مهرجان القاهرة للإعلام العربي
اختُتِمت في العاصمة المصرية القاهرة فعاليات مهرجان الإعلام العربي الذي بدأ دورته الخامسة عشرة في الحادي عشر من شهر نوفمبر 2009 واختتمها في الخامس عشر من الشهر نفسه، بمشاركة إحدى عشرة دولة عربية هي: لبنان "الإذاعة اللبنانية، واليمن "المؤسسة العامة للإذاعة والتليفزيون"، والأردن "مؤسسة الإذاعة والتليفزيون"، وتونس "الإذاعة التونسية والتلفزة"، وجيبوتي "الإذاعة والتليفزيون"، والمغرب "الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة"، والسودان "الهيئة السودانية للإذاعة والتليفزيون"، والجزائر "الإذاعة الجزائرية"، وفلسطين "هيئة الإذاعة والتليفزيون"، والإمارات "الإذاعة والتليفزيون"، وسوريا "هيئة الإذاعة والتليفزيون"، هذا بالإضافة إلى مصر التي مثلها "اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري". ذلك الختام الذي أتى خارج التوقعات في أكبر المهرجانات التي تنظّمها وزارة الإعلام المصرية سنوياً، والذي استضافته مدينة الإنتاج الإعلامي بمدينة 6 أكتوبر، وافتتحه أنس الفقي وزير الإعلام المصري برئاسة المهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وامتدت فعالياته لأربعة أيام تضمنت ندوات وعروض وحفلات ومعارض تسويقية ومراسم تكريم، ومسابقة رسمية تنافست فيها ثمان عشرة دولة عربية بـ 682 عمل، منها 208 عمل إذاعي و 474 عملاً تليفزيونياً، وبلغت قيمة جوائزها مليونين ونصف المليون جنيه مصري، فقد ظللت شبهة الترضيات والمحسوبيات نتائج المسابقة الرسمية قبل إعلانها بساعات، وذلك على إثر إعلان عضو لجنة التحكيم الناقدة ماجدة خير الله انسحابها من لجنة التحكيم ورفضها التوقيع على النتائج بسبب التلاعب الذي طال المسابقة ونتائجها وبخاصةٍ في مجال المسلسل الاجتماعي الذي ذهبت جوائزه المختلفة لأعمال أقل جودةً من غيرها لأسباب غير فنية على الإطلاق من وجهة نظرها على الأقل، كما أعلنت الناقدة أن هذا الانسحاب سبقه محاولات منها لإيصال رأيها لرئيس المهرجان ووزير الإعلام، لكنهما رفضا الاستماع لرأيها، وقابلا انسحابها ورفضها للتوقيع على النتائج بلا مبالاة تامة، فاضطرت لفضح هذا الأمر للرأي العام في الصحافة والبرامج التليفزيونية المختلفة.
نهايةٌ لم تكن محمودة لمهرجانٍ يخطو نحو عامه الخامس عشر، ويعتبر من أكبر المهرجانات العربية وأكثرها انضباطاً واستمرارية في مجال الإعلام والإنتاج التليفزيوني والإذاعي للقنوات العربية الرسمية، خاصةً وأن دورة هذا العام نجحت في لفت الانتباه للمهرجان باستعدادات ضخمة، عكسها حفل الافتتاح المبهر الذي تضمن فقرات متميزة، جاء على رأسها أوبريت «عالم واحد» الغنائي الذي نال استحسان المشاركين والحضور بإخراجه المتميز ومفرداته المتناسقة، وهو الأوبريت الذي ألّف كلماته الشاعر جمال بخيت، ولحنه الموسيقار عمار الشريعي، وشارك في تقديمه نخبة من نجوم الغناء في الوطن العربي مثل: خالد سليم ومروان خوري وجنات وهيثم شاكر وكارول سماحة ورحاب مطاوع بالإضافة للفنانة المغربية هند صبري والفنان المصري شريف سلامة. كما انعكس تميّز هذه الدورة الخامسة عشرة عبر الشخصيات العامة والضيوف الذين دعموا بحضورهم اللامع الصيغة العربية للمهرجان، إذ استضاف عدداً كبيراً من كبار الشخصيات الإعلامية العربية، ومنها: حمود الشيبي مدير المؤسسة الأردنية للإنتاج الإعلامي، والدكتورحسان محمد فلحة مدير عام وزارة الإعلام اللبنانية، ويوسف أحمد الجلاهمة نائب رئيس مجموعة الراي الإعلامية، وعبد الله قصير مدير عام قناة المنار الفضائية، وعبد الله الدافع الخطيب الأمين العام لوزارة الإعلام والاتصالات السودانية، وعدنان الزغبي رئيس جمعية المذيعين الأردنيين، وخميس بن أحمد المسافر مستشار شؤون الإذاعة والتلفزيون بسلطنة عُمان، وصلاح الدين معاوي مدير عام اتحاد إذاعات الدول العربية، ومحمد عبد الغني ياغي رئيس اتحاد المنتجين الأردنيين للإعلام، وسعد العاروري عضو مجلس إدارة شبكة "معا" الإعلامية بفلسطين، ويوسف العميري رئيس اتحاد المنتجين لدول الخليج العربي، وفاروق كتو المدير المساعد للوكالة الوطنية بتلفزيون تونس، وهاني علي جمال الدين مدير المكتب التنفيذي بتلفزيون البحرين، وأمينة الزبيري مدير إدارة البرامج بتلفزيون المغرب، وفهد العنيزان مدير إدارة الرقابة بتلفزيون السعودية، وزكريا شعبان مدير القناة الثالثة بالتلفزيون الجزائري، وصبيحة شاكر رئيس وحدة البرامج بالتلفزيون الجزائري، وعلي خلفان جوكة مدير برامج تلفزيون الشارقة.
لقد ترك المهرجان طوال أيام انعقاده انطباعا جيدا لدى ضيوفه العرب المشاركين، لكن المسابقة الرسمية التي أُعلنت نتائجها في حفل الختام أحدثت الكثير من اللغط حول طبيعة الجوائز ومدى مصداقيتها، فعلى الرغم من تصريحات أمين المهرجان السيد إبراهيم العقباوي حول التطوير في شروط المسابقة وطبيعة المشاركات وآلية عمل اللجان التحكيمية البالغ عددها ثلاثٌ وعشرون لجنة، فإن النتائج جاءت كعادتها مرضيةً لكل المشاركين، وكأن المسابقة ما هي إلا مكافأة موزعة بالتساوي على معظم الأعمال المشاركة بالمهرجان، فلا تُستثنى دولة ولو بمنحها جائزة لجنة التحكيم الخاصة أو شهادة تقديرها، ولا تُميَّز أخرى بجوائز مُستَحَقَّة حتى ولو أن إنتاجها المقدّم يحمل مفردات تميّزهُ وامتيازهُ وفرادته، مما يضفي على المهرجان ونتائجه صبغةً سياسية تبتعد به عن صبغته الفنية والإبداعية الأساسية. وقد بقيت الصورة الأبرز في جوائز هذه الدورة هي عدم حصول البرامج التليفزيونية والإذاعية التي شاركت بها مختلف القنوات الفضائية العراقية ـ على كثرتها ـ إلا على جائزةٍ واحدةٍ فقط من مجموع جوائز المهرجان البالغة 150 جائزة، وقد ذهبت هذه الجائزة الوحيدة لقناة الشرقية العراقية في مجال البرنامج الحواري، رغم تحقيق القنوات العراقية في الدورات الثلاث السابقة على هذه الدورة لوجود متميز في مختلف المشاركات المقدَّمة للمسابقة الرسمية للمهرجان. وبعيداً عن المسابقة الرسمية التي ينظمها المهرجان كرّمت اللجنة التنظيمية للمهرجان مجموعةً من كبار الإعلاميين العرب عرفانا وتقديرا لما بذلوه من مجهودات، وما قدموه من إبداعات أثرت العمل الإعلامي المصري والعربي، وهم: محمود سلطان، ونجوى أبو النجا، وعواطف البدري، وصلاح حمزة، وصفاء أبو السعود، والمنتصر بالله، وسمير صبري، ونادية صالح، وأحمد أنيس رئيس الشركة المصرية للأقمار الصناعية، وعبد الله المحيسين من السعودية، والإعلامي حسن كمال من البحرين، والفنان السوري محمد مظهر الحكيم، ومن المكرَّمين الراحلين: الفنان سيد راضى، ونادر أبو الفتوح، وشوقي شامخ، والكاتب الصحفي محمود فوزي، ورجاء النقاش، وعصام بصيلة، هذا بالإضافة إلى الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، والروائي السوداني الطيب صالح، والمفكر المصري الدكتور مصطفى محمود الذي جاء قرار تكريمه بعد وفاته قبل أيام قليلة من انعقاد مهرجان هذا العام.
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي
وعلى جانبٍ آخر وفي اليوم نفسه الذي شهد افتتاح مهرجان القاهرة للإعلام العربي كان افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثالثة والثلاثين، مواكبةٌ غير مبرَّرة تسببت في خفوت بريق أحدهما على حساب الآخر، ورغم اختلاف الجهات المنظمة لكلا المهرجانين، فإن تشاركهما سوياً في العمل على إبراز ثقافة الصورة والمجالات الإبداعية والفنية المُصوّرة، جعل من تدشين فعالياتهما في يومٍ واحد بل وفي التوقيت نفسه أمراً مستهجنا للمتابعين والمهتمين، وقد صبّت المقارنة بين الحدثين في صالح المهرجان السينمائي الدولي لعدة أسباب، منها: أولاً ذلك الحشد من النجوم العالميين والعرب والمصريين الذين يشهدون حفل افتتاح الاحتفالية السينمائية السنوية الأكبر في قاهرة المعزّ، ثانياً عُمْرُ المهرجان السينمائي الذي يخطو نحو عامه الثالث بعد الثلاثين بخبرةٍ أكبر وأكثر نجاحا ونضجاً وقوة، هذا بالإضافة لتفرد المهرجان السينمائي وتميُّزِهِ بوصفه أحد أكبر المهرجانات العربية والشرق أوسطية بل ومن أهم عشرة مهرجانات سينمائية عالمية في التصنيف الدولي.
وقد دشّن وزير الثقافة المصري فاروق حسني فعاليات هذه الدورة برئاسة الفنان المصري عزت أبو عوف، الذي تولى رئاسة المهرجان خلفاً للفنان حسين فهمي منذ أربع سنوات، معلنا من المسرح الكبير بالأوبرا بدء فعاليات المهرجان التي ستستمر لعشرة أيام، ومهدياً هذه الدورة لاسم المخرج والمبدع الكبير الفنان الراحل شادي عبد السلام، وقد افتتح الدكتور عزت أبو عوف الدورة الثالثة والثلاثين من المهرجان بكلمة بسيطة أكد فيها أن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، صاحب موقع متميز على خارطة المهرجانات العالمية ويستطيع جذب أكبر نجوم السينما العالمية من العرب والأجانب، مؤكداً أن المهرجان تخطى كل الصعوبات والعقبات وأصبح أكثر قوة وصلابة، وقد رحب أبو عوف في كلمته بالسينما الهندية ضيفة شرف المهرجان، وبالسينما الجزائرية التي تحتفي هذه الدورة بتاريخها وأفلامها، والتي سيتم تكريمها هذا العام بعروض سينمائية خاصة ضمن الفعاليات الرسمية، وإهدائها درع المهرجان في الحفل الختامي له، ثم رحب أبو عوف بضيوف المهرجان من جميع أنحاء العالم، واستقبل بعد ذلك أعضاء لجنة تحكيم مسابقات المهرجان من النجوم العالميين والعرب على المسرح الرئيسي، مقدماً الوزير المصري فاروق حسني وزير الثقافة، ليعلِن تدشين الدورة الحالية وإهدائها لاسم المخرج الراحل شادي عبد السلام، وتسليم شقيقته جائزة تكريم المخرج الراحل، وعلى إثر هذا التكريم استقبل وزير الثقافة النجم الأمريكي الكبير توم بننجر الحاصل على الأوسكار، والنجم صمويل إل جاكسون، والنجمة الآسيوية العالمية لوسي لو، ثم النجمة المكسيكية ذات الأصول العربية سلمى حايك، التي فاجأت جميع الحضور بفستانها الرقيق شديد البساطة والاحتشام، على عكس كثير من الفنانات المصريات والعربيات اللاتي ارتدين ملابس ملفتة للأنظار ومفتعَلَة أكثر من اللازم. وعقب هذه المراسم الافتتاحية بدأت مراسم تكريم بعض الفنانات والفنانين المصريين كالفنانة نادية الجندي والفنانة الكبيرة شويكار والمخرج علي عبد الخالق، والمونتير أحمد متولي ومدير التصوير محسن نصر، وقدم وزير الثقافة جوائز تكريم لكل من المخرج الإسباني ماركو بيلوكيو عن مجمل أعماله، والمخرج الجزائري أحمد راشدي.
وقد كادت وزارة الثقافة المصرية واللجنة المنظمة للمهرجان أن تقع في حرجٍ شديد وموقفٍ لا تحسد عليه قبل انعقاد المهرجان بأيام قليلة، إذ تفاقمت أزمة عدم وجود أفلام مصرية مشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان، رغم إسهام وزارة الثقافة المصرية من ميزانيتها الخاصة في إنتاج بعض الأفلام السينمائية في السنوات الأخيرة بهدف رفع كفاءة الإنتاج السينمائي المصري، وقد كاد ذلك الموقف أن يَحدُث بسبب شروط المسابقة الرسمية التي تفرض ألا يكون الفيلم المشارك قد عُرض في مهرجانات عالمية مماثلة أو تمت مشاركته في مسابقات سابقة رسمية، ولما كانت معظم الأفلام المصرية الجاهزة للعرض لا تستوفي شروط المسابقة تعرّضت وزارة الثقافة المصرية لحرجٍ شديد بسبب فضيحة عدم مشاركة فيلم مصري واحد في المهرجان المصري الأكبر، والغريب في الأمر أن وزارة الثقافة المصرية نفسها قد شاركت بفيلم من إنتاجها منذ شهور قليلة بمهرجان فينيسيا الدولي، وهو فيلم "المسافر" الذي آثرت المشاركة به هناك وعابت على المنتجين والشركات الإنتاجية الخاصة إحجامها عن المشاركة في مهرجانهم القاهري وتفضيل المهرجانات الأخرى عليه؟! مشكلةٌ كان يمكن بالفعل أن تتفاقم أكثر لولا تدارك الأمر قبل المهرجان بأيام معدودة، وإعلان رئيس المهرجان عن جاهزية فيلمين مصريين للمشاركة بالمسابقات الرسمية وهما فيلم "عصافير النيل" و "هليوبوليس" من إنتاج شركات سينمائية خاصة.
والجدير بالذكر أن هذه الدورة شهدت مشاركات سبع وستين دولة من كافة أنحاء العالم بمائةٍ وخمسين فيلما من أصل أكثر من ستمائة فيلم تقدمت للمهرجان برغبتها في المشاركة، وقد كان من بين الأفلام المشاركة ثمانية أفلام رشحت لجوائز الأوسكار، وأفلام السينما الهندية التي تجاوزت الثلاثين فيلما من أحدث ما أنتجته بوليوود، فضلاً عن أفلام فرنسية وإيطالية وتونسية ومغربية وجزائرية وسورية. وقد كان من أبرز عروض المهرجان العالمية، فيلم الافتتاح الهندي "نيويورك" من إخراج كبير خان، والفيلم الليتواني "الدوامة" من إخراج غيتس لوكاس، والفيلم المغربي "كازانيغرا" من إخراج نور الدين لخماري، والفيلم الفرنسي "نسيت أن أقول لك" من إخراج د.لوران فيناس ريمود، والذي شارك في بطولته النجم المصري العالمي عمر الشريف. وقد ترأس الفنان يحي الفخراني لجنة تحكيم مسابقة الأفلام العربية بعد اعتذار الفنان نور الشريف عن رئاستها بسبب مرافقته لابنته في رحلة علاجها المفاجئة بباريس، أما لجنة التحكيم الدولية لأفلام الديجيتال الروائية الطويلة فترأّسها المخرج النيجيري فيكتور أوكاي، بينما ترأّس لجنة التحكيم الرسمية المخرج العالمي الهندي أدور جوبا لاكريشنان. وقد جاء اعتذار المخرج العالمي مارتن سكورسيزي عن الحضور مخيباً لآمال اللجنة المنظِّمة، حيث كان من المقرر أن يَحضُر سكورسيزي العرض الذي نظمه المهرجان للنسخة الجديدة من فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام، والذي تحملت وزارة الثقافة المصرية نفقات ترميمه التي جاوزت تكلفتها الخمسين ألف يورو، وقامت مؤسسة سكورسيزي "سينما العالم" بذلك الترميم ضمن مشروعها الذي يهتم بصنع نيجاتيف جديد لأهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية لتمتد جودتها لمئات السنين.
وأخيرا جاء حفل الختام خارج كل التوقعات أيضاً، فقد ألقت الأحداث الدامية التي خلّفها لقاء منتخبي مصر والجزائر في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010 بظلالها على الحدث السينمائي الأكبر في الشرق الأوسط، إذ تسببت بعض الجماهير الجزائرية في إشعال فتيل أزمة كبيرة بين الدولتين الشقيقتين، عقب مباراة المنتخبين في العاصمة السودانية الخرطوم، حينما طارد مئاتٌ من الجماهير الجزائرية بعض الجماهير المصرية التي حضرت لمشاهدة اللقاء الكروي، وبدأت عقب انتهاء المباراة في رشق المشجّعين المصريين وحافلاتهم بالحجارة وحرق العلم المصري، ثم قطع طريق مطار الخرطوم على المشجعين المصريين، ووقوف بعض الشباب الجزائريين على الطرق المؤدية للمطار عرايا تماماً، الأمر الذي أدى إلى أزمة في العلاقات المصرية الجزائرية إن لم يكن على المستوى الرسمي فعلى الأقل على المستوى الشعبي، مما دفع اتحاد نقابات المهن التمثيلية إلى المطالبة باتخاذ إجراء حاسم قبل حفل ختام المهرجان السينمائي بأقل من أربعةٍ وعشرين ساعة، فاضطرت إدارة المهرجان إلى قصر حفل الختام على إعلان نتيجة المسابقات وتوزيع الجوائز وفقرة فنية سريعة، كما تم إلغاء منح درع المهرجان للسينما الجزائرية، وخيّمت توترات شديدة على حفل الختام وشهدَ غيابَ كثيرٍ من الفنانين المصريين والعرب، بل إن الأمر وصل إلى زيادة تأمين الفنانين الجزائريين المشاركين بالمهرجان، وإبلاغ بعضهم عن طريق اللجنة المنظمة بأن وجودهم في حفل الختام غير مرغوبٍ فيه، وهو ما حدث مع المخرج الجزائري الشاب إلياس سالم عضو لجنة التحكيم في مسابقة الأفلام العربية، الذي أبدت له اللجنة المنظمة أسفها الشديد على مثل هذا الموقف النابع من دوافع أمنية تصب في مصلحة كافة الأطراف. نهايةٌ لم تكن متوقعة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي نجح هذا العام في أن يستعيدَ جزءاً من بهائه السابق، ويبدو أن المشكلة لن تتوقف عند هذا الختام المشحون بالحزن والتوتّر، فهذا الختام ما هو إلا بداية لأحداث أخرى ستشهدها الأيام والأسابيع القادمة، أحداثٌ ربما لا أحد يعلم تحديداً متى وأين وكيف يمكن أن تنتهي.
أبو تريكة.. وسؤال الهوية
حالةٌ من الترقّب والاستنفار والتأهّب عاشها المصريون هذا الشهر، في انتظار مباراة منتخبهم الوطني لكرة القدم أمام نظيره وشقيقه المنتخب الجزائري في التصفيات المؤهلة لكأس العالم لكرة القدم، والذي تستضيفه جنوب أفريقيا العام المقبل بمشيئة الله. لقاءٌ كروي حمل الكثير والكثير من الدلالات وكشف عن تحولات جديدة في بنية المجتمع المصري والعربي على حدٍ سواء، فلم تكن مباراتا الرابع عشر من نوفمبر التي جرت وقائعها على استاد القاهرة الرياضي، والتي انتهت بفوز المنتخب المصري بهدفين نظيفين، ثم مباراة الثامن عشر من نفس الشهر التي جرت على ملعب المريخ بالعاصمة السودانية الخرطوم والتي تأهل عقبها المنتخب الجزائري للمونديال، مجرد لقاءين رياضيين جذبا اهتمامات المحللين الرياضيين والمهتمين بشئون كرة القدم والشغوفين بها، لكن الأمر أخذ أبعاداً أخرى بعضها اجتماعي وبعضها ثقافي وبعضها الآخر سياسي وقومي. فالمصريون الذين يعيش السواد الأعظم منهم بالقرب من خط الفقر، والذين يعانون وضعاً سياسياً أقل ما يوصف به أنه محتقن وضبابي، والذين ما تزال قضايا البطالة ورغيف الخبز تتصدر عناوين همومهم اليومية، والذين أحصوا في الخامس والعشرين من الشهر الماضي قتلى ومصابين بالعشرات في حادث تصادم قطارين ـ متكرر في السنوات الأخيرة ـ بسبب الإهمال الجسيم، وفقد مثقفوهم ومفكروهم شخصيتين من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في يومٍ واحد وهما: الدكتور مصطفى محمود الكاتب والفيلسوف وصاحب البرنامج التليفزيوني الشهير "العلم والإيمان" وأكثر من خمسين مؤلفاً متنوعا بين الأدب والفلسفة والديانات، والسيد أمين هويدي رئيس جهاز المخابرات الحربية السابق وأحد أعضاء حركة الضباط الأحرار، والمتقلِّد لثلاث وزارات متتالية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان آخرها وزارة الحربية بعد عام 1967، وصاحب ما يزيد عن عشرين مؤلفاً في السياسة والعلوم العسكرية، والذي رحل مع الدكتور مصطفى محمود في يومٍ واحد هو الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر المنصرم، أضافوا (المصريون) إلى ثياب أحزانهم السوداء لونين آخرين هما الأبيض والأحمر، فتزينوا هم وما حولهم من شوارع وسيارات ومنازل بعلم بلادهم الذي يغيب عن الأعين في الآونة الأخيرة لفترات وفترات، ثم لا يفتأ أن يملأ الشوارع والميادين في التظاهرات (الكروية فقط) بشكلٍ يدفع للتساؤل عن أسباب الاختفاء والظهور بهذه الطريقة العجائبية، وفي المحافل الكروية فقط وحصرياً دون غيرها من المحافل والمناسبات.
تصعيدٌ حكوميٌ منظم، هذا ما يعتقده بعض المتابعين، يقوم به النظام المصري للتغطية على إخفاقاته وسقطاته، راغباً في استثمار أية مناسبة لإعادة تجميل وجهه المليء بتجاعيد الفساد والفشل. ورغبةٌ شعبيةٌ في الفرح، هذا ما يؤوّل به بعضٌ آخر ما حدث عقب لقاء القاهرة، فالمصريون يريدون الخروج بأي شكل عن سياقٍ من الحزن والألم أطبق عليهم وناءوا بحمل مفرداته وتفاصيله في السنوات الأخيرة، حوادث عبارات وقطارات، وتقاتل في طوابير الخبز، وأوبئة وأمراض ومياه ملوّثه، وفساد إداري وبطالة وفقر، وفتن طائفية عابرة ومقيمة تنهش في وحدة الشعب وتتوغل في نسيج الوطن الواحد، ولهذا يجتهد المصريون في التعلق بأية بارقة أمل تلوح في الأفق، ليعيدوا داخلها إنتاج ابتسامتهم التي نسيتها وجوههم، ويعيدوا معها تعلقهم بهذا الوطن عبر حلم قومي افتقدوا الالتفاف حوله منذ أن خبت الأحلام القومية وانزوت تحت المصالح الفردية التي أنتجها النظام الرأسمالي الفج المتمثِّل في سطوة رجال الأعمال داخل المجتمع والسياسة.
حلم 80 مليون مصري".. بهذه العبارة الملهِمة والمعبّرة صدّرت معظم الفضائيات المصرية الخاصة والرسمية شاشاتها لأيام وأيام، أغنياتٌ وطنية تذاع على مدار الساعة في القنوات المرئية والمسموعة، علم مصري يرفرف على جانب معظم الشاشات، وكأننا في حالة استنفار عسكري، مباراة كرة قدم توصف بالموقعة الحربية، وأغانٍ تؤلف وتُلحَّن في ساعات معدودة وما تلبث أن تُسجّل وتذاع على الهواء، في تسابقٍ أشبه بما حدث في الأيام الستة الأولى من حرب أكتوبر 73، شوارع تتسم بحركة مرورية سلسة، وتقارير مختلفة تؤكد أن معدلات الجريمة قبل المباراة ويومها انخفضت لأدنى معدلاتها، وجوهٌ تتهلل بالبشر وكأن كل ما خلفه الواقع المرير من علامات غائرة على الوجوه قد انمحى في لحظات. وعلى الجانب الآخر كان جزءٌ من الإعلام الجزائري يلعبُ في الخفاء لأهداف لا تنتمي إلى الرياضة لا من قريبٍ ولا من بعيد، لعبٌ في ظاهره يحمل دعم الروح القتالية للاعبي المنتخب الجزائري من أجل تحقيق الانتصار، لكنه ما لبث أن كشف عن باطنه الأسود حينما أعلن عقب مباراة القاهرة حدوثَ وفيات بين صفوف المشجعين الجزائريين، بل واستمر في المؤامرة مدعياً وصول جثثٍ إلى الجزائر على متن الرحلة العائدة من القاهرة.
تحوُّلٌ مفاجئٌ من الرياضة إلى السياسة أدارته إحدى الصحف الجزائرية الراغبة في تحقيق نسبة مبيعات عالية على حساب كل المفاهيم الراسخة في العلاقة بين البلدين، لتسقط مقولات العروبة والقومية والتفاهم العربي المشترك ووحدة الصف، وتتصاعد بدلا منها الشيفونية والتعصب والاستعداء، ذلك التصاعد الذي بلغ حدته عقب فوز المنتخب الجزائري في الخرطوم ببطاقة التأهل للمونديال، إذ خرج الآلاف من مشجعي المنتخب الجزائري الذين حملتهم طائرات القوات المسلحة الجزائرية ليطاردوا المشجعين والمشجعات المصريين بالأسلحة البيضاء والهتافات والحجارة، مشهدٌ لم يتكرر من قبل بين من يفترض أنهم أشقاء وإخوة في العروبة، مباراة كرة قدم كادت أن تتسبب في حرب بين الشعبين الشقيقين، وأعادت للأذهان ذكرى "حرب المائة ساعة" التي وقعت بين هندوراس والسلفادور، عقب فوز السلفادور ببطاقة التأهل لمونديال مكسيكو سيتي عام1970، إذ خرج آلاف السلفادوريين المقيمين في هندوراس إلى الشوارع وبشكل استفزازي تعبيراً عن فرحهم بفوز فريق بلادهم، هذا التعبير الاستفزازي عن الفرح تحول في وقت لاحق إلى مواجهات دامية مع قوّات مكافحة الشغب الهندوراسية التي فرقت الجماهير بشكل وحشي، فراح ضحية المواجهات عشرات السلفادوريين، وفي السلفادور حدثت مواجهات أقل عنفاً بين مواطنين من السلفادور والجالية الهندوراسية الصغيرة المقيمة فيها، وقد توِّجت هذه الأحداث بحربٍ بدأت في 14 يوليو 1969 وانتهت في العشرين منهُ، حربٌ قاتل فيها أكثر من 60,000 ألف عسكري و 1600 طائرة مقاتلة، وتسببت في مقتل أكثر من 2000 شخص و تهجير مئات الآلاف، واحتلال السلفادور لجزء من الأراضي الهندوراسيّة.. لقد انتهت الحرب بين الطرفين بعد مائة ساعة من انطلاقها، لكن المشكلة استمرت وظهرت حربٌ أخرى باردة، لم تنته إلا في أكتوبر عام 1980 عندما اتفق البلدان على توقيع معاهدة سلام بينهما.
أحداثٌ داميةٌ بالفعل شهدتها شوارع القاهرة وكافة أرجاء القطر المصري، إذ بدأت الفضائيات المصرية الخاصة والرسمية في إقامة غرف عمليات للاتصال بالجماهير المطارَدَة داخل الأراضي السودانية وتوصيل معلومات عنهم للسلطات السودانية، تصريحاتٌ من هنا ومن هناك، جسرٌ جوي من مطار الأقصر لمطاري الخرطوم والقاهرة لنقل المشجعين الذين كان بينهم وفود رسمية وشخصيات عامة وفنية ومثقفين وإعلاميين وسياسيين ورجال أعمال، نسي المصريون نتيجة مباراتهم وانشغلوا بأبنائهم العالقين أو الأسرى ـ كما وصفهم الإعلامي إبراهيم حجازي الصحفي بالأهرام ـ بالخرطوم. ولكن القضية لم تقف عند هذا الحد، ولم تنته مع عودة المصريين من الخرطوم، ولا مع عودة بعضهم أيضاً من الجزائر عقبَ استهداف أرواحهم ومواقع شركاتهم واستثماراتهم بشتى المدن الجزائرية، فقد استدعت الحكومة المصرية سفيرها لدى الجزائر، واستدعت قبله سفير الجزائر بالقاهرة، ووجهت له اللوم وحمّلتْهُ مسئولية تصاعد حدّة التوترات بين البلدين، كما حمّلته مسئولية الرعايا المصريين وسلامتهم بالأراضي الجزائرية. ولم ينتظر المصريون تلك التحركات الرسمية للنظام المصري ومؤسساته، فقد بدأت جموع المتظاهرين المصريين الغاضبين في التجمع حول السفارة الجزائرية بالقاهرة وطالبوا بطرد السفير الجزائري وقطع العلاقات مع الجزائر نهائياً، على اعتبار أن الأمور تجاوزت الرياضة إلى إهانة الكرامة وترويع الآمنين، بينما أعلن اتحاد نقابات المهن التمثيلية متضامنا مع نقابة المهن الموسيقية قطع أية علاقات فنية مع الجزائر بفنانيها ومبدعيها، الأمر الذي تسبب في وضع وزارة الثقافة المصرية في مأزقٍ خطير، فقد كان مهرجان القاهرة السينمائي يكرم السينما الجزائرية في دورته هذه التي واكبت فعالياتها أيام وقوع المباراتين، وقد كان مقررا منح درع تكريم للسينما الجزائرية في حفل الختام، لكن قرار نقابات المهن التمثيلية جاء ضاغطاً على وزارة الثقافة المصرية ولجنتها المنظِّمة للمهرجان، فتقرر إلغاء حفل الختام وإلغاء منح الدرع للجزائر، وقصر الحفل على إعلان نتائج المسابقة الرسمية للمهرجان.
لقد كان من المفترض أن تصلح الرياضة ما لم تستطع إصلاحُه السياسة، لكن الأمور انقلبت وخرجت عن نطاقها المفتَرَض، كان المصريون يعلقون آمالهم وطموحاتهم في فرحةٍ مؤقتةٍ وابتسامةٍ عابرة اعتادوا أن تحملها لهم قدم "قديسهم" محمد أبو تريكة حينما يهز لهم شباك المنافسين في اللحظات الحاسمة من عمر اللقاءات الكُروية، بل إنه اللاعب الوحيد الذي استثنتْهُ كثيرٌ من تعليقات الجماهير الجزائرية المندفعة على المواقع الإلكترونية وصفحات الـ "فيس بوك" وعاملته باحترام وتقدير دوناً عن بقية زملائه من لاعبي المنتخب القومي المصري، استثناءٌ ـ ولو جزئي ـ حققه النجم المحبوب ليس في قلوب بعض الجزائريين التي لا تزال تنبض بالعروبة ووحدة الصف، وإنما داخل كثيرٍ من القلوب العربية النابضة من المحيط إلى الخليج، منذ أن تحدى قواعد الاتحاد العالمي لكرة القدم "الفيفا" في بطولة إفريقيا الأخيرة، والتي واكبت القصف الإسرائيلي الغاشم على غزة، إذ رفع شعاره الشهير بعد إحرازه لإحدى الأهداف كاشفاً عن قميصه الداخلي وقد كُتبَ عليه بالعربية والإنجليزية معاً "تضامناً مع غزة" " SYMPATHIZ WITH GAZA".
نعم لقد كانت بالفعل مباراة كرة قدم، ولكن يبدو أنها لم تعد كذلك، فقد كشفت وبجلاء مدى ما وصلنا إليه من جنونٍ وتفاهة، كشفت أزماتٍ ثقافيةٍ ومعرفيةٍ ومجتمعيةٍ، وأسفرت عن مواقف سياسية وتحوّلاتٍ قومية، فكيف يختزل المصريون أحلامهم القومية في حلمٍ وحيد رياضي هو الوصول إلى المونديال؟! وكيف يمكن أن يكون ارتفاع علم هذا الوطن الذي اجتهد آلاف الشهداء كي يغرسونه فوق "تبّةٍ" سيناوية مرتهنٌ فقط في ارتفاعه اليوم بدخول كرةٍ مباغتة فضاء مرمى المنافسين وهزها للشِباك؟! بل كيف يمكن أن يخرج شعب المليون شهيد ليطاردوا إخوانهم المصريين بالأسلحة البيضاء والحجارة والشتائم، وينسوا تاريخاً ممتدا وحاضراً متأزماً ومستقبلاً مستَهْدَفاً من عدوٍ يتربص بالجميع؟! كيف يمكن أن يغيب صوت العقل ويبقى الجنون وحدَهُ حاكماً بأمره في الجموع الخاويةِ من فلسفةٍ وإبداع وأحلام وأفكار بناءة؟! وكيفَ للعروبة أن تسقط هكذا وتتكسر على بساطٍ من مستطيلٍ أخضر، بينما الهوية والانتماء ينتظران صافرة النهاية التي يطلقها حكم المباراة معلناً انتصار الوطن بعد نضال أحدَ عشر رجلاً من أبنائه للوصول بقطعةٍ من الجلد مستديرة إلى الخطوط الخلفية للعدو وإبطال مراكزه الدفاعية وقصف مرماه بقذائف صاروخيةٍ مدمِّرة؟!!!.