يرى الناقد الفلسطيني أن الكاتبة في هذا الكتاب تقدم «تنهيدة أخيرة للفلسطيني» والثورة التي عاشتها وظلت مرتبطة بها. فالعودة إلى فلسطين هي لاكتشاف مآل الثورة الفلسطينية الحديثة. ويستبطن القارئ لمذكراتها صورة عن خيبات الفلسطيني في الخارج، وتقدم الزمن الذي لم يعد فيه الناشط والسياسي مهتما بالمصير الفلسطيني قدر اهتمامه بالآني خاصة في عاصمة فلسطين الجديدة رام الله.

غادة الكرمي تبحث في «عودة» عن وطن لا يوجد إلا في الذاكرة

إبراهيم درويش

لا يملك القارئ لسيرة الباحثة والناشطة الفلسطينية غادة الكرمي إلا الشعور بالخيبة والإحباط ليس من الكاتبة نفسها أو مما كتبته بل من مجمل «السيرة الفلسطينية» التي مضى عليها قرن من الدماء والدموع والدمار والرحيل والتشرد. فسيرة الكرمي الجديدة ليست كالأولى «البحث عن فاطمة»(2002) التي ضمنتها ذكرياتها التي خزنتها في طفولتها قبل أن تجبر عائلتها الرحيل عن فلسطين. ومثل بقية الراحلين إلى الدول القريبة حطت الرحال بالعائلة أولا في دمشق حيث لها جذور بسبب نشاط عميد العائلة الشيخ سعيد الكرمي ومن ثم إلى لندن حيث عمل والدها حسن الكرمي المثقف الموسوعي وصاحب أشهر برنامج في محطة «بي بي سي» «قول على قول» الذي أصدره لاحقا في عدة أجزاء ضمن فيه رحلته في البحث والتنقيب في بطون كتب الشعر والأدب العربي باحثا عن معاني وفذلكات أدبية ورادا حقوق الشعر إلى أصحابها. ومضى الكرمي ليؤلف عددا من القواميس الثنائية ليضيف جديدا إلى المعجمية العربية. والكرمي الوالد هو واحد من أبناء الشيخ سعيد الكرمي (نسبة إلى طولكرم) حيث حكم عليه جمال باشا المعروف بالسفاح قائد ولاية سوريا بالإعدام مع عدد من أحرار الثورة العربية ولكن الحكم ألغي بسبب شيخوخته. ومن القافلة الكرمية عبدالكريم الكرمي الشاعر الثوري الملقب بأبو سلمى وأحمد شاكر الكرمي الناقد الذي مات شابا وحسن الكرمي وزهير الكرمي مقدم البرامج العلمية المعروف ومحمود الكرمي الذي قتل في بيروت أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى. وفي مذكرات غادة الأولى عن طفولتها وبيت عائلتها في القطمون وهو حي النخبة في القدس الجديدة ومن ثم الهجرة إلى لندن تبرز شخصية حسن الكرمي كونها باردة وطاغية. ونعرف في المذكرات الجديدة «عودة: مذكرات فلسطينية» (2015) الصادرة عن «أي بي توريس» أن والدها أجبرها على دراسة الطب في جامعة بريستول في وقت لم تكن البنت الانكليزية تطمح لأبعد من دور سكرتيرة أو معلمة في الأغلب. لكنها مهنة لم تكن تريدها الكاتبة واضطرت لممارستها من أجل العيش والحياة. في المذكرات الأخيرة تبدأ بحسن الكرمي في عمان وهو على سرير المرض حيث عاش قرنا من الزمان وتنتهي بوفاته عام 2007 لكن «العودة» لغادة الكرمي إلى فلسطين هي عودة لاستكمال ما لم تقله وتكتشفه في السيرة الأولى وهي ليس بالضرورة بحث عن فاطمة الباشا، الخادمة التي تنحدر من قرية المالحة والتي عملت في بيت العائلة بالقطمون وظلت حاضرة في ذاكرة غادة للعلاقة التي تطورت بين البنت الصغيرة والخادمة ولكنها استكشاف جديد في خريطة فلسطين واستعادة لتاريخ المكان عن قرب والذي يبدو محاصرا ومحاطا بالمستوطنات والخوف ونقاط التفتيش رغم أن الزمان هو زمان السلطة الوطنية الفلسطينية.

ضياع
وتكشف الرحلة المثيرة والمكثفة والمليئة بالخوف والرعب أحيانا والحنين واللقاءات الجميلة عن «ضياع» الحلم الفلسطيني. وكأن ما كانت تردده والدة غادة في المنفى «ضاعت فلسطين» صار حقيقة. كل هذا رغم استعداد الوالدة التي رحلت للعودة، ورفضت طوال خمسين عاما قضتها في لندن تغيير شكل البيت لأن الحنين ظل لقطمون رغم احتلاله وسرقة محتوياته ونقل كتبها للمكتبة الصهيونية في الجامعة العبرية. وفي «عودة» تقدم الكرمي «تنهيدة أخيرة للفلسطيني» والثورة التي عاشتها وظلت مرتبطة بها. فالعودة إلى فلسطين هي لاكتشاف مآل الثورة الفلسطينية الحديثة التي بدأت في المنفى وظلت الرموز الثورية محلية وعالمية واعتمدت المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان كخزان لتدريب الفدائيين وبالضرورة وفرت الثورة الحماية لأبناء المخيمات وقد تغير كل هذا بعد رحيل المقاومة من لبنان وعودة عرفات وقيادته من تونس إلى غزة لبناء ما طمحوا به، دولة فلسطينية والتي لم تقم إلا على الورق. ويستبطن القارئ لمذكرات غادة الكرمي صورة عن خيبات الفلسطيني في الخارج وتقدم الزمن الذي لم يعد فيه الناشط والسياسي مهتما بالمصير الفلسطيني قدر اهتمامه بالآني خاصة في عاصمة فلسطين الجديدة رام الله التي يتحرك فيها ناشطون وسياسيون ورموز منشغلون بالسفريات والمشاركة في المؤتمرات أو العمل مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية التي تمول المشاريع والوزارات والحكومة التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية. وفي متاهة «النيتوركينغ» لدى الجيل الجديد يظل البحث عن المنظمات الحكومية وما أكثرها هدفا بحد ذاته.

قصة وزارتين
تقول غادة إنها أقسمت أن لا تذهب للوطن المحتل ولكنها حنثت بقسمها وسافرت مع ابنتها الوحيدة بداية التسعينيات من القرن الماضي حيث زارتا القدس واقتربتا من بيت العائلة القديم الذي تعرفت عليه ويسكنه لاجئون من دول أخرى لا ارتباط لهم بالمكان وحجره وتاريخه. ولكن الزيارة الجديدة وهي موضوع المذكرات لم تكن للبحث أو السياحة بل للعمل كمستشارة مع وزارة الإعلام والإتصالات وتقديم توصيات لتحسين أداء الوزارة وبالتالي عرض القضية الفلسطينية في الخارج بطريقة مقنعة. تصطدم غادة الكرمي بواقع تجد فيه أن هناك وزارتين للإتصالات يدير الوزير ونائبه خططا واستراتيجيات منفصلة والسبب التنافس الشخصي وعدم استلطاف أي منهما للآخر. وتجد نفسها وسط وضع تراقب فيه على كل ما تفعله وتقوم به ومحاربة من داخل المؤسسة التي من المفترض أنها جاءت لمساعدتها. ولا تفصح الكاتبة عن الأسماء الحقيقية للمسؤولين الفلسطينيين لكن من السهل التعرف عليها. في ظل التشتت الذي تجد فيه الكاتبة نفسها تبدأ كتابة استراتيجية للوزارة وتعرف أن أحدا لن يقرأها. وبموازاة عملها تنشغل بمحاولة تحقيق ما لم تحققه إقامتها الطويلة في بريطانيا وهو الشعور بالإنتماء إلى مكان. فهي كما تقول عاشت أكثر من 50 عاما في بريطانيا التي أصبحت بلدها وعاشت فيها وجودا متقلبا سواء على صعيد الحياة الشخصية والعاطفية أو حتى طبيعة العمل «لكنني كنت جزءا من ذلك الجيل الفلسطيني الذي احتفظ بذاكرة عن وطن، مهما كانت متشظية أو غامضة ولكنهم عرفوا أنه وطنهم الحقيقي». وتعتقد أن حنينها إلى الوطن الحقيقي ربما هو انعكاس لشعور والدتها التي لم تتجاوز النكبة عام 1948. وفي رحلتها الصعبة للبحث عن الوطن الحقيقي كانت الكاتبة تعرف أنها لن تجده في رام الله بزمنها الحديث ونخبتها السياسية والجيل الجديد المنفصل عن التاريخ أو الذي يرى الماضي ماض ذهب ولا حاجة للإنشغال به. وكانت تعرف في الوقت نفسه أنها لن تعيد خلق طفولتها. في الحقيقة كانت تعرف أن المكان موجود، هناك قرى ومدن فلسطينية ووجوه لا تزال تحمل عبق الماضي ولم تتخل عن العادات سواء في الضيافة والأعراس. ورغم كل ما سرقته إسرائيل من أرضهم ومعيشتهم لكنها لم تؤد إلى قتل حياتهم الثقافية وشعورهم بالوطن وكرامة. بهذا الحس بدأت غادة الكرمي رحلتها وعملها في وزارة الإعلام ولكنها اكتشقت بعد عام في «الأرض الموعودة» أن الحلم مجرد حلم والحنين هو اشتياق لما يمكن أن يتحقق ولكنه مستحيل. في الخليل ونابلس وقلقيلية ورام الله تكتشف وطنا مختلفا مثخنا بالجراح ومليئا بالتناقضات مسور بسور «عنصري» ورواية تبحث عن «مدينة داوود» في الخليل، تتساءل عن علاقة مبنى معماره يعود للعصر المملوكي بالنبي إبراهيم وزوجاته. وفي سلواد يحاول البحث الأثري إعادة أحياء التجربة التوراتية تحت الأرض. وتترك رواية التاريخ و»الأحقية» شارع الشهداء في الخليل قلب المدينة التاريخي تحت رحمة حفنة من المستوطنين تحميهم قوات الجيش. كما تكتشف وبمرارة أن أصحاب الأمر في «فلسطين» ليسوا أهلها بل الجيش. ففي رحلة إلى القدس تقرر عدم استخدام جواز سفرها البريطاني وتكتفي ببطاقة الأمم المتحدة التي تعمل معها، ولكن الضابط الإسرائيلي ويبدو أنه درزي أكد لها أن من يقرر طبيعة الوثيقة واستخدامها هو وجيشه. ويفرض الضابط أمره وتدخل القدس بجواز سفرها البريطاني. في هذه الرحلة تلتقي ستيف إيرلنغر، مدير مكتب «نيويورك تايمز» في القدس الذي اشترت صحيفته بيت عائلتها واتخذته مقرا لها. وبعد قراءته لكتابها شعر أن من المناسب أن يعيد ذكرياتها ويلتقط لها صورا في بيتها القديم. ولكن المواجهة داخل البيت لم تكن مثيرة خاصة أن الأسئلة التي طرحتها عليه محرجة ولم تسمع منه فيما بعد. بين وجودها في وطن لم يعد وطنا تذهب لزيارة والدها في عمان وتكون مناسبة للحديث عن الأردن وسكانه الفلسطينيين وما جرى للمخيمات ونظرات عن عمان المدينة التي نشأت سريعا بدون تخطيط عمراني ومساحات خضراء. وتلاحظ انشغال الناس فيها بالهموم اليومية وتنقل نظرتهم للأهل في الأرض المحتلة. وفيها تعود لعالم والدها وأفكارها المتطرفة والغريبة حول الدين والتاريخ والحياة.

المؤتمر
في قلب تجربتها داخل وزارة الإعلام والإتصالات والمعركة المرة بين زميلها الوزير الدكتور فريد ونائبه الدكتور صباح، – بالمناسبة الدكاترة كثر في فلسطين- كانت فكرة طرحها فريد لعقد مؤتمر دولي لتقديم القضية الفلسطينية عالميا. ورغم تحفظ الكاتبة على الفكرة إلا أن الوزير كان متحمسا لها ورصد لها الكثير من المال والجهد وظل يلح عليها. وتوصلت الكاتبة إلى أن الفكرة عبثية ولا قيمة لها ولهذا شاركت فيها على مضض. وعندما عقد المؤتمر أخيرا لم يكن بالفخامة التي تخيلها الدكتور فريد ولا بالحضور الكبير ولكنه أرضى ذات الدكتور فريد الذي ترأس معظم جلسات المؤتمر واختتم بخطاب ألقاه الرئيس محمود عباس وكان مناسبة لاستعادة الكاتب الكثير عن هذا الرجل الثوري المثقف المتنور الذي تحول إلى أشيب فقد البوصلة وتمسك بخيار يعرف هو نفسه أنه لا يحقق طموح الحركة الوطنية أي المقاومة الشعبية ـ اللاعنف. تكتمل مرارة الكاتبة عندما يثني الدكتور فريد على كل من حضر وشارك وساهم في إعداد المؤتمر وتجاهل ذكر غادة الكرمي. وكانت نهاية المؤتمر نهاية للعلاقة والرحلة في رام الله.

الأمومة
تكشف غادة الكرمي عن حياتها الشخصية التي اتسمت بالعلاقات غير الناجحة وتعبر عن تمرد الشابة وكذلك عن واقع عائلتها التي رفضت زواجها من زميل لها لمجرد أنه مختلف رغم أنه أسلم من أجل الزواج ولكن التجربة لم تنجح لأن والدتها لم تقبل به. بعد سنوات تتزوج الكاتبة من زميل لها في التدريس أثناء عملها في جامعة اليرموك الأردنية. كان تونسيا يدرس الأنثروبولوجيا دخلت معه مغامرة عاطفية انتهت بالزواج والإنفصال بسبب الحمل الذي لم يكن يريده. كانت نتيجة هذا الزواج هي ابنتها الوحيدة «لالا سلمى» التي تذكرها بوالدها التونسي وعم والدتها أبو سلمى. على خلاف اختها سهام التي تزوجت فلسطينيا واستقرت في دمشق وحلت إشكالية الإنتماء وشقيقها الذي تزوج أوروبية وانتهى بعيدا عن جذوره – بخياره- في كامبريدج. حملت غادة الكرمي في داخلها تمردا وقلقا وبحثا دائما عن مكان تعتبره ملكا لها. وفي الرحلة هذه تكتشف مصير الخادمة فاطمة الباشا حيث تلتقي مع ابن محمد شقيق فاطمة الذي يعيش اليوم في البيرة. وتعرف ان فاطمة ماتت عام 1987. من اللحظات المهمة في رحلة غادة الفلسطينية لقاءها مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش وكان متحفظا وتمنت وتمنينا لو تحدثت معه أكثر. تتساءل الكرمي قائلة ما الذي جاء به إلى هذا المكان وما الذي جعلني أتخيل أن هناك شيئا في هذا المكان لشخص مثلي؟ ونظرت للوراء ولكل مهمتي في «فلسطين» لأجد أنني لم أحقق أيا من أهدافي لأنه لم يكن بالإمكان في فلسطين التي وجدتها «لقد رحلت في أرض ميلادي بحس العودة ولكنها كانت عودة للماضي إلى فلسطين في ذاكرة بعيدة وليس للمكان الذي أنا فيه الآن» و «الناس الذين عاشوا في فلسطين لا علاقة لهم بالماضي الذي كنت أبحث عنه ولم يكونوا جزءا من مشهد تاريخي تجمد في الزمن يمكنني ربطهم به، هذا العالم الفلسطيني الذي انضممت إليه للحظة قصيرة كان مختلفا….».

 

Ghada Karmi: Return: A Palestinian Memoir

Verso, London 2015

319 pages.