حين حلقت روحي في قراءة ديوان: (لعنة الشعراء) للشاعرة د. هناء البواب ومن اصدارات دار الرابطة للنشر والتوزيع في الإمارات، لفت نظري من البداية العنوان الذي اثار في ذهني السؤال: هل الشِعر لعنة الشعراء؟ وزاد من التساؤل لوحة الغلاف بلونها الزيتي الداكن وامرأة تترك خلفها على الأرض كتب متناثرة، وتقف بصمت أمام الشمس البعيدة وكأنها نافذة أمل تحلم بها سيدة النصوص، وفي الاهداء الموجه للأب ثم الأم ثم الشعراء قالت: الشعر لعنة الشعراء، وفي تقدمة كتابها قالت: (ويبقى الصوت بي يرتد.. أنَّ الشعر يعني.. لعنة الشعراء)، وقالت: "أنا قد جئت أعلن أن هذا الحرف يسرد لعنة الشعراء"، ولأني لست بالشاعر فقد أثار هذا الكلام فضولي لأبحث في ثنايا الكتاب عن هذه اللعنة التي أعلنت هناء البواب عنها، فقد سمعت بأساطير اللعنات عبر ما قرأت، ومنها أسطورة لعنة الفراعنة، فهل سأجد أسطورة أخرى تحمل اسم لعنة الشعراء؟
خلال قراءة الديوان نجد ثلاثة مسائل أساسية تجول فيها روح الشاعرة وهي: الألم والأمل والحب، ولعل اللعنة التي اشارت اليها تجول في افق هذه المشاعر، وحين يجول القارئ المتمعن بين النصوص لا بد أن يدرك أن النصوص عبارة عن دوامة حركتها عاصفة قوية، وأن سيدة النصوص مرت بمراحل مختلفة في حياتها، فمرت بالشك والألم والأمل والحب والإيمان، وفي كل المراحل كانت تطرح التساؤلات على الذات لعل هذه التساؤلات والحلول تكون المركب للوصول الى المرفأ، وهنا سأشير للمراحل الثلاث الأساسية التي تناولها الديوان، تاركا للقارئ أن يجول بنفسه بين دفتي الديوان لعله يصل إلى إجابات حول كم التساؤلات التي أثارتها الشاعرة في ديوانها.
الألم: يبدأ الاعلان عنه في نصها الأول حيث تقول: "هي الحروف نذير الشؤم في قلمي" وتقول أيضا: "تحلو الصلاة ُعلى الأقلام في كفن"، فتبدأ مرحلة الألم من ألمها من حروفها التي تبوح بها بشِعرها، حتى أنها تجد الحلاوة بالصلاة على الأقلام ميتة ملفوفة بالكفن في صورة رمزية شبهت القلم بالإنسان حين الصلاة عليه ملفوفا بالكفن حين موته، مع فارق أن الإنسان يجد من يتألم على فراقه، وهي تجد بفراق القلم حلاوة، وهذا القلم يدفعها لأن تصرخ:"بي حكايا الحزنِ ما زالت على سطح الحروف قصيدة تتلى.. إلهي الشكُّ يخنق صرختي.. والصمت شبّاكي"، "دهليز هذي الروح منفى... وأراه حلما ينكسر"، والشاعرة على لسان سيدة نصوصها تغوص في الألم فتنادي "لا تسألوني.. من أكون.. ومن يكون، هو الجنون"، وتكتم ألمها بقولها: "هو احتباس الدمع، في الداء القديم"، ونراها تتسائل: "أم أنني موتٌ تأجل.. أو تغلف بالعذاب؟، أم أنني قدر التجاهلِ، مبهم هذا الزمان المر"، ونرى الألم ليس محصورا بالذات، فهو يخرج إلى العام كما نرى: "فهل هذي مدينتنا التي كانت، تزف الحب والبشرى؟؟"
الأمل: رغم كل الألم الذي تجول به روح الشاعرة في نصوصها إلا أنها لا تتوقف عن الحلم والأمل، فهي تؤكد على ذلك بقولها: "وسوف أعود سوف أقوم"، وتصف نفسها: "أنا وجه الالهِ، الطهرُ هذا الوجه رباني"، وتهمس أيضا بكل أمل وحلم: "أنا أنشودة الأحلام واسأل طلع بستاني"، لتحلق في بوابة الايمان: "وقلبك دقة الأجراس فافتح مسجدا فيه"، مؤكدة على قوة العقل كبوابة للأمل في مواجهة الألم: "فعقلك نور الـ يسطع"، فالعقل الطريق الذي يدل على الطريق الأسلم: "تأمل فسحة الأكوان واسجد راغبا، متبتلا واركع"، وطريق التأمل والعقل تراه الطريق للايمان حيث الراحة النفسية من الألم والأوجاع فتصرخ: "فإن ضلت بك الدنيا، وضج العقل بالأوجاع... قل واصرخ بها من عمق هذا القلب... الله.. هو الله.. هو الله"، وهي تصر على قدرتها على تجاوز الألم وتحويل الحلم إلى واقع، فتهمس بقوة: "سأعبر شاطئ الأحلامِ، أجذب ليلة الأمسِ، ومن روحي أكوّنها.."، وهي تعتمد قوة الأمل حتى في مواجهة الموت بقولها: "أنا أيها الموتُ بابُ الحياةِ..ولو كنت بابَ فنائي..سأبقى الحياةَ، سأرجع يوما إليها، ولن أُرجِعك"، وهي ترى: "إن الضوء يرجعُ حين نرجعُ عاشِقَينِ".
الحب: الحب في روح النصوص يتجول بأريحية ما بين الألم والأمل، فالحب تشبهه بالطوفان فتقول: "هوانا.. لم يزل، والحب – رغم شتاتنا_ طوفان"، وهي تربط بين جراح الحب والأمل بقولها: "سهام الحب لم تبرح، وإن تجرح، فإن جراحها أمل"، وترى أن الانسان بلا حب يفقد انسانيته، والحب هو جمال الغد وروعته، "على شرفاته نحيا، غدا، لا يعرف الخذلان، غدا، في ظله تمتد، إنسانية الإنسان"، وهكذا نرى الحب مرسوم بالكلمات في لوحات نابضة شِعرا، ومن هذه اللوحات: "هو الحب لا يعرف المستحيل، هو الحب لا يستطيب المنام"، "هو الحب يبقى، على البعد.. أنقى"، وهناك ربط مباشر بين الألم وبين الحب بقولها: "أجل أنثى أنا ودمي، لدفء حنانه يشتاق.. وبي أنشودة الألمِ، صداها يعبر الآفاق"، وهي ترى أن الحب يخرج عن إطار الحب بين ذكر وأنثى ليكون حبا انسانيا، فتسعى للحب الإنساني بقولها: "سأرفع راية الإنسان، مثل أبي ولن أحزن.. أوزع للأنام الحبَّ مجانا بغير ثمن"، فالحب هو درب وطريق وروح الشاعرة رغم كل الآلام، فهي تقول عن نفسها: "أنا امرأة إذا عشقت، جنون الوقت تقتحم"، وفي صيغة أخرى تقول: "أنا للحب في هذي الحياةِ الضوءُ في المصباح"، وترى في الحب الأمنيات والأمل بقولها: "ولي آخر الأمنيات، البقاءُ على عرشِ حب يظلُّ".
وفي النهاية لهذه الجولة السريعة بين النصوص، هل وجدت الشاعرة الطريق أم بقيت تجول بين الألم والأمل والحب؟ أعتقد ان مرحلة الشك لم تنته وهذا نلمسه بقولها وبصيغة ذكورية: "حتّام أبحث.. سائلا.. وإلى متى سيظل تفكيري الممزق لوحة، قد لطختها شدة الأوهام.. وحدي ضائعا في بحر خوفي.. أنتظر"، وإن كانت تقول أنها عرفت السر للوصول بقولها: "عرفت السر يا أمي.. سأفتح قلبي الوردي رغم مضاضة الألم، نذرت الروح للإنسان، فدوىّ للجمال دمي"، لكن الذات والأنا ستطغى بعد ذلك بقولها: "جثا التاريخ في أدبٍ وقال أنا، بغيرك لم أكن شيئا"، مما ذكرني ببيت الشعر الذي قتل المتنبي حين قال: "الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم"، ويا ليت لو بقيت ترى السر في قولها: "هناء للطبيعة جئت، إنسانيتي المفتاح".
وعودة لتساؤلي في بداية المقال: هل سأجد أسطورة أخرى تحمل اسم لعنة الشعراء؟، أعتقد نعم فالشعر من الشعور والشاعر من يمتلك أن تنزف روحه ليعبر عن الألم والأمل والحب وكل المشاعر الإنسانية بتناقضاتها، ففي كل لحظة يمكن أن تبوح الروح بنزفها، وبالتالي لن تخرج الروح ابدا من فضائها الذي تجول به حاملة مشاعرها، فهل أكثر من هذا لعنة ترافق الشعراء؟
ما اوردته من الديوان عن الألم والأمل والحب بعض من نثرات حفلت بها النصوص، ولا بد من إشارة في النهاية أن الديوان حفل بالجميل من الأشعار التي تراوحت بين الشعر العمودي وبين شعر التفعيلة وشعر النثر، وأعتقد أن الديوان بحاجة لأكثر من قراءة تتناول كافة جوانبه، فما بين كم اللوحات المرسومة بالكلمات، وجمالية الجرس الموسيقي في معظم المواقع والخروج عنه في مواقع أخرى، وما بين إدخال كلمات حديثة الاستخدام وليست عربية الأصل بدون أن توضع بين أقواس للإشارة أنها كلمة ليست عربية مثل كلمة "مؤدلجة" في: "وأمي لم تكن يوما مؤدلجةً وعصرية"، والمستمدة من كلمة (Ideology) ذات الأصول اليونانية، بينما نجدها تضع كلمة أخرى بين أقواس: "مفستوفليس"، وهي كلمة لاتينية تعطى للشخصية التي تمثل الشيطان، سنجد بين دفتي الكتاب ما يستحق البحث والقراءة النقدية والاهتمام.