما لو متواجد داخل بيته. أيضا، قد نستعمل مفهوم الحدود كي نمنح جسدا لذاك الأجنبي. كل المفاهيم القاعدية، قابلة لأن تعكس. فيما يتعلق بالحدود، كنقيض للأسوار، فإنها لا تتميز إلا لكي نصل فيما بينها على نحو أفضل، فعندما لاتميز، فإنك تستحوذ أو تحطم.
12س- بحسبكم، الديني هو"لاوعي السياسي"، ننزع إلى نسيان هذا، من هنا عجزنا عن فهم الشرق الأوسط أو أوكرانيا؟
ج- الديني، مبنين وليس مهجورا، إنه أكثر فاعلية. ما إن ينحل نظام مهيمن، حتى تستفيق بنيوية الديني أو الثقافي. سياق كهذا، تعيشه أوكرانيا اليوم، لكن أيضا على امتداد مئات الأمكنة الأخرى. لن نفهم شيئا بخصوص أوروبا، إذا محونا الخط الرابط بين مدينة ريغا (على ساحل بحر البلطيق)، ومدينة سبليت(الكرواتية)، الذي يفصل العوالم اللاتينية عن الأرثوذوكسية. تجلى الانشقاق، منذ تصادم الإمبراطورية الكارولينجية والبيزنطية. لأننا نجهل العاصمة بيزنتيوم، بالتالي فموسكو باعتبارها روما الثالثة، كانت غير مفهومة. فليس المدرسة الوطنية للإدارة، هي من سيمدنا بمفاتيح الوضوح. الانشقاق الشيعي-السني، لاتقل عنه حدة ما حدث عندنا في القرن السادس عشر، بين الكاثوليك والبروتستانتيين. اقتضى الأمر عشرات السنين، كي تتفضل وزارة الخارجية، للإهتمام بذلك، بينما يواصل التعليم المسيحي سن القانون، وحقوق للإنسان ضد الديكتاتوريات. كيف ندنو من الصين الحالية، بناء على لوحة محاسب، مع استبعاد للطاوية والكونفوشية؟ ثم، الهند وماليزيا وبرمانيا، دون معرفة بالبوذية والهندوسية؟ لقد، أثنيت سابقا، على تدريس الواقعة الدينية داخل المدرسة اللائكية. لكن، في نهاية المطاف مجرد إخفاق، وبغير صدى. بالنسبة، لطالب عادي ينتمي إلى المدرسة الوطنية للإدارة، فقد أخذ النوع البشري انطلاقته سنة 1945 بينما يعود المقدس باسم الرب، إلى سنة 1914. مايسمى، لدينا بأصحاب القرار، يقرؤون الجرائد، ويتسممون بالأخبار صباحا ومساء. ستندهشون، إذا علمتم، بأن لهم قطارين أو ثلاثة، متأخرة قياسا إلى مجرى الأشياء. لم يفهموا بعد، أن الخريطة الثقافية للكون، لاتتطابق أبدا مع الخريطة السياسية.
13س- سنوات السبعينات، وضعتم أسس مبحث جديد هو الميديولوجيا، الذي يهتم بالروابط بين أنظمة التواصل، وكذا أشكال التنظيم الجماعي والاعتقادات؟
ج- يركز، المختص في الميديولوجيا(علم الميديا)، على السلسلات الإجرائية التي تسمح بتبلور قوي للتجريد. لم يهتم ماركس، بمعرفة كيف تصير الفكرة قوة مادية. الصحيح، يفرض نفسه لأنه صحيح. غلاف دفاتر الماركسية اللينينية، الصادرة في شارع أولم ULM، يخبر بهاته العبارة التوجيهية، التي وقعها لينين: "باستمرار، الماركسية قوية جدا، لأنها صحيحة". كانت مذهلة، لكنها عَرَضية. بالنسبة لما يدعى بالمادية التاريخية، فالبنية التحتية المادية، تنتمي إلى الأسفل، حيث الإنتاج الاقتصادي وليس في الأعلى ضمن الرمزي. تصدر الميديولوجيا، عن عصيان مادامت تسعى إلى تهشيم الحائط، الذي أقامته الأنسية الكلاسيكية بين الذاتي والموضوعي، الروحي والمادي، النبيل والحقير. يكمن القصد، في إعادة المزاوجة بين الإنسان والآلة، وكذا تحويل الثقافة إلى تقنية، ثم تثقيف التقنية. مع الثورة الرقمية، سنبدأ في إدراك، بأن ميدان الحقل الإعلامي، هو في الآن ذاته، شعاع موجِّه، و نظام للقيم. لم تعد لنا نفس الأجهزة، تحت أيادينا، ولا ذات العقلية، أو المنظومة الإيتيقية نفسها، عندما انتقلنا من نطاق الكتابة، إلى محيط الفيديو، ثم المجال الرقمي. لم يكن بوسع الإنسان العاقل sapiens، البقاء بغير أدواته، ودون التقنية لن يكون قط لمفهوم التقدم، من دلالة. مع آلة تقطيع الخشب، تجاوز رجل الغابة التفكير في الفأس، ثم لا أنا ولا أنتم، ستخضعون لرغبة معاودة الاستئناس بتلفزيون الأبيض والأسود، مع ظهور تلفيزيون بالألوان. بيد أنه بعد ماركس ولينين، بوسعكم دائما العودة إلى الأخوين "كيرلس" و"ميثوديوس" (عملا على نشر المسيحية عند الشعوب السلافية). شكرا للمهندسين، لكن تحيا مدرسة البوليتيكنيك والقناطر والجسور. الإشكالية، أنه ينبغي من أجل الإحاطة بالديمومة، إنتاج الجديد وإعادة إحياء القديم، في الآن ذاته. قدرتك على الإبداع، ثم معرفتك كيف ترث: نظام ثم تقدم. موقف، يعكسه العلم البرازيلي، بلد سيقطع أشواطا بعيدة، يستحضر أوغست كونت أفضل منا، للأسف الشديد.
(مصدر الحوار: (Philosophie magazine: été; 2014 numéro 81;pp68 73