في وضع معقد يحارب فيه طرفٌ ضد خصم وضد صديق في وقت واحد، مرة لإرضاء السعودية ومرة أخرى لإرضاء روسيا، مثلا، ينبغي العمل على إسقاط النظام السوري والإسلام السياسي معًا وتأييد القوى الحقيقية للثورة.

سوريا: اللغز الكبير

خليل كلفت

ظل الثوريون يناضلون فى سبيل الثورة. وتفجَّرت ثورات "الربيع العربي" فقلبت مفاهيمنا عن الثورة رأسا على عقب. ومع تطوراتها أخذنا نُدرك أننا إزاء تصوُّر جديد للثورة يختلف عن تصوراتنا السابقة.

وكان الغموض الذى اكتنف تصوراتنا عن الثورة ناشئا عن غياب مفهوم نظري عنها. وكان هذا هو السبب وراء التوقعات الحالمة والنتائج الصادمة. وفي غياب هذا المفهوم، تركَّزت أمانينا على تحقيق شعارت الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، جنبا إلى جنب مع الشعار العام لكل الثورات العربية الراهنة وهي، كما يحدث فى كل ثورة، مطالب "إصلاحية" مترابطة ومتمفصلة.

وتمثَّلت المشكلة في غياب مفهوم الثورة الشعبية وحدودها، واختلافها عن محرِّك التاريخ: القوانين التقنية-الاجتماعية التصاعدية. ولهذا انعقد أملنا على نجاح الثورات رغم حدودها التي لم تكن لتتجاوز الديمقراطية الشعبية من أسفل، التي أخذتُ أكتب عنها كغاية وهدف للثورة، بعد بدايتها بثلاثة أو أربعة أشهر. وبعدها بثلاثة أعوام بدأ يتبلور عندي مفهوم جديد للثورة الشعبية مع مجموعة كبيرة من المفاهيم والنظريات الثورية المرتبطة بها.

وفي سوريا، قاد إلى الثورة حكمٌ قومي بعثي وعلويّ طائفي، في عهديْ الأسديْن، باستغلاله الرأسمالي، واستبداده الاستثنائي، وفساده المتفشي، وإفقار الشعب ومعاناته، مع تبلوُر شرارة شبابية، وحضور تأثير الدومينو.

واستمرت "الثورة" شعبية كما بدأت، ولكن المعادلة انقلبت مع نجاح الإسلام السياسي فى الصعود والسيطرة، مستغلًّا الحالة المنهارة للدول المعنية، وجالبًا شبابًا مسلما ضائعا من كل مكان على ظهر الأرض، تماما كما يحدث في ليبيا الآن.

وتصفعنا هذه التطورات بهشاشة تكويننا الاجتماعي-الثقافي: جنَّدتْ منظمات إخوانية وسلفية وقاعدية وداعشية مئات وآلاف وآلاف آلاف من شبابنا الضائع. وعندما سنحت فرصة الثورة انقضَّت هذه التكوينات على شعوبنا ودولنا، وفي غضون أشهر أو سنوات قليلة سَوَّت المدن والقرى بالأرض، ودمرت كل شيء عليها، وأبادت البشر، وأعادتنا إلى ماضٍ سحيق ظننَّا أننا تجاوزناه. وأفلت اليمن السعيد من الدمار الشامل غير أن فرقة ناجية منسية، هي الطائفة الحوثية، تمردت على الدولة فتدخلت السعودية، وألحقت الحرب الجديدة اليمن ببلدان الدمار الشامل.

وهذا كابوس رهيب قابل للتكرار وتقع مسئوليته على التبعية الاستعمارية، والدول والأنظمة الحاكمة. ولنتخيل أن الثورة حدثت في وقت لا وجود فيه للإسلام السياسي؛ فماذا كان سيحدث؟ لم يكن كل هذا الدمار قابلا للحدوث حتى مع هزيمة الثورة. ورغم أن تدخل الأنظمة كان من العوامل الرئيسية لهذا الدمار فإن البديل كان يعني فتح الأبواب واسعةً لدولة الخلافة الإسلامية؛ أيْ الدمار الكلي من طريق آخر.

وفي سوريا، صارت الحرب الأهلية حربا بالوكالة؛ فمن جهة، أسهمت دول الخليج، والولايات المتحدة، وتركيا في تأسيس وتطوير واستخدام الإسلام السياسي المحارب، ومن جهة أخرى دعمت روسيا وإيران وحزب الله النظامَ البعثيَّ.

واتخذ كل طرف من الأطراف المؤيِّدة للنظام السوري موقفه، ليس وفقا لمصالحه، بل وفقا ﻟ"طريقته في فَهْم مصالحه": روسيا تفاديا لخسارة سوريا الباقية من تحالفاتها فى المنطقة، رغم التداعيات المحتملة، وإيران مستغلةً فوضى الثورة لتوسيع نفوذها السياسي في عدد من العواصم العربية (بغداد، ودمشق، وبيروت)، دون تفكير في رد الفعل العربي، وحزب الله اللبناني لأن سقوط النظام السوري يعنى سقوط حزب الله. وفشلت إيران في إلحاق صنعاء بعجلتها بدعم الحوثيين.

وفي البداية وقفت دول الخليج وتركيا وأمريكا وأوروپا في صف الإسلام السياسي بهدف إسقاط الثورة الشعبية ونظام الأسد بحجر واحد. وقدَّم الإخوان المسلمون كل العون لحروب امتداداتهم، رغم انشغالهم، في مصر بالذات، بتحقيق مشروعهم الخاص.

واستفحل أمر التنظيمات الإسلامية بشبابها ومرتزقتها مع ظهور "داعش"، الذي تمدَّد بسرعة خاطفة، مُهدِّدًا الجميع: مَنْ صنعوه أو ساعدوه أو تهادنوا معه. وكان الحكم الشيعي الطائفي في العراق وسوريا يؤجِّج الصراع الشيعي-السني، وهنا اتخذت الحرب المتعددة الأطراف طابعا سنيًّا شيعيًّا، ساعد على التعبئة والتجنيد المتواصليْن.

على أن الحرب المسلَّحة بالأيديولوچيا السياسية الدينية، باستدعاء تراث مذهبي طويل من العداء لخدمة مصالح دنيوية، سياسية واقتصادية، في حقيقتها، اتخذت شكل الحرب بين خلافة فارسية شيعية عاصمتها بغداد، وخلافة سنية عربية تركية إحياءً للخلافة العثمانية.

وبعد أن ظلت أمريكا تؤيد ظهور "نظام" غير بعثىٍّ وغير إسلاميّ، مالت بجانبها حينا إلى "الثورة الإسلامية" ضد النظام، ثم تركت الطرفين يأكلان بعضهما البعض. ثم كان عليهما محاربة خطر داعش معًا، بعد أن صار النظام السوري وأمريكا، مرحليًّا، في خندق واحد في مواجهة الخطر المستطير لداعش، على الجميع. وظلت إسرائيل تُراقب، مترقِّبة إضعاف إيران وحزب الله والنظام العلوي فى وقت واحد.

وفي وضع معقد يحارب فيه طرفٌ ضد خصم وضد صديق في وقت واحد، مرة لإرضاء السعودية ومرة أخرى لإرضاء روسيا، مثلا، ينبغي العمل على إسقاط النظام السوري والإسلام السياسي معًا وتأييد القوى الحقيقية للثورة.

ولا سبيل هنا إلى عرض وافٍ لتشابكات هذه الحرب، التي لا يعرف فيها مقتول مَنْ قاتله ولماذا قتله.