سجّل الكرد في تركيا انتصاراً سياسياً تاريخياً، حين استردوا أو، قد يتوجب القول، رسخوا ـ حقاً دستورياً ثميناً، هو التمثيل في البرلمان التركي؛ فلم ينجحوا في تجاوز حاجز الـ10%، الذي كان عائقاً شاقاً في انتخابات سابقة، فحسب؛ بل احتلوا، في فوزهم بنسبة الـ13.12، موقع الرقم الصعب الذي يُخطب ودّه في أية مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية. وإذا جازت المقارنة بين هذه النسبة، ومعدّل زعيم "حزب الشعوب الديمقراطي"، صلاح الدين دميرطاش، في الانتخابات الرئاسية لعام 2014 (9.76%)؛ فإنّ تقدّم الكرد، وليس الحزب في ذاته فقط، يُعدّ قياسياً بهذا المعنى، وتاريخياً أيضاً.
هو انتصار صريح، إذاً، ومدعاة بهجة لكلّ حريص على التجربة التركية؛ في التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وطيّ صفحة الانقلابات العسكرية، وتوطيد الديمقراطية والقِيَم الجمهورية في المواطنة والحقوق. وليس بغير دلالة خاصة، وبمعزل عن الإشكالات العديدة التي اكتنفت هذه الانتخابات، أنّ نصيب "حزب الشعوب الديمقراطي" من النائبات النساء كان عالياً بدوره (30، بالمقارنة مع 41 نائبة امرأة لـ"حزب العدالة والتنمية")؛ مما يشير إلى طبيعة القاعدة الشعبية المتنوعة التي تشكّل رصيد الحزب، ولا تتألف من الكرد وحدهم. لكنه، في المقابل، انتصار تكتنفه سلسلة من المفارقات، أقرب إلى أدغال ملأى بالمصاعب والعثرات، كفيلة بعرقلة مسير الحزب، وبالتالي تعطيل الكثير من عناصر الدينامية السياسية العالية التي توصّل إليها الكرد في تركيا مؤخراً.
المفارقة الأولى أنّ الحزب يمثّل غالبية ساحقة من الكرد في تركيا، وهذا شرف، ومنبع رصيد شعبي عارم كان وراء جميع نجاحات الحزب منذ تأسيسه العام الماضي؛ الأمر الذي لا يلغي حقيقة أنّ هذا التمثيل، بالذات، يظلّ مصدر الخطر الأوّل على الحزب. ذلك لأنّ "حزب الشعوب الديمقراطي"، في صيغته الراهنة، هو وريث حزبين كرديين سابقين "المجتمع الديمقراطي اليساري"، و"السلام والديمقراطية" حظرتهما المحكمة الدستورية العليا، عامَيْ 2007 و2009، بذريعة ارتباطهما بـ"حزب العمال الكردستاني". في عبارة أخرى، تظلّ علاقة "الشعوب الديمقراطي" مع "العمال الكردستاني" بمثابة مكسب وعبء، في آن معاً؛ وتظلّ سيفاً مسلطاً بيد المحكمة الدستورية العليا يمكن أن يطيح بوجود الحزب الشرعي، بصرف النظر عن وصوله إلى البرلمان.
مفارقة ثانية، ناجمة عن هذه الحال تحديداً، هي اضطرار الحزب إلى اعتماد خطاب معتدل، عموماً، بصدد الحقوق الأساسية للكرد، في تركيا وفي الجوار أيضاً. على سبيل المثال، لا يكفّ دميرطاش عن "تخفيف" النبرة، في القاموس اللغوي كما في الرسالة العقائدية، كلما توجّب عليه أن يوضح الموقف من تحديد خريطة لوطن الأكراد القومي، التاريخي؛ كأن يقول مثلاً: "إنّ رسم حدود لوطن كردي لن يكون أمراً ضرورياً في حال نال الأكراد جميع حقوقهم (...) إذا كنّا نعيش معاً دون إنكار هويتنا أو حقنا في الحصول على التعليم بلغتنا الأم، وكنّا نشارك في السلطة دون إنكار لتاريخنا وثقافتنا ووطننا الأم، وننعم بحياة حرّة على هذه الأرض، حينها ستختفي الحاجة إلى رسم الحدود".
بيد أنّ هذا الخطاب سلاح ذو حدّين، في نهاية المطاف: من جهة أولى، يمكّن الحزب من تبديد مخاوف المواطنين الأتراك، تجاه مخاطر التقسيم، أو احتمال سلخ المناطق ذات الأغلبية الكردية عن الوطن الأمّ، بما يعنيه ذلك من مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، داخلية وإقليمية؛ لكنه، من جهة ثانية، يُفقد الحزب شرائح كردية، ليست ضئيلة العدد أو ضعيفة التأثير، ترى أنّ الإدارة الذاتية ليست منتهى طموح الكرد في تركيا، ولا بدّ من استكمال خطوة أولى على دروب كردستان، الوطن الأكبر المأمول. وفي حملاته، خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، شدد دميرطاش على روحية هذه الحال، حين أعلن أنّ ترشحه للرئاسة "دليل ملموس على رغبتنا بالعيش في هذا البلد دون تجزئته، ولكن إذا رُفض ذلك ولم يتمتع الأكراد بالحرية، ولم يعيشوا على قدم المساواة مع الآخرين في ظل حياة مشتركة، ولم ينعموا بالعدل، حينها سيتعين عليهم إعادة النظر في هذه القضية".
هنا، أيضاً، مصدر مفارقة ثالثة، مكمّلة لهذه العلاقة الخاصة بين الحزب وجماهير الكرد؛ مفادها أنّ القاعدة الشعبية الأعرض للحزب هي الشارع الكردي في مختلف أطيافه وشرائحه وتكويناته، لكنّ "حزب الشعوب الديمقراطي"، بدلالة اسمه أوّلاً، يزعم أيضاً تمثيل أطياف واسعة من الأقليات، في مستوى الحقوق السياسية والمدنية؛ كما يعلن التعبير عنها طبقياً، أيضاً، من منطلقات يسارية لا تخفى: "إننا كأكراد، وعرب، وآشوريين، وتركمان وأرمن، لا نعاني مشاكل على خلفية لغاتنا وثقافاتنا ومعتقتداتنا فقط، بل نحن جائعون وعمال، وفقراء، وعلينا حلّ كل هذا أيضا"، يقول دميرطاش. وأغلب الظنّ أنه، في المقابل، يدرك مقدار ما في هذا التمثيل من تناقضات كامنة، خاصة حين يتوجب على الحزب أن يجمع مناصراً متديناً، مع مناصر ثانٍ يؤمن بالمثلية الجنسية!
مفارقة رابعة هي استحقاقات اليوم التالي، إذْ يتوجب على الحزب أن يجابه خيار إقامة شراكة مع "العدالة والتنمية"، إذا كان ينوي إتمام الانتصار الدستوري والسياسي عن طريق المشاركة الإيجابية في الحياة البرلمانية، وإدارة الدولة؛ خاصة وأنّ نسبة اقتراع لا تقلّ عن 5%، كانت في الواقع سبب انتصار الحزب، نزحت إليه من الشرائح الكردية المتدينة التي اعتادت التصويت لـ"العدالة والتنمية"، وشاءت هذه المرّة نقل التمثيل السياسي الكردي إلى مصافّ أعلى في المسؤولية. البديل، والوجه المضادّ للمفارقة ذاتها، هو البقاء في صفوف المعارضة، إلى جانب أحزاب قومية وأتاتوركية ناصبت الكرد العداء على الدوام، بل اعتمدت ـ حتى الماضي القريب، في الواقع ـ لغة عنصرية صرفة في توصيف الكردي التركي. فكيف، إذاً، سيفلح "حزب الشعوب الديمقراطي" في الحفاظ على هذه النسبة الحاسمة من أصوات الكرد، إذا كان سيخونهم مع "حزب الشعب الجمهوري"، و"حزب الحركة القومية"؟
أخيراً، وليس آخراً بالطبع، أي خطّ سياسي سوف ينتهجه الحزب إزاء "دعوة تاريخية" حقاً، أطلقها عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ"حزب العمال الكردستاني"، من سجنه في جزيرة إمرالي، قبل سنتين ونيف؛ وشاء لها أن تتوجه إلى جميع الكرد أوّلاً، ثمّ إلى شعوب الشرق الأوسط، والعالم بأسره في نهاية المطاف؟ "فلتسكت المدافع، ولتنطق الأفكار"، قال أوجلان في رسالته تلك، مدركاً أنّ بلاغة السلام هذه ـ التي سبق للـPKK أن اعتمدها أربع مرّات، على الأقلّ، في سوابق الحوار مع السلطات التركية ـ اكتسبت اليوم الكثير من عناصر القوّة المادية الكفيلة بتحويلها من حيّز القول والأمنية، إلى ميدان الفعل والتنفيذ. فكيف وقد تمكن الكرد، نتيجة الانتخابات التشريعية الأخيرة، من تسجيل ظفر نوعي كبير؛ عبر صناديق الاقتراع، في قرى وبلدات ومدن تركيا المدنية؛ وليس عبر السلاح، وحرب العصابات، في شعاب جبل قنديل؟
الإيديولوجيا في مستوى الحلم، كانت محرّك البرنامج السياسي الشهير "درب الثورة الكردية"، الذي وقّعه أوجلان في سبعينيات القرن الماضي، وساجل بأنّ الثورة الكردية الشاملة في كلّ أقاليم كردستان هي السبيل الوحيد لإقامة وطن الكرد القومي. وأمّا اليوم، فإنّ الخروج من أدغال المفارقات إلى الشمس الساطعة، وإلى حيازة حقوقهم المشروعة كافة، يقتضي ذلك التحديث الضروري لبرامج الماضي في الحاضر، كما يتطلب ذلك المزج الإبداعي بين أوجلان ودميرطاش؛ وليس هذا على الكرد بكثير، البتة!