يبحر بنا الروائي العراقي في متاهة الحياة والأسئلة الفلسفية التي تثيرها طبيعة الشخصية الإنسانية الملتبسة السلوك في مجتمعات القسوة كالمجتمع العراقي، وكيف تلاحق لعنة السلوك الفرد حتى حينما ينتقل لبيئة حرة. مستخدما تقنيات عديدة، عارضا مشكلات العراق الأخلاقية والسياسية وخراب ما بعد الاحتلال.

مـتـاهــة آدم (رواية)

بـُرهـان شاوي

المتاهــة الأولــــى

«قالَ اهبطـوا بعضُـكُم لبعـضٍ عدوٌ ولكـم في الأرض مستقّرٌ إلى حين* قالَ فيها تحيونَ وفيها تموتونَ ومنها تخرجون»

 سورة الأعراف، الآيات: 24 - 25

«كلُ الأنهار تجري إلى البحر والبحرُ ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منهُ الأنهارُ إلى هناك تذهب راجعة. كلُّ الكلام يقصرُ. لا يستطيعُ الإنسانُ أن يُخبر بالكلّ. العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئُ من السمع. ما كان فهو ما يكون والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديدٌ. ووجهتُ قلبي بمعرفة الحكمةِ ولمعرفة الحماقة والجهل. فعرفتُ أن هذا أيضا قبض ريح. لأن في كثرة الحكمة كثرةُ الغم. والذي يزيد علماً يزيدُ حُزناً».

العهد القديم – سفر الجامعة

الـفـصـــل الأول
يقــظــــة آدم
دوّى انفجار هائل فاهتــزت البناية. فـزّ الكاتب آدم البغـدادي من نومه مرعوباً على صوت الانفجار الذي ارتجت جدران الشقة وأرضيتها من قوته. أحس نفسه متعباً. شعر بصداع شديد يضغط على جمجمته، وحموضة تصعد من معدته وتصل حتى بلعومه. رفع رأسه قليلا ليجد نفسه على الصوفا الجلدية في الصالة. لقد غرق في النوم بعد أن وضع بعض اللمسات على مشاهد وفصول روايته الجديدة التي خطط لها منذ فترة وأنجزها بالأمس.

نهض قلقاً ليطلّ من النافذة المشرفة على مشهد مفتوح من بغداد، فرأى دخانا ً كثيفا ًيتعالى من جهة منطقة "الصالحية"، وسمع صوت إطلاقٍ كثيفٍ للرصاص وهدير سيارات الإسعاف الذي يؤكد بأن كارثة قد وقعت.

إعتاد آدم الغـدادي على هذه المشاهد التي صارت من يوميات مدينة بغداد، وجزءا ً من حياة العراقيين! لا يدري لماذا فكّر لحظتها، وهو يرنو نحو جهة الانفجار، بعدد الأجساد التي يمكن أن يكون الانفجار قد مزّقها. يا لعبثية هذه الحياة، إذ صار العراقيون يتعاملون مع الأرقام، مع عدد الضحايا !! فالانفجار الذي يخلف المئات أو حتى العشرات هو الذي صار يحظي باستنكار الحكومة والأحزاب، بينما الانفجار الذي يمكن أن يمزق أثنين أو ثلاثة أو ستة أو حتى عشرة أشخاص يمر دون أي استنكار أو انتباه من قبل الحكومة والأحزاب، ولا ينتبه له إلا أهل الضحايا. يا لعبث الحياة في العراق.

فكّر لحظة مع نفسه:" لماذا لا أشعر برغبة في الكتابة عن كل هذه الأحداث؟ هل هي ليست واضحة بالنسبة له؟ هل هي غير مهمة. ؟ أو هي لا تصلح لعمل روائي؟ أو أن مثل هذه التحولات التاريخية والأحداث الجسام والمرعبة التي حدثت في بلاده تحتاج إلى وقت أطول حتى يأتي من يستطيع الكتابة عنها. ؟ وكان يجيب على سؤال نفسه: نعم، هي واضحة ومهمة وتصلح لعشرات الأعمال الأدبية والفنية، لكنه لم يجد الجواب عن سبب عدم رغبته الشخصية في الكتابة عن الأحداث المرعبة!.

قبل أشهر انفجرت سيارة ملغومة في تقاطع الشوارع الذي يسكن عند منعطف أحدها، وكان ينظر إلى ذلك المشهد المرعب من نافذة غرفة النوم. بقي لفترة طويلة ينظر إلى الناس الذين تراكضوا إلى موضع الانفجار ليساعدوا الضحايا والجرحى. لاحظ كيف جاءت قوات الشرطة لتفرق الناس وتمنعهم من الاقتراب، لاسيما بعد أن جاءت سيارات الإسعاف لنقل الضحايا والجرحى، لكنه ركّز على رجل بعينه، أثارته حركاته المريبة من بعيد، فقد كان برغم المصاب الأليم يتتبع امرأة لم يتبين هو كم عمرها من نافذته، وكان الرجل يحاول الالتصاق بها في زحمة الناس الذين تجمهروا.

الفضول الأدبي دفعه لتتبع هذا المشهد. لاحظ أن المرأة التفتتْ للرجل وكأنها انتبهت لمحاولة الالتصاق الجسدي بها، فتحركت من مكانها وذهبت إلى مسافة بعيدة عنه، لكنه تبعها أيضا والتصق بها من الخلف أكثر حتى أنه حجبها عن مشهد نظره، وحينما تفرق الناس شيئاً فشيئاً لاحظ أن الرجل كان يتحدث مع المرأة ويمشي بجانبها على مسافة، وشيئاً فشيئاً اقترب منها وصارا يمشيان معاً، وابتعدا عن مكان الانفجار قليلاً ثم انعطفا إلى الشارع المجاور الذي يتبع التقاطع، فأوقف الرجل سيارة تاكسي وصعد مع المرأة واختفيا عن مدى نظره.

فكّر مع نفسه حول عبث الحياة! هنا مشهد لناس تتمزق أجسادهم من هول الانفجار، وآخرون يهرعون لنجدتهم دونما خوف من انفجار مزدوج، بينما هناك من لا يؤثر فيه مشهد الموت الفظيع بل تراه يتبع شهوته العمياء. وكأنما الموت أيقظ فيه غريزة الحياة.

تحرك آدم البغدادي من عند النافذة ليجلس على الصوفا الجلدية ثانية. انحنى إلى الأرض مفكرا واضعا رأسه بين يديه، سائلا نفسه: متى ينتهي هذا الموت المجاني؟

قبل عام تقريبا، حينما كان مدعواً لمؤتمر أدبي في ميونخ بألمانيا، التقى أحد معارفه من الكتاب الذين غادروا العراق في تسعينات القرن الماضي. وكان هذا الكاتب قبل مغادرته يعمل أستاذا في جامعة بغداد، وكان قد أصدر رواية غريبة البناء والحبكة بعنوان (كوابيس القنفذ)، تقترب لحد ما مع عوالم الكاتب التشيكي فرانتس كافكا، لاسيما في روايته المعروفة (التحول) والتي ترجمت إلى العربية بعنوان (المسخ)، لكن هذا الأستاذ الأديب غادر العراق لأسباب مجهولة بالنسبة إليه، وحين التقاه كان يود الذهاب إلى إحدى الدول الخليجية ليعمل مدرساً في إحدى جامعاتها، وخلال اللقاءات معه سمع منه قصصاً مختلفة عن رحلته من لحظة خروجه من البلاد وحتى لحظة تواجده في تلك المدينة الغريبة.

من خلال لقائين طويلين معه راودت آدم البغــدادي فكرة كتابة رواية عن كل ما سمعه منه، وفعلا كتب روايته عنه وعن حياته مع زوجته وسفرهما إلى أوروبا وما واجهه هناك.

كان آدم البغـدادي يسأل نفسه أحيانا أسئلة تدخل في صلب العملية الإبداعية والجمالية، وأحيانا كان يجيب عليها بنفسه مستذكرا مواقف وإجابات النقاد وعلماء الأدب على مثل هذه الأسئلة، إلا أنه لم يتردد من أن يطرح على نفسه الأسئلة ذاتها، فمثلا يسأل: هل يكفي أن يسمع من الآخرين سرداً لحياتهم ومشاعرهم والأحداث التي مروا فيها لكي تكون مادة لعمل روائي. ؟ وإلى أي حد يمكن للكاتب أن يغير من مسار الأحداث ويلون عوالمها ويخلق شخصيات وهمية من عنده؟ من أين يستمد الكاتب والمبدع بشكل عام مادته الإبداعية، من الذاكرة الفردية أم الذاكرة الجمعية. ؟ من الوعي الذاتي أم الوعي الجمعي. ؟ وكيف يمكن للاوعي الفردي والجمعي أن يتدخل في العمل الإبداعي. ؟ أين دور التجربة الحياتية والروحية في تشكيل المادة الإبداعية. ؟ وكيف تولد الشخصيات في مخيلته الإبداعية. ؟ هل تمر بمرحلة كمون أو حمل كما تحمل المرأة أو أنها تنبثق فجأة وتقفز من العدم. ؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت تلح عليه كلما خطط لكتابة رواية.

**********

اشتّد نفير سيارات الإسعاف بشكل يقبض النفس ويدفع إلى التفكير بهول الانفجار وكثرة الضحايا. فتش آدم البغــدادي عن جهاز الريموت كونترول، فلا شك في أن المحطات التلفزيونية ستبث خبرا عاجلا عن الانفجار وضحاياه. وجد جهاز الريموت كونترول ملقى على الأرض عند حافة الصوفا فأخذه وضغطه فأطلت إحدى المذيعات العراقيات وهي تجري مقابلة مع فنان، بينما كان الشريط الإخباري الذي يحمل عنوان: (عاجل) يشير إلى حصول انفجار نتيجة عملية انتحارية مزدوجة في هجوم على محافظة بغداد. انتقل إلى محطة فضائية أخرى تبث من خارج البلاد فشاهد أنها تبث شريطاً مسجلاً عن بعض تفاصيل الحادث وكأنهم كانوا هناك لحظتها. ضغط مرة أخرى منتقلاً لقناة ثالثة فوجدها تعلن عن تفاصيل تختلف عن القناتين اللتين شاهدهما، فأحس بانزعاج وانقباض وغضب خفي من هؤلاء الذين اقترفوا هذه الجريمة ومن محطات التلفزيون التي تكشف عن لا مبالاتها، وكأنها شكرت الرب على هذا الحادث الذي أنقذها من تكرار برامجها ومنحها مادة لأيام قادمة.

سأل آدم البغدادي نفسه متى ينتهي كل هذا؟ ومن يقف وراءه ويخطط له؟ محطات التلفزيون وجهت من خلال المسئولين الرسميين الاتهام إلى تنظيم القاعدة، لكنه لا يصدق بأن تنظيم القاعدة هو وحده وراء هذه التفجيرات المرعبة.

استمر لدقائق ينظر لشاشة التلفزيون التي أخذت تعرض مشاهد من تفاصيل المكان وموقع الانفجار موجعة للقلب. ضغط على أحد الأزرار ليوقف البث التلفزيوني. وضع جهاز الريموت كونترول على الطاولة التي أمامه ثم توجه إلى زاوية المطبخ ليغلي الماء وليصنع لنفسه كوبا من النسكافيه.

أحس برغبة في أن يعيد كتابة النص الروائي الذي انتهى منه ليلة أمس. صب الماء المغلي في الكوب الذي كان قد وضع فيه ملعقتين من مسحوق النسكافيه، وحمل كوبه متوجها إلى طاولة الكتابة التي كانت تحمل بعض الكتب إلى جانب ملزمة من الأوراق المليئة بالكتابة.

جلس آدم البغـدادي على كرسيه قرب الطاولة، وسحب ملزمة الأوراق إليه بعد أن وضع الكوب جانبا. قرأ صفحة الغلاف التي كانت تحمل عنوان الرواية (السقوط إلى الأعلى) فشطب العنوان وكتب عنوانا جديدا هو (متاهة آدم). فكر أن عنوان (متاهة آدم) ربما يعبر عن فكرة الرواية وأحداثها أكثر من (السقوط إلى الأعلى).

كان آدم البغـدادي قد قسم عمله إلى فصول - مشاهد أقرب للسيناريو السينمائي منه إلى الفصول المتعارف عليها في النص الروائي. أخذ رشفة نسكافيه ثم بدأ بقراءة النص لكي يمرر عليه تعديلاته. وجد أمامه الفصل الأول من العمل والذي كان يحمل عنوان (الكابوس)، فبدأ القراءة.

متـــــــاهــــــة آدم

أو

السـقـوط إلـى الأعـــلـى

«قالَ اهبطـوا بعضُـكُم لبعـضٍ عدوٌ ولكـم في الأرض مستقّرٌ إلى حين* قالَ فيها تحيونَ وفيها تموتونَ ومنها تخرجون»

سورة الأعراف، الآيات: 24 - 25

الفصــــل الأول
الـكــــابــــــــــوس
غرفة واسعة، جدرانها مطلية بورق أبيض يميل إلى الوردي. في أقصى الغرفة سرير يغطيه شرشف بنفسجي اللون، وثمة امرأة شابة بثوب وردي تغط في نوم عميق. جدران الغرفة عارية إلا من دمية صغيرة من القماش معلقة بخيط متصل بمسمار صغير جدا على الجدار المقابل لسرير المرأة الشابة. فجأة؛ يدخل كلب أسود كبير. يقفز الكلب على السرير باتجاه المرأة النائمة. يتلوث الجدار الأبيض بنقاط ودفقات من الدم. تسقط الدمية من على الجدار.

فزّت حواء المؤمن من نومها مرعوبة. تحسست عنقها برعب. نظرت إلى فراشها وإلى الجدران ثم إلى المكتبة التي تضم كتبا كثيرة باللغة العربية وبعض القواميس الألمانية والانكليزية والتي تعود لزوجها الدكتور آدم التائه، وكأنها تبحث عن شيء. استرخى وجهها حينما تأكدت بأن الأمر لم يكن سوى كابوس.

شعرت للحظات بأنها غير قادرة على التفكير. أحسّت أن رأسها يخلو من أية فكرة، بل إنها عاجزة على إستعادة تفاصيل الكابوس. كانت حنفية الماء تقطر بانتظام وصوت الساعة المنضدية على التلفزيون يشير إلى الواحدة صباحا، وشاشة التلفزيون تبعث أزيزا لأن البث قد انتهى.

ظلت حواء المؤمن مستلقية على الصوفا الجلدية وملتفة بالبطانية في غرفة الاستقبال. انتبهت إلى أن أحداث الكابوس جرت في غرفة النوم، وعلى سريرها، وليس في غرفة الاستقبال حيث تتمدد الآن على الصوفا!

 كان الجمر متوهجا في الموقد الفحمي، والليل يبدو أزرق من وراء النافذة الزجاجية الوحيدة. نظرت حواء المؤمن نحو الباب الذي يفضي مباشرة إلى خارج الشقة حيث درج البناية الخشبي. لم يقطع سكون تلك اللحظات إلا الإيقاع المنتظم لقطرات الماء النازلة من الحنفية، وصوت عقرب الساعة.

نهضت بتكاسل لتشرب الماء. أطفأت وهي في دربها إلى المطبخ جهاز التلفزيون. كانت حزينة وتحس بالفراغ. دخلت المطبخ. ضبطت الحنفية التي كانت تقطر وفتحت الثلاجة. أخرجت قنينة الماء وشربت منها مباشرة. وضعت القنينة في الثلاجة ثانية ثم توجهت إلى غرفة النوم. بعد دقائق عادت منها وهي تحمل ألبوما للصور. توجهت إلى غرفة الاستقبال وجلست على الصوفا في مكانها السابق. تمددت وغطت ساقيها وبطنها بالبطانية، وبدأت تقلب صفحات الألبوم بانتظام.

مر وقت على حواء المؤمن وهي تقلب صفحات الألبوم، وأخير ألقته قرب رأسها بعد أن شاهدت جميع الصور. بقيت لفترة تتأمل سقف الغرفة. لم يكن هناك سوى صوت الساعة وهي تتكتك، وشيئا فشيئا غرقت في غفوة دون إرادة منها.

**********

كانت الساعة تشير إلى الثالثة، حينما تعالت أصوات لوقع خطوات قادمة من جهة السلم الخشبي. فزّت من نومها على صوت محاولة فتح الباب المقفل من الداخل. ألقت نظرة سريعة على الساعة ثم نهضت باحتراس متجهة نحو الباب لكن دونما فزع، فقد خمنت أنه زوجها الدكتور آدم، وبالرغم من ذلك وقفت بجانب الباب ويدها على المفتاح ثم سألت:

-                     من هناك؟

فجاء صوت خافت من وراء الباب:

-                     افتحي أنا آدم.

فتحت الباب فدخل رجل وسيم في منتصف الأربعينات من العمر، فقالت له بغضب مكتوم ممزوج بنبرة مشبعة بالنعاس:

-                     أين كنت إلى هذا الوقت المتأخر من الليل. ؟

-                     أين يمكن أن أكون. ؟ عند أصدقائي طبعا.

ثم أندفع إلى الصوفا ملقيا نفسه بتعب عليها سائلا ً:

-                     هل لدينا ما يؤكل. أنا جائع؟

-                     يوجد لدينا رز وفاصوليا.

لم يجبها بشيء وإنما نهض متوجها إلى جهة المطبخ، فعلقت مستاءة:

-                     يعني أما كان بالإمكان أن تأتي قبل هذا الوقت. تتركني وحدي وتذهب للسهر خارج البيت.

لم يعلق على كلامها، فواصلت:

-                     الصبح الساعة العاشرة يجب أن نكون في دائرة المساعدات حتى يعطوني ورقة تحويل للطبيبة النسائية.

نظر إليها للحظات وقال:

-                     ولماذا يجب حضوري معك. ؟

-                     أنت تعرف أنا لا أتحدث الألمانية بشكل جيد.

-                     نتحدث عن هذا صباحا.

نظرت إليه بغضب مكتوم، أما هو فتجاهل نظراتها منشغلا عنها فلم يكن أمامها سوى أن تتجه إلى غرفة النوم لتلقي بنفسها على السرير والدموع تترقرق في مقلتيها.

لا تدري حواء المؤمن كم مضى من الوقت وهي مستلقية على السرير، لكنها أفاقت لتجد أنها وحيدة في غرفتها. نظرت إلى الساعة المنضدية الصغيرة التي كانت تشير إلى السابعة صباحا. إذن الوقت ما زال مبكرا. أنصتت جيدا فسمعت صوت شخير زوجها يأتي من غرفة الاستقبال. لا تدري لم أحست بالراحة، فدخلت الفراش وسحبت الغطاء على نفسها لتواصل النوم.

**********

فكّر آدم البغـدادي بعد قراءة الفصل الذي أعطاه عنوان (الكابوس) في أن يستطرد أكثر في الحديث عن حواء المؤمن والدكتور آدم التائه، لكنه فكر أيضا بأنه من الأفضل ترك الأمور هكذا من أجل أن يمنح القارئ بعض الوقت ليشكل تصوراته عنهما دون تدخله، بعد ذلك يتدخل شيئا فشيئا في رسم صورتهما.

وضع الأوراق الخاصة بهذا الفصل جانبا، ثم أخذ يقرأ الفصل الذي يليه والذي أراد أن يرسم صورة أكثر قربا لحواء المؤمن.

الفصــل الثــاني
يـــوم عــادي. عــادي جــدا
يقع القسم الخاص باللاجئين في الطابق الثاني من بناية بلدية مدينة (ركلنك هاوزن) الألمانية التي تقع ضمن منطقة (الروور) الشهيرة بمناجم الفحم والتي تتبع مقاطعة (نورد راين فستفالن). حين وصلت حواء المؤمن وجدت أمامها صفا من اللاجئين. كان هناك كورديان من العراق وأفريقي وفتاتان إيرانيتان ولبنانيان وفلسطيني وأفغاني جاء ومعه أربعة من أطفاله وابنته الفتية الجميلة.

كان الحديث يدور بلغات مختلفة، ولكن حينما يود أحدهم أن يحدث شخصا آخر لا يعرف لغته فأنه يتحدث معه بالألمانية التي لا يجيدها أي منهم لكن يمكنهم التفاهم بها. وجدت حواء المؤمن أحد أصدقاء زوجها ممن يزورهم أحيانا فأحست بأن ثقلا ً انزاح عن صدرها، إذ قررت أن تطلب منه أن يكون مترجما لها لأنها لا تستطيع التفاهم بالألمانية، وهذا ما فعلته.

عادة ما يحصل اللاجئون على ورقة من الدوائر المختصة بالتعامل معهم حينما يريدون الذهاب إلى الطبيب. وحينما أخذت حواء المؤمن الورقة من دائرة الأجانب واجهتها المشكلة نفسها، إذ كيف لها أن تشرح للطبيبة وضعها. فكرت مع نفسها أنها ستشرح لها بالإشارات.

**********

الطبيبة التي تراجعها حواء المؤمن إيرانية الجنسية، ولديها عيادة مشتركة مع طبيب يوغسلافي الجنسية مختص بأمراض النساء أيضا. حينما دخلت العيادة وسلمت ورقة التحويل للسكرتيرة التي تدير عمل الطبيبين، قالت لها السكرتيرة إن الطبيبة الإيرانية مجازة حاليا، وستتأخر لأسبوعين ويمكن للطبيب اليوغسلافي أن يكشف على حالتها الصحية. ارتعبت من الفكرة، لكنها التفتت إلى الصالة فوجدت عددا من النساء التركيات الحوامل والألمانيات وبعض الفتيات الأجنبيات التي لم تحدد جنسيتهن، فجلست بارتباك.

حينما جاء دورها ودخلت غرفة الطبيب، ارتبكت جدا. كان الطبيب وحده في الغرفة لأن مساعدته الشابة قد خرجت مع المرأة التي سبقتها.

انتبه الطبيب لارتباكها فرحب مبتسما وسألها إن كانت تتكلم الألمانية فاحتارت كيف تجيب ونطقت بالمفردة التي معناها )قليلا)، لكنها نطقتها بارتباك ففهم بأنها لا تتكلم الألمانية. أشار إليها أن تذهب خلف الحاجز الموجود في الغرفة لتخفف من ثيابها. أحست بالخجل، لكنه أراد أن يشعرها بأن الأمر طبيعي جدا فأنشغل بإعداد ورقة خاصة بها. لم ينتبه إلى أنها لم تتحرك من مكانها، وحينما رفع رأسه وشاهدها ابتسم وأشار إلى خلف الحاجز بأن تخفف ثيابها هناك، ثم تستلقي على السرير الطبي الموجود في جانب الغرفة.

كان الطبيب منشغلا بارتداء الكفوف الشفافة الواقية، حينما التفت إليها وجد أنها ركضت خجلة وصعدت السرير ثم تمددت عليه وسحبت الغطاء الأبيض الخفيف لتغطي جسدها لحد الصدر. سألها الطبيب بلغة الاشارة عن الذي تشعر به، فأشارت مكورة يديها حول بطنها بحركة فهم منها أنها تتحدث عن الحمل، ابتسم الطبيب.

في تلك اللحظة دخلت الممرضة مبتسمة. تحدّث الطبيب معها بالألمانية. أشارت الممرضة إليها بأن تنهض وتأتي معها خلف الحاجز، فقامت ظنا منها بأن الطبيب أمر بذلك، وخلف الحاجز طلبت الممرضة منها أن تنزع سروالها الداخلي فلا يمكن للطبيب أن يفحصها وهي في هذه الحال. أصابها الرعب من الفكرة، لكنها في الوقت نفسه كانت كالمسحورة، وبحركة لا إرادية قامت بما طلبت منها الممرضة التي أخذتها لتساعدها على الجلوس على كرسي الفحص النسائي، حيث مدت رجليها على حافتيه المتباعدتين وأدارت الممرضة الكرسي فانحنى جسدها وتكشف وسطها الأسفل للطبيب. أغمضت عينيها، وتركت جسدها للطبيب مستعينة بوجود الممرضة إلى جانبها.

أحست بلمسات أصبع الطبيب واختراقه إياها، ففزت بحركة لا إرادية، ولم يشأ الطبيب أن يفزعها، فأنهى الوضع، ونزع كفوفه الشفافة ليلقيها في علبة من الصفيح مخصصة لها. قامت هي فأشارت إليها الممرضة بعد أن أعادت وضع الكرسي بأن ترتدي ملابسها. تحدّث الطبيب مع الممرضة ثم معها بالألمانية، لم تفهم هي شيئاً.

**********

حينما خرجت حواء المؤمن إلى الشارع أحست بأنها خفيفة وأن مزاجها أفضل، ثم أخذت تفكر وتسأل نفسها: لماذا شعرت بما يشبه النشوة حينما أولج الطبيب أصبعه في رحمها، بالرغم من أنه فعل ذلك بشكل عادي جدا وبلا مبالاة تقريبا، وبحضور الممرضة، علما أن الطبيبة الإيرانية فعلت ذلك أيضا لكنها لم تشعر بأي شيء، على العكس أحيانا كانت تشعر بالألم.

مرت بالبحيرة التي تفصل الشارع الذي تقع فيه عيادة الطبيب عن السوق الكبيرة للمدينة. رأت عشرات البطّات تسبح وعددا من الأطفال وبعض العجائز والشيوخ يلقون لها بالخبز. دخلت السوق. ذهبت مباشرة إلى الصيدلية وهي تحمل الوصفة التي كتبها لها الطبيب.

استلمت حواء المؤمن الدواء ثم أخذت تتجول بين المخازن الكبيرة. رأت بعض الأجانب فعرفت أثنين منهم. حدثّها شاب ألماني، لم تفهم منه شيئاً، فأسرعت وجلة دون أن تجيبه، بينما ظل هو مستغرباً من رد فعلها. لعنت نفسها. قالت لنفسها يجب أن تتعلم الألمانية ولو قليلاً، فهي بالتالي خريجة المرحلة الإعدادية، وقابليتها للفهم لا بأس بها كما أنها تعرف بعض الإنكليزية.

دخلت إلى أحد المخازن الكبيرة المختصة بالمواد الغذائية. اشترت بعض الفواكه والخضار ووضعتها بأكياس النايلون. وحينما عادت إلى البيت وجدت بأن زوجها قد خرج.

**********

آدم البغــدادي: ممكن تعديل هذا الفصل، بأن يتم التوسع في وصف مشاعر حواء المؤمن الجنسية، وأن يترك الزوج الدكتور آدم التائـه نائما في البيت، بحيث يمكن أن تتطور الأحداث بما يمكن أن يكشف أكثر عن عالم حواء المؤمن النفسي ورغباتها الدفينة.

الـفـصـــل الــثــالــــث
مـحـنــــة حــــواء الـمـــؤمــن
"ما الذي جاء بيّ إلى هذه البلاد النائية، وإلى هذه المدينة بالذات. لم أكن أحلم بالسفر إلى هذه البلاد. أبعد رغبة لي في السفر كانت أن أزور بين محافظات بلادي.

لقد أحببتُ آدم الصالح حينما كنتُ في الخامسة عشرة من عمري. استمرت علاقتي به لسنة تقريباً. أتذكر كيف كنت أذهب إلى بيتهم حيث كان يعيش مع أمه، وكيف كان يتحجج لدفع أمه إلى الخروج حينها. أتذكر ارتباكي حينما قبلني من شفتيّ أول مرة، إذ لم يقبلني أحد من شفتيّ قبله. كنت أشاهد ذلك في الأفلام المصرية فقط! أتذكر كيف أحسستُ بالغثيان أول الأمر، وكيف استطابت نفسي لمثل هذه القبل فيما بعد. وكيف كشفت عن جسدي لأول مرة أمامه، وكيف.

أتذكر حواء البصري زوجة أخي، التي أجبرها أهلها على الزواج من أخي، إذ كانت هذه المسكينة تحب رجلاً آخر، وحين اعترفتُ لها بحبي لآدم الصالح صارت تساعدني في ترتيب اللقاء بيننا. كنا نخرج بحجة زيارة أهلها، بينما كانت تنتظرني لحين انتهاء لقائي مع حبيبي.

أتذكر الكارثة حينما شاهدني ابن عمي مع آدم الصالح مصادفة عند بابهم، فأخبر أهلي. ! حينها تعرضت للضرب المبرح من أخي الكبير، ووجدت العائلة الحل الأمثل، إذ زوجوني لأبن عمي!

أتذكر ليلة الزفاف بتقزز ورعب، فقد اغتصبني زوجي، ابن عمي، حينما لم أستجب له طواعية. سببَّ لي جرحاً ونزيفاً، بقيت مريضة على أثره لفترة!

لا أدري كيف مرت شهور الزواج تلك، إذ وجدت نفسي مطلّقة بعد سنة ونصف لأني لم أنجب لزوجي. أهله كانوا يريدون أن يروا ذريته. خيروني بين أمرين: أما أن أقبل بأن يتزوج امرأة أخرى أو أقبل بالطلاق، فاخترتُ الطلاق بالرغم من أن أخي عارض ذلك، وحاول إقناعي بقبول أن تكون لي ضرّة، فالإسلام يسمح بذلك، إلا أن حواء البصري زوجته سعت بك السبل لإقناعه بقبول رأيي بالطلاق.

ثمة فكرة طالما شغلتني: كيف يتغير الإنسان وينقلب إلى ضده؟ حينما أسترجع الماضي، أجد نفسي في حيرة أمام زوجة أخي حواء البصري التي ساعدتني في مسألة الطلاق، ودافعت عني في مختلف الأحوال والظروف، والتي طالما حدثتني عن الحب والقدر وعن ظلم الأهل والناس والمجتمع. هذه نفسها تحولت إلى ضدي، واضطهدتني حينما رجعت إلى بيت أخي بعد طلاقي! لا أتذكر أسوأ من تلك الأيام خلال تلك الفترة التي امتدت لسنة ونصف.

بعد طلاقي، وخلال تلك الفترة التي كنت فيها في بيت أخي، سعيت للاتصال بحبيبي آدم الصالح. وحينما قابلته لم نتحدث كثيراً. كان بارداً جداً ولم يشأ أن يتواصل معي، بل كان يتهرب من أي ارتباط معي بالرغم من أني كنت مستعدة أن أكون عشيقته، لكنه لم يبد أية رغبة في ذلك.

أتذكر تلك الفترة التي كنت فيها في قاع بئر اليأس. أتذكر أنني كنت مستعدة للموت. لمغادرة الدنيا. أو ابأي شكل للخلاص من الوضع الذي أنا فيه. وهذا ما دفعني إلى القبول بالدكتور آدم التائـه، الأستاذ الجامعي، الذي يكبرني بحوالي عشرين عاما، الذي كان سابقاً جارهم لكنهم انتقلوا فيما بعد إلى منطقة أخرى، والذي كان وحيداً لوالديه، الأم المريضة والأب العجوز. المحتاجين لمن يخدمهما.

لقد قبلتُ بهذا الزواج بعد سنتين من الطلاق هربا من بيت أخي، ومن مصير المرأة المطلقة التي يحاسبها المجتمع على أنفاسها. لذا أحسستُ بالسلام حينما انتقلتُ لبيت الزوجية الجديد الذي كان يُعد نعمة من السماء هبطت عليّ. !!.

بعد فترة من زواجي الجديد سمعتُ بمشاكل حبيبي السابق آدم الصالح مع أخي بسبب حواء البصري زوجة أخي، لأنه كان قد أقام علاقة معها بعد زواجي من ابن عمي، وكان هذا هو السبب الذي دفع أخي إلى طلاق زوجته.

أتذكرُ كيف أني بمرور الوقت صرت سيدة البيت الجديد في عالمي الجديد، فأم زوجي مريضة جداً، ولم يكن لها رأي في شؤون المنزل. كل شيء كان بيد الأب المريض أيضا، لكنه لم يهتم لمرضه كثيراً، ولم يلتزم بنظام تعاطي الأدوية. أما زوجي الدكتور آدم التائه أو الدكتور، كما كانا والداه يناديانه، فقد كان وكأنه لم يتزوجني، إذ أنه يقضي معظم وقته خارج البيت أو في غرفة المكتبة التي كان يسهر فيها إلى وقت متأخر جداً منشغلا بالكتابة، ولم يكن يتعامل معي كزوج إلا نادراً حينما يأتي ثملاً. وهذا ما كان يحدث عادة في غرفة المكتبة، وأحياناً على طاولة الكتابة دافعا بالكتب إلى الأرض، وكان أثناء ذلك يسألني بغضب بكلمات فاضحة إن كان زوجي السابق ينيكني أحسن منه، أم أنه الأفضل. ؟ وكان يجبرني على الإجابة لأصرخ وأنا ألهث من المتعة: أنت أحسن. أنت أحسن.

**********

لم نكن، أنا وزوجي الدكتور آدم التائه، نتبادل الحديث إلا نادراً. إلى أن انهارت صحة الأم، وتم نقلها إلى المستشفى لترقد فيها استعداداً لإجراء عملية جراحية لاستئصال المرارة التي وجد الأطباء فيها حصى، إذ صرنا نذهب معاً لزيارتها والبقاء عندها لبعض الوقت كل يوم تقريباً. وبعد إجراء العملية بأقل من شهر توفيت الأم نتيجة لضعف عمل القلب، فتم دفنها في النجف، وصرتُ وحيدة تقريبا مع الأب العجوز المشاكس.

بعد أشهر من وفاة الأم، وفي ظهيرة يوم صيفي ساخن، حدث شيء ما زلزل حياتي. وشرخها بقوة وعنف من الأعماق. حينها كان زوجي الدكتور آدم التائـه غائباً فيه عن البيت كعادته، وكنتُ قد أعددتُ للعم، والد زوجي، وجبة الغذاء، ثم قدّمت له الفواكه، والبطيخ والرطب، وذهبتُ لآخذ القيلولة في غرفتي. وبعد فترة قليلة على ذلك رأيت العم يدخل غرفتي.

هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها العم إلى غرفة نومي! ودون أيما كلام جلس على حافة سريري، بالقرب مني. كنتُ مستلقية وفي وضع النهوض، فسألني إن كنت تعبة، فقلت له بشكل لا إرادي: نعم.

فجأة جلس على الأرض أمامي. خفت منه. فقد كان يملك سطوة على الجميع. فمنذ دخولي إلى هذا البيت لتأكدت من أن الكل يهابونه في البيت. لذا تسرب الخوف منه إلى نفسي. وفي تلك الظهيرة. وفي تلك الغرفة. أخذ قدمي ليمسح عليهما برفق. شعرتُ بالصدمة من تصرفه. لم أعرف ماذا أفعل. أصبت بما يشبه الشلل. لكني قلتُ بصوت خافت: لا داعي لذلك يا عمي، نظر إليّ نظرة صارمة فيها أمر بعدم الاعتراض. وشبق واضح. وبدون أية كلمة أخذ يصعد كفّه إلى فخذيّ، ويمد يده تحت ثوبي! أردتُ أن أبعد يديه عني لكنه، برغم كبره في السن إلا أنه كان قوياً، فلم أستطع النهوض ولا أن أبعد يده عني، ولم أعرف ماذا يمكن أن يحدث! بل ولم أفكر إلا في شيء واحد هو: ماذا لو أن زوجي يدخل الآن ويرى هذا المشهد المحرم؟

أخذت يداه تصعدان إلى الأعلى، ثم مدهما إلى ما بين فخذي وبدأ يداعبني. حينها لم أعرف ماذا أفعل. وجدت نفسي مشلولة الإرادة والجسد. أردتُ أن أقاوم، لكن المقاومة كانت في أعماقي ولم تظهر قط! لم أُبد أية حركة جسدية بالممانعة، بل كنتُ أستجيب له من أجل أن ينتهي هذا المشهد الغريب والفاضح والمحرم! لكني لم أنتبه إليه إلا حينما بدأ يقبل نهدي. بل انتبهت إلى نفسي عارية تقريباً بين يديه. كنتُ شبه مخدرة. أحسسّتُ بالرضا حينما بدأ ينحدر مقبلا كل تفاصيل جسدي. لم أشعر بلذة ونشوة أكبر وأكثف من تلك التي وجدتها حينما كان يقبل ما بين فخذي بلسانه. كنتُ شبه مغمى عليّ. وفجأة؛ أحسسّتُ بيدي تمسكان بكتفه من شدة الرغبة المحرمة. لكنه وعلى غير توقع مني، قام ليذهب خارجاً وبسرعة.

هكذا بدأت بيننا علاقة محرمة غريبة. وامتلأ البيت بالأسرار واللذة المحرمة. حيث تكرر الأمر مرات. لكنه لا أدري لماذا لم يدخل فيّ. ولو حدث ذلك لما عارضت. بل مرت بيّ ايام ولحظات كنت أتمنى ذلك وبشدة. لكن كل ذلك انتهى بما يشبه الكارثة. إذ فاجأنا زوجي ذات ظهيرة، حين دخل الدار دون أن ينتبه إليه أحد. كان العم قد تسلل إلى غرفتي كعادته. لكن من حسن حظي أنه كان جالساً على السرير بجانبي، ولم نكن في وضع مريب. ارتبك زوجي حينما دخل الغرفة وجفل. أنا لم أرتبك فحسب وإنما تجمد الدم في عروقي واحتبست أنفاسي، لكن موقف العم كان غريباً، فربما ارتبك للحظة، لكنه استرجع وضعه وكأن الأمر لا يحتمل أي شك أو تفسير مريب.

قال العم له موضحاً إنه كان يحدثني عن مستقبلنا، ولماذا لا ننجب أطفالا لنزين بهم حياتنا الجافة، وأنه يسألني أن كانت هناك مشاكل بيننا وأن علينا مراجعة الطبيب. حينها استقبل زوجي الأمر بغرابة ولم يعلق على كلام أبيه، لكني شعرتُ في أعماقي بأن دودة الشك بدأت تنخر في قلبه. وقد انتبهت لذلك حينما بقي زوجي في البيت لأيام عدة. حتى أنه لم يذهب لجامعته. وحينما عاود الخروج، ولو بشكل متقطع. كان يعود مرتبكاً وخائفاً، وأحياناً كان يفز من نومه نتيجة كوابيس تقبض على روحه. كان يخاف شيئاً ما.

بعد تلك الظهيرة. وبعد انقلاب حالة زوجي النفسية. بدأ وبشكل مفاجئ يحدثني عن ضرورة السفر إلى خارج البلاد. حيث أخبرني بأن وضع البلاد مرتبك. وبأن لديه مشاكل في الجامعة التي يعمل فيها، وأنه يكره البلاد والنظام الذي فيها. أخذ زوجي يرجع مبكراً جداً إلى البيت، وبعض الأحيان لا يخرج نهائيا، بل يبقى في البيت لأيام ولا يخرج إلا لضرورات العمل أو لمراجعة دائرة الجوازات للحصول على جوازات السفر لي وله. الغريب أنني لاحظت أنه يتحدث عن سفرنا نحن، أنا وهو فقط، بدون ذكر العم! لكني لم أسأله كي لا أوقظ شكوكه!

**********

ما أثار استغرابي أن زوجي بدأ ينتبه لوجودي، وكأنما يكتشف جمالي لأول مرة، إذ أخذ يقترب مني، بل وأحيانا لا يدعني أنام، مستخدماً معي كل الأساليب والأوضاع. حينها لا أعرف لِمَ أخذتُ أشفق عليه، بل وأميل إليه. لقد كان خبيرا بلغة الجسد، كما كنت أحس بالذنب أمامه!

بدأت صحة العم تنهار. وكان يرفض تعاطي الدواء ويضرب عن الأكل. كان يتحجج ويبحث عن أي شيء للمشاجرة والاصطدام مع زوجي. كان يسخر منه مقللاً من شأنه، وقيمته ودرجته العلمية! الغريب أن زوجي كان لا يرد عليه، وإنما يدخل غرفة المكتبة، ويناديني إليه، يطلب مني أن أعدّ الشاي وأحمل إليه الفواكه والمكسرات. ويقفل الباب ولا يسمح لي بالخروج؛ بينما ينهمك هو بالكتابة كالمجنون. وكثيراً ما كانت خلوتنا تلك تنتهي بممارسة الجنس بشكل محموم!

صار العم أشبه بالمشلول إذ لم يعد يستطيع الحركة بسهولة، وصار شخصاً لا يطاق. إذ أخذ يشتمني بألفاظ جارحة أمام زوجي، الذي لم يكن يعلق شيئاً على أي كلام يصدر من أبيه. وإنما كان الغضب الدفين يملأ عينيه! كنت أستاء من أنه لا يرد على أبيه. لكن حينما أرى عينيه تتقدان غضباً أحس حينها أنه يحبني. فأشعر بنشوة عظيمة. وأحسّ أنني أحبه. بل أعشقه!.

**********

أتذكر ذلك الصباح حينما طـُرق الباب. ولما فتحته ُوجدت رجلين بملابس طبية وسيارة إسعاف خلفهما، ورأيتُ زوجي معهما. دخل الرجلان مع زوجي إلى البيت وذهبا إلى غرفة العم، وسمعت جدلا، ثم تعالت أصوات بين الأب والابن، ومحاولات الرجلين للتهدئة والشرح، ففهمت أنه يريد إيداعه في بيت للمسنين والعجزة. وأخيرا انجلى الموقف عن خروج العم مسنوداً مع الرجلين وهو يشتم ويعربد ويصرخ مذكرا بنكران الجميل وعقوق الوالدين ولعنات الأب على الابن إلى يوم القيامة، شاتماً إياي، وكأني أنا التي أشرت عليه للقيام بذلك، مذكراً الابن بأنني سأركب له القرون، وأنني عاهرة رخيصة سأجلله بالعار!

بعد فترة وجيزة باع زوجي الدار بمبلغ لا بأس فيه، لكنه في كل الأحوال أقل من قيمته الفعلية، كما باع مكتبته الكبيرة، ولم يأخذ معه إلا بعض الدفاتر التي كان يكتب فيها، وبعض الكتب التي واحد منها يحمل اسمه "آدم تائه". والكتاب عنوانه "كوابيس القنفذ"، ورحلنا إلى الأردن التي وصلنا إليها مساءً بعد رحلة طويلة بواسطة السيارة.

**********

في عمان نزلنا في فندق رخيص، وكان زوجي آدم التائـه يخرج صباحا لمراجعة بعض السفارات الأجنبية، ومساءً للالتقاء ببعض العراقيين المقيمين وبعض الفلسطينيين، بينما كنت أبقى في غرفتي أشاهد التلفزيون منتظرة أن يأتي زوجي لأتواصل من خلاله مع العالم وأفهم منه ما ينتظرنا. وحين طالت فترة الحصول على التأشيرات، أجّر زوجي بيتاً، لكنه في الواقع ليس بيتاً، بل غرفة بالكاد تتسع لأثنين مع زاوية مغطاة بالصفيح فيها حنفية بمثابة مطبخ، إلى جانب غرفة صغيرة هي حمام ومرفق صحي في آن واحد.

في أول يوم لسكننا هناك جاءتني امرأة منقبة بدأت بالحديث معي عن ضرورة الحجاب والابتعاد عن طريق الشيطان. ! وقدمت لي عباءة وحجاب وفوطة وكتاب المصحف الكريم! وحين جاء زوجي وأخبرته بمسألة المرأة المحجبة، سخر منها، وقال إن عليَّ أن أنتبه من هؤلاء الناس، وإن الأيمان في القلب. وإن الإنسان ما دام لا يؤذي الآخرين فهو غير مذنب أمام أحد، وإن المسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده، وإن الحجاب مسألة شخصية، فإذا أردتُ أن أتحجب فهذا شأن يخصني وهو لا يمانع، وإذا لم أشأ فهو لا يجبرني عليه. حينها أحسست أني تزوجت من إنسان رائع. وإني أحب زوجي بشكل حقيقي. ؛ على الرغم من أنني لا أبوح له بمشاعري!

**********

أتذكر كيف أنه ذات صباح دعاني إلى أن أذهب معه لمراجعة إحدى السفارات الأوربية. وبعد أيام جاء فرحاً على غير عادته، طالباً مني الخروج معه لشراء بعض الملابس لأننا سنهاجر إلى أوروبا.

وحينما جاء يوم السفر عرفت أننا لم نكن وحدنا! لقد اتفق زوجي مع عائلة عراقية أخرى التقينا معها في المطار. طبعاً عن طريق مهربين مختصين يتعاملون مع موظفي السفارات ويستحصلوا تأشيرات السفر. وأن هذا الأمر كلف الكثير من المال! وهكذا سافرنا إلى أوروبا حيث دخلنا برلين من محطة تسمى محطة (تسو غارتن)، وهناك كان من ينتظرنا.

**********

ما الذي جاء بي إلى هذه المتاهة؟ فمن متاهة حياتي في بلدي إلى متاهة حياتي هنا في أوروبا! ومما يثير سخريتي من نفسي أحيانا هو أنني الآن لاجئة سياسية، بينما لا أفهم في السياسة شيئاً، ولم أشارك فيها أبداً. بل وأتعجب من الأوربيين الذين يصدقون كل أكاذيب الأجانب عن كفاحهم والمخاطر التي تهددهم نتيجة صراعهم مع السلطة في بلادهم! الحياة هنا في ألمانيا منظمة بشكل كبير وهادئة جداً، لكنني غير سعيدة، لماذا. ؟ أنا نفسي لا أعرف السبب. أحسستُ أنني، وبمرور الأيام، صرت قاسية القلب باردة الأحاسيس. أشعر بالوحدة والوحشة. زوجي الذي انتبهت إلى أنه يكنّ لي شيئا من المودة يكشف عنها لحظة ممارسة الجنس معي، هو أيضا صار قاسياً. ومنعزلاً. وأحسه تائهاً كما هو لقبه. التائه.

أنا متأكدة بأنه لا يزال يشك بعلاقتي غير الطبيعية مع أبيه، لأن تصرفاته تشي بذلك أحياناً، بل صار يتحدث بصراحة عن إعجابه بالنساء الألمانيات أمامي. وكأنه يريد أن ينتقم مني. أنا أبتلع المهانة لأني أشعر بالذنب أمامه، فما لديه من شكوك أعرف أنها حقيقة! ولو عرف ما جرى بيننا لربما قتلني! لكن ثمة شعوراً جديداً بدأ يخترق عالمي، إنها مشاعر الأمومة التي بدأت تغرقني. أحس بالحاجة إلى أن أحمل، أن أنجب طفلا. أريد أن أصير أما.

**********

آدم البغـدادي: هذا الفصل فيه الكثير من الأحداث المهمة، ربما يفضل أن يتم الكشف عن علاقة العم بحواء المؤمن، زوجة ابنه، في فصل خاص وأن يتم التوسع في التفاصيل، وأن تسمّي الأشياء والأعضاء بأسمائها.

 لكنه ربما، حينها، لن أستطيع نشر الكتاب، أو حتى لو نُشر؛ فربما لن يتم توزيعه في الكثير من البلدان العربية، لأنه سيوصف بالإباحية والسوقية والابتذال، وربما سيثير عليه فئات اجتماعية محافظة كثيرة. إذن عليّ أن أكتفي بهذا القدر من التفاصيل وأترك الأمر لمخيلة القارئ.

هل هناك ضرورة لذكر التفاصيل الجنسية في العمل الروائي؟ ألا يمكن أن يفسر بمحاولة ابتزاز مشاعر القارئ وإثارته أو أنه تعبير عن كبت الكاتب الجنسي وتعويضه ذلك من خلال الكتابة، أو هو استمناء ذهني يقوم فيه الكاتب بوعي أو دون وعي!

ربما لهذه التفاصيل علاقة بالصدق الإبداعي، فأنا لم أقابل حواء المؤمن الحقيقية في الحياة إلا مرات قليلة وعابرة، واسمها في الرواية مجازي، وليس هو الاسم الحقيقي لزوجة صديقي الدكتور آدم التائه، وأنا إذ أسترجع صورتها في مخيلتي لأنني أمنحها مساحة للتحرك، مستعينا بتجربتي مع نساء أخريات وبتفاصيل حقيقية عرفتها من أخريات، بل وحتى آدم التائـه، وهذا ليس اسمه الحقيقي، إنما لديه اسم آخر، فأنا لا أستطيع أن أروي كل شيء عنه كما رواه هو لي، وإنما أنا آخذ الخطوط العريضة من حياته، وأرسم الشخصية التي في ذهني.

لكن هنا، ربما كان بالإمكان أن أغير من أسلوب وطريقة الدكتور آدم التائه للتخلص من أبيه، إذ ربما عليه أن يخنقه بالوسادة أثناء النوم أو أن يسممه عن طريق تغيير أدويته، لكن ذلك ربما سيكون مبالغ فيه، فعقوق الوالدين وبهذه الطريقة أكثر قبولا لدى القارئ، وأنا شخصيا أعرف قصصا أشد هولا من هذه وأكثر إثارة للألم من عقوق الأبناء تجاه الآباء.

الـفـصــــل الــرابــــــع
النســـاء خُـلقــــن هـكـــــذا
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً حينما عاد الدكتور آدم التائـه مع اثنين من أصدقائه إلى البيت. فوجئت بعودته مبكرا، لكن زوجته ما أن لمحت كيس النايلون المليء بعلب البيرة حتى فهمت بأنهم ينوون قضاء السهرة في البيت. عاد الدكتور آدم التائـه مرحاً، وكان بين لحظة وأخرى يلقي نكتة أو عبارة ماجنة عن النساء الألمانيات. ولم يكن هذا بجديد عليها، لكنها الآن تشعر بمهانة أكبر لأنه يتحدث أمام رجال آخرين، بل إن أحدهم ارتبك لوجودها عندما أطلق زوجها نكاته الماجنة. هي تعرف أنه يتعمد الإساءة إليها انتقاما لنفسه، وتهدئة لشكوكه وكرامته المهدورة، وكان هو يزاد مرحا كلما رأى الغضب في عينيها.

أعدّ زوجها صحناً من الخيار والطماطم، وفتح كيساً من اللوز، ووضع علب البيرة على الطاولة، ثم اتجه إلى غرفة النوم وعاد بقنينة فودكا. أما هي فحاولت إشغال نفسها في المطبخ، لكن الوقت كان مبكرا كي تذهب إلى النوم، لذلك جلست على الأريكة المقابلة بعيدة عنهم وأخذت تشاهد التلفزيون الذي كان يعرض فيلما ألمانيا عن الحرب. كان الفيلم يروي قصة امرأة يهودية هربت من الجنود الألمان، وحينما وصلت إحدى القرى اختفت في كوخ أحد الفلاحين الأغنياء الذي أعجبته حينما رآها لذا لم يخبر عنها واتخذها عشيقة له.

لم تكن حواء المؤمن تفهم الحوار لكنها كانت تفهم سياق الأحداث بصريا، وكانت قد تابعت الفيلم قبل وصول زوجها وأصدقائه بفترة.

كانت حواء المؤمن في ثوبها الشفاف، الذي تلبسه عادة في البيت، حينما دخل زوجها وأصدقاؤه، لذا انتبهت إلى أن أحد الأصدقاء كان يبصبص بين الحين والآخر إلى جسدها الذي كان ثوبها يحدد معالمه الفتية.

تضايقت من نظراته أول الأمر، لكنها ارتاحت لها في ما بعد، بل صارت تشعر بالغضب حينما ينهمك الصديق بالحديث وينشغل عن النظر إليها. كانت مشاعرها متناقضة، فهي تريد استفزاز زوجها وإثارة غيرته، وأيضا كانت تريد إرضاء غرورها بأنها تثير إعجاب الرجال وأنها مشتهاة.

الفيلم الذي كانت القناة الألمانية تعرضه وصل إلى مشهد حميم، حيث كانت المرأة تركض في الغابة القريبة، ثم عادت إلى الكوخ، فحمل الفلاح طستا وإبريقا من الماء ثم وضع قدميها في الطست وبدأ يغسلها. انتبهت حواء المؤمن إلى أنهم توقفوا عن الحديث لمشاهدة الفيلم. كان الفلاح قد مد يده لفخذيها وهو يلهث، كانت المرأة تتوسل إليه وتتحدث معه، لكنه لم يسمعها بل ألقاها على الأرض ورفع ثوبها ودخل بين ساقيها.

كان الصمت قد لجم الجالسين فلم ينطق أي منهم بكلمة. أحسّتْ بارتباكهم. بل هي ارتبكت أيضاً. نظرت إلى الرجل الذي كان يختلس النظر إليها. انتبه زوجها لذلك، وارتسمت علامات الغضب على وجهه. لم تعرف من أين جاءتها فكرة الانتقام منه. أرادت أن ترد عليه بالأسلوب المهين نفسه. لكنها في الوقت نفسه شعرت وكأنها عارية بينهم. فالمشهد في الفيلم كان حميمياً. ولا شعورياً تذكرت تلك الظهيرة الصيفية الملتهبة مع العم. فبدأ الدم يصعد إلى صدغيها، ولم يكن أمامها سوى أن تقوم لتخرج من الغرفة، كي لا ينتبه أحد لما هي فيه، وأيضا للحرج الذي يسببه متابعة الفيلم أمام هؤلاء الرجال.

حين سمعت أنهم واصلوا الحديث. وعرفت أن الأحداث والمشاهد في الفيلم قد تغيرت. عادت إلى الصالة. لكن رغبتها في الانتقام لم تهدأ. حاولت أن تشاركهم حديثهم، لكنها استغربت أنهم كانوا يتحدثون عن مجموعة من الشباب العرب الذين يقومون بالسرقة ويبيعون الحاجات المسروقة بربع ثمنها، وأن أثنان من أصدقاء زوجها يودون شراء بعض هذه المسروقات. وبيعها. لآخرين. فلم تتمالك نفسها، إذ قالت:

-                     لم يبق سوى أن تتحولوا إلى لصوص.

نظر الرجال إلى آدم التائـه معاتبين على طريقة كلام زوجته، فقال لها غاضبا:

-                     أغلقي فمك.

فالتفت إليها الرجل الذي كان ينظر إليها بإعجاب:

-                     ما العمل يا حواء، القانون هنا لا يسمح للاجئ بالعمل إلا بعد خمس سنوات، وراتب المساعدة الاجتماعية لا يكفي.

فقاطعته باستياء:

-                     المساعدة التي يعطونها يمكن أن تكفي إذا لم يذهب الشخص إلى المراقص ولا يشرب الكحول، ثم أنكم جميعكم حينما جئتم إلى هنا أدعيتم بأنكم سياسيون مطاردون في بلدانكم.

لم تكمل حواء المؤمن كلامها إذ قام زوجها وأخذها من ذراعها بقوة وخرج بها من الغرفة متجها إلى غرفة النوم، وهناك دفعها وأغلق الباب عليها. وحينما عاد قال له أحدهم:

-                     لا تهتم يا دكتور آدم. النساء خلقن هكذا.

**********

في غرفتها شعرت حواء المؤمن بالندم لما قامت به. فهي تحترم زوجها وتحبه. وعليها أن تقدّر أنه يعيش وضعاً نفسياً صعباً. فقد كان أستاذاً جامعياً في بغداد. وله مكانته وسمعته، بينما هو الآن لاجئ لا يحق له العمل. وأين يعمل؟ هنا حاله حال اللصوص والحرامية وموزعي المخدرات والأميين والكذابين. هو لاجئ مثلهم. لا أحد يعرف أنه أستاذ جامعي. وكاتب. ولديه كتب. وأنه من ابن عائلة محترمة! بينما هي انجرّت تحت تأثير غرورها الأنثوي. والشبق الغامض الذي في أعماقها كي تجرحه أمام هؤلاء الذين هم ليسوا اصدقاء له، لكنه أضطر لمصادقتهم بحكم الظروف. !

**********

آدم البغـدادي: أعتقد أنني بهذا قد اقتربت أكثر من عالم حواء المؤمن.

الـفــصـــــل الـــخـــامــــــس
أحـــــــــلام وكـوابـيـــــــس
في وسط المرج الأخضر الذي تحيطه الأشجار لم يكن ثمة أحد من البشر. كانت الشمس محتجبة بالضباب. الضباب الكثيف يغطي الأفق المفتوح من المرج. في وسط المرج كان تابوت من الخشب الصندل. من خلف الأشجار بدأت حركة ما. شيئاً فشيئاً برزت أشباح ملفوفة بالقماش الأبيض وكأنها مومياء. أخذت الأشباح تقترب من التابوت بحركة بطيئة إلى أن التفّت حوله، ثم انحنت وفتحت التابوت. لم يكن داخل التابوت سوى دمية من القماش. أغلقت الأشباح غطاء التابوت ثم أخذت تبتعد راجعة إلى مكانها خلف الأشجار إلى أن اختفت.

التابوت ما زال وسط المرج. شيئاً فشيئاً بدأ غطاؤه يُفتح. من التابوت خرجت حواء المؤمن واقفة. كانت في ثوب أبيض شفاف. خرجت من التابوت ومشت مثل السائر في النوم نحو جهة الضباب إلى أن اختفت فيه. سُمع صوت طائر نقار الخشب وهو يضرب على جذع شجرة بمنقاره.

من الضباب جاءت أصوات حركة بدأت تقترب. ظهر حصان أبيض. أخذ الحصان يقترب من التابوت إلى أن وقف قربه. مدّ رأسه فيه ثم رفع رأسه وفي فمه باقة ورد. ابتعد الحصان مختفيا في الضباب من حيث أتى. من أعماق الضباب ظهرت حواء المؤمن ثانية، وبنفس الخطوات والأيدي الممددة للأمام، جاءت التابوت ودخلت ثم تمددت فيه وأغلقت الغطاء على نفسها بقوة. طارت العصافير والطيور من بين الأشجار أسراباً على صوت انطباق غطاء التابوت.

فزّت حواء المؤمن من النوم مرعوبة. كان العرق قد بللها. أزاحت الغطاء وجلست على حافة السرير بصمت لفترة ليست بالقصيرة. نهضت بتثاقل وخرجت من غرفة النوم إلى غرفة الاستقبال. أشعلت النور في المصباح الكهربائي، وجلست على الصوفا بإعياء. كان زوجها قد خرج مع الرجال الذين جاء معهم. تأملت الكتب القليلة التي على الرفوف. اقتربت من طاولة الكتابة. كانت أوراق زوجها مبعثرة هناك. كانت ملزّمة من الأوراق قد كتب عليها (المــرأة المجهــولة) وتحت هذا العنوان كتب بخط عريض (متـاهـة آدم). وعنوان صغير آخر. (رواية).

هي تعرف أن زوجها أستاذ جامعي. كما أنه يؤلف الكتب، لكنها لم تقرأ له يوما أياً مما كتب. تدري أنه حمل معه من بغداد كتاباً يحمل صورته واسمه. رواية عنوانها" كوابيس القنـفذ". لكنها الآن ترى أنه كان منذ أن كانا في بغداد يكتب. وحمل أوراقه معه إلى الأردن. وإلى ألمانيا. وها هي رزمة الأوراق التي عليها عنوان" المرأة المجهولة" أو" متـاهـة آدم"!

راودها فضول بأن تقرأ الذي كتبه زوجها. ربما كتب أسراره في هذه الملزمة. قررت مع نفسها أن تقرأ هذه الملزمة. . دون علمه. أرادت أن تتعرف على هذه (المرأة المجهولة)، فهل يا تُرى هناك امرأة أخرى في حياته!

ما أن همت بأخذ الملزمة والجلوس لقراءتها حتى سمعت حركة المفتاح في الباب. فأسرعت بالجلوس على الصوفا. بعد لحظات دخل زوجها، ثملاً، متعباً، ساهي النظرات. ارتسمت على وجهه علامات الاستغراب حينما وجدها لا تزال صاحية ولم تنم لحد الآن، إذ كانت الساعة تقارب الثالثة فجراً.

راود الدكتور آدم التائـه للحظة شعور بأنه كان قاسياً معها أمام الأصدقاء هذا المساء. تأملها. كانت حواء المؤمن امرأة مثيرة. هي طويلة القامة نوعا ما متناسقة الجسد، ممتلئة الشفاه، طويلة الأنف قليلا، بنية العينين، يكشف جسدها عن انحناءات مثيرة لاسيما الجزء الأسفل من جسدها. شخصيتها وملامحها تشي بأنها امرأة لديها عالمها الخاص، فهي تتجه إلى الداخل ولا تهرب إلى الخارج!

جلس إلى جانبها بطريقة وكأنه يرمي بنفسه عليها، فأزاحت نفسها قليلاً كي يجلس براحته إلى جانبها. أحتك فخذه بفخذها فأحس بطراوتها. تصاعدت رغبته في مضاجعتها، لكنه لا يعرف كيف يبدأ، فهو يعرف أن تعامله معها هذه الليلة أمام الرجال لا يمكن إصلاحه بسهول. لكنه يعرف أنها يمكن أن تنسى أي خلاف بينهما بعد أي مضاجعة له معها، أو على الأقل تنسى لفترة قصيرة!

أحسّت حواء المؤمن برغبته التي كشفتها نظراته المليئة بالشبق، لكنها أرادت أن تعاقبه على تصرفه معها أمام الآخرين. أرادت النهوض. لكنه أمسك بيدها ساحباً إياها إليه. تمانعت وصدته فأحتضنها بذراعيه، ووضع رأسه على بطنها وهي واقفة بين يديه تحاول التملص منه إلى أن استطاعت تحرير نفسها منه، وذهبت إلى غرفة النوم، وأغلقت الباب خلفها.

قام خلفها دافعا الباب بقوة. لم تكن قد استلقت على السرير. فوجئت وهو يحتضنها من الخلف. حاولت التخلص منه فلم تستطع. بدأت تحس بحرارته وشبقه الذي أثار فيها رغبة عارمة، لكنها لا تستطيع الاستسلام والقبول بسهولة، فظلت تمانع وتماطل في الاستجابة. كانت تستمتع بمحاولاته السيطرة على جسدها. وبالرغم من أن آدم التائـه كان ثملاً، إلّا أنه كان قوياً، لذا سيطر عليها بذراعيه ودفعها إلى السرير رافعا ثوبها من الخلف إلى الأعلى وساحبا سروالها بقوة كي يصل إلى قدميها. ومثل أي حصان هائج بطحها وأولجه في فرجها من الخلف، فأحست بعضوه يدق باب رحمها.

كانت تشعر بلذة عنيفة، بينما هو يطلق كلمات بذيئة منتشيا، وطالبا إياها أن تردد ما يقوله لها. ولم يكن أمامها سوى الاستجابة. كانت في بداية الأمر تستحي، لكنها أخذت تكرر تلك الكلمات دون أن يطلب منها ذلك، بل وتشعر بالراحة والشبق حينما تلفظها.

كان زوجها سريعا في الوصول إلى النشوة والقذف بينما كانت هي في ذرى الرغبة. همد عليها كالجثة. كانت هي تنتظر أي حركة منه. فجأة قام عنها منسحباً من الغرفة، بينما ظلت هي على رقدتها تائهة في منعطفات اللذة المقطوعة، فمدت يدها إلى أسفلها لتداعب نفسها وتصل بنفسها إلى الذروة.

**********

آدم البغـدادي: بعد قراءة هذا الفصل شعرت بالتوتر الجنسي. هل هذا الإحساس سيراود كل من يقرأ الفصل؟.

أتذكر أني قمت بهذه التجربة مع جارة لنا حينما كان زوجها غائبا، وكانت هذه الجارة تثيرني وتدعوني وحينما أود الاقتراب منها تبتعد. وقد صادف أن كان الجو ملائما لي ولها. لم يكن أي شخص في الدار. دخلت عليها وفعلت معها ما فعله آدم التائــه مع حواء المؤمن، بفارق وحيد هو أنها كانت امرأة جريئة، فقد كانت هي التي تطلب مني أن أتلفظ ببعض الكلمات الجنسية الفاحشة معها، بل وقامت ببعض الحركات التي لم يكن قد جربتها من قبل. لكني لم أود أن يكررها آدم التائه، لأن تلك الحركات لا تنسجم مع شخصية حواء المؤمن، لذا اكتفى بهذا القدر.

 أتذكر أيضا بأني شاهدت مثل هذا المشهد في فيلم أميركي ل(مايكل دوغلاس) حينما يغتصب أحدى صديقاته من الموظفات اللاتي معه. لستُ متأكداً من أين جاء هذا المشهد أثناء الكتابة. ؟ من تجربتي الشخصية أم من بقايا صور الفيلم العالقة في ترسبات اللاوعي.

حقا لا أعرف سر العملية الإبداعية وينابيعها الأصلية. ؟ كيف تتشكل الصورة الفنية. ؟ ومن أين للمخيلة تركيب هذه الأشياء. ؟ أتذكر المحلل النفساني والمفكر (غوستاف يونغ) ونظريته عن جبل الثلج في توضيح العلاقة بين الوعي الذي يشبهه بالقمة البارزة من جبل الثلج، وعن اللاوعي الذي يشكل ما تبقى من الجبل المغمور في أعماق المياه. فهل يستمد الكاتب من لا وعيه وبلا وعي أثناء تشكيله وإنجازه للعمل الفني. ؟

هل علي إبقاء هذا الفصل بهذه الصورة التي كتبتها أم أن علي تغييره أو حذفه بالكامل. ؟ أليس هذا الوضوح في رسم تفاصيل العلاقة فيه شيء من الإباحة وينتمي إلى الأدب المكشوف. ؟

أحقا أريد كتابة نص مكشوف أم أريد أن أكتب بصراحة وأكشف ما يجري بين المرأة والرجل بوضوح دونما تزويق. ؟ أنا أعتقد أن شخصية الإنسان الحقيقية تتكشف في السرير أو في العلاقة الجنسية.

الــفــصــــــل الـــــســــــــادس
هـــــــروب آدم
التـائــــه
استيقظت حواء المؤمن من نومها متعبة ومهدودة الأعصاب. أحست بجسدها ثقيلا على الحركة لكنها قامت ببطء متجهة إلى المطبخ لتعد الشاي. نظرت إلى الساعة الحائطية فوجدتها تشير إلى الحادية عشرة والنصف. حينما دخلت غرفة الاستقبال وجدت زوجها منهمكا بالكتابة، ومن ملامحه عرفت أنه لم ينم أو أنه استيقظ مبكراً جداً لكي يكتب، ولمحت أنه يواصل الكتابة في الملزمة التي تحمل عنوان (المـرأة المجهــولـة ) أو (متـاهـة آدم)، كما انتبهت إلى منفضة السجائر التي كانت مليئة بالأعقاب المحترقة والرماد.

لم ينتبه آدم التائه لها وهي واقفة قرب الباب. فجأة رفع رأسه إليها ونظر إليها بشرود وكأنه لم يرها ثم واصل الكتابة، لكنها وقبل أن تلتف لتخرج سمعته يقول:

-                     ممكن تعدّين لنا الشاي.

لم تلتفت إليه وإنما واصلت طريقها إلى المطبخ قائلة:

-                     لقد بدأت أعدّه.

في المطبخ انتظرت للحظات حتى بدأ الماء يغلي في الدورق. وضعت أوراق الشاي اليابسة في الدورق وسكبت عليه الماء المغلي. وضعت الدورق على النار ليغلي قليلاً. ثم بدأت بتخفيض النار إلى أقصى حد، وتوجهت إلى الحمّام.

في الحمّام نزعت ثوبها مباشرة ووقفت تحت دش الماء وفتحته على أشد قوة فيه وبقيت هناك للحظات تحت وابل الماء الذي أحست به يطهرها ويعيدها لنفسها.

**********

بينما كانت حواء المؤمن منشغلة بنفسها، واقفة تحت وابل الماء، كان آدم التائـه قد أنهى فصلاً جديداً من روايته التي أمضى أشهراً وهو يكتب في فصولها. فكّر مع نفسه لحظتها في أنها رواية مُتعِبة، ولا يدري كيف سينهيها. لم يكن قد خطط لها بهذه الطريقة. لقد ولدت في ذهنه بشكل بسيط وأحداث واضحة المعالم، لكن ما أن بدأ الكتابة حتى أخذت الأحداث مسارات لم يفكر فيها، والشخصيات تواجه مصائر لم يفكر بها قط! وبالرغم من أنه بدأ الرواية في بغداد إلا أنه واصل كتابتها في عمّان، واستمرت معه في ألمانيا دون أن يستطيع الوصول إلى الخاتمة التي لا يعرفها لحد الآن.

حينما بدأ الكتابة في هذه الرواية كانت علاقته بزوجته حواء المؤمن سطحية. صحيح أنها زوجته، لكنه تزوجها تلبية لرغبة أمه التي يحبها كثيراً، وأنه فعلاً كان يحتاج لامرأة تخدمها وتخدم أباه الذي لا يحبّه، والذي كان يجرح كرامة أمه التي كانت تعرف بأنه يقيم علاقات مع نساء أخريات.

يتذكّر حينما كان صغيراً في السابعة من عمره، كيف جاء أبوه ذات ليلة ثملاً ومعه امرأة غريبة، ودخل معها إلى البيت بصلافة. وكيف تشاجرت أمه معه أمام المرأة الأخرى، وكان هو واقفاً يبكي، خائفاً من هذا الشجار الذي انتهى بضرب أمه، حيث دفعهما الأب إلى غرفتهما، وأغلق الباب عليهما، بينما دخل هو مع المرأة الغريبة إلى غرفته. !!. لم ولن ينسى تلك الليلة التي ظلت تفاصيلها تعاوده كلما أراد أن يسامح أباه!

كان الدكتور آدم التائه هو الابن الوحيد المدلل للعائلة، فقد ولدته أمه على كبر. وهو يتذكّر أنه لم يعان من الحرمان المادي قط، فكل ما يشاء كان موجوداً حوله. وكل ما يتمنى يتحقق ويستجاب. فوضع العائلة من الناحية المادية جيد جداً، إذ أن والده كان تاجراً للحبوب والتبغ. وحينما بدأ الذهاب إلى المدرسة عيّن والده أحد العاملين لديه بأخذه إلى المدرسة وإرجاعه عند نهاية الدوام، وكم كان يكره ذلك، لأنه كان يحب أن يلعب مع بقية التلاميذ وأن يرجع معهم دون رقيب، فهم يرجعون جماعات وأثناء عودتهم إلى بيوتهم يثرثرون ويضحكون وأحيانا يمرون بمواقف مضحكة وغريبة، يتبادلون الحديث عنها في اليوم الثاني عندما يتجمعون أثناء الفرص بين الدروس، فكان يحس بالأسى لأنه لم يمر بأي موقف مسل وطريف.

يتذكر الآن أنه كلما كبر ازدادت شدة رقابة والده عليه، بل وكان يقسو عليه وكأنه ليس ابنه. كثيراً ما كان يشكو لأمه التي كانت تلوذ بالصمت عندما كان يسألها: لماذا يعاملني أبي بهذه القسوة وكأني لست ابنه؟ حينها كانت عيناها تغرورقان بالدموع، ولم يكن أمامها سوى أن تحضنه وتقبله مخففة عنه دون أن تقول كلمة واحدة. يتذكر ذلك جيداً، ولن ينساه. بل ظل لسنوات، ولا يزال، يسأل نفسه: لماذا كانت أمه تصمت حينما كان يسألها عن سبب معاملة أبيه له بهذه القسوة. ؟ بل وحينما يعرب لها صراحة بشكوكه وكأنه ليس ابنه. ؟!.

كان يحسّ بأن أباه لا يحبه من أعماق قلبه، بل يتذكر جيداً أنه حينما كان صغيراً. والده كان يوقفه أمامه ويتأمله وكأنه كان يبحث عن شيء في وجهه!

وكلما تقدم الفتى آدم التائــه بالعمر توسعت الهوة بينه وبين أبيه والتصق أكثر بأمه. وحينما دخل الجامعة شعر بأن أباه لم يكن راضياً على ذلك. ، فقد طلب منه عدم مواصلة الدراسة والعمل معه، إلا أن إصرار أمه على أن يكمل دراسته هو الذي أنقذه من مصيره الذي أراد أبوه أن يرسمه له!

حين انتهى من دراسته الجامعية كانت البلاد تمر بمشاكل سياسية وحرب أهلية بين الحكومة والكورد الذين كانوا يقاتلون في الجبال، وكان كل من ينهي دراسته عليه أن يخدم إلزاما في الجيش، وكان معظمهم يرسلون إلى جبهات القتال في الجبال لمواجهة البيشمركة الكورد.

كانت الجثث القادمة من هناك تبث الرعب في قلوب الأمهات! ولقد استمرت هذه الحرب حتى بعد أن أنهى دراسته الجامعية. لذلك ما أن حصل على شهادة البكالوريوس حتى سجل لدراسة الماجستير. وكانت أمه هي التي سعت له في التوسط من خلال قريب لها! لكن آدم التائه انتبه حينها إلى كراهية والده الشديدة لذلك الرجل القريب لأمه. بل كانت الحقد يتوهج في نظراته حينما ورد ذكره مرة أو مرتين أمامه. !!. لكن أمه لم تبال بحقده وكانت تعرف كراهيته للرجل القريب. لذلك بعد أن أنهى الماجستير طلبت منه أن يساعد ابنها في أن يواصل الدكتوراه. وهذا ما جرى. !! حينها جن جنون الأب.

كان الفتى آدم التائــه يدرك بأن هناك هوة غامضة مليئة بالأسرار تكتنف العلاقة ما بين والديه، لكنه لم يصل أبداً إلى قرارها. ولا إلى إضاءة أية من أسرارها! كل ما توصل إليه هو أن هذا الرجل القريب كان في شبابه يحب أمه بكل طهرها وخطاياها إن كانت لديها خطايا، لأن آدم يشك بأن لأمه خطايا فهي بالنسبة له قديسة، شهيدة. ولا يعرف عمق العلاقة بينها وبين ذاك الحبيب. لكنها كما يبدو لم تستطع، لظروفها العائلية الغامضة، أن تتزوجه. ويبدو أن علاقتهما بقيت قوية جداً. وبقيت قوية حتى بعد زواجها. لكن الشخص الآخر إنسان مثقف وله حضوره وسمعته ورزانته. وهو لم يلتق به وإنما كان يساعده عن بعد. بعد أن تتصل به الأم. لكنه يعرف أباه جيداً. فهذا الرجل الذي هو ابنه، برغم علاقته به فهو شخص غريب إليه، بل هو الشخص الذي عذب أمه، وضربها، وجاء بالعاهرات ليضاجعهن أمام عينيها. !

**********

درس آدم التائـه في كلية الآداب قسم اللغة العربية، وقد واصل دراساته العليا في حقول الدراسات الإنسانية أيضا. في الجامعة شعر برغبة في الكتابة. كان قارئاً نهما، لكنه لم يفكر أن يكون كاتباً، وبرغم ذلك وجد نفسه يكتب. ربما شجعه ما لاقاه من ثناء حول أسلوبه في الكتابة وطريقة سرده للأشياء والأفكار بشهادة جميع أساتذته وزملائه طلبة الجامعة. لذا بدأ بكتابة الخواطر، لكنه وجد أنها تافهة ولا تلبي ما يغلي في نفسه، وجرب كتابة القصة القصيرة، لكنه وجد أنها أقصر من أن يقول ما يريد، لذا حينما كتب أحدى قصصه لم يلتزم بشروط القصة القصيرة فاستمر في سرد الأحداث حتى صارت لديه قصة طويلة لا هي بالرواية ولا هي بالقصة القصيرة، لذا قرر أن تكون رواية فأعاد بناء الأحداث. أضاف شخصيات جديدة وأطال من بعض الحوارات وأسهب في الوصف، فصارت لديه قصة طويلة يمكن القول عنها إنها رواية. ولم يكن النشر بالنسبة إليه مشكلة من الناحية المادية، لكنه حينما قدمها إلى وزارة الإعلام تم رفضها لأنها (لا تستجيب لمشاكل المجتمع العراقي الذي يعيش التحولات الثورية وان معظم شخصياتها سلبية)، لذا قرر طبعها في بيروت. وفعلاً، راسل إحدى دور النشر المعروفة هناك واتفق معهم على المبلغ الذي كان بالنسبة لبقية الكتاب العراقيين كبيراً، وتم نشر الرواية التي لاقت صداً طيباً في الصحافة اللبنانية، ولم يكتب عنها في بغداد سوى أخبار عابرة وعرض مبسط، لكنها برغم ذلك رسمت له اسماً في المشهد الأدبي.

ربما كان هو محبطا من الاستقبال البارد للرواية بين أوساط النقاد في بلاده، لكن الذي عوض عن هذا ما كتبه أحد الصحفيين اللبنانيين بأنه يجد في آدم التائه كاتبا موهوباً، فهذا الأسلوب الغامض والبوليسي والغرائبية تكشف عن مخيلة خصبة.

**********

أشد اللحظات إثارة في حياته الإبداعية كانت عندما دخلت إمرأة فاتنة، لم يظن أنها إحدى الطالبات الجامعيات، إلى مكتبه في الجامعة، ذات يوم، وقالت له بأنها قرأت روايته (كوابيس القنفذ)، وإنها معجبة بهذه الرواية جداً، ومعجبة بطريقته في الكتابة، لكن لديها بعض الملاحظات.

بعد أن قام الدكتور آدم التائـه بمراسيم الترحيب طلب أن يسمع ملاحظاتها فقالت له بأن ملاحظاتها ربما لا تعجبه، وربما سينزعج منها، فنفى ذلك وأصر على أن تقول ما لديها وبصراحة شديدة، فقالت له كلاما وكأنها كانت قد أعدّته، لأنها لم تتوقف ولم تتردد في سرد ملاحظاتها الجريئة، وما زال يتذكر كل تلك اللحظات والجمل التي فتحت باباً لسعادة مؤقتة في حياته:

-                     أنت يا دكتور آدم التائـه كاتب تائـه كلقبك. كاتب متردد. لا تستطيع أن تقول كل شيء. إن الغموض في روايتك ليس متأتيا من طريقتك في الكتابة، وإنما لخوفك من أن تقول كل شيء عن الشخصية. وبصراحة، وأنك وقد سمحت لي بالحديث معك بصراحة، كاتب معقّد، وعلى الرغم من اعتقادي بأنك نفسك بطل الرواية أو على الأقل اعتمدت على تجربتك الشخصية فأنك جسّدت نمطا من الناس يعيش بيننا حقاً، فزوجي تقريبا يشبه بطلك في الكثير من الأوجه.

فقاطعها آدم التائه مستفسرا وكأنه استلم رسالة خفية منها:

-                     هل أنت متزوجة. ؟

نظرت إليه أول الأمر بغرابة لمقاطعته لها مستفسراً عن هذا التفصيل من كل ما قالته، ثم استرخت ملامحها وابتسمت ابتسامة خفية، وكأنها فهمت بأنه يريد أن يتعرف عليها شخصياً، ولا يعنيه ما تقول فيه:

-                     نعم أنا متزوجة من رجل عسكري وبرتبة كبيرة.

صُدم من إجابتها وكأنه جاء كرسالة تهديد تنبهه أن لا يتمادى معها، واستمرت:

-                     أرجو أن لا تكون ملاحظاتي جارحة أو مزعجة.

فكر آدم التائه بسرعة خارقة. كيف له أن لا يحاصر هذه المرأة الفاتنة بشبكته العنكبوتية.

وأن يقيم معها علاقة. ؟ لقد تأججت الرغبة فيه وهي تتحدث، لكنها أربكته بكلامها عن زوجها. إذن، عليه أن يستخدم أساليبه الأدبية وكل خبرته في التواصل معها. فقل لها بحرارة:

-                     ملاحظاتك ليست جارحة. على العكس. هذه المرة الأولى التي أجد من يفهمني بهذه الطريقة العميقة. أنت، إذا سمحت لي، مرآتي. مرآة روحي القلقة والمعذبة.

انتظر وقع كلماته عليها. أدرك بأنه أثر فيها من خلال تعظيم شخصيتها ومنحها هذه التوصيف الذي أعجبها وأثار غرورها ودفعها للتعاطف الخفي معه، فقالت مبتسمة:

-                     يشرفني أن أكون بهذه المكانة لديك. برغم اعتقادي أني كنت قاسية عليك. أسعدني جدا أنك تقبلت ملاحظاتي بهذه الأريحية. هذه من سمات الكتاب الواثقين من أنفسهم. الذين لا يهابون النقد مهما كان قاسياً.

لم يجبها الدكتور آدم التائـه لأنه في تلك اللحظات كان يتخيلها عارية، لكن كان عليه الإجابة ايضا، فقال لها:

-                     أتمنى شيئا واحداً. بل هو رجاء أكثر مما هو أمنية.

ابتسمت بغموض وكأنها تتوقع ما سيطلبه، لكنها أرادت أن تتأكد:

-                     ما هي أمنيتك أو رجاؤك؟ بودي معرفة ذلك لو سمحت. !

نظر آدم التائـه إليها بتفحص. عرف أنها تعرف ما سيقول وأنها تتقبل ذلك، لكنها تلعب معه أيضا:

-                     أريدك أن تكوني مرآتي دائماً. سأريك كل حرف أكتبه، وأستمع إليك وكأنما أستمع إلى نفسي الغائبة. أريد أن أرى نفسي فيك دائماً.

ابتسمت أكثر وقالت وهي تنظر في عينيه مباشرة:

-                     دائماً. ؟

-                     دائما. دائما. وإلى آخر لحظة في حياتي.

ضحكت بمرح وقالت:

-                     أوه. بدأنا ندخل المناطق الخطرة. إلى آخر لحظة في حياتي؟؟!! هل أنت متأكد؟!

-                     متأكد. متأكد.

أحس بالتهيج. أراد أن يقوم من مكانه ويحضنها مباشرة لكن توقف وكأنما هناك نداء داخلي ناداه بأن يصبر ولا يستعجل إلى أن تنضج الفاكهة. إذن عليه الاستمرار في الدور. أصطنع الحزن والخيبة، فقال:

-                     لكني أعرف أن ذلك مستحيل!

فوجئت بتحول حاله وأحست بالخوف من فقدان شيء ثمين، فقالت:

-                     لماذا مستحيل؟

نظر إليها كمن يريد إطلاق طلقته الأخيرة على الهدف الذي سيحسم وضعه معها:

-                     لأنك متزوجة من شخصية عسكرية وبرتبة كبيرة كما تقولين. وهذا الأمر كما تعرفين ربما سيكون سببا لخلق بعض الصعوبات والمشاكل لك. ولي. !

أحسّت هي ببعض الراحة حينما عرفت سبب الخيبة التي ارتسمت على ملامحه، فقالت مبتسمة:

-                     من هذه الناحية لا تقلق، أولا أنه غائب دائماً أو شبه غائب. وثانيا: أنا التي أتحكّم في كل شيء، كما أني لن أجعلك عرضة للمشاكل.

ثم نهضت فجأة ومدت يدها مصافحة إياه ومبتسمة، فنهض أيضا، فقالت له:

-                     أرجو أن تحمل ما لديك من كتابات كي استطيع قراءتها وإبداء رأيي فيها إن أحببت:

-                     طبعا. طبعا. ستكون معي هنا غدا.

-                     غدا ليست لدي محاضرات. بعد غد سأكون في الجامعة.

-                     بعد غد. إذن بعد غد.

وحينما استدارت خارجة نظر إليها من الخلف سارحا بنظره إلى مؤخرتها وإلى ساقيها، ثم جلس على كرسيه مذهولا وكأنه في مشهد روائي متخيل، وليس واقعا عاشه بكل تفاصيله.

ظل جالسا في كرسيه لفترة طويلة دون أن يفعل شيئا غير الاستغراق في التخيلات الجنسية وأحلام اليقظة. فجأة أحس بلقلق حينما طرأ تساؤل غريب على ذهنه: ماذا لو اتضح أنها مرسلة من جهات أمنية لتوريطه في مسألة ما تكون نتائجها وخيمة عليه؟ لاسيما وانه لا ينتمي إلى الحزب الحاكم. وبسبب ذلك صار وضعه في الجامعة مقلقاً له. !! لكنه أجاب بنفسه على سؤاله: لماذا يرسلون امرأة فاتنة لهذه المهمة وبطريقة أدبية، ولا يتبعون أساليبهم المعروفة بالضغط والإكراه الصريح والمباشر؟ ثم أنها فعلا قدمت ملاحظات جيدة حوله، وربما هي محقة في ما يخص ملاحظاتها عنه شخصيا!

**********

في اليوم المحدد بينهما لم تأت. تذكّر أنه لم يسألها في أية كلية هي أو أن كانت إحدى طالباته. وبرغم أنه لم يحمل معه أي شيء من كتاباته الجديدة لأنه ببساطة لم يبدأ بأي عمل روائي جديد، إلا أنه كان متحرقاً لرؤيتها، فهي امرأة أنيقة بل وفاتنة، وبدت له أنها مثقفة وجريئة، ومن خلال ملاحظاتها خمّن ربما هي أيضا تمارس الكتابة، فكلامها يشي بمعرفة نقدية متميزة، وثقافة عالية لم يجدها حتى بين أساتذة الجامعة، فمن هي يا تـُرى. ؟ لكن كيف سيلتقي معها، وأين؟

فكّر مع نفسه. عليه أن يؤجر شقة خاصة لكي تكون عشا للقائهما،إذ يبدو أنها أيضا امرأة مغامرة، وأنها تريد أن تقيم علاقة معه، فهي لم تعترض بل رحبت بالتواصل بينهما. لكن لماذا. ؟ ما الذي أغراها فيه، هل أن روايته (كوابيس القنفذ) هي التي أثارتها إلى هذه الدرجة حقاً. ؟ أم أنها امرأة حالمة تريد أن تكون بطلة لرواية، وبالتالي بدأت معه علاقة لأنها متأكدة أنه سيكتب عنها رواية أو ستكون إحدى شخصياته الروائية، فهل هذا طموحها حقا؟ ثم هل هو معقد كما قالت. ؟ وهل هو مفضوح إلى هذه الدرجة بحيث أن القاريء يستطيع تلمس عقده النفسية؟ ما الذي كانت تقصده بأنه معقد. ؟ حينها لم يكن يستمع لها بوعي وانتباه برغم أن وجهه كان يعبر عن الانتباه، لأنه حينها عراها وهي جالسة أمامه. !!.

هل أن جميع الرجال أو على الأقل الكتاب والفنانين، أو بشكل عام المثقفين، هكذا مثله حينما يقابلون امرأة جميلة وفاتنة مثلها لا يفكرون إلّا في سبل الوصول إليها. وإقامة علاقة معها. ؟ ما معنى الحب إذن؟

لم تأت المرأة الغامضة. ضاقت بنفسه. وصار عصبيا. وشحبت أحلامة، بل وداهمته أفكار سوداوية حول غموض هذه السيدة. ولغز مجبئها واختفائها المفاجئ. !

**********

حينما رجع ذلك اليوم ظهرا إلى البيت وجد أن أمه نائمة وأباه يرش باحة الدار بالماء من حنفية الدار. ألقى التحية دونما اهتمام ودخل إلى غرفته حتى دون أن ينتظر سماع رد التحية فوجد زوجته نائمة والمروحة تدور حولها قرب السرير. انتبهت لدخوله، فقامت وعلى وجهها ما يشبه الاعتذار، قائلة:

-                     لقد تأخرت اليوم، فظننت أنك لن تأتي إلا مساءً، فتمددتُ ثم غفوت. سأصب الطعام، فهو جاهز، بل وما زال ساخناً.

لم يعلق على كلامها وإنما سألها عن والدته:

-                     هل أكلت، وهل أخذت أدويتها في مواعيدها. ؟

-                     نعم. أنا بنفسي ساعدتها على تعاطيها.

-                     هل هي نائمة. ؟

-                     لا أدري. يمكن أن تكون قد نامت لأنها تمددت بعد أن أخذت الأدوية، لكن عمي لم يأخذ قيلولته. فقد قرّر أن يرش باحة الدار بنفسه رغم أني قلت بأني يمكن أن أقوم بذلك.

-                     لا يعنيني ماذا يفعل هو. المهم أمي.

لم تعلّق على كلامه، لكنها كانت تحس بأنه لا يطيق أباه. خرجت من الغرفة، بينما وضع هو حقيبته الجلدية جانباً ونزع قميصه الذي كان قد ابتل من التعرق، وكذلك بنطاله، ثم لبس دشداشته التي أخذها من على حمالة الملابس.

**********

حينما جاءت حواء المؤمن بصينية الطعام كان الدكتور آدم التائه متمددا على الأريكة محدّقاً إلى سقف الغرفة. ! وضعت الصينية على الأرض فنزل هو وجلس على البساط المفروش على إحدى جوانب الغرفة، وبدأ يأكل وهو ساهم النظرات، فسألته مستفسرة:

-                     هل حدث شيء ما. ؟

انتبه إلى سؤالها ونظر إليها مستفسرا:

-                     لا، لم يحدث شيء، ماذا يمكن أن يحدث. ؟

انتبهت لجفاف لهجته. فقالت بنبرة مترددة:

-                     لا أعلم، لكنك ساهي النظرات، فقلت ربما حدث شيء. ؟

فقال بعصبية واضحة واستياء من الأسئلة:

-                     لا لم يحدث شيء.

واستمر في الأكل وملامحه تؤكد أنه يفكر في شيء آخر. انتبه لها وهي تنظر إليه وهو يأكل، فلم يعجبه ذلك فقال لها:

-                     لا أحب أن ينظر أحد إليّ وأنا آكل!

ارتبكت حواء المؤمن فقامت خارجة ملتفتة له:

-                     سأساعد أباك في رش الباحة، وإلا فأنه سيغرق البيت بالماء

نظر إليها قائلا:

-                     حضري الشاي، وبعد ذلك احمليه لي في المكتبة.

-                     حاضر.

وخرجت إلى الباحة. بعد لحظات سمع أنها تحدّث أباه، بينما استمر هو في طعامه، ثم توقف فجأة حينما سمعها تقهقه وتصرخ جذلة طالبة من أبيه أن لا يرشها بالماء. ، فترك صينية الطعام جانباً، وقام ليخرج إلى الباحة صارخاً بها:

-                     ألم أقل أريد شايا.

-                     الشاي جاهز.

كانت حواء المؤمن واقفة بالقرب من والده، وكان الماء قد بللها فالتصق ثوبها الصيفي الخفيف بجسدها المثير فكشف عن مفاتنها وحتى عن سروالها الداخلي، فغضب منها، ثم توجه داخلا إلى غرفة المكتبة، فأحسّت بالانكسار ونظرت إلى أبيه الذي كان أيضاً غاضباً من تصرف ابنه، فتوجهت هي إلى المطبخ، لتحمل له الشاي.

**********

حينما دخلتْ إلى المكتبة وجدته متمدداً على الأريكة التي هناك. وقفت أمامه. تأمل جسدها المثير. طلب منها أن تقترب إليه فتقدمت حتى صارت أمامه مباشرة. بيدها صينية الشاي وعليها ابريق الشاي الصغير مع قدح الشاي وقندون السكر. وبلمح البصر مد يده متلمسا بين فخذيها، فرجعت إلى الوراء خطوة وقد شعرت بإثارة مفاجئة.

لا يدري لِمَ جاء مشهد الممثلة هند رستم في فيلم (باب الحديد) حينما كانت تغتسل وهي بثوبها الخفيف إلى ذهنه في تلك الظهيرة الساخنة. فجأة انتبه إلى أن لزوجته شبه كبير بهند رستم، إلا أنها أكثر شباباً من الممثلة المصرية. ، فهي في بداية العشرين من عمرها. فكّر للحظة بأنها أجمل حتى من المرأة الفاتنة الغامضة التي اقتحمت مكتبه في الجامعة فجأة، وطلب منها أن تكون مرآته!

شعرت حواء المؤمن بالخجل برغم الإثارة التي اشعلت جسدها، فقالت باستحياء:

-                     أبوك موجود في الباحة.

شعر بالغضب من جملتها، وكأنما أراد تحدي أباه، فقال لها:

-                     ضعي الصينية على الطاولة هناك. وتعالي. لا يعنيني من هو موجود أو غير موجود في الباحة.

فقالت بارتباك وخجل:

-                     ولكن يمكن أن يسمع صوتنا. !

فقال لها بحزم وبنبرة آمرة:

-                     قلت لك إنه لا يعنيني.

وما أن وضعت الصينية على الطاولة حتى سحبها من يدها إليه فقالت له:

-                     دعني أغير ثوبي فهو مبلل.

نظر إليها بشبق للحظات وقال برقة كاد يخجل منها:

-                     أريدك هكذا، بثوبك المبلل.

ثم قام فجأة وأجلسها على الأريكة رافعا ثوبه إلى الأعلى طالبا منها أن تأخذه بفمها فقالت له:

-                     لا أرغب بذلك، لم أفعلها سابقاً.

-                     افعليها الآن. جربيه.

-                     لكن.

-                     قلت خذيه بفمك. جربي. سيعجبك!

لم يكن أمامها إلا أن تفعل ما يريد فأسدل ثوبه عليها وظلت هي تحت الثوب.

**********

في اليوم الثاني كانت لديه في الجامعة محاضرتان. حينما توجه إلى مكتبه وجدها واقفة قبالة باب المكتب تنتظره. اجتاحته مشاعر متضاربة. غضب لأنها لم تأت على الموعد، وفرح لأنها موجودة وتنتظره. لكنه حاول أن يتماسك ولا يكشف عن لهفته بسهولة. لم يحدثها في الممّر، وإنما فتح باب مكتبه فدخلتْ خلفه بشكل طبيعي، وما أن صارا في المكتب أسرع وهو عند الباب لمصافحتها، داعياً إياها إلى الجلوس، بينما جلس هو على كرسيه خلف طاولة مكتبه، مبادرا الكلام:

-                     أعتذر إن جعلتك تنتظرين أمام الباب.

انتبهت هي إلى أنه يكابر فلم يسألها عن عدم حضورها إلى الموعد الذي حددته، فقالت وكأنها تحاول أن ترضي غروره وكبرياؤه:

-                     أنا عليّ الاعتذار يا دكتور. لأني أخلفت موعدي! فلقد كان يفترض أن أكون هنا بالأمس، لكني لم أتمكن من ذلك لأن زوجي جاء من السفر ومكث ليوم واحد قبل أن يلتحق بمعسكره.

شعر برضا نفسي لأن حجتها مقبولة. برغم الخاطر الذي مرق في ذهنه مباشرة بأنها مرت بليلة حمراء. فتعكر مزاجه، فقال بنبرة فيها عتاب وإحباط:

-                     وأنا قد حملت كتاباتي الأخيرة بالأمس لكنك لم تحضري. ولم أتوقع مجيئك اليوم، بل ظننت أنك لن تأتي أبدا.

فابتسمت له وقالت بدلال:

-                     أولا: أنا آسفة حقا لأني لم أستطع المجيء. ثانيا: كيف تفكّر هكذا، ألست مرآتك إلى آخر لحظة من حياتك كما قلت، أم إنك تراجعت عن ذلك؟

غمرته سعادة لا يعرف كيف تفجرت في أعماقه. وأحس أنها تريده فعلاً، فقال بحماس:

-                     أنا؟ أنا أتراجع عن ذلك؟ أنا لم أصدق أنكِ كنت هنا. ظننتك وهما.

-                     وهماً. أم حلماً؟

نظر إليها بإعجاب لهذه الالتفاتة الذكية وقال:

-                     نعم. أنت حلم جميل ومذهل. ولا أصدقك أنك الآن أمامي ثانية. !

أعجبها ما قاله. شعرت بأنها تتجاوز معه الكثير من الحواجز والمواضعات الرسمية. فقالت بمرح وإلفة:

-                     أهووووو. سيصيبني الغرور يا دكتور.

مدّ نصفه الأعلى على طاولة المكتب وكأنه يريد أن يصل إليها وقال:

-                     بالمناسبة. هل تدرين أنني لا أعرف اسمك؟ فمن شدة ذهولي لم أسألك عنه!

نظرت إليه بغنج وقالت:

-                     ربما سيصيبك الذهول أكثر إذا ما ذكرت اسمي. لأننا سنكون ثنائي غريب.

صمت لحظة ثم نظر إليها بتساؤل، وقال بتردد وكأنه يحل لغزا:

-                     لا تقولي إن اسمك. حــــــواء!

-                     بالضبط!

أصابت الدكتور آدم دهشة حقيقية. تراجع إلى الوراء. وقال وكأنه يحدّث نفسه:

-                     طريدة الفردوس. !

صمتت للحظات. انتبه لظلال كآبة مرت على وجهها، وقالت:

-                     عن أي فردوس تتحدث يا دكتور؟ ليس أمامنا سوى الجحيم!

تدارك هو الموقف حين انتبه لنبرة الحزن في صوتها، وقال متراجعاً:

-                     أقصد كنا في الفردوس.

نظرت إليه بتركيز وقالت بنبرة مشوبة بالتحدي واستقلالية الرأي:

-                     شخصياً لم أكن يوما في الفردوس! إلّا إذا اعتبرتَ رحم أمي هو الفردوس. أعتقد أن العدم هو الفردوس!

انتبه للحظات بأن عليه أن يكون دقيقاً في الحديث معها، فقال:

-                     ألا تؤمنين بقصة أدم وحواء وطردهما من الفردوس؟

انتبهت لتراجعه قليلا. وانكماش حماسه، فأرادت أن تطمئنه، فقالت:

-                     أنا اقرأ هذه القصة كأسطورة. أفهمها بشكل رمزي. لا أدري إن كان هناك فردوس بالمعنى الحسي الملموس، وإذا ما كان فأين هو. ؟ في أي كوكب أو مجرة يقع. ؟ لأنه، وبالتالي، فأننا أنا وأنت من لحم ودم، أقصد آدم وحواء، كانا مخلوقين ماديين، وكانا في الفردوس أو جنة عدن، حيث الأشجار وأنهار العسل والحليب والخمر. وحيث الثمار. والملائكة. وهذا يعني أنهما كانا في موقع مادي وملموس. ، ثم طردا إلى الأرض. وهي مكان ملموس أيضاً. أي ان الجنة مادية. !! وإلا كيف يمكن لهما وهما المخلوقان الماديان، وقد خلقهما الله من الطين، أن يكونا في موقع روحاني غير ملموس وغير مادي؟ وهذا مخالف للكثير من الأديان والعقائد. لأنه يجر إلى أسئلة صعبة.

وجد الدكتور آدم التائـه أنه أمام شخصية غريبة، بل نسيَ كل تفاصيل جسدها الطاغية ولباقتها المثيرة، وأخذ يفكّر بما قالته، فشحب لون وجهه وقال بارتباك:

-                     من أنت. ؟

ابتسمت بدلال وقالت:

-                     أنا حواء. حواء الغريب. لستُ حواء الفردوس، إنما حواء الجحيم الأرضي.

نظر إليها باستغراب وسأل:

-                     هل أنت ملحدة؟

ابتسمت له وقالت بطريقة ودودة لكنها متزنة وكأنها أدركت ما أثارته في نفسه من ارتباك:

-                     لا. على العكس. أنا مؤمنة جداً. مؤمنة بوجود خالق لهذا الكون العجيب، لكني لا أؤمن بالأديان. وحتى الأديان لا أفهم نصوصها بشكل الحرفي. أنا أفهم قصة حواء وآدم على أنها صراع الخير والشر في أعماق الإنسان، صراع الذكورة والأنوثة. ، صراع العقل والعاطفة. ، صراع الحرية والجبر الإلهي.

كان الدكتور آدم التائـه منبهرا بكلامها أشد الانبهار. شعر بدفق الفرح في عقله وروحه وقلبه، فقال بحماس واضح:

-                     لا. لا. هذا غير معقول. أنا لا أصدق أنني أمام امرأة من هذا الزمان!

ابتسمت له ثم فجأة ارتسمت علامات الحزن على وجهها الجميل:

-                     أنا امرأة من هذا الزمان. أو من أي زمان.

-                     ومن أي زمان أنت. ؟

ابتسمت له وقالت:

-                     يبدو لي أنت لا تؤمن بوجود أية امرأة عاقلة تستطيع التفكير ومجارات الرجل في طرح الأسئلة وتفكيك النصوص. ؟!!.

فأرتبك وقال بما يشبه الاعتذار.

-                     لا أبدا. لا أقصد بأنه المرأة أقل من الرجل قيمة، أو أنها أقل ذكاء، وإنما أردت أن أعبر عن إعجابي الكبير بك وبطريقة تفكيرك. هل تصدقين أنني لم أفكر بقصة آدم وحواء بهذه الطريقة وهي بالنسبة لي من المسلمات التي لم أفكر في أن أضعهما أمام محكمة المنطق الحسي هكذا!

ابتسمت. شعرت بالتميز. وقالت بدلال ومرح:

-                     سامحتك، لكن عليك الحذر من حواء ابنة الجحيم، ولا تنظر إليّ باعتباري طريدة الفردوس. اتفقنا. !!.

فقال مردداً باستسلام:

-                     اتفقنا.

كان الدكتور آدم التائـه يريد أن ينهي هذا الحوار المتعالي وأن يهبط إلى الأرض، أو إلى الجحيم كما تقول هي، وفكّر في نفسه للحظة، كيف ستكون في السرير، وبماذا تفكّر حين ذاك. لذا أراد أن يدير دفة الحديث نحو هدفه الواضح، فقال بمرح وحيوية:

-                     بالمناسبة، لقد فتشت عليك اليوم في قاعة المحاضرات وفي كلا الشعبتين فلم أجدك، هل أنت طالبة في كلية الآداب.

-                     لا. أنا طالبة في كلية الحقوق، السنة الرابعة. هل تريد أن تعرف عني أكثر. ؟ اسألني وسأجيبك. لا تتردد أن تسأل عن كل ما يدور في ذهنك. وأنا أعرف ما يدور في ذهنك.

فقال باستغراب إذ وجد في كلامها شيئا من الاستفزاز:

-                     تعرفين ما يدور في ذهني. ؟ كيف. ؟ ماذا يدور في ذهني يا حواء؟

نظرت في عينيه مباشرة وقالت بثقة:

-                     إنك مليء بأسئلة تخص وضعي العائلي، مثلاً تتحرق لمعرفة من هو زوجي، وكيف تزوجته. ؟ وهل هو أكبر مني أو لا. ؟ وهل لدي أطفال. ؟ وهل أنا مرتاحة مع زوجي أو هناك مشاكل بيننا، وأقصد بمرتاحة كل تفاصيل العلاقة الزوجية بما فيها علاقتنا كرجل وامرأة. ؟ وأسئلة أخرى تخصك، مثلا لماذا جئتك بنفسي وأردت التعرف عليك. ؟ وهل أنت الكاتب الوحيد في البلد الذي أعرفه أو أنا لدي علاقات مع أدباء آخرين ذهبتُ إليهم مثلما جئت إليك. ؟ وأخيرا إلى أي مدى يمكن أن تتطور علاقتك معي؟ و.

أحس الدكتور آدم التائـه بما يشبه الانهيار، فقال لها بلهجة شبه آمرة:

-                     اسكتي رجاء. اسكتي.

ثم حدق إلى وجهها مقربا وجهه إلى الأمام. نحوها مباشرة وكأنه يريد تأملها ومعرفة شخص مجهول:

-                     من أنت. ؟

نظرت إليه محدقة وكأنها تقرأ ما يدور في نفسه من مخاوف:

-                     أنا حواء. وأنا كما أنا أمامك واضحة كالمرآة.

-                     وغامضة أيضا. كالمرآة. !

-                     ربما.

مرت لحظات من الصمت، ثم قال لها وكأنه يستسلم أمامها:

-                     لنفترض جدلاً أن كل ما قلته صحيح، وأن هذه الأسئلة تدور في ذهني، فما هي إجابتك عليها؟

ابتسمت له وقالت بمرح:

-                     هل أنت متشوق لسماع الأجوبة؟

-                     نعم.

-                     جميعها؟

-                     نعم جميعها.

انتهبت لنبرته المتحدية باستسلام وقالت بمودة:

-                     أي سؤال من بينها تود أن تسمع إجابته أولاً. ؟

لم يجبها. ظل صامتاً. نظرت إليه بتفحص وقالت مبتسمة:

-                     تريد أن تسمع إجابتي عن السؤال الأخير قبل بقية الأسئلة التي هي أيضا مهمة بالنسبة لك، لكن الإجابة عن سؤالك حول المدى الذي ستتطور علاقتك بي هو الذي يهمك. أليس كذلك؟

فقال باستسلام كامل:

-                     نعم. أريد أن أعرف ذلك.

صمتت لفترة قصيرة، لكنها كانت بالنسبة إلى الدكتور آدم التائـه وكأنها اللحظات التي تسبق النطق بالحكم النهائي بالحياة أو الموت. شعر بعرق بارد يغطي جبينه. نظرت إليه. اكتسى وجهها مسحة من الحزن، وقالت بهدوء، وجدية، بعيداً عن أسلوب الدلال الذي كانت تمارسه قبل قليل:

-                     إلى أقصى مدى يمكنك أن تتصوره.

أمتد الصمت الذي بينهما. نظر إليها وكأنه غير مصدق ما نطقت به، فطلب منها بارتباك أن تعيد ما قالته:

-                     أرجوك. هل يمكنني أن اسمع ما قلته للتو؟

فقالت بهدوء شديد وهي تنظر في عينيه:

-                     يمكن لعلاقتنا أن تتطور إلى أقصى مدى يمكنك أن تتصوره. هل تفهمني. ؟

-                     أفهمك. لكني لا أفهمك أيضاً.

-                     بلا تلكن. سأجيبك على أسئلتك الأخرى بمرور الوقت. أم أنك مستعجل. ؟

كان مرتبكا وفرحا في الوقت نفسه لاجابتها الواضحة والحازمة، فقال:

-                     لا. لا. أنا الآن مرتاح. كل الأجوبة الأخرى يمكن أن تؤجل.

نظرت إليه وكأنها صُدمت وقالت بحزن:

-                     لا يعنيك من كل الذي أنا فيه سوى أن تحصل علي. ؟

انتبه إلى أنه ارتكب حماقة بهذه الإجابة التي كشفت نواياه، لكنها استرسلت قائلة:

-                     لا يغرنك هذه الأناقة والثراء الواضح في ملابسي، ولا السيارة، أوالسائق الذي ينتظر خارج الكلية، ولا كمية الدنانير التي أحملها في حقيبتي، ولا طريقة كلامي التي هي ليست سوى تكرار لأفكار كتّاب ومفكرين آخرين قرأتهم وحفظت أفكارهم، فأنا لستُ سوى امرأة حزينة. حزينة جداّ.

قالت ذلك ثم قامت فجأة وكأنها أرادت منع الدموع من أن تنهمر من مآقيها، وعند الباب التفتت إليه وقالت:

-                      سأمر غداً.

وخرجت. ظل الدكتور آدم التائه مصدوماً. لم يستطع استيعاب ما جرى خلال لحظات. ظل جالساً مذهولاً من قرارها المفاجئ بالمغادرة. قام من مكانه ولحق بها، لكنه لم يجدها! ركض في الممر ليلحق بها. وحينما صار خارج الكلية لمحها وهي تصعد سيارة مرسيدس جديدة يقودها سائق مسن لتجلس هي في المقعد الخلفي.

وقف صامتا تملأه الخيبة. ثم رجع منكسرا إلى مكتبه. جلس على كرسيه غارقا في لجّة أفكاره المتلاطمة.

**********

مرت أيام عصيبة على الدكتور آدم التائه لأن حواء الغريب لم تظهر. ولم تأت كالمرة السابقة على الموعد الذي حددته بنفسها. شعر أنه فقدها نتيجة لتهوره وواندفاع شبقه اللعين! فهذه المرأة ليست أنثى فقط وإنما هي امرأة مثقفة بشكل استثنائي ومتمردة مخيفة وشجاعة بامتياز. أحس وكأنه ممسوس بها، فهي شخصية لا يجدها إلى في الروايات، إذ لم يرَ امرأة في حياته تمتلك هذا الوضوح وهذه الجرأة. وهذا الغموض. فقد اختفت بطريقة غريبة مثلما جاءته بطريقة غريبة.

مر شهر. إنشغل الدكتور آدم التائه بأمور جرت في البيت، إذ مرضت أمه مرضا خطيراً، فقد أصابتها حالة من الألم الذي لم تستطع مقاومته بأي من المسكّنات، فنُقلت إلى المستشفى، وبعد إجراء الفحوصات تبين عندها حصى في المرارة مما يستوجب إجراء عملية لها. حينها لاحظ اهتمام زوجته حواء المؤمن الكبير بأمه فأعجبه ذلك جداً وأحس أنها قريبة منه. على عكس الذي لم يبد اي غهتمام بمرضها بل ولم يزرها إلى المستشفى قط!

كانا يذهبان مع زوجته إلى المستشفى، ويبقيان عند الأم فترةً طويلة ثم يرجعان معا. انتبه لخصال زوجته الإنسانية، فهي طيبة، ومسكينة، تعيش في عزلة نفسية، ويبدو أنها عانت كثيراً خلال زواجها الأول، برغم أنه يحاول أن ينسى أنها كانت متزوجة قبله. فقد كان يحاول أن يبعد عن تفكيره أن هناك من نام معها، ورحل في أنحاء جسدها المثير، ويعرف تفاصيل جسدها، قبلها وأولجه فيها، بل وإنها كانت تلهث من اللذة، فمثل هذه الأفكار والتخيلات تعذبه! لكنه يعود ليسأل نفسه: ماذا ذنبها هي. ؟ لقد زوجها أخوها إلى ابن عمها وهي صغيرة في العمر، وطلّقوها أيضا وهي صغيرة في العمر. ؟ إنه يعرف بأن أمه تحبّها كثيراً، وتعطف عليها وتعتبرها ضحية، لذا سعت لتزويجها له، فقد كانت أمه على الرغم من أنها لم تتعلم سوى إلى مرحلة المتوسطة، امرأة ذكية بل وحكيمة، لكن ليست حكمة الكتب وإنما حكمة الحياة، وهو يثق بأمه ثقة عمياء، وحين فاتحته بأنها تريد تزويجه، وأنها وجدت له المرأة الصالحة لم يفكر طويلاً، ولم يعترض، لكن حينما أخبرته بأنها مطلقة انتفض رافضاً، بينما انتقدته على موقفه!

يتذكر هو الآن بأنه امه استغربت من تعقيدات وتناقضات تفكيره الشخصي، وواجهته حين قالت له: كيف وأنت الأستاذ الجامعي تفكر بهذه الطريقة. ؟ ما ذنب المطلقات في مجتمعاتنا. ؟ بل من يضمن أن غير المطلقة هي الأفضل دائماً. ؟ ألم يتزوج النبي نساء مطلقات، بل ألم يطلق إحداهن من زوجها ليتزوجها، فكيف وهو الإنسان العادي، حتى ولو كان دكتورا، أن يحتج بهذه الطريقة؟

يتذكّر أن أمه حين ساقت له حجّتها بزواج النبي من المطلقات، خجل من ضعف موقفه وتخاذله الاجتماعي! وبرغم عادة الأمهات أنهن لا يرغبن تزويج أبنائهن من نساء مطلقات، فها هي أمه تختلف عن بقية النساء. ؛ إنها تدافع عن فتاة مطلقة، بل هي تسعى لتزويجها من ابنها الوحيد! لقد أكدت أمه له بأنها امرأة مريضة وكذلك أبوه، وهما يحتاجان للعناية، وأن أية فتاة أخرى لن تقبل بسهولة أن تكون خادمة لهما. ؟!. إذ ربما تسعى الفتاة الباكر لتكوين بيت خاص لها وتعتزلهم معه. ؟!. بينما حواء المؤمن فتاة مسكينة، ليس لديها مكان آخر غير بيت أخيها الذي تعاني ما تعاني فيه، وبالتالي ستكون شاكرة لهما أن تعيش معهما كزوجة لابنهما الوسيم والأستاذ الجامعي. صحيح أنه أكبر منها بحوالي خمسة عشر عاما، إلا أنه يفيض بالحيوية والرجولة.

وبعد أيام ذهبت الأم لتخطب حواء المؤمن من أخيها الكبير، وتمت الموافقة بسهولة، وكأنما لم يصدق الأخ الكبير كيف تخلّص من أخته! وهكذا تم الزواج بسرعة ودونما ضجة كبيرة بسبب مرض الوالدين وضعفهما، ولامبالاة الدكتور آدم التائـه بالتقاليد الاجتماعية، ولكون عائلته المكونة من أمه وأبيه تبدو وكأنها شجرة بلا جذور، فهو ليس لديه أقارب، ولم يعرف يوما أن له أقارب سوى إشارة إلى قريب لأمه، الذي ساعده في عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية من خلال سعيه لقبول آدم التائــه لدراسة الماجستير ومن ثم الدكتوراه! هذا الرجل الذي هو أكثر إنسان يحقد الأب عليه ويكرهه، والذي كثيرا ما كان أبوه يلمز لأمه بالإشارة إليه حينما كان صغيراً، ولم يفهم هو حينها شيئاً عن دلالة ذلك. لم يتجرأ الدكتور آدم التائـه أن يسأل نفسه إن كانت أمه قد خانت أباه مع قريبها هذا. ؟ بل ولم يود أن يذهب أبعد إن كان هذا الرجل أباه الحقيقي. ؟ وإلا لِمَ لم يشعر بحب أبيه الحالي أبداً؟

حياته مع زوجته حواء المؤمن عادية. هي فتاة مثيرة، وطيبة، وطيعة وبريئة، ولا تفهم شيئا في أمور العلاقة بين الرجل والمرأة برغم أنها كانت متزوجة، وقد كان مستمتعا معها، لاسيما حينما يجرها إلى مناطق غير مألوفة في العلاقة ويحس بتمتعها معه، وها هي الآن تكشف عن معدنها الطيب بالعناية والقلق الحقيقي على صحة الأم وكأنها أمها وليست أمه.

**********

يتذكر الآن كل شيء. فذات يوم وقبل أن يخرج من مكتبه دخلت حواء الغريب. كانت في فستان أسود مكشوف الذراعين ويمتد إلى الركبتين ويكشف عن تناسق جسدها المثير، لكنها كانت بلا زينة واضحة، وكانت هالتان سوداوان تحيطان بعينيها، من أثر السهر كما يبدو، وكانت تبدو متعبة ومنهكة جدا.

ارتبك الدكتور آدم التائـه عند رؤيتها، فلم يأمل رؤيتها ثانية. نهض من مكانه، متوجها إليها، وأراد احتضانها لكنها مدت إليه يدها على امتدادها مصافحة لتوقفه على مسافة منها. أحس بأن التي تقف أمامه ليست هي نفسها التي كانت تتحدث معه بدلال في اللقائين السابقين. ثم اختفت فجأة.

ثمة مياه كثيرة مرت تحت الجسور. كان يحس نفسه بأنه ليس ذاك الأرعن الذي تقوده شهوته، فقد أحس بعد مرض أمه واكتشافه لشخصية زوجته حواء المؤمن أن ثمة تحولا ًطرأ على مزاجه الشخصي. هل كان هذا بفعل غيابها أو أنه بفعل مرض والدته أو بفعل اكتشافه لإنسانية زوجته؟. لكن لماذا أحس بالارتباك عند رؤيتها، وكأنه كان مقيداً وقد فك وثاقه، فلم يعرف ماذا يفعل لحظتها؟

حين جلست ظلت صامتة للحظات كما ظل هو صامتا لا يريد أن يقتحم سكونها بالكلام، لكنها بعد فترة ليست بالطويلة بدأت بالكلام:

-                     أنا أعتذر جداً عن اختفائي المفاجئ دونما أي إشارة أو ترك أي أثر، لكني كنتُ مضطرة لذلك، فقد توفي والدي قبل فترة، وقد حطمّني هذا الحدث. لقد كان سندي في الحياة ومعلمي وصديقي.

أخرجت منديلا حريريا لتمسح دموعا ترقرقت في زوايا عينيها. تأثر الدكتور آدم التائه بهذا الخبر وحاول أن يشاركها حزنها فتمتم بكلمات تقليدية تُقال عادة في مثل هذه المناسبات:

-                     البقاء في حياتك، أشارككِ هذا المصاب الأليم، ولا أدري كيف أواسيك بهذا الفقدان الجلل.

-                     شكرا جزيلا.

-                     لم أكن أعرف عن كل هذا، لقد افتقدتكِ كثيراً، وظننت أنك لن تعودي أبدا، لاسيما بعد آخر حديث جرى بيننا.

صمتت للحظات. ثم قالت:

-                     أنا أيضا افتقدتك. لقد مررت بلحظات شعرت بحاجة كبيرة إليك. بعد رحيل والدي بقيت وحيدة في هذا العالم. أمي قد رحلت عن عالمنا منذ سنين، وليس لدي أي أشقاء فأنا كنت وحيدة أبي الحبيب. بالمناسبة، كان أبي يعرفك ومن المعجبين بروايتك (كوابيس القنفذ)، وقد كان يعرف أنني قابلتك، وهو الذي علق بأنك شخصية معقّدة، ولكنك كاتب موهوب لذا فقد كان يعتقد بأنك ربما ستكتب أشياء جيدة.

فاجأه كلامها، فأحس وكأن هناك أكثر من عين تراقبه وهو لا يدري، وفي الوقت نفسه شعر بشيء من الكبرياء، فقال لها:

-                     لماذا لم تخبريني بهذا في لقائنا الأول، فربما كنا قد تقابلنا، فشخصية مثله يتشرف المرء بالتعرف إليها.

-                     هو أيضا قال نفس الكلام تقريبا، لكنه كان مقعداً، ولا يتحرك إلا على كرسي، لكنه رحل وتركني وحيدة.

مرت لحظات صمت ثقيلة بينهما. لكنه تجرأ وقال:

-                     أنا موجود، وستجديني دائما إلى جانبك.

تألق وجهها وتوهجت نظراتها وقالت بمودة:

-                     شكرا جزيلا. هذا من لطفك.

-                     أنا أقصد ما أقول.

-                     شكرا جزيلا.

أمتد الصمت بينهما ثانية، فقالت وكأنها تود أن تحسم أمرا:

-                     هل ما زلت تنظر إلي وكأني مرآتك.

فقال بطريقة لا إرادية:

-                     نعم. طبعاً.

-                     إذا علينا أن نتواصل، لكني لا أستطيع أن أزورك هنا في المكتب باستمرار، فوضعي لا يسمح، لاسيما أن إحدى أخوات زوجي جاءت لتعيش معي. أبي كان يعيش معنا، وكنا أنا وهو وحدنا لأن زوجي لا يتواجد إلا عند الإجازات والظروف الطارئة، وقد أرسل إلى أخته كي تعيش معي بعد وفاة والدي، وبالتالي فأن حركتي سوف تكون محسوبة، فعندما كان أبي حيّاً كنت أذهب إلى أي مكان أشاء، وأقضي الوقت الذي أريد في أي مكان، لكن الآن. صار الأمر صعباً.

-                     أفهم. أفهم. ولكن كيف سأراك ومتى.

صمتت وعلى وجهها علامات التفكير. ثم سألته:

-                     لا أدري. هل لديك مكان خاص نلتقي فيه ونتحدث؟

-                     لا. لكني سأفكر في الأمر وسأجد شيئا من هذا القبيل.

-                     هل تعيش أنت وحدك أم مع عائلتك. ؟

صدمه هذا السؤال لاسيما في مثل هذا الوقت الذي أحس فيه بأنه اقترب من هدفه، ولم يستطع أن لا يجيب عليه فقال:

-                     أنا أعيش مع عائلتي، لكني فكرت أن استأجر شقة تكون ملجأ للكتابة ولعزلتي الأدبية.

-                     هذا جيد. ولماذا لم تقم بهذا الأمر سابقاً.

-                     لأني. لأني.

فقاطعته:

-                     إذا كان السبب مادياً فأنا مستعدة لأن أدفع إيجار الشقة والإنفاق عليها، المهم أن تستأجرها. قد أبدو وكأني أتصرف بغرابة وتهور أو أبدو وكأني امرأة مستهترة لا تقيم وزناً للعادات والتقاليد الاجتماعية، فكيف بامرأة متزوجة ومن شخصية مهمة أن تأتي لرجل تريد التعرف عليه، وتطلب صداقته، وأخيرا تريد أن يستأجر شقة لكي تلتقي معه فيها، بل وتدفع له إيجار الشقة؟ امرأة مثل هذه ربما لا توجد إلا في الروايات أو في المجتمعات المتحررة وليس في مثل مجتمعنا المغلق. أليس كذلك. ؟

فقال باستسلام وكأنه يؤيد كل ما قالته أو هكذا راودته انطباعات عنها:

-                     هذا صحيح، فأنت امرأة غريبة، ومن ينظر إلى تصرفاتك وكل ما قمت به لحد الآن سيتكون لديه الانطباع الذي ذكرته قبل لحظات.

-                     أعرف ذلك، لكنك لا تعرفني جيداً.

-                     ربما.

-                     بل أكيد، فأنت تنظر إليّ كطريدة، كصيد جميل يستحق المغامرة والعناء، بل وربما سأكون حافزاً لكتابة رواية جديدة. أليس كذلك. ؟

-                     هذا أيضا صحيح لحد ما. لا أنكر.

-                      بل أكيد أيضا.

صمت هو فلم يشأ أن يتحدث كي لا يوقعه كلامه في مأزق. كانت هي تفكرّ بأشياء تدور في أعماقها، وبعد لحظات قالت له:

-                     دكتور آدم. أبي هو معلمي وصديقي، وعلمني أن أكون واضحة مع نفسي ومع الأشياء والآخرين، علمني أن أكون صريحة مع نفسي، ومع أفكاري ورغباتي، وأن أتحمل مسؤولية أي تصرف أو خطوة أخطوها أو قرار أتخذه. لكن وكما ترى الآن، أنا محطمة ووحيدة، وأحتاج إلى من أشعر بالأمان معه ليكون منبعا للقوة بالاستمرار في الحياة، وإلا فأنني سأنتهي.

-                     وزوجك. ألا تشعرين بالأمان معه.

ابتسمت بحزن. نظرت اليه للحظات وكأنها تدرس ملامحه. ثم قالت:

-                     إنه آخر إنسان يمكن أن أفكّر فيه، أو لا أفكّر فيه أصلا، لأنه بعيد عن عالمي. لا أريد أن أشكو مثل بقية النساء لتبرر تصرفاتها بالتعرف لرجال آخرين غير زوجها، فهو رجل لديه أحلامه وطموحاته وكرس حياته لهذه الأحلام والطموحات، وأنا له ديكور مكمل يحتاجه للوصول إلى هذه الأهداف. أنا بالنسبة جسد مثير يركن إليه من تعب الأيام والحياة يستمتع فيه بطريقته. في أي وقت يشاء وكيفما يشاء.

امتد بينهما صمت قصير. ثم سألها:

-                     ولماذا تزوجته إذن.

-                     أنه قريب لي. ابن خالتي. وتزوجني حينما كانت المرحومة أمي على قيد الحياة، وكانت خالتي قد طلبت يدي من أمي وأقنعت أبي. وبالمناسبة فهو رجل وسيم، وشخصية قوية، لكنه بالنسبة لي ليس زوجا. أنا لا أشعر بالأمان معه. حينما يكون في إجازة لا نجد ما نقوله بيننا سوى بعض الكلمات التافهة والعادية التي تتكرر كل مرة، ولا ينقذنا إلا زيارة أخته أو خالتي أو بعض الأقرباء الذي يتوافدون حينما يكون هو موجوداً. على أية حال. أوجعّت رأسك بهذه التفاصيل. لكني أعتقد أنك كنت تحتاج لمعرفتها. أليس كذلك!

انتبه هو إلى أنها دائما تنهي جملها بالسؤال: إليس كذلك؟ لكنه اعتبر ذلك جزء من شخصيتها وطبيعتها اللغوية. فقال لها:

-                     صحيح جداً. فأنا لا أعرفك. فأنت بالنسبة لي المرأة المجهولة. المرأة الحلم الذي يأتي ولا يأتي.

أعجبها تعبيره وتوصيفه لها. زابتسمت. ثم قالت:

-                     سأكون موجودة دائما معك. إذا كان هذا لا يضايقك طبعاً، ولا يخلخل نظام حياتك واستقرارها!

فقال بحرارة:

-                     سأكون أسعد رجل في العالم.

-                     إذن اتفقنا على تأجير الشقة وبأسرع وقت، وخذ شقة جيدة ونظيفة ولا تهتم للإيجار. اتفقنا.

-                     اتفقنا.

أجاب بتردد وخجل فلم يتوقع هو كل هذا الحوار المفصل عن حياتها الخاصة،وتسارع الأمور بينهما بهذا الشكل وإلى الحد أن تؤجر شقة ليلتقيا فيها، وفسّر الأمر بأن حالتها النفسية التي تمر فيها ربما هي التي تدفعها إلى البحث عن ملجأ آمن يعوضها عن حنان أبيها، الذي يبدو أنه كان رجلاً مثقفاً ومتحرراً، وقريبا منها، وعليه أن لا يفوت هذه الفرصة.

 أثناء ذلك قامت هي بعد وضعت منديلها في الحقيبة ثانية واتجهت نحو الباب، فنهض هو أيضا كي يوصلها، فرجته أن لا يقوم من مكانه:

-                     أرجوك أبق في مكانك. سأكون في الأسبوع القادم وفي مثل هذا اليوم عندك.

وخرجت دون أن تترك له فرصة للرد أو للقيام بتوصيلها إلى الباب.

**********

يتذكّر إنه حينما عاد إلى البيت وجد الجو مكفهراً إذ أخبرته زوجته مباشرة بأن والدته انتكست صحيا مرة أخرى، وأنها تتألم، وقد أخذت بعض المسكنات ونامت. صُدم هو عند سماع ذلك وانتابه شعور بالذنب إزاء أمه، فبينما هي تنهار صحيا وتتعذب كان هو يعيش مغامرة عاطفية محفوفة بالمخاطر، وهو يعرف ذلك، لكن رغبته تشل عقله وتخرس منطقه أحيانا.

فتح الباب على أمه في غرفتها فوجدها راقدة في نوم عميق، فأغلق الباب بهدوء ودخل غرفة المكتبة، وحينما دخلت حواء المؤمن عليه قال لها إنه يريد أن يكون وحده، وحينما سألته إن كان يحتاج لشيء فأخبرها أنه لا يحتاج لأي شيء، سوى أن يتركوه وحده.

في اليوم الثاني وبالرغم من أنه لم تكن هناك محاضرات في جدول الدكتور إلا أنه قرر أن يذهب إلى مكتبه في الجامعة، وأثناء ذهابه إلى الجامعة اشترى بعض الصحف الواسعة الانتشار ليبحث في صفحات الإعلانات عن شقة للإيجار، وهذا ما فعله بعد وصوله إلى المكتب، إذ توقف عند بعض الإعلانات عن شقق للإيجار، فسجلّها على ورقة منفصلة، ثم خرج ليقوم بمعاينتها وتأجير المناسب منها! وفعلا وجد شقة جيدة بغرفتين وصالة ومفروشة حديثاً، لكنها مرتفعة الإيجار نوعا ما، وفي منطقة الحارثية الحديثة نسبياً، والتي تسكنها الطبقة الوسطى تقريبا.

اتفق مع صاحب مكتب العقارات الذي كان هو الطرف المعلن بأن يتم ترميم بعض الأشياء الضرورية في الحمام الذي وعده صاحب المكتب بانجاز هذه النواقص خلال أيام، ووعده بالعودة إليه في الأسبوع المقبل.

**********

لم يعرف الدكتور آدم التائـه كيف مر هذا الأسبوع على الرغم من قلقه على أمه التي كانت تذبل يوما بعد يوم. في اليوم المحدد للقاء جاءت حواء الغريب إلى مكتبه كما وعدت! وبرغم كونها ما زالت في ثياب الحداد إلا أنها كانت أكثر أناقة من المرة السابقة.

ذهبا معا لرؤية الشقة، لكن كل بمفرده. بعد أن كتب لها عنوان مكتب العقارات. إلا أنه تأخر كثيراً بسبب الزحام. وصل هو بسيارة أجرة. فسيارته كانت عاطلة لسبب ميكانيكي. ولم يذهب بها إلى ورشة التصليح. لذا كان يتنقل بسيارات الأجرة بسهولة. وحينما وصل إلى مكتب العقارات وجد سيارتها هناك. ! نزل من سيارة الأجرة. وحينما دخل إلى مكتب العقارات وجدها جالسة هناك على إحدى الأرائك، فقام صاحب العقار مرحبا وكأنه يعرفه منذ زمن قائلا:

-                     أهلا دكتور. المدام وصلت قبلك، وقد عاينت الشقة بنفسها، والحمد لله أعجبتها، وقد اتفقت معها على كل التفاصيل، وقد تكرمت فأعطت إيجارا لستة أشهر مقدماً، ووقعت العقد باسمها، وكما وعدتك تم إصلاح كل النواقص التي اتفقنا عليها.

لم يجد هو حينها ما يقوله، فهو لا يعرف ما دار بينهما من حديث، لاسيما وأن صاحب المكتب أطلق عليها لقب المدام! نظر إلى حواء الغريب مستغربا فابتسمت له مشجعة.

بعد أن بارك صاحب المكتب لهما متمنيا إقامة طيبة، سألهما أن كان لديهما أطفال، فنظر هو إلى حواء الغريب وقال: لا. فعلّق صاحب المكتب بأنهما ما يزالان في عزّ شبابهما، وعليهما الاستمتاع بالحياة أولا، ثم أعطى نسخة من العقد للدكتور ونسختين منفصلتين من المفتاح الرئيس للشقة.

خلال حديث صاحب المكتب نهضت حواء الغريب، وما أن استلم الدكتور آدم التائـه نسخة من العقد ومفاتيح الشقة حتى قالت له أعطني العقد ونسخة من المفتاح كي أذهب أنا لشراء بعض الأشياء الضرورية للشقة، بينما تذهب أنت إلى جامعتك، فناولها نسخة من المفتاح والعقد دون أن يقرأ ما فيه، فقد ولدت رغبة في نفسه لحظة استلامه للعقد بأن يقرأ اسمها كاملا. مستغربا من سرعة البداهة وقوة الارتجال لديها، فهي لا تريد أن يعرف أسمها الكامل ولا أية معلومات خاصة عنها. لكنه سأل نفسه: يا ترى أية وثيقة قدمت لصاحب المكتب العقاري بحيث لا ينتبه أنها متزوجة من شخص آخر غيره؟ وما أن أعطاها نسخة من العقد والمفتاح حتى خرجت، بينما ظل هو لدقائق بعدها وهو يتبادل التحية مودعا صاحب المكتب.

بعدما أن غادر هو مكتب العقارات توجه إلى مكتبه في الجامعة، وحينما دخل الرواق وجدها واقفة بانتظاره، ففتح الباب ودخلا، وكالمعتاد جلس هو على مقعده خلف الطاولة وهي على كرسيها أمامه.

ارتبك الدكتور آدم التائـه ولم يعرف كيف يبدأ، أحس بالخجل لأنها دفعت الإيجار لستة أشهر مقدما. فقال:

-                     ما كان يجب أن تدفعي الإيجار وتوقعي العقد.

-                     ألم نتفق بأنني سأساعدك في النفقات.

-                     صحيح ولكن.

-                     إذن، ما المشكلة، ادفع أنت بعد ذلك. بالمناسبة الشقة جيدة ونظيفة والأثاث لا بأس فيه لكنه يحتاج لعدة القهوة والشاي، سأشتريها أنا، لدي مفتاحي. عموما، في الأسبوع القادم وفي مثل هذا اليوم سأنتظرك هناك في الساعة العاشرة صباحاً، لديك مفتاحك. وأتمنى أن تأتي بكتاباتك الجديدة. وإذا ما طرأ أي شيء عارض يمنع مجيئي أو مجيئك. فسأكون هناك في الأسبوع الذي يليه وفي نفس الوقت ونفس اليوم، وليكن هذا يوما وموعدا ثابتا من كل أسبوع. اتفقنا

فقال الدكتور آدم التائـه وهو يفتش جيوبه:

-                     اتفقنا.

فجأة بدأ القلق على ملامحه، وأخذ يفتش جيوبه ويقلبها:

-                     يبدو أن المفتاح قد ضاع، ربما سقط من جيبي في سيارة التاكسي.

بدا القلق على وجهها فقالت:

-                     ربما نسيته في مكتب العقارات.

-                     لا أبدا. لقد سلمني المفتاحين، أعطيتك أحدهما ووضعت الثاني في جيب سروالي.

صمتت للحظات ثم قالت:

-                     لا مشكلة، خلال الأيام القادمة سأحاول أن أعمل نسخة من مفتاحي، لكن إذا لم أستطع إيصاله إليك فسأضعه فوق الباب أو سأكون في الموعد المحدد الأسبوع القادم هناك.

قالت ذلك ثم قامت خارجة وفي عينيها ألق مجنون. بقيَ الدكتور آدم التائـه في مكتبه. دخل عليه الفرّاش أبو هابيل قائلا له بأن السيد العميد سأل عنه عدة مرات وأخبره بأنه يريد مقابلته في مكتبه حينما يكون موجودا، فسأله إن كان العميد موجود حالياً، فأخبره بأن لديه اجتماعا ً، فشكره هو ثم قام خارجا.

يتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله الجميلة والمحزنة. لاسيما حين رجع إلى البيت. وحين دخل زقاقهم في تلك الظهيرة من نهاية آيار. حيث وجد الكثير من الرجال والنساء أمام باب دارهم، فتوقع حدثاً جللا قد وقع، وخمن بأن شيئاً ما وقع لوالدته، وصدق ما توقعه، فقد كانت والدته قد فارقت الحياة، ولم يبق في ذاكرته من ذلك الموقف سوى عويل زوجته حواء المؤمن ولطمها لوجهها حزنا على رحيل الأم!

ربما يكون من الصعب وصف الحال التي كان فيها عندما سمع بفقدان أمه، فقد انهار وأخذ يبكي وينتحب كالطفل لفقدانها، حتى استغرب الكثير من الجيران من الحال التي هو فيها، فقد كانوا يهابونه وينظرون إليه نظرتهم إلى رجل قوي وأستاذ جامعي يتمتع بمكانة خاصة بينهم، ولم يكن استغرابهم هذا سلبيا بل زاد من إعجابهم به فلم يتوقعوا أنه سيكشف عن عواطفه وضعفه أمامهم بهذه الطريقة. ووجدوا في نحيبة وفاء لأمه تكشف عن طيبة قلب.

**********

بعد انتهاء مراسيم الدفن والفاتحة غرق في حزن عميق. لم تستطع زوجته حواء المؤمن أن تخفف عنه. كان ينام معظم الوقت في غرفة المكتبة على الصوفا. لم يكلم أباه إلا نادراً، مكتفيا بإلقاء التحية، بل وصارت علاقته معه أكثر جفاءً، وكأنه يحمله وزر موت أمه! وكان أكثر ما يؤلمه أنه لم يتحدث معها في فترة مرضها الأخيرة إلا نادراً، فدائما كانت نائمة حينما يأتي أو حينما يهم بالخروج تكون قد أخذت الدواء ونامت. ! وكان يتابع أخباها الصحية عن طريق زوجته.

**********

بعد أسبوعين ذهب إلى الجامعة. واضطر لمقابلة العميد الذي أخذ يحدثه بضرورة الانتماء إلى الحزب الحاكم، واخبره بأن هناك الكثير من الأقاويل والتقارير تكتب عنه وحوله، وكلها سليبة المضمون! وحينما لم يبد الدكتور آدم التائـه استعداده للانتماء إلى الحزب بدأت نبرة العميد تتغير. واخذت يشوبها التهديد المبطن بأنه يسيء استخدام مكانته كأستاذ والحرم الجامعي كحرم للعلم ليس لإقامة العلاقات العاطفية. ! انتبه هو إلى أن العميد يلمّح إلى زيارات حواء الغريب إلى مكتبه في المرات السابقة. وأخيرا أنذره العميد بأن ينتبه لنفسه وإلّا فأنه سيوقعها في مشاكل.

تذكّر أنه لم يذهب إلى الشقة المؤجرة في منطقة الحارثية لمقابلة حواء الغريب في الأسبوعين السابقين، فقد كانت وفاة أمه ضربة قوية له، بحيث احتاج لبعض الوقت كي ينتبه لما يدور حوله، وتذكّر بأن يوم الغد هو اليوم الأسبوعي المتفق عليه للقاء.

حينما عاد الدكتور آدم التائـه إلى داره ظهيرة ذلك اليوم الساخن لم يجد والده الذي عادة كان يرش باحة الدار بالماء في مثل هذا الوقت، ولم يسمع حركة لزوجته حواء المؤمن تأتي من المطبخ، فهي عادة ما تعد له الطعام، وتبقى تنتظره في المطبخ المقابل لمدخل الدار، قرب غرفة المكتبة.

 كانت صدمته كبيرة حينما دخل غرفته فوجد أباه جالسا على السرير بجانب زوجته. ارتبك هو. بل جفل. انتبه إلى أن زوجته ارتبكت أيضا. ؛ أما الأب فربما ارتبك للحظة لكنه استرجع وضعه وكأن الأمر لا يحتمل أي شك أو تفسير مريب.

قال الأب إنه كان يحدثها عن مستقبلهما، ولماذا لا ينجبان أطفالا ليزينوا بهم حياتهما الجافة، وإنه كان يسألها إن كانت هناك مشاكل بينهما أو إن عليهما مراجعة الطبيب! استقبل هو الأمر بغرابة ولم يعلق على كلام أبيه. كانت نظراته تائهة وثمة حقد دفين يتقد في أعماقهما.

انسحب الأب من الغرفة دون أن يضيف أية كلمة أخرى عارفاً أن ابنه لم يصدق كلمة مما قاله، لكنهما، الزوجة والأب لم يكونا لحظتها في وضع مريب. فقد كان أبوه جالساً بجانبها لا أكثر. ! صحيح أنه من الغريب أن يدخل غرفة نومهما وأن يجلس على سرير الزوجة وبجانبها، لكنه أبوه، ولا يمكنه أن يشك فيه. ربما هو يشك في زوجته وليس فيه!

أغلق هو باب الغرفة وبدأ ينزع ملابسه دون أن يعلق على ما شاهده. أحست حواء المؤمن بأنه شك فيما رآه. صحيح أنه لم يسألها عن أي شيء إلا أنه بات تلك الليلة في المكتبة.

**********

في اليوم التالي نهض مبكراً. خرج في حدود التاسعة، وبعد أن صار في الشارع العام أوقف سيارة أجرة، واتجه إلى منطقة الحارثية، فهو اليوم المتفق عليه.

صحيح أنه لم يذهب إلى الشقة لموعدين متتاليين لكن هذه المرة سيكون في الموعد المحدد، وسيخبرها بأن عليهما الحذر لأنه كما يبدو، وربما هي، وربما كلاهما مراقب. فهذا ما استشفه من كلام العميد!

حينما دخل البناية التي تقع الشقة فيها كانت الساعة تشير إلى العاشرة بالضبط. وهو الموعد المتفق عليه. صعد إلى الطابق الثاني. عند باب الشقة مد يده إلى الإطار الحجري الذي يطوق الباب من الأعلى فلم يجد المفتاح. نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة وثلاث دقائق. ؛ هذا يعني أنها في الداخل. هكذا فكّر مع نفسه.

 ضغط على جرس الباب مرات عديدة دونما جدوى. لم يكن هناك من أحد في الشقة. انتظر قرب المصعد لعشر دقائق أخرى عسى أن تأتي، ولم تأت، فنزل سريعا على درجات السلم.

عند باب البناية لاحظ حارس البناية والمسئول عن خدماتها جالسا على علبة من الصفيح وهو يشرب الشاي، فقام له محييا.

حينما خرج من البناية أوقف سيارة أجرة واتجه إلى الجامعة، قائلا لنفسه بأنها ربما ستأتيه إلى هناك لأنها لم تفهم لماذا لم يأت خلال المرتين الفائتتين!

 حين وصل الجامعة ودخل الممر المؤدي إلى مكتبه أصيب بالخيبة لأنه لم يجدها واقفة تنتظره. قفل راجعا من حيت أتى، وفي الشارع أخذ سيارة أجرة ذاهبا إلى الشقة ثانية، فعسى أن تكون هناك تنتظره!

**********

حينما دخل المبنى وجد الحارس جالسا في مكانه. فكر مع نفسه في هذا الرجل الذي لم يترك مكانه خلال ساعتين تقريبا. صعد إلى الطابق الثاني حيث الشقة، وضغط على جرسها لمرات عدة فلم يجيبه أحد.

نزل قلقاً. مرّ من أمام الحارس. راودته خاطرة بأن يسأله عن حواء الغريب، لكنه تراجع لأن ذلك ربما يثير فضوله ويثير الشكوك. خرج من المبنى، وانتظر قليلا في الشارع إلى أن جاءت سيارة أجرة فأوقفها ودخل راكباً.

لا يدري لماذا إستذكر ما دار بينه وبين العميد من حوار وما غمز به العميد من استخدام الحرم الجامعي مكانا للعلاقات العاطفية. تُرى هل تتبعوها وعرفوا من هي ومن تكون ومن هو زوجها. ؟ شعر بالخوف وبحالة ترقب لكارثة قد تحصل، لكنه لا يعرف كيف ومن أين!

**********

كانت تلك الفترة هي التي تسبق الامتحانات بأيام لذا كان لديه بعض الوقت للكتابة، ولم تكن لديه الرغبة بالخروج إلا في اليوم المتفق عليه بينهما، لكنه وهو في البيت لم يشأ أن تلتقي زوجته مع أبيه بأي شكل كان إلا لواجبات تقديم الطعام والدواء.

كان يدعوها أن تكون معه في المكتبة عندما يكون هناك أو في غرفة النوم، ولم يكن له أي علاقة أو تواصل مع أبيه. خلال هذه الفترة اقترب أكثر من زوجته حواء المؤمن التي كانت تذكّره بأمه. لم ينس بأن أمه كانت تحبها وهي تحب أمه بإخلاص أيضا، وكان حزنها بفقدانها حقيقيا، لذا كان يتعاطف معها، لكنه من ناحية أخرى وخلال تواجدهما أطولَ الوقت في مكان واحد اقترب منها أكثر وأكتشف عالمها الجسدي بشكل كامل، وهذا ما خفف من رغبته الواهية أصلا في الخروج من البيت والذهاب إلى الجامعة.

كان وضع والده يزداد سوءا، وكانت زوجته حواء المؤمن تطلب منه أحيانا أن يتحدث معه أو يزوره لأنه صار لا يطاق، فهو عصبي وحاد المزاج، وأحيانا يرفض تعاطي الدواء، إلّا أن زوجها كان يرفض طلبها بشدة ويبدي غضبه دونما أي تعليق أو تفسير.

وفي يوم اللقاء الموعود في الأسبوع التالي نهض مبكراً. حلق لحيته إذ أنه منذ وفاة زوجته لم يكن يحلق لحيته إلّا حينما يخرج إلى الجامعة التي صار يرتادها مرة في الأسبوع. وفي الشارع أوقف سيارة أجرة وتوجه إلى الحارثية حيث الشقة المؤجرة التي لم يدخلها غير مرة مع صاحب مكتب العقار.

**********

عندما دخل المنطقة التي تتواجد فيها البناية أحس أن شيئا غير طبيعي يجري. ثمة سيارة إسعاف وسيارات النجدة التابعة للشرطة. طلب من السائق أن يسير بهدوء، وحين صارت السيارة على مقربة من البناية سمع صاحب مكتب العقارات يروي بارتباك لضابط من الشرطة ورجل مدني معه وآخرين تجمعوا حولهم في حلقة دائرية، كا ما يعرفه عنهما. طلب هو من السائق أن يتوقف للحظة ليعرف ما يجري. توقفت السيارة على مسافة بحيث يسمع الكلام من صاحب المكتب:

-                     لقد سجّلت العقد باسمها، وكان معها زوجها واعتقد أنه أستاذ في الجامعة، لكنهما لم يسكنا الشقة أبدا، فقد كانت تأتي مرة في الأسبوع وفي وقت محدد وتبقى لساعة أو أكثر وتخرج. هذا ما أخبرني به الحارس. وزوجها أيضا لم يكن متواجدا في الشقة بل جاء مرة في نفس اليوم الذي كانت تأتي فيه عادة لكنها صدفة لم تأت ذلك اليوم، ومرة ثانية كانت هي موجودة، لكنه صعد ونزل وخرج، ثم عاد بعد حوالي ساعتين وصعد وخرج أيضا، بينما هي لم تخرج. إلى أن تصاعدت رائحة كريهة جدا ًفي البناية كلها واشتكى بعض الساكنين منها، وعندما أخذ الحارس يتتبع الرائحة وصل إلى الشقة فطرق الباب وحينما لم يجبه أحد طلب مني أن أزوده بالمفتاح الإضافي.

طلب هو من السائق أن ينطلق وحاول جاهداً أن يحافظ على توازنه كي لا يكتشف السائق اضطرابه. ما أن ابتعدت السيارة عن مكان البناية ودلفت إلى شارع فرعي حتى أوقف السيارة ونزل منها بعد أن نقد السائق الأجرة. مشى سريعا متجها إلى شارع عام آخر وأوقف سيارة أجرة أخرى وركبها متجها إلى البيت.

**********

بقيَ هو لأيام يعيش قصصا وتخيلات مرعبة. كيف ماتت حواء الغريب. ؟ هل قُتلت أم كان حادثا. ؟ ربما عرف زوجها بالأمر. ؟ وإذا ما كان الأمر كذلك فربما يعرفون عن علاقته معها. ؟ لكن صاحب العقار لا يعرف اسمه ولا يعرف في أي كلية يحاضر، كما أن العقد مكتوب باسمها، ولم تتكرر زيارته إلى الشقة ولا أعتقد أن أحداً يمكن أن يستذكره. ؟!.

بعد أيام حاول الذهاب إلى الجامعة. ما أن دخل الرواق الذي يقع فيه مكتبه حتى صادفه الفراش أبو هابيل، الذي أخبره بهمس بأن هناك أشخاصاً مدنيين جاءوا يسألون عنه، لكنه لم يكن موجوداً، وسألوا عن عنوانه، لكن العنوان الموجود في الإدارة هو العنوان القديم.

لم يرتبك. وكأن الأمر لا يخيفه. لكنه لم يتجه إلى مكتبه فقد أبدى للفراش أبي هابيل بأنه قد نسيَ شيئاً، وعليه أن يرجع ليأخذه. خرج من الكلية مسرعاً. عاد إلى البيت مذعوراً، لكنه حاول أن لا يبين لزوجته أي شيء. أحس بحاجته الكبيرة لها، ولم يكن يعرف أنه سيلجأ إليها وسيحتاجها إلى هذا الحد؟

فكر في الهروب بأقصى سرعة، لكن ماذا يفعل بأبيه المريض. ؟ عليه أن يتخلص منه بطريقة ما! ظل لياليَ يفكر في الأمر، إلى أن جاءته فكرة أن يضعه في دار للعجزة. وفعلا بحث عن ملجأ للعجزة، ودفع كل الرسوم لخمس سنوات مسبقاً. قبلت إدارة الدار مبلغ السنة ووضعت المبالغ الأخرى إيداعا عندها، إذ شرح لهم بأنه سيذهب إلى إحدى الدول للتدريس لأن لديه عقد عمل هناك، فوافقوا.

**********

بعد بضعة أيام من دفعه رسوم الملجأ جاء رجال إلى الدار لأخذ أبيه الذي أعترض، وأخذ يسبه ويسب زوجته ويشتمها بأقذر الألفاظ ظنا منه أنها هي التي لا تريد خدمته وطلبت من زوجها إيداعه في دار العجزة!

بعد ذلك باع الدار بمبلغ أرخص بكثير من سعره الاعتيادي، وكذلك سيارته شبه العاطلة. وحوّل المبالغ إلى الدولار في البنك والسوق السوداء. وسافر مع زوجته إلى الأردن، ومنها إلى ألمانيا، وطلبا اللجوء السياسي فيها.

**********

في بداية علاقته وتعرفه على حواء الغريب بدأ في كتابة روايته الجديدة التي وضع لها عنوانين الأول هو (المرأة المجهـولة) والثاني هو(متـاهـة آدم)، لكن هذه الرواية أخذت تتطور مع تطور الأحداث، وهو لم ينته منها، ولا يعرف كيف ينهيها. إنها متاهة حقيقية، متاهته هو آدم التائـه.

الآن. هو يحس بأن الأحداث التي جرت في الواقع، وما تراكم لديه من تجارب يومية مع اللاجئين، وغياب الوسط الثقافي والفكري من محيطه، قد أثرت على شخصيته بشكل كبير. صار يتعرف على اللصوص وعصابات الأجانب ويشاهد الأفلام الإباحية، وابتعد كثيرا عن زوجته حواء المؤمن، بل أحس أن وجودها صار عائقا بالنسبة إليه. لكن عليه أن ينتهي من هذه الرواية.

**********

آدم البغـدادي: هذا الفصل يمكن بحد ذاته أن يكون رواية، لكني أعرف بأن الدكتور آدم التائـه سيمر بتحولات كبيرة في الفصول اللاحقة، وأنه سيكتب روايته (المرأة المجهولة) أو (متاهة آدم) وسيواجهه السؤال الإبداعي نفسه الذي واجهني أنا، آدم البغدادي، حينما بدأت برسم شخصية الدكتور آدم التائـه هذه، وهو: إلى أي حد يستطيع الدكتور آدم التائه أن يعيد صياغة الواقع والأحداث والشخصيات ويضيف عليها. ؟ هل سيكتب نصاً روائياً مستمِداً مادته من بعض ما جرى له مع السيدة حواء الغريب، المرأة المجهولة، التي لا يعرف اسمها الكامل، ولا أين تسكن، أو من أين هي؟ ومن هو زوجها. ؟ وأين كانت حينما ضغط جرس الشقة. ؟ وكيف ماتت؟

لكن إلى أي حد أستطيع أنا آدم البغدادي أن أتحكم في مشاعر وسلوكية الدكتور آدم التائـه. ؟ هل هذه النزعات الجنسية التي تتجسد من خلال شخصية الدكتور آدم التائـه هي حقيقية أم أنها نزعات مكبوتة عندي أنا آدم البغدادي الكاتب. ؟

لكن من هي حـواء الغريب حقاً. ؟ هل توجـد مثل هذه المـرأة في الواقــع. ؟ من أين انبثقت في ذهني. ؟ أذكر أنني صادفت امرأة متزوجة حينما كنتُ طالبا. تعرفتُ عليها صدفة عند صديقي الصائغ المندائي آدم العيداني. جاءت لتشتري ذهبا وحليا. عرفت أنها زوجة ضابط عسكري لكنها لم تعطني الكثير من المعلومات عن شخصيتها. أتذكر أني كنت ألتقي بها في دكان صديقي. ندخل غرفة صغيرة جداً في أقصى الدكان، أمارس الجنس معها. لكنها اختفت فجأة. تُرى هل كانت هذه المرأة هي التخطيط الأولي لشخصية حـواء الغريب التي وضعتها في علاقة مع الدكتور آدم التائه. ؟ وأنها كانت تسكن في قاع الذاكرة واللاوعي؟ ربما. وربما لا.

الـــفــــصــــــــــل الـــســـــــابــــع
حـمــــــــــــار فــي الســـــريــر
حين خرجت حواء المؤمن من الحمام وقد لبست ثوباً شفافا، مبتلة الشعر، دخلت المطبخ. صبت لنفسها ولزوجها الشاي في كوبين وحملت أحدهما إليه. وجدته ينظر متأملا في الورقة البيضاء التي أمامه. وضعت كوب القهوة أمامه. كان منهمكاً بالكتابة. لم ينتبه إليها للحظة، لكنه سرعان ما نظر إليها وكأنه فوجيء بوجودها. نظر إليها بتأمل، حيث كان ثوبها الشفاف قد التصق بجسدها المبتل، ولم تكن ترتدي شيئاً تحت الثوب فشعر بدبيب الرغبة يسري في عروقه، لكنه فجأة قال لها:

-                     اجلسي. بودي أن أسالك شيئاً.

نظرت إليه باستغراب وتوجست من سؤاله:

-                     خيرا إن شاء الله.

-                     خير. لا تقلقي. أنا أحتاج رأيك في أمرٍ ما.

نظرت إليه بدهشة وقالت:

-                     تحتاج رأيي؟ أنت الدكتور والأستاذ الجامعي تحتاج إلى رأيي.

نظر إليها بطيبة وهدوء وثقة وقال:

-                     نعم. ولِمَ لا. اجلسي.

-                      هل سيطول الحديث؟

-                     لا ادري. هذا متعلق بك.

-                     إذن دعني آتي بكوبي.

-                     طيب. بسرعة

خرجت حواء المؤمن إلى المطبخ للحظة ثم عادت وهي تحمل كوبها. جلست على الصوفا التي بجانب طاولة المكتب. نظر إليها زوجها بتأمل ورقة وقال لها:

-                     سوف أروي لكي قصة من دون تفاصيل كثيرة. أحتاج رأيك في احتمالاتها، لأني محتار في نهايتها.

-                     اسمع أولا.

-                     طيب. كان هناك رجل ارتبط بامرأة متزوجة. وكان يزورها في شقتها. وذات يوم اتفقت معه على أن يزورها الساعة العاشرة صباحا لأن زوجها مسافر خارج البلاد. ذهب الرجل إليها في الموعد المحدد. طرق الباب مرات عديدة لكن لم يكن هناك أحد في الشقة. بعد أيام جاءت الشرطة لتعتقله متهمة إياه بقتلها. لقد وجدت مقتولة في شقتها. الطبيب الشرعي حدد ساعة الجريمة في الساعة العاشرة صباحا.

-                     كيف تتهمه وهو لم يقتلها.

-                     المشكلة هنا. جميع الأدلة ضده.

-                     أية أدلة.

-                     البواب كان يعرفه. وحينما دخل البناية في ذلك الوقت شاءت الصدف أن يكون البواب موجوداً.

استغربت حواء المؤمن من هذه القصة فقالت وهي سعيدة أن تشارك زوجها الدكتور أفكاره وأنه يأخذ رأيها في أمر مهم كهذا:

-                     ربما زوجها عرف بعلاقتهما فقتلها؟

-                     زوجها كان عسكرياً وغير موجود في المدينة.

-                     ربما ثمة لص دخل الشقة وقام بالجريمة. ؟

-                     لم يُسرق أي شيء من الشقة. فحقيبتها لم تمس وكذلك المجوهرات التي كانت ترتديها.

-                     ربما لديها أخ أو عشيق آخر عرف بعلاقتها بالرجل الجديد فدخل وقتلها بعد صراع بينهما. ؟

-                     لم يجدوا أي علامات عنف على وجهها، ولا أي توتر أو رعب أو مفاجأة لوجود قاتل. كانت في أبهى زينتها. وكانت مطعونة بسكين من الخلف. وليس في الشقة أي أثر لأحداث عنف أو شجار.

-                     حيرتني!

-                     هي حيرة بالفعل. لأن الدلائل كلها تدين صاحبنا البطل.

-                     لكنه بريء. ؟

-                     لكنه أمام القانون مجرم!

-                      أي قانون هذا الذي يحكم على البريء لأنه لا يستطيع إثبات براءته. ؟ نحن نعرف الحقيقية هو أنه لم يقترف الجريمة!

-                     القانون هو القانون. على الرجل إثبات براءته.

-                     لكن هذا ليس عدلا. ؟!.

-                     وهل القوانين تحقق العدالة كما تعتقدين. ؟

-                     هكذا أفهم القانون.

-                     وفي حالة بطلنا المسكين.

-                     لا أدري. أنت قلت بأنه لم يجد أحدا في الشقة حينما كان هناك في الموعد المحدد. وهو لم يدخل إليها، علما أن المرأة قُتلت في ذلك الوقت بالضبط!

-                     هذا صحيح,,

-                     ألم يسمع هو صراخا أو عراكا أو حتى صوتا قادما من الشقة في تلك اللحظات. ؟

-                     أبداً.

-                     هذه ورطة حقيقية. ! أنت ماذا تعتقد. ؟

-                     لا أدري. لماذا أسالك إذن. ؟

-                     هل هذا حقيقة أم أنها قصة تكتبها. ؟

-                     نعم. إنها قصة أكتبها أو كتبتها، لكني لا أستطيع أن أجد نهاية لها.

-                     هل يمكنني قرأتها. ؟

-                     يمكنك لكن ليس الآن.

-                     متى أستطيع قراءتها؟

-                     قلت ليس الآن.

كانا يتحدثان ويرتشفان الشاي. شعرت حواء المؤمن بالسعادة وهي تراه يحدثها بجدية واحترام، إلا في اللحظات الأخيرة حينما ألحت عليه في ما يخص قراءة القصة فتغيرت لهجته معها.

أرادت حواء المؤمن أن ترضيه وأن تتقرب منه إذ أحسته للحظات قريبا منها. قامت واستدارت حول الطاولة ووقفت إلى جانب كرسيه. أحس بحضورها الهائل، وبرغبتها الخفية في أن تكون قريبة منه. انحنى للأسفل قليلا ثم مد يده تحت ثوبها وصعد إلى الأعلى مداعبا ما بين فخذيها، وجدها رطبة. لكنه ولرغبة عمياء في داخله أراد أن يعذبها فأستمر يداعبها برقة ويثيرها بينما كانت هي واقفة لا تتحرك من مكانها، إلّ أن الرغبة كانت تتأجج في جسدها. وحينما وجد بأنها بدأت تقترب من الذروة سحب يده فجأة. ارتبكت، ولم تعرف ماذا تفعل. أحست بإحباط شديد. لم تعرف لماذا توقف، وما الذي بدر منها كي يتوقف فجأة. ظلت لدقائق واقفة عسى أن يواصل مداعباته، لكنه أبدى انشغالاً بالورقة التي أمامه.

غضبت حواء المؤمن من نفسها ومن زوجها. خرجت من الغرفة متجهة إلى غرفتها. حينما دخلت الغرفة فوجئت بوجود جسد متمدد في السرير، ولا يظهر منه سوى رأسه الذي هو رأس حمار. أرادت أن تصرخ، لكنها حينما نظرت ثانية لم تجد شيئا.

أصابها الذعر مما رأته أو خيل لها أنها رأته. فكرت للحظة عن معنى وجود حمار في السرير. خرجت من الغرفة إلى المطبخ للحظات. سمعت صوت بكاء طفل قادم من الغرفة. دخلت مذعورة إلى الغرفة فلم تجد أي شيء. شعرت بالخوف. خرجت من الغرفة متجهة إلى الغرفة الأخرى حيث زوجها. نظر إليها بتساؤل حين رآها خائفة قائلا:

-                     خيراً. هل جرى شيء ما. ؟

فسألته بنبرة مشوبة بالخوف:

-                     هل سمعت بكاء طفل. ؟

-                     لا.

-                     لكني سمعته في غرفة النوم!

نظر إليها مستغربا. ثم قال بهدوء:

-                     إنك تتوهمين. ربما ابن الجيران.

-                     الجار الذي يسكن معنا في الطابق وبابه قريب من بابنا لا عائلة لديه. الجيران في الطابق الأول ليس لديهم طفل رضيع.

-                     إذن. مجرد وهم لا أكثر.

-                     لكني سمعته مثلما أسمعك الآن. !

نظر إليها وفكر بأنها ربما تفكر بإنجاب طفل لذلك يراودها مثال هذا الوهم. فقال لها:

-                     يحصل أحياناً أن نرى أو نسمع أشياء غريبة.

-                     ربما. لكنني أيضاً رأيت رأس حمار في السرير.

نظر إليها مستفسرا ثم ابتسم قائلا:

-                     حمار في السرير. ؟

-                     نعم. أقسم بجميع الأئمة والمقدسات.

ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة. وقال:

-                      وبعد ذلك. ؟

-                     اختفى. أقصد حينما أعدت النظر ثانية لم يكن هناك أي شيء.

-                     غريب أن تري حمارا في السرير. ؟

لم يعلق أكثر إذ غرق في صمته وكأنه يحلل ما قالته. ظلت هي تنتظر للحظات لمواصلة الحديث لكنها استمر في صمته، تائها في أفكاره. خرجت من الغرفة واتجهت لغرفتها.

في غرفتها جلست أمام المرآة تمشط شعرها، بينما ظل الدكتور يفكر في الدلالات الجنسية لوجود حمار في السرير زوجته. فكر مع نفسه: ربما لأنها امرأة شهوانية لذلك انعكست رغباتها الدفينة برموز حيوانية، حيث يتميز الحمار بعضوه الكبير والطويل. ؟ وأن هذه الرغبات الدفينة لم تستطع كبتها فتجلت لها بهذه الصورة؟ لاسيما أنها كانت مثارة بشكل كبير لذا فأن عقلها الباطن حاول إشباع رغبتها بتجسيد الحمار في سريرها!

**********

ظل آدم التائه طوال اليوم منهمكا بالكتابة. شرب الشاي. والنسكافيه. والقهوة. تناول الطعام متأخراً. بقي يكتب! كانت حواء المؤمن تعرف طقوس الكتابة لديه، فكانت لا تقترب منه. وتحافظ على أقصى ما تستطيع من هدوء في البيت. لكنها تدخل عليه بين فترة وأخرى لتسأله إن كان يريد شاياً أو نسكافية أو قهوة.

حين جاء المساء. دخلت بهدوء وجلست على الصوفا. ظلت تنظر إليه وهو يكتب. لم تبق طويلا. مضت إلى غرفتها. بينما ظل هو يكتب إلى ساعات الفجر الأولى.

خلال هذه الساعات كانت حواء المؤمن تفكر بالحكاية التي رواها لها عن الشخص الذي جاء الشقة فوجد عشيقته قتيلة. ظلت تفكر بالقاتل. محاولة أن تكتشفه. أحست بالعجز. ظلت تفكر بالرواية التي ينهمك زوجها بكتابتها. ودت لو قرأتها. !!.

**********

آدم البغـدادي: أحس أن ثمة شيئاً ناقصاً في هذا الفصل. ربما من المفيد إنهاء الفصل بطريقة أخرى، أي أن الدكتور آدم التائـه بعد هذا التفسير الفرويدي لرؤية حواء المؤمن حماراً في السرير كان عليه أن يقوم من مكانه ويذهب إليها، لاسيما وأنها كانت متهيجة، وهناك يحاول أن يطفئ رغبتها المتأججة. التي أوحت لها بهذه الرؤية الغريبة!!.

الــفـــصـــــــل الـــثــــــــــامــــــــن
المــــرأة المجــهولــة
استيقظت حواء المؤمن صباحا على شخير زوجها النائم على الأريكة في غرفة الاستقبال. كان الشخير عالياً ومزعجاً. اعتقدت أنه غير مرتاح في النوم. مرت بالمطبخ. بدأت تغلي الماء لإعداد الشاي. ثم مضت إلى حيث ينام في الصالة. هي تعرف أنه حي يتأخر في الكتابة ينام هناك. حاولت إيقاظه قائلة له:

-                     دكتور. دكتور. قم إلى سريرك في غرفة النوم

لم يستيقظ آدم التائه مباشرة، وحينما هزته ثانية برفق فز من نومه مرعوبا وكأنه مطارد من قوى مجهولة، وتمتم بخوف:

-                     ماذا. ماذا حصل. ؟

فقالت له حواء المؤمن بهدوء وهي تنظر إليه بإشفاق:

-                     لا شيء. لم يحدث أي شيء. فقط انهض وخذ راحتك على السرير. يبدو أنك تعبت البارحة جداً.

انتبه لما هو فيه وعرف أنه نام بعد تعب شديد من التفكير. بهدوء استيقظ لكنه نظر إلى الساعة الحائطية فقام بسرعة وهو يقول:

-                     الساعة الحادية عشرة. لدي موعد لدى دائرة المساعدات الاجتماعية. علي أن أذهب. وربما سأتأخر اليوم إلى المساء لأنني سأذهب مع أصدقائي إلى مدينة (إيسن).

نهض خارجا من الغرفة وذاهبا باتجاه الحمام. تبعته زوجته متجهة إلى المطبخ لتعد لهما الفطور.

بعد قليل خرج من الحمام وهو ينشف وجهه بمنشفة وردية. كانت حواء المؤمن قد صبت الشاي في كوبين وأخرجت علبة المربى مع علبة القشطة من الثلاجة كما كانت قد وضعت الخبز في جهاز التسخين الكهربائي. كانت تريد أن تضع هذه الأشياء في صينية لتذهب إلى غرفة الاستقبال كي يفطرا إلا أن زوجها كان كما يبدو مستعجلا فعلا، لذا أخذ الخبز وبدأ الأكل وهو واقف في المطبخ. حينما نظرت إليه زوجته باستغراب نظر هو إليها مستفهما ثم قال:

-                     لماذا تنظرين إليّ هكذا. ؟ ألم أقل إنني مستعجل ولدي موعد.

ثم أخذ يشرب الشاي بسرعة بجرعات كبيرة، وما أن انتهى حتى خرج مسرعا من الشقة، بينما ظلت حواء المؤمن وحيدة. وضعت كوبها وقطعة من الخبز وشيئاً من القشطة والمربى في الصينية وحملتها إلى الغرفة الثانية، ثم جلست لتأخذ فطورها لكن قبل ذلك ضغطت على زر الريموت كونترول فبدأ بث التلفزيون.

**********

بعد أن أنهت حواء المؤمن فطورها انتبهت إلى الأوراق المبعثرة على طاولة الكتابة. راودها شعور غريب وفضول حارق بالاطّلاع على هذه القصة التي يكتبها زوجها. وبما أنه سيغيب اليوم عن البيت طويلا فبإمكانها قراءة ما مكتوب! فجأة اجتاحتها حيوية غريبة. قامت من مكانها. أغلقت الباب الخارجي بالمفتاح. عادت إلى الصالة. اقتربت من الطاولة. جلست على الكرسي الذي يجلس عليه زوجها عند الكتابة. أخذت رزمة الأوراق المرتبة. قرأت على الصفحة الأولى العنوان (المرأة المجهولة). وتحته قرأت عنوانا آخر وضع زوجها تحته خطوطا عديدة (متـاهـة آدم).

فجأة. قامت للحظة حاملة الصينية إلى المطبخ، ثم عادت بكوب مليء بالشاي وجلست ثانية لقراءة القصة. قلبت ورقة العنوان وتوغلت في القراءة:

المــــرأة الـمجـــهولــة
أو
مـتــــــاهـــــــة آدم

(1)
كانت الساعة في حدود العاشرة صباحا حينما دخل المهندس آدم المطرود إلى الشقة التي تقع في الطابق الول من مبنى حديث البناء. والتي هي مكتبه الهندسي فوجد أن سكرتيرته حواء اللهيبي، التي كانت في بداية الثلاثين من العمر، ترتب بعض الخرائط والملفات الموجودة على طاولة مكتبها، فبادرها مرحا:

-                     صباح الخير

فالتفتت إليه وقالت وهي تبتسم بعذوبة:

-                     صباح النور أستاذ آدم.

دخل المهندس آدم المطرود إلى مكتبه الخاص بينما استمرت السكرتيرة حواء اللهيبي بترتيبها للخرائط والملفات. بعد فترة وجيزة توقفت. أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها ونظرت لنفسها ثم أخرجت قلما للشفاه ومررته على شفتيها ورشت على نفسها عطرا من قنينة أخرجتها أيضا من حقيبتها، وبعد ذلك لحظات دخلت إلى المكتب.

حينما دخلت حواء اللهيبي المكتب كان المهندس آدم المطرود مشغولا بوضع أدواته الهندسية على الطاولة التي يرسم عليها الخرائط. تقدمت منه وهي تسعى إلى لفت انتباهه. تنحنحت قليلا وهي تبتسم فانتبه لها فقالت:

-                     نسيت أن أخبرك بأن المحقق الجنائي آدم التكريتي جاء إلى المكتب وسأل عنك، فأخبرته بأنك ستكون هنا في الساعة العاشرة فقال أنه سيطلبك تليفونيا.

نظر المهندس آدم المطرود إلى ساعته وقال مستغرباً:

-                     آدم التكريتي. ؟ المحقق الجنائي المعروف بنفسه يطلبني. ؟ لقد مرت عشر دقائق على العاشرة.

ولم يكمل المهندس آدم المطرود جملته حينما رن جرس التليفون في مكتب السكرتيرة فخرجت مسرعة وهي تقول:

-                     ربما هو!

خرجت مسرعة كي ترد على المكالمة. حين رفعت سماعة التلفون في مكتبها كان المحقق آدم التكريتي فعلا على الخط، فضغطت على جهاز للنداء القريب يصلها بمكتب مديرها وقالت له:

-                     المحقق آدم التكريتي على الخط أستاذ آدم.

-                     صليني معه.

-                     حاضر.

ضغطت على زر التوصيل بينهما ثم وضعت السماعة.

في غرفته رفع المهندس آدم المطرود سمعة الهاتف. أخذ يكلم المحقق آدم التكريتي المعروف في المدينة وفي وسائل الإعلام:

-                     الأستاذ آدم التكريتي. يا أهلا وسهلاً. صباح الخير. نعم أخبرتني السكرتيرة قبل لحظات عن زيارتك للمكتب وأنا آسف جداً لأني لم أكن موجوداً. بماذا أستطيع أن أفيدكم. (صمت للحظات). ماذا. ؟ تحتاجني سريعاً ولمدة نصف ساعة. ؟ (صمت للحظات). أمر ضروري جدا. ؟ طيب. سأكون عندك خلال نصف ساعة.

وضع المهندس آدم المطرود السماعة. أخذ يفكّر مع نفسه للحظات: ما هو الأمر الضروري الذي يطلبني فيه آدم التكريتي أشهر محقق في المدينة. ؟

خلال هذه الأثناء دخلت حواء اللهيبي المكتب وسألته:

-                     هل أعد لحضرتك القهوة. ؟

فقال لها وهو يعد نفسه للخروج قائلا:

-                     لا شكرا. سأذهب حالاً إلى مكتب التحقيقات. إنهم يحتاجونني هناك لبعض الوقت في موضوع مهم لا أعرف ما هو!

**********

غادر المهندس آدم المطرود المكتب على عجلٍ. شعرت السكرتيرة حواء اللهيبي بالخيبة. ليس لأنه خرج فحسب وإنما لأنه خرج دون أن ينتبه إليها، ولم يعلق أي شيء في هيئتها، فمن عادته أن يعلق على ملابسها وأناقتها ويمتدحها إذا ما أعجبته أو أن يعلق بكلمات رقيقة عن عطرها. لكنه اليوم خرج مسرعا ولم ينتبه إلى أنها استخدمت عطرا فرنسيا جديدا.

**********

واصلت حواء المؤمن القراءة. أعجبتها البداية المشوقة. كما أعجبها أن زوجها استخدم اسم (حواء) في روايته. ظنت أنه يكتب عنها، لذلك سألت نفسه: لماذا اختارني لأكون سكرتيرة له؟ ولماذا أطلق لقب اللهيبي عليّ. ؟ لكن سألت نفسها أيضاً: من قال إنه يقصدني أصلاً. ؟

داهمها الفضول لمعرفة ما سيحدث، فواصلت قراءة الفصل الثاني.

(2)
حينما دخل المهندس آدم المطرود إلى دائرة التحقيقات الجنائية أوقفه أحد الموظفين وسأله:

-                     هل أستطيع أن أخدمك؟ هل جئت لرؤية أحد؟

ارتبك آدم المطرود لثوان. ثم قال موضحاً:

-                     - نعم. لدي موعد مع السيد آدم التكريتي.

اطمئن الموظف حينما سمع اسم آدم التكريتي واشار بذراعه وهو يقول:

-                     مكتبه عند نهاية الممر هناك. في الطابق الأول من المبنى.

-                     شكرا جزيلا.

مضى المهندس آدم المطرود صاعداً إلى الطابق الأول. وفي نهاية الممر وجد غرفة شبه مفتوحة. نظر إلى داخلها فوجد المحقق آدم التكريتي جالساً يشرب القهوة، وكان يعرفه لأكونه يظهر كثيرا في وسائل الإعلام. نظر المحقق إليه. لم يعرفه أول وهلة. لكنه أدرك المهندي آدم المطرود الذي ينتظره. وما أن دخل حتى قام له المحقق مرحباً. فقدم آدم المطرود نفسه:

-                     المهندس آدم المطرود.

ابتسم المحقق له وهو يقول:

-                     أهلا أستاذ آدم. أهلا وسهلا. تفضل استرح. هل تشرب شيئاً؟

-                     شكرا جزيلا.

-                     ضروري أن تشرب شيئا.

-                     شكرا جزيلا. فقط أردت أن أعرف بماذا يمكنني أن أفيدكم.

صمت المحقق للحظات وكأنه كان يفكر بالكيفية التي يجب عليه بدء الحديث بهل. وبهدوء وبلا أي توتر، بل وبتركيز شديد في نظراته حدق في وجه آدم المطرود وقال:

-                     يمكنك أن تفيدنا جداً. ويمكنك أن تتعبنا جداً. الأمر متوقف عليك.

أحس آدم المطرود من جملته الثانية (ويمكنك أن تتعبنا جداً) ببرودة تسري في أعماقه. فليس من السهل ان تتعب أجهزة الدوبة. فقال بتوتر:

-                     متوقف عليّ. ؟ إذا كان الأمر كذلك فيسرني طبعا أن أساعدكم.

انشغل المحقق بفتح علبة سجائره للحظات وكأن المهندس آدم المطرود غير موجود، ثم فجأة نظر في عينيه محدقا فيهما بتركيز قائلا:

-                     أستاذ آدم. سأسألك سؤالاً أرجو أن تجيبني عليه بدقة.

-                     تفضل.

صمت المحقق للحظات. أخذ سيجارة من علبة السجائر. ومدّها إلى آدم المطرود دون أن يسأله. فوضع الآخر يده على صدره علامة على التشكر، وبلع ريقه، فلم تكن الكلمات تخرج من فمه من شدّة التوتر. فقد كان ينتظر السؤال الحاسم.

-                     متى شاهدتَ السيدة حــواء الصايغ آخر مرة. ؟

أحس المهندس آدم المطرود برعشة تسري في جسده. إذن هم يعرفون علاقته بالسيدة حواء الصايغ، وليس من الحكمة أن ينكر لكنه أراد كسب بعض الوقت، فسأل:

-                     أي حواء. ؟

ابتسم المحقق آدم التكريتي بخبث وكأنه يقول له لا تلعب معنا فنحن نعرف كل شيء. صمت للحظات. سحب نفساً طويلاً من سيجارته. ونفث دخانها إلى الأعلى ثم قال:

-                     كم حواء توجد. ؟ نحن نسأل عن تلك الحواء التي تعرفها يا أستاذ آدم، حواء الصايغ زوجة الأستاذ آدم الولهان، ونحن نعرف عن علاقتك معها منذ. منذ. منذ أن كنتما في الجنة! قال جملته الأخيرة مبتسما.

ارتبك آدم المطرود. كان يريد أن يرتب أفكاره ويكسب بعض الوقت، فقال محاولاً أن يسيطر على نبرة صوته:

-                     طيب. إذن كنت تقصد السيدة حواء الصايغ. !

نظر المحقق إليه بابتسامة مشوبة باستخفاف وقال:

-                     هكذا بدأت تتعاون معنا.

صمت آدم المطرود للحظات وكأنه يحاول أن يتذكر، وقال:

-                     منذ أسبوع أو خمسة أيام كما أعتقد، لا أتذكر تماما.

حدق المحقق آدم التكريتي منحنياً على طاولة المكتب وقال له بنبرة حازمة:

-                     يجب أن تتذكر يا سيد آدم.

أحس المهندس آدم المطرود بالارتباك حينما خاطبه المحقق بلقب "السيد" وليس "الأستاذ" حينما بدأ الحوار بينهما، وأراد أن يخفي ارتباكه، فأخذ يسترسل من حيث لا ضرورة للاسترسال:

-                     إنني لا أذكر تماما. فأنا أراها في أماكن متعددة. أحيانا في "نادي العلوية" وأحيانا في "نادي الصيد"، وأحيانا في مطعم ما، وأحيانا أزورهم في البيت. يعني أراها بمناسبة وبدون مناسبة، وأحياناً أقابلها صدفة في الأسواق، لكن ذلك لا يعني شيئاً، ولست ملزماً بن أدون ذلك في مفكرتي.

نظر المحقق آدم التكريتي إليه بإمعان وكأنه يقرأ أفكاره. تضايق المهندس آدم المطرود من نظراته، وفكّر للحظات في نفسه بأن هذه وقاحة منه لذا يبادر ليسأله:

-                     لكن هل لي أن أعرف لو سمحت سيد آدم، لماذا كل هذه الأسئلة. ؟

نظر المحقق آدم التكريتي إلى آدم المطرود بهدوء. سحب نفسا طويلا من سيجارته التي كانت على وشك النهاية. وسحق السيجارة في منفضة السجائر وهو ينفث الدخان من فمه. ثم قام عن كرسيه ودار حول طاولته، واقترب من المهندس آدم المطرود دون أن يخفض نظراته عن وجهه، ثم قال ببرود:

-                     لأنها قد قُتلت. ؟

هب المهندس آدم المطرود واقفا ًدون إرادة منه، مصدوماً من هول الخبر، وهو يقول:

-                     قُتلت. ؟ كيف. ؟

نظر إليه المحقق آدم التكريتي وكأنه مسك شيئا خفيا، وقال له ببرود:

-                     هل تعطيني سيجارة من فضلك. ؟

لم يفهم المهندس آدم المطرود شيئا من إشارات المحقق آدم التكريتي ولم ينتبه إليها لأنه كان مشغولا بالخبر في أعماقه. أراد أن يرتب الأشياء في داخله، لذلك وجد أن طلب المحقق سيجارة فرصة للتفكير للحظات. عاد المحقق إلى كرسيه المقابل. بينما كان آدم المطرود يجيبه:

-                     أنا لا أدخن. .

-                     هل أنت متأكد بأنك لا تدخن. ؟ سأله المحقق

نظر آدم المطرود إليه مستغربا وقال:

-                     طبعا لا أدخن. هل هذا الأمر يحتاج إلى تأكيد. ؟

-                     ظننتك تدخن.

فجأة سحب المحقق سيجارة أخرى من علبة سجائره. أشعلها بجداحته الذهبية. أخذ نفسا طويلا بتلذذ. ثم نفث دخانها بهدوء، وكأنه يريد من المهندس آدم المطرود أن يفقد أعصابه، فلعله حينها يفصح عن أشياء تفيده وتؤكد شكوكه. قام المحقق وأخذ بالمشي في الغرفة رواحا ومجيئا دون أن يعير للمهندس آدم المطرود انتباها.

أحس آدم المطرود بنفسه وكأنه يختنق، وداهمته رغبة حقيقية في البكاء لموت حواء الصايغ، لكنه لم يود أن يكشف عن ذلك. عضَ على شفتيه كي يمنع نفسه عن البكاء. فجأة، انتبه المحقق لحالة المهندس آدم المطرود فسأله مغتنماً حالته النفسية المرتبكة وشبه المنهارة:

-                     أين كنت أمس الساعة العاشرة صباحا. ؟

أعاد سؤال المحقق المهندس آدم المطرود إلى وضعه الذي هو فيه، فقال بانتباه:

-                     كنت في طريقي إلى المكتب.

-                     هل تعتقد بأن هناك من رآك في الطريق من معارفك. أقصد هل لديك شهود على ذلك؟

انتبه آدم المطرود بأن المحقق يجره إلى منعطفات في الكلام ربما ستضره، فأحس بالغم وبالغضب يتصاعد شيئا فشيئاً في أعماقه. لكنه ضغط على نفسه كاتما ما يعتمل في داخله، وقال:

-                     شهود على أني كنتُ في طريقي إلى المكتب. ؟ من أين آتي بالشهود. ؟ من الشارع. ؟ ثم هل أنا متهم يا سيد آدم حتى تسألني كل هذه الأسئلة. ؟

لم يجبه المحقق آدم التكريتي وإنما اقترب منه وجلس على كرسي آخر للمحادثة قبالته وقال له بهدوء:

-                     أستاذ آدم، أنت مهندس ممتاز، ولديك سمعة جيدة في مجال عملك، ومشهود لك بالذكاءـ. لكنك لا تريد أن تساعدنا في التحقيق. !

شعر آدم المطرود بارتجافه وبرودة تجتاجان جسده. وقال بضيق وبنبرة تشوبها بعض العصبية:

-                     أي تحقيق. ؟ هل أنا في تحقيق. ؟

صمت المحقق لثوان. ثم عقب بنبرة فيها اتهام مشوب بعتاب:

-                     أنت لا تريد أن تخبرنا كيف قُتلت السيدة حواء الصايغ. ؟

فقال آدم المطرود مباشرة:

-                     أنا الذي أريد أن أسألكم كيف قُتلت. ؟

ابتسم المحقق آدم التكريتي وهو ينظر إلى وجه آدم المطرود ساخراً، وقال:

-                     أنت تريد أن تسألنا كيف قُتلت. ؟ ههه. أنا الذي أسألك الآن كيف قُتلت. ؟

لم يتحمل آدم المطرود أكثر فقفز من كرسيه غاضباً ومنفجراً وهو يقول للمحقق:

-                     سيد آدم إذا كنت تريد القول بأن لي علاقة بمقتل السيدة حواء الصايغ فوفر على نفسك هذا الطريق المسدود. يمكنني أن أساعدك في تحقيقك عن الجريمة، لكن قبل كل شيء يجب أن تضع في رأسك شيئا واحدا هو أني لم اقتل حواء الصايغ وليست لي أية علاقة بهذه الجريمة، بل أنا أريد أن أعرف من قام بهذا الفعل الشنيع.

قال آدم المطرود ذلك بعصبية وكأنه كان يريد أن يهم بالخروج، فنظر المحقق آدم التكريتي إليه بحزم وقال:

-                     أنت موقوف أيها المهندس آدم المطرود، فأجلس لو سمحت.

إرتسمت علامات الدهشة والغضب على وجه آدم المطرود، لكنه لم يستطيع أن يقول أي شيء وكأنه صُعق.

**********

آدم التائـه: أحسُ أن ثمة خللا في طريقة التحقيق فالأمور لم تجر بهذه الطريقة، لأني بالأساس لم أعُتقل ولم يجر معي أي تحقيق، وهذا كله من مخيلتي الروائية، وربما لا تجري الأمور بهذه الطريقة، لاسيما في قضايا التحقيقات الجنائية، ففي بلد مثل العراق لا تجري الأمور دائما حسب القانون وبهذا التهذيب، وربما دونتُ طريقة سير التحقيق مع آدم المطرود تحت بتأثير لا واع بالأفلام الأميركية أو الأوربية، لاسيما أفلام الجريمة والتحقيقات.

**********

شعرت حواء المؤمن بالخوف بعد أن انتهت من قراءة هذا الفصل. سألت نفسها من هي يا تُرى حواء الصايغ هذه. ؟ هل هي امرأة يعرفها زوجها. ؟ ولماذا البطل هنا اسمه المهندس آدم المطرود؟ لماذا النساء هنا يحملن اسم حواء الرجال اسم آدم. ؟ وإذا لم يكن هو فلماذا يحمل نفس الاسم. ؟ ولماذا يكتب زوجها مثل هذه القصص المخيفة وكأنها فيلم بوليسي؟

وبرغم ذلك أعجبتها القصة فواصلت القراءة في الفصل الثالث.

**********

آدم البغدادي: انتبهتُ لملاحظة الدكتور آدم التائـه عن نفسه. ونصه الروائي، والذي يخص سير التحقيق مع المهندس آدم المطرود في قضية موت حواء الصايغ. وأعتقد أن تعليقه هنا صحيح جداً. فالعراق بلد خارج الحياة المدنية وخارج القانون في كل شيء. حاله حال الكثير من بلدان الشرق.

(3)
تحرك الباب الدوار الذي يتجه بحركته للدخول والخروج من وإلى صالة اللوبي الرحبة والأنيقة لأحد الفنادق الراقية بدرجة النجوم الخمس في إحدى المدن الساحلية التركية المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

دفع إلى الداخل بمجموعة من السواح القادمين. حيث توقف الباب لزحمتهم فيه وتدافعهم. وبعد لحظات واصل دورانه ليجد السائحون أنفسم بالقرب من مكتب الاستعلامات.

كان فريق السواح مختلطاً من جنسيات مختلفة. كان يمكن تمييز جنسياتهم من أشكالهم وألوان بشرتهم وشعرهم. أوربيون وشرقيون. وكان كما يبدو أنهم قادمون لحضور مؤتمر ما. فقد كانت هناك استعدادات لاستقبالهم. بل كان كل شيء معدّ ومنظم سلفا.

عند مكتب الاستعلامات تجمع أعضاء الفريق السياحي كي يستلموا مفاتيح غرفهم. بينما كان عدد من نزلاء الفندق يجلسون على المقاعد والأرائك المنتشرة في باحة الفندق التي تطل على حدائق الفندق وأحوا ض السباحة فيه.

كان موظف الاستعلامات يوزع المفاتيح على السائحين فالتفت إلى المهندس آدم المطرود الذي جاء مع الوفد في مهمة المشاركة في المؤتمر العلمي الهندسي الذي سيُعقد في هذا الفندق قائلاً:

-          السيد آدم المطرود رقم غرفتك 111.

أخذ آدم المطرود المفتاح وسحب حقيبته الصغيرة الحجم نسبيا، قياسا لحقائب السائحين الآخرين، وتوجه إلى المصعد الذي لم يبعد كثيرا عن مكتب الإستعلامات. كان وحده هناك. انتظر هناك نزول أي من كابينتي المصعد التي كلاهما كانتا في الأعلى وفي، طوابق متفاوتة، وعندما وصلت إحدى الكابينتين، وفُتح الباب ذهل حينما وجد أمامه امرأة في الأربعين من العمر. لا يمكن القول إنها جميلة جداً فحسب، لكنها كانت بالنسبة له مذهلة.

كانت المرأة هادئة الملامح، حزينة النظرات، مثيرة الجسد، ليست مثل عارضات الأزياء والممثلات في المجلات الفنية، وإنما كانت امرأة غامضة بتناسقها، بل تميل شيئا إلى الامتلاء، تفيض أنوثة، حنطية البشرة، ذات شفتين شهوانيتين. ووجه حزين، بل يفيض حزنا هادئا.

لم يكن في كابينة المصعد أحد غيرها. انتظر هو أن تغادر الكابينة لكنه لم تتحرك. ظلت واقفة ولم تخرج. تردد آدم المطرود منتظرا لكنها لم تخرج، وإنما بقيت مكانها. ففهم أنها لا تريد الخروج. وإنما تريد أن تصعد ثانية. كانت هي قد ضغطت على زر الطابق التاسع.

دخل هو وسلم باللغة الإنكليزية فأجابته بابتسامة آسرة بدلاً من الكلام. أغلق المصعد بابه وصعد إلى الأعلى.

انتبه آدم المطرود إلى أنه لم يضغط على زر الطابق الذي يشير إلى وجهته، فضغط على الرقم واحد (1). لكن المصعد كان قد اجتاز الطابق الأول صاعداً. أحس بالارتباك. وفي الوقت نفسه بفرح غامر في أنه سيرافقها إلى الأعلى. انتبهت هي إلى أنه ضفط على الرقم واحد. وفهمت أنه تأخر. ابتسمت مع نفسها ابتسامة خفيفة. ظل هو يتأملها بتركيز. بينما هي شغلت نفسها بالنظر إلى لوجة الأرقام المضيئة التي تشير إلى الطوابق.

حين وصل المصعد إلى الطابق التاسع توقف. وفُتحت بابه. ابتسمت المرأة مع نفسها. انتبه هو إلى أنها قد وصلت. خرجت وعلى وجهها ابتسامة غامضة. ظل هو يتأملها من الخلف. إلى أن أغلق المصعد ليهبط. ضغط مرة أخرى على الرقم واحد(1). بينما قلبه يخفق بشدة. ثمة حالة انخطاف كامل كانت تهيمن عليه.

**********

في الطابق الأول وجد آدم المطرود نفسه أمام ممر طويل ومتعدد الاتجاهات، فنظر إلى لوحة تشير إلى سلسلة الغرف الموجودة في كل اتجاه فانطلق في الاتجاه الذي تقع غرفته ضمن تسلسله (111).

كانت الممرات مفروشة بالسجاد الأحمر في كل الاتجاهات. فجأة ظهرت إحدى عاملات الخدمة من غرفة في منتصف الممر. ومن غرفة أخرى مقابلة خرج عامل خدمة شاب. اجتازه آدم المطرود، لكنه سمعه يقول بالتركية لزميلته عاملة الخدمة:

-                     هذا كما يبدو كنز ثمين. أكيد جيوبه مليئة بالمال.

فأجابت المرأة بنبرة فيها تذمر:

-                     وهل سيوزع ماله علينا.

لم يكونا يدركان بأن آدم المطرود يعرف اللغة التركية لأنه درس الهندسة في جامعة اسطنبول. ابتسم هو مع نفسه ثم توقف، فقد كان أمام باب غرفته. أدخل البطاقة البلاستيكية الذكية وفتح الباب داخلا في الغرفة.

**********

دخل المحقق آدم التكريتي إلى الزنزانة المنفردة في مبنى التحقيقات الجنائية التي تم حجز المهندس آدم المطرود فيها لحين النظر في حيثيات الجريمة!

 كان آدم المطرود مستلقيا على اللوح الخشبي الذي فُرشت عليه بطانية قديمة كي يبدو وكأنه سرير، غارقا في أفكاره، متسائلاً عن كيفية موت حواء الصايغ؟ لم يكن قلقا جداً على مصيره، فهو متأكد من براءته. بل هو حزين جداً ويحس بالإختناق لموت حواء الصايغ.

جلس آدم المطرود على السرير تأدباً ولياقة حينما رأى المحقق آدم التكريتي داخلاً. ارتسمت على وجهه ملامح الغضب الخفي والإحساس بالغبن. انتبه المحقق آدم التكريتي لذلك. لكنه كان ينتشي بإذلاله. لم يقل المحقق شيئاً، وإنما أخذ يمشي في الزنزانة جيئة وذهاباً. ومع رواحه ومجيئة إزداد توتر آدم المطرود. واحس بأن الأمور اخذت تتعقد. فجأة التفت المحقق آدم التكريتي نحو آدم المطرود وقال:

-                     اسمع سيد آدم، أنت الآن في وضع صعب جداً. ولا أخفيك. إن جميع الأدلة والشواهد تشير إليك، وتدينك، لذا أرجو منك أن تكون في غاية الحذر عندما تجيب على الأسئلة. وأنصحك بأن تتعاون معنا لأن كل محاولة منك لتضليل العدالة ستدفع المحكمة بأن تكون شديدة معك. وانصحك. ربما ستحتاج إلى محام بارع جداً لينقذك من ورطتك هذه.

كان آدم المطرود ينظر إلى المحقق آدم التكريتي نظرة متأملة ومستخفة، تخفي غضباً مكثفاً، بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة يائسة هازئة. امتد الصمت بينهما للحظات. كان المحقق ينتظر منه أن يقول شيئاً. أن يعلّق بأية جملة. إلّا أن آدم المطرود ظل صامتاً.

انتبه المحقق إلى نظرته الساخرة، فلم يتحمل ذلك فترك الزنزانة سريعا. فوجئ آدم المطرود لمغادرته. تمنى أن يبقى أكثر وأن يتحدث أكثر فربما كان سيتحدث بتفاصيل أخرى عن الجريمة. فهو يريد أن يعرف من. وكيف. وأين. ولماذا. ومتى. حدثت الجريمة؟ هو لا يعرف سوى أنها قُتلت. وهو المتهم في قتلها. !!. ظل للحظات على جلسته. ثم استلقى مجدداً على اللوح الخشبي المغطى ببطانية قديمة. وغرق في بحار ذكرياته المتلاطمة.

**********

دخل آدم المطرود إلى صالة الطعام الرحبة المترامية الأطراف والتي تتمدد على شكل حرف L. وان قد ارتدى ثيابا جديدة. كانت الصالة مليئة بالزائرين. تتدلى من سقوفها ثريات جميلة. وتشع القاعة بالأضواء الباهرة التي تبعث النشوة والبهجة في النفس.

وقف آدم المطرود عند باب القاعة مفتشاً عن مكان فارغ. وفي الوقت نفسه مفتشاً عن المرأة التي أذهلته. فجأة. من بعيد لمح صديقه وزميله في الدراسة المهندس العراقي آدم الصاحب، وهو من الأعضاء المشاركين في المؤتمر العلمي أيضاً. وجاء معه من بغداد أيضاً. فاتجه نحوه. تبادلا التحية. وجلس إلى طاولته الصغيرة المخصصة لأربعة أشخاص.

أخذ قائمة الطعام ليقرأ ما فيها. لكن حينما جاء موظف الخدمة في المطعم ليسجل طلبيهما تحدث معه صديقه بالتركية، فاستغرب موظف الخدمة في المطعم من إجادته للتركية. وسره ذلك. فأخذ يشرح له بتفصيل أكثر عما لديهم من طعام.

**********

بدأت الفرقة الموسيقية تأخذ موضعها بالقرب من ساحة الرقص إستعدادا ًلتقديم برنامج السهرة، وفي ذلك الوقت جاء موظف الخدمة في المطعم بالطعام إلى المائدة وبدأ بترتيبها. ثم غادرهما متمنيا لهما بالتركية شهية طيبة. لكن ما أن بدأ آدم المطرود بتناول الطعام حتى توقف فجأة وعلى وجهه إمارات الدهشة.

كانت المرأة المجهولة، المثيرة والحزينة، التي رآها في المصعد قد دخلت إلى صالة الطعام ومعها رجل في منتصف عقده السادس. كانت هي قد ارتدت ملابس السهرة فبدت وكأنها إحدى نساء القرن التاسع عشر.

اجتازت المرأة المجهولة والرجل الذي معها الصالة بحثا عن طاولة فارغة، ومن حسن حظ آدم المطرود لم يكن هناك من طاولة إلا واحدة قربهما فاتجها نحوها.

لم يحوّل آدم المطرود عينيه عنها قط، فانتبه صديقه آدم الصاحب إليه، واتجه هو أيضا بعينيه تلقائياً نحوها، فارتسمت على وجهه علامات الإعجاب الشديد والرغبة الفاضحة، وقال له بصوت خافت:

-                     إنها رائعة حقا. امرأة حقيقية.

لم يجب آدم المطرود على ملاحظة صديقه إذ ظل يواصل نظرات الدهشة والإعجاب والذهول إلى المرأة المجهولة ومرافقها اللذين جلسا على المائدة وبدأ كل منهما يتفحص قائمة الطعام. فجأة وكأنما هناك إشارة خفية وصلتها التفتت المرأة إلى الطاولة التي يجلس حولها آدم المطرود وصديقه فالتقت نظراتهما، فارتبكا كلاهما. لقد تذكرته.

في تلك اللحظات جاء موظف الخدمة في المطعم ليسجل طلبات الطعام فانشغلت المرأة معه، حاولت أن تتفاهم معه بالانكليزية، فجأة التفتتْ إلى الرجل الذي معها وسألته بالعربية وباللهجة العراقية:

-                     أنت اختاريت شي. ؟

-                     بلي، اختاريت رقم اثنين واربعين.

لم يخف آدم المطرود سعادته فهمس لصديقه:

-                     إنهما عراقيان.

وأحس بشهية كبيرة فأخذ يضع الخضار والسَلـَطـَة في صحنه. لكن فجأة، حدثت ضجة في أقصى القاعة إذ سقطت الصينية من يد العامل الذي يحمل الطعام على بعض الجالسين، بعد أن تعثر. صمتت القاعة لثوان. التفت الجميع نحو جهة الصوت. وبعد لحظات عادت الغوغاء إلى القاعة.

**********

دخل شرطي يحمل صينية الطعام إلى الزنزانة التي يستلقي فيها آدم المطرود. لم يكن هو نائماً. وإنما كان لا يزال مستمرا في تداعياته وذكرياته وأسئلته العصية. وضع الشرطي الصينية أمامه دون أن يفتح فمه حتى بالتحية. وتوجه لمغادرة الزنزانة، لكن قبل أن يغلق الباب سأله آدم المطرود:

-                     قل لي رجاءً. هل من جديد. ؟ هل اكتشفوا شيئا يدلهم على القاتل. ؟

التفت الشرطي إليه بلا مبالاة. لم يشأ أن يجيب في البداية لكنه نظر إلى المهندس آدم المطرود، ورأى اللهفة البريئة في عينيه، فقال:

-                     أنا لا أعرف اي شيء. لكنني سمعتهم يتحدثون عن اكتشافهم لبعض الآثار التي ربما ستؤكد لهم هوية القاتل.

فتنهد آدم المطرود براحة وهو يحس بشعور أنه سيخرج قريباً من هذه الزنزانة بريئاً من التهمة التي وجهت إليه. وسيتابع بنفسه تفاصيل الجريمة. فقال بفرح واستبشار:

-                     الحمد لله

بنظر الشرطي إليه متعجباً وكأنه ينظر إلى إنسان غامض وغير طبيعي. فانتبه آدم المطرود إليه وسأله:

-                     لماذا تنظر إليّ هكذا؟ أهناك شيء؟

فارتبك الشرطي وكأنه قال شيئاً ما كان له أن يقوله وتمتم على عجل:

-                     لا شيء. لا شيء.

فوجئ آدم المطرود من ارتباك الشرطي. لم يفهم شيئاً محدداً من إجابته، وبينما كان الشرطي يغلق باب الزنزانة من الخارج بالمفتاح. كان آدم المطرود يتأمل صينية الطعام، إذ شعر برغبة مفاجئة في الطعام. فأخذ التفاحة من الصينية لكنه ما أن رأى بقية الطعام حتى غابت رغبته فلم يمس شيئاً من الطعام.

لم يكن آدم المطرود يائسا لأنه كان واثقا من براءته، وأنه كان متأكدا من أن الجهات المختصة بالتحقيق ستكتشف القاتل وتعلن براءته قريبا جداً، كان واثقاً من ذلك بعمق. لكن ما كان يؤلمه هو موت حواء الصايغ، لذا ما أن قضم التفاحة حتى غرق ثانية في بحر الذكريات.

**********

بدأت الفرقة الموسيقية برنامجها بقطعة موسيقية راقصة. أخذ بعض رواد المطعم من الأجانب التوجه إلى ساحة الرقص، كما توجه بعض الرجال إلى بعض السيدات الجالسات إلى طاولات أخرى لدعوتهن إلى الرقص.

قام المهندس آدم الصاحب متجها نحو امرأة شقراء تجالس رجلا كهلاً. وكانت المرأة تتلفتت وكأنما تنتظر من يدعوها للرقص غير آبهة بالرجل الذي يجالسها. حين وصل إليهما أنحنى بإيماءة من رأسه بطريقة مهذبة متوجها للرجل الكهل مستأذناً في مراقصة السيدة التي معه، إلّا أن المرأة قامت لتراقصه قبل أن ينتبه الرجل الكهل أو يشير بالموافقة.

**********

نظر آدم المطرود إلى السيدة المجهولة في اللحظة التي نظرت هي فيها إليه أيضا فالتقت نظراتهما مرة أخرى. كل منهما شعر بالحرج من الآخر، لكن في الوقت نفسه أكد اهتمام كل منهما بالآخر أيضا.

راودته رغبة قوية في دعوتها إلى الرقص، لكنه كان مترددا. كان يصارع في نفسه في القيام بهذه الخطوة، وفي اللحظة التي حسم أمره وقرر أن يدعوها قام جليسها ليدعوها إلى الرقص، فلعن نفسه لتردده وتأخره في دعوتها للرقص.

وبينما كانت تقوم متجهة مع الرجل الذي معها إلى حلبة الرقص نظرت إلى المهندس آدم المطرود نظرة يمتزج فيها الاستفسار والعتاب والإعتذار في الوقت نفسه، وكأنها تود أن تسأله لماذا لم يدعوها إلى الرقص. وتعاتبه على ذلك؟

ظل آدم المطرود في مكانه يتابعها بعينيه، وكانت هي بين لحظة وأخرى تنظر إليه من وراء كتف مرافقها كلما استدارت وصارت في مواجهته. حين عاد صديقه آدم الصاحب إلى المائدة بعد أن أوصل مراقصته إلى مائدتها ورأى آدم المطرود وحده سأله مستغربا:

-                     لماذا تجلس وحيداً؟ لماذا لم تبادر لدعوتها للرقص؟

فأجابه آدم المطرد بغضب مكتوم مداريا خيبته:

-                     أنا أحب مشاهدة الآخرين وهم يرقصون، أحس بالمتعة أكثر مما لو كنت أرقص!

في تلك اللحظات عادت السيدة المجهولة ومرافقها إلى طاولتهما، ولم تمض إلا لحظات حتى بدأت موسيقى جولة الرقص الجديدة وبدأت الفرقة تعزف موسيقى بطيئة وناعمة. مال الرجل الذي يرافق المرأة نحوها وقال لها شيئاً لم يسمعه، لكنه انتبه من هزة رأسها بالنفي بأنه أراد مراقصتها ثانية، لكنها اعتذرت ولم تود ذلك. ولاحظ أنهما أخذا يتحدثان بكلمات مقتضبة. وليس حديثاً سلساً، ثم فجأة قام جليسها خارجاً من القاعة، متجهاً إلى جهة الحمامات.

كان آدم المطرود ينظر إليها بحب وشغف واضح، وكانت هي منتبهة له، لكنها لم تشجعه بشكل صريح، وفي الوقت نفسه لم تبد أية إشارة أو ملمح لرفضها هذا الوله في نظراته وعدم قبولها لتصرفه بالتركيز عليها. انتبه صديقه لغياب مرافقها فقال له محرضاً:

-                      اسمع. السيدة تنتظرك لدعوتها للرقص. انهض قبل أن يأتي الرجل الذي معها. والذي لا نعرف صفته. فربما هو زوجها؟

أعجبه ما قاله صديقه لكنه في الوقت نفسه كان متردداً، وقال له:

-                     هل تمزح. ؟ إنها تنتظره ولن تقوم معي. إنها عراقية وليست أوروبية حتى تقوم معي. أنت تعرف العراقيات والعراقيين هم كتلة من العقد.

آدم الصاحب كان أكثر تحرراً في علاقاته النسائية وأكثر مرحاً وخبرة فقال له وهو يحثه ويشجعه للقيام بدعوتها للرقص:

-                     أقول لك إنها تريدك أن تدعوها. لا تضيّع الفرصة يا رجل!

آدم المطرود كان يرى أن الفرصة سانحة، وأنها فعلاً أخذت تلتفت لساحة الرقص، لكنه لم يكن مستعداً للقيام بدعوتها، فقال وكأنه يلعن نفسه:

-                     إنني مرتبك. أخشى أن تعتذر. ولا أريد أن أجد نفسي في مثل هذا الموقف!

نظر إليه صديقه حانقاً بمودة وقال له:

-                     اسمع. إذا لم تذهب أنت لدعوتها فسأذهب أنا. من المؤسف أن تُعزف مثل هذه الموسيقى الرقيقة والرومانسية، وأمامك هذه السيدة الرائعة ولا تدعوها للرقص.

فقال آدم المطرود يائساً وهو يشعر بأن جسده قد تخشب:

-                     حاول أنت. ! وأنا متأكد من أنها سترفض. جرب!

كانت السيدة المجهولة قد انتبهت بأنهما يتحدثان عنها، لاسيما وأنها أدركت من خلال ما تناهى إلى سمعها بأنهما من العراق، فارتبكت. لكنها لم تسمع كل ما قيل.

ارتسمت خيبة الأمل على وجهها حينما رأت الصديق مقبلاً نحوها وليس هو. إذ تقدم المهندس آدم الصاحب منها قائلا بأدب وباللغة الانكليزية:

-                     هل تسمحين سيدتي. ؟!.

نظرت السيدة إلى آدم المطرود نظرة عتاب للحظات ثم قامت لتراقص صديقه وكأنها تعاقبه على ذلك، فما كان منه إلّا أن نهض مغادراً القاعة نقمة وغضباً من نفسه وغضبا منها.

**********

خرج آدم المطرود من المصعد مجتازاً الممر الطويل المفروش بالسجاد الأحمر. أخرج البطاقة البلاستيكية من جيبه وأخذ ينظر لأرقام الغرف إلى أن وجد غرفته المتطابقة الأرقام (111). وحينما وصلها وضعها أمام قفل الباب فأنفتحت. فدخل وكأنه يهرب من شيء يطارده.

جلس على سريره تعباً. كان حانقاً من نفسه. استلقى وهو بملابس السهرة على السرير. نظر إلى سقف الغرفة، ثم إلى المنضدة التي كانت إلى جانب السرير من جهة الرأس فرأى جهاز الريموت كونترول فمد يده وأخذه. ضغط على أحد أزراره فبدأ التلفزيون يبث أغنية بالتركية. انتقل إلى محطة أخرى فكانت تبث برنامجاً بالتركية أيضاً. ؛ ومع أنه كان يجيد اللغة التركية لكن رغبته لم تكن في أن يشاهد التلفزيون وإنما ليشغل نفسه بأي شيء كان، لذا انتقل إلى قناة ثالثة فكانت تبث برنامجا غنائيا بالروسية. أخذ ينتقل بين القنوات فكانت معظمها بالتركية. ضغط على الزر الأحمر فانقطع البث. بقيَ للحظات مستلقيا. فجأة جلس. ظل في جلسته وعلامات التفكير مرتسمة على وجهه.

لم يفهم هو نفسه ما الذي يجري بداخله منذ لحظة رؤيته لهذه السيدة الجميلة والغامضة. لم يفهم لماذا غادر صالة الطعام. ؟ لماذا غضب كل هذا الغضب حينما قامت السيدة لمراقصة صديقه آدم الصاحب. ؟ كان عليه هو أن يدعوها للرقص فلماذا لم يفعل ذلك. ؟ ثم لِمَ كل هذا الانفعال الذي يجتاحه. ؟ هل وقع في حب هذه السيدة. ؟ مَن هي يا تُرى. ؟ ومَن هو هذا الرجل الذي معها. ؟ لقد تحدثا بالعربي وباللهجة العراقية، لكنها لا تشبه العراقيات كثيراً. ثم ما الذي يريده هو منها. ؟ هل يحبها. ؟ هل يرغب فيها ويريد أن يضاجعها. ؟ لا. لم يطرأ في ذهنه ونفسه شيء من الرغبات الجنسية، انه موله فيها، مسحور برقتها وأنوثتها وشخصيتها، وحزنها الشفاف، وبرغم ذلك لم يتوصل إلى السبب الواضح الذي يشده إلى هذه السيدة المجهولة.

فجأة بدا على وجهه وكأنه إتخذ قرارا. نهض بنشاط، ونظر نظرة خاطفة وسريعة إلى أرجاء الغرفة. ، وغادرها بعد أن ضغط على زر النور فغرقت الغرفة في الظلام.

**********

عندما دخل آدم المطرود إلى صالة الطعام والمقصف ثانية رأى أن روادها أقل مما كانوا حينما غادرها. توجه بنظره إلى الطاولة التي كان يجلس إليها فلم يجد صديقه المهندس آدم الصاحب. نظر إلى الطاولة التي كانت السيدة تجلس إليها فلم يجدها وإنما رأى مرافقها فقط يجلس وحيداً.

توجه آدم المطرود إلى طاولته وجلس إليها. فتش بنظره في أرجاء الصالة، ثم إلى ساحة الرقص فلم يجد أثرا للسيدة، لكنه لمح صديقه منشغلا بحديث جاد مع المرأة الشقراء التي راقصها في الجولة الأولى. ولم يكن الكهل الذي معها موجوداً.

التفت ثانية لطاولة السيدة فرأى مرافقها وهو يهم بمغادرة الصالة، ويبدو أنه كان ينتظر شيئاً ما، وفعلاً تقدم منه موظف الخدمة في المطعم حاملاً علبة من السجائر، وما أن استلمها ووقع على قائمة الطعام حتى قام مغادراً الصالة.

جاء موظف الخدمة إلى طاولة المهندس آدم المطرود على أثر إشارة منه، وحينما وصل إليه قال له:

-                     فودكا

ابتسم موظف الخدمة وغادر الطاولة بينما أحس هو بخيبة كبيرة وحزن يجتاح روحه.

**********

حينما أنهت حواء المؤمن قراءة هذا الفصل لم تجد أية ملاحظة من زوجها عليه، لكنها أحسّت بالحيرة، فهذا المهندس الذي اسمه آدم المطرود لا يشبه زوجها الدكتور آدم التائه، كما أن هذا المهندس يعرف اللغة التركية وزوجها لا يعرف التركية، ثم أنها تعرف أنه لم يسافر في حياته فكيف يكتب الآن وكأنه كان في تركيا. ولم تكن حواء المؤمن تعرف شيئاً عن فن كتابة الرواية ولا عن مفهوم الإبداع والشخصية الفنية! لكنها برغم ذلك شعرت بالشفقة والتعاطف مع المهندس آدم المطرود المتهم بجريمة قتل حواء الصايغ! ولكن من هي حواء الصايغ هذه. ؟ هل هي نفس المرأة المجهولة التي التقى بها في تركيا. ؟ ربما هي حواء الصايغ. وربما هي غيرها. هذا سيتضح في الصفحات القادمة. لتواصل القراءة وتنتهي قبل أن يصل زوجها الدكتور آدم التائـه.

**********

ترك آدم البغـدادي حواء المؤمن تبدي مع نفسها ملاحظاتها، وهي ملاحظات قارئة عادية تتفاعل ببساطة مع الأحداث والشخصيات دونما أي تأويل.

(4)
سحب المهندس آدم المطرود ستائر نافذة غرفته فامتلأت بنور الصباح الذي تدفق بكرم عبر الزجاج، وكشف عن منظر رائع للبحر الذي يمتد على امتداد البصر.

تأمل البحر، ساحل البحر الرملي، طيور النوارس المحلقة في السماء. كانت في أفق البحر ثمة سفينة تبدو وكأنها واقفة.

مطّ آدم المطرود جسده ليطرد ما تبقى فيه من نعاس وكسل ورغبة في العودة إلى السرير. فتح ذراعيه مؤدياً بعض التمارين الرياضية. توجه إلى غرفة الحمام وأطبق الباب خلفه ليأخذ حماماً ساخناً.

بعد فترة وجيزة خرج من الحمام عاريا سوى من منشفة عريضة بيضاء لف بها القسم الأسفل من جسده، ثم بدأ يرتدي ملابسه على عجل كي يسرع إلى قاعة الطعام عسى أن يرى سيدته هناك!

**********

دخل إلى صالة الطعام عجلا. يبدو أنه تأخر قليلاً عن موعد الفطور، لأنه وقبل أن يجتاز الصالة مفتشاً عنها واجهته السيدة مع مرافقها وهما يغادران الصالة.

ارتسمت علامات الخيبة على وجهه، إلا أن السيدة التي لاحظت خيبته فابتسمت له ابتسامة خفية لم ينتبه لها أحد غيره. بعد لحظات انتبه إلى صديقه المهندس آدم الصاحب الذي كان يلوّح له من أحد أطراف القاعة. تقدم منه ملقيا تحية الصباح، فبادره آدم الصاحب بمرح قائلا:

-                     ماذا. هل سهرت ليلة أمس طويلا؟

-                     لا، إنما لم أوقت المنبه فأخذني النوم.

دفع آدم الصاحب كرسيه ليغادر، إذ كان قد انتهى من الطعام حينما أقبل آدم المطرود، فقال له:

-                     على أية حال، الفطور على المائدة. قبل قليل أعلنوا عن برنامج سياحي لطيف من قبل إدارة الفندق لجميع النزلاء وليس للمؤتمرين فقط. ستكون تحت تصرفنا سيارتان سياحيتان لزيارة إحدى القلاع الشهيرة القريبة. أنا أنهيت فطوري. سأنتظرك في اللوبي.

قال المهندس آدم الصاحب ذلك ومضى مغادراً القاعة، أما آدم المطرود فتوجه إلى موضع الفواكه والأغذية التي بدأ عمال المطعم يجمعونها شيئاً فشيئاً. ملأ لنفسه قدحا من عصير البرتقال، ووضع في صحن صغير بعض القطع من الجبن والزيتون وقطعة من الخبز الأسمر، وكان حينها يفكر إن كانت السيدة ستذهب معهم في الرحلة أم لا؟

**********

في الساحة العريضة لوقوف السيارات السياحية بالقرب من الفندق كانت هناك سيارتان سياحيتان إحداهما قد امتلأت بالركاب ومستعدة للحركة، أما السيارة الأخرى فلا تزال أبوابها مفتوحة تستقبل بقية الراغبين بزيارة القلعة.

حين وصل المهندس آدم المطرود إلى الساحة ونظر للسيارة الأولى رأى وجه السيدة المجهولة من جانب أحد النوافذ، وفي اللحظة التي نظرت هي إلى جهته بدأت السيارة بالتحرك. لم يجد أمامه سوى أن يتجه إلى السيارة الثانية التي كما يبدو ستتأخر عن الأولى التي توجهت إلى طريق القلعة الإغريقية. شعر بالغيظ حينما صعد إذ كانت السيارة الثانية شبه فارغة.

بعد أقل من نصف الساعة تحركت السيارة الثانية، وحينما وصلوا إلى مكان القلعة التي بُنيت على مرتفع صغير يمتد كلسان في البحر بدأوا بالصعود إليها. ما أن وصلوا إلى هناك حتى التقوا بركاب السيارة الأولى وهم راجعين. لم تكن السيدة ومرافقها بينهم، فمنـّى النفس بلقائها في القلعة. هناك فتش عنها ولم يجدها. ؛ فأحس بغضب يجتاحه وتعكّر مزاجه ولم يستمتع بالرحلة.

**********

عند فترة الغذاء دخل القاعة وعلى وجهه ترتسم علامات اللهفة. كانت صالة الطعام مزدحمة برواد الفندق. هناك الكثير من السواح الروس والأوربيين. بل وصلت سمعه كلمات بلغات لم يعرف إلى أية لغة تنتمي. وجد طاولة فارغة لإثنين فجلس إليها.

كان صديقه قد جلس إلى طاولة صديقته الشقراء. فتش بنظره في أرجاء القاعة عن السيدة ومرافقها فلم يجدهما. تناول طعامه بدون شهية وببطء شديد ليمد من وقت الغذاء عسى تظهر سيدته. ثم قام وأتى بصحن وضع فيه فواكه كثيرة، لا لأنه يريد ذلك وإنما ليجد حجة لبقائه في المطعم لفترة أطول. وبرغم ذلك لم تظهر السيدة. ، ثم طلب شاياً وشربه على مهل. ولم تظهر السيدة!!.

مرّ كل هذا الوقت ولم تظهر السيدة. صار البقاء في المطعم محرجاً بالنسبة له إذ لم يترك أية طاولة طعام في قاعة الطعام لم يذهب ليأخذ حصة منها. ؛ لذا قرر مغادرة المطعم فقام خارجا. وعندما صار خارجا القاعة بالضبط أحس بالصدمة، إذ واجه السيدة مع مرافقها وهما مقبلان. وكانت قد غيرت ملابسها وتزينت بأبهى ما يمكن.

أحس آدم المطرود بالحنق من نفسه ومن تصرفاته التي لم يحصد منها سوى الخيبة، وأخذ يلوم نفسه. لماذا لم ينتظر لدقائق أخرى. ؟ الآن صارت عودته إلى المطعم محرجة! أحس بالغضب تجاه المرأة المجهولة. ؛ فلماذا لم تأت قبل فترة. ؟ ما واساه في تلك اللحظات أنه لاحظ ظلالا ًمن الخيبة ارتسمت على وجهها، وكأنها استاءت من خروجه أيضاً.

اتجه هو نحو بهو الفندق. جلس على أريكة هناك مؤملا النفس أن تأتي السيدة إلى البهو بعد وجبة الغداء، وبينما هو جالس جاء صديقه المهندس آدم الصاحب فرحاً ومشرقاً وقال بحيوية:

-                     الساعة الخامسة ستكون هناك رحلة بحرية عامة أيضاً. هل ستأتي. ؟ ستكون رحلة ممتعة. سأذهب مع إيفا صديقتي الروسية.

-                     أية إيفا. تلك التي كانت معك في المطعم. ؟

-                     إيفا التي راقصتها البارحة. وكانت معي قبل قليل في المطعم.

نظر إليه آدم المطرود بود متناسيا ما هو فيه وسأله بمرح:

-                     وهل صارت صديقتك بهذه السهولة. ؟

ابتسم آدم الصاحب وقال بمرح وتنبجح:

-                     وهل أنا مثلك. أرتجف أمام النساء. ؟!. البارحة كانت تلك المرأة المجهولة تريدك. قلت لك ذلك فلم تسمعني. أتدري ماذا فعلت. ؟

-                     ماذا فعلت. ؟ سأل آدم المطرود بلهفة

-                     ما أن قامت معي. ووصلنا حلبة الرقص. ولم نكن قد بدأنا الرقص حتى مسكت رأسها معتذرة بأنها تشعر بالدوار، شخصيا لم ألح عليها لأنها تخصك! المهم رجعت إلى طاولتها. بينما كانت إيفا الروسية الشقراء تنظر نحوي وتدعوني بعينيها. فذهبت إليها ودعوتها للرقص. أما السيدة صاحبتك فقد تابعتها بنظري. كانت متلهفة وكأنها تبحث عن شخص ما. كنتَ أنت قد غادرت. فرأيتها تجلس دقائق على الكرسي حول طاولتها. ثم غادرت القاعة. وبعد فترة جاء مرافقها وجلس لفترة ثم غادر. أما أنا فقد رتيت أموري مع إيفا الروسية. وكانت البارحة في غرفتي. والآن قل لي. هل ستذهب معنا في الرحلة البحرية أم لا. ؟

شعرت آدم المطرود بالغبطة من كلام صديقه. وقال بمرح:

-                     سأذهب بلا شك.

لا يدري آدم المطرود لماذا لم يود مواصلة الحديث مع صديقه، إذ قال له بأنه يود أن يأخذ القيلولة لنصف ساعة على الأقل، ثم قام متوجها إلى غرفته.

لم ينتبه صديقه المهندس آدم الصاحب إلى حالة صديقه، ولا لعدم رغبته في مواصلة الحديث معه، لأنه هو أيضا كان يريد أن يسرع إلى إيفا الروسية.

**********

عند العصر وفي الساعة الخامسة تقريبا وبالقرب من الشاطئ الرملي الذي يمتد بين الفندق والبحر كان المركب الخشبي الذي يشبه سفينة للقراصنة منتظراً السائحين من رواد الفندق. كان رواد الفندق يتوافدون على المركب ويأخذون أماكنهم المرصوفة على سطحه عابرين جسراً خشبيا يفصل بين الساحل والمركب. بعضهم كان لا يجلس وإنما يظل واقفاً مطلا على البحر متكئاً على سياج المركب.

حين جاء آدم المطرود إلى المركب وجد صديقه المهندس آدم الصاحب محتضنا صديقته إيفا الروسية. وهما يقفان في الطابور الصغير الراكب إلى سطح المركب. أشار إليه آدم الصاحب بأن ينظم إليهما وكأنه كان معهما. طالباً منه الصعود معهما. ارتبك لأن بعض السائحين أخذ ينظر بانزعاج لخرق سلسلة الطابور. إلا أن حيوية آدم الصاحب التي أوضحت للجميع بأنهم معاً خففت من نظرات الآخرين. ولم يكن أمام آدم المطرود سوى أن يصعد إلى سطح المركب. وحينما التفت إلى طابور الراكبين أحس بصدمة مفرحة. إذ لمح السيدة المجهولة ومرافقها وهما قادمان ليصعدا المركب.

فكر آدم المطرود مع نفسه بأنها فرصة ذهبية للتعرف إليهما، وأخذ يخطط بسرعة مع نفسه في كيفية التعرف إليهما. وقرر أن يتعرف على الرجل الذي يرافقها أولاً، لاسيما وهما عراقيان مثله! ولم يكن هو يعرف من هو هذا المرافق. لكنه رجح أن يكون زوجها. فمثل هذه المرأة الرزينة والراقية في هيئتها وحركتها لا يمكن أن ترافق عشيقاً!

**********

فتش عنهما بنظره بين الركاب فلمحهما على جانب من سطح المركب. لكن ها هو مرافقها يتركها وحدها ويتجه إلى إحدى الجهات حيث كان واضحا بأن هناك بوفيه لبيع الحلوى والقهوة والشاي والفطائر. انتبه المهندس آدم الصاحب للأمر فقال له هامسا:

-                     تحرك. إنها وحدها. هذه فرصة لن تتكرر. الأمر لا يثير أي شك أو انتباه. فهنا حشر وزحمة. والجو يساعد على التعارف بكل بساطة.

اقتنع هو برأي صديقه لكنه تردد مرة أخرى. وقال:

-                     وإذا جاء الرجل الذي يرافقها؟ ولا تنسى انهما عراقيان.

-                     حين تراه مقبلا انسحب. وإذا كانت هي تريدك فعلاً فستختلق هي العذر لتواصلك معها.

فكّر آدم المطرود لحظة. همّ بالتوجه إليها لكنه فجأة توجه نحو مرافقها الذي أخذ مكانه في طابور الذين يودون شراء شيئاً من البوفيه ووقف خلفه مباشرة.

حينما جاء دور مرافق السيدة للشراء فأنه تحدث بلغة انكليزية سليمة طالبا كوبين من القهوة الوسط. لم يفهم الشاب التركي ماذا يريد بالضبط فاستغل آدم المطرود هذا الموقف فتدخل شارحاً له بالتركية ما يريده مرافق السيدة. ابتسم الشاب التركي وقدم له كوبين من القهوة، فابتسم مرافق السيدة له وشكره بالانكليزية معاتباً بأن معظم العاملين في قطاع السياحة في تركيا لا يتكلمون الانكليزية بشكل جيد. فجأة لمعت فكرة ذهبية في ذهن المهندس آدم المطرود فسأله بالانكليزية:

-                     من أين حضرتكم. ؟

-                     من العراق.

فقال آدم المطرود مبتهجا وبصوت عال وكأن الأمر مصادفة وقال بالعربية وباللهجة العراقية:

-                     وأنا من العراق، يا أهلا وسهلا. ويا لمحاسن الصدف. من أي مدينة حضرتك؟

-                     من بغداد.

فأبدى آدم المطرود دهشته بفرح وقال:

-                     يا للمصادفة، أنا أيضا من بغداد.

ومد يده مصافحاً ومقدماً نفسه إليه:

-                     أنا المهندس آدم المطرود.

-                     وأنا رجل الأعمال آدم الولهان.

-                     تشرفنا.

-                     لي الشرف.

أخذ آدم المطرود كأسا من عصير البرتقال دافعا للتركي ثمن القهوة والعصير، غير أن آدم الولهان لم يقبل ذلك فأصر آدم المطرود على الدفع مبرراً بأن ذلك عربون الصداقة، وانسحبا معاً من الطابور، فما كان من آدم الولهان إلا أن يقترح عليه بأن ينظم إليهما، وقاده إلى حيث تقف المرأة الغامضة، التي فوجئت بقدومهما معا، وما أن وصلا إليهما حتى قدمه مرافقها لها قائلا بمرح:

-                     اسمحي لي أن أقدم المهندس آدم المطرود.

نظرت إليه نظرة محايدة وقالت:

-                     أهلا وسهلا.

-                     زوجتي حواء الصايغ.

أحس آدم المطرود برجفة تسري في جسده عندما سمع اسمها. وعرف أنها زوجة هذا الرجل، فقال:

-                     تشرفنا.

وتصافحا. لم يصدق آدم المطرود أنه قربها ويكلمها بل ويصافحها أيضاً. أحسّ بالحرج. فأراد زوجها أن يخلق جوا أليفا فقال:

-                     المهندس آدم المطرود يتحدث التركية، وكذلك الانكليزية طبعا.

ارتسمت ملامح الدهشة المحببة على وجه حواء الصايغ وكأنها تبحث عن تفسير لذلك، فانتبه آدم المطرود لذلك فقال موضحا:

-                     القصة وما فيها ياسيدتي أنني درست الهندسة في اسطنبول، وأعمل في بغداد طبعاً، لدي مكتب هندسي هناك. لكني عملت صحافياً لسنوات عديدة. لاسيما أثناء دراستي الجامعية.

أشرق وجه السيدة وقالت:

-                     يعني أنت مهندس. و صحافي.

ارتبك هو وقال:

-                     كنتُ. صحافياً. ومترجما ً أحيانا.

نظرت إليه وكانت عيناها تتألقان وسألت:

-                     ومترجماً أيضا. والآن؟

شعر آدم المطرود بالفرح يغمره لاهتمامها الواضح وغير المجامل به، فقال:

-                     تركت الصحافة والترجمة منذ سنوات، لكني لم أترك الكتابة.

-                     كيف ذلك. ؟ ماذا تقصد؟

كان آدم الولهان ينظر بسعادة إلى هذا الحوار بين زوجته والمهندس آدم المطرود، فكثيرا ما كان لا يجد ما يتحدث فيه معها كي يثير اهتمامها، وها هي تثار وتسري الحيوية في نفسها، وفكر مع نفسه بأن حضور المهندس آدم المطرود في هذه الرحلة سيكسر روتين الحوار بينهما. واستمع لآدم المطرود وهو يشرح لها:

-                     أقصد إنني على الرغم من أن مهنتي الهندسة المدنية إلا أني كاتب. ولست صحافيا.

-                     كاتب. ؟ تقصد أديب. ؟ تؤلف الكتب. ؟

قالت ذلك بانبهار وفرح. فأجاب منتشيا بالسعادة لدهشتها كونه كاتباً:

-                     نعم. لقد نشرت رواية واحدة، وحاليا أخطط لكتابة رواية أخرى.

-                     لديك رواية منشورة. ؟ ما اسمها. ؟

شعر آدم المطرود بالحرج، لكنه واصل:

-                     أوه. رواية يتيمة بعنوان (البرزخ) أو (الأقنعة الزجاجية).

صمتت للحظات. وارتسمت علامات التفكير على وجهها لثوان. ثم قالت:

-                     مع أني أعتبر نفسي قارئة جيدة ومتابعة للنشاط الأدبي والثقافي بشكل عام لكني مع الأسف لم أطلع عليها. بل لم أسمع بها.

فقال آدم المطرود بنبرة مليئة بالمرارة والإحباط:

-                     لقد نُشرت على نطاق ضيق. ظلّت في الرقابة لأكثر من عام، ولما نُشرت عنها بضع المقالات والأخبار في الصحافة الثقافية اللبنانية والمصرية تم الإفراج عنها.

فقالت هي باستغراب:

-                     ماذا؟. ظلت في الرقابة لأكثر من عام؟. ما هو السبب. ؟

كان زوجها آدم الولهان مستمتعا بالنقاش بينهما، بل إن حديث آدم المطرود عن الرقابة أيقظ في نفسه الفضول لمعرفة سبب عدم السماح للرواية بالوصول إلى القارئ العراقي، لذا دعاهما للانتقال من مكانهما والتوجه إلى طاولة قريبة، فاتجهوا إليها وجلسوا حولها. وبادره آدم الولهان مكرراً سؤال زوجته حواء الصايغ:

-                      لماذا ظلت في الرقابة لأكثر من عام؟. ما هو السبب. ؟

إزداد ارتباك آدم المطرود لكنه كان مضطرا للإجابة فقال:

-                     لا أدري بالضبط. ولا أدري ماذا أقول. لقد تم منعها بحجة أنها إباحية أو أنها تثير موضوعا حساسا يخل بالآداب والتقاليد.

انتظرت السيدة حواء الصايغ أن يوضح أكثر. لقد أحست بانجذاب شديد نحوه. انتبهت لإحساسها هذا منذ أول لقاء بينهما في المصعد. الآن تجد أن لهما اهتمامات مشتركة، لذا توجهت إليه بكل حواسها، وقالت له:

-                     أفصح أكثر. لا تخف. لسنا من أهل القمة كما يقال. تستطيع أن تتحدث معنا بحرية. وأمان. زوجي آدم رجل أعمال متفتح، وقد زار بلدان عديدة وتعرف على شعوب كثيرة، ولديه أفكار متحررة، فيمكنك أن تأخذ راحتك معنا.

شعر آدم المطرود وكأن حملاً ثقيلاً انزاح عن كاهله لهذا الإيضاح، فقال بهدوء:

-                     روايتي تتحدث عن ازدواجية المثقف الشرقي، فهو متحرر مع الآخرين لكنه رجعي ومتردد مع نفسه أو مع أهله. تراه يدعو لحرية المرأة لكنه يحجب هذه الحرية وينظر إليها بريبة وشك حينما يجب منحها لأخته أو زوجته أو ابنته.

ساد الصمتُ عليهم للحظات وكأنه مسَ شيئا خطيراً أو اقتربَ من منطقة محرمة، وحينما استمر الصمت أكثر، سألته حواء الصايغ:

-                     عن أي شيء تتحدث الرواية. ؟ أقصد ما هي حكايتها؟

كان آدم المطرود متردداً بالحديث عن تفاصيل الرواية لكنه كان أيضا غير مصدق في أنه يحاور سيدته التي أذهلته منذ أول لحظة قابلها فيها. ناهيك أنه انتبه لقولها إنها قارئة جيدة ومتابعة للأدب، فقال متشجعاً:

-                     كنت أتحدث عن إحدى الإشكالات الاجتماعية، عن البكارة عند المرأة، أقصد غشاء البكارة ومفهوم الشرف، والمسافة بين القول والفعل.

ارتبكت حواء الصايغ للحظة، ثم عقبت:

-                     مع الأسف لم أقرأ هذه الرواية، فكما يبدو أن موضوعها حساس جداً، لكن لماذا تحمل عنوانين. أذكر أنك ذكرت البرزخ وعنوانا آخر.

فأكد هو:

-                     الأقنعة الزجاجية.

وهنا سأل آدم الولهان وكأنه يريد المشاركة أيضا في النقاش، ليؤكد لهما أنه أيضا موجود وأنه مثقف ولديه اهتمام بالأدب أيضا وليس بالمال فقط:

-                     ولماذا جعلت الأقنعة زجاجية. ؟

أحس آدم المطرود بالارتياح قليلاً لابتعاد الحديث عن حبكة الرواية، فقال بحماس:

-                     لأن الأقنعة الزجاجية حينما تنكسر فأنها ستجرح الوجه.

ابتسمت السيدة حواء الصايغ من طريقة إجابته التي لم يستطع زوجها التعليق عليها، لكنه قال بمرح مصطنع، لكنه مكشوف:

-                     هذا كلام صحيح.

فقالت السيدة حواء الصايغ وكأنها تريد أن تعرفه أكثر:

-                     سيد آدم. هل لي بسؤال فضولي. ؟

-                     تفضلي. قال هو برحابة صدر

-                      من هو كاتبك المفضل؟

-                     أوه. لديّ عدد من الكتـّاب المفضلين.

ابتسمت له وقالت:

-                     مثلاً.

دب الحماس في أعماق آدم المطرود إذ وجد السؤال فرصة لكي يتحدث عن عالمه. وليبني الجسور السرية بينه وبينها، فقال:

-                     أنا أفضل مثلاً: دستويفسكي. تشيخوف. تورغينف. ميلان كونديرا، هنري ميلر، موباسان، أميل زولا، نجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، محمد ديب، الطاهر وطار.

شعرت حواء الصايغ بأن ثمة نقاط ضوء بدأت تتقد في المسافة بينهما، فقالت بمودة:

-                     هذه سلسلة من الكتاب، ولو سألتك من هو الأقرب بين هؤلاء. ؟

-                     صدقيني لا أدري. كلهم قريبون.

ساد الصمت بينهم للحظات. أحسَّ آدم المطرود أنه قطع شوطاً نفسيا بعيداً بينهما. وتوغل إلى مساحات كبيرة في نسج العلاقة الروحية بينهما. لذا أراد أن يقوم بالخطوة المماثلة، فسألها دون أن يعير الاهتمام لزوجها:

-                     وأنتِ. أي الكتّاب مقرب إليك أو المفضل لديك. ؟

ارتبكت حواء الصايغ وقالت بحياء:

-                     أنا أختلف عنك. أنا قارئة بينما أنت كاتب!

ابتسم لاجابتها الذكية، لكنه أصرّ على معرفة جوابها فقال:

-                     ومع ذلك من هو كاتبك المفضل أيتها القارئة. ؟

ابتسمت بعذوبة فسحرته ابتسامتها وشعر بنشوة روحية كبيرة. نظرت إليه وقالت:

-                     كقارئة. لدي عدد من الكتاب ربما أكثر مما لديك. لكني أحيانا لا أفضل مؤلفات الكاتب الكاملة. فأحيانا أحب عملاً واحداً للكاتب أو عملين وليس جميع أعماله، وأحيانا أحب فصلاً في رواية أو قصيدة محددة في مجموعة شعرية، بل وبيتاً معيناً في قصيدة.

أحسّ آدم المطرود بأنها تسحره ليس لجمالها الذي أذهله فحسب، وإنما لشخصيتها الجذابة وذكائها الوقاد، فأراد أن يقترب منها اكثر، فسأل:

-                     مثلا! هل يمكنك أن تحددي أكثر. ؟

فقالت بارتباك:

-                     مثلا أحب رواية آنا كارنينا لليف تولستوي، ورواية مدام بوفاري لفلوبير. ومن العرب أحب معظم روايات حنا مينه، الطاهر وطار، وهاني الراهب.

أدرك آدم المطرود بسرعة خارقة العالم الروحي لهذه السيدة المذهلة من خلال الكتاب الذين ذكرتهم. لكنه أحس بأن ثمة جاذبية وتوترا صارا بينهما واضحا لاسيما بحضور الزوج، ولكي يجعل الوضع طبيعيا توجه بالسؤال إلى زوجها آدم الولهان وسأله:

-                     وأنت سيد آدم. أي الكتّاب تفضل. ؟

ارتبك الزوج آدم الولهان فلم يكن يتوقع أن يشركه في النقاش، فقال محاولاً أن يداري وضعه:

-                     أنا. أنا. أنا أفضل الشاعر نزار قباني. لكني أحب الفن التشكيلي أكثر. أحب أن أزور المتاحف حينما أكون في أي بلد أجنبي.

-                     رائع جدا.

ولكي لا يتورط أكثر بادر الزوج آدم الولهان بالسؤال:

-                     لكن قل لي يا أستاذ آدم. هل لديك اهتمام بالفن التشكيلي؟

انتبه آدم المطرود بشكل غامض إلى أن هذا الزوج ربما يسعى لابعاد زوجته من الحوار غيرة منها أو عليها، فأجابه:

-                     لحد ما. لكن ليس كمتخصص، وأنت. هل أنت متخصص بالفن التشكيلي. ؟

ارتبك آدم الولهان. لكنه أجاب بعد لحظات:

-                     أنا لستُ متخصصا في الفن التشكيلي لكن يمكن أن تقول إنني أتذوقه. أحب اللوحات الغربية ذات الموضوعات الشرقية. أحب الفنان الفرنسي ديلاكروا، وأحب أعمال روبنس.

انتبه آدم المطرود إلى أن ما يعنيه هذا الزوج هي لوحات الاستشراق أو ذات الموضوعات الشرقية، فقال:

-                     أنا أحب رينوار.

فجأة. انتبه المهندس آدم المطرود إلى نفسه، وكأنما ستارة سوداء انزاحت عن مشهد في لاوعيه. لقد اكتشف سر تعلقه بالسيدة حواء الصايغ من أول نظرة له. إنها تشبه (لورا انتونيللي)، الممثلة السينمائية الايطالية التي شاهدها في فيلم (البريء) لفيسكونتي. المرأة الشهية والمثيرة والفياضة بالأنوثة والحالمة والتي تفيض طهرانية وقداسة لكنها أيضا شهية وتشع بالرغبة، وهنا التفت إلى السيدة حواء الصايغ وسألها:

-                     هل تحبين السينما. ؟

استغربت سؤاله، وقالت:

-                     نعم، ولكني أميل للأفلام الرومانسية.

فألح بالسؤال:

-                     هل شاهدت شيئاً من أفلام المخرج الايطالي فيسكونتي.

فقالت دون ان تفهم اصراره على ذلك:

-                     لا أركز على أسماء المخرجين، لكن لماذا تسأل. ؟

نظر إليها مرتبكا وقال:

-                     لاشيء. لكن هل شاهدت لوحة (اللوج) للرسام الفرنسي رينوار. ؟

-                     لقد تصفحت ألبوم أعماله، فلدينا الكثير من ألبومات الفن العالمي في البيت، لكني لم أركز على هذه اللوحة. من المؤكد أنني شاهدتها لكني لم أتوقف عندها بشكل خاص. لماذا تشير إلى هذه اللوحة بالذات؟

هنا تدخل الزوج آدم الولهان ليشارك في النقاش، إذ وجد أن سؤال آدم المطرود لزوجته عن الفن التشكيلي، وعدم سؤاله هو، هو إهانة له، فهو، أكثر من زوجته، يمكن أن يقول شيئاً في الفن التشكيلي، فقال على غير انتظار من أحد:

-                     أنا أحب أحد الفنانين الروس واسمه سوريكوف.

التفت إليه آدم المطرود ماسكا نفسه من الانجرار وراء عواطفه الجياشة، وقال للزوج:

-                     يبدو أنك ملّم بالفن جيدا يا سيد آدم. شخصيا يمكنني أن أقول عن نفسي بأني أحب جميع الفنانين وجميع المدارس الفنية والتيارات الأدبية. أحب جميع الألوان، حتى أشدّها تناقضا. عمري خمسة وثلاثون عاما. مؤمن بالله الواحد الأحد، لكني لستُ على وفاق مع الأديان. ثم ماذا بعد. ها. ليس لدي أي ضمان على الحياة، سوى ضمان سيارتي.

ضحكوا جميعا من تقديمه لنفسه بهذه الطريقة. نظرت حواء الصايغ إليه نظرة متعاطفة يغمرها الحنان، إذ أحست بأنه قريب منها وأنها قريبة منه، لكنها برغم ذلك قالت له:

-                     إن لديك طريقة غريبة في الكلام. لقد قلت كل شيء عن نفسك تقريباً، لكنك أيضاً لم تقل شيئا قط.

فتدخل زوجها مازحا وقال:

-                     وأنا أتفق معها. فمثلا أنت لم تقل لنا هل أنت متزوج أم لا؟

نظرت زوجته إليه وكأنها تؤنبه على سؤاله، وقالت:

-                     ما هذا يا آدم، هذه أشياء شخصية.

ابتسم زوجها وقال بمرح:

-                     أعتذر.

فقال آدم المطرود بهدوء:

-                     لا داع للاعتذار. لستُ متزوجا، كما.

وقبل أن يبدأ ليسترسل في كلامه تقدم صديقه المهندس آدم الصاحب الذي أندهش من طريقة التعارف التي تمت بين آدم المطرود والمرأة المجهولة، لاسيما وهو كان يراقبهم من بعيد، وحينما سمع أنهم يتحدثون بالعربية وباللهجة العراقية، قال:

-                     إنها رائحة بغداد التي جذبتني. يا إلهي. كم هي طيبة رائحة العراق واللهجة العراقية.

لم تكن مفاجأة لهما لأنهما شاهداهما معا لمرات عدة في المطعم كما أنه راقص السيدة حواء الصايغ قبل ذلك. فقام المهندس آدم المطرود بتقديمه لهما.

-                     صديقي المهندس آدم الصاحب. (والتفت لصديقه معرفا بهما). السيد آدم الولهان وزوجته السيدة حواء الصايغ.

-                     أهلا وسهلا.

في هذه الأثناء التحقت إيفا الروسية بصديقها آدم الصاحب الذي قدمها لهم بالانكليزية، فرحبوا بها من باب المجاملة، ولكن كما يبدو أن حواء الصايغ استاءت من حضورها، لذا قالت لزوجها، وكأنما تريد إنهاء الموقف:

-                     لقد بدأت الشمس تميل للغروب، ويبدو أن الشمس ستذهب للنوم في أعماق البحر.

-                     يا له من تعبير شاعري.

علق آدم المطرود بمبالغة واضحة. ؛فبادر الزوج آدم الولهان مفتخراً وهو يقول:

-                     إنها تكتب الشعر والخواطر أحيانا.

فارتسمت علامات الدهشة الحقيقة على وجه آدم المطرود الذي كان يتوهج بالمشاعر الجياشة وقال:

-                     هذا شيء رائع، وتقولين إنك قارئة فقط. ؟ اتضح أنك كاتبة وشاعرة أيضا، فهل يمكننا سماع أي شيء مما كتاباتك؟

ارتبكت حواء الصايغ ونظرت إلى زوجها بحياء وبنظرات عتاب، وقالت:

-                     لا. لا. لا أحفظ أي شيء مما أكتب.

فقال زوجها بمرح مشاكس:

-                     هيا. هيا. لنسمع ما كتبته ليلة أمس.

نظرت إلى زوجها بحياء وقالت له وكأنها تؤنبه:

-                     آدم، لا تحرجني. لا أحفظ شيئا مما كتبته. إنها خاطرة. من الصعب أن تسميها شعرا.

فتدخل آدم المطرود قائلاً:

-                     لي الشرف بأن أسمع شيئا مما تكتبين.

ارتبكت لاسيما وانها انتبهت لنبرة الصدق في صوته فقالت:

-                     صدقني لا أحفظ شيئا، لكني أعدك بأني سأقرأ شيئا مما كتبته في ما بعد.

انتبه المهندس آدم الصاحب إلى أن وجود ماريا الروسية قطع سلاسة وتلقائية الجلسة التي كان التواصل فيها باللهجة العراقية، فأخذها من خصرها قائلا للجميع:

-                     اسمحوا لنا. سأراكم فيما بعد. تشرفت بمعرفتكم.

-                     أهلا وسهلا لنا الشرف.

قال آدم الولهان باحترام شديد، وبدا الارتياح على وجه حواء الصايغ، ثم التفت الزوج إلى آدم المطرود وقال ضاحكا:

-                     يبدو أن صديقك يبلي بلاءً حسنا. بالمناسبة. لقد قرأت إعلانا عن مؤتمر للمهندسين. هل لديكم مؤتمر هنا؟

-                     نعم. لقد دعتنا إحدى الجامعات التركية بالاتفاق مع جامعات فرنسية وألمانية إلى هذا المؤتمر.

نظرت حواء الصايغ مستفهمة إلى زوجها، مستغربة سؤاله، وادركت أنه يريد أن ينتقل بالحوار عن قصد من الأدب إلى الهندسة والمعمار، لكنه منجذبة برغبة في أن تتحدث معه فسألته:

-                     وعن أي شيء يتحدث مؤتمركم.

-                      عن تيار (الهاي – تيك) في عمارة ما بعد الحداثة.

فسأل الزوج آدم الولهان باهتمام وفضول حقيقي:

-                     وما هو تيار (الهاي – تيك) هذا. ؟

أحس آدم المطرود بأنها فرصة أخرى أمامه ليكشف عن معارفه أمام السيدة حواء الصايغ، فقال:

-                     (الهاي – تيك) اختصار لمصطلح (التقنية المتقدمة – هاي تكنولوجي) وهو من أكثر التيارات انتشارا في فن العمارة المعاصر والذي يكاد يمثل قطيعة معرفية مع بقية أشكال العمارة والتصميم المعماري المعروف سابقاً. وقد برز هذا التيار في السبعينات، ويعتبر مبنى مركز جورج بومبيدو للفنون المطل على ساحة بوبور في باريس والذي شُيد ما بين الأعوام 1971-1977 أبرز علامة أو رمز يمثل هذا التيار الذي يستخدم جماليات التراكيب المعدنية مع الألواح الزجاجية.

كان السيد آدم الولهان وزوجته حواء الصايغ يستمعان بانتباه واستمتاع للمهندس آدم المطرود وهو يشرح لهم عن تيار التقنية المتقدمة في فن العمارة. فجأة سألته حواء الصايغ سؤالا ً محرجا:

-                     هذا التيار كما فهمت منك يمثل توجهات ما بعد الحداثة ويلقي بكل الجماليات السابقة جانبا، كما تقول. لكن ومن خلال حديثك عن الأدب بل وحتى عن الفن التشكيلي فأنك تميل للتعبيريين والكلاسيكيين وجمالياتهم الأدبية والفنية، فهل أنت من أنصار هذا التيار؟

فكّر المهندس آدم المطرود للحظات في هذا السؤال وأجرى وخلال لحظات مراجعة داخلية مع نفسه ثم نظر إلى أعمق أعماق عينيها وكأنه يتوغل في أعماقها، وقال:

-                     معرفتي لهذا التيار وتقبلي له كخطوة في مجال فن العمارة لا يعني أبدا أنني من أنصاره، ففن العمارة هو فن الحيز والمكان والزمان، لكني شخصيا أميل للروح الشرقية لأني أحس أحيانا بالاغتراب مع تيارات العمارة الحديثة التي تعتمد على تصميم الفضاء وتشكيل الهيئات المعمارية غير العادية التي يحتاج المرء لإدراكها إلى التفسير الذاتي والتأويل الشخصي لكل التصميم المعماري المقدم. إنني مع تيار الحداثة في فن العمارة وليس مع تيارات ما بعد الحداثة التي أجدها بعيدة عن الروح الشرقي.

كان واضحا انهما لم يستوعبا كل ما قاله، لكنها سألته:

-                     هل تستفيد من فن العمارة في بناء رواياتك؟

ابتسم المهندس آدم المطرود قائلا:

-                     شخصيا لم أنتبه إلى هذا الأمر. ربما في اللاوعي، كما أنك تتحدثين عن روايات وأنا لم أكتب سوى رواية واحدة لم يحالفها الحظ بالانتشار.

فقالت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة:

-                     يمكنك إعادة طباعتها وتوزيعها ثانية.

-                     إنني مشغول بالتخطيط لرواية جديدة، بل لقد كتبت بعض فصولها.

-                     وعن أي شيء تتحدث روايتك الجديدة.

-                     عن الحياة، عن أحد الأزقة وأهله وشخصياته وفي حقبة سياسية عصيبة من تاريخ العراق، وبالتحديد في بداية السبعينات.

-                     يعني مع بداية نشوء تيار (الهاي – تيك) وبداية إنشاء مركز بومبيدو للفنون. !!

علّقت حواء الصايغ مبتسمة. ؛فضحك المهندس آدم المطرود عاليا، وقال:

-                     لم أكن أعرف أن لديك ذاكرة بلورية بهذا الشكل، وكل هذه القدرة على الربط والسخرية، عموما، لقد استخدمت الأسلوب الكلاسيكي التقليدي في السرد.

فقالت بمودة وعلى استحياء:

-                     هل لي أن أتشرف بقراءتها؟

-                     لي الشرف في أن تكوني أول قارئة لها، لكنها لم تكتمل بعد.

-                     على العكس سيسرني متابعة تشكيلها فالعمل الإبداعي ينمو مثل الجنين، وجميل أن أرى وأتتبع تشكل عملك الروائي هذا.

كان الظلام قد خيم على البحر والأمواج، وبدأت تتلاطم بشكل خفيف تمهيدا لحركة المـد. كانت أضواء المركب ترقص على صفحات الموج الخفيف الذي تحدثه حركة المركب، وكان الساحل بعيداً تقريباً، وأضواء الفنادق على الساحل تبدو مثل نجوم على الأفق. كانت تلك الأمسية بداية لحياة جديدة لكل من حواء الصايغ وآدم المطرود، حياة وسط ظلام البحر وتلاطم الأمواج.

**********

أحست حواء المؤمن بالملل من هذا الفصل الذي كان فيه الكثير من النقاشات عن الأدب وفن العمارة، لكنها أخيراً عرفت بأن هذه المرأة المجهولة، هي حواء الصايغ التي عرفت أيضا أنها قُتلت.

مرة أخرى فكرت بأن زوجها الدكتور آدم التائه هو أستاذ جامعي وليس مهندسا، يعني أن القصة ليست قصته، وإنما هو يحكي قصة إنسان آخر، لكن لماذا أسماه آدم المطرود. فكرت في أن تواصل القراءة فربما ستعرف نهاية هذه القصة.

**********

(5)
كان المهندس آدم المطرود يمشي مقيد اليدين وسط حراسة مشددة تتألف من شرطيين وأمامهم يمشي شرطي وخلفهم شرطي. توقف الجميع أمام باب عريض. دخل الشرطي الذي كان يتقدم المجموعة أولا ثم خرج ليفتح الباب لهم كي يدخلوا جميعاً.

كانت الغرفة واسعة وعريضة، وكان في وسطها طاولة كبيرة جلس حولها أربعة محققين. كان المحقق آدم التكريتي بينهم. أجلس رجال الشرطة المهندس آدم المطرود على كرسي أمامهم وفكوا قيوده وخرجوا، ولم يبق منهم سوى شرطي واحد وقف منتصب قرب الباب الخارجي.

دخل رجل يحمل صينية فيها أربعة أكواب مليئة بالقهوة. وضعها أمامهم ثم غادر المكان، بينما أخذ المهندس آدم المطرود يفرك ساعديه ويحركهما.

الرجال الأربعة كانوا ينظرون بلا مبالاة إلى المهندس آدم المطرود. فُتح الباب ودخل رجل نحيل يضع على عينيه نظارة طبية حاملا آلة كاتبة. نظر للحظة بعينية في المكان. وألقى نظرة على آدم المطرود ثم توجه إلى زاوية، تبدو أنها مكانه المعتاد، حيث يوجد منضدة وكرسي ورزمة من الأوراق. وضع الآلة الكاتبة هناك ومد سلكها ليدخل الموصل في القابس الكهربائي عند حافة الجدار الأرضية ثم جلس على الكرسي، منتظرا بدء التحقيق.

فجأة قام أحد الجالسين الذي يبدو أنه الأكبر منصباً ببينهم وأخذ يتجول في أرجاء الغرفة على مهل، ثم جلس على كرسيه ثانية وتوجه إلى المهندس آدم المطرود بلهجة رسمية جافة لكنها محايدة:

-                     نحن آسفون جدا سيد آدم، فلقد اضطررنا أن نمنع عنك المقابلات. لقد عاد السيد آدم الولهان من سفره خارج العراق أمس وأراد أن يقابلك. تستطيع أن تفهم لماذا لم نسمح له بذلك. إننا نأسف لذلك. كما جاء صديقك المهندس آدم الصاحب أيضا.

نظر المتحدث إلى بقية الجالسين نظرة عابرة وكأنه يستشيرهما عن جدوى هذا المدخل للتحقيق، لكن آدم المطرود قاطعه قائلا بهدوء:

-                     أيها السادة، لا أستطيع أن أرى مبرراً لمنع الزيارات أو المقابلات عني في هذه المرحلة من التحقيق على الأقل. لقد كنت أود مقابلة السيد آدم الولهان فلماذا منعتموه. ؟ كما أود أن يزورني صديقي المهندس آدم الصاحب عسى أن يفاتح أحد المحامين ليوكله لمتابعة وضعي.

تبادل المحققون النظرات في ما بينهم. فأجابه المحقق الذي كان لايزال واقفاً:

-                     لكن السيد آدم الولهان هو زوج القتيلة حواء الصايغ يا سيد آدم. ؟! وقد كان في حالة نفسية سيئة، وقد خشينا من هذا اللقاء وما ينتج عنه. إنه إجراء احترازي لسلامتك قبل كل شيء.

فقاطعه آدم المطرود ثانية بنبرة مليئة بالتعجب والاستغراب:

-                     هل يشك السيد آدم الولهان فيّ؟ ثم ماذا عن صديقي المهندس آدم الصاحب. ؟ لماذا لم تسمحوا له أيضا؟

عاد المحقق الذي كان واقفا إلى كرسيه وجلس عليه بينما فأجابة محقق آخر:

-                     لقد اقتضى استكمال التحقيق مثل هذا الإجراء.

نظر المحقق الذي تحدث أولهم إلى زملائه ثم نظر إلى آدم التكريتي وسأله:

-                     هل نبدأ. ؟

نظر المحقق آدم التكريتي نحو آدم المطرود ثم إلى رئيس المحققين وهز رأسه بالموافقة. نظر الإثنان الآخران نحوه أيضا وأشارا برأسيهما بالموافقة. التفت المحقق الرئيس إلى آدم المطرود وسأله:

-                     سيد آدم. ما هي علاقتك بالسيدة حواء الصايغ. ؟ كيف تعرفت عليها. ؟

نظر آدم المطرود يائسا إلى آدم التكريتي. فقد أجابه في التحقيق الأولي على هذا السؤال، لكن الآن أمام أربعة محققين. فأجاب:

-                     إنها وزوجها الأستاذ آدم الولهان من أقرب أصدقائي. لقد تعرفت عليهما صدفة في في سفرة لي إلى تركيا لحضور مؤتمر علمي أقيم في إحدى مدنها الساحلية، ثم تعمقت علاقتنا أكثر حينما رجعنا إلى بغداد، وكنت أزورهم باستمرار، وأحيانا كثيرة كانوا يدعونني فيها للعشاء عندهم في البيت.

تبادل المحققون النظرات. نظر آدم المطرود إلى آدم التكريتي نظرة مبهمة وكأنه يريد ان يساله عن سر هذه التكرار في الأسئلة، إلّا أن المحقق الرئيس سأله مقاطعاً بنبرة حازمة:

-                     هل كنت تزور السيدة حواء الصايغ ذلك اليوم في الساعة العاشرة صباحاً. ؟

ارتبك المهندس آدم وقال بتردد:

-                     كنتُ أحاول زيارتها لكنني لم أجد أحداً في البيت.

فقاطعه المحقق آدم التكريتي قائلا:

-                     لقد قلت سابقا ً أنك كنت في الطريق إلى العمل. !

إرتبك آدم المطرود. أحس أن عليه ان يكون بالغ الحذر في إجاباته، فقال مبرراً:

-                     كنت أقصد الفترة التي سبقت زيارتي للسيدة حواء الصايغ.

فسأله أحد الجالسين بهدوء:

-                     ولماذا أردت زيارة الضحية. ؟

تألم آدم المطرود من تسمية حواء الصايغ بالضحية، فقال ببنرة حزينة واضحة:

-                     إنها زيارة ودية عادية، فقد كنتُ أزورهم بمناسبة وبدون مناسبة.

فسأله المحقق الذي لم يتحدث لحد الآن:

-                     هل كنتَ تعرف أن زوجها السيد آدم الولهان غائب وأنه خارج العراق في سفرة عمل. ؟

فوجئ آدم المطرود من سير الأسئلة، وأجاب:

-                     نعم.

فواصل المحقق نفسه سؤاله:

-                     إذن كيف سمحت لنفسك بزيارتها. ؟ هل علاقتك بها من العمق والقوة بحيث يمكنك القيام بذلك بغياب زوجها. ؟ وهل يعرف زوجها بأنك تزور زوجته بغيابه. ؟ كيف هو وضعك المادي. ؟

استغرب آدم المطرود هذه الأسئلة، وأحس بأن جسده بدأ يتفصد عرقاً. ، وأن رعشة برد تسري في سائر جسده. وتقلصات خفيفة في عضلات قلبه. لكنه، في الوقت نفسه، انتبه إلى أن الأمور تتخذ مجرىً آخر، فأجاب بنبرة متعبة وبارتباك حاول كبته في داخله كي لا يفسر تفسيرا ليس في صالحه:

-                     ماذا تقصد حضرتك. ؟ أولاً. إن علاقتنا قوية جداً، وكنت أزورهم حينما يكون السيد آدم الولهان غائبا أحياناً، وكثيرا ما كان يلتحق بنا، بل كثيراً ما كان يطلب مني الذهاب إليهم لمجالسة السيدة زوجته لأنها ترتاح للحوار معي، لاسيما إذا ما أراد التأخر في العمل بالمكتب. ؟ ثم ما علاقة وضعي المادي بالتحقيق. ؟ (صمت لحظة) على أية حال أن وضعي لا بأس. فكما تعرفون أنا مهندس. وعندي مكتب هندسي. صحيح أني لا أستطيع الدخول في مقاولات كبيرة، لكن وضعي المادي جيد.

فجأة أحس آدم المطرود بأنه لن يستطيع المواصلة. وأن غشاوة من الظلام تكبس على عينيه وعقله، وأحس بأن قلبه قد توقف عن النبض، وأنه ينهار في لجة عميقة سوداء، سوداء، وأن هناك من يسحبه إلى المجهول. واختفى كل شيء. ولغاب في المجهول.

**********

حين أفاق وجد نفسه في زنزانته. لم يتذكر كيف انتهى التحقيق. أحس أنه في مكان آخر، ولم يكن يحس بجسده. كانت روحه تقاوم من خلال الذكريات.

**********

كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلاً حينما رن جرس التليفون في غرفته فرفعه بمرح ظنا منه أن المتصل هو صديقه المهندس آدم الصاحب كي يروي له شيئا من مغامراته مع إيفا الروسية، لكنه فوجئ بصوت آخر:

-                     تحياتي أستاذ آدم. أنا آدم الولهان.

قفز آدم المطرود من المقعد الذي كان يجلس عليه قبالة التلفزيون واقفاً، وخلال ذلك ضفط على زر في سماعة الهاتف بحيث صار الصوت مسموعاً، وفي الوقت نفسه كتم صوت التلفزيون من خلال الريموت كونترول، وقال بلطف محاولاً كبت فرحه:

-                     أهلا أستاذ آدم. أرجو أنني لم أكن قد ضايقتكم بالحديث عن الأدب والفن والهندسة، إذ لم أترك لكم الوقت لتكونوا لأنفسكم فقد شغلتكم بالحديث.

-                     أبدا يا سيدي. كان حديثك ممتعاً جداً ومفيداً. كما بودي أن اخبرك بأنني اتصلت بك لأن زوجتي حواء منذ أن رجعنا قبل ساعة وهي تحثني على الاتصال بك، فلقد جهزت بعض نصوصها الشعرية وتريدك أن تقرأها الليلة.

لم يصدق آدم المطرود ما سمعه، لكنه سيطر على نفسه، فهو يحدث زوجها لذا كبت فرحه وقال:

-                     يشرّفني ذلك. كيف سأستلمها؟

-                     لحظة من فضلك. (وبعد لحظات) ياسيدي إنها تريد أن تقرأها نصوصها بنفسها أمامك، وتدعوك إذا لم يضايقك ذلك للنزول إلى اللوبي. هل لديك الوقت أم أنت متعب. ؟ إذا كان الأمر كذلك نؤجله إلى لقاء آخر.

لم يصدق المهندس آدم المطرود ما سمعه، فهو سيراها ثانية. وسيتأملها وهي تقرأها نصوصها، فقال بلهفة وبنشاط:

-                     سأنزل حالاً. أو لنقل بعد عشر دقائق. اتفقنا.

-                     اتفقنا.

حينما وضع آدم المطرود سماعة الهاتف لم يصدق نفسه. دخل إلى الحمام بسرعة ومشط شعره ورش شيئاً من العطر على وجهه وجوانبه وصدره وخرج مسرعا حتى أنه لم يُطفئ الضوء في الغرفة.

**********

حينما خرج آدم المطرود من المصعد توجه مباشرة إلى صالة الاستقبال. فتش بنظراته القلقة عن حواء الصايغ وزوجها فلم يجدهما، وانتبه أنه نزل قبل مرور الدقائق العشر التي قال إنه سينزل خلالها. لم يكن هناك الكثير من الزوار في الصالة. ثمة رجل وامرأة في إحدى زوايا الصالة يتهامسان، وموظفو الاستقبال قرب الباب الزجاجية الكبيرة.

فتش عن زاوية مريحة بعيدة عن الأنظار. جلس هناك منتظرا. سمع باب المصعد يُفتح. فجأة رآها قادمة وقد غيرت الملابس التي كانت تلبسها عصر هذا اليوم على سطح المركب البحري وتحمل بيدها ملفا، وخلفها بخطوة كان زوجها آدم الولهان قد غير ملابسه أيضاً.

وقف في استقبالهما مرحبا داعيا إياهما للجلوس، ثم أشار للنادل في زاوية البهو كي يأتيهم. ما أن جلسا حتى كان النادل قربهم، فسألهم عما يشتهون شربه. طلب زوجها كأسا من الويسكي بينما طلبت هي كأسا من عصير الجزر، أما هو فطلب قهوة اكسبريس.

كان ثمة شيء من الارتباك في بداية الجلسة، فقد كان هو منبهراً بحضورها القريب لاسيما وهي توسطت المقعد بينه وبين زوجها فكان عطرها الزكي يصل إليه. وأخذ لثوان يبحث في ذاكرته عن اسمه. إلا أن زوجها بادره معتذراً وهو يقول بلطف مبتسما:

-                     نحن نعتذر، لقد أقلقناك في هذه الساعة من الليل.

ونظر لزوجته بحنان وواصل الحديث:

-                     لكنها أصرت على أن تقرأ نصوصها بنفسها، وأنا شخصياً ضعيف أمامها، لا أستطيع أن أرفض لها طلبا، لذا اتصلت بك.

شعر آدم المطرود بموجات الفرح تجتاحه فقال بمودة:

-                     لا تعتذر يا استاذ آدم. فأنا شخصيا كنت في شوق لقراءة نصوصها، وها هي تريد أن تقرأها بنفسها، فيا للسعادة.

شعرت حواء الصايغ بسعادة غامرة تسري في أنحاء روحها وجسدها، وخلال ثوان سألت نفسها: هل هي سعيدة لرؤيته مجدداً أم أنها حقا تريد أن تُسمعه ما كتبت. ؟ ولكونها كانت تتحقق دائما من أفكارها ومشاعرها في أعماقها فقد أجابت على هذا السؤال في أعماقها: إنها تريد رؤيته هو، وهي متأكدة من نفسها ومن مشاعرها.

 جاء النادل بما طلبوا من مشروبات ووضعها على الطاولة وذهب. هي تعرف أنه بانتظار أن تقرأ نصوصها فهذا هو السبب الظاهر الذي على الأقل اجتمعوا من أجله. فتحت الملف الذي أمامها وأخذت بعض الأوراق التي أمامها. صمتت لحظة. كانوا ينتظرون أن تقرأ. أخذ زوجها رشفة من الويسكي بينما ظل آدم المطرود صامتا ومتأملاً وجهها المثير ومنتظرا عما ستكشفه نصوصها من عالمها وأحلامها وطريقة رؤيتها للعالم. كانت هي مرتبكة، فقالت والكلمات تكاد نختنق في حنجرتها:

-                     أحس بالارتباك.

ابتسم آدم المطرود وقال بتعاطف وحنان:

-                     لا ترتبكي. كلنا نرتبك حينما نقرأ نصوصنا أمام الآخرين الذين لا نضمن ردود أفعالهم إزاء ما نقرأه لهم.

نظرت إليه بمودة وقالت:

-                     شكرا لتشجيعك. سأقرأ.

رتبت الأوراق التي أخذت بالشكل الذي كان ضروريا بالنسبة لها، أخذت إحدى الأوراق وقرأت بصوت هادئ وحزين، كان في البداية مرتعشا لكنه صار فيما بعد واثقا:

أيــــــــــــــام.

يـــوم يســلمني لآخــــر

ومـدينــة تســلمنـي لـمــدينـة

زقـــاق يسـلـمنــي لـزقــــاق

ودهـــليز يســلمنـي لـدهــليز

كـابوس يسـلمنـي لكـابــوس

تـعـبــت روحـــــي

فـلــمــن سـأســـلم نـفـســـي؟

صمتت للحـظـات منـتظـرة أن يـعــلّق شيئا على ما قـرأ، لكنه كان هو غـارقا في شيء بعـيد وكأنها مسـت شيئا في أعمــاق روحـه. أما زوجهـا فلم يبد أي تعليق بل أخذ رشفة أخرى من كأسه. نظرت هي إليهما وواصلت القراءة:

اعــتــــــــــــذار

آه.

أسمع صوتَ ناي حـزين في الشارع

لأنـزل من شـرفتي

صـوت النـاي الحـزين يبـتعــد

أيتهـا الـوردة اعـذرينـي

سأمضـي مـع صـوت النـاي الحـزين

لبـلادي رائحــة الـرازقـي المتـفتـح ليـلاً

أيتهـا الــوردة

هـذه بهـجــتي تـذوب مثـل شـمعة حـزينــة

وعـمــري يهــرب مـذعـورا

مـثــل عـصـفــور وحـيــــد

في سـماء مـليئــة بالصــقــور

 

نظرت إليهما. كان هو متوهج الروح، نظراته تفيض أسى وحنين. نظر إليها نظـرات ذات معنى وكأنه يتوسـل أن تواصل قراءة نصوصهـا، فلم تتوقف أكثر بل واصلت:

مـعـــــــــــرفــــــــــة

فـي مقــابر الليــل

وأمــام ضــريح نـجـمــة عاشــقة

رقـصــتُ

وتـذكــرتُ

كـيف كـانت أمـي تغـمـضُ عيـنيـهـا

مـن دخـــان الـمــــوقـد فـي الشــتـاء

وتــذكــرتُ غـــزالـــة شـــاردة ً

انـقـّضَّ عـليـهـا النـمـر عنـد النبع

وتـذكــرتُ بـأنـني ذات يــــوم

لـن أذكــــر شيــئا

فـي مـقــابر الليـــل

عــرفـتُ الصـــباح

 

نظرت إليهما مرة أخـرى. لم يجبها أحد. زوجها كان قد أنهـى كأسه وأشار من بعيد للنادل رافعا كأسه بأنه يريد كأسا أخرى. لم يستطع المهندس آدم المطرود أن يقول شيئا فقد كان مختنقا بالكلام، لذا أشار إليها بأن تستمر. نظرت إليه وكأنها تقول أنا أقرأ من أجلك أنت وحـدك:

مـصـــــــابيــــح الـطـفـــــــــولــــة

مـصـابيــح طـفـــولتي شاحبـة الضــوء

المصـابيح التي عـرفتها ترتعش دائمـا

ورغـم ذلك ليـس هنـاك في ظـلمـــتي

غيـر هـــذه المــصـــابيــح.

أيتــها الـمصــابيـح.

يا مصـــابيح الـعـــالـم. اتـقـــــدي

وأنـــت َ أيهــا الـحــارسُ

حــذار ِ أن تـنـسـى مصـباحـك فـي البـيـت.

صمتت للحظات ونظرت إليه فوجدته ينتظر أن تواصل القراءة. استفهمت منه بنظراتها،فقال هامسا:

-                     واصلي القراءة رجاءً

لم تجبه وانما استمرت في القراءة:

غـــــــــــــــريــــــــــــب

ليل بهيم

سماء ليـس فيها قـمــر

سـماء تســـح مطــراً وعتــمة

المطـــر والظــلام المنهمر بقـــوة

ليس هنـاك في الـمحـطـة سـوى المرأة الغريبة

ليس من نـأمــة سـوى صـوت انهمار المطــر والظـلام

مـن تـُرى سـيوصـلـها إلـى البـيـت

الـبـيـت الكئـيـب

إنــها تـكــره البيــت،

لــكنها فكـــّرت

ليتــها الآن فـي البيــت

فـي البيـت الـكئيــب. الكئيــب

ليتــها الآن هـنـــــاك.

 

-                     وهذا نص آخر. قالت ذلك دون أن تنتظر:

هــــــــــــــــذيـــــــان

هـل أنا

حطـــام سـفيـنة ٍ أحــرقهــا القــراصنـة

أم نجـمــة تهـــرب من السـماء

قـُلتُ للأرض: إنني وردة جـريحـة

قـلتُ للـريح: اذكــري خطـوتي وباركيها

قـُلتُ للأشـجار: وداعـا ً أيتهــا الجــذور

قـُلتُ لأمــي: آه. كــم أحبــُــك ِ

ثم قـُلتُ لنفسـي: مـا هــذا الهـــذيـان؟؟

صـمتت للحـظــة ثم قـرأت نصـا جـديداً:

لـــــــو

أذكــرُ مـن طفـولتي

إننـي كنـتُ جائعــة ذات مســاء

أذكـــرُ مـن مدينتـي

مقـبــرة لجنـود الحــرب الأولــى

أذكــرُ مـن بــلادي

هــاوية بمســـاحة بـلادي

أذكــرُ مـن الـــورد

شــوكــة جـرحتنـــي

أذكــرُ مـن جنـوني

أننــي دفـنتُ في كهــوف الليـل راســي

أذكــرُ مـن الليـــل

أننــي قـذفـتُ فـي خـلجــان النجــوم بآهــة محــرقة

أذكــرُ مـن النسـيان

أننــي نـسـيتُ نـفســي

آه

لــو أنســى الــذكــريات

نظرت إليه بتساؤل ممزوج بتوسل خفي، فكأنها كانت تنتظر النطق بحكم قضائي عليها كشاعرة. سبق لها أن قرأت نصوصها على زوجهـا، لكنه لم يتحمس لها أبداً. كان زوجها يتجنب أن يفصح عن رأيه السلبي بكتاباتها لذا كـان يتعــذر بأن هذا الأمر ليس من اختصـاصـه ولا يستطيع أن يقول لها شيئا، لكنه يرى أنها نصوص كئيبة.

الآن هي تنتظر أن يقول آدم المطرود، الكاتب، شيئاً. ولم يكن أمامه إلا أن يبدي رأيه، وكم تمنى لو أنهما وحدهما لقال لها الكثير، لأختصر اللغات جميعها في كلمة واحدة: أحبك. لكن زوجها هنا، وهو ينظر إله متسائلاً منتظراً رأيه أيضا، ولو من باب الفضول. تملل آدم المطرود في مكانه وقال:

-                     لا أريد أن أجاملك أبدا.

هيمن عليهم صمت وتوتر، فقالت حواء الصايغ وكأنها تنتظر حكما قاسياً:

-                     وأنا لا أريد أن تجاملنـي.

نظر آدم المطرود لها ثم إلى زوجها وأعاد النظر إليها وهو يقول:

-                     بصراحـة شديدة أقـول: إنك تكتبين برقة وحساسية عالية. صورك تشي بعزلة روحية. لـمستُ في أعمـاقك غـربة روحيـة وبراري من الوحشـة. إنك تكتبين عن غربة الروح وسط العالم. تكتبين عن الخلاص أو بشكل أدق عن محنة الخلاص، بل تبحثين عنه وسط عبث الوجود الذي يحيط بنا. كتاباتك تنم عن موهبة. رغم أنك من الناحية الأسلوبية ربما تحتاجين إلى خبرة ومران أكبر. هل لديك نصوص أخرى؟

كانت حواء الصايغ منبهرة لتشخيصه الذي مس أعماقها، ليس في مدحها فهو انتقدها بطريقة غير مباشرة، لكنها في الجوهر شخص حالتها الروحية. بينما كان زوجها مرتبكا من تعليق آدم المطرود فقال مدارياً ارتباكه:

-                     نعم. لديها الكثير منها.

نظر آدم المطرود إليه للحظة، ثم التفت إلى حواء الصايغ سائلاً:

-                     ألم تنشري من كتاباتك شيئا. ؟

فقالت هي على استحياء:

-                     لا. لم أنشر شيئاً أبدا. أنا أكتب لنفسي. لا أريد أن أنشر شيئا مما أكتب.

هنا تدخل زوجها آدم الولهان موجها كلامه آدم المطرود مازحا:

-                     سيد آدم. الله يخليك لا تورطنا بالنشر. حواء تكتب لنفسها. تشعر بالحزن لأسباب كثيرة، فهي حساسة جداً. لا تستطيع أن تتحمل الأخطاء والمآسي حولها، بينما عالمنا مليء بالأخطاء والمآسي. هذا هو سر حزنها، وسر كل هذه الكتابات.

أخفضت حواء الصايغ رأسها وأخذت تنظر إلى الطاولة والنصوص التي أماها شاردة الفكر، بينما أحس آدم المطرود بأن زوجها ثعلباً ماكراً، فهو إما أنه لا يفهما وإما أنه يفهمها لكنه يحاصرها خوفاً من أن تنطلق إلى عالمها، وهذا يعني بالنسبة له أنها ستغادره، تاركة كل شيء وراءها، لكن آدم المطرود لم يود أن يوتر الأجواء فقال موجها كلامه لحواء الصايغ:

-                     يسرني أن أقرأ أو أسمع منك نصوصا أخرى.

رفعت رأسها للحظة، وكأنها أفاقت من شرود ذهني، صمتت لثوان ثم ابتسمت بحزن وقالت:

-                     إن شاء الله، ربما في بغداد.

في تلك اللحظة راود آدم المطرود سؤال مفاجئ لم يفكر به سابقاً فقال:

-                     بالمناسبة، إلى أي وقت أنتم باقون هنا؟

وجد زوجها السؤال فرصة للانتقال بالحديث عن شيء آخر غير الكتابة والشعر ووحشة حواء روحيا وخواء عالمها، فقال بمرح:

-                     غدا صباحا نسافر إلى اسطنبول، ومنها إلى جنيف، ومن هناك نمر بباريس، ومن باريس نعود إلى بغداد إن شاء الله. يعني خلال أسبوعين سنكون في بغـداد. وأنت، كم ستبقى هنا. ؟

شعر آدم المطرود بكآبة حين عرف بمغادرتهما في اليوم التالي لكنه كتم ما في نفسه، فقال بهدوء:

-                     غـدا سيبدأ المؤتمـر، وسيستمر ليومين، ربما سأبقى لبضعة أيام أخرى بعدها. سأحاول السفر إلى استنبول لأبقى فيها بضعة أيام ثم أعود إلى بغداد.

فقال آدم الولهان بمرح:

-                     سنلتقي في بغداد إذن، لأننا ربما لن نلتقي في استنبول حيث سنبقى يومين فقط، بعدها سنطير إلى جنيف.

أحس آدم المطرود وكأن تشنجا قبض على صدره. نظر إلى حواء الصايغ التي كانت مستسلمة لعالمها ولم تعلق شيئاً، أما هو فأحس برغبة مفاجئة بالبكاء، لكنه تدارك نفسه لإابدى بشكل مفاجئ رغبته في الذهاب. وكان لا يعرف نفسه حينها. هل هو يعاقبها أم يعاقب نفسه؟ تمنى لهم سفرة سعيدة، بعد أن استعلم عن عنوان مكتب الزوج وعنوان البيت في بغداد.

فوجئت حواء الصايغ من تسارع الأحداث وقرب النهاية. داهمها حزن شديد، بينما وقف آدم المطرود مودعاً. مضى نحو النادل وتحدث معه ثم وقع على قائمة المشروبات التي وضعها على حساب غرفته.

حينما مضى من أمامهما ثانية أحس وكأنه تركها وحيدة. أدرك أن علاقتها بزوجها غير طبيعية أو ودية برغم تعلقه الواضح بها، وأن نصوصها التي قرأتها تكشف عن طفولتها الفقيرة والبائسة، ربما أن زوجها يحاصرها بثروته وبالسفر والرحلات والفنادق الراقية والعواصم الجميلة. فهي روح مليئة بالبساطة والطيبة. وسأل نفسه: هل سأراها مرة أخرى؟ نعم. لا بد من ذلك. ، لقد أخذتُ عنوان مكتب زوجها وتليفونه المدون على بطاقته الشخصية. وعنوانهم البيتي. لكن يالغبائي. لم أعطهما عنواني. المهم. يجب أن أراها. لقد أحسستُ بسعادتها لوجودي معها. كان ذلك واضحاً. نعم. كما أنني مسحور بها. لكن لماذا تصرفت هكذا بغباء. كان بإمكاني قضاء السهرة معها والجلوس معهما أطول. لماذا أنهيت الجلسة وغادرت؟ كم غبي أنا.

**********

حينما أنهت حواء المؤمن هذا الفصل شعرت بالتعاطف مع حواء الصايغ. إنها امرأة، برغم الثراء الذي هي فيه لم تنكر طفولتها الفقيرة. راودها شعور بالتعاطف مع المهندس آدم المطرود أيضا، وأشفقت عليهما، فهما يحبان بعضهما لكنهما وجدا نفسيهما في الزمان والمكان الخطأ.

أحست بشوق لمتابعة القصة، فقد كانت متلهفة لمعرفة القاتل. قلّبت الأوراق بين يديها، إذن، لم يبق الكثير من القصة، ستعرف كل شيء، وبدأت بقراءة الفصل السادـس.

أعجبتها شخصية حواء الصايغ. صحيح أنها لم تفهم كل ما ألقته من شعر، فهذا ليس شعراً، لكنها أحست بحزن هذه السيدة الغامضة، ولم تجد مبررا لكي تُقتل، وكانت تريد أن تتسارع الأحداث كي تعرف النهاية، لكي تعرف لماذا قُتلت. ؟ ولماذا أُتهم آدم المطرود بقتلها. ؟ لذا باشرت بقراءة الفصل السادس.

**********

انتبه آدم البغـدادي إلى أن تضمين الرواية نصوصا شعرية هي تقنية قديمة، فقد ترك الشاعر الروسي السوفيتي بوريس باسترناك مجموعة شعرية كاملة تقريبا باعتبارها النصوص التي كتبها الدكتور زيفاكو في الرواية التي تحمل اسمه أيضا، وكذلك استخدمها الكاتب الروائي الألماني هيرمان هيسه في روايته ( لعبة الكريات الزجاجية)، وكذلك استخدمها صديقه الشاعر والروائي العراقي حميد العقابي في روايته (أصغي إلى رمادي)، فلا ضير أن يترك حواء الصايغ تقرأ نصوصها.

(6)
دخل آدم المطرود إلى غرفته المرقمة (111). استلقى على السرير العريض سارحاً في أفكاره حول حواء الصايغ وزوجها، وما سمعه من نصوص لها. وانتبه أن صوتها كان مرتعشا. رقيقاً. خائفاً. مبتهلاً. وسأل نفسه لماذا انتبه لصوتها الآن وهو في غرفته. ؟ فكّر مع نفسه بأنها مشروع شاعرة مهمة لو انتبهت لنفسها وتقنياتها اللغوية والفنية، ووجهت قراءاتها، ووسعت من معارفها النقدية. فكر في وضعها العائلي وخمّن بأن زوجها لا يريد لها أن تبرز في أي مجال ثقافي، فهو في أعماقه يخاف أن يفقدها، لاسيما إذا ما دخلت إلى تلك الأوساط الثقافية الفاسدة التي من المؤكد أنها ستقابل فيها رجالاً أكثر منه ثقافة وشبابا! وربما هي نفسها لا تريد مثل هذه الأوساط بسبب طبيعتها الانطوائية، وإحساسها بالاكتفاء الذاتي، وتواضعها الذي يكاد يصل إلى الخجل من كل شيء، وعدم رغبتها في الشهرة والأضواء، بل على العكس يبدو أنها تخاف الأضواء.

أخذ يسترجع كل اللحظات من أول لحظة رآها فيها. راوده إحساس أشبه باليقين بأنها ارتاحت له، وتود أن تعمق علاقتها معه، أما هو فيعشقها، فهي المرأة الحلم، المرأة الغامضة، المرأة - المستحيل بالنسبة له، لكن هل هي مستحيل حقا؟ سأل نفسه.

راودته أفكار غريبة وأحلام يقظة، فتصور نفسه معها وتسائل: كيف لمثل زوجها أن يضاجعها. ؟ وكيف هي في السرير. ؟ هل ستبقى حزينة وشفافة وحالمة كما يراها دائما أو أنها ستتحول إلى امرأة أخرى تصرخ من الشهوة وتنطق بكلمات شبقية بذيئة. ؟ لا. إنها هادئة وشفافة حتى في تلك العلاقة! قال لنفسه.

**********

حين استيقظ آدم المطرود صباح اليوم الثاني لم يجد في نفسه الرغبة أن ينزل إلى المطعم، لكنه إضطر لذلك لأن المؤتمر سيبدأ بعد الفطور في القاعة الكبرى في الطابق الأول والتي تقع في الطرف الآخر من الطابق الذي يسكنه، فنهض متثاقلا ودخل غرفة الحمام.

**********

في قاعة الطعام لم يجد صديقه آدم الصاحب. فتناول فطوره على عجل وصعد إلى الطابق مابين اللوبي والطابق الأول، حيث قاعات الاجتماعات وقاعة رجال الأعمال، متوجها إلى قاعة المؤتمر. وعند باب القاعة رأى شابة تركية وضعت أمامها عددا كبيراً من البطاقات العاجية التي تحمل أسماء المشاركين ودولهم، إلى جانب بعض الكراريس والمعلومات عن المؤتمر وجدوله.

لمح صديقه المهندس آدم الصاحب وهو يتحدث مع إحدى المشاركات الأجنبيات. امرأة مثيرة. ناضجة. انيقة. بشعر بني. شرقية الملامح لكنها ملامح أنيقة، لا يستطيع الناظر إليها ان يخمن هل هي إيطالية. أسبانية. تركية. فرنسية. ولم يتعب نفسه كثيرا في تحديد هويتها.

أخذ البطاقة التعريفية التي تخصه بعد أن وقع على استمارة مقابل اسمه، كما أخذ جدول المؤتمر وبعض المنشورات الأخرى واتجه نحو صديقه. تصافحا وبادر صديقه المهندس آدم الصاحب بتقديمه لزميلته، بالتركية، معرّفا بعضهما ببعض، فهي حواء كوناي (وتلفظ هوّاء لأن حرف الحاء غير موجود بالتركية)، مهندسة ألمانية - تركية وجاءت لتمثل إحدى شركات المقاولات الكبرى، وهو آدم المطرود من العراق لكنه خريج استنبول.

نظر كل منهما في وجه الآخر للحظات، وكأن لحظة انجذاب شدتهما قبل أن ينطقا شيئاً، ثم تحدثا مباشرة بالتركية وانسجموا جميعا وكأنما يعرفون بعضهم منذ زمن، فقد قربت اللغة بينهم.

**********

بدأ المؤتمر أول فقرات برنامجه بعد كلمات الترحيب التقليدية. كان المتحدث الأول هو معماري عالمي تحدث عن تجربة تصميم مبنى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في مدينة ستراسبورغ. كانت محاضرة ممتعة وعميقة، على الرغم من أن آدم المطرود لم يستوعب بعض المفاهيم التي تحدث عنها، إذ كان المحاضر يدعو إلى خلق مبنى مميز في لغته التصميمية ضمن البيئة المحيطة، أي خلق مبنى صرحي من دون صرحية. وانتبه آدم المطرود إلى نفسه، إذ أنه تذكر حواء الصايغ فجأة، وتمنى لو أنها كانت موجودة لتستمع إلى هذه المحاضرة.

عند استراحة الغذاء وعلى المائدة جلس مع صديقه المهندس آدم الصاحب والمهندسة حواء كوناي التي شعر برغبة في أن يكون قريباً منها إذ هي شدته بجاذبيتها الأنثوية.

انتبه المهندس آدم الصاحب برغبة صديقه آدم المطرود فهمس له باللهجة العراقية أن ينتظر إلى الليل وحينها سيدعوها وسيدعو صديقته الروسية ايفا أيضا، وسيشربون النبيذ والفودكا، والبقية عليه، وعلّق على المصادفة التي جمعتهم بنساء كلهن اسمهن حواء.

**********

 في الجلسة الثانية بعد استراحة الغذاء شعر بفرح غامض حين عرف بأن المحاضر الأول في الجلسة هو معماري عراقي ترك العراق لأسباب سياسية ويعيش حالياً في اوروبا.

استمع إليه بانتباه شديد. لاسيما وأن محاضرته تدور على موضوع المؤتمر بالتخصيص. إذ كانت محاضرته تعريفية عن تيار (الهاي – تيك)، عرج من خلالها على تيارات ما بعد الحداثة، متوقفا عند مهندسة عراقية شهيرة جداً في فن المعمار العالمي والتي قدمت إنجازات عالمية في فن العمارة، بحيث أُطلق على فنها المعماري مصطلح (واقعية الفضاء الافتراضي)، متحدثا عن انجازاتها العالمية وفلسفتها التـفكيكية، ثم تحدث المحاضر، مستعينا بصور السلايد، عن تنويعات عمارة ما بعد الحداثة، مقدما أنموذج مبنى (البنك المركزي العراقي) والمصمم من قبل مهندس دانمركي، مبينّا قيمته الجمالية الجديدة المتمثلة في مفردة تكوينية واحدة دعاها النقاد فيما بعد ب(الفضاء الفسيح الواسع والرحيب).

بعد انتهاء المحاضرة التي أثارت الجميع بغزارة معلوماتها، تقدم آدم المطرود منه بصحبة المهندس آدم الصاحب، وعرفّا بأنفسهما فرحب بهما جداً، برغم حذره الشديد من أي شخص قادم من بغداد.

حاولا دعوته إلى العشاء فاعتذر منهما بأدب جم، وبعد أن تركهما فكر المهندس آدم المطرود للحظات بهذه الكفاءات العراقية المهاجرة والتي لا يستفيد بلده منها، بل إن السلطة هناك طوتهم في النسيان فلا أحد يعرف عنهم شيئا بينما يستمع العالم كله إليهم لغزارة معارفهم وتميز تجربتهم. وفكر للحظة أنهما محظوظان إذ ليس هنا أي شخص من العراق غيرهما وإلّا ربما كانا سيواجهان المشاكل عند عودتهما إلى بغداد.

**********

عاد المهندس آدم المطرود إلى غرفته ليأخذ قسطا من الراحة إذ تنتظره سهرة لا يعرف نتائجها، لكنه متحمس لخوضها، فهذه المهندسة التركية الألمانية تعجبه بل تثيره، ويبدو هو أيضا يثير إعجابها لأنه راقبها أثناء المحاضرة فوجد أنها نظرت إليه لأكثر من مرة وفي أعماق عينيها رغبة دفينة.

استلقى على سريره ؛ ودون إرادته غط في غفوة عميقة لم يوقظه منها إلا رنين جرس الهاتف. كان بين النعاس واليقظة. ولكسله ضغط على زر الصوت العالي ليرد. فسمع صوت صديقه المهندس آدم الصاحب يأتيه قلقا عليه:

-                     أين أنت يا رجل. ؟ نحن ننتظرك. إيفا الروسية وحواء كوناي هنا أيضاً، وقد سألتني عنك.

أحس بأنه تائه. لم يكن يعرف كم مر عليه من الوقت وهو نائم. لكنه حين سمع أن حواء كوناي التركية موجودة غمره نشاط مفاجئ وشعر بالصحو المباشر، فقال:

-                     لقد أخذتني الغفوة.

-                     اتصلت بك ثلاث مرات ولم تجبني إلا هذه المرة.

فقال آدم المطرود وهو لا يزال متمددا على سريره ويتحدث عن بعد دون أن يرفع السماعة.

-                     لم أسمع. يبدو أني كنتُ غارقا في نوم ثقيل.

-                     على أية حال أسرع فنحن ننتظر.

فجأة وكأنه تذكر شيئاً، فقال بتردد برغم استعادته لنشاطه الجسدي والذهني:

-                     لا أحس برغبة في السهر.

-                     ما الذي جرى يا صديقي. إنها تنتظرك، وأنت كنت متلهفا لها. !

-                     لا أدري. أحس أني أخون حواء.

-                     تخون من. ؟

-                     حواء.

-                     أي حواء منهن يا آدم. أيها المطرود من الجنة. أية حواء تقصد. حواء التركية أم حواء العراقية؟

-                     حواء الصايغ طبعا. حواء العراقية.

-                     هل أنت في كامل قواك العقلية يا آدم؟

-                     أقول الحقيقة. هذا هو إحساسي. أشعر أنها معي في كل لحظة، بل أشعر أنها سكنت أعماقي، فهي في داخلي، ولا أرغب في أية امرأة سواها. أريدها. إنني في شوق لها.

-                     يبدو أن وضعك خطير. تعال يا بني وسأشفيك. تعال. وإذا لم تعجبك الجلسة غادرنا.

قال بنبرة فيها بعض العناد:

-                     قلت لا رغبة لدي!

-                     تعال فقط لربع ساعة، بعدها تحجج بأي شيء لتذهب. وضعي محرج. لقد أخبرت إيفا الروسية بأن تساعدنا في ترتيب الأمور. أوضحت لها بأنك تريد المهندسة حواء التركية. اتفقت معها أن تستعلم عن مدى استعدادها. تعال يا أخي.

ما أن سمع بما خطط له صديقه، من إمكانية أن يحصل على حواء التركية حتى استرخى قليلاً. وقال:

-                     حسنا لربع ساعة فقط!

-                     سنكون بانتظارك في المطعم الذي يحمل أسم ألف ليلة وليلة الذي في الطابق الأول ولسنا في صالة المطعم.

نهض آدم المطرود بتثاقل شديد وبدون رغبة حقيقية في السهر، فهو بين انجذاب جنسي نحو حواء التركية وبين تسامي رومانسي نحو حواء الصايغ. برغم أنه كان قبل غفوته متحمسا لهذه السهرة. فكّر مع نفسه في الأمر وسأل نفسه لماذا جرى هذا التحول في مزاجه، وكيف اختفت رغبته، بينما كان يفكر بمضاجعة المهندسة التركية منذ لحظة رؤيتها.

**********

حينما دخل آدم المطرود إلى المطعم والبار الليلي وقف للحظات مستكشفا المكان. أحس أن الأجواء لطيفة وهادئة، والطاولات موزعة بشكل يحفظ خصوصية الزائرين، والأجواء ليست بالمعتمة لكن الإنارة خافتة. لمح صديقه المهندس آدم الصاحب يجلس بجانب ايفا الروسية بينما جلست المهندسة حواء كوناي قبالتهما منتظرة أن ينظم إليها. أشارت حواء كوناي إليه لترشده. كانت هي في أبهى زينتها، وكأنها ليست تلك المهندسة الوقورة والرسمية التي كانت عليها في المؤتمر. تقدم منهم وسلم عليهم جميعا مصافحاً، ثم جلس بجوار المهندسة حواء كوناي التي كانت ترتدي ثوباً أسود ضيقاً وقصيراً يكشف عن ذراعيها وعن مساحة كبيرة من فخذيها ويبرز جزءاً كبيراً من نهديها الثائرين.

كان المهندس آدم الصاحب قد سبقه بطلب قنينة من النبيذ الفرنسي الأحمر، كما كانت المائدة عامرة بالمقبلات الشهية وكان قد طلب العشاء لهم أيضا، وكانوا بانتظاره فعلاً، وما أن جلس حتى صب صديقه النبيذ في الأقداح. رفعوا كؤوسهم وشربوا نخب صداقتهم مقربين الكؤوس من بعضها.

بعد الكأس الثانية طلبوا قنينة أخرى، وما أن شربوا الكأس الثالثة حتى كان الدفء والانتشاء قد تسرب في نفوسهم جميعاً وصاروا أكثر استرخاء في الحديث. كان معظم الكلام بالتركية، وأحيانا بالانكليزية مجاملة للروسية إيفا التي كانت تتفاهم معهم بالانكليزية.

انحنى المهندس آدم الصاحب إلى إيفا الروسية وهمس في أذنها فابتسمت، وبعد لحظات نظرت إلى المهندسة حواء كوناي نظرة ذات مغزى ثم قامت طالبة الأذن لدقائق، وبعدها بلحظات قامت المهندسة حواء كوناي أيضا طالبة الأذن لدقائق. حينما بقيا وحدهما قال المهندس آدم الصاحب مازحا:

-                     ستأتيك إيفا الروسية بالخبر اليقين، فقد دعتها إلى حمام النساء وهناك ستسألها عنك أن كانت تريد أن تقضي الليل معك وستخبرني سلبا أو إيجابا، وستكون إشارتي بأن أقبل صديقتي أمامكم، فهذا يعني تحرك فالأبواب مشرعة، وإذا لم أفعل فهذا يعني أن التصميم غير ناجح.

تحدثا قليلا عن المؤتمر. وعن المهندس العراقي المعارض الذي قدم محاضرة قيمة جداً. ولم يكملا حديثهما لأن المرأتين وصلتا، وكانت ملامح إيفا الروسية فرحة ومبتهجة، فقاما لهما لباقة كي تجلسا.

بعد لحظات ملأ المهندس آدم الصاحب الأقداح الفارغة بالنبيذ، فرفعوا الكؤوس. كانت إيفا الروسية مرحة أكثر من الجميع وهمست في إذن صديقها آدم الصاحب الذي ارتسمت ملامح الدهشة والفرح على وجهه فأخذها بين ذراعية وقبلها من فمها قبلة حارة.

ارتبك آدم المطرود للحظة ونظر إلى وجه حواء كوناي التي أثارها مشهد التقبيل بين الروسية ايفا وآدم الصاحب، إذ اتقد وجهها بالرغبة، فنظرت إلى آدم المطرود وكأنها تسأله: ما رأيك. ؟ أو تدعوه لفعل أي شيء مشابه، فأبتسم لها. وكان هو أيضا منتشيا من شرب النبيذ، فمد يده ليداعب يدها وقال لها بالتركية:

-                     هل لديك رغبة بالبقاء هنا أم نذهب لمكان آخر. ؟

-                     لنذهب. هل لديك في الغرفة ما نشربه. ؟ هنا الجو صاخب.

-                     لنذهب أولا وبعدها سنرى.

قاما بين ابتسامات ايفا الروسية والمهندس آدم الصاحب الذي علق قائلا:

-                     يا خائن.

ابتسم المهندس آدم المطرود، فلم يكن يتوقع أن مزاجه سيتغير بهذه السرعة. أخرج محفظته ووضع مبلغا من المال على الطاولة مساهمة منه لدفع وليمة العشاء، وأخذ بيد المهندسة حواء كوناي التي اتكأت عليه لأنها شعرت بأنها غير متوازنة.

**********

حينما دخلا المصعد كانت حواء كوناي تشعر بالثمالة والرغبة المتأججة، وكادت تفقد رزانتها التي كانت عليها سواء في المؤتمر أو حتى في بداية السهرة. ضمته إلى صدرها محتضنة إياه مقدمة له شفتيها فلم يستطع أن يرفض عرضها فقبلها بحرارة وشبق.

ما إن وصلا إلى غرفته وفتح الباب حتى هجمت عليه مقبلة إياه، لكنه كان من التهيج والشبق بحيث لم ينتظر فدفعها إلى السرير وفتح فخذيها رفعا ساقيها إلى الأعلى ساحباً سروالها معهما بيد، بينما كانت يده الأخرى تفك حزام سرواله، وفي لحظات أولجه فيها بعنف، كانت هي رطبة، أخذت تصرخ فيه وتطلب منه أن يمزقها، أن يشقها إلى نصفين، أن لا يترك منه شيئاً، أن يقذف فيها ويملأها بمائه وبذوره. كان صراخها الشبق عاليا بحيث ارتبك هو من ان يسمع جيرانه في الغرف الأخرى هذا الصراخ.

**********

استيقظ آدم المطرود صباحاً على حركة ذراع ما تستقر على صدره وهو في سريره. التفت فوجد المهندسة حواء كوناي عارية إلى جانبه في السرير. تذكر أنها جاءت معه. وتذكر اللحظات الأولى من دخولهما الغرفة، لكنه لا يتذكر أبعد من ذلك. ! شعر بالخجل. وفي هذه اللحظة بالذات فتحت حواء كوناي عينيها. ابتسمت له وقالت له:

-                     صباح الخير.

-                     صباح الخير.

-                     كم الساعة الآن.

تلفت آدم المطرود في ما حوله، ثم رفع رأسه إلى الساعة الجدارية وقال لها بتكاسل:

-                     التاسعة.

ففزت من السرير بطريقة مفاجئة من الفراش وقالت:

-                     علي الذهاب إلى غرفتي للاستحمام وتبديل ملابسي.

كانت عارية. مثيرة. مسترخية. جسد يشع عافية وارتواء. وضعت سروالها في حقيبتها، ارتدت ثوبها سريعا. حملت حذاءها بيدها وخرجت مسرعة، بعد أن قبلته قبلة سريعة وخاطفة، وهي تقول:

-                     سنلتقي في المؤتمر.

بقيَ المهندس آدم المطرود في فراشه لدقائق وهو يحاول استرجاع تفاصيل ما جرى في هذه الغرفة ليلة البارحة. انتبه إلى أنه كان عاريا بالكامل أيضا. لكنه انتبه إلى جملتها الأخيرة وهي تغادره. لماذا قالت له سنلتقي في المؤتمر. وليس في المطعم. ؟ فكّر مع نفسه ربما أنها لا تفطر. ابتسم مع نفسه، ثم نهض ودخل الحمام. صعد إلى حوض الاستحمام وفتح دش الماء على قوته، وبقيَ هناك تحت وابل الماء البارد.

**********

كان يقف تحت دش الماء المنهمر وهو في حالة ذهول. فكر مع نفسه سائلاً: كيف اختفت صورة حواء الصايغ أمام بعض كؤوس من النبيذ. ؟ هل علاقته معها كانت عابرة بحيث لم تصمد أمام شهوته المتفجرة. ؟ كيف هذا وهو منذ أيام لا يرى في العالم غيرها، بل كان يرى العالم من خلالها. ؟ بل إنه لم يشأ أن يذهب للسهرة لأنه كان يشعر أنه يخونها. بينما هو ينساها أمام حمم الشهوة الحارقة؟ لا، لا يمكن أن تكون كل مشاعره مزيفة إلى هذا الحد. ؟ هل هو مريض نفسياً ومصاب بمرض انفصام الشخصية. ؟ أحس بالخوف من نفسه، بينما ظل وابل الماء ينهمر على جسده.

بقيَ لفترة طويلة في الحمام ثم خرج منه وقد ارتدى ثوب الحمام الأبيض. لم يفعل شيئا بل ألقى بنفسه على السرير محدّقاً إلى سقف الغرفة دون أن يحيد بنظره إلى أية جهة وكأنه يحدق إلى نقطة في الفراغ. وضاع في ظلام أبيض.

**********

أحست حواء المؤمن أن بين المهندس آدم المطرود وزوجها الدكتور آدم التائه شيئاً مشتركاً، خاصة طريقة ممارسة المهندس آدم المطرود الجنس مع حواء كوناي، فقد كان من عادة زوجها الدكتور آدم التائه أن يلقيها إلى السرير ويرفع ساقيها ويسحب سروالها الداخلي بيد بينما يده الأخرى تفك أزرار سرواله ثم ليدفعه فيها بقوة. وتتذكر أنها أحيانا نادرة، ومن فرط التهيج والشهوة كانت تصرخ فيه أن لا يترك منه شيئاً، وأن يمزقها وأن يملأها بالبذور. هذه هي كلماتها وليست كلمات المهندسة حواء كوناي، وسألت حواء المؤمن نفسها أترى كل النساء هن هكذا في تلك اللحظة؟

تتذكر حواء المؤمن المشاهد التي كانت تجري بينهما، وتخيلت هذا المشهد المكتوب في القصة، أنها هي، لكنها ليست تركية ولا مهندسة، كيف له أن ينقل كلماتها إلى هذه المهندسة التركية؟ كانت متشوقة لمعرفة كيف ستجري الأمور مع حواء كوناي لذا باشرت بقراءة الفصل السابع.

**********

أحس آدم البغـدادي أن الدكتور آدم التائـه كان موفقاً في اقتناص حالة التداخل التي جرت بين حواء المؤمن زوجة الدكتور آدم التائه وبين المهندسة حواء كوناي لحظة الممارسة الجنسية، وكيف أن حواء المؤمن نفسها كشفت ذلك حينما شبهت زوجها بآدم المطرود.

 لكنه بحث في ذاكرته مسترجعا تجربته الشخصية: من تُرى من النساء هكذا تصرفت وتحدثت هكذا، فلم يستطع أن يحدد واحدة منهن لأن معظمهن، كما يتذكر، كن يتحدثن بشبق وبهذه الطريقة، مع شيء من الاختلاف له علاقة بطبيعة المرأة ومجتمعها.

(7)
حين أفاق آدم المطرود مرة أخرى كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة. فكّر بأن فترة الفطور قد فاتته. لاضير فهو لا يشعر بالجوع الآن. لكنه لم يعرف كيف مرّ كل هذا الوقت، أدرك أنه كان في شبه غيبوبة وكأنه ملقى في الفراغ.

كان ذهنه ساكنا وكأن رأسه جمجمة فارغة، فهو مفرغّ من الانفعالات وبارد الأحاسيس، وكأن نفسا أخرى تهيمن على جسده.

نهض من سريره بشكل آلي. فتح دولاب الملابس، وارتدى سروالا جديدا وقميصا داخليا، وجواربه. لبس شبشبا أبيض حفيفا من هدايا الفندق ثم دخل مجددا إلى الحمام وحلق ذقنه. رش على نفسه عطرا زكيا. ثم خرج من الحمام وجلس ليضع قدميه في فردتي الحذاء. ثم وقف ناظراً إلى نفسه في المرآة الكبيرة التي تتوسط أحد جوانب الغرفة. ثم أطفأ النور وخرج.

**********

حين دخل المصعد رأى رجلا كهلاً يتوكأ على عكازه، سلّم عليه بالإنكليزية، فلم يجب الرجل. فكّر هو مع نفسه: ربما أنه ثقيل السمع بحكم العمر أو لا هو يعرف الانكليزية! تعكّر مزاجه حينما رأى الرجل الكهل. وأنّب نفسه لعدم نزوله مشياً إلى الطابق الذي تحته.

وصل المصعد إلى الطابق الأرضي وفُتح الباب، سمح للرجل العجوز أن يخرج أولا ثم خرج بعده، لكنه فجأة انتبه إلى أن قاعة المؤتمر تقع في الطابق الذي بين الأول واللوبي، فأراد الدخول إلى المصعد ثانية إلا أن بابه أُغلقت وصعد فارغاً، فاتجه إلى قاعة المؤتمرات صاعداً عبر السلّم.

**********

دخل إلى قاعة المؤتمر. جال بنظره سريعا في أرجائها، وأتجه بنظره إلى منصة المحاضرة، فاستغرب لوجود المهندسة حواء كوناي وإثنين آخرين وهي تتحدث بالتركية عن التوجهات الحديثة لفن العمارة في تركيا، ارتباطا بالزيادة السكانية وكثافتها في المدن الرئيسة، والناتجة عن الهجرة من الريف إلى المدينة ومن المدن الصغيرة إلى الكبيرة، مما دفع بالكثير من المعماريين الأتراك إلى إعادة النظر في أساليبهم المعمارية، والتوجه نحو فن العمارة الحديثة. وكان بعض الوافدين الأجانب يتواصلون معها عبر الترجمة الفورية التي تصلهم من خلال السماعات التي يضعونها على آذانهم.

لم يجلس المهندس آدم المطرود حول أي طاولة، وإنما ظل واقفا عند باب القاعة شابكاً يديه على صدره مستمعاً لها. لم تكن هي المرأة ذاتها التي كانت ليلة أمس تصرخ فيه أن يمزقها، أو التي طلبت منه أن يمارس معها أشياء كان يتجنبها سابقاً خوفا من الأمراض لكنها أصرت أن يفعلها معها.

كانت ترتدي قميصا محتشما وسترة تلقي عليها ملامح الرزانة والحشمة. لكن ما أثار دهشته أنها نظرت إليه مرات عديدة لكنها أشاحت عنه وكأنها لا تعرفه بتاتاً، وبرغم ذلك أعجبه ما قالته وأوضحته في محاضرتها. حينما بدأ زميلاها بالحديث خرج المهندس آدم المطرود من القاعة وتوجه إلى بهو الاستقبال لحين انتهاء الجلسة.

**********

بدأ المؤتمرون يهبطون بالمصعد وبعضهم من خلال الدرج الجانبي، وأخذوا يتوجهون إلى المطعم، فعرف أن الجلسة قد انتهت. فجأة وقف أمامه صديقه المهندس آدم الصاحب متسائلا:

-                     لماذا تأخرت، ولماذا لم تجلس أصلا، يبدو أن ليلتك الحمراء أنستك كل شيء!

فقال لصديقة بغضب مكتوم:

-                     أجلس. أنا مصدوم.

-                     مصدوم. ؟

جلس المهندس آدم الصاحب على الصوفا المقابلة له، وسأل بقلق الصديق:

-                     ماذا حصل. ؟

-                     هذه المهندسة حواء كوناي.

-                     ما لها، أما ذهبتما ليلة أمس معا، هل تركتك. ؟

-                     لا. قضت ليلتها في سريري. لكن.

صمت آدم المطرود قليلا وكأنه يتحدث عن شيء بعيد جداً يحاول تذكره، وعن شخص آخر لا يمت إليه بأية صلة. سأله صديقه بعد أن طال صمته:

-                     تكلم يا أخي. فأنا جائع، أو تعال نتكلم ونحن في المطعم.

-                     غريبة هذه المرأة!

-                     لا غريب إلا الشيطان.

-                     إذن، ربما هي الشيطان.

فقال صديقة بنفاذ صبر ودود:

-                     يا رجل. تحدث وخلصني.

-                     هل تتوقع من هذه المرأة التي كانت اليوم تتحدث مع كل هذه العقول والمواهب العلمية أنها كانت ليلة أمس تتصرف وكأنها عاهرة مرت بكل كهوف الفسق والرذيلة.

نظر صديقه إليه مستفسرا وفي عينيه فضول شبق وقال:

-                     ماذا يعني ذلك؟ أقصد ماذا فعلت. ؟

-                     فعلت كل الذي يمر في ذهنك وخيالك من أوضاع وحركات وكلمات بذيئة!

-                     معقول. ؟!.

-                     هذا ما جرى.

صمت صديقه للحظات مستغربا. ثم قال:

-                     ثم ماذا. لماذا أنت مهموم ومنزعج من هذا. ؟

شعر آدم المطرود بالإحراج. فلِمَ هو غاضب من ذلك حقاً. ارتبك للحظات ثم قال وكأنه يبرر لنفسه:

-                     لا. إنما استغربت حينما رأيتها في المؤتمر بزيها المحتشم.

ابتسم صديقة وقال بمرح:

-                     لا تبالغ يا صديقي. هل تريدها أن تأتي عارية إلى المؤتمر؟ طبعا تأتي بلباس محتشم ورسمي لأنها تتوجه لأشخاص مهمين. وتلقي محاضرة مهمة.

-                     أعرف. لا أقصد ذلك، لكني لا أتصور أنها المرأة نفسها، تلك التي ضاجعتها ليلة أمس!

نظر إليه صديقه مستغربا ثم قال بنبرة مرحة مشوبة بسخرية:

-                     ولماذا لا يمكنك ذلك. يمكنك أن تتصور وأكثر. ظننتك تعرف النساء جيداً. هيا. هيا. أنا جائع، وإيفا الروسية ستسافر اليوم، لذا عليَّ أن آكل جيدا وأذهب بعد ذلك لتوديعها.

قاما معا ً واتجها إلى المطعم.

**********

حينما دخلا قاعة الطعام الكبرى عبر الدرج الذي يربط اللوبي بالمطعم، كانت المهندسة حواء كوناي تجلس حول مائدة قريبة من الباب مع زميليها اللذين كان على المنصة معا ً.

مرَّ آدم المطرود وصديقه من جانبها فلم تعرهما اهتماما وكأنها لا تعرفهما. لم يستغرب آدم المطرود ذلك فهي أهملته حينما كان في القاعة، لكن الاستغراب مس المهندس آدم الصاحب أيضاً الذي لحظتها فسر الأمر مع نفسه بأنها ربما لم ترهما.

انتبهت هي لتجاهل آدم المطرود لها، لذا وجدت نفسها تتجه إليهما بنظراتها، وحينما جلسا حول مائدة لا تبعد كثيراً من مائدتهم ظلت تنظر إليه، لكنه تجاهلها بالكامل، ولأكثر من مرة التقت نظراتهما فحاول تجاهلها وكأنه لا يعرفها، وهذا ما بث القلق فيها فألحّت بملاحقته بنظراتها حتى انتبه اللذان معها فالتفتا إليهما ولم يكن منها إلا أن همست لهما بشيء لم يسمعه سواهم.

بعد أن أنهيا طعامهما قام المهندسان آدم المطرود وآدم الصاحب ومرا من جانب طاولتها دون أن ينظرا إليها، ممن بث تيارا من الغضب الخفي في نفسها.

سألت حواء كوناي نفسها غاضبة:لماذا يتجاهلها. ؟ ألم يفعل معها ليلة أمس كل شيء. ؟ ألم يسافر في كل زاوية من جسدها هائجا كالثور مخترقا إياها من كل الجهات. ؟ ألم يبكِ كالطفل على صدرها، فهدأته كي ينام. ؟ لماذا يتصرف وكأنه لا يعرفها. ؟ لماذا يتعامل معها وكأنها عاهرة قضى وطره منها وألقاها على قارعة الطريق. ؟ هل هي رخيصة إلى هذا الحد. ؟ لكن لا غرابة فالرجل الشرقي يبقى شرقياً، يشارك في الإثم لكنه ينسى ذلك، سوف أحدثه وأعطيه درسا في كيفية التعامل مع النساء. ؟ من يرى نفسه. ؟

وبطريقة دبلوماسية ولطف شديد دون أن تثير أي شك قامت المهندسة حواء كوناي عن مائدتها وانسحبت معتذرة من زميليها.

**********

حين خرجت إلى بهو الفندق كانت متأكدة أنها ستراه هناك، إلا أن خيبتها كانت كبيرة حينما لم تجده بل وجدت صديقه المهندس آدم الصاحب مع صديقته الروسية جالسين في زاوية يتحدثان وأمامهما فنجانان من القهوة.

كانت عازمة على رؤية آدم المطرود ومحادثته والاستفسار منه عن تصرفه غير المهذب معها، فتقدمت منهما وسلمت بتوتر، وسألت آدم الصاحب عنه، فقال لها إنه في غرفته، ثم دعاها للجلوس معهما لشرب القهوة، لكنها لم تنتظر أن يكمل جملته إذ استدارت متوجهة إليه. لم تتذكر رقم الغرفة فرجعت إليهما معتذرة وسألته عن رقم الغرفة فقال لها: 111، فاستدارت ثانية بعد أن شكرته بصوت خافت وكأنها تحدث نفسها.

**********

وقفت المهندسة حواء كوناي أمام باب الغرفة 111 للحظات. كانت مترددة وكانت تبدو وكأنها تتنصت على من في الداخل. وخلال لحظات مرّ في ذاكرتها كل ما جرى ليلة أمس، فاختلطت مشاعرها، لكنها حزمت أمرها وطرقت الباب.

كان المهندس آدم المطرود مستلقيا على سريره حينما سمع طرقات على الباب فقام وسحب اللسان النحاسي الذي يوضع في أعلى الباب وفتحه. فوجىء بالمهندسة حواء كوناي الذي كان وجهها ينم عن غضب وخجل وارتباك ورغبة خفية. وكانت تبدو أكثر جمالا وأنوثة بثيابها المحتشمة. البنطلون والقميص المغلق حتى الرقبة والذي يبرز نهديها النافرين والسترة التي تمنحها رزانة وأنوثة عما كانت عليه ليلة أمس برغم أنها كانت حينها أكثر كشفا لأجزاء مثيرة من جسدها.

ظل لحظات ينظر إليها فقالت له:

-                     هل سأبقى واقفة عند الباب. ؟

فقال بارتباك وخجل:

-                      أوه. عفوا. تفضلي.

دخلت إلى الغرفة وجلست على الكرسي الذي وضع مقابلا للسرير حول طاولة زجاجية مستديرة. وضعت حقيبتها اليدوية على الطاولة فما كان منه إلا أن جلس على الكرسي الآخر المقابل لها حول نفس الطاولة وكأنه ينتظر منها أن تبرر قدومها له. نظر إليها فقالت له:

-                     هل يمكنك أن تطلب لنا قهوة أو شايا؟

لم يعلق هو شيئا وإنما قام نحو التليفون. أخذ سماعة الهاتف وطلب شايا وقهوة من قسم الخدمات في الفندق ثم رجع جالسا إلى كرسيه. نظرت إليه متفحصة وكأنها تستشف مدى استعداده لما ستقوله. ظل هو صامتا ينتظر، وقال مع نفسه إنها بالتأكيد لم تأت إلى غرفته لشرب الشاي أو القهوة!

مرت لحظات صمت مشحونة بتوتر غامض. ثم بدأت تتحدث بهدوء وبثقة، وبدأ صوتها في أول كلماتها مرتعشاً، لكنها سرعان ما انتبهت لرعشة صوتها فسيطرت على نفسها وصوتها، قائلة:

-                     قبل كل شيء أود أن أقول إن تصرفك اليوم معي لا يمكن أن يـُفسر إلّا كتصرفٍ غير محترم، وينم عن عقلية شرقية مريضة، ومتعجرفة.

صُدم أول وهلة من كلماتها وأراد أن يوقفها أو أن يقاطعها مستفسرا عما تقصده لكنه سكت وواصل تأمله لها وأنتظر منها أن تواصل حديثها. سكتت هي للحظات ثم واصلت:

-                     أنا لستُ عاهرة تتنقل من رجل إلى رجل، ومن غرفة إلى أخرى، ومن سرير إلى سرير، وإذا ما كنتُ قد جئت معك ليلة أمس، فلأني امرأة حرة بنفسي وجسدي، وأحترم نفسي وجسدي، ولا أسلّمه إلّا لمن أحس بأنه يستحقه، وهذا الاستحقاق لا يأتي من فحولة الرجل، أو مكانته، أو وسامته، وإنما لقناعتي الشخصية فيه، بشخصيته وأسلوبه مع الآخرين وذوقه! وحينما قبلتُ على نفسي أن أكون معك فهذا لا يعني إنني أفعل ذلك ليلياً، ومع كل من هب ودب، لذا أعتبر أن تعاملك معي اليوم وتجاهلي بهذه الطريقة المهينة هو احتقار لي لأني أعرف تفكير الرجل الشرقي فهو ينظر للمرأة التي تذهب معه قابلة كأنها مومس.

شعر آدم المطرود، برغم نبرة الغضب والإتهام المباشر لعقليته، براحة واسترخاء، فهناك ثمة سوء فهم حصل بينهما، فهي تتهمه أيضا بالإهمال وليس ما اعتقده هو أيضا من تجاهلها له، فسألها بهدوء شديد:

-                     ما الذي يا تُرى فعلته أو صدر مني كي تعتبريه احتقارا؟

نظرت إليه بدهشة حينما لاحظت هدوئه وعدم انفعاله من هجومها الواضح، فقالت بنبرة أكثر هدوءاً:

-                     إنك تجاهلتني بالكامل. وكلما أنظر إليك لأسلم عليك وأحييك تشيح بنظرك عني وكأني دائن تتهرب منه كي لا يراك.

ابتسم آدم المطرود من المثل الذي ضربته بتهربه منها، فقال بارتباك:

-                     أنا. ؟ أنا. ؟ متى كان ذلك؟

فقالت بتحدٍ:

-                     في المطعم عند الغداء!

ابتسم لها بلطف وسماحة وقال:

-                     يا إلهي. أتدرين لماذا تصرفت هكذا. ؟

-                     لماذا. ؟

-                     لأني شعرت نفس شعورك هذا، بأنك كنت معي ليلة أمس ونمت في سريري هذا (وأشار إلى السرير بيده) حتى الصباح، لكني حين دخلت صالة المؤتمر ووقفت عند الباب أنظر إليك، تجاهلتني وكأنني غير موجود، ومضيت مع زملائك، وفي المطعم مررت بالقرب من طاولتك فلم تتكرمي بنظرة واحدة تجاهي، فماذا تنتظرين مني بعد هذا. ؟! أنا بدوري غضبت منك، ولا أخفيك، تصورتك شخصية غريبة الأطوار!

لا تدري حواء كوناي كيف صدّقته، واستغربت من نفسها حينما شعرت بأن كل غضبها منه وتحاملها عليه زال خلال لحظات، ولم يبق منه شيئا في نفسها.

في تلك اللحظة طُرق الباب فقام لفتحه. كان موظف الخدمة قد جاء بصينية فيها دورقان أحدهما فيه ماء ساخن والآخر فيه قهوة، وفى الصينية صحن فيه بعض أكياس الشاي وكوبان. وضع الصينية على الطاولة أمامهما، ووقع المهندس آدم المطرود على القائمة التي تحمل رقم غرفته واسمه. خرج موظف الخدمة، وحينما جلس على كرسيه ثانية وجد أساريرها منبسطة.

سألها ماذا تود أن تشرب فقالت القهوة، فصب لها القهوة في أحد الكوبين، ووضع أحد أكياس الشاي في الكوب الثاني وصب الماء الساخن من الدورق الآخر. نظر إليها وكأنه يبحث في وجهها عن شيء مجهول، فانتبهت له وسـألته:

-                     ما بك لماذا تنظر إليّ هكذا؟

-                     أريد أن أسألك شيئا.

-                     اسأل.

كانت تشعر بأنها مذنبة في حقه، فهي فعلاً لم تمنحه الخصوصة والإهتمام حينما كانت تقدم محاضرتها، لكن هذا شيء طبيعي، فهم في مكان عام ومحفل علمي ولا مجال للخصوصيات، لكنه باعتباره شخصاً شرقيا فهو لم يستوعب ذلك، ووجدت له عذراً، وفهمت رد فعله بتجاهلها، لذا فهي تريد أن تعوض عن سوء الفهم الذي حصل. وكانت متلهفة لسماع سؤاله. وسمعته يقول لها:

-                     قبل كل شيء أعجبتني شجاعتك واحترامك لذاتك بهذه الطريقة. وهذا ما دفعني لكي أسألك: من أنت. ؟

نظرت إليهه للحظة وكأنها تقرأ أفكاره، ثم ابتسمت وقالت بلطف:

-                     توقعت أن تسألني هذا السؤال، لأنه، وأعذرني على قولي، هو أسلوب المثقفين وبياعي الكلام والكتّاب والفنانين، فحينما يودون التقرب من امرأة يطرحون أسئلة عديدة، وأهمها هذا السؤال، فيمنحون المرأة شعورا بالتميز، فيعجبها ذلك ويرضي غرورها، وبالتالي تبدأ بتقديم التنازلات لهم، وشيئا فشيئا يأخذون باحتلالها.

أجبه ردّها الذكي على الرغم من نبرته الهجومية، فابتسم وقال:

-                     ماذا. هل هي حرب بين الرجل والمرأة. ؟

-                     نعم، حرب ناعمة، حرب جميلة.

نظر إليها بمودة وقال مازحاً:

-                     إنك قاسية تجاه الرجال.

صمتت لحظة. وكأنها كانت تستعيد سيرة حياتها في ثوان، وقالت بنبرة جادة مشوبة بيأس مبطن:

-                     أنا واقعية. تاريخ البشرية وتاريخ الأدب والفن يؤكد ما أقول. الرجل يبدأ بالحب الروحي الأفلاطوني ليصل إلى الحب الجنسي.

انتبه آدم المطرود لإجابتها. صمت لثواني. ثم قال:

-                     لكن العكس يحدث أحيانا. ! يبدأ بالحب الجنسي ليسمو إلى الحب الروحي.

ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة وقالت:

-                     هذا يحصل نادراً جداً، وحتى إذا ما حصل فهو يحصل بحكم العادة والتكرار، ويبقى في الجوهر حباً جنسياً، وإذا ما خَفَتَ فأنه يتحول إلى صداقة.

ابتسم لها وعلّق بمرح:

-                     أوه. بدأنا نتحدث بالفلسفة.

نظرت إليه وبدا واضحا أنها تريد أن تتحدث عن نفسها، وأنها معبأة بالكلام الذي يكاد يخنقها، فقالت:

-                     لقد درست تاريخ الفن في بداية حياتي الجامعية برغم أن درجاتي كانت تؤهلني لدراسة الطب أو الهندسة، لكني كنتُ مولعة بالفن والموسيقى، ثم مررت بظروف دعتني أن أعيد تصميم حياتي فدرست الهندسة لكي لا أحتاج لأحد.

صمتَ آدم المطرود لحظة وكأنه يريد أن يستوعب هذه السيرة الطويلة التي أوجزتها بعدد من الكلمات، وقال بهدوء وبتقدير واضح:

-                     إذن، كنتُ محقا عندما سألت من أنت. ؟

ارتشفتْ هي شيئا من القهوة بعد أن انشغلت بوضع مسحوق الحليب أو المبيض في كوبها، وقالت:

-                     غريب هو الإنسان. لم يدر في ذهني أبداً أن ينتهي بي الأمر إلى أن أجلس معك هذه الجلسة اللطيفة لنتحدث عن الفن والحب وأعماق الإنسان ونحلل شخصيته، فأنا كنتُ غاضبة منك جداً. كنت آتية لأسمعك بعض الكلمات القاسية على موقفك، بينما أتضح أنك مستاء مني للسبب نفسه. يا له من سوء فهم، ويبدو لي أن مآسي البشر تأتي دائما من سوء الفهم المتبادل!

ابتسم لها بمودة وقال:

-                     أكيد. أتفق معك بأن معظم مآسي البشر تأتي من سوء الفهم المتبادل. نعم أتفق معك. بالمناسبة، هل قرأت رواية (مرتفعات وذرينغ) لأميل برونتي. ؟

نظرت إليه مستغربة سؤاله وقالت:

-                     نعم قرأتها، فهي رواية شهيرة، وكذلك شاهدت الفلم المأخوذ عنها.

نظر إليها وهو يتأمل وجهها المثير ويركز نظراته على عينيها، وقال:

-                     إن سبب المأساة في قصة الحب العنيفة تلك جاء من سوء الفهم أيضاً، حينما اعترفت حبيبة البطل (كاتي) للخادمة بأنها لا تستطيع الزواج من حبيبها (هيثكليف)، ذلك الطفل البائس الذي جاء به أبوها قبل سنوات بعيدة، والآن نشأ بينهما حب عاصف وهما في ريعان الشباب،. بينما في هذه الأثناء كان (هيثكليف) في الجانب الآخر من المطبخ ولم تنتبه هي له، فسمع كلامها الذي جرحه. فقام خارجا، بل مغادرا ذلك المكان راحلا إلى أميركا. بينما هي أكملت كلامها بعد تلك الجملة الفظيعة بحق حبيبها بأنها برغم ذلك لا تستطيع الحياة بدونه، فهو الصخرة التي تستقر عليها حياتها. لكن (هيثكليف) مع الأسف لم يسمع بقية كلامها، وإنما سمع النصف الأول منه فقط، ولم تكن عودته بعد سنوات إلا للانتقام منها، وحينما عرف أنها قد تزوجت قرر الانتقام من الجميع. من زوجها وعائلة زوجها بل وحتى من ابنة حبيبته. إنه الغضب الأسود، بل الحقد الأعمى الذي يولد من سوء الفهم، ومن الجمل الناقصة، والعجلة في إطلاق الأحكام. إنها رواية تؤكد مقولة سيغموند فرويد بأن الحقد هو حب معكوس، فبنفس قوة الحب سيكون الحقد، لاسيما حينما يكون المرء في المنطقة الأخرى، منطقة سوء الفهم!

نظرت إليه منبهرة وكأنما تكتشف شخصا آخر أمامها. فهما بالأمس لم يتحدثا بعمق بل كان الحديث عاما، مليئا بالمجاملات، وحينما كانا في الغرفة لم يتحدثا ايضاً وأنما كانت لغة الجسد والرغبة هي التي تنطق. بينما الآن مس روحها بهذا التفسير الجميل لتلك الرواية التي أعجبتها لكنها لم تفسرها بهذا الشكل، فقالت:

-                     هل تدري، أنا قرأت هذه الرواية وشاهدت الفيلم، لكني لم أفهمه بهذه الطريقة. أنا فهمتها كرواية مأساوية عن حب مأساوي لم يتحقق نتيجة للفوارق الطبقية فدفع بأبطاله إلى جحيم الغيرة. إنك الآن فتحت ذهني على جوانب لم انتبه لها. سأعيد قراءة الرواية حينما أعود لألمانيا.

ابتسم آدم المطرود لها بطيبة وقال لها:

-                     يمكن فهمها هكذا أيضاً، فهي تؤكد ما للفوارق الطبقية من تأثير على مصائر البشر. ثم لماذا بالألمانية. ؟ ألا يمكنك قراءتها بالتركية؟

نظرت إليه بحزن خفيف وقالت بأسف:

-                     أنا لا استطيع القراءة الأدبية بالتركية. أنا أتحدث التركية بطلاقة وأستطيع الحديث في مجال اختصاصي جيداً، لكن القراءة العميقة أستطيعها بالألمانية، لغتي الحقيقية هي الألمانية، فقد ولدتُ هناك وترعرعت، ودخلت المدرسة هناك بل إن جميع مراحل الدراسة كانت في ألمانيا، أما التركية فكانت لغتي في البيت. وفي التعامل مع الأتراك.

ارتسمت علامات الاستغراب على وجه آدم المطرود فسألها:

-                     ألست تركية بالكامل. أقصد من ناحية الأم والأب؟

-                     نعم، لكني أشعر بازدواجية الانتماء، وهذا ما يقلقني، فلا أنا بالتركية، ولا أنا بالألمانية، صحيح ولدتُ هناك، وأفكر بالألمانية، لكني لستُ ألمانية، بل إن الألمان أنفسهم لا ينظرون إليّ هكذا حتى لو عشت عمري كله بينهم، صحيح أني أحمل جنسيتهم، لكني أنا إنسانة بلا جذور.

انتبه آدم المطرود إلى طبيعة كلامها ووضوح أفكارها، فسألها:

-                     هل أنت فنانة. ؟

-                     لا.

-                     لكنك قلت بأنك درست الفن.

-                     نعم، درست تاريخ الفن، لكن دعنا من كل هذا. أخبرني عنك فقدت أثرت فضولي!

ابتسم آدم المطرود وقال بمرح:

-                     أنا أثرت فضولك. ؟ بماذا. ؟ بعقليتي الشرقية المتعجرفة كما تقولين؟

ارتبكت حواء كوناي خجلاً، فهو يشير لكلامها أول ما دخلت، وقالت:

-                     أنا أعتذر عن القسوة في حكمي عليك.

لاحظ هو خجلها فأراد أن يخفف عنها، فقال مازحاً:

-                     بالمناسبة، ربما أنت محقة. أنا شخصيا لا أعرف نفسي جيداً، وأحيانا أتسرع في أحكامي وعواطفي.

-                     لا يبدو لي ذلك.

-                     بلى.

-                     هل عشت خارج بلدك، أقصد في أوروبا. ؟

-                     لا. لقد عشت سنوات دراستي الجامعية في استنبول. وسكنت في الجزء الأوربي منها، لكن هذا لا يعني أوربا، لكن لماذا تسألين. ؟

-                     لأنك تفكر بطريقة متحضرة.

صمت لحظة، وقال بنبرة جادة:

-                     ولماذا تعتبرين أبناء الشعوب الأخرى من غير الأوربيين بأنهم غير متحضرين. ؟ في النهاية نحن أحفاد حضارات إنسانية مهمة!

أحست حواء كوناي بالارتباك لأنها أدركت أنها ربما مسّت كرامته، فقالت:

-                     لا أقصد ذلك، وإنما عقليتك، رؤيتك للأمور مختلفة عن الرجال الشرقيين.

فقال بنبرة هادئة لكنها مشوبة بإصرار واضح:

-                     لا أعتقد ذلك. أنا إنسان شرقي، ربما الأمر له علاقة بالتربية وليس بالحضارة، ثم أنك لم تجيبي عن سؤالي. من أنت؟ لماذا أنت هكذا؟ لا أتصور أن امرأة، لا يهم هنا جنسها، أوروبية أو شرقية، تذهب مع رجل وهما ثملان، ويفعلان ما يفعلان. ثم تستاء منه وتحاول استرداد كرامتها لأنه أشاح بنظره عنها؟ هذا غير طبيعي، ولا تفعله أي امرأة إلا أذا كانت مجروحة الكرامة، وتم معاملتها وإذلالها لمدة طويلة!

ارتبك لكنها دارت على ارتباكها بالابتسام، وقال مازحة:

-                     أوه. دخلنا في علم التحليل النفسي.

فواصل هو بنبرته الجادة:

-                     ثم ماذا. ؟ يمكننا أن نحلل كل الأمور وفق آلياتها. وحينما نقترب من النفس فأننا نحتاج لعلم يساعدنا والتحليل النفسي هو هذا العلم!

-                     ليس دائما.

-                     أتفق معك أنه ليس دائما، لكن في كثير من الأحيان.

صمتت لثواني وقالت بنبرة جادة:

-                     يستطيع الإنسان أن يحلل ذاته إذا ما كان يمتلك وعيا ذاتيا لذاته.

-                     الوعي ليس كافياً. عليه أن يمتلك الشجاعة لمواجهتها. الوعي الشجاع.

-                     هذا صحيح. لكن ليس من السهل القيام بذلك.

نظر إليها للحظات وقال لها بنبرة فيها احترام واضح:

-                     أنت شجاعة، وأعتقد أنك قادرة على مواجهتها.

-                     تقصد لديّ الشجاعة على الاعتراف.

-                      نعم.

نظرت إليه بتفحص وهي تقرأ ما يدور في ذهنه، وسألته بمودة:

-                     أتود أن أعترف. ؟

نظر إليها بارتباك وقال وفي صوته إحراج واضح:

-                     إذا كنت تودين ذلك، لأني أحس أنك تبحثين عن إنسان تلقي أمامه حملك الثقيل، تبحثين عن فرصة للاعتراف. وأعتقد أنه حانت الفرصة لذلك.

نظرت إليه وكأنها تطلب منه أن يطلب منها ويشجعها أكثر على الاعتراف لأنها ما زالت مترددة.

**********

كلما استمرت حواء المؤمن في القراءة، زادت قناعتها بأن زوجها الدكتور آدم التائه كان يقصدها حينما يتحدث عن المهندسة التركية حواء كوناي، لكن يا له من كذاب، يحاول أن يبين بأن الآخرين سيئون وأنه هو الإنسان الوحيد الذي لا يخطئ.

لقد شعرت أن حواء كوناي قريبة منها، لذا لم تتوقف كثيراً عند هذا الفصل وإنما أرادت مواصلة القراءة لتستمع إلى اعترافات حواء كوناي.

**********

انتبه آدم البغدادي إلى تعليق حواء المؤمن ووصفها للدكتور آدم التائه بالكذاب، وهو توصيف أخلاقي وشعبي لعملية تغيير الأحداث والحقائق و إعادة صياغتها ونسبتها إلى آخرين، فهي لا تفهم العملية الإبداعية والجمالية ومفهوم الفن والإبداع عموما، لكن هل فن الرواية هو فن الأكاذيب المقدسة؟

(8)
صمتت حواء كوناي فجأة، وشحب لونها، ونظرت في كوبها. ألهت نفسها بصب القهوة في الكوب بالرغم من أنه لم يكن فارغا. كانت تريد كسب الوقت. هل تقول ما عندها أم لا. ؟ أخيرا انبسطت أساريرها لكن نظرتها ظلت حزينة وكأن ألما دفيناً كان يرقد في أعماقهما. رفعت رأسها ونظرت إليه وكأنها تريد أن تقرأ شيئا في وجهه، ثم قالت:

-                     المرأة التي تجلس أمامك والتي تعتبرها إنسانة شجاعة وقوية هي إنسانة محطمة من الداخل.

نظر إليها نظرة متسائلة وقال:

-                     أنت. ؟

-                     نعم أنا إنسانة محطمة وضعيفة جدا من الداخل، وشراستي التي تراها قوة وشجاعة هي محاولة يائسة للدفاع عن نفسي من احتلال الآخرين لي ولعالمي وشخصيتي.

صمت آدم المطرود بينما كانت هي تتوقع أن يعلّق شيئاَ على ما قالته فانتظرت لحظة، وحينما لم يقل شيئاَ واصلت حديثها بهدوء وبنبرة ألم وكأنها تسترجع شريطا سينمائيا يعُرض على شاشة ذاكرتها، فقالت:

-                     ولدتُ في ألمانيا. أنا الوحيدة لوالديّ. كانت أمي قد هربت مع أبي من تركيا، وأبي كان عاملاً بسيطاً، لكنه مات في حادث مؤسف أثناء العمل، كنتُ حينها في السادسة من عمري.

بقيتُ وحيدة مع أمي التي خافت الرجوع إلى تركيا، وأرادت لي أن أتعلم وأواصل دراستي في ألمانيا، ولم تشأ أن أواجه نفس مصيرها القاسي الذي كان ينتظرها في قريتها البعيدة في أقاصي شرق تركيا، لذا عشنا أول الأمر من التقاعد الذي خلفه لنا والدي، ولكن بمرور الوقت، وارتفاع الأسعار للحاجات والحياة عموما، وبنمو جسدي واتساع دائرة حاجاتي سواء الشخصية أو المدرسية لم يعد مبلغ التقاعد يكفي، فاضطرت أمي للعمل في مصنع للعطور خارج مدينتا الصغيرة.

كانت أمي المسكينة تستيقظ في الخامسة فجراً لتعدّ لي الفطور وأحيانا وجبة الغذاء ثم تمضي للعمل، وكانت تعود مع هبوط الظلام لتعدّ لي العشاء وأحيانا تطبخ بكمية كبيرة لعدة أيام كي لا أجوع حينما أعود من المدرسة.

ما زلت ُأذكرها حينما كانت تعود إلى البيت تعبة عند المساء، بالكاد كانت تقف على قدميها، فتتمدد على الصوفا القديمة التي لدينا وتطلب مني أن أدلك قدميها، بل وكثيرا ما كانت تغفو أثناء تدليكي لهما، لكنها كانت تفز بعد وقت قصير لتقوم بإعداد وجبة العشاء، أو لغسل الملابس، ولم تشأ أن أساعدها لأنها كانت تقول لي لا تفكري بشيء ولا تشغلي نفسك بشيء سوى الدراسة.

وفعلا كنت جيدة في دراستي بل حينما أنهيت الدراسة الثانوية حصلت على درجات عالية جدا تؤهلني لدخول الجامعات العلمية لكني اخترت دراسة الفن، وكنت قد حصلت حينها على الجنسية الألمانية بعد بلوغي الثامنة عشرة على الرغم من أن أمي لم تحصل عليها وإنما حصلت على الإقامة فقط، كما أنني حصلتُ على منحة المساعدة الدراسية التي تقدمها الدولة للمحتاجين الذين لا يستطيع أهلهم الأنفاق عليهم لمواصلة دراستهم.

صمتت للحظات وكأنها تستدرج ذكريات جديدة من خزين ذاكرتها لترويها. وبعد لحظات واصلت:

-                     كانت أمي سعيدة بل فخورة بتقدمي الدراسي ونجاحي الباهر، وكأنها انتصرت على قدرها، لكنها كانت واهمة لأنها لم تستطع أن تتمتع بنصرها طويلا إذ أن الموت أخذها مني ورحلت معه إلى عوالمه الغامضة. حينها لم أكن ناضجة بما فيه الكفاية. وكنت على الرغم من روح التمرد التي تغفو في داخلي ما زلت أسيرة التقاليد التي ورثتها عن أمي.

وصمتت للحظات. ثم واصلت. :

-                     لم يكن لدينا أقارب سوى العم آدم كوناي الذي كان يُعدّ من أقارب أبي البعيدين. كان هذا العم البعيد أرملَ، ويعيش مع ابنه آدم تورك الذي كان يكبرني بعامين تقريبا. لا أريد أن أشوه صورة أمي لكني كنت أحس بأن ثمة علاقة قوية تربطها بالعم آدم كوناي. بالمناسبة، حين سمعت باسمك انجذبت إليك مباشرة، فهو اسم محبب لنفسي. آدم.

العم آدم كوناي كما أخبرتني أمي ذات مرة، ولم تكرر ذلك الحديث قط، عاقب زوجته، والدة ابنه آدم تورك، لأنه كان يشك أن لها علاقة بقريب لها، فطلقها وأرسلها إلى قريتها التي تقع في جنوب شرق تركيا، في منطقة هكاري.

كان يشك في أن آدم تورك ابنه، وإنما هو ربما ابن ذلك الرجل الذي كان يعيش في مدينة قريبة من مدينتنا، والذي وجدوه مقتولا في شقته ذات يوم. وبرغم أن الشكوك كانت تحوم حول العم آدم كوناي لأن زوجته أم آدم تورك أتهمته بقتله، إلا أن الشرطة لم تجد أي أثر للجريمة. ولأنها اتهمته بمقتل قريبها فأنه طلقها وأرسلها لقريتها بعد أن حرمها من ابنها. عموما ماتت أم آدم تورك في قريتها بعد سنوات، وظلت علاقة العم بابنه آدم تورك سيئة جداً، وكان آدم تورك يكرهه أيضا، أو على الأقل لا يحبه.

صمتت حواء كوناي للحظات. وكا واضحا أنها تعاني من سرد ذكرياتها. لكنها كانت مصرة على أن تكشف أعماقها برغبة غامضة. ثم واصلت:

-                     على أية حال، لا أدري ما هو سر العلاقة بين أمي وبين العم آدم كوناي، لكنها حينما انهارت صحياً، وكانت على مشارف الرحيل، أوصتني، بل طلبت مني أن أتزوج آدم تورك. لم استطع أن أرفض لها طلبها الأخير، بيد أني لم استطع أن أكشف لها مصيبتي الشخصية، بل لا أخفيك، وربما يبدو كلامي لا إنسانيا وقاسياً إذا ما قلت إني شعرت ببعض الراحة عند موتها، لأني أحسست أن موتها جنبها عار فضيحتي، إذ لم أكن حينها عذراء، وأنت تعرف ماذا يعني ذلك لامرأة شرقية، وسأحكي عن ذلك.

بعد موت أمي كنتُ مضطرة أن أتواصل مع العم آدم كوناي وابنه وكأنهما من تبقى لي في هذه الدنيا. كانت مسألة زواجي من آدم تورك وكأنها تحصيل حاصل، فهم يعيشون وحدهم وأنا المرأة الوحيدة التي بينهم. كنت أحيانا أعود للعيش في شقتنا المؤجرة. عند المساء كان آدم تورك يأتي ليأخذني عندهم، وأحيانا كان العم آدم كوناي يأتي إليّ، وحينما كنت أريد أن أبقى لأغسل ملابسي أو أعدّ نفسي لبحث دراسي مطلوب مني، كانا يأتيان للمبيت في شقتي التي ورثتها من والديّ.

كان العم آدم كوناي قد فاتحني بموضوع الزواج من ابنه مرات عدة، وكنت أتهرب من الموضوع متحججة بالدراسة، لكني كنت أوفر لنفسي المال كي أجري عملية ترقيع لغشاء البكارة المفقود، وكنت قد استطلعت عن الموضوع من بعض الفتيات التركيات والعربيات اللائي أعرفهن، وفعلا أجريت العملية في مدينة بعيدة نسبيا عن مدينتنا.

وبعد نهاية السنة الثانية من الجامعة، وفي العطلة الصيفية وبعد مرور سنة وثمانية أشهر من رحيل أمي، تزوجت من آدم تورك.

لم أكن أحب آدم تورك لكني كنت استلطفه، ولم أكن مرتبطة عاطفيا بأي كان، وكل تجربتي كانت لا تتجاوز اندفاعات مراهقة تملك حرية واسعة بالقياس إلى الكثير من الفتيات، لموت الأب وانشغال الأم بالعمل.

 كنت أقيم علاقة مع شاب ألماني لم نتجاوز القبل السريعة المسروقة، لكن أحد الشبان الأتراك تشاجر معه من أجلي وهدده، فخاف صديقي الألماني وتركني للشاب التركي آدم عصمان، الذي كان أول من لامسني وداعب جسدي، ومارس معي أول الأمر من ثقبي الآخر حفاظا على بكارتي، وبقيت معه إلى أن أنهيت الثانوية، ولكونه كان يعمل في سوق الخضار الكبير مع أخوته وأبيه فلم يجد الوقت للدراسة، لذا لم يتمكن من النجاح وإنهاء الثانوية.

مع آدم عصمان عرفت أفراح الجسد. لم تكن العلاقة طبيعية أول الأمر حيث كان يأتيني من الخلف، وكنت في البداية أكره ذلك، وأكره نفسي، وأشعر بالألم والاختناق، لكني مع مرور الوقت، واستمرار المداعبات والشبق تعودت، بل وكنت أطلب ذلك بنفسي في لحظات معينة من التهيج، نعم تعودت على ذلك بل وأحببته، لكنه كان أيضا يداعبني من الأمام، ولا أدري كيف إننا في لحظة تهيج وشبق التحمنا، واخترقني.

ليت ذلك لم يحصل، لأن آدم عصمان بدأ يتهرب مني، وابتعد شيئاً فشيئاً، ربما لأنه خاف أن أطالبه بالزواج مني، لكني تجاوزت الفضيحة من خلال صديقاتي التركيات والعربيات، وبالتحديد إحدى التونسيات التي كانت قد رتقت نفسها لثلاث مرات. فأجريت عملية رتق غشاء البكارة. وهكذا تزوجت آدم تورك.

صمتت للحظات أطول. كانت ملامحها تكشف عن شرود وكأنها كانت تستعيد شريطا نابضا بالحياة، فواصلت:

-                     كان عرسنا متواضعا. احتفلنا في إحدى المطاعم التركية، ثم انتقلنا إلى شقتهم. شقتنا أنا وأمي بقيت فارغة. وفيما بعد عرضتها للايجار. المهم أنا لن أنسى تلك الليلة ما حييت.

مشكلتي مع آدم تورك أنه شبح، ظل إنسان، فعلى الرغم من أنه شاب وسيم قوي البنية، لكنه كان بلا شخصية، إذ طغت عليه شخصية أبيه الذي تجاوز منتصف الخمسينات، الوسيم، القوي البنيان. لم يكن لدى آدم تورك أي رأي أو وجهة نظر خاصة، كان رأيه من رأي أبيه، وحتى إن كانت لديه وجهة نظر فأنه لم يكن يعترض أو حتى يكشف عنها أو يبدي رأيه.

في تلك الليلة، ليلة العرس الأولى، كنا أنا وهو في شقتهم، فقد ذهب الأب لينام بعد انتهاء حفل الزفاف في شقتي، إذ كان يوما متعِباً حقا. طبعاً، قبل ذلك طلب العم من جيرانهم أن يساعدوني في إعداد نفسي وتجهيزها، ثم ذهبنا أولا إلى المسجد لنتزوج على الطريقة الإسلامية، بعدها إلى المحكمة للتسجيل الرسمي، ومن ثم السياحة بالسيارة في أزقة المدينة، ثم إلى المطعم الذي أكتظ بأصدقاء وأقرباء العم.

على أية حال، تلك الليلة التي كانت بالنسبة لي كارثة بكل المقاييس، إذ شعرت أن آدم تورك مرتبك جداً. حاولت أن أساعده. تخففت من ملابسي ولبستُ ثوبا شفافا جداً يكشف عن كل شيء تحته، حتى وكأني عارية كليا، ثم استلقيت على السرير بوضع مغرٍ منتظرة، لكنه لم يأت.

كان قد ذهب إلى الحمام وبقيَ هناك فترة طويلة. ناديته لكنه لم يجب. حينما عاد وجدته شبه منهار. دعوته للاقتراب مني فاقترب. لقد كان طائعاً. أحسست أنني أقوى منه ويمكن أن أقوده، وأن أساعده، فهو على أي حال صار زوجي، لكنه فجأة أخذ يبكي كالطفل. ارتبكت. بدأت أهدئه، فهدأ. ثم أخذت أنزع عنه ثيابه، وحينما وصلتُ إلى سرواله رفض أن انزعه. بدأت أشك في قدرته، وأردت أن أستكشف الأمر بنفسي. خلعت ثوبي فصرت عارية، اقتربت منه محاولة نزع عنه سرواله، لكنه رفض أن أقترب من سرواله رفضا قاطعا.

استلقيت على ظهري وطلبت منه أن يستلقي إلى جانبي ويسترخي. غطيت جسدينا بملاءة ناعمة، وبدأت أقترب منه، لكنه كان هامداً. بدأت أداعبه، فكان يستجيب، لكن بلا توهج أو إثارة. أخذت يده وبدأت أتجول معها في جسدي، فكان كالنائم. ترك يده في يدي، لكنه لم يبادر بأي شيء.

بدأت أشعر بالإحباط فسألته عن حاله وما يشكو منه، هل أني لا أعجبه، فأجاب كالمذنب، بأنه على العكس من ذلك، أنه يحبني جداً ويراني جميلة جداً، وأنه سعيد بزواجه مني، ثم أخذ    يبكي مجددا، مؤكدا بأنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء. إنه يريدني، يريد أن يكون معي، لكنه لا يستطيع. سألته هل هو عاجز، فنفى أن يكون عاجزا، فشهوته الجنسية عارمة، لكنه يضاجعني في خياله، وقد ضاجعني بشبق وعنف وجدارة مرات عديدة، لكن في خياله، حيث كان يمارس العادة السرية وأنا حاضرة في خياله، لكنه الآن عاجز رغم أنا عارية وجسدي بين يديه.

حاولت مساعدته، داعبته، أخذت أقبله من كل جهات جسده عسى أن يتأثر أو يتهيج، لكن دون جدوى. طلبت منه أن يريحني، فأنا متهيجة ومتوترة، كما ذكرتـّه بأن العم ينتظر منه أن يريه رجولته ودم بكارتي.

حينها بدأ يبكي وألقى بنفسه بين يدي يقبلها، وانحنى ليقبل قدمي وهو يولول: خلصيني، أنقذيني، لأن أبي لو عرف سيقتلني ويزيلني من وجه الأرض.

 أشفقت عليه، وأحسست أن واجبي أن أحافظ عليه من طغيان العم. لم يكن أمامي سوى أن أجد مخرجاً من هذه المحنة. وفجأة خطرت في ذهني فكرة شيطانية غريبة. تذكرت أن العم آدم كوناي كان يعاني من ارتفاع بسيط في السكر وأنه يحتفظ بجهاز القياس في الشقة، فأتيت بالجهاز وغرزت فيه الإبرة، وبدأت ألسع نفسي بالإبرة وأعصر إصبعي، فيخرج الدم منه فأمسحه بمنديل أبيض كان الأب قد أعطاه له ليضعه تحتي لحظة الفتح العظيم. كررت هذا الأمر مرات عدة وبمعظم أصابعي، وطلبت منه أيضا ذلك فوافق، حتى تلوث المنديل حقا بالدم، حينها قلت له أن يقدم ذلك لأبيه كي لا يشك بشيء.

في اليوم الثاني جاء العم ليستكشف الأمر. إنزوى مع زوجي آدم تورك ودخلا إلى غرفة أخرى، بينما حاولت أنا أن أشغل نفسي فدخلت إلى الحمام لأستحم وأعطيهما الفرصة لمناقشة مسألة فحولة الابن.

خرج العم مزهوا وكأنه هو العريس لأن الابن أثبت رجولته ورفع رأسه عاليا، وهكذا اجتزنا هذه المحنة. بعد ذلك تدهورت حالة آدم تورك إذ أصابته الكآبة، ربما لخجله أمامي، أو لعجزه عن مضاجعتي برغم رغبته فيّ، أو خوفه من أن يكتشف الأب الحقيقة.

لا أعرف بالضبط ما جرى له، لكنه صار حزينا، قليل الكلام، عصبي المزاج. أحيانا أحسست نمو روح التمرد فيه، إذ بدأ يبحث عن أعمال تتركه بعيدا عن البيت، حيث صار سائقا للسيارات التجارية الكبيرة التابعة لإحدى للشركات الكبرى التي تتيح له السفر لفترات زمنية طويلة.

كنتُ أفهمه، ولم أعترض على تصرفاته، لكن العم آدم كوناي كان لا يفهم كيف يترك العريس الجديد عروسه ليسافر أسابيع ويرجع في الشهر لبضعة أيام ليغادر ثانية. هذا الأمر مبعث توتر بينهما، لكني لاحظت أن آدم تورك صار أكثر ميلا إلى التمرد على أبيه، ويتحجج بأنه يريد أن يجمع المال ليضمن مستقبله ويكـّون نفسه.

تمرد آدم تورك النسبي على أبيه أثر على مزاج العم، فصار أكثر عصبية وصار يتأخر في المقهى الذي يرتاده الأتراك والذي يقع بالقرب من البيت، وأحيانا يأتي ثملا. أما أنا فأصبحت أكثر حرية. أتابع جميع محاضراتي، لا أطبخ الطعام إلا نادرا إذ أن العم آدم كوناي يأكل معظم وجباته في المطعم أو المقهى، بينما أنا آكل في مطعم الجامعة.

حين يعود آدم تورك في إجازة ليقضي أيامه بيننا أقوم بالطبخ. كنا نذهب معا إلى الدكان التركي الكبير، وكنا نقابل بعض المعارف من النساء والرجال فكانوا يسألون عن حياتنا الجديدة وهل هناك طفل في الطريق، فكنت أبتسم وأقول بأن الأمر بيد الله، وأنا ما زلت أدرس، وأمامنا وقت كثير، بينما كان الانزعاج يبدو على وجه آدم تورك.

وفي الليل، حينما ندخل إلى غرفة نومنا، كنت أحس أنه يحاول أن يقترب مني، وكنت أرحب بذلك فأنا أيضا أحتاج إليه، لذا كنت أساعده، فقد لاحظت أنه صار أكثر جرأة مما كان عليه في الليلة الأولى، وفسرت ذلك بخبرة السفر وأحاديث أصدقاء العمل، وربما حصلت له بعض التجارب، والحقيقة لم أكن أعترض حتى لو حصل له ذلك لأني أرى أن ذلك ربما سيشفيه، غير أن محاولاتي لم تجد نفعا مرة أخرى، وهذا ما ترك تأثيراً سيئاً جداً عليه، فهوى في بئر داخلية مظلمة.

أخذ آدم تورك يغيب لفترة أطول في سفراته، وأحيانا كان يراودني شعور أنه في إجازة لكنه لا يأتي للبيت وإنما ربما يراقبني من بعيد، لأني ذات مرة كنت خارجة من الجامعة فوجدت في الزحمة القريبة من شارع الجامعة شابا ظننته هو، وخُيل إليّ وكأنه يتبعني، فألتفت إليه وصعقني الشبه بينه وبين زوجي آدم تورك، إلا أن هذا كان يضع طاقية على رأسه، ولم يطرأ في ذهني لحظتها أنه هو لمعرفتي بأنه مسافر، وحينما أردت التأكد من ذلك التفت ثانية فلم أجده، إذ اختفى.

عموما، كان في بداية الأمر يسافر لمدة أسبوعين إلى ثلاثة كأقصى حد، لكنه صار يسافر لشهر أو أكثر. من جهة أخرى، ساء وضع العم النفسي، إذ صار يأتي إلى البيت أحيان وقد تعته السكر.

كانت تصرفات العم ونظراته إليّ تريبني. أحس في نظراته عتاباً وكأنني السبب فيما جرى لحال ابنه آدم تورك، لكنه لا يجرؤ على مفاتحتي بذلك. أحيانا كان ينظر إلي نظرات غريبة، فيها ما فيها من الرفق والشفقة، والرغبة العمياء وكأنه يحسد ابنه على وجود امرأة مثلي معه بينما هو يختفي. كان ثمة صراع خفي في أعماقه، صراع ما بين بقايا رجولته وبين دوره الأبوي.

كنت حينها قد أنهيت المرحلة الثالثة بتخصص تاريخ الفن، وكنت أعيش تناقضا بين ما أدرسه من غوص في علم الجمال، والعلاقة ما بين الجمال الروحي والحب الجسدي وتحولات هذه العلاقة، وبين ما كنت أعيشه من تناقضات. كنت أعاني كثيراً.

ذات يوم لمحت صديقي الأول آدم عصمان من بعيد. هو لم يرني لكني لمحته. أحسست بالرغبة العارمة. ذلك اليوم نفسه دخلت مكتبة الجامعة أفتش عن كتاب (معنى الحب) لفيلسوف روسي اسمه (فلاديمير سولوفيوف) عاش قبل الثورة البلشفية. حينها أردت أن أكتب بحثا فصليا عن "الإيروس في الفن"، فأخبرتني موظفة المكتبة بأن هناك نسخة منه استعارها أستاذ أجنبي، لكنه أراد أن يتصفحه في المكتبة ويمكنني إذا ما كنت في حاجة ماسة للكتاب أن أنتظر فربما سيعيده قبل نهاية الدوام لأنه لم يرغب في استعارته لفترة طويلة، وأشارت إلى الشخص الذي استعار الكتاب بشكل غير مباشر.

إلتفتُ إليه. كأن ثمة شرارة كهربائية مستني. رأيت رجلا في منتصف الثلاثينات من العمر، حنطي اللون، وسيماً بشكل ملفت، تلك الوسامة التي لا تشبه وسامة نجوم السينما وإنما وسامة الأبطال القادمين من متاهات التاريخ. ربما لا تصدق إذا ما قلت إني توجهت إليه لا إراديا وجلست على الكرسي المقابل له ولم تفصل بيننا سوى الطاولة.

نظر إليّ وابتسم مجاملة. تلك الابتسامة التي نمنحها تعبيرا عن الترحيب والسلام، فابتسمت له. راودتني رغبة غامضة في أن أحدثه، فسألته إن كان يكتب بحثا عن سولوفيوف. ؟ انتبه إلي وتوقف عن القراءة. نظر إليّ وقال مبتسما بأدب:

-                     لا، أنا أتصفح الكتاب لأن علي إعداد محاضراتي في علاقة الإيروس بالثقافة، وسولوفيوف له رؤية مهمة في هذا الموضوع.

كان يتحدث بألمانية فيها اللكنة الأجنبية واضحة، لكنها صحيحة من الناحية النحوية وسليمة البناء، فدفعني الفضول بأن أساله:

-                     من أين حضرتكم. ؟

-                     من مصر.

-                     أوه. من أرض الفراعنة.

ابتسم وقال:

-                     نعم من أرض الفراعنة.

-                     تشرفنا. اسمي حواء كوناي

-                     تشرفنا. أنا آدم المصري.

سألت نفسي عن هذه المصادفة الغريبة التي تجذبني لكل من يحمل اسم آدم، وهكذا تعرفت على آدم المصري. حينها تحدثنا بشكل موسع عن سولوفيوف.

-                     من هو سولوفيوف. ؟ سأل آدم المطرود بفضول.

-                     ألم يترجم إلى العربية. ؟ سألت حواء كوناي بنبرة مستنكرة.

-                     لا أعتقد، فمعرفتنا بالمفكرين الروس في الفترة الروسية القيصرية قليلة جدا، لدينا ترجمات أدبية كثيرة من خلال ترجمات دار التقدم في موسكو، أي من خلال منظار سوفيتي. قال آدم المطرود.

ارتسمت ملامح الاحباط على وجه حواء كوناي وقالت:

-                     خسارة. فلاديمير سولوفيوف مفكر روسي وأحد مؤسسي نظرية الحب الفردي الإيروسي، وصاحب فكرة سمو وتعالي الشخصية الإنسانية عن طريق الحب وتجاوز الأنانية والبعث والكمال الأخلاقي للإنسان. في كتابه (معنى الحب) قدم تحليلا نقديا مفصلا للنظريات اللاعقلانية التي كانت منتشرة في الغرب على نطاق واسع، والتي طورها شوبنهاور الذي أكد بأن الحب هو خدعة الطبيعة أو الإرادة التي تخدع الإنسان، عن طريق غريزة جنسية قوية وتجعله أداة عمياء للتكاثر والانتقاء الجنسي، حيث أكد سولوفيوف أنه إذ عُد الحب مجرد وسيلة لاستمرار الجنس البشري فأنه يتحول إلى مجرد غريزة حيوانية بسيطة.

-                     رائع. صرخ آدم المطرود لاإراديا.

- سولوفيوف أكد على الحب البشري، ففي رأيه أن الإنسان في الحياة الواقعية يرى نفسه مركز الأنانية بل ومركز العالم. يعامل المحيطين حوله انطلاقا من حاجاته ومصالحه الشخصية، ومن هنا فهو يرى الحب القوة الوحيدة القادرة على لجم الأنانية الفردية، دون أن يحذف السمات الفردية، بل يؤكدها ويتفهمها. لهذا فأن مغزى الحب البشري هو تبرير وحماية النزعة الفردية من خلال التضحية بالأنانية، وهذا يحدث عن طريق الحب، فنحن نؤكد الأهمية المطلقة للفرد الآخر، فالحب هو إلغاء كامل للأنانية. إنه نقل اهتمامنا من الذات إلى الآخر، حتى أن سولوفيوف يرى أن الحب الجنسي بالذات هو القوة الرئيسة القادرة على لجم الأنانية الفطرية، لأنه وحده يحافظ على المساواة بين المحب والحبيب.

-                     يبدو أنك مؤمنة بأفكاره. علق آدم المطرود بمزاح.

-                     نعم، فمع اعترافه بأهمية الحب الجنسي، يتحدث سولوفيوف عن ضرورة استنارة الجسد واستلهامه، فالجانب الجسدي في الحب هام، لكنه لا يُعد الهدف الرئيس، ويمكن للحب الحقيقي أن يكون بدون اتحاد جسدي، كما يمكن للتلاحم الجسدي أن يكون بدون حب، وبعبارة أخرى، إذا ما أصبحت الفيزيولوجيا هي الهدف، فإنها تقتل الحب.

لا يدري آدم المطرود كيف انبثقت صورة حواء الصايغ من أعماق ذاكرته وتجسدت في ذهنه المتوقد، لاسيما حينما قالت إنه يمكن للحب الحقيقي أن يكون بدون اتحاد جسدي، بينما لا تربطه بهذه المرأة التي تتحدث معه سوى شهوة عارمة. لم يعد يركز على حديثها الفكري لكنه انتبه أنها رجعت في الحديث إلى آدم المصري.

-                     أخذنا نلتقي يوميا تقريبا. انتبهت لنفسي بأني بدأت أعيش حياة مزدوجة، فأنا أعيش في البيت حياة شبه محافظة، بينما كنت مع آدم المصري أعيش السمو الروحي والجسدي. لم تبعد ملامساتنا عن القبل، حتى جاء ذلك اليوم الذي دعاني فيه إلى شقته الصغيرة جدا، وهناك لم استطع التفكير. حينما أراد أن يأخذني قلت له إني عذراء. لم يصدق. داعبني ليكتشف بنفسه، وسهلت عليه الأمر حينما قلبت نفسي على بطني ورفعت مؤخرتي ففهم، كنت معتادة على ذلك، كما أنه يعجبني.

مشكلتي مع آدم المصري أنه كان في إيفاد لمدة ثلاثة أشهر فقط، لكني، وهذا ما استغربت له ولا أزال، هو أنني لم أتأثر كثيرا برحيله، بيد أني كنت قلقة جداً. خفت أن أكون قد حملت منه، ففي إحدى المرات أخذ يداعبني بعضوه من الأمام، ولم يستطع السيطرة على نفسه فأفرغ في فرجي. صحيح أني باكر وإمكانية الحمل حسب ما يقوله الطب شبه مستحيلة، إلا أنها ليست بمستحيلة، لاسيما وأن دورتي الشهرية قد تأخرت. الحمد لله لم يكن تأخر الطمث سوى بسبب الاضطراب النفسي، إذ شعرت بالراحة حينما تأكدت من أنني لم أحمل، لكني، ولا أدري لماذا، شعرت بالذنب أمام العم الذي كان يوليني اهتماما خاصا، وكذلك أمام زوجي آدم تورك الذي أحسست أنه يحبني من أعماقه لكنه كان لا يجد حلا سوى أن يبتعد عن عالمي.

أحيانا لا أعرف نفسي جدا. كنتُ في حيرة عميقة مع أني كنت واثقة من ثقافتي ومعارفي بحيث يمكنني أن أعرف ما يجري لي، وسبب هذه الحيرة أني حينما ثانية التقيت آدم عصمان صديقي الأول في مكان ما، لم استطع إلا أن أحييه وأسلم عليه، ويبدو أن هذه السنوات التي فرّقت بيننا قد أضفت عليّ نضجا أنثويا مثيراً، وعليه رجولة وحضوراً جسديا مهيباً. كما أنني وجدته معجبا وعاشقا مرة أخرى، بل وأكثر من الأول، وأخذ يلاحقني في كل مكان طالبا مني أن نلتقي ولو مرة واحدة في شقته، فقد صارت لديه شقة خاصة له.

كنت أعرف ما الذي سيكون بيننا، فمن حيث الثقافة والتعليم كنت قد تجاوزته، فأنا كنت في عامي الجامعي الرابع، بينما هو قد ترك الدراسة. لا أدري كيف جاءتني الفكرة الجنونية كي أذهب معه لمرة، مشترطة عليه أن تكون المرة الأولى والأخيرة، ويكف بعدها عن ملاحقتي، وحينما كنا هناك وحدنا فقدت كل توازني وعدت تلك المرأة المهووسة بالجنس. لقد طلبت منه أن يعيد معي كل ما كان يفعله سابقا، بل وصرت أنا التي أتصل به وأبحث عن أية فرصة لمقابلته هناك. لكني بقيت عذراء، فكل شيء كان يتم من الخلف.

صمتت للحظات. رفعت رأسها نحوه لترى تأثير اعترافاتها الصادمة عليه، إلّا أنه كان ينظر إليها بذهول. مأخوذا. أعجبها حينما لم تجد أي ملمح للاستنكار على وجهه، فواصلت:

-                     لم يكن الأمر عليّ سهلاً. لحظتها كنت لا أفكر بما أفعل، بل كنت أفكر بمتعة الجسد فقط. وكنت أشعر أني أعاني من ازدواجية الشخصية، فمن جهة أنا التي ابتعدت عنه، بينما صرت أنا التي تركض خلفه، وأيضا حينما أكون معه في الشقة أتحول إلى امرأة داعرة بكل معنى هذه الكلمة، لكن ما أن أفتح باب بيتي حتى أحس بالندم وبشعور هائل بالذنب وتصيبني حمى أخلاقية تدفعني باتهام نفسي بأني عاهرة رخيصة وساقطة. ووعود مع نفسي بالتوجه للعبادة والصلاة. ,. كان هذا الشعور يعذبني، وتنتابني هذه المشاعر الطهرانية أكثر حينما يصادف أن نسهر معا أنا والعم حسن في البيت وحدنا. كنتُ أحتقر نفسي، وأحس أن الإنسان كائن منحط ودنيء وسافل، أتدري لماذا. ؟

صمت آدم المطرود للحظات، كان يفتش عن جواب ينسجم مع أجواء هذه الاعترافات الهائلة، فقال بنبرة حزينة وتائهة:

-                     ربما أدري. أو لا أدري. لكن كيف توصلت أنت إلى ذلك. ؟

نظرت إليه وقالت بحسرة وندم:

-                     لم أصدق أن في أعماقي هذه المساحة من المستنقعات الآسنة. ؟

-                     في أعماقك أنت. ؟ سأل آدم المطرود بدهشة.

-                     نعم. في أعماقي أنا. أتدري ماذا فعلت. ؟

-                     لا.

-                     بعد كل هذا الكم الهائل من الندم والحمى الأخلاقية بدأت أفكر بإغواء العم!

صرا آدم المطرود بصوت عال متعجباً:

-                     ماذا. ؟

صمتت حواء كوناي للحظات. ثم قالت بنبرة مستسلمة لكنها واثقة:

-                     نعم، هذا ما حصل. بدأت أرتدي الملابس المثيرة مساء حينما يكون موجوداً، وأطلب منه أن لا يخرج من البيت مساء أو أن يأتي مبكراً كي نسهر معا ً.

انتبه هو لوضعي، وأحسست أن الأمر أعجبه أول الأمر، لكني كنت أرصد تحولاته النفسية. كان يتعذب بين رغبته فيّ وعلاقته الأسرية معي. صار يبتعد عني ويغيب أكثر عن البيت.

أنا وضعت أسس اللعبة لكني وجدت نفسي أسيرة هذه اللعبة أيضا. خرج الأمر عن كونه لعبة مجنونة إذ صرت انتظره بلهفة، وأتمنى بحرقة أن يرجع مبكراً إلى البيت.

كنت أتمادى في الإغواء. أنام شبه عارية. أترك نفسي دونما أغطية عسى أن يجيء. كنت أنتظره ساهرة، وحينما أحس حركة المفتاح في الباب أسرع إلى السرير وألقي بنفسي عليه وكأنني أغط في نوم عميق، بعد أن أكشف عن مساحات من جسدي وأترك الباب مفتوحاً. كان يقف عند الباب ثم يتقدم شيئا فشيئا ليغطيني. يقف لبعض الوقت يتأملني ثم يخرج.

تكررت هذه المشاهد مرات عديدة، وصار يتجنبني أكثر، بل وصار يأتي إلى البيت ثملا.

في تلك الفترة عاد زوجي آدم تورك إلى البيت ليقضي إجازته السنوية بيننا، وكان كعادته عاجزا، لكنه هذه المرة كان مختلفاً، إذ كان يحمل معه بعض الأفلام الجنسية الإباحية، ولكي يشاهدها اشترى جهازا للعرض وتلفزيونا وضعهما في غرفة النوم. الغريب أنه برغم ضعفه كان يطلب مني ممارسات كتلك التي يشاهدها في تلك الأفلام. ليس كممارسة كاملة وإنما من خلال المداعبة والمص وتقبيلي من تحت. حاولت أن أجاريه، لكني لم أستطع، فقد كنت أفكر في العم كوناي.

ذات يوم كنت قد أنهيت أحد امتحاناتي النهائية في الجامعة فرجعت مبكرة إلى البيت. دخلت دونما ضجة فسمعت صراخا بينهما. سمعت العم يعنف زوجي على سفره الدائم وتركي وحيدة، وأنه يجب أن يفكر فيّ، فأنا امرأة يمكن أن أخطأ إذا ما تركني بهذا الشكل، لأني كأي إنسان لي مشاعري وأحاسيسي ورغباتي، وإذا لم ينتبه لهذا الأمر فربما يدفعني لطريق سيندم عليها. سمعت زوجي آدم تورك يدافع عن نفسه وعني ويقول بأنه واثق مني ومن أخلاقي، وإنه كان يراقبني دون أن أعرف، وهو متأكد بـأنني شريفة ولا يمكن أن أخطأ. فصاح العم به بأن للصبر حدودا ً. أخبره زوجي بأنه خلال أيامه التي يقضيها بيننا يمتعني بحيث أرتوي لحين عودته، فسأله العم: لماذا إذن لا تراجع الطبيب وتأخذ زوجتك أيضا لأنه مضى فترة طويلة على زواجكما وليس هناك حمل؟ وقال له بأنه يريد أن يسمع صراخ وضحك وضجيج أحفاده في البيت. طبعا لم أستطع الدخول فرجعت متسللة إلى الشارع ثم دخلت ثانية مع كثير من الضجيج وكأني لم أسمع شيئاً، لكني حينها كنت غاضبة مع نفسي ومن زوجي العاجز الذي أدعى رجولة مفقودة.

بعد أسبوعين من تلك المواجهة بين الأب والابن أنهيت دراستي الجامعية. بعد ذلك بحثت لفترة طويلة عن وظيفة لكن بدون جدوى. أرسلت طلبات للعمل لعشرات الجهات، ثم تركت المعلومات الكاملة عني وعن اختصاصي عند دائرة العمل التي وعدت بالبحث عن مكان يحتاج اختصاصي، لذا كنت أقضي معظم وقتي في البيت. أما زوجي آدم تورك فترك عمله كسائق، وأراد أن يفتح مطعما للمأكولات الشرقية، لكن أباه لم يشأ ذلك، وكان ذلك مثار جدل بينهما، فسافر زوجي آدم تورك إلى تركية للاستجمام، ولم يسألني إن كنت أرغب في الذهاب معه. لقد تركني في دوامتي.

زاد اهتمام العم بي. كان مستاءً من خلافه مع زوجي. أخذ يشرب الخمر بشراهة. بينما كنت وحيدة. ولقتل الوقت، وبسبب الضجر المقيت وتأجج الرغبات الجسدية عدتُ للعبة الإغواء التي كففت عنها عندما كان زوجي في البيت، لكن هذه المرة أخذت الأمور مجرى آخر.

في تلك الفترة راودتني فكرة دراسة الهندسة، لاسيما وأن درجاتي في الاختصاصات العلمية عالية جداً، فقدمت طلبي إلى إحدى الكليات الهندسية، وتم قبولي بعد فترة من الانتظار في قسم الهندسة المدنية.

ذات مرة كنت راجعة من الجامعة في وقت مبكر لإلغاء محاضرة بشكل مفاجيء، وحينما دخلت البيت خلسة، إذ كنت أتوقع وجود العم في البيت، اكتشفت شيئا مذهلا.

كان العم كما توقعت موجوداً. لم ينتبه هو لدخولي. سمعت الصراخ والآهات الجنسية المثيرة تأتي من غرفتي. لم أدخل الغرفة وإنما ذهبت مباشرة إلى الحمام وأحدثت ضجيجا وضغطت ماسورة المياه، فارتبك وخرج من الغرفة، بعد أن أطفأ جهاز التلفزيون، فتقابلت نظراتنا، وكأنه كان يعلم بأني أعلم بوجوده وأني اشغلت نفسي. إنتبهت لملامحة المتهيجة. سلم علي وخرج قائلا أنه سيتأخر.

**********

كان آدم المطرود مستمتعاً بهذه الإعتراف ولم يشأ قط أن يعترض أو أن يقطع سلاسلة سرد هذه الحكاية الفاضحة. وكانت هي مسترسلة في استحضار الأحداث، فكأنها لم تكن في المكان. سمعها تقول:

-                     أنا خبيثة جدا.

نظر إليها وسأل مستغربا هذا الحكم القاسي:

-                     أنت. ؟ أنت خبيثة. ؟

-                     نعم. نحن النساء لدينا كمية هائلة من الخبث. مناجم. إذا أرنا أن نغترف منها فلن تنتهي.

-                     أكملي. لأعرف لماذا تصفين نفسك هكذا!

نظرت إليه فجأة بتركيز ومودة وكأنها تعرفه منذ سنوات وقالت:

-                     أتعرف يا آدم. أشعر بالتقزز من تلك المرأة التي كنتها في تلك الفترة، ففي تلك الليلة زينت نفسي ولبست ثوبي الشفاف والمثير جدا، الذي يكشف كثراً عن جسدي، دون أن يستر أي شيء تقريبا، وتمددت على سريري بانتظاره. وضعت أحد الأفلام الجنسية التي جلبها زوجي في الجهاز، وأخت أشاهده، كنت مهتاجة وكنت انتظره. الغريب أنه تأخر تلك الليلة، لكنني بقيت منتظرة، وحينما سمعت حركته وهو يدخل البيت، كشفت عن نفسي وعن المنطقة السفلى العارية من جسدي، وتمددت بطريقة مغرية بعد أن أخفضت من صوت التلفزيون الذي تركته يعرض الفيلم الجنسي الذي أخترته عن أب يضاجع ابنته حينما يرجع سكرانا فيجدها عارية في السرير فيخترقها وهي مستمرة ومستمتعة في النوم. هذا الفيلم شاهدته ذات يوم وحدي وأثارني جدا. وساعدني في رسم خطتي لإغواء العم. دخل العم الغرفة. ألقى نظرة على شاشة التلفزيون الذي كان يعرض مشاهد الفيلم الساخنة. جلس على حافة السرير. وأخذ يتأمل عريي. حدق بشبق إلى جسدي العاري. سمعته يفح كالثور. حركت جسدي وكأني نائمة ثم فتحت فخذيّ، تحركت بعفوية. فجأة انحنى عليّ وأخذ يداعب فخذيّ. سحب ثوبي للأعلى حتى رقبتي فانكشفت له بكل جسدي.

وضع رأسه على بطني، وبأصابعه بدا يداعبني. كنت متهيجة، وربما انتبه إلى أني أتناوم ولستُ بنائمة، فهبط يقبلني من الأسفل. لا إراديا كنت أتحرك متجاوبة رغم أني ما زلت أغمض عينيّ وكأني نائمة. فجأة قام عني وعن السرير. نزع عنه بنطاله وسرواله وسحبني إلى حافة السرير وفتح فخذي وأخذ يداعب فرجي بعضوه. كنت مبتلة ورطبة جدا، فأولجه فيّ بعنف وقوة حتى أني صرخت دون إرادة مني وسال دمي.

لم أشعر منذ فترة طويلة بمثل تلك النشوة. ظل يسحبني بعنف ويقلبني على بطني ويدخله فيّ. وأخيرا انتهت عاصفته في أعماقي. وكان ماءه غزيرا. لكنه ارتعب حينما وجد دم بكارتي. إذ قام منصرفا وهو يحمل بنطاله وسرواله مرعوبا، وكأنه استوعب ما فعل. أنا أيضا قمت إلى الحمام لأغتسل، وهنا انتبه هو إلى أني كنت مستيقظة.

في صباح اليوم الثاني وفي وقت مبكر طُرق الباب الخارجي. لم يخرج هو، فلبست ثوبي وعليه بلوزة طويلة. وعندما فتحت الباب وجدت ساعي البريد الذي أعطاني برقية. لم افهم مضمونها، كانت بالحروف الألمانية، لكن مضمونها بالتركي. ولم أفهما جيدا، لكني فهمت بأن زوجي آدم تورك حصل له حادث. ذهبت مسرعة إلى غرفة العم، طرقت الباب فقام العم مرعوبا وخجلا في نفس الوقت، أعطيته البرقية، قرأها. فجأة، انهار على السرير كبيت هدم بالديناميت. لم أسمع منه سوى صرخة هائلة:

-                     آدم تورك.

-                     ما الذي جرى له. ؟

-                     مات في حادث.

فجأة وجدت نفسي أنهار على الأرض باكية. أخذنا كلانا نبكي. ضممته إلى صدري. كان يبكي كالطفل، وكنت أبكي أيضا بحرقة وألم. كنت أبكي شفقة على زوجي آدم تورك وعلى نفسي، أبكي على انحلالي وسقوطي، أبكي على آدم الإنسان البريء والضحية. كنت أبكي وأصرخ بحرقة وصدق كأي زوجة تفقد زوجها الحبيب. تذكرت وجه أمي كيف كانت تندب أبي. كان العم برغم مصيبته وبكائه ينظر إلي مستغربا كل هذا الحب الذي أكنه لزوجي آدم تورك.

لم يكن أمامنا سوى السفر إلى استنبول في تركيا. وهناك. ذهبنا إلى المستشفى، وأخذنا الجثة ودفناها في إحدى المقابر. وأقمنا الطقوس الإسلامية اللازمة. هناك عرفنا أن الحادث كان عابراً ومن غير قصد. بقينا لأكثر من أربعين يوما، بعدها عدنا إلى ألمانيا، ولم يكن أمام كل منا سوى الآخر.

فجأة وجد آدم المطرود نفسه يسألها، لأنه انتبه إلى أنها اختزلت فترة زمنية طويلة بكلمات، فقال:

-                     ألم تتحدثا في ما جرى بينكما؟ ألم يحدث ذلك مرة اخرى. ؟

صمتت هي للحظات وكأنها تستعيد التفاصيل الدقيقة، وقالت:

-                     خلال تواجدنا في استنبول وفترة الحداد لم نتحدث عن اي شيء. لكن. بعد أيام من عودتنا إلى ألمانيا، وفي ليلة ليلاء طلب مني توضيح الأمر إذ سألني: هل كان ذلك دم البكارة حينما كان معي؟ فأجبته بنعم، فسأل عن آدم تورك وإدعاءاته بالفحولة؟ ودم البكارة صباح اليوم الثاني من الزفاف؟ والأفلام الجنسية التي كان يحملها معه كل مرة عندما كان يعود في إجازة؟ ولم يكن أمامي إلا أن أعترف له بكل شيء. طبعا كانت صدمته كبيرة. كبيرة جداً. بحيث أنه غرق في دوامة صمت. كان مصدوما مما سمع. فجأة، أخذ يضحك بهستيريا، صار كالمجنون، ثم قام وفي عينيه نظرات غريبة. أخذني من يدي، بل يمكن القول جرجرني خلفه إلى السرير، عراني من ثيابي، ثم دفعني إلى السرير، بل سحبني إلى حافة السرير، فتح فخذي وأولجه فيّ بقوة، بهستيريا. وطلب مني أن أقلد الأفلام التي كان يشاهدها، وكان يكرر كالمجنون: أنت قحبتي، أنت قحبتي. ويسألني: من أنت. ؟ ثم يجبرني على الجواب: بأني قحبته، فكان يسألني وهو يدفعه فيّ بهستيريا: من أنت. ؟ فكنت أجيب: أنا قحبتك؟ هل تعرف غرابة النفس البشرية.

لم يشا أن يحاورها أو يقاطعها لكنه وجد نفسه مرغما على الحوار فقال بهدوء وبدون رغبة واضحة:

-                     أعرف أن الإنسان كائن غامض. غامض جداً.

-                     هل يمكنك أن تصدق وتتصور. أني كنت أشاركه أول الأمر بخوف وفيما بعد بمتعة، وفي أول الأمر لم يعجبني جوابي له بأني قحبته، لكني صرت أستمتع فيها فيما بعد وأقولها بصدق وهياج. كنت أشعر بلذة وانا أنطق تلك الكلمات. كنت أحس في الوقت نفسه وكأني أرى واحدة أخرى تقوم بكل هذه الحركات، حواء أخرى تقوم بكل هذه الأشياء، وكان هو ليس هو، إذ صار مجنونا جنونا حقيقيا. لم أعد أعرف العم آدم كوناي أبدا. صار مخلوقاً آخر. وكان هذا الأمر يتكرر بيننا يوميا تقريبا. كان يضاجعني في كل الأوقات، وفي كل زوايا البيت. في المطبخ، في غرفة النوم، في غرفة الاستقبال. وكنت أنا مستمتعة بذلك رغم عنفه وتوجيه الشتائم والكلام البذيء لي، وإجباري بالاعتراف بأني قحبته وأني أموت فيه وأعشقه.

-                     غريب.

تمتم آدم المطرود بصوت خافت وكأنه يحدث نفسه. أما هي فلم تنتبه لما قال وواصلت حكايتها:

-                     بعد أسابيع واجهتُ كارثة حقيقية هي اكتشافي أنني حبلى. لم أستطع تحمّل الفكرة، ولم أشأ الاحتفاظ بالطفل، فذهبت إلى إحدى العيادات التي طلبت مني موافقة من مكتب تابع لإحدى الكنائس لأن الإجهاض ممنوع في ألمانيا. ذهبت إلى مكتب يعود لإحدى الكنائس وشرحت وضعي، بعد أن كذبت عليهم بأني حملت بالجنين من علاقة غير شرعية وإن اهلي سقتلوني لو عرفوا. فوافقوا بعد أن عجزوا عن إقناعي بالاحتفاظ بالجنين. أجريت العملية، لكني كنت في وضع سيء، وتدهورت صحتي، لم أكن أتوقع أن الأمر سينتهي بكارثة أخرى.

-                     ماذا جرى. أيضاً. بعد كل هذه الكوارث. ؟ قال آدم المطرود متعاطفاً.

-                     لم ينتبه العم إلى وضعي الصحي المتدهور بعد عملية الإجهاض. أراد أن يضاجعني. فقلت له أنني لا استطيع. فأخذ يشتمني بأقذر الكلمات متهما إياي بأني وجدت رجلاً آخر. فأخبرته صارخة فيه بالحقيقة. أخبرته بإجهاضي. غضب مني كثيرا. وأخذ يصرخ بأنني مجرمة. وأنه كان بالإمكان أن أستمر بالحمل وألد الطفل. فهو سيكون ابنه الحقيقي. لأنه يشك بأن آدم تورك من صلبه. ثم اختفى معتكفا في غرفته. وفي فجر اليوم التالي سمعت صوت طلقة جاءت من غرفة العم. فزعت، وحينما دخلت عليه كان ميتا، لقد انتحر.

شعر آدم المطرود بالخوف من هذه القصة الغريبة، وسألها:

-                     وأنت. ماذا فعلت. ؟

نظرت إليه بلامبالاة ممزوجة بكثافة من الألم الوحشي، وقالت:

-                     اتصلت بالشرطة فجاءوا مسرعين. أجري تحقيق استمر لأيام، لكن الحالة كانت واضحة بالنسبة لهم، إذ فسروا الحادث بأسباب نفسية. إنتحر لأنه لم يتحمل فقدان ابنه الوحيد.

لم تستطع المهندسة حواء كوناي أن تواصل اعترافها إذ قامت فجأة وخرجت من الغرفة. نهض آدم المطرود خلفها، لكنها خرجت دون أن تقول أي شيء. لم يشأ آدم المطرود أن يلحق بها إحتراما لمشاعرها، ولهذا الكّم الهائل من المعاناة الذي كان يتجسد في نبرة صوتها وملامحها حينما كانت تعترف له.

بقيَ آدم المطرود في غرفته مذهولا من هول ما سمعه. إنها رحلة عبر الجحيم الأرضي، جحيم النفس التائهة. لا يعرف كيف ينظر إلى حواء كوناي، هل هي داعرة فاسقة ساقطة أم أنها قديسة تتطهر بنار الجحيم. ؟

**********

لم تنتبه حواء المؤمن للدموع التي ترقرقت في عينيها. أحست أنها تعرف هذه المهندسة حواء كوناي التركية جيدا. صحيح هي نفسها غير متعلمة مثل تلك مهندسة، إلا أنها تعرف هذه المشاعر والمعاناة، وتعرف معاناة النفس حينما تصل إلى الدرك الأسفل من الفجور أيضا، تعرف جحيم الشهوة وغواية النفس والجسد.

ادركت حواء المؤمن بأن زوجها الدكتور آدم التائـه لا يشك فيها وحسب بل إنه متيقن بما جرى بين والده وبينها، لكنه ربما يعتقد أنها هي التي أغوت أباه، لأن المهندسة حواء كوناي هي التي أغوت العم، وقد اعترفت بذلك، وهو هنا وضع المهندسة بدلا عنها.

سألت حواء المؤمن نفسها: تُرى من أين أتى زوجها الدكتور آدم التائـه بمسألة الممارسة من الثقب الآخر، من الخلف. ؟ هل يعرف يا تُرى ما جرى بينها وبين حبيبها الأول. ؟ من أين لديه كل هذه المعلومات. ؟ فبعض المشاهد تكاد تكون متطابقة مع تجربتها.

سألت حواء المؤمن نفسها أيضا: لماذا يقلب زوجها الدكتور آدم الحقائق. ؟ لماذا لا يكتب عن الأشياء كما هي. ؟ لماذا لم يكتب عن عقوقه بحق والده وكيف القاه في دار للعجزة. ؟ ثم هل هو يشك في علاقة والده بأمه. ؟ وما قصة أم آدم تورك وقريبها، وشك العم آدم كوناي في كون آدم تورك ليس ابنه ومن صلبه. ؟ هل هو هنا يتحدث عن علاقته بأبيه؟ تُرى ما علاقة ذلك بزوجها، فهي لم تسمع بمثل هذه الأمور في بيتهم، لكنها تعرف أن علاقة الوالدة الطيبة كانت سيئة جدا بزوجها وكان هو قاسيا جدا معها، وكأنها ليست زوجته. ؟

ثم لماذا يكتب بهذا الشكل المفضوح. ؟ لماذا يصرف وقته وأعصابه لكتابة مثل هذه الأشياء المفضوحة التي يخجل الإنسان أن يواجه نفسه معها؟!.

كان الحزن قد تغلغل بعمق إلى روح حواء المؤمن، وأحست أنها مشوشة النفس. فهناك أشياء غير مفهومة في هذه القصة؟ فكرت أن زوجها يكتب عن نفسه لكنه يكذب كثيرا، فهو لا يسمي الأشياء بأسمائها؟

عليها أن تقرأ بحذر وتفتش عن نفسها في كل سطر. ألقت نظرة إلى الساعة المعلقة على الجدار، كانت قد أنفقت أكثر من ساعة ونصف من الوقت في القراءة.

قامت من مكانها واتجهت إلى المطبخ لتصب لنفسها كوبا من القهوة، ثم عادت لتواصل القراءة.

**********

انتبه آدم البغــدادي إلى ملاحظـات الدكتور آدم التائـه على نصه الروائي. أعجبه محاولاته لاقتناص المسارات التي تقود إلى ينابيع الإبداع، كما توقف عند اعترافات المهندسة حواء كوناي مفتشا عن أصول الشخصية الروائية ومصادرها الحقيقية في الحياة.

هل تُرى لملم الدكتور آدم التائه تفاصيل هذه الشخصية من تفاصيل شخصية لامرأتين أو ثلاث من النساء التركيات أو العربيات اللائي تعرف إليهن ليركب منها شخصية المهندسة حواء كوناي. فجأة ابتسم آدم البغدادي مع نفسه، وسأل: لماذا يبحث في شخصية الدكتور آدم التائه ولا يبحث في حياته هو، أوليس هو الذي صنع شخصية الدكتور آدم التائـه؟.

(9)
أفاق المهندس آدم المطرود فوجد نفسه في المستشفى الحكومي، في غرفة شبه فارغة إلا من السرير الذي يرقد عليه، وقربه طاولة وضع عليها بعض الأدوية. انتبه إلى أن إحدى قدميه مقيدة بالسرير، وقرب الباب يقف أحد رجال الشرطة، وكانت يده مربوطة بإبرة مرتبطة بقنينة المغذي، لذا لم يستطع أن يحرك جسمه ولا أن يجلس بشكل طبيعي أو أن يحرك يده بحرية.

دخل المحقق آدم التكريتي مع أحد الأطباء وخلفهما وقف الشرطي عند الباب. بادر الطبيب إلى قياس ضغطه ونبض قلبه، ثم خاطب المحقق قائلا:

-                     يمكنه أن يخرج الآن. كان لديه انخفاض حاد في ضغط الدم والسكر. يبدو أنه لم يأكل منذ فترة طويلة. الآن كل شيء طبيعي. يمكنه أن يذهب معكم. سأذهب لأعّد لكم أوراق الخروج.

قال الطبيب ذلك وغادر الغرفة. بقيَ المحقق آدم التكريتي ينظر إليه نظرات متفحصة ثم قال بسخرية:

-                     هل أنت ممثل أم مهندس. ؟

لم يجب المهندس آدم المطرود، بينما استمر المحقق في تعليقه الساخر:

-                     بالأمس أغمي عليك أثناء التحقيق. كانت هذه لعبة ذكية منك للتخلص من الإستجواب. لعبت دورك بشكل مذهل بحيث خفنا أن تموت فعلا دون أن نعرف شيئا فنقلناك للمستشفى لتنعم بالراحة والعناية.

 لم ينتظر آدم التكريتي أية إجابة وإنما التفت إلى الشرطي وقال له:

-                      ساعده على الخروج. أمامنا عمل كثير، وقضايا كثيرة، لننتهِ من هذه القصة الموجعة للرأس.

قال ذلك ثم خرج. بعد لحظات دخل ممرض وفك الإبرة عن معصم المريض، كما قام الشرطي بفك قيده الذي يربط قدمه بالسرير، وبعدما حرر قدمه وضع القيد في يده، وخرجا بينما بقيَ الممرض في الغرفة.

في السيارة التابعة لجهاز الشرطة كان آدم المطرود جالسا وقبالته كان الشرطي، وكانت السيارة تجتاز شوارع بغداد المزدحمة. وكان هو يسعى ليتحسس نبض الحياة في مدينته التي يعشقها.

**********

في شارع الأميرات بمنطقة المنصور ثمة مبنى من ثلاثة طوابق يحمل لافتة كبيرة تغطي واجهة الطابق الثاني تحمل اسم (شـركة الفـردوس للتجــارة العـامة). دخل آدم المطرود المبنى واقترب من المصعد ليقرأ اسم الشركة والمكاتب الأخرى على لوح مجاور، فعرف أن الشركة تحجز الطابق الأول برمته، بينما كان الطابق الأرضي يحمل أسماء طبيبين أحدهما لأمراض القلب وآخر لأمراض وجراحة العيون، ولم يكن هناك ما يشير لأي جهة تحتل الطوابق الأخرى.

حينما خرج آدم المطرود من المصعد وجد نفسه في صالة استقبال الشركة مباشرة، وبالمقابل كانت طاولة كبيرة تجلس خلفها فتاة جميلة الملامح أنيقة الملبس، وكان من الواضح أنها تقوم بمهمة مديرة المكتب أو السكرتيرة.

على جانب من القاعة طاولة أخرى، لم يكن هناك من يجلس خلفها، وعلى الجانب الآخر ثمة حواجز تشير إلى أن خلفها تبدأ مكاتب الإدارة والمدير المسؤول.

على جدران القاعة تتوزع لوحات فنية بعضها أصلية وثمينة وبعضها إعادة رسم وتقليد لكنه متقن أيضا. كانت هذه اللوحات تجسد ذائقة واهتمام آدم الولهان الذي تحدث عنه حينما تعرف عليه وزوجته حواء على ظهر المركب البحري في تركيا، فموضوعات اللوحات كانت شرقية، بيع جواري في سوق النخاسة، اغتصاب نساء شرقيات، حمام نساء، منظر طبيعي من الشرق.

انتبهت السكرتيرة إليه لكنها لاحظته يتأمل اللوحات باستمتاع واهتمام، ولما أحسّت أنه استعرضها جميعها وبشكل سريع سألته:

-                     عفوا أستاذ، هل من خدمة أستطيع تقديمها؟

ابتسم آدم المطرود لها بثقة وقال:

-                     أنا المهندس آدم المطرود. جئت لمقابلة الأستاذ آدم الولهان.

-                     أهلا وسهلا أستاذ آدم. هل لديك موعد معه الأستاذ آدم. ؟

-                     الحقيقة لا موعد لديّ، إنني جئت بلا موعد مسبق. إذا كان مشغولا فسأمر مرة أخرى.

-                     هل هي زيارة خاصة أم هناك ما يخص العمل. ؟

-                     هي زيارة خاصة. جئت لأسلم عليه. فقد التقينا في تركيا وأعطاني عنوانه. واتفقنا على أن نلتقي في بغداد بعدما نرجع. وها أنا هنا. أحببت أن ألتقيه وأسلّم عليه. لا أكثر.

-                     إذن. لحظة من فضلك، سأسأله إذا كان لديه مجال للقائك، تفضل بالجلوس وخذ راحتك. الاسم الكريم مرة أخرى لو تفضلت.

-                     المهندس آدم المطرود.

أشارت إلى الكرسي الذي أمام طاولتها بأن يجلس، وقامت هي بدورها إلى إحدى الغرف التي تقع خلف الحاجز.

جلس آدم المطرود على الكرسي والتفت يتأمل إحدى اللوحات التي عرف أنها تقليد لإحدى لوحات الرسام الروسي سوريكوف، وتذكر حديث آدم الولهان عن الرسامين الذين يحبهم حينما كانوا على ظهر الباخرة. ولم تمض إلا لحظات حتى سمع وقع أقدم وجلبة، فالتفت ليجد آدم الولهان يسبق السكرتيرة بالترحيب الحار.

-                     أهلا وسهلا أستاذ آدم، يا لها من مفاجأة، متى وصلت. ؟

تصافحا بحرارة وأخذه آدم الولهان من يده واتجها إلى المكتب وهما يتحدثان:

-                     أنا هنا منذ أكثر من أسبوع، لكني تصورت أنكما ربما لم ترجعا بعد.

-                     فعلا. نحن رجعنا أمس.

حين صارا في المكتب انبهر آدم المطرود بالأبهة والفخامة التي تطغي على كل شيء في المكتب. لكنه وجد نفسه يسأل بلهفة حاول كبتها ما أستطاع:

-                     كيف حال مدام حواء.

-                     إنها ممتازة دائما. تتذكرك على الدوام، وكانت تستعجل العودة إلى بغداد كي تحّضر كتاباتها. إسمع، أنا لدي حديث مطول مع بعض الوكلاء المهمين. لم انته بعد من اجتماعي معهم. ؛ لكني قطعت الاجتماع حينما قالت السكرتيرة إنك هنا. أفضلُ شيء أن تأتي إلينا هذا المساء. أنا أدعوك إلى العشاء. سيكون هناك ضيف آخر. حواء ستفرح فرحا عظيما بوجودك. أنت تعرف العنوان. أليس كذلك. ؟ وللإطمئنان سأكتبه لك ثانية. ما رأيك؟

لم يترك آدم الولهان أي خيار أمام آدم المطرود إذ كتب له العنوان على ورقة ملاحظات صغيرة. كانت سعادة آدم المطرود أكبر من أن توصف. غمره وبسرعة هائلة دفق من المشاعر والخواطر التي تدور حول لقاء حواء الصايغ مساءً، فقال بارتباك:

-                     رائع. سأكون عندكم هذا المساء، لكن كم الساعة. ؟

-                     في السابعة.

انتبه آدم المطرود إلى أن آدم الولهان كان برغم فرحته باللقاء قلقاً. وشعر آدم المطرود بالحرج. لذلك لم يشأ أن يطيل البقاء لديه. فأعتذر له عن مجيئه بدون موعد مسبق. لذلك طلب السماخ له بالمغادرة على أن يلتقيا ويتحدثا مساءً. ولم يعترض آدم الولهان أو يلح عليه بالبقاء، وإنما ابتسم له بصداقة وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد. تصافحا ثانية وغادر آدم المطرود المكتب.

حينما وصل آدم المطرود إلى مقربة من السكرتيرة انفتح باب المصعد وخرجت منه امرأة مثيرة لكنها ليست من طراز السيدة حواء الصايغ وإنما من طراز تلك النساء اللاتي يتحدث عنهن دستويفسكي، النساء الجميلات مع شيء من العفونة.

انتبه آدم المطرود إلى أن السكرتيرة قد ارتبكت لدخول السيدة بحضوره، كما انتبه إلى أن السكرتيرة قامت للسيدة باحترام ممزوج بالهيبة، وقالت لها بارتباك وكأنها تريد أن تموه على شيء:

-                     أهلا وسهلا مدام إيفا، أستاذ آدم بانتظارك.

 لم تنظر السيدة إيفا إلى آدم المطرود وإنما شقت طريقها إلى المكتب. أدرك هو أن آدم الولهان لم يكن واضحاً معه، فهو لم يذكر بأنه ينتظر أحدا، وإنما قال له إن لديه اجتماعا ً. لم يأبه للأمر كثيراً من فرط سعادته بلقائه القريب مع حواء.

**********

لم تفهم حواء المؤمن لماذا ترك زوجها قصة المهندسة التركية حواء كوناي ولم يكملها حتى النهاية. كانت متلهفة لسماعها، وما جرى معها بعد أن تركت الغرفة. ؟ وكيف عاشت بعد موت زوجها وانتحار العم؟ وكيف صارت مهندسة، وكيف انتهت قصتها. ؟

 لماذا يترك زوجها النهايات مفتوحة على المجهول. ؟

أرادت أن تعرف نهاية هذه القصص المتداخلة، والتي أبطالها يحملون الاسم نفسه، لكن دائرة حياتهم أكبر وأوسع من حياتهما هي وزوجها، فقلبت الصفحات لتصل إلى النهاية الموعودة.

(10)
قبل أن يصل المهندس آدم المطرود إلى مكتبه، انتبه إلى حركة غير طبيعية في الشارع، سيارات الشرطة تتوزع بكثافة في كل زاوية من بغداد، في الساحات والمنعطفات وتحت الجسور وعند مداخلها من الجانبين، ما الذي يجري. ؟

صحيح أنه ينتمي لحزب السلطة منذ أن أراد التوجه للدراسة في تركيا، لكنه يعد نفسه غير سياسي، ومحايداً، ومنعزلاً، وليست لديه أية رغبة في أن يعارض السلطة، بل ولم يعارضها في حياته قط، ويؤدي ما يراد منه إذا أقتضى الأمر.

مرقت في ذهنه ذكريات سريعة. فهو الآن يتذكر كيف انتمى للحزب الحاكم، حينها أرادت عائلته، وبالتحديد أمه التي كانت جدتها من تركيا وتحن إليهم دائما، إرساله للدراسة إلى تركيا، وكان عليه أن يأتي بموافقة من التنظيم الطلابي في الثانوية التي درس فيها، وحينما ذهب إليهم طالبا تزويده بكتاب التأييد، قالوا له إنهم يعرفون إنه إنسان مسالم وليست لديه أية ميول أو أهواء معادية للحزب والثورة لكنه ليس عضوا، وعليه الانتماء فقبل بلا تردد.

 حينما سافر إلى استنبول لدراسة الهندسة كان يراجع السفارة العراقية هناك بين فترة وأخرى مشاركا عاديا في احتفالاتهم ومناسباتهم دونما أي نشاط سياسي واضح، فهو إنسان بعيد كل البعد عن أي اهتمام سياسي، لكن هذا لا يعني أنه بلا أفكار ورؤى فكرية بل هو يدرك ما يفور في أعماق مجتمعه، لكنه يعرف أنه جبان، ولا يخاف من أن يقر مع نفسه بهذه الحقيقة، إنه يعشق الجمال. الصداقة. والجسد ومتعه القصيرة. ويخاف من أي وجع جسدي، وأي ألم نفسي وتهديد وجودي لكيانه ووجوده.

في تركيا تعّمد أن لا يواظب على الدراسة من أجل تمديدها لأطول فترة ممكنة وذلك بالاتفاق مع أمه لأن البلاد كانت في حرب لعينة مع جارتها إيران، ولكنه أيضا لا يستطيع أن يمددها إلى أجل غير مسمى، فعاد في سنة الحرب الأخيرة، فالتحق بمديرية الطرق والجسور، وكان معه صديقه المهندس آدم الصاحب أيضا، الذي كان قد أنهى دراسته قبله بسنة تقريبا. كانت تلك فترة عصيبة، لكنها أيضا كانت فترة عملية ممتازة بسبب الظرف الاستثنائي والنزول إلى ساحة العمل التطبيقي الميداني مباشرة.

وحينما اندلعت الانتفاضة الشعبية ضد النظام في جميع محافظات البلاد أحس بشيء من الراحة وكأنه ينتظر الخلاص، لكنه كان خائفا أيضاً من إبداء أي شعور بالتعاطف أو الرفض. لذا لم يخرج من مكتبه لأكثر من أسبوعين. كانت سكرتيرته حواء اللهيبي تأتيه بكل ما يحتاجه، بالرغم من أنها أيضا لم تنتظم في دوامها، فكانت تتغيب عن الدوام بشكل مستمر، وحينما تأتيه بالطعام وببعض الحاجيات، كانت تأتيه بالأخبار أيضا عن الإعدامات التي تقوم بها قوات الحرس الجمهوري وتمارسها ضد المنتفضين. وعن إنتظار الناس لساعة الخلاص.

يتذكر الآن كيف أن أحد المقربين من السلطة والذي كان يأتيه بالمقاولات والصفقات التي يجريها مع أزلام النظام، واسمه آدم الحلي، جاءه في أحد تلك الأيام، وكان مرعوباً، ولم يكن أحد في المكتب غيره، فأخذ يشكو إليه من الوضع والنظام، ومن الشخصيات الحزبية التي يرتبط معها والتي تأخذ منه نسبة مئوية تصل إلى النصف فقط لموافقتها على منحه المقاولات التي يتفق مكتبه مع مكاتب أخرى لانجازها، وكيف أنه ينتظر ساعة الخلاص، كي يستطيعوا التنفس والعمل بحرية.

وكيف كان آدم الحلي هذا يومئ له بأن أيام النظام صارت معدودة، لكنه حينما شعر بأن النظام أخذ الضوء الأخضر من القوات الأميركية لضرب المنتفضين، جاءه ثانية، لكن هذه المرة بدأ يدافع عن النظام وعن عمالة المنتفضين لإيران.

كانت تلك الأيام بالنسبة له خصبة من الناحية الإبداعية، فقد بدأ كتابة روايته الجديدة عن صديقه الشاعر آدم العندليب الذي وجدوه ميتا في بيته وسط أوراقه على أثر سكتة قلبية، عرف أنها كانت نتيجة رعبه من الاستدعاء لدى جهاز الأمن. حينها وجد الرغبة الغامضة في أن يكتب رواية عن مجتمع هوت قيمه إلى الحضيض وانهارت منظومته الأخلاقية حيث تقوضت فيه كرامات البشر نساء ورجالا، وشاعت الروح الانتهازية والوصولية الشيطانية. أحس المهندس آدم المطرود وكأنه ربان عجوز في سفينة مثقوبة مليئة بالجرذان وتواجه العاصفة. وبرغم مرور حوالي ثلاث سنوات على تلك الانتفاضة الشعبية المجهضة التي ملأت روحه بإحباط شديد في إمكانية أي تغيير يمكن أن يحدث في البلاد، إلا أنه كان وما زال مستعدا لأن ينافق السلطة من أجل أن يبقي دائرته الخاصة واهتماماته بعيدة عن أعينها ورجالها.

هو يعرف أن معلومات الأجهزة الأمنية والحزبية عنه مطمئنة، لذا لم يجد مشكلة في حركته اليومية ولا حينما يود السفر فالسلطة عنه راضية في كل الأحوال، وهذه حالة صديقه المهندس آدم الصاحب أيضا، ولذا ربطت بينهما علاقة الصداقة منذ أن كانا في السنة التحضيرية الأولى لتعلم اللغة التركية في استنبول.

بيد أنه ارتبك الآن من رؤية كل هذه السيارات التابعة لأجهزة السلطة. لقد تركت في نفسه قلقا لم يتعود عليه سابقاً، وحينما دخل إلى مكتبه لم يجد سكرتيرته حواء اللهيبي في مكانها، وسمع حركة في غرفة مكتبه فتوجه بحركة خفيفة غير مسموعة وأطل برأسه فرأى السكرتيرة منحنية تفتش في أحد الدواليب التي يضم فيها ملفاته المهمة، ومشاريعه، وكتاباته الأدبية ومشروع روايته الجديدة. لم تنتبه إليه؛ فقد أعطت الباب ظهرها لأنها لم تتوقع أن يعود. فوجئ هو لحظتها وسأل نفسه عن أي شيء تفتش. ؟ ولماذا. ؟ وكيف تتجرأ أن تفعل ذلك. ؟ ولحساب من تقوم بذلك. ؟

رجع إلى الوراء حتى وصل الباب الخارجي ثم فتحه وصفق الباب بقوة غالقاً، وكأنه دخل في تلك اللحظة. فخرجت السكرتيرة من غرفته مرتبكة جداً، وهي ترتب ثيابها وكأنها كانت في غرفة الحمام التي تقع في الزاوية المواجهة لمكتبه والصالة.

حين دخل آدم المطرود مكتبه تخلى عن قلقه الذي تولد من رؤية الحضور الطاغي للسلطة في شوارع بغداد، وبرغم ما واجهه من أسئلة مع نفسه حينما رأى سكرتيرته حواء اللهيبي تفتش في مكتبه، فلم يطرأ في ذهنه أي هاجس سياسي، وإنما ظل الأمر غامضا بالنسبة له، لذا لم يشغل نفسه فيه الآن، إذ ود أن يحضّر نفسه للقاء المساء.

لقد كان حضور حواء الصايغ طاغيا جدا في مخيلته ومزاجه وتفكيره، وبدأ يضع الخطط للقاء المساء، لكن أهم ما كان يلح عليه وبقوة هو: كيف سيقابلها. ؟ وكيف سيتصرف ليعبر عن شوقه وحبه لها بوضوح دون أن يثير انتباه زوجها آدم الولهان. ؟ زوجها الذي يحتفظ كشيء ثمين مثل لوحاته الثمينة، لأنه وكما يظن أنه يخونها، فالسيدة إيفا التي دخلت المكتب كانت تبدو وكأنها عشيقته، أو امرأة قريبة جداً. لا ضير من كل هذا، بل شعر بسرور خفي من هذا الأمر. فشيء جيد بالنسبة له أن يكون زوجها منشغلاً مع عشيقاته. !!. المهم هو أنه سيراها ويريد أن يكون هذا اللقاء هو الباب للقاءات أخرى.

فجأة، ضغط الزر طالبا حواء اللهيبي التي جاءته مرتبكة أيضا ظنا منها أنه انتبه لبعض التفاصيل في مكتبه، لكنه قال لها:

-                     أريد منك، وحسب ذوقك ان تشتري لي باقة زهور متميزة، لأني مدعو عند عائلة أزورهم لأول مرة.

-                     ولماذا أنا التي يجب أن أختار باقة الزهور. ؟

-                     لأني أثق بذوقك. ؟

أحست حواء اللهيبي بالاسترخاء النفسي عندما لم يتحدث عن رؤيته لها وهي تفتش مكتبه لأنها كانت متأكدة بأنه انتبه إليها. لم تقل هي شيئاً، وإنما هرعت مسرعة لتنجز هذا الأمر سعيدة فهذا يعني أنه تجاوز الأمر ولم يحمّله أيَّ محمل سيء.

انتبه المهندس آدم المطرود لثوب السكرتيرة حواء اللهيبي الأسود الذي يبرز مفاتن جسدها المتناسق المثير. إنه نفس طراز الثوب الذي كانت المهندسة حواء كوناي تلبسه في تلك الليلة الليلاء بتركيا. ذراعان مكشوفتان وساقان مكشوفتان لما فوق الركبة بقليل وخصر مضغوط وصدر ناهد وبارز وطري، وجه متناسق وشفتان ممتلئتان. وجه يكشف عن رغبات دفينة، وجه لا يشي بالابتذال ولا يشبه وجوه العاهرات، على العكس وجه أنيق يذكر بوجوه الارستقراطيات في لوحات القرن السابع عشر والثامن عشر.

كانت شخصية حواء اللهيبي غامضة، فمن خلال تكوينها الجسدي وملامحها المعبرة أحس أنها ذات شخصية قوية، لكنها في الواقع هشة وضعيفة وبلا رأي أو شخصية، بشكل محيّر بالنسبة له. كانت أشبه باللغز الجميل. كانت حواء اللهيبي متزوجة من موظف يعمل محاسبا في إحدى الوزارات.

حين رآها صديقه المهندس آدم الصاحب، عندما زاره أول مرة ولم يكن قد مرَّ على التحاقها سوى أيام، علق قائلا بأنها أنثى حقيقية. حينها أخبره هو بأنه لا يتعامل معها إلا باعتبارها موظفة لا أكثر.

كانت حواء اللهيبي برغم ملابسها العصرية وزينتها الصارخة محافظة جداً في علاقاتها، وحذرة، ومترددة في أن تنفتح ولو قليلاً مع الغرباء، وكانت بالنسبة له أطول امرأة استغرق معها من الوقت كي يقنعها بأن تقيم علاقة معه.

**********

كانت حواء اللهيبي بطبيعتها خجولة ورسمية في العلاقة معه، لذا اتبع معها خطة استمدها من خبرته مع النساء، فلم يبد لها بأنها تعجبه أو أنه يريدها، وبعد أسبوعين لاحظ أنها تحاول أن تكتشف عالمه، هل لديه امرأة أخرى، ما هي اهتماماته النسائية. ؟ لاسيما وأنها سمعت بأنه كاتب روائي ولديه رواية فضائحية منعت من النشر في العراق وأحدثت ضجة خارجه.

فضولها كاد يقتلها، إلا أنها لم تبد أية إشارة توحي بأنها تريد أن تعرف عنه كل شيء، حتى وأن اعترفت مع نفسها بأنه أنيق ووسيم ومتعطر دائما بعطور طيبة ومثيرة، وأنه طيب في التعامل معها ويحترمها ولا يسيء الأدب معها أبدا، حتى أنه كي لا يضطر لتوجيه الأوامر إليها لتقديم بعض الخدمات، لاسيما عند يأتيه الضيوف، فقد عين رجلاً ريفياً يدعى أبو قابيل، وهو في الوقت نفسه حارس البناية، ليقوم بخدمة المكتب وإعداد القهوة، إلا أنها طلبت من أبي قابيل أن يخدم الضيوف ويهتم بنظافة المكتب فقط، أما المهندس آدم المطرود فخدمته من اختصاصها. استمر الحال بينهما هكذا إلى أن جاء ذالك اليوم العاصف الذي كان مفتاحا لتقاربهما.

في ذلك اليوم دخل المهندس آدم المطرود إلى المكتب وألقى التحية على حواء اللهيبي. أجابته بنبرة هادئه مليئة بالحزن، ودون أن يناديها قامت بتحضير القهوة وحملتها إليه ثم خرجت بهدوء. بعد قليل دعاها إلى مكتبه فجاءت دونما رغبة واضحة، إذ كانت ساهمة الوجه والنظرات. دخلت إليه وظلت واقف أمامه منتظرة تعليماته. نظر إليها بانتباه نظرات متسائلة وقال:

-                     استريحي.

-                     لا شكرا لدي عمل كثير، تفضل أستاذ ماذا تأمر.

-                     قلت استريحي.

ترددت قليلا ثم جلست، نظر إليها بتعاطف وسأل:

-                     ما بك. ؟ أراك حزينة لأول مرة منذ أن بدأت العمل في المكتب، هل هناك مشكلة. ؟

-                     لا.

-                     كيف لا. ووجهك الجميل لا يقول إلا أنك حزينة وحزينة جدا.

فكرت مع نفسها، هذه أول مرة تسمع منه كلمة يعبر فيها عن رأيه بجمالها، لقد أعترفَ الآن بأنها جميلة، فاسترخت نفسيا قليلا وقالت:

-                     لا شيء، مشاكل عائلية اعتيادية.

كان هو يتأملها. وكان الحزن قد أضاف عليها ألقاً أنثوباً خاصاً. وانتبه إلى أنه يشتهيها، فقال لها بمودة وحنان:

-                     أنا مستعد لأي مساعدة مالية لا تتردي إذا ما كنت في ضائقة مادية.

انتبهت لنبرة المودة والحنان في صوته ولاستعداده لمساعدتها فأحست بدفق عارم من مشاعر الحنان والانجذاب نحوه وانتبهت لهيجان أعماقها. فقالت بتأثر:

-                     شكرا جزيلا أستاذ آدم، لن أنسى موقفك هذا أبدا، لكن صدقني المشكلة ليست مادية.

-                     ماذا إذن. ؟ إذا لم يكن سرا.

كان آدم المطرود يدرك أنه يضغط على نقاط ضعفها، وأنه بذلك يقترب منها أكثر. بينما كانت هي تحس بأنه جرفها وضفافها بدأت تتآكل، ومصداتها بدأت تنهار من خلال دفق المشاعر الذكورية في صوته واهتمامه الاستثنائي والمفاجئ بها، فقالت:

-                     موقفك هذا فاجئني، أحس أنك صرت قريباً مني، ويمكنني أن أحدثك.

فقال بحرارة:

-                     تفضلي. لا تترددي.

صمتت لحظة ثم نظرت إليه وكأنها تريد أن ترى ردة فعله، وقالت بهدوء حزين:

-                     زوجي يخونني.

أبدى آدم المطرود تعبير الاستنكار والذهول أمامها. وللحظات أحس بأنها تتجه نحوه، بل وصارت قريبة جداً منه، وليس أمامها الآن غيره، وعليه أن يتقن استخدام هذه اللحظة وإلا فأنها ستفلت منه. قام من مكانه غاضبا واستدار ليجلس على الكرسي المقابل لها:

-                     يخونك. هل هو مجنون. ؟ رجل لديه امرأة، يمكن القول إنها أجمل امرأة في العالم ويخونها. هذا رجل مجنون، لكن هل أنت متأكدة. ؟

كلماته عنها بأنها أجمل امرأة في العالم كانت عزاءً خفياً وحقيقياً لها، فقد منح كبرياءها الأنثوية الجريحة شيئاً من الثقة والمواساة. أحست للحظات أنه صار قريبا فعلا منها. فقالت:

-                     نعم متأكدة، فإحدى صديقاتي المقربات، لديها صديقة تعمل معه، أكدت لي أن لديه علاقة مع موظفة متزوجة تعمل معه، والكل هناك يعرفون ذلك، وحينما واجهته أنكر ذلك طبعا، لكني متأكدة.

لم يشأ آدم المطرود أن يكشف عن أطماعه الجنسية فيها فأراد أن يظهر نفسه بمظهر الرجل المحايد فقال لها:

-                     ربما أنت مخطئة. ؟ ربما الرجل بريء حقاً. ؟

أغاظها ما قاله في الدفاع عنه، لأنها تريد أن تدين زوجها لتبرر ما يدور في أعماق لاوعيها، لتجد التبرير للاقتراب منه، فقالت بعصبية:

-                     أنا متأكدة بأنه يخونني. أنا متأكدة.

وترقرقت الدموع في عينيها. صمت آدم المطرود للحظات، وفجأة أخذ كفيها بين كفيه بتعاطف، ولم تفسر هي هذه الحركة منه تفسيراً جنسياً. ، لقد فاجأها نعم، لكنها ارتاحت له فأسلمت كفيها دونما اعتراض، فقال لها:

-                     لا أدري ما أقول، أنا متعاطف معك جداً. لكن دعيني أسألك وأجيبيني بصراحة.

نظرت إليه دون أن تسحب كفيها من كفيه وقالت:

-                     اسأل.

نظر إليها ووجدها طيعة ومتهيجة وشبه منهاره ومستسلمة، فسألها بصوت متردد ومرتجف شهوة حاول أن يكتمها:

-                     ربما أنت لا تقومين بواجبك كما يجب، أقصد ربما بسبب عملك فأنت لا تطبخين أو يأتي والأشياء غير جاهزة، وهذا كثيرا ما يزعج الزوج.

أخذت تبرر مثل طفلة صغيرة. وكأنت مرتاحة لهذا القرب بينهما، فقالت:

-                     أبدا. أبدا. فأنا حينما أرجع إلى البيت أجهز كل شيء، ثم أن لدينا امرأة تطبخ لنا وتنظف البيت وتغسل الملابس، وأنا دائما أصل قبله، لذا فحينما يأتي يكون كل شيء جاهزاً.

-                     غريب.

فقالت بعناد الطفلة وغضب المرأة الغيور:

-                     هذا هو الذي يقتلني في كل هذه القصة، فلو أني كنت مقصرة في خدمته فربما أجد له بعض العذر في ذلك. لكني مثل الخادمة بالنسبة له.

نظر إليها بتساؤل وهو يداعب كفيها بتعاطف وقال:

-                     لدي سؤال محرج بعض الشيء، لكن له علاقة بما نحن فيه.

-                     تفضل اسأل.

صمت لحظات. وكانت هي تخمن ما سيساله وكانت تريد من أعماقها أن يدخلا إلى تلك المناطق المحرمة، وكانت مصيبة في توقع سؤاله، إذ سألها بصوت مرتجف مفضوح في توهج الرغبة فيه:

-                     علاقتكما. أقصد علاقتكما الحميمة، أقصد. أقصد علاقة الرجل بالمرأة. علاقتك معه في السرير. كيف هي. هل هو مرتاح معك. ؟

على الرغم من أنها كانت تتوقع السؤال والدخول إلى عالم جسدها إلّا أنها شعرت بالخجل من سؤاله، وأحست أنه جريء فعلاً، فقد دخل إلى صلب الموضوع، أعجبها ذلك. فقالت باستحياء، وهي تسحب كفيها بهدوء:

- اعتقد أنها طبيعية. لم أقصر معه في شيء. إنني أمنحه كل شيء حتى إذا ما كنت غير راغبة في ذلك، أو أريد أن أنام.

- غريب. أحياناً يتوجه الرجال إلى نساء غير زوجاتهم إذا كانوا غير مرتاحين معهن من هذه الناحية، فقد تكون المرأة ممتازة كربة بيت لكنها لا تستطيع أن تمتعه بشكل يرضيه في السرير.

صمت آدم المطرود للحظات وكأنه لاعب شطرنج ينتظر حركته الأخيرة في الهجوم، وقرر الاقتحام والبدء بالنقلة التي ربما تحقق له الفوز أو الخسارة. إنها مغامرة. كانت ينتظر إجابتها. ولما طال صمتها قال لها وهو ينظر بعينيها بإصراره وتركيزه بحيث عرفت أنه يعريها من الداخل ويدخل معها إلى المناطق المحرمة:

-                     سؤالي الأخير لفهم ما يجري. فأنت كما تقولين ربة بيت ممتازة، وأيضا كريمة معه في السرير والمعاشرة، لكن السؤال، واعذريني من صراحتي، كيف أنت معه في العلاقة، أقصد في السرير، هل أنت باردة أم ساخنة؟

-                     لا أفهم ماذا تقصد. فأنا طبيعية.

أحس بخجلها، وانتبه إلى أنها تتهرب من الإجابة، وهذا يعني أن نقلته كانت موفقة، وعليه أن يقود اللعبة للأخير:

-                     ماذا يعني طبيعية؟ هل يعني ذلك أنك تمنحينه جسدك بحرارة أم تتركينه يفعل ما يشاء وحده؟ هل تتجاوبين معه أم لا؟

أحست أنها خسرت. وأنها تنهار. وأنها متهيجة. وأنها لا تستطيع المقاومة أمام هجومه الساحق، فقالت باستسلام:

-                     لا أعرف أن كنتُ حارة أم باردة، فأنا لا أعرف كيف تتصرف النساء الأخريات. أحيانا أتجاوب معه، وأحيانا اتركه يأخذ ما يريد بصمت ولا أعارضه في شيء.

-                     وأنت هل تتمتعين معه في هذه العلاقة.

-                     أحيانا.

انتبه إلى أن صوتها بدأ يرتجف. أدرك أنها مثارة. لكنها مرتبكة، فسأل بصوت مرتجف يشي بالشبق:

-                     أحياناً؟

-                     نعم. ليس دائما.

-                     سؤالي الأخير لكي أستطيع أن أفهم.

ابتسمت بحياء وهي خافضة وجهها وقالت:

-                     لكن السؤال السابق كان هو سؤالك الأخير كما قلت؟ أسئلتك محرجة.

فقال بصوت مرتجف. وبهدوء وبشكل مكشوف:

-                     نعم. لكن جوابك لم يكن شافياً فأردت طرح السؤال الأخير.

-                     وما هو سؤالك الأخير الآن؟

أدرك أنها انجرفت معه دون أن تدري، وربما تدري، فسأل وكأنه يضرب ضربته القاضية:

-                     هل أنت حسية؟

-                     ماذا تقصد. ؟

-                     أقصد. أقصد. هل أنت امرأة شهوانية؟

كانت هي على شفا الانهيار. وكان لو مسها بكفه لانهارت شبقاً، فكل هذا الحديث كان قد أثار حواسها الأنثوية كلها، فقالت وأنفاسها مضطربة:

-                     لا أعرف. ربما نعم. وربما لا.

فضغط عليها بالسؤال:

-                     أهذا لغز؟ كيف سنعرف إن كنت كذلك، أو أنت لست كذلك. إذا ما كنت أنت نفسك لا تعرفين؟

-                     لا أعرف. وهل هذا مهم؟

-                     طبعا مهم. ربما بسبب ذلك اتجه إلى واحدة أخرى.

-                     لكن تلك المرأة ليست أجمل مني.

-                     المسألة ليست لها علاقة بالجمال. وإنما بالراحة النفسية والجنسية بين الزوجين.

أحست حواء اللهيبي بالانكسار والضعف وشبه الانهيار، وأحست بالحاجة إليه، لحنانه وقوته، ولكلماته الجميلة التي تبعث النشوة في نفسها، وأثارها شبقاً جرأته في الأسئلة. نزلت دمعتان من عينيها، فسحب كرسيه نحوها مقتربا أكثر بحيث تماست ركبتاهما، وبحركة مفاجئة بالنسبة لها مسح بكفيه دموعها، وهو يقول لها:

-                     لا أريد أن أراك باكية؟ هل تفهمين، لا أريد أن أرى الدموع في عيني أجمل امرأة في العالم. أنا معك. سأقف إلى جنبك. أنت لست وحيدة في هذا العالم.

أغمضت عينيها وأحست براحة شديدة وبرغبة عارمة. فجأة أحست بأنفاسه الحارة، فقد أخذ وجهها بين يديه وأطبق بشهوة على شفتيها مقبلاً، أرادت أن تبعده لكنه كان قد أطبق عليها، فاستسلمت، وسمعته يقول لها:

-                     افتحي فمك وأعطيني لسانك.

ودون إرادة منها فتحت فمها ومدت لسانها الذي أخذه ماصاً فأحست أنها تنهار، وفعلا انهارت وتراخت ساقطة عن الكرسي فأخذها بين يديه، وأخذ يقبل وجهها وأذنها ورقبتها، ومد يده معتصرا صدرها ثم مد يده أكثر لما تحت بطنها مداعبا ما بين فخذيها، فصاحت:

-                     لا هذا يكفي. ربما يدخل أبو قابيل. ما نفعله خطأ في خطأ. أنا لستُ هكذا. ماذا فعلت بنفسي. أرجوك سامحني.

قامت حواء اللهيبي وعدلت من وضعها وخرجت من غرفة المكتب مسرعة ومرتبكة. أحس أنه يقف أمام هدفه، لكن عليه أن يقنعها بالخطوة الأخيرة. كان هو مثاراً جداً. بعد دقائق دخلت عليه وقالت له:

-                     هل بإمكاني أخذ إجازة فيما تبقى من أوقات الدوام. أحس بنفسي متعبة.

-                     طبعا يمكنك ذلك.

خرجت حواء اللهيبي وكان واضحا أنها ليست غاضبة، لكنها قلقة وكأنها تقيّم الأمور مع نفسها وتحتاج أن تكون وحدها.

**********

بعد ذلك المشهد الملتهب في ذلك اليوم انقطعت حواء اللهيبي عن الدوام ليومين. ظن آدم المطرود انها لن تأتي أبداً، فهي امرأة فاضلة حقاً، تستطيع السيطرة على شهوتها، وليست امرأة لعوب. لكنه فوجئ عندما جاءت في اليوم الثالث وكأن شيئاً لم يحدث بينهما. كانت تتحاشى نظراته، ومع هذا كانت تنظر إليه نظرة إعجاب واضح كلما رأته منشغلاً.

استمر الحال بينهما هكذا، كل منهما ينتظر بادرة من الآخر، لكنه انتبه إلى مبادرتها غير المباشرة إذ كانت تدخل عليه بسبب وبدون سبب لتسأله عن أبسط المسائل.

ومضت ثلاثة أيام أخرى على هذه الحال. في اليوم الرابع، وحينما دخلت عليه ووقفت أمامه نظر إليها وسألها:

-                     هل من جديد مع زوجك.

-                     لا. قررت أن أتركه يفعل ما يشاء.

-                     وأنت. ؟

-                     ماذا عني. ؟

-                     هل تقبلين بهذا الوضع.

-                     لا طبعا. لكن ماذا أفعل. صرت لا أستطيع أن أقترب منه، وأحيانا نجلس ساعات دون أن نتكلم. أو أذهب أنا إلى غرفة النوم بينما يواصل هو مشاهدة التلفزيون، ويرجع لينام إلى جانبي، وحينما يحاول الاقتراب مني لا أتجاوب معه وكأني أغط في نوم عميق.

-                     يعني أنكما لا تقيمان أية علاقة جسدية.

-                     لا. منذ حديثي معك ذلك اليوم.

فقام المهندس آدم المطرود وكأنه استلم رسالتها الخفية، وواجهها واقفا وسألها بصوت خافت:

-                     وكيف ستعيشين بلا. ؟ اقصد كيف ستصبرين على ذلك. ؟ هل أنت لا تريدين أن يعاشرك. ؟

-                     أريد لكن ماذا افعل. ؟

ودون أن يجيبها ضمها إلى أحضانه، فأراحت رأسها على كتفه، فقال لها وهو يضمها: ضميني أنت أيضا، وبتردد رفعت يديها وضمته، ثم أخذ وجهها بين يديه وقال، بينما كانت يديها تحضنه:

-                     أنت أجمل امرأة في العالم.

فقالت له وكأنما تشاكسه:

-                     أنت تبالغ.

فقال لها قبل أن يطبق على شفتيها الشهيتين:

-                     لا أبالغ أنت أجمل امرأة في العالم حقا.

أخذ يقبلها من شفتيها وعينيها وأذنيها ورقبتها وفتح بسرعة خارقة أزرار قميصها ليمد يده ليخرج نهديها ويقبلهما. اعترضت لكنها كانت منهارة من الشهوة والرغبة. تجاوبت بحرارة مع قبلاته، فأحسها تشتعل، فقال لها وهو مستمر بتقبيلها:

-                     أنت بركان يتفجر. ربما لم يستطع أحد أن يفجر فيك هذه النار. إنك شهوانية جداً.

فقالت هي أيضا بين أنفاسها المتلاحقة:

-                     نعم. أنا شهوانية. ولا أحد يعرف كيف يشعل النار فيّ. لكني أشعر أنني أفعل شيئا خطأ، لا يحق لي ذلك.

حينما كانت تتلفظ تلك الكلمات كانت كفُه قد لامست فخذيها وصعدت تحت ثوبها إلى الأعلى ليمد يده تحت سروالها الداخلي ويداعبها هناك حيث كانت رطبة جداً. انتفـضت وسحبت كفه من تحت سروالها، ثم تركت الغرفة.

حينها لم يذهب خلفها، وتركها تذهب لأنه كان متأكداً من أنها تريد ذلك، وأنه لامسها وكانت رطبة جداً ومثارة. ولم يبق شيء سوى الدخول، ثم أنها تجاوبت وأنها تريد ذلك وقد اعترفت هي بذلك.

في ذلك اليوم جاء أبو قابيل، وجاء موظف آخر يحمل له مشاريع طريق خارجي لإحدى المحافظات حولته عليه إحدى شركات المقاولات التابعة للدولة. قبل نهاية الدوام، طلبها. جاءت إليه، ولم يكن يحتاج إلى شيء محدد، لكنه قال لها:

-                     اسمعيني حواء. إنك تحتاجيني وأنا أحتاجك. لماذا هذه المكابرة؟

-                     ليست مكابرة. كل ما هناك أنني لم افعلها في حياتي، فأنا لا أعرف غير زوجي، وقد تربيت على قيم ومفاهيم لا تسمح لي بذلك حتى لو رغبت فيه. هل يعني أن كل امرأة ترغب بشيء تذهب لتفعله. ؟

-                     لكنك تريدين ذلك بقوة.

كانت تدرك لحظتها انها تريد وانها تحاجج بكلام فارغ فهي تعرف انها ذهبت في طريق لا عودة منه، فقالت شيئاً هي تعرف أنه صار بلا معنى:

-                     حتى لو أريد ذلك. فأنا لا أقبل أن أفعل ذلك. ليس من حقي ذلك.

في تلك اللحظة فكرت حواء اللهيبي أنها حين غادرت غرفة المكتب صباحاً مسرعة، بعد أن لامس فرجها بكفه، ليس لأنها لم يعجبها ذلك وأنها ترفضه، بل لأنها أحست بالانهيار والتهيج، وهي لا تريد أن تنهار بهذه السهولة. هي تعرف أنها ستنهار يوماً ما وأنها ستمنحه نفسها، لكنها تقاوم كي لا ينظر إليها وكأنها سهلة ورخيصة.

قام آدم المطرود من مكانه وخرج للحظات، حيث ذهب لإغلاق الباب بالمفتاح الداخلي، ورجع، كانت هي تخمن ماذا فعل، وأعجبها ذلك برغم خوفها من أن يأتي أبو قابيل فيجد الباب مغلقا، وهو يعرف أنها في الداخل.

اقترب منها وبدون كلام أخذها بين يديه وضغطها إلى الوراء على الطاولة، وأخذ يقبلها فاشتعلت ثانية، وأعجبها طريقته بالقبل في أن يمص لسانها لأنها أخذت تعطيه لسانها دون أن يسألها، وفتح قميصها بالكامل وأخرج نهديها من حمالتهما وأخذ يقبل حلمتيها، فشعرت بالتهيج الشديد.

 وضعت يديها على الطاولة لتستند عليها، بينما هبط هو إلى الأرض ورفع ثوبها إلى الأعلى نازعا عنها سروالها الدقيق، ورفع أحد فخذيها إلى الأعلى وادخل رأسه بينهما وبدأ يقبلها من هناك، كانت تصرخ من اللذة، وبدأت تبكي، وفجأة، قام ونزع سرواله وأخرج قضيبه، وأدارها إلى الطاولة وطلب منها الانحناء قليلا وفتح فخذيها معهما، أحست به يداعبها بعضوه. أولجه فيها. دفعها قليلاً، وأخذ جانبي آليتها بيديه وفتحهما كي يدخل فيها إلى أبعد نقطه. كانت تقبض بيديها على رجله، بينما كان يصرخ فيها:

-                     هل يعجبك هذا.

-                     أي. أي. دخله كله. حبيبي.

-                     هل تحبين النيك. هذا نيك فرنسي.

-                     أموت في الفرنسي. حبيبي.

-                     من هو حبيبك. ؟

-                     أنت حبيبي. موتني. خلصني. حبيبي.

كان عنيفا جدا في حركته معها. أحس أنه ينهار عليها بكل جبروته وحيوانيته، وأحسها تنهار من المتعة، بل أحس أنها وصلت رعشتها الكبرى مرات متتالية من خلال توترات رحمها وفرجها المتكررة حينما كان داخلا فيها. كانت تلهث وتصرخ من اللذة ملتفتة إليه وهي تتلفظ بصوت شبق ولهات متقطع:

-                     أنا ملكك أنت. بكل كياني ومشاعري وجسدي. أنا خادمتك المطيعة أفعل معي ما تشاء. أنا بين يديك.

لم يقل هو شيئا وإنما أخذها، وهي بعريها ذاك، فقبلها وضمها إلى صدره فأحست هي بسعادة جديدة عليها، باسترخاء هائل وخدر يسري في جسدها الذي كان يرتعش من اللذة العارمة التي اجتاحتها. ؛ لكنها برغم ذلك كانت متستغربة من نفسها، كيف قبلت بكل هذا، وكيف خرجت تلك الكلمات البذيئة والوقحة من فمها. ؟

**********

صارت الممارسة فصلا شبه يومي، فكلما أحسا أن المكتب صار خاليا، يغلقان الباب ثم يطرحها على طاولة المكتب ويفتح فخذيها ثم يدخل فيها، بينما هي تحلق في عوالم اللذة راسمة على وجهها أمارات تشبه الألم، لكنها في الواقع هي من الشهوة.

أحيانا كان يلقيها على بطنها ويدخله في فرجها من الخلف، ثم يعود إلى وضعها الطبيعي بالاستلقاء على ظهرها، والغريب أنها كانت تطلب منه أن يأتيها بالطريقة التي يسميها فرنسية، لأنها تعجبها أكثر.

كانت مخيلته الإبداعية تدفعه أحيانا إلى أن يسألها أحيانا عن عالمها الداخلي، عن طفولتها، عن شبابها، أول علاقة لها مع الرجال، والغريب أنها روت له بأن أول علاقة لها مع الرجال هي علاقتها بزوجها، إذ لم يلامسها شخص قبله، بل إن كل خبرتها الجنسية قائمة على علاقتها بزوجها، وما تسمعه من صديقاتها المتزوجات وغير المتزوجات، وأنه أول شخص يلامسها بعد زوجها، لكنها معه تستمتع جداً، بل ربما لأنها معه تأخذ حريتها في الكلام، فهي لأول مرة تتحدث أثناء الممارسة وتعبر عن رغبتها بكلمات فاضحة جداً تستحي قولها في غير ذلك الجو وتلك اللحظات، بل هي تخجل من نفسها حينما تستذكر ما قالته، لكنها على الرغم من ذلك تحس بأن هذه الكلمات البذيئة الفاجرة تريحها وتزيد من شبقها.

ولأن الممارسة الجنسية بينهما صارت شبه يومية تقريبا أحس آدم المطرود بالإشباع، وحينما كان صديقه المهندس آدم الصاحب يسأله بفضول عنها كان يحس بالضجر في الحديث عنها ويتهرب من التفصيل.

ثم بدأ يتهرب منها، بل كانت بالنسبة له موضعا للمتعة فقط، فحينما يحتاجها يتقرب منها، حتى صار ما أن ينتهي منها يتهرب بالعمل وكثرة المشاغل والمهام التي عليه انجازها ومواعيد وهمية مهمة عليه حضورها، بينما هي بمرور الوقت صارت تحبه فعلا، ويعنيها كشخص حبيب وليس كرجل فقط أو كمدير لها، لذا صارت تتألم حينما أحست بأنه بدأ يتهرب ويبتعد عنها، وقد لمست ذلك خصوصا بعد عودته الأخيرة من استنبول، إذ أحست أنه تغير، وأنه صار شخصا مختلفا.

لقد فتشت هي في مكتبه عسى أن تصل إلى أي شيء يكشف لها عن سبب هذا التغيير، فهي بحسها الأنثوي الغريزي تعرف أن سبب هذا التغيير هو وجود امرأة أخرى، لكن من هي. ؟ ثم أنه لم يبق في تركيا سوى أسبوع واحد، فكيف رجع متغيرا كل هذا التغيير.

كان آدم المطرود منشغلا بروايته التي استمد معظم تفاصيلها من علاقته بالشاعر آدم العندليب وتفاصيل مغامراتهما الشعرية والعاطفية، وكيف أن صديقه الشاعر مات رعباً، لكنه أخذ يفكر في تمزيقها لأنه أحس بخطورتها، وأيضا لأنه التقى حواء الصايغ.

**********

في ذلك اليوم الذي التقى فيه مع آدم الولهان، دخلت السكرتيرة حواء اللهيبي حاملة باقة جميلة ومتميزة من الورود المختلفة الألوان والمحاطة بالخضرة، والمغلفة بالورق الشفاف على قاعدة تتألف من سلة صغيرة، وكانت هي تفكر بأمر هذه الباقة من الورد. وأخذت تسأل نفسها:" لمن هي يا تُرى. ؟ أنا هنا منذ أربعة شهور لم أشاهد أستاذ آدم يشتري وردا أو يبعثني لشراء الورد! من المؤكد أن ثمة سراً يخفيه. ؟ وإلا ما هذا التبدل الذي طرأ عليه منذ عودته من تركيا. ؟ لقد كان يضاجعني كل يوم تقريبا سواء كنت أرغب أم لا، وحتى حينما لا أستطيع بحكم الدورة الشهرية كان لا يتنازل عن تقبيلها ومداعبة نهديها، أو أن يطلب مني أن آخذ عضوه بفمي. صحيح أنني كنت لا أستطيع أن أفكر أو أن أتصور بأني آخذه في فمي لأنه مرتبط بالقذارة، وأنني في المرة الأولى التي جربته فيها كدت أتقيأ. ولم أستطع أن أكمل، لكن بتكرار ذلك تعودت عليه بل وأحبته، فأحياناً كنت أريد منه أن يضاجعني قبل أن أذهب إلى البيت، بل صرت أحس بالتهيج قبل نهاية الدوام دونما أن أنتبه لذلك، فكنت أحوم حوله من أجل أن يأخذني، وحينما كان يتشاغل عني أو أن أراه منهمكا، فأنني كنت أقترب منه، وأركع أمامه، وأفتح أزارا سرواله لآخذ عضوه بفمي، حيث بعد أحس به ينتعظ داخل فمي، فيترك هو لحظتها كل شيء ويلقيني جانبا على طاولة المكتب أو على الأريكة وأحيانا على الأرض ليولجه فيّ بعنف وشبق قاتل. فما الذي جرى منذ عودته من تركيا؟

**********

حينما دخلت وهي تحمل باقة الورد قام هو وقبلها من خدها، ثم انتبه لما فعل، فقبلها قبلة باهتة وخفيفة على شفتيها. أحست هي بالخيبة، مرت الأحداث أمامها مثل شريط سينمائي فتذكرت المرة الأولى التي هجم عليها فيها وقبلها بعنف وقوة حيث بالكاد خلصت نفسها من بين يديه، بينما الآن يقبلها من باب رفع العتب وكأنما يؤدي واجبا روتينيا!

أحست بالغضب الداخلي يتصاعد في أعماقها، وصرخت بصمت: لا أيها المهندس آدم المطرود، أنا حواء اللهيبي الملتهبة، أنا التي دفنت كل مخاوفك وشهواتك في رحمي. أنا حواء اللهيبي التي كنت لا تشبع منها، وكنت مهووسا بفرجها الذي كنت تردد أنه أجمل فرج شاهدته في حياتك لتناسقه وصغره وضيقه ولا أدري من أين كنت تأتي بالأوصاف له. أنا حواء اللهيبي التي كانت تعتني بك أكثر مما تعتني بزوجها، أنا حواء التي كانت تحمل إليك الطعام من البيت دون علم زوجها، فقد كانت تعتبرك أنت زوجها الحقيقي، والآن تعاملني بهذه الطريقة. ؟ ماذا هناك. ؟ هل هي امرأة أم ماذا؟

**********

أخذ آدم المطرود باقة الورد منها ووضعها على طاولته. نظر إلى الساعة فوجدها قد تجاوزت الثالثة بدقائق. انتبه إليها إذ وجدها واقفة أمام الباب، استغرب فسألها:

- ماذا. ؟ لقد انتهى الدوام، ألا تريدين الذهاب إلى البيت. ؟أنا لدي بعض الأشياء التي يجب أنجازها هنا لذا سأتأخر قليلا.

كان هو يفكر بأن أمامه وقتاً طويلاً لحين موعد العشاء، أما هي فقد نظرت إليه ولم تجب بل ولم تتحرك من مكانها.

كان هو ينظر معجبا بباقة الورد لتنوع زهورها، بل كانت تذكره بلوحة فنية لفنان روسي كان مختصا برسم باقات الزهور والمزهريات. إنتبه إذ رآها ما زالت واقفة في مكانها. لم يستوعب لماذا لم تذهب. أحس أن هناك شيئا، ربما له علاقة بما كانت تفتش عنه في مكتبه صباح اليوم. سألها ببرود:

-                     هل هناك شيء ما. ؟

-                     لا. لاشيء.

-                     لماذا لا تذهبين إذن. ؟

-                     لا أدري. أردت أن أبقى معك قليلا. ؟

-                     ألا ينتبه زوجك لو تأخرت قليلا. ؟

-                     لا. إنه يأتي في حدود الرابعة عصرا، وبيتنا قريب من هنا، فنحن نعيش في الصالحية، وهي قريبة، ويمكن أن أصل بسرعة، وحتى لو تأخرت فأن الطعام جاهز منذ البارحة.

-                     هل هناك شيء؟ ليس من عادتك البقاء. إن كان هناك شيئاً تودين إخباري عنه فيمكنك ذلك، فأنا لن أخرج من هنا إلّا بعد ساعتين على الأقل.

-                     لدي سؤال.

-                     سؤال. ؟ اسألي ما تشائين من الأسئلة.

-                     أعتقد أن ما بيننا يسمح لي بأن أسألك: لمن هذه الزهور. ؟ لا أعرف أن لديك أصدقاء تذهب لهم بالزهور، أعرف صديقك المهندس آدم الصاحب وهو أعزب مثلك.

نظر إليها بارتباك أول الأمر لكن ارتباكه لم يستمر لأقل من ثوان قليلة، ثم ابتسم وقال محاولا أن لا يدعها تشك فيه، فقد أحس فجأة أنها غيورة وربما ستخلق هذه الغيرة له المشاكل، فابتسم وقال لها وكأنه يمزح:

-                     وأخيرا بدأت تغارين عليّ. يا إلهي. الحمد لله. حواء اللهيبي بدأت تغار عليّ.

انتبهت حواء اللهيبي لارتباكه على قصر مدته، وأنه الآن يحاول أن يداري الوضع، وهذا ما زاد من يقينها بوجود شيء لا تعرفه وراء باقة الزهور هذه، فقالت:

-                     أنا لا أغار وإنما أسأل.

-                     بل تغارين من باقة الزهور الجميلة هذه. لكن صدقيني أنها ليست أجمل منك. وكما قلت لك اني أزور عائلة ما تعرفت عليها لأول مرة.

-                     هذا ليس بجواب شاف.

-                     بلى.

-                     لا. أنت مدعو إلى عشاء وستذهب بباقة من الزهور الجميلة. وطبيعي الزهور لا تقدم كهدية لرجل!

-                     أوه. لم أفكر بأن ذهنك سيذهب إلى هذه المنطقة من التفكير.

-                     انه سؤال بسيط. والذي قلته تحصيل حاصل. الزهور تقدم للنساء. أليس هذا صحيحا. ؟

-                     بلى. بلى. صحيح جدا. يا سيدتي الجميلة أنا مدعو عند عائلة آدم الولهان، الذي تعرفت عليها في تركيا عندما حضرت المؤتمر. واليوم التقينا صدفة في المنصور عند مقر شركته. ودعاني للعشاء، وليس من اللائق أن اذهب خالي اليدين، فمن الأفضل آن آخذ باقة الورد لزوجته. هذا كل ما في الأمر. أهذا هو الذي يقلقك. ؟؟

-                      نعم. سؤال آخر؟

وجد آدم المطرود نفسه في موقف محرج، ولكي يصل إلى خروج آمن من هذا المأزق الذي هو فيه، بادر إلى اسلوبه الشافي، فقال لها:

-                     قبل أن تسألي. هل الباب الخارجي مقفل بالمفتاح.

انتبهت لما يقصده. سرها ذلك. لكنه لم يطفئ لهيب غيرتها. فقالت له:

-                     لا.

-                     إذن. إذهبي وأغلقيه بالمفتاح وتعالي. لتسألي من تشائين.

أحست هي بأن سيروي لهيب رغبتها تهرباً من أية اسئلة. في تلك اللحظة كانت هي متهيجة. وما سيفعله معها يثبت حبه لها. وأنها المفضلة لديه. كانت تريد ذلك أكثر من أي شيء في العالم.

نظر إليها ليرى تأثير ما قاله عليها، فلقد كان صادقا في معظم ما قاله، لكنه لم يقل لها صراحة بأنه كان يعد الأيام والليالي ليتأكد من رجوع حواء الصايغ إلى بغداد، وإنه هو الذي ذهب بنفسه إلى مقر الشركة بعد أن بحث عنها أياما، حتى عندما كان متأكدا بأنهما لم يرجعا بعد. خرجت هي بدلال وعلى وجهها ابتسامة المنتصر. وشبق غامض.

**********

كانت حواء المؤمن متلهفة لقراءة تفاصيل لقاء المهندس آدم المطرود بالمرأة الغامضة حواء الصايغ، لذا بدأت تقرأ الفصل الجديد الذي سيتحدث عن لقائه معها على العشاء بعد عودتها إلى بغداد. انتبهت إلى أن ما جرى بين آدم المطرود وسكرتيرته كان يجري بالضبط بينها وبين زوجها الكاتب آدم التائه.

(11)
استغرب المهندس آدم المطرود من أن آدم الولهان وزوجته حواء الصايغ يسكنان شقة في بناية وليس بيتاً منفصلاً، لكنه استغرابه زال حينما دخل إلى البناية، إذ كانت الباحة التي تقود إلى المصاعد نظيفة جداً ومرتبة ومفروشة بالسجاد الأحمر مما يدل على أن جميع سكان البناية ذات الطوابق الثلاثة من الموظفين الكبار في الدولة، فهؤلاء لديهم امتيازات استثنائية تختلف عن عامة الناس.

عند مصعد البناية وقف آدم المطرود حاملا ً باقة الورد بيديه، منتظراً أحد المصعدين اللذين كانا معلقين في الطوابق العليا.

من غرفة في أقصى الممر خرج حارس البناية الذي كان في ثياب رسمية أنيقة على خلاف حرّاس البنايات، فهو كما يبدو من رجال أمن البناية. تقدم من آدم المطرود وسأله:

-                     عفوا. حضرتك تقصد مَن سكان البناية؟

-                     أنا ضيف السيد آدم الولهان؟

-                     واسم حضرتك إذا سمحت. هذه إجراءات فلا تنزعج رجاء؟

-                     أنا المهندس آدم المطرود. صديق العائلة.

-                     أهلاً وسهلاً أستاذ آدم.

-                     عفوا، ممكن أن تخبرني في أي طابق يسكن السيد آدم الولهان. ؟!

نظر الحارس إليه بتساؤل، فانتبه آدم المطرود لذلك، فقال:

-                     عفواً. أنا أزورهم لأول مرة.

-                     مفهوم، هو يسكن في الطابق الأول.

مضى الرجل الحارس إلى مدخل البناية، بينما هبط أحد المصعدين فدخل آدم المطرود أحدهما، وفي تلك اللحظة بالذات وقبل أن يضغط على زر الطابق الأول دخل المصعد رجل وامرأة، عجوزان، نظرا إلى آدم المطرود مع ابتسامة ودودة وألقيا عليه التحية:

-                     مساء الخير.

-                     مساء النور.

أُغلق باب المصعد وبدأ بالصعود، وحينما فُتح باب المصعد مرة أخرى في الطابق الأول، انتبه آدم المطرود إلى أن الطابق لا يضم إلا شقتين، خرج هو. وخرج العجوزان أيضاً. اتجه العجوزان نحو إحدى الشقتين. ومن خلال حركة العجوزين عرف أن الشقة الأخرى هي المقصودة، فاقترب وقرأ الاسم على لوحة نحاسية قرب جرس الباب. ثم ضغط على الجرس.

فتحت امرأة في الأربعينات الباب. كانت تشد إزاراً أبيض فوق ثوبها فبدا واضحا أنها التي تقوم بالخدمة في البيت، فدخل آدم المطرود إلى الباحة التي كانت بمثابة غرفة استقبال أيضا.

**********

كانت غرفة الاستقبال واسعة جداً وعالية السقف ومزينة باللوحات الفنية والتماثيل الصغيرة ومفروشة بالسجاد الثمين، وكانت مفتوحة على صالة كبيرة للطعام تتوسطها مائدة صُفت عليها الأطباق الصينية الثمينة والملاعق والسكاكين والأشواك والمناديل.

ما أن دخل حتى أشارت إليه المرأة بالجلوس وسألته إن كان يحب أن يشرب شيئاً، فجلس ولم يطلب شيئا سوى كأسٍ من الماء، فاختفت المرأة وبقيَ وحيداً مستغرباً من عدم وجود أحد. فجأة. سمع وقع أقدام وحركة تأتي من جناح آخر في الشقة، التفت فرأى حواء الصايغ أمامه.

وقف منبهراً بإطلالتها الساحرة وبحضورها الأنثوب الطاغي وبدخولها المفاجئ وكأنها هبطت من الغيب. نظر كل منهما إلى الآخر بلهفة، فقد كان واضحاً أنها تنتظره أيضا. اقتربا من بعضهما بلهفة. أرادا أن يحضنا بعضهما البعض لكنهما، كلاهما تردد في ذلك، فصافحها بحرارة واللهفة تتألق في كل كيانه، مقترباً منها جداً إذ لم يفصل بين وجهيهما وجسديهما إلا باقة الورد. نظرتْ إليه بشوق وأخذت باقة الورد وقالت بحرارة ودفء وتلقائية:

-                     يا لها من باقة جميلة، يا لتنوع الألوان، شكراً جزيلا.

التفتت تفتش في أرجاء الصالة عن مكان تضع فيه باقة الورد، فوجدت طاولة جانبية فاتجهت إليها ووضعت باقة الورد التي بدت وكأنها لوحة فنية في إناء كريستالي هناك، ثم توجهت إليه وجلست على مقعد وثير بالقرب منه، نظرت إليه بحنان وقالت:

-                      اعذرني لأني تأخرت في استقبالك، زوجي سيتأخر ساعة أخرى، وظننت أنه أخبرك، وأنك ستأتي في الثامنة أيضاً. الحمد لله أنك جئت مبكراً، فلقد اشتقت إليك كثيراً.

لم يصدق ما يسمع، فالأخبار المفرحة تتوالى كما فكر مع نفسه، أولها هذا الاستقبال الحميم والرائع، وثانيا قولها إنها اشتاقت إليه كثيراً، وثالثا أن زوجها ليس في البيت، ورابعاً أنه سيأتي بعد ساعة، يا لها من ساعة مباركة. بعد لحظات قال لها:

-                     لقد كنت أعد الأيام منتظراً عودتكم.

نظرت إليه بحنان وقالت بمودة صادقة:

-                     لم أصدق أذني حينما قال لي آدم إنك مررت عليه في مكتبه بالشركة وإنه دعاك إلى العشاء.

-                     وأنا أيضا.

دخلت المرأة وهي تحمل صينية فيها كأس من الماء. تقدمت من المهندس آدم المطرود وانحنت لتقدمه، فأخذ الكأس، وما أن انتهى من شرب الماء حتى بادرته:

-                     هنيئا. ماذا تشرب عصير فواكه، شاي، قهوة. ؟

-                     شكرا. لا أريد شيئاً. فأنا غير مصدق لوجودي هنا في بيتكم.

-                     لا. لا. يجب أن تشرب شيئا لأن العشاء سيتأخر قليلا.

-                     طيب. فنجان قهوة. إذا أمكن. وسط.

-                     طبعا.

التفتت إلى المرأة التي كانت تنتظر أوامر السيدة، وقالت:

-                     اثنان قهوة وسط.

غادرت المرأة. التفتت حواء الصايغ إلى آدم المطرود وقالت له:

-                     كيف هي الكتابة معك. ؟

ارتبك آدم المطرود للحظات. ثم قال بعد لحظات:

-                     لم أكتب شيئا منذ مدة طويلة، فقد انشغلت بالمؤتمر لأكثر من أسبوع، ومذ عودتي وأنا أحاول أن أواصل روايتي لكن بلا فائدة. أحس بالتشتت.

كانت تستمع إليه بانتباه شديد. لذا سألته:

-                     التشتت. ؟ هذا الشعور يمكن تحمله وفهمه. بينما أنا أحس بشعور أكثر إيلاما. أحس بأنني في متاهة كبيرة لا منفذ لها أبدا.

نظر إليها متسائلاً وقال وكأنه لم يفهم قصدها:

-                     تعيشين وسط كل هذا العز والأبهة والهيلمان وتشعرين بأنك في متاهة لا منفذ لها. ؟ لو يسمعك عامة الناس لقالوا إن هذا بطر، بطر حقيقي!

فقالت بحزن:

-                     أعرف. هذه المرأة التي تعمل عندنا في البيت قالت لي مرة كلاماً مشابهاً تقريباً في المضمون، لكنها فسرت الأمر بأن سبب ذلك كوننا أنا وآدم لا أطفال لدينا، وهي لا تدري بأن عزائي أحيانا هو أننا بلا أطفال.

انتبه إلى أن في طيات كلامها تلميح لطبيعة حياتها الزوجية. لكنه لم يشأ أن يتسرع بالكلام، فقال لها:

-                      ربما هي محقة!

نظرت إليه بعتاب وقالت بمودة:

-                     حتى أنت.؟

أحس هو بالحرج، فأراد توضيح وجهة نظره وفي الوقت نفسه دفعها للحديث عن نفسها، فقال:

-                     أسمحي لي إذا ما قلت إنك ربما لا تدركين جيداً كيف يعيش عامة الناس العراقيين!

نظرت إليه بتعاطف وقالت بنبرة مشوبة بالحزن:

-                     أستاذ آدم. هل تعتقد إنني ولدتُ وفي فمي ملعقة من الذهب. أنا أنتمي لعائلة متوسطة الحال، أقرب إلى الفقر. والدي كان مدرّساً للغة العربية، وكنت وحيدته، حينما وصلت المرحلة المتوسطة ماتت أمي، فكرّس أبي حياته لي. لم يتزوج، بل ظل معتكفاً على نفسه وكتبه وذكرياته الجميلة مع أمي. عاش إلى أن دخلت الجامعة ودرست اللغة الألمانية والأسبانية، وكنت في السنة الأخيرة من الجامعة حينما رحل هو أيضاً عن عالمنا هذا.

ذات يوم دخلت عليه في الغرفة التي كانت غرفة نومه ومكتبته أيضا فوجدته مسجى على سريره يغطي كتاب (المواقف والمخاطبات) لعبد الجبار النفري وجهه الجامد. حاولت إيقاظه فلم يستيقظ، وحينما رفعت الكتاب عن وجهه، وجدت عينيه مفتوحتين على اللانهاية؟ لكنني انتبهت إلى الصفحة التي كان يقرأها في آخر لحظة من حياته، والموقف الذي خط تحت كلماته بقلمه الملون. هل تعرف في أي موقف كان أبي حينما رحل عن عالمنا هذا. ؟

-                     من أين لي أن أعرف. !

في هذه اللحظات جاءت المرأة بالقهوة فصمتا إلى أن وضعت الفنجانين أمامهما مع كأسين من الماء وانسحبت. أخذت أحد الفناجين وسلمته له فأخذه وهو يتمتم بكلمات الشكر. صمتت لحظة، ثم واصلت وهي تداري سؤالها الغامض بابتسامة:

-                     صحيح. من أين تعرف. سؤال عفوي لكنه غبي.

-                     لا عفوا. لم أقصد.

-                     لا عليك. سؤالي بالأساس كان خطأ.

-                     على أية حال. في أي موقف من المواقف كان المرحوم والدك. ؟

-                     تلك الصفحة كانت تضم نصاً لموقفين هما: موقـف العــز. وموقف الـُقـــرب.

-                     موقف العز؟ لا أتذكر نصه! قال آدم المطرود.

نظرت إليه للحظات صامتة، ثم نظرت في البعيد وكانها تستعيد تلك الصفحة أمام عينيها، وقالت:

-                     ما زلت أذكر كلمات النص، ففي موقف العـز يقول النفري: (أوقفني في العز وقال لي: لا يستقل به من دوني شيء، ولا يصلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا تُرام مداومته، أظهرت الظاهر وأنا أظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلى وجوده، وأخفيت الباطن، وأنا أخفى منه، فما يقوم على دليله، ولا يصلح إلى سبيله. وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها. وقال لي: لو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف. وقال لي: لا أنا التعرف ولا أنا العلم، ولا أنا كالتعرف ولا أنا كالعلم).

كانت الدهشة قد هيمنت على روحه وجسده. كان منبهراً. وتمتم وكأنه يتحدث مع نفسه:

-                     مذهل.

صمتت هي للحظات. ثم واصلت:

-                      أما في موقف القــرب فيقول: (أوقفني في القرب وقال لي: ما مني شيء أبعد من شيء ولا مني شيء أقرب من شيء إلا حكم إثباتي له في القرب والبعد. وقال لي: البعد تعرفه بالقرب، والقرب تعرفه في بالوجود. وأنا الذي لا يرومه القرب، ولا ينتهي إليه الوجود. وقال لي: لا بعدي عرفت ولا قربي عرفت ولا وصفي كما وصفي عرفت. وقال لي: أنا القـريب لا كقرب الشيء من الشيء، وأنا البعيد لا كبعد البعيد من الشيء. وقال لي: القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة. وقال لي: أنا أقرب اللسان من نطقه إذا نطق، فمن شهدني لم يذكر ومن ذكرني لم يشهد. ).

حينما بدأت حواء الصايغ تقرأ النصوص التي كانت قد حفظتها بدا وكأنها تحلق في عالم آخر. تألق وجهها المثير وكأن هالة قدسية بدأت تنوره. كان آدم المطرود يتأملها بوله واضح، وحينما انتهت قال بانبهار حقيقي:

-                     هذا رائع. هل تحفظين نص هذين الموقفين فقط، أم تراك تحفظين نصوص المواقف الأخرى. ؟

كان الحزن والرهبة قد غمراها وهي تلقي ذلك النص. فقالت له:

-                     أحفظ نص هذين الموقفين بالتأكيد لأنهما المواقف الأولى التي ترد في كتاب المواقف، ولأنهما كانا في الصفحة التي كان أبي رحمة الله عليه يقرأهما.

فجأة سألها:

-                     هل كان الوالد رحمه الله صوفياً. ؟

-                     لا. لكنه كان مؤمنا إيمانا عميقا لحد الشك. ؟

انتبه لإجابتها وسأل بنبرة في تأمل:

-                     غريب. الإيمان لحد الشك. ؟

-                     نعم.

-                     كيف. ؟

-                     كان أبي يضع في مكتبته نصا مأخوذا من كتاب هندي هو في الحقيقة همس لبراهما يُعد كصلاة هندية قديمة في سفر اليوبانيشاد، والنص يقول:

إذا ظن القاتل أنه قاتل

والمقتول أنه قتيل

فليسا يدريان ما خفي من أساليبي

حيث أكون الصدر لمن يموت

والسلاح لمن يَقتُل

والجناح لمن يطير

وحيث أكون لمن يشك في وجودي

كل شيء حتى الشك نفسه

وحيث أكون أنا الواحد

وأنا الأشياء

حينما أنهت حواء الصايغ جملتها الأخيرة بدت وكأنها كانت تصلي. إذ كانت تبتهل بخشوع ورهبة. صمت آدم المطرود لحظات وهو يفكر مع نفسه ويبحث عن أثر هذا النص على روحه وتفكيره، وأخيرا علّق قائلاً بنبرة مليئة بالقلق:

-                     لكن هذا له علاقة بفلسفة وحدة الوجود.

-                     صحيح جداً. والدي رحمه الله يؤمن بأن للكون والوجود واجدا ً، خالقا ً، وهذا الخالق هو الذي يسمى في الدين باسم لفظ الجلالة الله. وهذا هو اسمه في اللغة العربية، لأنه في اللغات الأخرى يسمى أسماء مختلفة، لكنه في الجوهر هو المقصود. المشكلة التي كان يفكر فيها أبي هي أن الأديان والفلسفة تؤكد بأن الخالق ليس مادياً، وليس له أي تجسيد مادي، وبالتالي كان أبي يسأل أحيانا، وهذا ما دونه في يومياته، بأنه لو كان الخالق خارج الكون والوجود المادي، فهو إذاً ليس خالقاً بالمطلق، لأن الكون أو الوجود يأخذ حيزا مكانياً كبيراَ، والخالق خارج هذا الحيز، بينما فلسفة وحدة الوجود ترى أن الكون هو إحدى تجليات الخالق، وأن الوجود مندمج بالخالق. أحد أبعاده. بمعنى آخر لو أن الوجود منفصل عنه. وهو منفصل عن الوجود. فهذا يعني هو ليس كاملا وشاملا ولانهائياً ومطلقاً. فهو مطلق ناقص حيز الوجود. وهذا ما ذهب إليه بعض الفلاسفة والمتصوفة المسلمين، كما ذهبت إليه بعض الديانات الشرقية، وأعتقد أن الفيلسوف سبينوزا يؤيد ذلك. بأن الوجود نفحة الله. أو كما تؤكد العلوم بأن الوجود أحد تجسيدات العدم المطلق الروحاني غير المادي.

 نظر آدم المطرود إليها بوله وقال بنبرة واثقة:

-                     أقر بأنني أمام فيلسوفة.

-                     لا. أبدا. ربما أنا أفكر. أبي علمني التفكير. لكن التفكير يولد الحزن.

ابتسم آدم المطرود ابتسامة حزينة وقال:

-                     الآن فهمت لماذا أنت حزينة رغم أنك وسط كل هذا الترف المادي.

-                     ألم تقرأ لأحد الشعراء القدامى حين يقول: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.

-                     بلى. بعض الفلاسفة يتحدثون عن الوعي الشقي.

-                     صحيح. بالمناسبة. أبي أراد أن يدون طفولته وحياته السياسية والفكرية بشكل روائي فكتب رواية. لكنها ظلت ناقصة.

-                     هل هي موجودة لديك.

-                     نعم. وفكرت في أن استكملها لكن هذا مستحيل، لأنها تتوقف عند أحداث هو وحده يعرف تفاصيلها. وبذلك لا أكون أمينة له.

-                     هل يمكنني أن أقرأها.

-                     ممكن. لكن خطه غير مقروء تماما.

في هذه اللحظة بالذات فاجأهم آدم الولهان بدخوله إلى الصالة، فقد فتح الباب بالمفتاح ودخل. نهض المهندس آدم المطرود مرحّباً ومرتبكاً أيضاً، فتقدم آدم الولهان بمرح مصافحا ومتعذراً:

-                     أهلا وسهلا أستاذ آدم، أنا آسف حقا لعدم تمكني من أن أخبرك بتأجيل العشاء إلى الثامنة. ولم أتمكن من الاتصال بك. أعذرني.

-                     صحيح، أنا لم أعطك حينها رقم تليفون المكتب، مكتبي في الحارثية، بالقرب من ساحة النسور، مقابل بوابة معرض بغداد الدولي.

وأخرج من جيبه بطاقة تعريفية له وفيها عنوان المكتب وأرقام التليفونات فأخذ آدم الولهان البطاقة ووضعها في جيب سترته الأعلى، وقال له:

-                     أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بالنقاش، فقد كان حضورك أجمل مفاجأة بالنسبة لحواء.

فقال هو بمودة وحرارة:

-                     لا. أنا اكتشفت في السيدة حواء، ليس الشاعرة فقط وإنما الفيلسوفة أيضا.

فابتسمت حواء الصايغ بتواضع حقيقي وقالت:

-                     شكرا جزيلا، أنا لا استحق هذا الإطراء. ربما كان أبي هو الفيلسوف.

فعلق آدم الولهان بمرح وبخبث خفي:

-                     أوه. لقد تحدثتم عن الوالد رحمه الله. يبدو أنني قاطعتكم.

-                     لقد جئت في السابعة، وأخبرتني السيدة حواء بتأجيل الموعد إلى الثامنة، فأخذنا نقطع الوقت بالحديث.

فعلق آدم الولهان مرددا حكمة شائعة ومبتذلة من كثرة استخدامها قائلا ً:

-                     الوقت كالسيف إذا لم تقطعه يقطعك.

التفتت حواء الصايغ إليه وسألته محاولة أن تدير الحوار إلى منطقة أخرى فهي تعرف الغيرة الخفية التي تكمن في أعمق أعماق زوجها من كل ما يثير إعجابها:

-                     لكن أين ضيفنا الآخر؟

نظر آدم الولهان إلى ساعته التي كانت تشير إلى دقائق قبل الثامنة وقال مخاطبا زوجته:

-                     أنت تعرفين آدم جورج الشماس، ليس من عادته أن يكون دقيقاً في المواعيد.

التفت آدم الولهان إلى آدم المطرود قائلا:

-                     آدم جورج الشماس صديقنا، لبناني – فرنسي، تعرفنا عليه في باريس قبل سنتين، شخص غريب الأطوار، يعيش متنقلا بين البلدان الأوربية، إنه مزيج ما بين الفنان والتاجر، لكنه لا هو بالفنان ولا بالتاجر، إنه يتاجر بالفن ويتفنن بالتجارة. إنه صديقنا.

علقت حواء الصايغ بمرح:

-                     إنه صديقك أنت. فهو بالنسبة لي إنسان متعب!

في هذه اللحظة بالذات رن جرس الباب، نظر آدم الولهان إلى ساعته اليدوية فرأى أنها تشير إلى الثامنة بالضبط فعلق مبتسما:

-                     لا أعتقد أنه هو. فهو يتأخر عشر دقائق دائماً عن أي موعد مهما كان مهماً. حتى لو كان يقف عند الباب في الوقت المحدد فيظل يتمشى عند الباب لعشر دقائق ثم يطرق الباب.

فتح آدم الولهان الباب بنفسه فدخل رجل قد تجاوز الخمسين من العمر، أبيض الشعر، حيوي، قلق النظرات. وسيم المظهر. استقبله الزوج ضاحكا وهو يقول له:

-                     الشماس. مش معقول. هذا أنت تصل في الموعد المحدد بالضبط. ما الذي جرى. ؟

ودون أن يجيب تقدم الرجل نحو المهندس آدم المطرود وحواء الصايغ. أخذ يد حواء الصايغ فقبلها بصورة احتفالية بحيث ارتبكت لاسيما أمام آدم المطرود، ثم التفت نحو آدم المطرود ماداً كفه للمصافحة:

-                     إذن، أنت المهندس الأديب الذي اقتحم عالم آدم الولهان وزوجته الساحرة حواء الصايغ. أنا آدم جورج الشماس.

-                     أهلا وسهلا. أنا المهندس آدم المطرود.

مدّ آدم المطرود كفه مصافحاً أيضا دون أن يبدي عليه أي أثر لرد الفعل على طريقة آدم الشماس الاحتفالية، بل إنه فرح مع نفسه لما قاله، فهذا يعني أنهما تحدثا عنه، بل وفكرا فيه. ألقى آدم المطرود نظرة خاطفة إلى حواء الصايغ التي كانت في تلك اللحظة تنظر إليه، فالتقتْ نظراتهما وابتسم كل منهما للآخر بلطف.

جلس الجميع على المقاعد الوثيرة، وقبل أن يبدأ أحد بالحديث بادر آدم الشماس مخاطبا آدم المطرود قائلا:

-                     حينما سألت آدم وحواء عندما وصلا باريس عن أهم الأشياء التي شاهدوها أو تعرفوا عليها في سفرتهم، أجابني كلاهما بأن تعرفهم على المهندس والكاتب آدم المطرود كان من أبرز تلك الأشياء.

ارتبك آدم المطرود لثوان. انتبه خلالها بأن حواء الصايغ ارتبكت أيضاً، بينما ابتسم زوجها مؤكدا كلامه، فقال آدم المطرود:

-                     هذا من فيض لطفهما لا أكثر، وشعور جميل أبادلهما أنا فيه أيضا.

كان آدم الشماس جريئاً، مقتحماً بكلامه، لا يعير اهتماما للشكليات، فاستمر في حديثه:

-                     حديثهم عنك، وبالتحديد المدام حواء أثار اهتمامي، فوددتُ أن أراك، فأنا عشت معظم حياتي في أوروبا، حتى لبنان بلدي الذي أحبه جداً نادراً ما كنتُ فيه، وما أثارني حقا أن مدام حواء الصايغ تحدثت عن مسيو آدم المطرود حديثا مليئاً بالتبجيل، وأنا أعرف مدام حواء الصايغ جيداً؛ فهي دقيقة جداً في استخدام المفردات، بل وهي بخيلة في الإطراء والمديح، لاسيما للرجل الشرقي. وبالتالي انتابني الفضول في أن أتعرف على الشخص الذي تمتدحه مدام حواء.

انتبه آدم المطرود إلى أن حواء الصايغ لا تود الاسترسال في هذا الموضوع، وأنها لا تميل لطريقة آدم الشماس في الحديث والتي يمكنها أن تثير غيرة زوجها بشكل خفي، إلاّ أن آدم المطرود أدار الحوار بشكل آخر، وبطريقة لم تتوقعها، حينما سأل بهدوء:

-                     عفوا أستاذ آدم جورج. لا أفهم ما المقصود بالرجل الشرقي. ؟ فهي كلمة واسعة جداً. الصيني والفيتنامي، والهندي، والإيراني، والتركي والكردي والعربي كلهم شرقيون. والشرق يعني التوراة والإنجيل والقرآن. والأنبياء كلهم شرقيون. والأديان كلها شرقية. فان كنت أنا سليل كل هذا التاريخ، فأنا أفتخر. وأتعجب كيف أن السيدة حواء الصايغ تنتقد الإنسان الشرقي!

بهت آدم الشماس من إجابة آدم المطرود فقال معلقاً على سؤاله، مبدياً أيضا عدم رغبته الواضحة في مواصلة الحديث، وكأن سؤال آدم المطرود كان بمثابة هزيمة له، ففقد شيئاً من حيويته ومرحه الذي رافقه عند الدخول، مستدركاً بنبرة فيها مزاح وتراجع:

-                     لا. لا. يبدو أن عليّ أن أكون دقيقا ًفي انتقاء كلماتي عند الحديث معك، ومع ذلك أعتقد أن الحديث معك سيكون ممتعاً.

أدرك آدم الولهان حالة صديقه آدم جورج الشماس، فهو دائماً يسعى لإثارة إعجاب زوجته حواء بالنقاش والأفكار الغريبة والجريئة، مثلما انتبهت حواء الصايغ إلى ذلك أيضا، فنظرت إلى آدم الشماس بمرح، لأنها بغريزتها أحست أنه سوف لن يغفر لآدم المطرود هذا الموقف، وأنه سوف يستفزه طوال هذه الأمسية، وربما سيحقد عليه لاحقاً، ولكي تنهي هذا الجو الذي توتر للحظات، قامت ودعت الجميع إلى المائدة.

**********

 لم ينتبه آدم المطرود إلى الطريق ولا إلى المكان الذي وصلوه، ولا إلى الممرات التي ساقوه فيها، ولا القاعات والغرف، إلا عندما سمع المحقق آدم التكريتي يقرب وجهه منه ويقول له بلؤم مكتوم وبتهديد واضح:

-                     الصمت لن يساعدك. إنك تؤكد التهمة على نفسك.

ظل آدم المطرود صامتا، فقال له الرجل الذي كان يبدو أنه رئيس المحققين:

-                     حتى لو صّمت فلدينا معلومات مؤكدة عنك. فلقد شاهدك الجيران ليلة حدوث الجريمة وفي الساعة نفسها التي حددها الطب العدلي لساعة وقوع الجريمة، وكذلك شاهدك حارس أمن البناية، ولدينا أيضا شهادة سكرتيرتك حواء اللهيبي، وكم كبير من الأقوال المتضاربة التي يمكن أن تكون لصالحك أو ضدك وهذا كله متوقف عليك.

ما أن ذكر المحقق اسم حواء اللهيبي حتى دبت الحركة والحيوية في نفسه. تُرى ما الذي قالته عنه. ؟ بينما هو لحد الآن لا يستوعب رحيل حواء الصايغ عن هذا العالم، وبهذه الطريقة البشعة.

نظر آدم المطرود إليهم نظرة متفحصة لكن كان واضحا ًأنه يفكر بأشياء أخرى. لم يقل أي شيء. تبادل المحققون النظرات في حيرة، فبادره المحقق آدم التكريتي:

-                     لعلك تريد أن تستريح قليلاً. لتفكر كيف يمكنك أن تحدثنا عن كل شيء. أنت رجل ذكي. ؟؟ كاتب معروف، وبوسعك أن تساعد العدالة أو تكون عائقاً لها. وحدك من سيقرر ذلك. سنتركك قليلا لتستريح، فكر وحدك، وإلّا، فحينما نعود سنكون مضطرين لاتخاذ أساليب أخرى معك لا نود أن نستخدمها، فملفك أمامنا وأنت إنسان مخلص للحزب والثورة. ملفك ليس فيه من هذه الناحية أية شائبة. فكر وقل لنا لماذا قتلت حواء الصايغ؟

قام الجميع وخرجوا إلا آدم المطرود فقد بقيَ على كرسيه تائه النظرات، محدقا في الماضي بعيون جاحظة.

**********

شعرت حواء المؤمن بتعاطف مع حواء الصايغ. أحست أنها قريبة منها رغم أنها كما رسمها زوجها الدكتور آدم التائه مثقفة، بل ومثقفة جداً، لكن ربما هي تعيسة حقا لأنها بلا أطفال مثلها، فكل الثروة لا تعوض المرأة عن فقدان الأطفال والحرمان من مشاعر الأمومة.

سألت نفسها: لماذا يريد زوجها آدم التائـه أن تُقتل هذه المرأة الجميلة الحزينة المسالمة. ؟ وهل يا تُرى سيتم إنقاذ آدم المطرود من هذه التهمة ويكشف عن القاتل. ؟

كانت في شوق لمعرفة ذلك فانتقلت للفصل اللاحق.

**********

سأل آدم البغـدادي نفسه: من هي المرأة التي استمد منها آدم التائه نموذج حواء الصايغ. ؟ وهل صادفت أنا في حياتي امرأة مثلها؟ نعم. نعم. أتذكر الآن إنني أثناء دراستي الجامعية التقيت ببعض الفتيات المثقفات جداً، وكانت واحدة منهن مثقفة ثقافة استثنائية لكنها كانت قبيحة بالمعنى الحقيقي للقبح، وأتذكر أنني تعرّفتُ على واحدة أخرى كانت مثقفة وجميلة أيضاً، لكنها ليست بجمال حواء الصايغ!

أعتقد أن الكاتب مثل ذلك الطبيب الجراح الذي كان مهووسا بفكرة الخلق، فجمع أشلاء مختلفة وأجرى ما أجرى من لصق وترقيع وتركيب من الأشلاء كي يوجد مخلوقا مسخا مثل فرنكشتاين، وربما آدم التائـه أو هو نفسه آدم البغدادي، قام بتجميع سمات مختلفة من نساء عديدات صادفهن في حياته، وأوجد شخصية حواء الصايغ من خلال الكاتب آدم التائه. ربما.

(12)
في صباح اليوم التالي لمساء الدعوة تأخر وصول آدم المطرود إلى المكتب على غير العادة، فقد مضت الساعة الحادية عشرة ولم يصل بعد. وحينما فتح باب المكتب ودخل مرحاً بوجه يفيض بالحيوية والسعادة، قابلته السكرتيرة حواء اللهيبي. تأمل وجهها سريعاً وخلال ثوان انتبه غلى ان وجهها يشع بمزيج من الغيرة وروح المشاكسة، فقد خمنت هي أن السيدة زوجة صاحب الدعوة لا بد وأنها مصدر كل هذا الفيض من السعادة التي تشع منه.

كانت حواء اللهيبي محقة في تخمينها، إذ كانت دعوة العشاء منعطفا مهما في حياة آدم المطرود الروحية، فالجو الرائع والطعام الشهي واللذيذ، والنقاش الذكي والحوار المتميز من قبل الجميع قد ترك عليه وعلى الجميع مثل هذا التأثير، حتى أنهم أمضوا وقتا أكثر مما كان متوقعاً، إذ أنهم بعد العشاء جلسوا في صالة الضيوف وتبادلوا الأحاديث حتى وقت متأخر من الليل.

حين وصل آدم المطرود إلى طاولة مكتبها حياها بمرح وبتملق واضح قائلا ً:

-                     صباح الخير يا أجمل سكرتيرة في الدنيا، صباح الخير يا أجمل الحواءات التي أنقذت آدم المطرود من الجنة.

نظرت حواء اللهيبي إليه وفي داخلها مرجل من المشاعر المختلطة يغلي، وقالت بنبرة ذات اتهام صريح:

-                     صباح الخير. لكن ما سر كل هذا المديح الذي تعرف جيدا أنك لا تعنيه أبدا ً. ثم إذا كنت حواء، التي هي أنا كما تقول منقذة آدم المطرود من الجنة، فمن هي يا تُرى التي أنقذت المهندس آدم المطرود من العزلة والضجر ومنحته كل هذه السعادة وكأنه طير حر طليق.

انتبه آدم المطرود لنبرة العداء الخفية في ثنايا صوتها فتوجس غيرة قد تؤثر على مزاجه الرائق وربما ستقود إلى نتائج غير مطمئنة. أراد أن يوجه الأمور إلى الجهة التي يعرفها والتي تهدئها، لذا بادر قائلا بنفس المرح:

-                     ومن هي يا تُرى غير حواء اللهيبي. حواء التي أثبتت لي حبها أمس.

استغربت حواء اللهيبي جوابه واختلط عليها الأمر، هل هو حقا يقصدها بهذا الكلام. ؟ وما الذي أثبتته له أمس. ؟ كل هذه الفترة وكل هذا التلاحم الجسدي لم يثبت له أنها تحبه إلا أمس. ؟ وما الذي جرى أمس غير استثنائي. ؟ لم يخطر ببالها شيء استثنائي، إلا أنها بنفسها ذهبت لشراء باقة زهور جميلة.

مر آدم المطرود من أمامها ودخل مكتبه، فلم تطق هي صبرا فقامت ودخلت خلفه. كان هو لحظتها يضع حقيبته على طاولة المكتب، ثم استدار ليجلس على كرسيه مستغربا دخولها، متوجسا نار غيرتها، وعليه أن ينتبه ويدير دفة الأمور بسرعة، نظر إليها مستفسراً ثم سال:

-                     خيراً حواء. هل حصل شيء لا سمح الله، ما بك، هذه أول مرة تدخلين بدون قهوة الصباح. ؟

ارتبكت حواء اللهيبي إذ أن ملاحظته كانت صحيحة. نظرت حولها. لكنها لم تجد ألا أن تنفجر قائلة بغضب خفيف ممزوج بدلال أنثوي:

-                     كل هذه الفترة لم أثبت لك حبي إلا أمس. ؟ ما الذي فعلته كدليل على حبي أمس. ؟ هل لأني اشتريت باقة الزهور الجميلة بنفسي كي تحملها إلى امرأة غيري. ؟ هل بهذا أثبت حبي. ؟

كان لهيب الغيرة واضحا في نبرة صوتها، وكان هو منذ لحظة دخولها يفكر بطريقة تطفئ نار غيرتها، لذلك ما أن ألقت أسألتها حتى ابتسم وقال بهدوء:

-                     أهذا قليل. ؟ إنك تثبتين لي حبك يومياً.

لا تدعرف حواء اللهيبي سر تلك الجاذبية والسحر الذي يمتلكها هذا الرجل. ز. فبكلمات قليلة هي تعرف أنه لا يعنيها تجد نفسها هادئة بل وأسعد امرأة في العالم. !

كانت ملامح التفكير بادية على وجهها الجميل، أحست براحة لا تدري مصدرها، فقالت له وهي تخرج:

-                     سأحضر القهوة.

-                     بسرعة لو سمحت. لأني أود أن اعتكف لكتابة شيء مهم.

-                     حاضر.

-                     شكرا.

خرجت. بقيَ آدم المطرود مذهولا في كرسيه متعجبا كيف تخلص من غيرتها الأنثوية. مفكراً بلغز المرأة الغريب. ونفسيتها المتقلبة.

**********

كان آدم المطرود في ذلك الصباح قد مر، قبل مجيئه إلى المكتب، على السيدة حواء الصايغ في شقتها الواسعة ليشرب معها فنجانا من القهوة، حيث طلبت منه أن يمر صباحاً ليشرب القهوة عندهم. ولم تكن حواء الصايغ تتردد في أن تعبر عما تفكر فيه، وكذلك لم تتردد في طلبها ذلك أمام زوجها عندما ودعّاه ليلة أمس عند نهاية السهرة.

كانت حواء الصايغ بقدر الغموض الذي يحيط شخصيتها وماضيها وعالمها فهي أيضا واضحة في رؤيتها للأشياء وواثقة من نفسها ومن تصرفاتها، وربما هذه الثقة في جانب منها مستمدة من ثقتها بنفسها ومن الثقة التي يمنحها زوجها آدم الولهان لها، لذا لم تكن تتردد في أن تعبر عن رأيها في أعقد المسائل وأكثرها حساسية أمامه.

قبل ذهابه إلى مكتبه توجه آدم المطرود إلى شقتهم، وحينما وصل وجدها في الصالة وبكامل زينتها ولباسها. عرف منها بأن السيد آدم الولهان قد خرج قبل وصوله بقليل، فلقد انتظره لكنه تأخر مما أضطره للذهاب.

تردد آدم المطرود في الجلوس كثيراً ولعن نفسه على التأخير فمن غير اللائق أن يبقى بغياب الزوج، إلّا أن حواء الصايغ طلبت منه أن يشرب معها فنجانا من القهوة. قبل الدعوة مرتبكاً وسعيداً في الوقت نفسه، وجلس بالقرب منها في الصالة، حيث كان دورق القهوة وأكوابها موجودة في صينية فضية على إحدى الطاولات.

نظرت حواء الصايغ إليه نظرة مليئة بالود وسألته سؤالا مباغتاً:

-                     أستاذ آدم، ما رأيك بزوجي. ؟

بوغت بهذا السؤال، بصراحته ومباشرته ووضوحه، فقال بتردد:

-                     ماذا تقصدين. ؟

-                     قصدي واضح، ما رأيك أنت بزوجي آدم. ؟

ظل آدم المطرود مرتبكاً، محاولاً كسب الوقت ليحلل السؤال ودوافعه، ومفتشاً عن جواب دبلوماسي لهذا السؤال الملغوم، فسأل:

-                     من أي ناحية تقصدين. ؟

-                     من جميع النواحي، الخارجية والداخلية.

ظل آدم المطرود صامتاً للحظات. وكان يصارع نفسه في أن يبدي رأيه الصريح أولا، فقال:

-                     وهل رأيي مهم هنا. ؟

-                     يعني. أحب أن أعرف رأيك. رأيك يهمني. رأيك أنت بالذات.

نظر إليها بتمعن وقال بصوت خافت وكأنه يتجنب أن يسمعه أحد:

-                     بصراحة. ؟

ابتسمت هي بحزن وقالت:

-                     ولماذا أسالك إذا لم أنتظر الإجابة الصريحة منك؟

-                     ألا يزعجك رأيي إذا لم يعجبك؟

-                     أبدا. لماذا أسأل إذا كنت أتوقع الإجابات التي تعجبني فقط؟

صمت آدم المطرود للحظات. تلفت في ما حوله. ثم قال:

-                     طيب. إن شخصية الأستاذ آدم الولهان الخارجية، برغم دخوله في خريف العمر، إلا أنها تشير إلى أنها شخصية جذابة ولطيفة. لكن. برغم تقاطيعه المتناسقة ونعومة ملامحه، وأناقته الطاغية والتي لا يختلف حولها اثنان، إلّا أن المرء لا يرتاح لرؤيته كل الارتياح.

فوجئت حواء الصايغ من صراحة آدم المطرود فابتسمت له مشجعة كي يواصل حديثه، فاسترسل:

-                     أحيانا أجد أن تعبير وجهه وبعض نظراته تكاد تكون منفرة، لأنها مزيفة وغير حقيقية، لأنه يتكلفها، فهناك ثمة قناع يغطي وجهه الحقيقي. والغريب أن عينيه البنيتين الجميلتين، اللتين تسترعيان الانتباه لكل من ينظر إليه، تتركان انطباعا للناظر لوجهه بأنهما لا تخضعان لإرادته، فحتى إذا ما أراد أن ينظر نظرة رقيقة ورومانسية فأن ثمة أشعة لا مرئية من القسوة والشراسة والغدر يمكن أن تصدر منهما.

أعتقد أنه يتعذب، لأنه لا يرتاح أبداً، فحياته كلها تمثيل في تمثيل. لقد رسم لنفسه شخصية افتراضية وهو لا ينفك يسعى لأن يكونها، لكن من خلال تمثيلها بشكل دائم وفي كل لحظة. أنه أكثر تعاسة من الممثلين. فهؤلاء يتحررون من أقنعتهم ومكياجهم وعبء الشخصيات التي يعيشونها على خشبة المسرح حينما يغادرون المسرح إلى غرفهم ليتخلصوا من شخصياتهم. لكنه لا يجد مثل هذا الوقت. زإنه ممثل لا يغادر المسرح. حتى في النوم. وأظن أنه حتى في أحلامه يعيش شخصيته الافتراضية. وربما كوابيسه هي عندما يجد نفسه لا يمثل شخصيته الافتراضية.

كانت حواء الصايغ تنظر إليه بذهول. وإعجاب واضح. وهذا ما شحعه إلى أن يواصل تحليله، فقال:

-                     إنه غيور جدا برغم كل هذا التحرر الذي يبديه، بل إنه يلعب دور المتحرر. إنه في أعماقه متغطرس ومتعال ٍ على الرغم من تجسيده لشخصية النبيل المتواضع التي يجيدها بشكل مثير للإعجاب، وهو في الجوهر إنسان أناني، وأعتقد أن الحياة، بكل ما فيها، من حب، ومشاعر، وصداقة، ومتعة، وجمال، بالنسبة إليه لا تتعدى كونها صفقة، فهو لا يهدر شيئاً من مشاعره وماله ووقته إلّا باعتبار ذلك ضمن حساب الصفقة. كل شيء لديه محسوب، حتى الابتسامات واللطف الذي يبديه للضيوف والأصدقاء ولك أيضا محسوب، إذا لم أقل إنك أكبر صفقة رابحة في حياته.

 

كلمات آدم المطرود الأخيرة صدمتها. ارتسمت الكآبة على وجهها شيئاً فشيئاً. انتبه آدم المطرود لها فسأل:

-                     أرجو أن لا أكون قد تجاوزت حدودي.

فقالت بهدوء وبصوت خافت:

-                     أبدا. أنت تتحدث وكأنك مرآة روحي. رؤيتك له بهذا الوضوح ترعبني. كنت أخاف أن أتأكد مما كنت أراه. لكنك وكأنك مرآة روحي.

استرخت أعماق آدم المطرود حين سمع ذلك، لكنها واصلت القول بسؤال آخر:

-                     وماذا عني؟ كيف تراني.

فوجئ آدم المطرود أحس بالارتباك والحرج، وسأل:

-                     أنت. ؟

-                     نعم أنا.

صمت آدم المطرود للحظات ثم تاهت نظراته واسترسل قائلا:

-                     أنت صاحبة نفس حساسة جداً، رقيقة، وبرغم ذلك فهناك طبقات من العناد متحجرة في أعماقك. أنت غامضة ومعقدة. كريمة النفس ونبيلة القلب، لكنك عصبية، علما أنك لا تبدين عصبيتك أبداً بل تسعين إلى الصفح عن الذين تغضبين منهم، وكأن تجدين في الصفح تحدياً لنفسك. مثلما تجدين فيه لذة مجهولة. أنت حزينة إلى حد التلذذ بالحزن بل والتطهر الروحي من خلاله.

لم يستطع آدم المطرود أن يسترسل إذ قاطعته حواء الصايغ قائلة بارتباك وخجل:

-                     إنك تبالغ في إطرائي.

-                     أبدا. إن مقاطعتك لي هو دليل على سمات الشرف والاستقامة والتواضع لأني أثنيت عليك. قد أكون على ضلال، لا أدري، لكني سواء كنتُ مصيبا أو مخطئا فأني مخلص في ما أقول.

قاطعته بخجل وود قائلة:

-                     تقول هذا لأنك تميل إليّ.

انتهز فرصة ارياحها لكلامه برغم مقاطعتها له، فقال:

-                     أميل إليك. ؟ هذه كلمة شاحبة وعليلة أمام ما أحس فيه تجاهك من عمق المشاعر والأحاسيس والاحترام.

شعرت حواء الصايغ باضطراب في خفقان قلبها، وتدفق الدم من ينابيع سرية إلى كل أرجاء جسدها، شعرت بالإحراج وبخوف مجهول، فقالت:

-                     أشكرك على هذا الفيض من كلمات الثناء ومن المشاعر التي تشعرني بالسعادة. لكن ألا تخاف من شخصية زوجي.

-                     بلى، لكننا كما يبدو نتجنب المواجهة. فبرغم قصر علاقتنا، أعتقد أنه لا يحب التواصل معي، إلا لأنك ترغبين بذلك، وهو بهذا يعذب نفسه أيضاً، وكلّما تعمق تعارفنا يصر على أن يقرّب بيننا، ليتعذب، ومع ذلك يزداد أورا حقده ضدي بهدوء، إنه ممثل تراجيدي بارع.

-                     ولماذا يفعل كل ذلك برأيك. ؟

-                     لا أدري، ربما لأنه يحبك بطريقة مرضية، ربما لأنك أعظم صفقة رابحة في حياته كما قلت، أو لأنه جامع للوحات وأنت أغلى وأجمل لوحاته.

-                     بدأت أخاف منه. أنك تؤكد ما أنا أحسّه أيضا.

قالت حواء الصايغ ذلك بنبرة حزينة ثم صمتت للحظات طالت لدقيقة من الوقت خافضة رأسها الجميل الذي يعشق هو تسريحته حيث الشعر المصفوف للوراء الذي يكشف معالم الوجه كاملة، ثم رفعت رأسها سائلة بتوسل وخوف ورجاء:

-                     أود أن تكون صديقي. صديقي الوحيد. موضع أسراري ومرآة روحي وقلقي ومخاوفي، فهل تقبل بذلك. ؟

-                     أنا.

لم يتوقع آدم المطرود مثل هذا الطلب الذي قدمته بتوسل ورجاء. لقد فوجئ، وأحس بخوف مجهول وكأن الأمر غير عادي على الرغم من أنه كان يتمنى أن يحدثها سابقاً، والآن تطلب منه هي بنفسها أن يكون صديقها الوحيد وموضع أسرارها، وهذا يعني سيكون أقرب إليها من زوجها، وهل يمكنه يا تُرى أن يرفض. ؟ فكّر في نفسه أنها اللحظة المناسبة للمكاشفة فقال لها وهو منفعل:

-                     أنا. هل تعتقدين باستطاعتي أن أرفض. ؟ هل يمكن للمرء أن يرفض نعمة البصر. ؟ هل بإمكانه أن يوقف نبض قلبه. ؟ أنت لي نور البصر وألق البصيرة، نبض القلب ومعنى الوجود. إن حياتي ووجودي وكياني كله بين يديك.

كان آدم المطرود ينظر إلى وجهها وهو يقول كلماته تلك ورأى دفق الانفعالات السعيدة التي كانت تنعكس على وجهها الجميل، لكن الابتسامة الحزينة لم تغادر ذلك الوجه. نظرت إليه وفي عينيها أمواج من مشاعر الشكر والامتنان والحب الخفي تنساب برفق، وقالت:

-                     لا أعرف كيف أشكرك فالكلمات كثيراً ما تعجز عن تجسيد المشاعر البشرية، ولكونك كشفت عن مشاعرك نحوي بهذا الوضوح فبودي أيضا أن أقول إنك توأم روحي، إنك قريني، إنك أنا، إنك نصفي الآخر.

تألق وجه آدم المطرود بسعادة تعجز الكلمات عن وصفها، لكن هذا التألق انطفأ فجأة. لاحظت هي ذلك فسألت:

-                     ما بك. ؟

نظر إليها وقال بتساؤل:

-                     والسيد آدم الولهان. ؟

-                     ما لنا وله. علينا أن نخلق عالمنا الخاص بنا بعيداً عن صفقاته وتلصص عيونه. أنا لم أصدق أني التقيت إنساناً مثلك، لقد حلمت بذلك كثيراً، لقد كنت أحلم بإنسان طيب ورقيق وفيه بعض الطفولة والبراءة. وجدتك، ولا أريد أن أفقدك. ربما تظنني غير طبيعية، ربما تفكر بأني أشعر بالوحدة وبالحاجة الجسدية والحنين لصدر رجل لأن آدم يكبرني في السن كثيراً، لا أبداً ليس هذا، فأنا لا أميل إلى ذلك، وأنه ما زال قويا، برغم أن حاجتي إلى إنسان مثلك لا توصف ولا يمكن ربطها بعالم الجسد المادي. إنها رغبة في التكامل الإنساني، التكامل الوجودي. لا أدري كيف أوضح ذلك. هل تفهمني. ؟

-                     أفهمك. أفهمك جدا. أنا أيضا أحتاجك. أحتاج لحضورك الطاغي في حياتي ووجودي. منذ أن قابلتك صرت لا أستطيع تخيل العالم بدونك، صرت لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون وجودك فيها. لكن ماذا لو عرف زوجك. ؟

كان السؤال صادما. صمتت لثواني، ثم قالت بهدوء وتفكر:

-                      من أين له أن يعرف. ؟ وما دامت هذه العلاقة صافية وطاهرة وغير ملوثة، فأنها لن تخيف حتى لو تم اكتشافها، وبالمناسبة أنه معجب بك، برغم ما قلته عن غيرته منك.

-                     معجب. ؟

-                     نعم.

ابتسمت حواء الصايغ قليلا، وأرادت أن تبتعد من موضوع حديثهما السابق لأنها أحست أنهما لو استمرا فيه الآن فربما سينتهي الأمر بكارثة، إذ أحست أن آدم المطرود برغم عمق مشاعره وصدقها حينما عبر عن حبه لها إلّا أنه كان يشع رغبة جنسية فيها أيضا، وهذا ما أخافها قليلاً، فهي لم تفكر في هذه المنطقة الملتهبة من العلاقة حينما أرادته بكل وضوح أن يكون صديقها الوحيد، لذا عليها أن تدير الشراع نحو اتجاه آخر، وقالت:

-                     تصور أننا بعد لقائنا بك في تركيا التقينا أصدقاء لنا في جنيف، وكان بينهم أحد المهندسين، فأراد زوجي أن يبين معارفه في فن العمارة، وأخذ يردد المعلومات التي سمعها منك وكأنها معارفه، ولكونه ليس صاحب المعلومات أساسا، ولأن الهندسة وفن العمارة ليس حقله، فأنه أفسد المعلومات لأنه وضعها في غير موضعها، فحصلت بلبلة في النقاش لأن المهندس الآخر كان من مؤيدي تيار ما بعد الحداثة في العمارة، ولم يستطع زوجي أن يدافع عن رأيه ولا أن يواصل النقاش، مما عكر عليه مزاجه ذلك اليوم كله وظل غاضبا من المهندس الآخر. والغريب أنه كان غاضبا منك أيضا، وكأنك السبب في هزيمته في النقاش، نعم هزيمته، لأن كل شيء لديه هو معركة، أنت أسميتها صفقة، فهو لا بد أن يخرج منها رابحا أو منتصرا مليئا بالزهو، وهذا الأمر يتكرر في الفن التشكيلي، فكثيرا ما يسمع آراء فنية فيتبناها وكأنها رأيه، وأحيانا تكون هذه الآراء متعارضة ومتناقضة تناقض التيارات والمدارس الفنية، لكنه في هذا المجال حينما يُحاصر يستطيع أن يجد منفذا، لأنه بالأساس تاجر في مجال الفن، أما في مجال فن العمارة فلم يكن سوى استعراضي بائس لم يجد من مفر سوى إثارة البلبلة ثم التراجع.

-                     بدأت أخاف منه. لم انتبه لهذا الأمر فيه.

-                     على أية حال. أرجو أن تنتبه لنفسك. سأحاول الاتصال بك على المكتب. هل يمكنني ذلك. ؟

-                     بكل تأكيد.

-                     هل أنت وحدك في المكتب أم مع شركاء. ؟

-                     لا. المكتب لي وحدي.

-                     هل لديك مكتب سكرتارية.

-                     نعم. لدي سكرتيرة.

-                     ألا يضايقك أن أتصل بك. ؟

-                     أبدا. وأتمنى أن تشرفيني بزيارة المكتب.

-                     هذا شيء صعب. لا أعدك فيه. فكل حركة من حركاتي محسوبة. وزوجي آدم يعرفها أو يجب أن يعرفها، بل هو يسأل المساعدة في خدمة البيت عن تحركاتي وتصرفاتي حتى داخل البيت، لا لأنه يشك في، لا وإنما يخاف عليّ ويريد أن يوفر لي كل سبل الراحة كما يقول، علما أن هذا يضايقني جداً، لأني أشعر وكأني سجينة حبه واهتمامه، إلى جانب أنه لا يأتمن الوضع في البلاد، إذ أحيانا يسرني بأن بعض رجال القمة يرسلون إلى الشوارع من يلتقط لهم النساء الجميلات كي يخطفوهن، أو يصلوا إليهن، وإلى أزواجهن بطرق ملتوية آخرها التهديد. بالمناسبة، هل هذا صحيح أم أنه يريد أن يخيفني فحسب. ؟

أحس آدم المطرود ببعض الخوف، أحس أنه يدخل منطقة مليئة بالألغاز، لكنه أرتاح بأن حواء الصايغ وزوجها آدم الولهان ليسا من أتباع السلطة، لذا يمكن الحديث معها بحرية، فقال:

-                     هذا صحيح جدا. فالسيد الرئيس وأبناؤه لديهم فرق خاصة تقوم بهذه المهمة، بل ويقال إن المنظمة النسائية التابعة لحزب السلطة مهمتها توفير الفتيات الجميلات للمسؤولين الحزبيين وحسب الأهمية والمنصب.

شحب وجه حواء الصايغ قليلا وقالت بخوف:

-                     أين نعيش نحن. ؟ وفي أي البلاد هذه. ؟

أراد آدم المطرود أن يغير مسار الحديث ليعود إلى زيارة مكتبه، فقال:

-                     على أية حال. لا أريد أن أضايقك، لكن يشرفني زيارتك لمكتبي.

نظرت إليه وكأنها فهمت ما يرمي إليه، فقالت مع ابتسامة مرتبكة لا تنسجم مع ملامح الخوف التي سبقتها:

-                     دعنا من هذا حاليا، سنفكر فيه لاحقا. بيننا التليفون، وأنت أيضا يمكنك زيارتنا بشكل متواصل، لكن علينا الانتباه، فزوجي آدم صرت تعرفه جيداً. يجب أن تكون زياراتك بحضوره كي لا يشك بشيء، إلى أن يعتاد على حضورك، رغم أنه لا يثق بأحد.

في هذه اللحظة رن جرس الهاتف، وبعد لحظات جاءت المرأة التي تساعد في أمور خدمة الشقة وقالت لحواء الصايغ:

-                     السيد آدم على التليفون.

-                     سآتي.

في هذه اللحظة نهض آدم المطرود ومد يده مصافحا، وقال:

-                     علي الذهاب أيضا، شكرا على القهوة.

مدت يدها مصافحة أيضا ونظرت في عينيه بعمق وقالت:

-                     سأتصل بك. متى هو الوقت الملائم للاتصال كي لا أعيقك عن عملك. ؟

-                     بعد الثالثة دائما. أكون حينها وحدي تماما.

-                     وقبل ذلك. ؟

-                     قبل ذلك أيضا. يمكنك الاتصال. ستجيبك السكرتيرة.

-                     لا. يفضل أن تكون أنت على الخط وليس السكرتيرة. لا أريد أن ينتبه أحد لذلك. المهم سأتصل بك بعد الثالثة من كل يوم أستطيع فيه الحديث معك. شكرا لمجيئك.

وضغطت على كفه وبقيا للحظات قصيرة ينظر كل منهما إلى الآخر، وخرج.

**********

دخل المحقق آدم التكريتي إلى غرفة التحقيق الواسعة وكأنها قاعة كبيرة، والمعتمة إلا من مصباح يتدلى من السقف الإسمنتي وينشر ضوءه الفقير على مساحة قليلة فوق رأس المهندس آدم المطرود والطاولة التي أمامه وكذلك رأس المحقق آدم التكريتي الذي جلس على الكرسي المقابل. نظر المحقق إلى آدم المطرود وسأل بنبرة قوية واستفزازية:

-                     هل فكرت. ؟ أخبرني الآن عن كل شيء، لماذا قتلت السيدة حواء الصايغ. ؟

ارتسمت ملامح الرعب على وجه آدم المطرود وقال:

-                     أنا لم أقتل حواء الصايغ. ؟ ولماذا أقتلها. ؟

ابتسم آدم التكريتي ابتسامة صفراء مليئة بالحقد البارد وقال بهدوء مصطنع:

-                     نحن نريد أن نعرف لماذا. ؟

كرر آدم المطرود بصوت حاسم قوله:

-                     أنا لم أقتلها؟

قهقه آدم التكريتي ساخراً بطريقة مصطنعة، ثم قال غاضبا بطريقة استفزازية:

-                     رجعنا إلى نقطة الصفر. لا تجبرني أن أنتزع الاعتراف منك بالقوة، هل تفهم. ؟

-                     أنا لم أقتلها.

صاح آدم التكريتي به غاضبا:

-                     أسمعني جيدا. كل الدلائل تشير إليك، بل لدينا معلومات خطيرة عنك، كنا نتصور أنك أحد الناس المؤيدين للحزب والثورة واتضح لنا العكس.

 ارتعب آدم المطرود عند سماع هذه الكلمات، فالقضية أخذت مجرى آخر، لقد كان مطمئنا خلال الأيام الماضية من البراءة، لكن القضية الآن أخذت بعداً سياسياً، ولم يفهم الذي يقصده المحقق. فقال مرعوباً:

-                     أنا دائما كنت مع الحزب والثورة. منذ أيام الثانوية ولحد الآن. وأنتم تعرفون أنه ليس لدي أي شيء يسيء للحزب والدولة. وليست لدي أية اهتمامات سياسية أصلاً.

صمت آدم التكريتي لحظة، ثم قال له بطريقة مراوغة:

-                     من كان يزورك في مكتبك أيام تمرد عملاء إيران ضد الحزب والثورة؟

-                     لا أحد.

-                     لا أحد؟ هل تستغفلنا أيها الحقير!

فجأة، وبدون أي توقع، أحس آدم المطرود بصفعه قوية ومدوية على وجهه فكاد أن يقع عن كرسيه إثرها.

-                     حقير. نحن نعرف كل شيء عنك وعن نشاطك ضد الحزب والثورة.

-                     أقسم لكم بكل المقدسات لم يزرني أحد في مكتبي غير سكرتيرتي.

-                     ومن غير السكرتيرة. ؟

-                     لا أحد. ؟

صفعه المحقق آدم التكريتي ثانية صفعة أقوى من الأولى فسال دم من شفتيه، وهو يقول:

-                     وهذه كي تتذكر أيها السافل الحقير. كنا نحترمك لكن اتضح أنك لا تستحق سوى أن نضع الخراء في فمك يا حقير. ألم تقابل المقاول آدم الحلي في مكتبك. ؟

تذكر آدم المطرود أنه قابل هذا المقال المدعو آدم الحلي الذي يكلفه بانجاز مقاولاته التي يحصل عليها من الدولة، وأن لهذا المقاول علاقات وطيدة بأزلام السلطة، وأنه لم يزره في المكتب سوى مرتين، وفي كلا المرتين لم يكن أحد في المكتب، فحواء اللهيبي كانت غائبة عن الدوام تلكما اليومين.

صاح المحقق آدم التكريتي متجها بندائه صوب باب الغرفة:

-                     أيها الضبع. يا آدم الضبع.

دخل الغرفة رجل طويل القامة بشكل لافت، مفتول العضلات، أسود البشرة، كريه الملامح، واقترب على مسافة من المحقق مستعدا بحركة عسكرية قائلا:

-                     نعم سيدي.

-                     شد وثاق هذا الكلب الأجرب إلى الكرسي كي نؤدبه.

تقدم المدعو آدم الضبع قليلا ليتأمل آدم المطرود، ثم قال موجها كلامه للمحقق آدم التكريتي:

-                     لحظة سيدي، سآتي بالحبال.

خرج المدعو آدم الضبع من القاعة. أحس آدم المطرود بالرعب، فبرغم الخدر والورم اللذين يحسهما في وجهه أثر الصفعتين، إلا أنه يخاف التعذيب الجسدي، ولا يتحمله، وهو مستعد أن يقول لهم أي شيء يريدونه، لكنهم يسألونه عن أشياء ليست لديه علاقة معها، فهو لم يقتل حواء الصايغ، وليست لديه أية نشاطات سياسية، ولم يخطر في باله أي شيء يمكن أن يفسر بأنه يعارض النظام. إنه لا يفهم ما يدور حوله.

كان المحقق آدم التكريتي يدخن سيجارته وينفث الدخان إلى الأعلى ويتأمل تطايره في غيوم صغيرة تتعالى نحو المصباح ثم تتبدد في العتمة التي تحيط الغرفة من جميع جوانبها.

دخل المدعو آدم الضبع إلى الغرفة ثانية وبيده حبل متين. اقترب من آدم المطرود وأخذه من يديه التي سحبهما إلى الخلف على جانبي الكرسي وبدأ يشدهما إلى الكرسي ثم بدأ يدير الحبل على صدره ورجليه، إلى أن صار المهندس جزءا من الكرسي. وكان المهندس آدم المطرود مستسلما لمصيره. وفي تلك اللحظات بالذات حاول أن يستذكر وجه حبيبته حواء الصايغ وهي قتيلة فلم يستطع، لكنه استذكرها في مواقف أخرى.

**********

كان آدم المطرود ذلك اليوم ينتظر اتصال حواء الصايغ التليفوني بلهفة شديدة. كان يستعجل نهاية الدوام، وكانت السكرتيرة حواء اللهيبي مستغربة الحالة التي هو فيها، إذ كان يسألها في الوقت على الرغم من وجود ساعة جدارية في مكتبه. وساعة يديوية في معصمه. بدأت تلاحظ قلقه وانتظاره ولهفته، ثم عند نهاية الدام بقي في المكتب متحججاً بأنه مشغول بروايته الجديدة. وانتبهت هي في الأيام التالية إلى أنه كان تائها ومشغول البال.

وفي أحد الأيام خلال تلك الفترة جاءت حواء اللهيبي إلى المكتب وبيدها كيس من النايلون. وضعته في جرار مكتبها، وكانت متلهفة على غير عادتها. انتبه آدم المطرود إلى أنه لم يمسها منذ أيام، وربما هذا سيثير تساؤلاتها، فأخذ يداريها ويمازحها قليلا، قائلا إنها تزاد جمالا يوما بعد يوم، فابتسمت له قائلة:

-                     سأريك اليوم ما لم تره مني.

-                     ماذا، هل هي مفاجئة.

فقالت بدلال وغنج أنثوي محبب:

-                     نعم.

وعند الساعة الثالثة أقفلت السكرتيرة باب المكتب الخارجي، وأخذت كيس النايلون من مكتبها ودخلت غرفة الحمام، وبعد قليل خرجت مرتدية قميصاً حريرياً أحمرَ يكشف عن جسدها المثير. وقفت السكرتيرة حواء اللهيبي عند باب غرفة المكتب متخذة وضعا مثيراً، نظر آدم المطرود إليها بذهول واضح وقال:

-                     هل هذه هي المفاجأة. ؟

-                     نعم. ما رأيك. ؟

-                     رائعة. رائعة.

ونهض من مكتبه متجها نحوها فأرادت أن تتحرك من مكانها فأشار إليها سريعا قائلا:

-                     أبقي في مكانك هكذا.

بقيت حواء اللهيبي جامدة في مكانها، فاقترب منها وجلس على الأرض، ثم أدخل رأسه تحت ثوبها مغطيا نفسه داخله بالكامل، وهناك وجدها عارية، حليقة، رطبة، فأخذ يقبلها من فخذيها ثم صعد إلى ما بينهما، ولم تستطع هي الصبر أكثر، فقد كانت أمواج اللذة تتلاطم على ساحلها، فتحركت رافعة ثوبها إلى الأعلى دافعة إياه إلى أن يستلقي على الأرض ثم تربعت جالسة، وبحركة جنونية فتحت أزار سرواله وحزامه وسحبتهما إلى الأرض، ومسكت بعضوه، وأولجته فيها، وأخذت تصعد وتنزل وهي تصرخ من اللذة. سيطرت عليه لبعض الوقت لكنه كان هائجا كالثور، فمسكها من وسطها وانقلب معها على الأرض وهو داخل فيها، فأخذت تصرخ لاهثة:

-                     أريد منك طفلا. أريد منك طفلا. أملأني بمائك. أملأ رحمي بمائك وبذورك. أفديك بعمري وروحي أمنحني طفلا منك.

خلال حمى التحامهما الجسدي رن جرس التليفون لكنهما لم ينتبها إليه، وحينما أصاخ هو إلى رنين الهاتف كان الرنين قد توقف فظن أنه يتوهم الرنين، وبرغم ذلك ظل قلقاً حتى بعد أن هدأت ثورتهما. كان ثمة هاجس يسيطر عليه بأنه سمع رنين جرس التليفون وأن حواء الصايغ قد اتصلت، لكن في الوقت الخطأ.

**********

في مساء ذلك اليوم نفسه كان آدم المطرود يحوم حول المبنى الذي فيه شقة حواء الصايغ. أراد أن يصعد إليها لكنه لم يجد العذر المناسب. فهي لم تتصل به كما وعدت. وكذلك لم يتصل به زوجها آدم الولهان. لذلك وجد نفسه محرجا بالصعود إليهما، فرجع إلى المكتب ليبقى فيه إلى وقت متأخر جداً، ولم يكن يرغب بمغادرة المكتب فنام هناك.

وفي الصباح الباكر وقبل مجيء السكرتيرة حواء اللهيبي رن جرس التليفون. فنهض متكاسلا وحينما رفع السماعة جاءه صوت آدم الولهان مرحاً:

-                     صباح الخير أستاذ آدم.

-                     صباح الخير أستاذ آدم.

-                     أين أنت يا رجل. افتقدناك. لم تزرنا منذ فترة. أرجو أن يكون المانع خيراً.

أحس بدفق من السعادة بدأ يبلل فيافيه العطشى، فقال مصطنعاً الصبر:

-                     والله ظروف العمل يا أستاذ آدم. ما هي أخباركم. ؟ أنا افتقدتكم أيضا. كيف حال مدام حواء؟

-                     إنها بخير وتسأل عنك. هل لديك اليوم ما يشغلك عن العشاء عنا؟

-                     لا أبداً. يشرفني ذلك.

-                     سيكون آدم جورج الشماس معنا أيضاً. سيغادر غداً إلى باريس، بالمناسبة إنك أعجبته جداً. ويسعده أن يلتقي بك ثانية.

-                     يسعدني ذلك.

كان ذلك الصباح بشير خير لآدم المطرود. وحينما وصلت السكرتيرة حواء اللهيبي وجدته يحلق ذقنه في غرفة الحمام، فاستغربت ذلك. وأخذت تفتش في المكتب وفي غرفته عن آثار لامرأة ما فلم تجد شيئاً، بينما كان صوته يأتي لها مرحاً وهو يصفر لحنا لأغنية شائعة.

**********

ما أثار استغراب آدم المطرود أن مشهد الزيارة تكرر بتفاصيله وكأنه فيلم معاد، فعندما دخل إلى مدخل البناية جاءه حارس الأمن نفسه ليسأله السؤال نفسه، وعندما ضغط زر المصعد، وحينما وصل وقبل أن تغلق أبوابه دخل العجوز وزوجته اللذان يسكنان الطابق الأول، سلّما عليه وابتسما له. وتكرر وجه المرأة التي تساعد في الخدمة، التي فتحت له الباب، ودعته للجلوس في الصالة، حيث جلس على نفس المقعد الذي جلس عليه سابقا عند زيارته الأولى والثانية.

أحس وكأنه يحلم، لكن الذي أكد له حقيقة ما يرى هو دخول حواء الصايغ، بثوبها الحريري الرماني اللون ومعها زوجها آدم الولهان، الذي كان في بدلته الرمادية وقميصه الأبيض وربطة عنقه الحمراء، حيث رحبا به بحرارة وتبادلا الأخبار والجمل التقليدية في الترحيب العراقي.

فجأة، رن جرس الباب فقام آدم الولهان بنفسه ليفتحه. وبعد لحظات دخل آدم جورج الشماس وهو في بدلته الزرقاء الأنيقة، وبيده كيسا من النايلون وشيئاً آخر ملفوف بورق الهدايا الثمينة، وتقدم من حواء الصايغ محييا وهو يمد لها ما بيده قائلاً بطريقة احتفالية كعادته:

-                     كل عام وأنت بألف خير أيتها الحواء الجميلة الرائعة، يا آلهة الجمال والسحر والعطاء.

وقدم لها هداياه، ابتسمت له وفي عينيها نظرات الشكر والامتنان وقالت:

-                     شكراً جزيلا آدم. ليس من داع لكل هذا. حضورك يكفي.

امتقع وجه آدم المطرود وأحس بالخذلان، فقال لآدم الولهان بأسى حقيقي وغضب خفي:

-                     لماذا لم تقل لي إن اليوم هو عيد ميلاد مدام حواء الصايغ وإنني مدعو للاحتفال معكم بهذه المناسبة.

انتبه آدم الولهان لاستياء آدم المطرود من عدم إخباره بالمناسبة لأنه جاء بدون هدية، فقال له:

-                     لا عليك. حضورك يكفي. نحن عادة نكون خارج العراق في مثل هذه الأيام من الصيف، وكثيراً ما نكون في باريس، لكننا هذه السنة هنا، ولم نعرف أن كان الوضع يسمح للخروج إلى أحد المطاعم فقررنا الاحتفال هنا في البيت. وآدم جورج الشماس هذه السنة هنا أيضا، وهو يعرف أن 7/7 من كل عام هو تاريخ ميلاد حواء الصايغ. فلا تتأثر رجاءً. حضورك هو أجمل هدية.

وهنا ابتسم آدم الشماس وقال ضاحكا:

-                     لا يظل بخاطرك يا رجل. ربما هذا من حسن حظي، فربما كنت ستجيء بهدية أفضل من هديتي.

فضحكوا جميعا، وهنا بدأت حواء الصايغ تكشف عن هدايا آدم الشماس فمزقت الورق الثمين عن الشيء الملفوف فيه فكشف عن تمثال مرمري مستنسخ لأفروديت العارية، والتي كان جسدها شبيها بجسد حواء الصايغ، فأطلق آدم الولهان صرخة إعجاب بينما ابتسمت حواء الصايغ ونظرت إلى آدم جورج الشماس بامتنان قائلة:

-                     ألف شكر آدم. التمثال جميل جداً.

فقال لها آدم جورج الشماس وهو يتألق من كلمات الشكر التي سمعها من حواء الصايغ:

-                     في الكيس عطر فرنسي أصيل غير العطور المغشوشة التي تنتشر في محلات بغداد.

فتحت حواء الصايغ كيس النايلون وأخرجت قنينة العطر المغلفة، وفتحتها ثم شمتها قليلا وقالت:

-                     رائع جداً. هذا آخر إصدار لمجموعة شنيل من العطور. شكراً.

التفت آدم جورج الشماس إلى آدم المطرود فرأى الخيبة مرتسمة على وجهه، فقال مداريا الموقف:

-                     لا عليك أستاذ آدم. امرح. لا شيء يحدث. لا أحد يجيء. الكل باطل وقبض ريح. لا تحزن إن الله معنا يا صديقي.

جلسوا جميعا. لم يفهم آدم المطرود شيئاً من التدفق اللغوي غير المترابط من جمل الأدب العبثي مع آية سفر الجامعة الشهيرة والآية القرآنية المعروفة أيضا. والتي نطق بها آدم جورج الشماس بشكل مترابط وغير مترابط. ولم يشأ أن يدخل معه في أي نقاش حول ذلك. فتوجه إلى حواء الصايغ بكل كيانه قائلا:

-                     كل عام وأنت بألف خير يا سيدتي، رغم أني أشعر بالغضب لأني لم استطع أن أقدم إليك شيئا في مثل هذا اليوم المتميز.

-                     لا عليك أستاذ آدم، نحن تقصدنا أن لا نخبرك بذلك فأهم شيء أن نلتقي ونحتفل، ويمكنك أن تعوض عن هديتك بحديثك وبحضورك المتميز، وكما قال زوجي آدم فإن حضورك هو أجمل هدية.

قالت ذلك وهي تضع الهدية على طاولة جانبية، وتدعو الجميع إلى صالة الطعام التي كانت تتوسطها طاولة الطعام المنظمة بشكل دقيق.

**********

حينما فتح آدم الولهان قنينة الشمبانيا أطلقت صوتاً احتفالياً يبعث البهجة في النفس، فسكب في الأقداح المخصصة لذلك. رفع الجميع كؤوسهم، وشربوا بصحة السيدة حواء الصايغ، ثم دعتهم إلى تناول أنواع الطعام والمقبلات المختلفة، وحينما خيّرهم آدم الولهان بين شراب الجن أو أنواع العرق أو الويسكي، رفض آدم المطرود أيا ً منها وسأل إن كان هناك نبيذ أحمر ناشف، فابتسم آدم الولهان. وأتي بزجاجة من النبيذ الفرنسي الأحمر الجاف وفتحها، ثم سكب له في قدحه ووضع القنينة أمامه. ، بينما صب آدم جورج الشماس لنفسه كأسا من العرق اللبناني، وصب آدم الولهان كأسا من الويسكي، أما حواء الصايغ فظلت ممسكة بكأس الشمبانيا الذي مسته مسا ًبشفاهها مجاملة لهم ولم تشرب منه شيئا.

التفت آدم الشماس إلى آدم المطرود وسأل بمودة مشوبة بإستفزاز:

-                     سمعت أنك تجيد التركية إلى جانب الانكليزية!

-                     نعم. لقد درست في تركيا لذلك أجيد تلك اللغة.

فسألته حواء الصايغ بلطف:

-                     هل هي لغة جميلة؟

صمت آدم المطرود للحظات. انتبه إلى أنها ليس وحدها في المكان فقال بشكل ودود لكن محايد:

-                     لا أدري. أعتقد كل لغة يعرفها الإنسان تكون بالنسبة له جميلة، فما دام يستطيع أن يعبر عن نفسه ومشاعره من خلالها فأنها ستكون بالنسبة إليه لغة جميلة.

علق آدم الولهان مؤكداً ومجاملاً:

-                     هذا صحيح.

-                     هل تقرأ الأدب بهذه اللغة. ؟ سألته حواء الصايغ

-                     معظم آداب العالم مترجمة إلى التركية، ربما أكثر بكثير مما هو مترجم إلى العربية، إلى جانب أنها لغة شعرية جميلة. من يستمع إلى قصائد ناظم حكمت وغيره من الشعراء بلغتها الأصلية سيعرف جمال هذه اللغة.

-                     ناظم حكمت شيوعي. علق آدم جورج الشماس

أحس آدم المطرود باللؤم الكامن في تعليقه فقال بنبرة يشوبها رفض خفي:

-                     لا يعنيني تفكيره السياسي. فشعره رائع. صحيح أن معظم شعره سياسي، لكن لديه قصائد كتبها إلى زوجته منور أو قصائد كتبها عن لسان زوجته منور هي في ذرى الجمال والبساطة والرقة الإنسانية.

-                     يبدو أنك متحمس له.

واصل آدم جورج الشماس تعليقه المستفز. فقال آدم المطرود بهدوء متجنبا أية محاولة للإستفزاز:

-                     أنا متحمس للجمال. متحمس للشعر وليس للشاعر.

نظرت حواء الصايغ إليه نظرة لم يفهمها سواه، نظرة فيها من التحذير والتذكير الكثير، وقالت له:

-                     لتكن هديتك لي هي أن تقرأ قصيدة بالتركية وتترجمها لنا بالعربية. لكن المهم أن نسمع كيف سيكون وقعها على آذاننا بلغتها الأصلية.

-                     إنه مقترح رائع. قال آدم الولهان مؤيداً زوجته.

أحس آدم المطرود بحرج حقيقي، لكن من طلب ذلك هي ملاكه حواء الصايغ، فكيف يرفض، لذا قال محرجاً:

-                     أوه. عليّ في هذه الحالة أن أستحضر أية قصيدة من جرار ذاكرتي. صحيح أني درست الهندسة بيد أني كنت مولعا بقراءة الشعر بالتركية، وحفظت الكثير منه، وترجمت منه أيضاً. لكني الآن وبعد مرور كل هذه السنين نسيت الكثير.

-                     لا تتهرب من إسماعنا شعرا بالتركية ولشاعرك المفضل ناظم حكمت! علق آدم جورج الشماس

صمت آدم المطرود لحظات ثم رفع كأسه وقال:

-                     في صحة السيدة حواء الصايغ. سأقرأ قصيدة كتبها ناظم حكمت عن لسان زوجته، وهي بعنوان: رسالة من استنبول، حيث أرسلت له زوجته منور رسالة حينما كان في السجن فصاغها هو شعراً.

كانت جميع العيون متعلقة بوجهه، لكن النظرات كانت تخبئ مشاعر مختلفة، وبعد لحظات صمت مهيب انطلق آدم المطرود يقرأ بالتركية. قصيدة ترجمها وبدأ يلقيها بعد الإنتهاء من إلقاء القصيدة بالتركية:

عزيزي،

أكتب إليكَ من حيث أستلقي،

لأني تعبة.

رأيت اليوم وجهي في المرآة. إنه ممتقع،

فالهواء بارد، والصيف لن يأتي،

وأنا أحتاج حطبا ًبثلاثين ليرة في الشهر،

ومن أين لي بذلك. ؟

لهذا لففت نفسي ببطانية،

فيما أنا جالسة اشتغل.

الزجاج متكسر، وإطارات النوافذ محطمة،

والسكن، هنا، غير ممكن،

لذا عليّ الرحيل،

فالبيت سينهار، والإيجار مرتفع جداً.

لماذا أقول كل هذه الأشياء. ؟

أنا أعرف انك ستغتم،

ولكن لمن أشكو همومي. ؟

لا تؤاخذني،

فإذا كانت النهارات باردة، باردة جداً،

فكيف هي الليالي. ؟

لقد ضقت ذرعاً، مللت البرد،

بينما أرى أفريقيا في الحلم،

وفي الحلم سافرتُ إلى الجزائر، كان الجو حاراً،

وأصبت برصاصة في جبيني، فسال دمي،

لكني لم أمت.

صرت أحس بالشيخوخة كثيراً،

مع أنك تعلم أني دون الأربعين.

أقول هذا، فيغضبون، ويلومونني،

وعلى كل حال، لنغلق هذا الحديث.

**************

لقد أطلت الرسالة جداً،

أعتن بنفسك، وأكتب الجواب حالا،

لا تنسني،

اكتب الجواب حالا، ولا تخدعك نفسك،

فتتوهم أن (منور) حكيمة، وتدبر كل شيء

فأنا من دونك مقصوصة الجناح.

لا تنسني،

اعتن بنفسك،

أقبلك من عينيك يا روحي،

جاوبني بسرعة،

لا تحمل همومي،

انسها،

ولكن لا تنسني.

كان آدم المطرود يقرأ القصيدة بنبرة حزينة مستحضراً حالة منور زوجة الشاعر ناظم حكمت، فتأثر الجميع بالإلقاء وبإيقاع اللغة التركية، مثلما تأثروا عندما قرأ ترجمتها بنفس الحرارة والتجسيد، فترقرقت الدموع في عينيّ حواء الصايغ فأخذت منديلا من على الطاولة لتمسح زوايا عينيها من دموع على وشك الانهمار. ران صمت بليغ للحظات على الجميع، قطعه صوت آدم الشماس قائلا:

-                     أشهد أنها لغة جميلة رغم أني لا أحبذها حينما اسمع الأتراك يتحدثون فيها في باريس أو حينما أكون في برلين.

-                     إنها قصيدة رائعة. بسيطة ومعبرة جداً. لكنها ليست طويلة كما تقول زوجة الشاعر في القصيدة، علق آدم الولهان

فقال آدم المطرود منتبها لدقة ملاحظة آدم الولهان:

-                     إنك دقيق جداً أستاذ آدم. نعم القصيدة في الأصل طويلة جداً، ولقد حذفت منها أثناء القراءة ما يعادل ضعفيها، لأني لم أتذكر تلك المقاطع جيداً.

وفعلا فأن آدم المطرود حذف أثناء القراءة مقاطع طويلة من القصيدة ليس بسبب النسيان، وإنما لأن تلك المقاطع ذات نبرة سياسية، ولم يشأ أن يؤكد ما قاله آدم جورج الشماس عن شيوعية ناظم حكمت. أما حواء الصايغ فقد تلبسها حزن شديد فغادرت المائدة معتذرة، واعدة أن تعود بعد قليل. ! حينها خيم وجوم على الجالسين. فجأة قال آدم الولهان محاولا أن يضفي شيئاً من المرح على الجلسة فقال:

-                     النساء خلقن هكذا. إنهن عاطفيات جداً. يتأثرن بقصيدة بحيث تنقلب أحوالهن.

-                     أنا آسف جداً. لم أكن أعرف أنها سوف تتأثر إلى هذه الدرجة. !

قال آدم المطرود معتذرا ومقدما تبريراته.

-                     لا عليك أستاذ آدم لم يكن قصدك أن تحزنها، والذنب هو ذنبي أنا الذي فتحت موضوع اللغة التركية. علق آدم جورج الشماس.

بعد قليل عادت حواء الصايغ إليهم بمرحها السابق نفسه، وكأنما لم يحصل أي شيء، فقالت بما يشبه الاعتذار:

-                     أنا آسفة جداً. لم يكن الأمر بيدي. لقد أثرت القصيدة فيّ جداً، على أية حال الشكر موصول للشاعر ولقارئ القصيدة ومترجمها على هذه الهدية الجميلة.

-                     والحزينة. علق آدم جورج الشماس

**********

انتبه آدم المطرود إلى صوت المحقق آدم التكريتي وهو يصرخ في وجهه شاتما:

-                     أيها الحقير أنا أتحدث معك.

-                     نعم.

-                     ما هي علاقتك بالمجرم الخائن آدم الحلي.

-                     ليست لدي أية علاقة معه.

لم يشعر آدم المطرود إلا وبلكمة قوية جداً تأتيه من آدم الضبع على أسفل فكه تحت شحمة الأذن مباشرة، فانقلب مع كرسيه على الأرض وهو يرفس برجليه مثل الذبيحة لا يستطيع تحريك فكه ووجهه، بل ولا يستطيع حتى أن يطلق صرخة الوجع، إذ أحس بالشلل والاختناق وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثم غرق في الظلام.

لا يدري كم مر عليه من الوقت وهو ملقى على الأرض، لكنه انتبه لنفسه وهو مبتل بالماء البارد، فقد دلق عليه آدم الضبع دلوا من الماء البارد فأفاق، ثم بحركة رياضية أعاد الكرسي وهو مشدود عليه إلى وضعه الطبيعي.

حاول أن يفتح عينيه بصعوبة فوجد المحقق آدم التكريتي ما زال جالسا يدخن سيجارته مادّا رجليه إلى الأمام واضعا إياهما على المنضدة بمواجهته. نظر المحقق آدم التكريتي إليه ثم علق بسخرية:

-                     ها. ماذا تقول الآن عن علاقتك بالخائن آدم الحلي.

لم يستطع آدم المطرود أن يفتح فمه من شدة الألم، أراد أن يجيب لكن فكه كان كالمشلول من أثر اللكمة فلم يستطع سوى أن يحرك شفتيه بدون أن يخرج أي صوت من فمه. فجأة مد المحقق يده وسحب رأسه من شعره وضربها بالطاولة ثم ضغط عليها بكفه على الطاولة التي بينهما، وهو يزمجر:

-                     حقير، جبان، منيوك، عرفنا كل شيء عنك، حتى طريقة نيكك لسكرتيرتك عرفناها، حقير، تريد أن تصبح بطلاً ولا تتكلم. لقد أخبرتنا سكرتيرتك التي زرناها أمس في المكتب عن كل شيء، وكيف كنت تنيكها من الخلف، هل أنت شاذ؟ طيب، سأترك آدم الضبع ينيكك هنا وفي هذه الغرفة، حتى تعرف أننا نعرف كل شيء. بالمناسبة، سكرتيرتك اعترفت بكل شيء، وقالت لنا إنك في الفترة الأخيرة كنت تبقى بعد الدوام بحجة أن لديك أعمالاً وإنك تكتب رواية جديدة. عن ماذا تكتب؟ عن كس أمك. ؟ كما أخبرتنا سكرتيرتك عن علاقتك بعائلة آدم الولهان، وعن زياراتك لهم. ؟ هل لسكرتيرتك علاقة بخيانتكم للحزب والثورة. ؟ هل تريد أن تورط زوجها من خلال علاقتك الجنسية معها لتبتزه إذ لم يتورط معك. ؟ لقد ذهبنا أنا والضبع أمس إلى مكتبك ونكناها معا أنا وهو، وصورنا ذلك، هل تريد أن نريك كيف نكناها، وكيف كانت ترتجف من اللذة. ؟ هل تريد أن تتأكد من ذلك؟

كان آدم المطرود يسمع كل شيء، يستوعب كل كلمة قالها المحقق آدم التكريتي، ويتصور الذي جرى في مكتبه مع سكرتيرته حواء اللهيبي، فسالت الدموع من عينيه شفقة على نفسه وعلى السكرتيرة التي أحس في هذه اللحظات أنه يحبها حباً كبيراً. وعلى الرغم من أنه في تلك الحالية المرعبة إلا أنه استغرب اكتشاف تلك المودة التي يكنها لحواء اللهيبي. إلّا أن صوت المحقق آدم التكريتي أخرجه من خواطره الغريبة. سمع المحقق يصرخ عليه:

-                     هل تعترف لنا بأنك والخائن آدم الحلي وسكرتيرتك وزوجها معادون للحزب والثورة والرئيس القائد حفظه الله. ؟

هز آدم المطرود رأسه نافيا، فما كان من المحقق آدم التكريتي إلا أن صرخ في وجه آدم الضبع الذي يقف بالقرب من الكرسي والذي شد آدم المطرود إليه:

-                     يا ضبع. هذا الكلب لا يريد أن يعترف. أريدك أن تنيكه مثلما كان ينيك سكرتيرته، أو مثلما نكتها أنت أمس، كي يعرف أننا لا نلعب مع من يعادي الحزب والثورة والرئيس القائد حفظه الله. حضر الكاميرا أيضا.

استعد آدم الضبع بحرك عسكرية وقال:

-                     حاضر سيدي، الكاميرا جاهزة أيضا. هل أقوم بالواجب الآن سيدي. ؟

-                     نعم. الآن. وأمامي. أريدك أن تشقه شقا فأنت وأيرك الذي يشبه أير الحمار متخصص لهذه المهمة. أنجز عملك بسرعة. وأمامي.

وبحركة سريعة جذب الشرطي آدم الضبع المهندس آدم المطرود ليحل وثاقه عن الكرسي وليلقيه على المنضدة، على وجهه بحيث يبقى ظهره ومؤخرته مكشوفة له. أخذ الحبل ليشد يديه الممتدتين والمتدليتين من طرف الطاولة من جهة المحقق بأطراف المنضدة، ثم نزع بنطاله وسرواله دفعة واحدة، وذهب للحظات وجاء وفي كفه مرهم مسد به فتحة شرج المهندس، ومسد عضوه الكبير بالمرهم أيضا، ثم اقترب من آدم المطرود الذي كان ملقى على الطاولة كالذبيحة.

لم يمر آدم المطرود بتجربة مؤلمة في حياته مثلما مر خلال هذين الأيام الأربعة، فحينما اقترب آدم الضبع منه، أحس أن العالم كله يدخل فيه، أحس بالاختناق والتمزق، جحظت عيناه وأرادتا أن تقفزا من محجريهما لو كان ذلك ممكنا. أحس بالإذلال والانحطاط، وفجأة شعر برغبة بالتبرز، ولا إراديا تدفق برازه ملوثا الضبع وجسده والأرض.

ابتعد آدم الضبع عنه وهو يسب ويشتمه، بينما تعالى ضحك المحقق آدم التكريتي عاليا، بل اختنق من شدة الضحك، فتركهما خارجا من الغرفة، وغرق آدم المطرود في الظلام.

**********

لم يكن آدم المطرود يعرف ما جرى خلال الأيام الأربعة الماضية، منذ لحظة دخوله إلى مبنى جهاز التحقيقات. ففي اليوم نفسه، الذي تم استدعاؤه فيه، تم إلقاء القبض على المقاول آدم الحلي نتيجة إخبارية كيديه رفعها إلى جهاز المخابرات والمنظمة الحزبية أحد المسؤولين الحزبيين الذين كان يتعامل مع المقاول آدم الحلي، وكانا قد تناقشا عن تدهور الوضع السياسي أيام الانتفاضة الشعبي المجهضة قبل ثلاث سنوات، وانتقد كلاهما النظام، لكن بعد سيطرة النظام على الوضع وقمع المنتفضين ظل كلاهما يخاف أحدهما الآخر، وحينما وقع المسؤول الحزبي في إشكالية مالية وشخصية لمنحه بعض المقاولات التي أرادها المسؤولون الأعلى لأنفسهم، وضعوا له شركا سياسيا لكنه كان يظن أن آدم الحلي هو الذي قام بذلك فرفع فيه تقريرا يكشف عداءه للحزب والثورة ويسرب بعض المعلومات عن علاقاته، فألقي القبض عليه وفي التعذيب اضطر إلى الاعتراف بأنه مع أشخاص آخرين يلتقون ويبدون امتعاضهم من الحزب والثورة، ومن بين هؤلاء المهندس آدم المطرود، الذي كان بين أيدي السلطة في قضية أخرى هي اتهامه بجريمة قتل حواء الصايغ.

لم يقتصر أمر الاتهام بخيانة الحزب والثورة والرئيس القائد على المهندس آدم المطرود بل شمل سكرتيرته حواء اللهيبي وزوجها الذي لا يعرفه ولم يقابله قط، وصديقه المهندس آدم الصاحب أيضا.

تم اعتقال الجميع، بعد أن كبسوا مكتب المهندس آدم المطرود في اليوم الثالث صباحا، حيث أقتحم المحقق آدم التكريتي والضبع وعدد آخر وقفوا عند باب المكتب وفي أسفل البناية التي يقع المكتب فيها.

**********

في ذلك اليوم فوجئت السكرتيرة حواء اللهيبي وخافت، لكنها اطمأنت أول الأمر عند رؤية المحقق آدم التكريتي، فقد كان قد مر على المكتب لمقابلة المهندس آدم المطرود، وتحدث حينها معها، وكانت قد أعجبته بجمالها وأنوثتها.

ما أن دخل المحقق آدم التكريتي وخلفه آدم الضبع حتى مضى إلى حيث تقف حواء اللهيبي التي وقفت مندهشة، خائفة، مترقبة.

نظر المحقق آدم التكريتي إليها وبدون أن ينطق بأي كلمة صفعها بشدة على وجهها فانقلبت متدحرجة على الأرض دافعة كرسيها لعدم قدرتها على حفظ توازنها. لم تستطع السكرتيرة حواء اللهيبي، التي فوجئت بالصفعة القوية أن تقول شيئاً، وحينما أرادت تجميع نفسها وفكرها، سمعت المحقق آدم التكريتي يوجه الشخص الذي معه بأن يذهب ويأتي بالكاميرا، وعليه الانتظار عند الباب إلى أن يناديه.

وبدون رحمة مضى المحقق آدم التكريتي إلى خلف الطاولة وسحب السكرتيرة التي ما زالت ملقاة على الأرض. لاحظ أن ثوبها قد انحسر عن فخذيها، فسحبها من يدها، وسحلها سحلا إلى غرفة مكتب المهندس آدم المطرود. وبينما هو يسحلها حاولت هي المقاومة وهي تصرخ:

-                     لماذا تضربني. ؟ ما الذي فعلته. ؟ هذا اعتداء. ؟

 وحينما وصل غرفة المكتب، ومن دون أن ينطق بشيء رفعها لتقف ثم صفعها على خديها مرات عدة ثم ألقاها على الأريكة المقابلة لمكتب آدم المطرود.

أخذت تستوعب ما يجري بأنه يريد أن يضاجعها، كانت عيناه تبحثان بشبق في عريها. حاولت أن تلملم نفسها، لكن المحقق آدم التكريتي لم يترك لها الفرصة، فقد فتح فخذيها رافعا ثوبها إلى الأعلى وبيده الأخرى فك حزامه ونزع سرواله وأخرج عضوه. لم تستطع السكرتيرة أن تقاومه كثيراً، فقد صرخت صرخة قوية: لا. لا. ماذا تفعل أستاذ آدم. ؟

لكن المحقق آدم التكريتي لم يشغل نفسه بصراخها ومقاومتها الضعيفة، فقد كان يمسك بساعديها في كفه، وبكفه الأخرى حاول أن يدفع سروالها الرقيق جانبا بحيث لا يعيقه ثم أولجه فيها.

استغرب المحقق آدم التكريتي أنها كانت حليقة، رطبة، ومبتلة، ومتهيجة، فدخل فيها بقوة وضغط نفسه بكامل جسده، ثم أطبق فخذيها إلى الأعلى مما سمح له أن يولجه فيها بسهولة وأن يسيطر عليها بالكامل، ويتحرك فيها كالمجنون.

خلال هذه اللحظات القليلة مرت آلاف الاحتمالات والتصورات في ذهن حواء اللهيبي: ما الذي جرى مع المهندس آدم المطرود الذي اختفى منذ ثلاثة أيام؟ وما هو السبب الخطير الذي دفعهم لضربها واغتصابها؟ هل يا تُرى أن المهندس آدم المطرود شريكهم وقد أخبرهم بأنها على علاقة معه، وانه يضاجعها. ؟ ما الذي يجري. ؟ كانت ثمة رعب ممزوج بتهيج ولذة خارجة عن إرادتها.

كان المحقق آدم التكريتي قد قذف بكل حقده فيها، وانسحب منها فانهارت هي عاجزة عن أن تقول شيئا، وأخذت تلملم جسدها، وأرادت أن تنهض لتذهب إلى الحمام كي تغتسل، إذ أن مني المحقق التكريتي بدأ يخرج منها ملوثا سروالها وفخذيها وثوبها، وما أن أرادت النهوض حتى جاءتها صفعة من المحقق، صارخا فيها:

- إلى أين أيتها العاهرة. ؟ إلى أين. ؟ نحن هنا لتخبرينا كل شيء عن مؤامرتكم ضد الحزب والثورة والرئيس القائد حفظه الله. ؟

صعقت السكرترة حواء اللهيبي عند سماعها تلك الكلمات، فانهارت بالكامل دون أن تقول شيئاً. تلك الكلمات تعني التعذيب الجسدي ثم الإعدام. !

خلال هذه اللحظات أقفل المحقق آدم التكريتي حزام سرواله وخرج مناديا آدم الضبع أن يدخل مع الكاميرا، ثم رجع بعد لحظات إلى غرفة المكتب فرأى أن السكرتيرة قد انكمشت على نفسها مذعورة، مرعوبة، ومنهارة، تحدق إلى الفراغ.

دخل آدم الضبع وبيده الكاميرا. نظر المحقق آدم التكريتي إليه غامزا بعينيه أن يغتصبها ثم أخذ الكاميرا من يده ليصور المشهد. بحركة آلية، تقدم الضبع منها، إلا أن المحقق طلب منه أن ينزع ملابسه بالكامل، فنزع عنه قميصه وسرواله وتقدم منها.

كانت هي لائذة بالأريكة فسحبها بخفة ملقيا إياها على الأريكة نازعا عنها سروالها وثوبها، وفاتحا فخذيها إلى أقصى ما يمكن وجلس بين فخذيها، وأخرج عضوه الذي لم يكن منتصبا بالكامل، وقبل أن يدخله فيها أخذ سروالها لينظف فرجها من مني المحقق التكريتي، ثم أخذ يحرك عضوه على فرجها الذي كان طريا. بدأ العضو ينتصب شيئاً فشيئاً، ثم أولجه فيها ويهزه بكل قوته الحيوانية في أعماقها، كانت هي ترتجف، صامتة، تائهة النظرات، ثم فجأة مسكت بيديه وهي ترتعش من اللذة، ولم يسمع منها سوى كلمة: لا، التي دوى المكتب مرددا صداها.

كان المحقق آدم التكريتي يصور عملية اغتصاب الضبع للسكرتيرة حواء اللهيبي بالكاميرا، وحينما انتهى منها تركها تلملم نفسها، تطبق ساقيها على نفسها، وتنكمش لائذة بجانب الأريكة وهي تبكي بكاءً صامتا.

أراد آدم الضبع أن يلبس سرواله إلا أن المحقق آدم التكريتي المنشغل بالتصوير أشار إليه بأن لا يلبس شيئاً، ثم أخذ بالتحقيق معها، سائلا ً عن كل تفاصيل حياة المهندس آدم المطرود، وعلاقاته، وأصدقائه، وعلاقته معها، مهدداً بأنه سيدع جميع الرجال الذين معه وهم أكثر من عشرة أشخاص ينيكونها إذا لم تتكلم بصراحة شديدة معهم، لاسيما وأن المهندس آدم المطرود قد أعترف بكل شيء.

لم تفهم السكرتيرة حواء اللهيبي ماذا يعني المحقق بأن المهندس آدم المطرود قد أعترف بكل شيء. ؟، فلقد كانت في حالة انهيار نفسي كامل، وتشتت فكري هائل، لذلك أخذت تجيبه على جميع أسئلته، ولم يكن أمامها إلا أن تروي له كل شيء، كل شيء.

بعد ذلك طلب منها المعلومات عن حياتها العائلية وزوجها ومكان عمله، وهددها بأنه سيذهب بهذا الفيلم المصور إلى زوجها وأهلها، فانهارت بالكامل.

بعد أن سجل المحقق آدم التكريتي مشاهد الاغتصاب، وكل الأسئلة وأجوبتها عليها، أخذ يفتش في المكتب فوجد خرائط لها علاقة بعمل المهندس آدم المطرود، ومخطوطات ودفتر لنصوص شعرية، فطلب من آدم الضبع أن يأخذها معه، ثم طلب من حواء اللهيبي أن تلبس ثوبها، وخرج من غرفة المكتب، تاركا الضبع معها طالباً منه أن يأخذوها معهم للتحقيق.

كل هذه التفاصيل لم يعرفها آدم المطرود، لكن عرف أنهم كانوا في المكتب، وأنهم اغتصبوا حواء اللهيبي بل وصوروا عملية الاغتصاب.

**********

حينما وصلت إلى الصفحات التي توصف عملية تعذيب المهندس آدم المطرود أحست بالرعب، وأحست بانقباضات في بطنها وضيق في تنفسها، ولما واصلت القراءة وقرأت ما جرى مع السكرتيرة حواء اللهيبي لم تتمكن من البقاء في الغرفة، إذ أحست بضرورة الذهاب إلى الحمام، إذ شعرت بالإسهال.

الرعب الذي سيطر عليها سبب لها إسهالا حقيقيا، لقد كانت حواء المؤمن مرعوبة وشبه منهارة، قضت وقتا طويلا في الحمام. كان إسهالها قوياً، نزلت من جوفها فضلات كالماء الأخضر.

لكن هل يتحدث زوجها الدكتور آدم التائـه عن بلـدها الذي هو العـراق أم عن بلـد آخر. ؟ هل كل هذا يجري في العراق. وهي لا تعرف. ؟

ما الذي سيحصل مع هؤلاء يا تُرى. ؟ مع المهندس آدم المطرود وحواء اللهيبي التي أخذها الشرطة معهم. ؟ ومن قتل حواء الصايغ حقاً. ؟ لماذا لم يكمل زوجها قصة العلاقة بين المهندس آدم المطرود والسيدة حواء الصايغ. ؟

كانت في شوق لمواصلة القراءة لكنها كانت خائفة أيضاً. ؛ لذا حينما خرجت من الحمام، ذهبت مباشرة لتتأكد من إغلاق باب الشقة بالمفتاح وعادت إلى غرفة الاستقبال لمواصلة بقية القصة التي بقيت منها بعض الصفحات.

**********

أحس آدم البغدادي بعنف هذا الفصل لاسيما تفاصيل التعذيب والاغتصاب. لكن لماذا حطم الدكتور آدم التائـه بطله المهندس آدم المطرود بهذه الطريقة المرعبة والمقززة، خاصة في مشهد اغتصابه من قبل رجل الأمن عنتر، وتبرزه أثر عملية الاغتصاب. ؟؟.

من أين أتى الدكتور آدم التائـه بهذه التفاصيل المرعبة. ؟ هل هي مما قرأه أو سمعه من المعذبين العراقيين الذين يعدون بمئات الألوف أم أنها مجرد تهويمات وتخيلات روائية. ؟

ولماذا ركز على تفاصيل اغتصاب السكرتيرة حواء اللهيبي إلى هذا الحد بحيث يوصف المني الذي أخذ يسيل من فرجها أثر اغتصاب المحقق لها، أو مسحه من قبل رجل الأمن آدم الضبع بسروالها وتفاصيل اغتصابها المدمر؟ ما الذي يريده من وراء ذلك. ؟

ربما استطاع الدكتور آدم التائـه أن يوصل أجواء الرعب الحقيقي التي يعيشها الناس في العراق في تلك الفترة، وربما أستطاع لنا أن يجسد من خلال هذه الأحداث الرعب الذي كان هو يعيشه. ؟

أم يا تُرى أن التركيز على الجنس والتفاصيل الجنسية ليست إلا محاولة لا واعية منهما كلاهما: آدم البغدادي والدكتور آدم التائـه، على الجانب الحيواني في الإنسان،على انحطاطه وانتمائه الأبدي لمملكة الحيوان التي ليس لديها من هم سوى الأكل والجنس، وأن أية محاولة للسمو عن عالم الحيوان في مجتمع منفلت الغرائز، مثل محاولة الحب بين المهندس آدم المطرود والسيدة حواء الصايغ، ستبقى محاولة يائسة تذبح وتقتل بطريقة مجهولة. ناهيك أن الجسد هو المعرض للاستباحة دائما.

(13)
كان آدم المطرود عارياً بالكامل، وملقى على أرضية الغرفة الباردة ملوثا بالغائط والبول الذي يحيطه. شعر بألم وهو يفتح عينيه المتورمتين والمليئتين بالدم من أثر الضرب، وأحس أن فمه ثقيل جداً، وكأن ثمة حجراً ثقيلاً وضع على فمه، وحينما أراد أن يفتحه أحس بأن شفتيه متورمتان ومطبقتان معا حيث تخثر الدم، وأحس ألما شديداً في فكه وثمة فراغاً في فكه الأمامي، فحاول تحريك لسانه، فانتبه إلى أن بعض أسنانه الأمامية قد سقطت نتيجة اللكمات التي وجهت لفمه أثناء التحقيق، وأحس بأنه مشقوق إلى نصفين من الأسفل، وأن نارا ملتهبة تفور في شرجه.

فكر للحظات بأنه ربما ميت، ثم بدأ شيء من الصحو يزيح الظلام في ذهنه شيئاً فشيئاً. انتبه لحاله وللمكان الذي هو فيه، ولما جرى معه بصعوبة، وحاول أن يستعيد الأحداث التي مرت وأن يجد لها من علاقة مستخدما ذاكرته الإبداعية الروائية، فلم يجد.

هل قُتلت حواء الصايغ حقاً أم أنها لعبة من ألاعيبهم مثل لعبة المقاول آدم الحلي. ؟ ومن أين يعرفون تفاصيل علاقته معها. ؟ لا. إنهم لا يعرفون تفاصيل علاقته بل يعرفون أنه زارهم، وعدد مرات الزيارة وهذا يمكن أن يعرفوه من خلال حارس البناية الأمني، فربما إذاً لا يعرفون شيئا عن علاقته بحواء الصايغ، وربما مسألة مقتلها ليس أكثر من تمثيلية. !!. لكن لماذا كل هذا اللف والدوران وهو الشخص المسالم الذي ليس لديه أي نشاط سياسي لا مع ولا ضد، بل إنه واحد من ملايين الأشخاص الذين دخلوا الحزب حفاظا على حياتهم ومصالحهم الشخصية، وهم يعرفون ذلك، فلماذا كل هذا الذي جرى معه؟

لماذا عملية اغتصابه؟ أحس بالخجل من عملية تبرزه أثناء الاغتصاب، وسمع قهقهات المحقق آدم التكريتي تتردد في ذاكرته. استغرب من نفسه لخجله من التبرز اثناء الاغتصاب أكثر من خجله من الاغتصاب نفسه؟

فجأة انبثقت حواء اللهيبي في ذاكرته، كيف هي الآن. ؟ وهل صحيح كل ما جرى معها، أو أنه من باب التهديد والترهيب، لكن لماذا يهددونه ويرهبونه. ؟

فكّر للحظة بأن المحقق آدم التكريتي قد زار المكتب ذلك اليوم ولم يكن هو موجوداً، ربما أعجبته حواء اللهيبي وأراد الحصول عليها فخلق كل هذه القصة؟. وربما رأى حواء اللهيبي قبل ذلك. ؟ وأنه قد عرفها قبل المجيء إلى المكتب بحجة التحقيق معه. ؟ وربما هي تعمل معهم أصلا وقد أرسلوها إليه خصيصا. ؟ لقد رآها وهي تفتش في مكتبه وأنها ارتبكت حينما رأته، فماذا كان تفتش يا تُرى. ؟ هل هي التي زودتهم بمعلومات عن طبيعة علاقته بحواء الصايغ. ؟ لماذا تفعل ذلك. ؟ هل هي الغيرة. ؟ هل هي تحبه إلى درجة تؤذيه؟

تذكر أن أحد المفكرين الروس، الذين تحدث عن حب المرأة، أكد بأنه يستغرق وجودها كله، ومن ثم فهي على استعداد لأن تضيع في الحب، وأن يستحوذ الحب عليها. ومن الممكن أن يكون حبها ساما وخطرا ومميتا، أن يكون حب مليء بقوة طاغية، شريرة، لا تعرف الرحمة أو الشفقة. هذا الحب الذي يتحول إلى غيرة طاغية عمياء، فهناك نساء أبالسة، بل إن إبليس أكثر رحمة منهن حينما تتملكهن الغيرة!

حاول أن يبتسم مع نفسه، فلم يستطع لتورم فكه وشفتيه وجرحهما، فابتسم بذهنه، ساخرا من نفسه، تُرى في أية حال هو حتى يفكر بتحليل مشاعر الحب والغيرة ويستذكر أقوال مفكر روسي؟

هل سيخرج من هذا الكابوس؟ عليه أن يستذكر كل التفاصيل كي يستطيع أن يدونها في روايته الجديدة. ؟ فجأة أحس بنفسه يتبول دون إرادته، وأحس ببوله يتسرب تحته دافئا، فشعر بالتقزز والراحة أيضاً.

في هذه اللحظات بالذات دخل الغرفة شرطيان. اتجه الشرطيان إلى الكرسي الذي كان منقلبا على الأرض، فرفعه أحدهما لينصبه على قوائمه الأربع، ثم اتجها إلى آدم المطرود الذي كان مسجى على الأرض، فأخذاه من أبطيه وأجلساه على الكرسي بعريه. ذهب أحدهما إلى جانب الغرفة وعاد حاملا دلوا مليئا بالماء البارد وسكبه على آدم المطرود.

تحرك جسد آدم المطرود. فزّ قليلاً. انتعشت أعصابه نتيجة الماء البارد الذي سُكب عليه، وانتبه لمكانه وللشرطيين اللذين يقفان أمامه، وخلال هذه اللحظات دخل المحقق آدم التكريتي إلى الغرفة أيضا. لم يستطع آدم المطرود أن يرفع رأسه، إلا أنه انتبه إلى أن المحقق آدم التكريتي يقف أمامه، ثم سمعه يقول له بنبرة فيها تهديد وشماتة:

-                     هل ما زلت مصراً على عدم الاعتراف؟

وبالكاد حاول آدم المطرود أن يفتح فمه بكلمتين:

-                     بماذا؟

-                     بالمؤامرة ضد الحزب والثورة أيها الحقير؟

-                      أي مؤامرة؟

ولم يكمل جملته إلا وشعر بصفعة قوية تركت طنينا في أذنيه وألما كبيراً في رأسه، وتوجه المحقق بكلامه إلى الشرطيين قائلا:

-                     يبدو أنه يريد أن يلعب معنا دور البطل الصامد، ولا يدري بأن جميع من معه قد اعترف.

ثم توجه بكلامه إلى آدم المطرود وهو يصرخ فيه:

-                     يا كلب، هل تريد أن نأتي بمن كان معك واعترف عليك. ؟

-                     أنا لا أعرف أحداً.

وما أن انتهى من جملته حتى جاءته لكمة قوية دحرجته هو والكرسي على الأرض، فقام الشرطيان برفعهما معا، وسمع صوت المحقق يقول لهما:

-                     جيئوني بالمتهمين الذين اعترفوا ضده.

كان وجه آدم المطرود ينزف دماً، ولم يكن محدداً من أين ينزف الدم، من فمه أم أنفه أم اذنيه، لأن وسط وجهه كان متورما ومدمى بالكامل. وفي لحظات دخل الشرطيان وهما يسحلان شخصا قد تم تعذيبه أيضا، وقرباه منه بحيث صار وجهه في دائرة الضوء، ومسك المحقق آدم التكريتي برأسه ورفعه إلى الأعلى كي يتعرف آدم المطرود عليه، وهو يزمجر بحقد:

-                     هل تعرفه. هذا أحد الشركاء في المؤامرة، وقد اعترف ضدك. أتعرفه. ؟

حاول آدم المطرود أن يتبين الوجه المعذب الذي يعود لرجل في الخمسين من العمر، أصلع الرأس، متورم الشفتين والجفنين، فلم يستطع أن يتعرف عليه برغم كل الألم الذي يحسه، فهز رأسه نافيا، فصرخ المحقق بعصبية:

-                     يا كلب وابن الكلب تريد أن تستغفلني. تقول لا تعرفه. أتعرف من هذا. أنه زوج القحبه العاهرة الساقطة سكرتيرتك. هذا هو القواد زوجها. إنه شريكك وقد اعترف عليك.

على الرغم من الألم الذي فيه أحس بالدمع يترقرق في عينيه وارتجاف في قلبه من الألم والشفقة على هذا الرجل المسكين البريء الذي ربما اعترف عليه حقاً من شدة التعذيب، على الرغم من أنه لم يلتق به في حياته أبداً!

لم يكن آدم المطرود يسمع صرخات المحقق آدم التكريتي، وانما كان يراه، من خلال عينيه اللتين بالكاد يفتحهما، يفتح شدقيه بوجهه الذي يكاد ينفجر من الغضب والحقد، وفجأة زال الطنين فسمعه يصرخ مزمجرا:

-                     هناك شخص آخر لا يمكنك أن تهز رأسك بأنك لا تعرفه، وقد اعترف بمشاركتك في المؤامرة أيضا.

وأشار للشرطيين بأن يذهبا بالرجل الملقى أمام الكرسي، وأن يأتيا بالآخر، وبعد لحظات جاءا بشخص آخر وهما يسحلانه، وحينما ألقياه أمام الكرسي، إرتعب آدم المطرود، لكنه كان في شك مما يفكر فيه، لكنه تأكد من ذلك حينما مسك المحقق بخصلة من شعر رأس الرجل المسجى، وهو يصرخ بنبرة المنتصر:

-                     وهذا، هل تقول إنك لا تعرفه. إنه صديقك المهندس آدم الصاحب.

كان وجه المهندس آدم الصاحب مشوهاً بالكامل وكان مغمى عليه، فتعرف المهندس آدم المطرود على صديقه من خلال قامته وتسريحة شعره، برغم تشوه وجهه من أثر التعذيب.

 انكمش وجه آدم المطرود حزنا لكنه لم يستطع البكاء. حدّق في وجه المحقق آدم التكريتي الذي كان قد قرب وجهه منه ونظر إليه نظرة جامدة. ظن المحقق أنه يريد أن يقول له شيئا، لكن وجه آدم المطرود ظل جامدا. أراد آدم المطرود في أعماقه أن يبصق على المحقق لكنه كان عاجزا عن فعل ذلك وخائفا. نظر المحقق إليه لحظات ثم انفجر غضبه فجأة وهو يصرخ بغضب منفلت وكأنه كان يقرأ أفكاره:

-                     أيها الحقير. التافه. الجبان. تريد أن تسخر مني، تريد أن تثبت أنك أقوى مني.

وأخذ يلكم آدم المطرود على وجهه ورأسه وصدره وأينما وقعت كفاه، ولما تعب بدأ يركله ودفعه بركلة فسقط هو الكرسي، فأخذ يضربه بقدمه على رأسه وصدره وبطنه، وكان آدم المطرود تحت قدميه كالجثة، لا يستطيع حراكاً لكن الجسد كان يعبّر عن الألم مع كل ضربة يتلقاها، والتوى الجسد بالكامل حينما ركله المحقق بقوة على خصيتيه ثم غاب عن الوعي.

كان المحقق آدم التكريتي قد فقد السيطرة على نفسه، وتعب من الضرب والركل، فتوقف ليسترد أنفاسه، وبعد لحظات، طلب من الشرطيين أن يسحبا المهندس آدم الصاحب خارجاً، واستعد هو للخروج وهو يقول لهما:

-                     صباحا خذوا أوراقهم جميعا، إلى المكان المتفق عليه واطلبوا منهم إلا يتأخروا في إنجازها كي نتخلص من هذه المشكلة بسرعة. مفهوم

-                     مفهوم سيدي.

-                     وتلك السكرتيرة القحبة أبقوها عندي لبعض الوقت ثم ننقلها إلى سجن النساء.

-                     صار سيدي

خرج المحقق آدم التكريتي يتبعه الشرطيان وهما يسحلان جسد المهندس آدم الصاحب، وعند باب الغرفة أطفأ أحدهم المصباح وأغلق الباب فغرقت الغرفة في ظلام دامس.

**********

كان الظلام دامساً، وكانت أرض الغرفة تدور في رأس آدم المطرود بسرعة جنونية هائلة ثم تهوي في قاع مظلم جدا مصحوبة بألم وهبوط في القلب وكأنما القلب هو الذي يهوي من بين الضلوع إلى قاع بلا قرار.

وهناك في قاع الظلام انبثق وجه حواء الصائغ الباسم الحزين. تذكر أنها بعد عيد ميلادها بيومين اتصلت بالمكتب في حدود الساعة الرابعة، وكان هو وحده في المكتب. لم يصدق حينها أنه يحدثها من خلال التليفون، جاءه صوتها رقيقا، حزينا، هادئا، ومتوجسا:

-                     مرحبا.

-                     مرحبا.

-                     هل عرفتني. ؟

-                     وكيف لا أعرفك. من لديه هذا الصوت الملائكي غيرك أولاً. ومن يا تُرى يعرف أني في المكتب ثانياً، وثالثاً وهذا الأهم هو أنني لا انتظر أي اتصال من أية امرأة.

جاء صوتها عذباً ورقيقاً وهي تقول له:

-                     أوه. قدمت مجموعة من الحجج الدامغة. كنت مترددة في الاتصال، فكرت ربما لا تكون في المكتب خلال هذا الوقت، ثم قررت أن أجرب، ولحسن الحظ أنك موجود.

-                     أنا أنتظر اتصالك على أحر من الجمر كما يقال.

-                     غريبة هذه اللغة العربية. فبرغم أن جملة أحرّ من الجمر لا علاقة لها بواقعنا فنحن في عصر التكنولوجيا، إلا أننا نستخدمها كاستعارة منذ مئات السنين. الآن، مثلا، أفران الحديد والصلب هي أكثر حرارة من حرارة الجمر بآلاف المرات ورغم ذلك لا زال رمز الحرارة هو الجمر.

-                     هذا صحيح. ومن أجلك يا سيدتي كنت على درجة ألف فهرنهايتي. مقبول. !

سمع ضحكتها على الطرف الآخر من الخط وهي المرة الأولى التي يسمعها تضحك، فقال لها برقة:

-                     هل تعرفين أنني أسمع ضحكتك لأول مرة. إنك عميقة وحزينة حتى في ضحكتك.

-                     صحيح. لا أعرف. اسمع، ماذا تفعل الآن؟

-                     لا شيء، كنت بانتظار اتصالك.

-                     اليوم قرأت نصا بالاسبانية للشاعر لوركا. وترجمته. وودت أن تسمعه

-                     كلي آذان صاغية.

-                     مرة أخرى الاستعارات العربية الغريبة. كلي آذان صاغية. هل تدري لو أردنا تجسيد هذه الصورة بصريا لوجدناها صورة سريالية غريبة، أن يتحول الإنسان إلى أذن كبيرة هائلة، أو يتحول جسده إلى كتلة من الآذان الصغيرة.

-                     مرة أخرى تقتنصين هفوات اللغة العربية.

-                     لا. ليس للأمر علاقة باللغة العربية. وإنما باستخدامها وتجديدها. فأغانينا مليئة بسهام العين وسيوف اللحظ وغيرها من الاستعارات التراثية التي لا تجدها الا في المتاحف القديمة وفي القواميس. المهم. دعني أقرأ النص الأسباني أولا. ثم أترجم النص إلى العربية:

-                     سأسمعك بكل انتباه ومحبة. ايعجبك ذلك. ؟

ضحكت وقالت مازحة:

-                     نعم. قلتها بطريقة عقلانية وصحيحة. تسمعني بانتباه.

-                     إنني أسمعك.

بدأ صوتها يأتي ناعما وحزينا وواثقا بالأسبانية التي كانت قد درستها إلى جانب الألمانية في الجامعة، وما أن انتهت من النص الأسباني حتى بدأت تترجمها:  

قرطبة

وحيدة وبعيدة.

مهرة صغيرة سوداء، قمر كبير

وبعض الزيتون في خرجي.

ورغم معرفتي بالدروب

فلن أصل إلى قرطبة أبدا.

عبر السهل، في الريح، ثمة مهرة سوداء صغيرة، وقمر أحمر

ينظر إلى الموت

من أبراج قرطبة.

آي. آي. طريقي بلا نهاية

أي، يا مهرتي الصغيرة الشجاعة،

آي، أنا أعرف إن الموت ينتظرني،

قبل أن أصل إلى قرطبة.

قرطبة

وحيدة. وبعيدة.

-                     رائع جدا. هل تجيدين الأسبانية إلى هذه الدرجة التي تنعكس في ترجمتك؟ قال لها بانبهار صادق

-                     نعم أجيدها. لقد درستها إلى جانب اللغة الألمانية، كما أني عشت فترة ليست بالقصيرة في مدريد، وهذا ما ساعدني على تقوية لغتي.

-                     أنا أشفق على لوركا. راح ضحية المتناقضات السياسية. مع أني أحب شعراء أسبان آخرين مثل متشادو. وألبرتي.

-                     أي متشادو منهم لأنهما أخوان وكلاهما شاعر؟

-                     أقصد انتونيو متشادوا. الأخ الصغير الذي مات مسلولا في السجن.

-                     نعم إنه شاعر رقيق جداً. لكن يبدو أن علاقتك بالأدب الأسباني جيدة.

-                     تقريبا. سرفانتس قرب اللغة الأسبانية والثقافة الأسبانية إلى العالم وإلى الأبد من خلال دون كيخوته. ثم أنا عرفت الأدب الأسباني من خلال نيرودا، وماركيز، لكن دعينا من كل هذا. لماذا لا تزورينني في المكتب فنتحدث براحتنا بعيدا عن عيون المرأة المساعدة والجاسوسة.

-                     لا. هذا صعب.

-                     هل تخافين أن تكوني وحدك معي. ؟

صمتت لحظات، ثم جاءه صوتها:

-                     نعم.

-                     أتخافين مني أم من نفسك؟

-                     لا أدري. ربما منك أكثر مما أخاف من نفسي.

-                     مني؟

-                     نعم. منك. أحس أنك تريدني. تريد أن تمتلكني جسديا!

تردد لحظات في الجواب، لكنه وعلى طريقته في التعامل مع المرأة، قال:

-                     ربما. أحس أن المحب يصل غايته بالذوبان في المحبوب.

-                     الذوبان في المحبوب ليس بالضرورة يكون في جسد المحبوب يا سيد آدم، ولأكن صريحة معك. أنا لا أخفيك ربما لدي رغبة خفية في أعمق أعماقي نحو هذا الشيء، لكني أعتقد أن الجنس هو التعبير الأمثل عن عدم كمال الإنسان.

أجابها بحرارة متعجبا:

-                     عدم كمال الإنسان. ؟ أليس الالتحام والاتحاد الجسدي هو غاية الكمال. ؟

-                     لا. صحيح أن الجنس يعني في الظاهر بلوغ الكمال عن طريق الاتحاد، إلا أنه يعني الخروج من الذات للاتحاد بالآخر! ثم بعد الإشباع يتم الانفصال ليعود الإنسان إلى ذاته، وتستمر دوامة الاتحاد والانفصال إلى ما لا نهاية، بينما الحب الحقيقي يتغلب على الانفصال، فالجنس أكبر شاهد على طبيعة الانسان الناقصة وعدم اكتماله، بينما يبقى الإنسان في اتحاد متواصل مع الآخر من خلال الارتقاء بالدافع الجنسي، من خلال الاكتمال والطهارة.

-                     هذه فلسفة غريبة؟!.

-                     لا إنها ليست غريبة. دافع عنها الكثير من الفلاسفة والشعراء أيضا. هل خاب ظنك فيّ.

ارتبك آدم المطرود، فقال دون أن يستطيع إخفاء نبرة الإحباط في صوته:

-                     لا أبدا. لكني أختلف معك في هذه النظرة. أنا أعتقد أن الجسد الإنساني قارة للمتعة واللذة التي في حضورها يرتقي الإنسان إلى ملكوت السماء، ولم توجد أو تخلق هذه المناطق الجغرافية في الجسد البشري عبثا، لأنه حسب رأيك مهمة الجسد تكون للتناسل فقط، أو لإشباع الغريزة فقط، أي أن العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة لا تحتاج إلى أية مشاعر وحب بينهما، لأنها غريزية فقط، بينما الحب شيء مختلف في رأيك! أليس كذلك. ؟

-                     لا. لا أقصد هذا. أنا معك في أن تكون العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة قائمة على الحب، وإلا فهي حركات حيوانية مقيتة.

امتدت بينهما لحظات صمت. ثم جاء صوته هادئا مشبوبا بتوتر مكتوم:

-                     هل لي أن أسألك سؤالا قد يبدو محرجا. ؟

-                     اسأل. فما دام الجواب عبر التليفون فلا إحراج. ربما وجها لوجه سيكون ثمة إحراج. اسأل.

-                     هل علاقتك بزوجك. أقصد علاقتك الجسدية معه قائمة على الحب والمشاعر، أو أنها لإشباع الغريزة فقط. ؟ ولا أضيف التناسل هنا لأنكما بدون أبناء. عذرا لجرأتي.

صمتت حواء الصايغ لحظات، حتى ظن أنها لا تريد الإجابة وأنها استاءت من السؤال، لكن جاءه صوتها حزينا:

-                     من الصعب الإجابة على هذا السؤال، فأنا لم أفكر فيه طويلا. ربما علاقتي معه أخلاقية، أقصد أنني ألتزم بأخلاقيتي التي تؤكد على منح الزوج حقه في الاستمتاع الجسدي ما دامت هي جزء من مقومات الزواج. لكن، وربما أقول ذلك بخجل، يتم ذلك دون أية مشاعر مني، أنا جسد للمتعة، لمتعة زوجي، وأنا راضية بذلك، لكني لا أحس بأن هذه العملية ممتعة أساساً.

-                     ربما لأن زوجك لم يستطع أن يفجر فيك ينابيع اللذة؟

-                     لا أعرف.

جوابها السلبي دفعه لأن يقتحم تفكيرها وعالمها فقال:

-                     من هنا أجد أنك تفصلين بين الحب الجسدي والحب بمعناه العام. أو الحب الحقيقي كما تقولين، علما أن الحب الحقيقي هو حينما يتوحد جسد الرجل بجسد المرأة ملفوفا بخيوط خفية من مشاعر الحب، أي العودة إلى حالة الكمال حينما كانت جزءا من جسد آدم. أي أن التحامهما هو الكمال الحقيقي. !!. ثم لماذا هذه الطهرانية. ؟ هذه الطهرانية التي ربما تكشف عن جوهرها بالعجز عن اكتشاف منابع اللذة في الجسد البشري.

فقاطعته بمرح قائلة:

-                     ما هذا يا سيد آدم. هل تريد غوايتي. من خلال الحديث عن منابع اللذة التي أجهلها. ؟

-                     ربما!

-                     وتقول ربما؟

-                     نعم. أنت فياضة باللذة والحنين. بينما أراك حزينة. تألقي واحترقي بنار الحب!

-                     ولا يكون ذلك إلا من خلال الجنس؟

-                     نعم.

-                     الحديث معك ممتع. وخطير أيضا. سنتواصل أكثر. ربما ستقنعني. وربما سأقنعك. ؟!.

-                     سأقنعك.

-                     أنت واثق من نفسك كثيرا. !!. هل ثقتك متأتية من كثرة علاقاتك بالنساء أم من ماذا. ؟

-                     لا. من خلال فهمي للنفس البشرية والجسد البشري.

صمتت للحظة، ثم جاء صوتها:

-                     سنتواصل أكثر.

-                     أنت تعرفين أن مثل هذا النقاش لا يمكننا أن نمضي فيه أمام السيد زوجك أو تحت مسامع مساعدتك في البيت. يمكنك أن تزوريني في مكتبي. ويمكننا الحديث. وأعدك أن أكون عادلا في جدل الأفكار بيننا. أما أن أقنعك أو تقنعيني.

-                     سنرى. علي الآن أن انهي الاتصال.

-                     متى ستتصلين. غدا؟

-                     ربما!

في تلك الظلمة الحالكة كانت كلمة (ربما) هي التي بقيت تطن في أُذن آدم المطرود وهو يسترجع آخر محادثة له مع حواء الصايغ لأنه بعد ذلك لم يحدثها أو يلتقي معها.

يتذكر الآن أنه بعد ذلك الاتصال التليفوني اليتيم ذهب إلى شقتها. ضغط على الجرس فلم يفتح أحد له الباب، فاستغرب الأمر، لأنه حتى لو كانت قد خرجت فأن المرأة المساعدة في الخدمة يفترض أن تكون موجودة. ضغط على زر جرس الباب مرات عديدة ووقف لأكثر من خمس دقائق هناك، لكن بدون جدوى فخرج خائبا.

**********

في تلك الظلمة الحالكة التي تهيمن على غرفة التعذيب حيث روائح العفونة المتأتية من الجو الخانق وبخار البول ورائحة الغائط المتأتية منه ومن الغائط المتيبس من معتقلين آخرين كانوا هنا في زنزانة التعذيب هذه، في تلك الظلمة الحالكة أخذ المعتقل والمتهم والمجرم والخائن، العاشق الأديب، المترجم والكاتب والصحفي، المهندس الإنسان، آدم المطرود يبكي بحرقة، ووحشة، مفكرا بأمه التي رحلت عن هذا العالم منذ سنوات، وبأبيه الذي رحل بعدها بسنة، وبأختيه اللتين تزوجتا منذ سنين بعيدة حيث تعيش إحداهن مع زوجها خارج البلاد، والأخرى أرملة سقط زوجها في جبهة القتال أثناء الحرب ضد إيران. كان آدم المطرود يبكي ويندب حظه العاثر، ومصيره الغامض.

لا يدري كم مر من الوقت وهو يبكي وينتحب، إذ أحس بتعب شديد ودوار وعطش شديد. أحس بما يشبه اللهب يشتعل في بطنه، وتقلصات وحموضة في معدته، حموضة حارقة أخذت تصعد إلى بلعومه. ثم أخذ يسعل. لم يكن هناك من أحد سوى الظلام الحالك. كور نفسه على بلاط الأرضية الأسمنتي، وهوى في بئر مظلمة غاب فيها عن الوعي.

**********

عند ساعات الفجر الأولى حيث الظلمة ما زالت تغطي بغداد، فـُتح باب الغرفة - الزنزانة فدخل شرطيان. ضغط أحدهما على زر الكهرباء عن جانب الباب، فأضاء المصباح الشاحب وسط الغرفة الزنزانة. اتجه الشرطيان إلى حيث يتمدد آدم المطرود، لكزه أحدهم بقدمه قائلا:

-                     قم. انهض. هيا. وراءنا عمل كثير.

حرك آدم المطرود نفسه بصعوبة، إذ كان يرتجف لا إراديا. سحبه أحد الشرطيين من يده ساحلا إياه باتجاه الباب، ثم ساعده الآخر ساحباً آدم المطرود من اليد الأخرى، وقرب الباب، مسكاه من كتفيه، كل من جهة، وأخرجاه من الغرفة دافعين إياه في الجزء الخلفي من سيارة عسكرية كبيرة، فسقط على جسدين ممدودين هناك أيضا.

لم يتبين هو من هما، وسمع صوت المحقق آدم التكريتي يحدثهما بما يشبه الهمس لكنه صوت مسموع سائلاً إياهما هل جاءوا بكل الأوراق، وسمع صوت أحدهم فعرف فيه صوت آدم الضبع يجيبه بالإيجاب.

تحركت السيارة بهم في تلك الساعة من الفجر، حيث كانت بغداد، مدينته الحبيبة نائمة بحزن، منطوية على آلامها. كانت الشوارع فارغة، وقد شعر بذلك من خلال سرعة السيارة العسكرية وعدم توقفها في أي منعطف أو ساحة.

كان الجسدان اللذان تحته عاجزين عن الحركة، وربما كانا في غيبوبة أو نائمين، لأنهما لم يتحركا ولم يطلقا أي صوت يدل على أنهما يحسان بشيء مما يحصل.

كانت السيارة قد خرجت من مدينة بغداد وضواحيها، متجهة إلى براري بعيدة عن الطريق العام الذي يربط بغداد بمدن البلاد الأخرى. وبدأت السيارة تنحني وتتمايل عندما خرجت عن الطريق الإسفلتي العام وأخذت السير في البراري.

بدأت السماء تكشف عن ظلامها، على الرغم من أن الشمس لم تشرق بعد، وبعد فترة ليست بالطويلة توقفت السيارة، ونزل عنها الشرطيان اللذان كانا قد رمياه في السيارة، وكان كل منهما مدججا برشاش مزود بمخزن للرصاص. واستدارا ثم فتحا باب السيارة الخلفي، وصرخا بهم:

-                     هيا. أيها الخنازير الخائنة انزلوا.

لم يستطع أي من الأجساد الثلاثة المرمية أن يتحرك وحده، وكان المهندس آدم المطرود هو الأكثر علاقة بالحياة من الاثنين الباقيين، فسحب الشرطي الضبع المهندس آدم المطرود أولا، وأجلسه على الأرض بعريه، فأحس بقشعريرة برد هزت جسده، ثم سحب الشخصين الآخرين من أيديهما وألقاهما على الأرض دونما أي اهتمام بهما. وشيئا فشيئا انتبه آدم المطرود إلى الآخرين حيث تعرف على صديقه المهندس آدم الصاحب والرجل الآخر الذي قيل له بأنه زوج سكرتيرته حواء اللهيبي.

التف آدم المطرود إلى المكان فاكتشف أنها أرض عراء، وبالقرب منهم حفرة فارغة يبدو فمها المظلم واضحا في هذا الفجر العراقي المخيف. سحب الشرطيان الجسدين، أرادا أن يوقفاهما بانتصاب لكن ذلك كان مستحيلا حيث أن هذين الجسدين لم يقويا على الوقوف، فسحباهما، ثم دفعاهما إلى حافة الحفرة، وبطريقة بدائية وهمجية أطلقا عليهما وابلاً من الرصاص.

كان آدم الصاحب والشخص الآخر زوج سكرتيرته غائبان عن الوعي حين ألقي بهما في الحفرة، ولم يبديا أي مقاومة، لكن فقط حينما انهمر الرصاص عليهما ندت عنهما صرختان خافتتان مع حركة اندفاع جسدي كرد فعل على وابل الرصاص المنهمر عليهما، وماتا فورا. أما الشرطي آدم الضبع فقد بدأ بتنظيف سلاحه والتأكد من سلامته.

انهار آدم المطرود عندما رأى إعدام صديقه المهندس آدم الصاحب بهذه الطريقة البشعة، لماذا كل هذا. ؟ لم يكونا، لا هو ولا صديقه من المعاديين للدولة ولم يكن لديهما أي نشاط سياسي ولا أي اهتمام خاص فيها، وكانا يحضران إلى أي نشاط يدعوان إليه، فما الذي جرى، لماذا يجري إعدامهما. ؟ من وراء كل هذا؟ لماذا بدأت الأمور بقصة مقتل حواء الصايغ وانتهت بمؤامرة ضد الحزب والثورة. ؟ إنهما بريئان وبرغم ذلك تم تعذيبهما وأعدموا صديقه وهو بلا شك سيعدم أيضا. ؟ ثم من هو هذا الشخص الثالث. ؟ يقال إنه زوج حواء اللهيبي؟ هل هو حقا زوجها؟ وماذا عنها. ؟ وماذا عن حواء الصايغ؟ هل هي قد قُتلت حقا؟

فجأة أحس بدفق من الرغبة العارمة بالحياة يسري في عروقه، أحس بجذوة الحياة فيه تنبثق فجأة، وفكر للحظة في الهرب، ومع تدفق الحيوية في أوصاله أحس بالرعب يشله، يشل أطرافه ويده، ويطل من عينيه. انتبه الشرطي آدم الضبع إليه، ولرعبه، فصرخ فيه:

-                     قم. وأركض.

لم يفهم آدم المطرود ما الذي كان يقصده الشرطي، بينما ظن الشرطي آدم الضبع بأن آدم المطرود لم يستوعب ما قاله له، فأشار له بيده أن قم وأركض. استجمع آدم المطرود كل ما في جسده من طاقة وقوة، فنهض بحركة بطيئة، لكنه ظل منحني الظهر، فالتفت إلى الشرطيين، فصرخ آدم الضبع فيه:

-                     أركض. هيا أركض.

وقف آدم المطرود مرعوبا ومذهولا في الوقت نفسه، فأشار آدم الضبع إليه أن يركض للأمام، فبدأ آدم المطرود المشي الذي يشبه الهرولة، لكنه كان يترنح، ولم يكن يخطو بضع أمتار حتى رشقه الشرطي آدم الضبع بوابل من الرصاص على ظهره ومؤخرته فهوى على الأرض يتلوى.

في تلك اللحظة بالذات من ذلك الفجر البغدادي الضبابي البهيم. في تلك اللحظة بالذات رأى المهندس آدم المطرود وجه السيدة حواء الصايغ. كان وجهها كبيراً، كبيراً جداً، بحجم السماء، وهي تنظر إليه من الأعالي والدموع تنزل من عينيها، نادبة مصيره المأساوي الغامض والغريب.

وفي تلك اللحظة بالذات أيضاً اقترب الشرطي آدم الضبع منه فوجده يبتسم ابتسامة عذبة. كان آدم المطرود يبتسم للسيدة حواء الصايغ، بينما استغرب الشرطي الضبع هذه الابتسامة على وجه الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فاعتبر ذلك سخرية منه ومن قوة السلطة، فأطلق وابلا من الرصاص على جبين آدم المطرود مهشما جمجمته ومشوها وجهه الباسم البريء.

فارق المهندس آدم المطرود الحياة وهو يبتسم لحواء الصايغ. لم يكن أمام الشرطي آدم الضبع سوى أن يسحب جثة آدم المطرود ليلقيها في الحفرة المظلمة التي ضمت جثتي صديقه وزوج حواء اللهيبي.

بعد لحظات من الإعدام الجماعي نزل السائق وهو يحمل معولا ً، وأقترب من القبر الجماعي وأخذ يدفع بكومة التراب عند حافة الحفرة على الجثث الراقدة في تلك الحفرة المظلمة. بينما وقف آدم الضبع مصوبا رشاشه نحو سرب من عصافير الصباح مر فوق القبر الصباحي المظلم، مطلقا سيلا من الرصاص الأعمى.

كانت بغداد بعيدة، وكان الضوء الذي بدأ ينير السماء والأشياء يكشف عن حفر فارغة الأفواه على امتداد البصر، حفر تنتظر من تلتهمه في أعماقها، وكانت ثمة بقع يبدو من لون التراب المبتل قليلا بندى الصباح أنها ابتلعت أناسا أبرياء ربما تم إعدامهم في مثل هذا الفجر. وكان الناظر إلى هذا المكان يحس وكأنه في مقبرة هائلة، في متــاهــة لا مخـرج أو مـفــر منـهـــا. متاهة بني آدم.

الـنهايـــة

**********

لا تدري كيف وجدت حواء المؤمن نفسها تبكي بحرقة على مصير المهندس آدم المطرود وصديقه المهندس آدم الصاحب وعلى هذا الرجل المسكين زوج السكرتيرة حواء اللهيبي الذي هو مجهول الاسم حتى، وعلى السكرتيرة نفسها.

لكن من أين أتى زوجها الدكتور آدم التائـه بكل هذه التفاصيل. ؟ ألا يخاف أن تعلم السلطة بما يكتبه ضدها؟

شعرت بالذنب. وفكرت مع نفسها بأنها لم تعرف قيمة زوجها ولم تعطه حقه، إذ أثبت انه شجاع وشريف حينما كشف وجه الحكومة وكل هؤلاء الأنذال وفضحهم.

وبدون إرادة منها قرأت الفاتحة على أرواح الشهداء الثلاثة، ثم أعقبتها بقراءة الفاتحة على روح حماتها أم الدكتور آدم التائـه، وقررت أن تقيم العزاء لثلاثة أيام على أرواحهم وأن تلبس السواد حزنا عليهم.

لكن كيف ستفاتح زوجها بأنها قرأت قصته التي كتبها. ؟ لا ضير ستجد طريقة ما، ستقول إنها كانت ضجرة، فلم تجد من طريقة سوى أن تقرأ قصته. لكنها تريد أن تسأله عن مصير السيدة حواء الصايغ، هل ماتت هي حقا أم كان ذلك لعبة من قبل المحقق آدم التكريتي كما كان يتصور ذلك المهندس آدم المطرود. ؟

وهل هناك مؤامرة أصلا كما ادعى المحقق آدم التكريتي. ؟ لا بد أن تسأله.

**********

أحس آدم البغـدادي بالحزن على مصائر أبطال الدكتور آدم التائـه، وأعجب لتوقفه عند كل هذا الكم من التفاصيل في ما يخص الاعتقال وما جرى خلاله، إلى جانب تفاصيل فجر الإعدام وتفاصيل الإعدام. لكنه يتذكر أن مثل بعض هذه التفاصيل جرت عند إعدام الشاعر الأسباني فدريكو غارثيا لوركا.

الـفــصــــل الـتـــاســـــع
تحــــولات حــواء الـمـــؤمـن
بعد أن انتهت حواء المؤمن من قراءة قصة (المرأة المجهولة – متاهة آدم) نهضت حزينة دامعة العينين وذهبت إلى المطبخ، وبدأت بتحضير الشاي لنفسها، ثم فكرت أن اليوم هو يوم الخميس والليلة هي ليلة الجمعة وهي ليلة مباركة تقدم فيها الأطعمة ثوابا على أرواح الموتى بعد قراءة الفاتحة على الطعام قبل أكله.

فتحت الثلاجة وأخرجت دجاجة مجمدة وضعتها في حوض الماء المصنوع من الألمنيوم والفارغ، وأخرجت قدرا كبيرا ملأته بالماء الساخن ووضعت الدجاجة المتجمدة فيه، ثم فتحت الدولاب الخشبي حيث أخرجت عددا من حبات البطاطا، وبعض رؤوس البصل اليابس، وأخرجت كيس الرز البسمتي، ووضعت في صحن كبيرة كمية منه ثم فتحت حنفية الماء حتى امتلأ الصحن ووضعته جانبا وجاءت بقدر كبير ملأته سكبت فيه الماء من الحنفية حتى منتصفه، وحملته إلى الطباخ الغازي ثم أوقدته.

بعد ذلك دخلت غرفة النوم وجاءت ببعض أعواد البخور وأشعلتها من نار الطباخ الزرقاء، ومضت إلى غرفة الاستقبال لتضع بعضها في زوايا الغرفة المختلفة، ووضعت واحدة في المطبخ، ودخلت غرفة النوم ووضعت أعواد البخور في بعض الزوايا، ثم أخرجت من الدولاب ثوبا أسود ودخلت الحمام فنزعت عنها ثوبها وتعرت داخلة تحت دش الماء مغتسلة. حينما انتهت من حمامها لبست الثوب الأسود الذي زادها جمالا وإثارة. كانت قد قررت أن تقيم الحداد على أبطال القصة الأبرياء الذين أعدموا ظلما وأن تقيم العشاء والفاتحة على أرواحهم.

بعد ساعة من الوقت كان لدى حواء المؤمن كل شيء قد تم إعداده، فوضعت قِدر الرز على النار الواطئة كي ينضج بهدوء لحين عودة زوجها الدكتور آدم التائـه. كانت قد أعدّت لنفسها الشاي وشربت كوبا وصبت لنفسها الكوب الثاني، وها هي تجلس في غرفة الاستقبال وحدها، مفكرة بمصائر هؤلاء الناس الذين كتب زوجها عنهم.

لم تكن حواء المؤمن تهتم يوما بالسياسة، ومع أنها لم تواصل دراستها بعد حصولها على شهادة الاعدادية، إلا أنها لم تترك القراءة، حيث قرأت للشاعر نزار قباني كتابين هما: قصائد متوحشة وقالت لي السمراء، وللكاتب إحسان عبد القدوس كتابين أيضا هما: شفتاه، وفي بيتنا رجل، وللكاتب عبد الحليم عبد الله كذلك كتابين: لقيطة وشجرة اللبلاب، ولجبران خليل جبران: رمل وزبد، والأجنحة المتكسرة والنبي والأرواح المتمردة، وللرافعي: أوراق الورد، وللمنفلوطي: في سبيل التاج والنظرات، كما قرأت البؤساء للكاتب الفرنسي فكتور هيجو الذي كان أضخم كتاب تقرأه في حياتها، وكانت تفتخر بأنها قرأت مثل هذا الكتاب الضخم الذي أعجبها جدا. إلا أن الأفلام العربية الرومانسية والأفلام الهندية من جهة، وطقوس عاشوراء وما يرافقها من عروض مسرحية دينية وجلسات وزيارات للأضرحة المقدسة من جهة ثانية، هي التي لعبت دورا في تكوين عالمها النفسي، لكنها تحس أنها تبقى جاهلة مقارنة مع زوجها الدكتور آدم التائـه، الأستاذ الجامعي والكاتب المعروف.

وبرغم أنها كانت تسمع بأن هناك من يعمل ضد الحكومة لكنها تخاف حتى التفكير في مثل هذه الأمور، غير أن قراءة قصة (المرأة المجهولة – متاهة آدم) زلزلت كيانها. لقد أحست وكأنها كانت في غيبوبة.

لا تدري حواء المؤمن ما الذي يجري في أعماقها، فقد بدأت تفكر في علاقتها بزوجها، أنه ليس سيئا وجافا وقاسيا كما يبدو عليه، فقد أحست من خلال القصة التي كتبها أنه حساس جدا، وربما هي لم تفهمه ولم تقدر ما يعانيه وما يفكر فيه. يجب أن تخدمه وتوفر له الراحة، فربما هو يقضي معظم وقته خارج البيت لأنه غير مرتاح معها، لكنه أيضا غريب الأطوار، فأحيانا يقترب منها وأحيانا ً يعاملها وكأنها غير موجودة.

أحيانا تحس أنه يقترب منها فقط من أجل متعته، وأحيانا تحس بأنه يحبها ويهتم بها. لا تعرف أي من هذه الوجوه هو وجهه الحقيقي، ربما أنه لا يشعر معها بالراحة لأنها ليست في مستواه الثقافي فلا يستطيع أن يناقشها ولا أن يتحاور معها، لكنه أيضا سألها عن مصير المهندس آدم المطرود وكيف يتم الحكم عليه وهو البريء.

لكن بما أن الشيء المتأكدة منه جدا أن جسدها هو الذي يعجبه، فعليها أن توفر له المتعة التي يحتاجها وعليها أن تهتم بنفسها وبجمالها.

في هذه اللحظة طـُرق باب الشقة. استغربت لأن زوجها لديه مفتاح الشقة، وهذا يعني أن ثمة أحدا ًعند الباب، فنهضت ووقف عند الباب وسألت بالعربية:

-                     مَن؟

-                     - أنا جاركم اللبناني

فتحت حواء المؤمن الباب فواجهها جارهم الأعزب الشاب اللبناني الذي تكاد بابه تلتصق ببابهم عند الخروج. جارهم الوسيم الذي لم تشاهده إلا مرة واحدة. ومن بعيد. حيث التقياه هي وزوجها من بعيد وأشار زوجها إليه قائلا بأنه جارهم الذي يسكن قبالتهم.

حين رأته حواء المؤمن شعرت وكأن تيارا كهربائيا شلّها للحظات. كان وسيما ويشبه لحد بعيد حبيبها الأول. ولكي لا ينتبه هو لحالتها قالت له مرحبة بأدب:

-                     أهل بالجار. أتحتاج شيئا ًما. ؟

نظر هو إليها بشبق حاول أن يكتمه، وقال بارتباك ودود:

-                     لا تؤاخذيني يا جارة، هل يوجد لديكم بعض معجون الطماطم، فقد طبخت ولكن الآن انتبهت انه لا يوجد عندي معجون، ولا استطيع أن أخرج من البيت لأني أنتظر ضيوفا في هذا الوقت بالذات.

فقالت له بطيبة:

-                     تكرم. لحظة.

دخلت حواء المؤمن إلى المطبخ وعادت بعلبة متوسطة من معجون الطماطم. أخذها من يدها فمست أصابعه أصابع كفها، فاحمر وجهها مباشرة. نظر في أعماق عينيها وشكرها، ومد يده في جيبه ليخرج ثمنها، فلاحظت ذلك وفهمت ما ينوي فقالت له مباشرة:

-                     ماذا تفعل يا جار. ؟ نحن جيران وأهل.

فأخرج يده فارغة وشكرها قائلا:

-                     شكرا جزيلا. أن شاء الله تزورونني. فنحن جيران. وحق الجار على الجار. هل تحبين القهوة أم الشاي. أم النسكافيه.

ارتبكت هي وشعرت أنه يريد أن يتواصل معها بالحديث الذي كلما أمتد لدقيقة اطول ازداد ارتباكها أكثر. فقالت دون وعي منها:

-                     أحب الشاي. بس أحيانا أشرب القهوة.

ظل هو واقفا يتأمل جسدها المثير، حيث كانت هي مرتبكة وهي تقف خافضة رأسها نحو الأرض، وقال بجرأة:

-                     إن شاء الله تتفضلون يوما ما عندي على الفطور اللبناني، فول وزيتون وجبنه ومناقيش.

فقالت وهي خافضة الرأس:

-                     شكرا جزيلا. لا تشغل نفسك.

-                     على كل حال شكرا جزيلا على علبة المعجون.

وأغلقت حواء المؤمن الباب وعادت إلى غرفة الاستقبال. تذكرت فجأة الطعام على الطباخ، فذهبت إلى المطبخ وفتحت غطاء قدور الطعام وحينما تأكدت من نضج الطعام أطفأت الطباخ، ومن هناك مضت إلى غرفة النوم وألقت بنفسها على السرير، لكنها استغربت من نفسها لأنها بدأت تفكر في جارهم، لماذا يعيش وحيداً، وهل ضيوفه من الرجال أو النساء، هل هم لبنانيون أو عرب؟.

استعادة حواء المؤمن مع نفسها وجه جارهم. نعم أنه يشبه حبيبها الأول بل وأكثر وسامة منه، وأثناء استحضارها لصورتيهما في ذهنها سمعت حركة على السلم فخمنت أنهم ضيوف جارهم، فنهضت بسرعة وفتحت الباب فتحة ضيقة جداً تسمح لها بمشاهدة من يصعد السلم فلمحت رجلين يصعدان.

أغلقت الباب بسرعة، لكنها شعرت بالراحة لأنهما كانا رجلين، ولم يكن ضيوفه من النساء. فجأة سألت نفسها: ما لي ولأصدقائه. ؟ لماذا أحسستُ بالراحة لأنهم من الرجال؟ هل كنت أغار لو لم يكن هناك ضيوف بل صديقة له مثلاً. ؟ أحست بمشاعر مختلطة، وبرغبات متداخلة ولم تفهم نفسها وماذا تريد حقا.

عادت حواء المؤمن إلى غرفة الاستقبال. جلست على الأريكة، ثم أخذت الريموت كونترول وضغطت عليه، فظهر على الشاشة وجه جميل جدا لفتاة محجبة، وانتبهت من خلال اللغة والمكان الذي تجري فيه الأحداث إلى أن القناة الألمانية تبث فيلما إيرانيا بترجمة مكتوبة على الشاشة. ظلت تتابع الفيلم الذي أعجبها أناقة البطلة وجمالها في الحجاب.

فجأة راودت حواء المؤمن فكرة غريبة جداً لم تفكر فيها طوال حياتها ألا وهي فكرة الحجاب. سألت نفسها: لماذا لا تلبس الحجاب. ؟ هل يروق لها أو أنه سيشوهها. ؟ ماذا سيقول زوجها الدكتور آدم التائـه، هل سيوافق أو سيرفض. ؟ ولماذا يرفض، معظم الرجال يتمنون أن تتحجب زوجاتهم لأنهم بذلك يحسون بملكيتهم الشخصية لها ولجمالها ولجسدها. ؟ كما أنه سبق وأن أخبرها، حينما أهدتها الأردنية طاقم الحجاب، بأن هذه الأمور هي ضمن الحرية الشخصية. ؟ لكن ماذا سيقول الجيران. ؟ وما فائدة الحجاب بدون صوم وصلاة. ؟ صحيح أنها لا تؤدي فريضة الصلاة لكنها مؤمنة ولا تؤذي أحداً ولا تكذب أو تغتاب أو تتآمر أو تسرق. ؟ وماذا سيقول جارهم اللبناني. ؟ لقد انتبهت أكثر من مرة للإعجاب في نظراته إليها. ؟ لكن ما لها وله. لماذا يهمها إعجابه بها. ؟

فجأة قامت من مكانها وذهبت إلى غرفة النوم وسحبت من فوق الدولاب حقيبة جلدية كبيرة كانت قد حفظت فيها العباءة والحجاب والفوطة التي أهدتها لها المرأة المحجبة في عمان، أما المصحف فقد أخرجته ووضعته على القسم من الدولاب في غرفة النوم.

لم تشأ أن تلبس الحجاب الذي قدمته لها المرأة الأردنية لأنه حجاب خليجي غير متعارف عليه لا في العراق ولا هنا في ألمانيا، فالعربيات المحجبات من عراقيات ولبنانيات وحتى الإيرانيات والتركيات يضعن فوطة على الرأس وأحيانا يلبسن معطفا طويلا.

أخذت الفوطة الملونة بإحدى الألوان الصينية ما بين البنفسجي والوردي والتي تحمل رسومات صغيرة لأشكال فنية مختلفة من الحقيبة الجلدية وتوجهت إلى مقعد صغير أمام الطاولة التي تنتصب عليها مرآة كبيرة وبعض مواد التجميل والعطور. شدت الفوطة على رأسها وأخذت قلم الكحل ومررته حول جفنيها فبدت أكثر جمالا ووقارا وإثارة مما هي بدونه.

من المؤكد أن زوجها سيصطدم من كثرة المفاجآت اليوم، فقد قرأت الرواية، وهي تريد إقامة الحداد على أرواح شهداء الرواية، وقراءة الفاتحة عند العشاء على أرواحهم، ولبست الأسود حزنا عليهم، وها هي تلبس الحجاب.

شعرت حواء المؤمن بالضيق أول الأمر من مسألة الحجاب، لكنها حينما عادت إلى غرفة الاستقبال وانتبهت إلى أن الفيلم الإيراني لم ينته بعد جلست لمتابعته، وبمرور الوقت شعرت بالراحة والقرب من بطلة الفيلم على الرغم من أنها لم تفهم الحوار، لكنها فهمت من سير المشاهد بأن هذه المرأة تريد أخذ طفلها بمساعدة صديقة لها وأن هناك من يلاحقها، زوجها أو من أهل زوجها، وهي تهرب من مكان إلى مكان. تعاطفت مع هذه المرأة كثيراً، وأعجبها هذا الجمال الشرقي الذي لا ترى مثله في الأفلام الغربية.

حينما انتهى الفيلم انتقلت إلى محطة تلفزيونية ثانية كانت تبث حفلاً موسيقيا، وأخذت تتنقل بين المحطات الألمانية المختلفة، وأخيرا انتقلت إلى المحطات العربية التي كانت تبث فيلما مصريا قديما. لم تكن سابقا تعرف بوجود هذه القناة، فكان الأمر بالنسبة لها اكتشافا سيفرح زوجها بلا شك.

جلست تتابع الفيلم بعد أن كانت قد نوت الذهاب للاستلقاء على سريرها. كان الفيلم مسلياً جداً، بل الأهم من ذلك هو من تمثيل هند رستم وسعاد حسني وعمر الشريف والممثل الكبير السن الذي يضع طاقية فوق رأسه وقد نسيت اسمه، لا تذكرته أنه يوسف وهبي وكذلك الممثل عبد المنعم إبراهيم. هذا الفيلم الذي شاهدته مرات من شاشة التلفزيون العراقي عصر أيام الجمعة حيث كان موعد الفيلم العربي، لكنها لا تمله فهي تشاهده بمتعة شديدة برغم معرفتها بكل أحداثه، وأنها تضحك كل مرة، من كل قلبها، لبعض المواقف المضحكة فيه. تمددت على الصوفا ساندة رأسها إلى كفها مستغرقة في أحداث الفيلم المسلية.

**********

عند الأصيل، كان الفيلم قد انتهى وبدأت المحطة تبث لقاءً مع فنان مصري معروف متوقفة عن حياته الفنية وأفلامه ومسلسلاته. سمعت وقع خطوات على السلم الخشبي، فنهضت بنشاط، ومضت فاتحة الباب فتحة ضيقة لترى من القادم فرأت ضيوف جارهم اللبناني وهم ينزلون السلم، بينما كان هو واقفا عند الباب يودعهم، وحينما اختفوا في منعطف السلم فتحت الباب فتحة أكبر وكأنها كانت تنتظر أحدا لكنها في أعماقها أرادت أن يراها جارهم اللبناني بشكلها الجديد، وفعلا ارتسمت علامات الدهشة والإعجاب الشديد على وجه الجار اللبناني حينما رآها، ابتسم لها، فوجدت نفسها تبستم له تلقائياً، لكنها لأرادت أن تبرر فتحها الباب كي لا يفهم أنها تتلصص عليه، فقالت باستحياء:

-                     ظننت زوجي قادم، نحن أيضا ننتظر ضيوفا.

لم يصدق آدم اللبناني أنها هي التي بادرت بالكلام، وشعر بحكم خبرته النسائية بانها كانت تتقصد وقوفها عند الباب، فاستلم الرسالة الأنثوية الغامضة، وقال لها:

-                     إن شاء الله خير. هل حصل شيء. أراك بالأسود. ؟

ارتبكت هي. وشعرت بمجساتها الأنثوية أنه يريد أن يتواصل معها بأي شكل، وأحست برغبة غامضة في أعماقها أن تتواصل معه أيضاً، فقالت:

-                     نعم. استشهد لنا بعض الأقارب في العراق.

فبدى على وجهه أسف حقيقي، وقال:

-                     إلى رحمة الله. لكن قبل قليل كنت بلا حجاب. هل يجب وضع الحجاب عند حصول الوفاة. ؟

ارتبكت من سؤاله ولم تكن تعرف هل هو معجب بحجابها أم لا، فقالت:

-                     لا. لكني أريد أن أرتدي الحجاب.

فقال لها بنبرة فيها إعجاب خاص وإشارات فهمتها جيداً:

-                     رائع. أنك رائعة فيه. سبحان الله.

-                     شكراً.

-                     بالمناسبة. أنا اسمي آدم.

-                     عاشت الأسماء.

تمتمت بخجل. ثم قالت:

-                     وأنا حواء.

-                     تشرفنا مدام حواء.

أعجبها أن يطلق عليها وصف "مدام". لكانت برغم ذلك كانت مرتبكة. لم تستطع أن تتواصل معه أكثر، فظلت للحظات تنتظر منه أن يتواصل معها لكنه كان ينتظر منها أيضا أن تقول شيئا لأنه أحس أنها منجذبة للحديث معه. أخذ يتأملها بجرأة ورغبة واضحة، شعرت برجفة من نظراته فأغلقت الباب بشكل مفاجئ.

خلف الباب وقفت حواء المؤمن وهي تحس بسعادة خفية من كلامه الذي كان يتضمن إعجابا صريحاً بجمالها، وكذلك أسعدتها نظراته التي شعرت وكأنها تحرقها. لا تدري لماذا شعرت برغبة عارمة في أن تراه ثانية ففتحت الباب، بالرغم من أنها كانت تشعر بأنه غير موجود، لكنها فوجئت بأنه كان واقفا في مكانه، فارتعبت، لكنه قال لها بجرأة ودعوة صريحة لأشياء أخرى:

- تعالي تفضلي اشربي القهوة، إلى أن يأتي ضيوفكم.

ارتعبت وبدت الدهشة على وجهها المثير وقالت:

-                     لا. ماذا تقول. إذا يراني زوجي سيقتلني. ماذا سيقول. ؟

انتبه آدم اللبناني لجملتها. إذن هي متواطئة معه. تريد لكن بسرية تامة. فقال لها معتمداً على خبرته في صيد النساء:

-                     ومن أين يعرف. ؟ اشربي القهوة. وسنترك الباب مفتوحا. فإذا سمعنا صوت أقدام صاعدة عندها ستخرجين.

صمتت للحظات وكأنها تزن الأمور، ثم قالت:

-                     لا. لا. أخاف. لا يجوز ذلك.

أغلقت الباب. ووقفت خلف الباب مرعوبة من هذا الحوار المكشوف والدعوة الصريحة للمغامرة، لكنها برغم كل هذا أحست بنشوة تجتاحها. بدأت تتعجب من تحولات مواقفها ومن نفسها وتناقضاتها، فقبل قليل كانت تجتاحها حمى دينية حيث لبست السواد حزناً على شهداء قصة (المرأة المجهولة – متاهة آدم)، وغطت رأسها بالحجاب تحت تأثير شطحة فنية وروحانية، وشعرت بالود والقرب من زوجها وها هي تسعى لإقامة علاقة مع جارهم. هل هي سهلة إلى هذه الدرجة، وضعيفة بهذا الشكل أمام شهوتها؟

فكرت حواء المؤمن سائلة نفسها بصراحة: ماذا تريدين يا حواء. ؟ ولم تجد أية إجابة شافية ووافية لأنها نفسها لا تدري فعلا ماذا تريد بالضبط. ؟

**********

آدم البغـدادي: هل يا تُرى أن حواء المؤمن بهذا المستوى من الوعي الذاتي لنفسها بحيث تطرح على نفسها هذه الأسئلة؟ لِمَ لا، أذكر أن إحدى جاراتنا كانت متزوجة أيضا من شخص محترم لكنها كانت لا تستطيع أن تقاوم نفسها ورغباتها، حيث كانت تقيم علاقة مع الشبان في محلتنا، وكانت على علاقة معي أيضا، لكني كنت على علاقة طيبة مع زوجها، وأكن له الاحترام، وذات مرة سألتها لماذا تفعل ذلك وتسيء لزوجها. ؟ ألا تحترمه. ؟ ألا يرويها جسديا. ؟ والغريب أن إجابتها كانت تؤكد بأنه شخص محترم ويحسن معاملتها وهو قوي وجيد معها في الفراش، لكنها لا تستطيع أن تقاوم نفسها في أن تقيم علاقات مع آخرين. ؟ لا تدري لماذا. ؟ هل هو تأكيد للذات على أنها مرغوبة من الآخرين. ؟ هل هي غيرة من بقية الفتيات الشابات اللائي يتابعهن الشباب في المحلة. ؟ هل هي محاولة للتشبه ببعض النساء اللائي اشتهرن في الوسط النسائي في المحلة بأنهن يبدلن الرجال مثل تبديلهن جواربهن. ؟ هي لا تدري لماذا، بل هي تؤنب نفسها على ذلك، وكما روت لي فأنها كانت تلوذ إلى الصلاة بعد أي ذنب أو لقاء لها مع شاب، ولو أنها في حياتها اليومية لا تقيم فريضة الصلاة، وكثيرا ما كانت تبكي حين تكون وحدها على سوء تصرفاتها وإساءتها لزوجها، بل وكانت تتذلل إليه بعد أي ذنب تقترفه.

فهل استمد هو طبيعة حواء المؤمن من مدخرات ذاكرته ليشكلها دون وعي منه من خلال شخصية جارتهم التي عرفها في فترة مراهقته؟ ثم أن تساؤلات حواء المؤمن عن نفسها وضعفها وسهولتها إلى هذا الحد بحيث يدعوها جارهم اللبناني مباشرة إلى بيته وحدها متعمدا أن يكون ذلك سرا بينهما فقط، هو تشخيص لنمط من النساء. أذكر نموذجا روائيا عند (هنري ميلر) في كتابه (ربيع أسود) حيث يصادف أن يعجب بطل الرواية بامرأة اسمها (كورا)، وهي امرأة متزوجة من رجل اسمه (بول)، وكانت هذه المرأة المثيرة الشهية الحزينة الملامح تبدو عاشقة مخلصة لزوجها، لذا كان بطل الرواية يهاب الاقتراب منها لأنها امرأة عاشقة وفاضلة، وصادف أن غرق زوجها في بحيرة أثناء السباحة، وحينما قرر زيارتها لتقديم التعازي، فوجدها في ثوبها الأسود المفتوح الصدر والقصير، وحينما جلس يواسيها مرددا الجمل عن حسنات زوجها، وبينما كانت هي تبكي قام هو فرفع ثوبها وأولجه فيها، وكانت هي تصرخ وتلهث من اللذة وتقول له، لم أكن أتصور أنك ستفعل هذا. في ما بعد ذلك أخذت رأسه إلى الأسفل وطلبت منه أن يقبله، وتقول له وهي تتوسل: هل تعدني أن تبقى على حبي. ويردد بطل الرواية أنه لم يكن يعرف أنها سهلة لهذا الحد برغم مظاهر الفضيلة التي تبدو عليها.

لكن ليس بالضرورة أنني قد تأثرت بهذه الرواية، أو أنها برزت من لا شعوري، علما أني وضعت أشارة على تلك الصفحات التي تتضمن هذا المشهد، وإذا ما صارت الرواية أمامي فأني لا أتردد من فتحها على تلك الصفحات. ويبقى السؤال: كيف تتشكل الشخصيات الروائية ومن أين تأتي؟

الفـصــــــل الـعـــاشــــــــــر
تـحـــولات الدكتـــور آدم الـتــــائــه
رجع الدكتور آدم التائـه من مدينـة (أيسن) القريبة عند الغروب. كان تعباً، وساهياً، ومهموم الملامح، وما أن فتح باب الشقة حتى وصلت أنفه روائح الطعام الطيبة، رائحة الرز البسمتي الزكية، وروائح البهارات المنبعثة من تشريب الدجاج الذي أعدته زوجته، وكذلك روائح البخور الزكية المنبعثة من غرفة الاستقبال، لكنه ذهل حينما دخل إلى غرفة الاستقبال مباشرة ورأى زوجته حواء المؤمن في ثوبها الأسود وقد غطت رأسها بفوطة جميلة زاد وجهها جمالاً وإثارة.

هبت هي واقفة منتظرة أن يقول شيئاً، لكنه ظل للحظات يتأملها، ثم استدار وخرج من الغرفة متجها إلى المطبخ، وسمعت أصوات القدور والأطباق، فأصيبت بخيبة كبيرة وإحباط، وأحست بغضب خفي يجتاحها، ولا تعرف لماذا برق للحظة في ذاكرتها البصرية وجه جارهم اللبناني ثم اختفى.

فكرت حواء المؤمن مع نفسها للحظة: أمن المعقول أنه لم ينتبه إلى ثوبها الأسود وحجابها. ؟ لقد تأملها جيداً لكنه لم يعلق، لماذا. ؟ لم يبدُ على وجهه أنه ضد ذلك، لا ولا أنه مع حجابها. ؟ هل أنه جائع إلى الحد الذي لم يدعه أن يبدي رأيه. ؟

مضت خلفه إلى المطبخ. وجدته قد صب لنفسه شيئاً من الرز في طبق، فأسرعت هي وصبت له مرقاً في طبق آخر ووضعت له أفخاذ الدجاج لأنها تعرف أنه يحب أفخاذ الدجاج، وأخذت الأطباق ووضعتهما في صينية. كان هو منهمكاً بغسل الفجل، التفت إليه وقالت:

-                     هل أنت جائع إلى هذه الدرجة. ؟ يبدو التعب على وجهك، ألم تأكل شيئا ً طوال النهار. أين كنت. ؟

ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة وقال بهدوء:

-                     على أي من هذه الأسئلة أجيب أولا. ؟ نعم أنا جائع وأموت من الجوع، وأنا تعبان جداً، ولم آكل شيئا لحد الآن، أما أين كنت، فسأجيب عليه بعد الأكل لأني جائع جداً جداً، وبالمناسبة أراك قد طبخت كل هذا وبخرت البيت ولبست الأسود ووضعت حجابا ً على رأسك، فما سر كل هذا الانقلاب. ؟

انتبهت حواء المؤمن إلى أنه قد لاحظ كل شيء لكنه لم يعلق في حينها لأنه وكما يبدو جائعا ًبالفعل. حملت الصينية وذهبت إلى غرفة الاستقبال، فقد كان كثيراً ما يأكل هناك على الطاولة الموضوعة في وسط الغرفة بعد أن يقربها إلى الصوفا. تبعها حاملاً بعض فصوص الفجل الأحمر الذي غسله.

جلست ناظرة إليه وهو يلتهم الطعام التهاماً، لم تشاهده جائعاً بهذه الطريقة، كما لاحظت أنه لم يعترض على بقائها في الغرفة وهي تنظر إليه، فهو كثيراً ما كان ينزعج حينما تظل تتأمله وهو يأكل طعامه.

كان آدم التائـه يأكل وهو غارق في تأملاته، فلم ينظر إليها قط، كان ينظر في الصينية، يأكل بهمة ونهم وكأن عليه انجاز مهمة سريعة، لكنها أحست أن فكره في مكان آخر، هذا واضح من نظراته الشاردة ووجهه المتعب، وعدم انتباهه لها، لكن يا ترُى أين كان. ؟ وبماذا يفكر. ؟

لم تنتظر إلى أن ينهي طعامه إذ قامت إلى المطبخ لتعد الشاي، فوضعت الماء في الدورق الخاص بغلي ماء الشاي وأشعلت الطباخ، ثم صبت لنفسها صحنا من الرز وعليه شيء من المرق وقطعة من الخبز ووضعتهما في صينية صغيرة وجاءت ثانية إلى غرفة الاستقبال، وجلست قبالته وبدأت تأكل أيضا.

كانت تأكل وتنظر إليه، لم ينتبه لها إلا حينما أوشك على الانتهاء من الطعام. كانت هي أيضا على وشك الانتهاء، وكانت ملامح الارتياح قد بدأت تأخذ مكانها على وجهه، ابتسم لها بطيبة وكأنه انتبه لوجودها فأراد بابتسامته أن يعتذر، فاستغلت هذا الوضع وقالت له:

-                     أرجو أن تقرأ الفاتحة.

نظر إليها متعجبا وقال:

-                     الفاتحة. على روح من. ؟

-                     على روح أمك أولاً، فمن الواجب أن نقيم وليمة كل ليلة جمعة ونقرأ الفاتحة على أرواح الموتى، ثم. ليس فقط على روحها وإنما على أرواح آخرين أيضاً.

-                     ما الذي يجري يا حواء. ؟ ما هذه الروحانية التي أصابتك. ؟ وعلى أرواح من أيضا نقرأ الفاتحة. ؟

صمتت لحظة، كانت مترددة، لكنها حسمت أمرها وقالت له:

-                     على روح المهندس آدم المطرود، والمهندس آدم الصاحب، والشخص الآخر زوج حواء اللهيبي. الذي قُتلوا ظلماً.

ارتسمت دهشة كبيرة على وجه آدم التائـه، حدّق في وجهها للحظات، نظر فجأة إلى ملف الرواية على الطاولة، التفت إليها ثانية، وارتسمت ابتسامة على وجهه، وقال لها بهدوء:

-                     هل قرأت الرواية. ؟

تردد قليلا ثم أجابت وشعور مزدوج من الخجل والذنب يجتاحها:

-                     نعم. قرأتها اليوم. وبكيت على هؤلاء الأبرياء. لذا قررت مع نفسي أن أقيم العزاء على أرواحهم لمدة ثلاثة أيام، وأن ألبس السواد حزنا عليهم، وأن أطبخ هذه الوليمة لقراءة الفاتحة على أرواحهم البريئة.

أحس الدكتور آدم التائـه بمشاعر مختلطة وهو يستمع إليها. مشاعر هي خليط من الطيبة والشفقة، والفرح، والخجل أيضا، فقد قرأت تلك المشاهد الجنسية والتفاصيل الأخرى، وربما فهمت شيئا آخر، فقال لها بعد لحظات من الصمت الثقيل عليها:

-                     تعرفين أنني أكره من يتلصص عليّ، ويفتش في أوراقي وكتبي، ويقرأ شيئا لا أريد أن يقرأه أحد حالياً.

صمتَ للحظات، بينما هي أحست بالخوف، وشعرت أنها ارتكبت شيئا لا يحبه ويثير غضبه كما يقول، فنكستْ رأسها اعترافاً منها بالذنب، لكنه استمر قائلا:

-                     لكني برغم ذلك اشعر بالسعادة من تأثير الرواية عليك إلى هذا الحد، وأنك أحسست بالشخصيات في روايتي إلى هذه الدرجة. ، هذا يعني أني قد نجحت في خلق شخصيات تنبض بالحياة، إلى درجة أنك بكيت ولبست السواد حزنا عليهم وأنك تريدين إقامة العزاء لثلاثة أيام على أرواحهم. رائع جداً.

أثار كلامه استغرابها، فكل ما يعنيه نجاحه في الكتابة، لكنها برغم ذلك سألته:

- ألا تريد أن تقرأ الفاتحة على أرواحهم. ؟

نظر إليها للحظات باستغراب ثم قال:

-                     بلى. نقرأ الفاتحة على أرواحهم جميعا. على روح أمي أيضا، لكن هناك مشكلة!

-                     مشكلة. ؟ ما هي. ؟ قالت مستغربة

-                     يجب ذكر اسم الشخص واسم أمه، وأنا لا أعرف أسماء أمهاتهم، بل إن رجل السكرتيرة حواء اللهيبي لا أعرف أسمه أصلا.

-                     هل هذا يعني أنه من غير الممكن قراءة الفاتحة على أرواحهم. ؟

نظر إليها بود وحنان وقال:

-                     بلى، لكننا سنقول الفاتحة على أرواح شهداء رواية متاهة آدم: المهندس آدم المطرود بن حواء، والمهندس آدم الصاحب بن حواء، والموظف المجهول الاسم زوج السكرتيرة حواء اللهيبي بن حواء. هل يعجبك هذا. ؟ والآن قومي واحملي إلي الشاي قبل أن أغير رأيي ولا أقرأ الفاتحة!

نظرت إليه بانكسار وقالت:

-                     لا. خطية. أقرأ الفاتحة على أرواحهم. سأحمل الشاي فوراً.

وقامت مسرعة إلى المطبخ حيث أعدت الشاي بعد أن كان الماء قد غلى في الدورق وكاد يتبخر منه، وأثناء ذلك أحضرت صينية الشاي ووضعت استكانات الشاي فيه، فعادة حينما يريد الراحة والسهر في البيت فأنه يشرب الشاي بالاستكان المتعارف عليه في العراق، وإذا ما كان على عجلة من أمره، أو جاء ضيوف من الجالية العربية فأنه يفضل الأكواب، واليوم لاحظت أن مزاجه ليس سيئا على الرغم من التعب الذي كان فيه. فحملت دورق الشاي في الصينية أيضا ومضت إلى حيث زوجها.

**********

حينما دخلت غرفة الاستقبال وجدته متمددا على الصوفا وهو يشاهد التلفزيون من غير انتباه أو تركيز، فجلست على الصوفة الجلدية القريبة منه، ووضعت صينية الشاي على الطاولة التي تتوسط الغرفة وأخذت صينية طعامه وصينيتها وحملتهما إلى المطبخ ثم عادت فرأته قد جلس استعدادا لشرب الشاي. نظرت إليه بتساؤل، فانتبه لها وفهم ما وراء نظراتها، فقال لها:

-                     لقد قرأت الفاتحة على روح أمي أولا ثم على أرواح شهداء رواية (المرأة المجهولة - متاهة آدم) لكاتبها آدم التائـه، وسميت الشهداء كلهم، بما فيهم حواء الصايغ وكل بنات حواء.

بينما كان يتحدث كان هي تشعر بالارتياح وبسعادة خفية، لكنها استغربت حينما وصل اسم حواء الصايغ، فقالت بتعجب:

-                     لكن حواء الصايغ لم تمت. ؟ هل هي ماتتت فعلاً. ؟

-                     لا أعرف، ربما قتلت هي أيضا. وربما لم تُقتل أصلاً. لا أعرف. ؟

نظرت إليه باستغراب وسألت:

-                     كيف لا تعرف وأنت كاتب القصة. ؟ المهم، هل قرأت على أرواحهم الفاتحة. ؟

-                     نعم. وعلى أرواحنا أيضا.

نظرت إليه بخوف وسألت:

-                     على أرواحنا. ؟؟ لمـاذا على أرواحنا. ؟ الحمد لله لم نمت بعد!

نظر إليها وابتسم بجزن قائلاً:

-                     هل تعتقدين بأننا أحياء؟ نحن موتى في الحياة!

-                     لا أفهم. ؟

-                     أحسن. لأن الفهم كثيراً ما يسبب وجع الرأس!

أحست بالخيبة من جوابه وقالت:

-                     تمزح معي. أليس كذلك. ؟

نظر إليه مشفقا وقال لها بلامبالاة:

-                     الفهم والمعرفة تجلب الهم والشقاء والنكد يا حواء.

صمتت للحظات وهي تتأمله. ثم قالت بنبرة مشوبة بخيبة مكتومة:

-                     ربما أنت محق في هذا.

كانت أثناء ذلك قد صبت له ولنفسها الشاي وأخذا يشربانه، لكنه توقف فجأة ونظرا إلى وجهها محدقا في غطاء الرأس وسأل:

-                     ما قصة غطاء الرأس هذا. ؟ هل تريدين التحجب أو أنها نزوة وتغير شكل. ؟ أم ماذا. ؟

-                     يعني.

-                     يعني. ؟ يعني ماذا. ؟

أحست بالحرج، ولم يكن أمامها سوى أن تروي دوافعها الحقيقية وراء ارتداء الحجاب فقالت:

-                     ليوم شاهدت فيلما إيرانيا بالتلفزيون وكانت البطلة محجبة فتذكرت أن المرأة المحجبة في الأردن أعطتني حجاباً، فقمت وأخرجته من الحقيبة واستخدمت الفوطة غطاءً للرأس.

فقال بنبرة فيها ضجر واستياء مكتوم:

-                     وهل ستستمرين بغطاء الرأس هذا دائما أو فقط أيام العزاء التي تريدين أقامتها على أرواح شهداء المتاهة. ؟

-                     إذا لا تمانع أبقى مرتدية الحجاب.

-                     ولماذا أمانع. ؟ هذه حريتك الشخصية، وبالمناسبة إنه يليق بك كثيراً. ؟ صرت أكثر جمالاً وإثارة. ؟

غمرها فرح خفي، لكنها وخلال ثوان استحضرت وجه جارهم اللبناني، وكلماته نفسها تقريبا من أن الحجاب أضاف إليها جمالاً وإثارة. ؟ ابتسمت لزوجها وقالت بخجل ممزوج بشيء من الغنج:

-                     يعني يعجبك الحجاب. ؟

-                     يعجبني. صرت أجمل. لكن هل تكتفين بالحجاب أم تريدين أيضا القيام ببقية الطقوس والفرائض. ؟

فقالت بحماس لم تعهده هي في نفسها:

-                     أنا أعرف الصلاة وقد صليت لمدة ستة أشهر وتركتها، والحقيقة أنا لم أفكر في ذلك، لكن يمكن أبدأ بالصلاة أيضا. لم أكن أعتقد أنك متدين أو أنك لا تمانع بارتدائي الحجاب واقامة الصلاة. ؟

نظر الدكتور آدم التائـه إليها وكأنما يقرأ أفكارها ثم ابتسم مع نفسه وقال لها:

-                     لماذا أمانع. ؟ أنت حرة، وشخصيا أنا غير متدين لكني أحترم عقائد الناس، أنا مؤمن بطريقتي.

لم يكن في ذهن حواء المؤمن حينما ارتدت الحجاب أن تصلي أيضا، لكنها لم تعرف لماذا وجدت نفسها قد ألزمت نفسها أمام زوجها بالصلاة. ، وأحست بشيء من الحرج بهذا الإلزام، وأرادت أن تغير مسار الحديث، فقالت:

-                     اليوم، صدفة، وأنا أتنقل بين القنوات وجدت قناة عربية مصرية جديدة.

-                     رائع. قال زوجها معلقا

أحست حواء المؤمن أنها صارت أكثر قربا من زوجها هذا المساء، واستعدت لسهرة ممتعة، حيث سيشاهدان فيلماً عربياً على القناة المصرية وسوف يبقى الليلة ولا يخرج كعادته مع أصدقائه، فقامت إلى المطبخ حاملة صينية الشاي، وهناك في المطبخ فتحت دولابا علويا وأخرجت أكياس الفستق واللوز وشرائح الجبس وبعض قطع الحلوى، ووضعت من كل صنف شيئا منها في طبق صغير ووضعتها في الصينية وحملتها إلى غرفة الاستقبال، فوجدته جالسا باسترخاء على الصوفا متكئا على جانبها وهو يقلب القنوات التلفزيونية، فوضعت الصينية أمامه وجلست على مقربة منه، فقال لها:

-                     تعالي أجلسي قربي. أريد أن أعرف منك بعض الأشياء.

جلست قربه على الصوفا من الطرف الآخر. صمتت لحظة بانتظار أن يسألها، إلا أنه كان منشغلا بالتنقل بين القنوات إلى أن استقر على قناة عربية تبث من لندن، ثم وضع جهاز الريموت كونترول جانبا والتفت إليها سائلا:

-                     قولي لي يا حواء. هل قرأت الرواية بكاملها. ؟

-                     نعم.

-                     وهل أعجبتك. ؟

-                     نعم.

-                     ما الذي أعجبك فيها. ؟

-                     لا أعرف بالضبط. أعجبتني وكفى.

-                     ما الذي أعجبك فيها أكثر. ؟

-                     لا أدري. ربما لأنها تتحدث عن الحب. ؟

-                     لكنها لا تتحدث عن الحب فقط. ؟

-                     صحيح. لكن الحب بين المهندس آدم المطرود وحواء الصايغ جميل جداً.

-                     وأي الشخصيات أحببتها أكثر. ؟

-                     أحببت كل الشخصيات. كل شخصية لديها مشاكلها.

-                     أي الشخصيات وجدتها أكثر قربا منك. ؟

-                     لا أدري. ربما حواء الصايغ. أو حواء التركية. أو حتى حواء اللهيبي. كلهن نساء مسكينات. كل واحدة لديها معاناتها.

-                     والرجال. ؟

-                     مساكين الرجال. لقد أشفقت على هؤلاء الأبرياء الذين عذبوا وقتلوا ظلما. لكن لدي سؤال.

-                     اسألي.

-                     هل ما جرى مع هؤلاء قد جرى فعلا. ؟ وهل يحدث هذا في العراق. ؟

نظر إليها بإعجاب. وقال لها بعد لحظات من الصمت ونبرة حزينة. :

-                     ما جرى معهم جرى بالضبط مع الآلاف من الناس الأبرياء يا حواء، وكان وما زال هذا يجري في بلادنا. ولم نكن نحن نعرف عنه شيئا، لأننا كنا نعيش في عزلة. أتدرين أين كنتُ أنا اليوم؟

-                     لا. من أين أدري. ؟

-                     كنتُ مع بعض العراقيين المعارضين في مظاهرة ضد النظام الحاكم في العراق.

ارتسمت ملامح الرعب والخوف على وجهها، وقالت متسائلة:

-                     ماذا تقول. ؟ ألا تخاف منهم. ؟ ولماذا تفعل هكذا يا دكتور. ؟

حدق للحظات في وجهها الجميل وأحس أنها قريبة منه وأنها برغم بساطة ثقافتها هي ما تبقى له من أهله ووطنه في هذه الغربة، فقال لها شارحا:

-                     أنت تعرفين أنني لست سياسيا. ولم أكن يوما كذلك. لكنني بعدما جئنا إلى هنا. قال لي المحامي المكلف بالدفاع عن لجوئنا بأنني يجب أن أثبت للمحكمة الخاصة باللاجئين بأني معارض للنظام وأنني ملاحق من قبله، وأني لا أستطيع العودة إلى العراق، وإلا ستكون حياتي في خطر، وقال لي إن أسهل طريق لذلك هو المشاركة في مظاهرات معادية للنظام تقيمها المعارضة العراقية وأن ألتقط صورا لنفسي وأنا وسط التظاهرة كي يقدمها هو إلى المحكمة من أجل ضمان الاعتراف باللجوء السياسي، واليوم حضرت مظاهرة في مدينة (إيسن)، أعلمني عنها بعض الأصدقاء، لكنني هناك تعرفت على الكثير من العراقيين، من مختلف الجهات السياسية. هل تتصورين، كان هناك الكثيرين من المعارضين الإسلاميين ومن الشيوعيين ومن الأكراد. هؤلاء الذين كنا في العراق نخاف أن نذكر اسمهم، اليوم كنت معهم في مظاهرة واحدة ورفعنا الشعارات ضد النظام. هل تدرين يا حواء أن ما ذكرته في الرواية لا يشكل إلا قطرة من بحر قياسا للذي سمعته وشاهدت بعض صوره في المظاهرة. أين كنا نحن. ؟ هل كنا نياما. ؟

نظرت إليه وعلى وجهها ارتسم خوف حقيقي وقالت:

-                     ماذا تقول يا دكتور؟ كلامك يخوفني؟ هل في ذلك خطر عليك؟

غمره فرح حينما لمح الخوف عليه في نبرة صوتها وملامح وجهها، فقال مهدئاً إياها:

-                     أنت تعرفين لا أحد لي في العراق، لكن معظم الذين كانوا يتظاهرون يعرفون أن أهلهم في العراق، وربما سيتعرضون للأذى لكنهم لم يخافوا ذلك وخرجوا ينددون بالنظام. !

فقالت بحنان ممزوج بالخوف:

-                     أنا أخاف عليك أنت، لا أحد عندي غيرك.

شعر بقربها منه، ووجد نفسه يتحدث معها بتلقائية وحميمة نادراً ما كانت بينهما:

-                     لا تخافي. إن الله معنا. لكن هل تعرفين لقد شعرت بالخجل من نفسي.

-                     أنت. ؟ ولماذا لا سمح الله تشعر بالخجل. ؟ ماذا فعلت حتى تشعر بذلك. ؟

ابنسم لها بمودة وقال:

-                     لم أفعل شيئا، ولأني لم أفعل شيئا شعرت بالخجل!

-                     لم أفهم. ؟

-                     تصوري أنا أستاذ جامعي، وكاتب، كنت أعيش في برجي العاجي ومنغمسا في خصوصيتي، بينما في تلك الأوقات نفسها كان الناس يعذبون ويقتلون ويموتون بلا رحمة، وبرغم أني كنت أتابع بعض ما ينشر هنا وهناك لاسيما حينما وصلت الأردن، إلا أنني لم أفعل شيئاً، بينما وجدتُ اليوم بين المتظاهرين بعض النساء، فتيات شيوعيات وأخريات محجبات كن ضمن المتظاهرين.

حاولت هي أن تواسيه فقالت:

-                     لا تنس يا دكتور هؤلاء الذين يتظاهرون هنا في ألمانيا لم يتجرأ أحد منهم أن يفتح فمه في العراق، وربما كانوا في الحزب، وربما الآن يحتاجون إلى صور يثبتوا فيها أنهم ضد النظام كي يضمنوا بقائهم في ألمانيا.

أحس هو بالإحراج من كلامها إذ يمسه هو أيضا لكنه كان يدرك أنها تريد أن تخفف عنه انتقاده لنفسه، فابتسم قائلا:

-                     لم أكن أتصور أنك محللة سياسية، ففي كلامك شيئاً من الصحة، بعضهم حالهم مثل حالي، لكن هذا لا يغير من الموضوع شيئاً. نحن في بلد خارج التاريخ والحضارة.

أحسته قريبا منها وأسعدها ذلك، فقالت له بحنان:

-                     المهم. أتمنى أن لا يشكل ذلك خطرا عليك. !!.

ابتسم لها وسأل برقة:

-                     لماذا. ؟ هل تخافين عليّ إلى هذا الحد. ؟

خجلت من سؤاله فهو لأول مرة منذ زواجهما يسألها هذا السؤال، وبهذه الرقة، فابتسمت، وشعرت بسعادة وسلام حقيقي يغمر روحها. وقالت:

-                     كيف لا أخاف عليك، ألست زوجي. ؟

-                     هل تخافين عليّ لأني زوجك فقط. ؟ أم لأنك تحبينني. ؟

-                     وهل يحتاج هذا إلى سؤال. ؟

-                     طبعا. لذلك أسألك!

-                     كيف لا أحبك، أنت زوجي. ؟

صمت الدكتور آدم التائـه لحظة، وشرد ذهنه، ثم التفت إليها وسألها وهو يحق في وجهها:

-                     هل كنت تخافين على زوجك السابق، وتحبينه أيضا. ؟

أربكها سؤاله وأحست أن كل ما بنته من أفكار عن تطور علاقتها معه وتقربها منه ليس سوى أوهام، فما زال زواجها السابق يمتد كهوة سوداء بينهما، فهو يغار من زوجها السابق، ولا يستطيع أن ينسى بأن ثمة رجلا ً آخر نام معها، ولو على سنة الله ورسوله، فالمشكلة لديه أن رجلاً في حياتها تمتع بها، ومن المؤكد أن يتخيلها معه في أوضاع مختلفة، لذا فهو يطرح سؤاله من باب الغيرة، لكن كيف لها أن تجيبه! هي تعرف أنها ليست مثله موهوبة في الكلام والكتابة وطرح الأسئلة والإجابة الذكية عليها. نعم. جوابها الساذج على سؤاله هو الذي استفزه ودفعه لطرح سؤاله القاسي هذا. لذا استجمعت كل قدرتها وأجابت:

-                     ذاك كان قاسيا معي، ويضربني، وكان يسيء إليّ، وكانت حياتي هناك عذاب في عذاب، كانت جحيما، بينما أنت إنسان مختلف. إن حياتي بدأت منذ اليوم الأول الذي دخلتُ فيه بيتكم، المرحومة الوالدة أحبتني مثل ابنتها، وأنت كنت دائما طيبا معي، لذلك لا توجد مقارنة بين حياتي السابقة قبل أن أدخل بيتكم وبين حياتي معك. تلك حياة قطعتها مثل رئة مصابة بالسرطان.

ابتسم مع نفسه ابتسامة خفيفة وهو يستمع لجوابها الدبلوماسي، انتبه إلى أنها لم تذكره زوجها السابق إلا بذكره (ذاك) وزواجها السابق إلا ب (حياتي السابقة). فكّر مع نفسه أنها ذكية، وذكية جداً، ثم فجأة انهالت عليه ذكرياته السابقة، تذكر أمه وعلاقتها بزوجته، فرقت مشاعره قليلاّ، لكنه استذكر أباه أيضاً، لذلك التفت إليها وسألها:

-                     و أبي. ؟ كيف كانت علاقتك معه. ؟

كان سؤاله صدمة بالنسبة لها، لاسيما وانها قرأت عن علاقة حواء كوناي بالعم، يعني أنه يشك بعلاقتهما، فقالت محاولة تفادي المواجهة:

-                     أبوك. ؟ كانت علاقتي بعمي طيبة، عادية، ربما لأني الوحيدة التي كنت أتحدث معه في البيت، فقد كان لا يتكلم تقريبا مع الوالدة رحمها الله، وأنت كنت لا تود التحدث معه، وكنت أنا محتارة بينكم. كان من خلال حديثه معي يعرف أخبارا عن الوالدة وأخبارك.

-                     وهل كان فعلا يفكر في حفيد له. ؟

انتبهت إلى أنه يشير إلى المشهد الذي رآه عندما وجده جالسا جنبها على سريرها في غرفة النوم، فقالت بحذر شديد:

-                     نعم.

نظر إليها وكل ملامحة تعبر عن لا تصديقه لجوابها، وقال:

-                     لا أعتقد ذلك. , أنه لم يفكر بهذا أبداً، أنه يكرهني ولا يعتبرني ابنه، بل إنه عذب أمي ودمر حياتها واستولى على أموالها، أهانها وأذلها وضربها واحتقرها، كنت أشاهد ذلك بعيني وأنا طفل صغير، لذا ما تقولينه ليس صحيحا. كانت لديه دوافع أخرى.

شعرت بالرعب، وتهيأت لتدافع عن نفسها، فها هو يتهمها بشكل غير مباشر، فقالت:

-                     ماذا تقصد. ؟

صمت للحظات ثم نظر إليها وكأنه يقول لها، إني أعرف كل شيء، لكنه أجاب:

-                     لا أقصد شيئا. ؟

ونهض من مكانه متجهاً إلى مكتبه وجلس على كرسيه، ومن هناك سألها بقصدية واضحة، مستطلعاً رأيها:

-                     ما رأيك بالمهندسة حواء كوناي. ؟

شعرت بشيء من الراحة حينما تجاوز موضوع الأب، فقال بنبرة واثقة:

-                     لقد أحببتها، وتعاطفت معها، لكني أستغرب لماذا لم تكمل قصتها بعد أن خرجت من الغرفة. ؟

-                     لماذا أحببتها. ؟

-                     لأني أعتقد أنها مظلومة، وجدت نفسها في ظروف صعبة، وأنها كانت تخطئ وتتعذب لخطئها الذي تقترفه.

صمت للحظات ثم سألها فجأة:

-                     هل وجدتها قريبة منك. ؟

أحست أنه يحوم حول ماضيها، فقال بنبرة فيها شك:

-                     ماذا تقصد. ؟

-                     لا أقصد شيئا.

وكلبوة محاصرة من كل الجهات لم تجد أمامها إلى أن تقفز في وجه الصياد، قالت بجرأة:

-                     لكن لدي سؤال. ؟

-                     اسألي.

-                     لماذا توصف العلاقة بين الرجل والمرأة بهذا الشكل المفضوح. ؟ ربما سيتهمك الآخرون بأنك لا تحترم أخلاق المجتمع. ولا تعترف بالعادات والتقاليد. ؟ وليس كل الناس لديهم هذا الاستعداد لقراءة مثل هذه الأشياء المكشوفة.

ابتسم لها معجبا لذكائها الذي لم يكن يقدره جيداً، فهي تعرف كيف تلتف على الأسئلة وتتهرب من المواضيع المحرجة، بل لديها رؤية نقدية على بساطتها لكنها منطقية، فقال لها:

-                     لم أكن أعرف أنك ناقدة أدبية جيدة. صحيح ما تقولين. ربما سيتهمني البعض بالإبتذال، والفحش، وربما سيفسر البعض بأن هذه محاولة رخيصة للشهرة والانتشار من خلال أعمال فضائحية، لكني أسألك شخصياً عن رأيك، ألا تجري مثل هذه الأمور بين الرجل والمرأة. ؟

أحست بالخجل. وقالت:

-                     نعم تجري، عند البعض، لا أدري أن كان الجميع هكذا. ؟

-                      إذن، أنا اتحدث عنها بصراحة بينما يستحي الآخرون الاقتراب منها!

-                     لكن هل هناك داع لذلك. ؟ أحيانا أستحي وأنا أقرأ هذه التفاصيل!

-                     ماذا تعتقدين أنت. ؟

-                     أنا لست كاتبة ولا أعرف الجواب.

فجأة وجه الدكتور آدم التـائه نظره إلى باب الشقة حينما سمع طرقا ً على الباب، قامت هي تريد التوجه إلى الباب فقال لها:

-                     لا انتظري، أنا سأفتح الباب.

وقام متجها نحو الباب، فاتحا إياه، فقابله وجه جارهم اللبناني الذي كانت عيناه لحظتها منخفضتين وابتسامة رقيقة ترتسم على وجهه، لكنه فوجئ حينما رفع رأسه ورأى وجه آدم التائـه المتسائل أمامه. انتبه آدم التائه لتحول ملامح الجار اللبناني. ارتبك الجار اللبناني وابتسم ثانية وقال مرتبكاً وهو يشير إلى شقته المجاورة:

-                     أنا جاركم اللبناني، إسمي آدم.

ومد يده مصافحاً فخرج آدم التائه من الشقة وصار أمام الباب. ومد يده مصافحاً وهو يقول:

-                     أهلا وسهلا أخ آدم، أنا أيضا اسمي آدم. آدم التائـه، أهلا وسهلا، كيف يمكن أن نخدمك يا جار؟

-                     عفوا. أنا كنت حجزت أشياء من (كارشتات) وتأخرت فاتصلت بهم فقالوا إنهم سلموا الطرد للجيران، فأردت أن أسأل إن كنتم قد أستلمتم الطرد. ؟

من مكانه نادى آدم التائـه على زوجته:

-                     حواء. هل استلمت طرداً من (كار شتات) يعود لجارنا. ؟

إقتربت حواء المؤمن من الباب فنظر آدم التائـه إلى وجه الجار آدم اللبناني وهو ينظر إلى وجه زوجته فلاحظ ثمة قلقا ً واضحاً وأعجابا خفياً وكأنه يعرفها، وسمع زوجته تقول من خلفه:

-                     لا. لم استلم شيئا، ربما عند جيراننا في الأسفل فهم أقرب إلى الباب. ؟

إرتبك آدم اللبناني، وتراجع معتذراً وهو يقول بارتباك:

-                     أعتذر، ربما عند جيراننا في الأسفل، سأسألهم.

قال ذلك ونزل الدرج مسرعا وكأنه سيذهب إلى الجيران في الطابق الأرضي، بينما دخل آدم التائـه إلى شقته وهو ينظر نظرة مليئة بالألغاز إلى حواء المؤمن التي كانت قد أعطته ظهرها وهي تدخل إلى غرفة الاستقبال. أغلق الباب خلفه، وكأنه اكتشف شيئاً جديداً أو جانبا لم يكتشفه من شخصية زوجته حواء المؤمن، فثمة هاجس نشأ خلال لحظات يشير إلى ثمة معرفة أو تواصل بين جارهم آدم اللبناني وبين زوجته.

**********

آدم البـغـدادي: على الرغم من أن الدكتور آدم التائـه ليس وحده في هذا الفصل إلا أن الفصل يحمل إسم "تحولات الدكتور آدم التائـه. " وأعتقد أن المقصود هنا الإشارة لتحولات آدم التائـه الفكرية، فهنا في ألمانيا سيتعرف على القوى السياسية العراقية المعارضة للنظام. فهنا يتعرف وجها لوجه مع القوى الإسلامية العراقية، كما تعرف على الشيوعيين بكل أطيافهم، وعلى الديموقراطيين الذين على جانبي الشيوعيين. تعرف عليهم وعلى أفكارهم وناقشهم بحذر،وهذا ما أثر على فهمه لوظيفة الكتابة، بل غير من مصائر روايته ومساراتها الدرامية.

لكن هنا أيضا حواريته المهمة مع زوجته حواء المؤمن. إنها بعض جدل الأفكار في تأثير الميديا ووسائل الاتصالات وهيمنتها على لاوعي الإنسان لاسيما من خلال ايقاظ ما دفن في أعماق اللاوعي الفردي والجمعي، وهذا ما نراه في إيقاظ الشعور الديني الكامن في أعمق أعماقها، وفي انجرارها لإقامة طقوس العزاء لشهداء في رواية، فهذا رغبة لاواعية دفينة في العودة إلى الجذور، وفي الجوهر هو عزاء لحواء المؤمن نفسها، ورصد للصراع النفسي الأخلاقي والغريزي لديها.

الفـصــــل الحــــــادي عـشـــــــر
صــــلاة وقبــــر. أشبــاح. واغتصاب
مرت عشرة أيام على سؤال الجار آدم اللبناني عن طرده، لكن هاجس آدم التائـه في وجود علاقة بين زوجته وجارهم آدم اللبناني تحولت إلى شك أشبه باليقين؟ فمنذ دخوله وإغلاق الباب خلفه وهو غارق في أفكاره، بل حتى نظراته إليها كان فيها الكثير من الكلام الخفي والاتهام، وهذا ما أكّد قناعاتها السابقة في أنه يشك في علاقتها بأبيه، وأنه يتهمها في هذه العلاقة بدليل أن قصة حواء كوناي في روايته (المرأة المجهولة – متاهة آدم) هي انعكاس لقناعاته تلك، وأنه، ربما، لاحظ شيئاً من خلال نظراته إلى جارهم آدم اللبناني. !

خلال هذه الأيام العشرة أخذ آدم التائه يكثر من خروجه، ويبقى لفترة طويلة خارج البيت، وحينما يعود متعبا فأنه يأكل ويشاهد التلفزيون ويذهب إلى النوم، وأحياناً ينام على الصوفا الجلدية في غرفة الاستقبال.

صار منعزلاً. صموتاً، شارد الفكر، وصارت علاقته بزوجته حواء المؤمن باردة بشكل مريب، فقد عاد كما كان سابقاً في أيام زواجهما الأولى، يتعامل معها بجفاف لكن دونما تجاوزات، وإنما علاقة روتينية، خالية حتى من الاتصال الجسدي.

هذا الوضع أربك حواء المؤمن كثيراً، ووسعت من الهوة التي بينهما أصلاً، فلقد شعرت للحظات وهي تقرأ روايته بأنه قريب منها، وأنها بعد القراءة. وبعد الحوار الذي دار عن الرواية صارت قريبة منه أكثر، لكن اللعنة حلت حينما طرق جارهم آدم اللبناني الباب. ! وسألت نفسها: ما الذي جرى، أن جارهم لم يقل شيئاً غير اعتيادي. ؟ لقد سأل مجرد سؤال عن طرده. ؟

أحست أن زوجها غريب الأطوار، فهي لم تفهمه جيداً طوال حياتها معه، ربما ذلك بسبب الفارق الثقافي بينهما، ولأنه حاصل على شهادة الدكتوراه ومستواه أعلى منها بكثير وبالتالي فهي لا تفهمه؟

ذلك اليوم الذي فيه طرق جارهم اللبناني الباب عليها كان بداية دخولها إلى عالم الروحانيات والتدين، بل بالغت في التدين، وأخذت الكوابيس تراودها أثناء النوم.

لأول مرة في حياتها تفكر حواء المؤمن بالأرواح الهائمة والأشباح والجن والشياطين. !صحيح أنها أحيانا كانت تشاهد الأفلام التلفزيونية التي تتحدث عن الأرواح والأشخاص المسكونين بها، وكانت أحيانا تشعر بالخوف من الأشباح. لكنها تنسى كل ذلك بعد انتهاء الفيلم. الآن صارت تفكر بالأرواح والأشباح دون أن تشاهد أي فيلم!

سابقاً لم تنتبه حواء المؤمن إلى المبنى القديم الذي تقع فيه شقتهم، فهو بيت ألماني قديم من بيوت ما قبل الحرب العالمية الثانية، يتألف من طابقين، في الطابق الأسفل تعيش عائلة لبنانية كبيرة العدد، لذا فأن دائرة المساعدات الاجتماعية أسكنتها في الشقة الكبيرة التي تقع في الطابق الأرضي، أما الطابق الأعلى منه ففيه شقتان صغيرتان متقابلتان بشكل غريب بحيث لا يفصل بينهما سوى مسافة متر تقريباً، أحدهما تتألف من غرفة صغيرة وملحقاتها يسكنها آدم اللبناني، والشقة المقابلة لها والتي هي شقتهم وتتألف من غرفة الاستقبال ومطبخ في أعماقه تقع غرفة النوم والحمام وبين الغرفتين ثمة باحة صغيرة وضيقة جداً تفصل الباب عن الغرف، وما بين هاتين الشقتين والطابق الأرضي ثمة سلم خشبي قديم يصدر أصواتا وأزيزاً عند صعود أي كائن عليه.

كانت حواء المؤمن، بعد أن تنجز واجباتها البيتية كإعداد الطعام وغسل الملابس، تقضي بعض وقتها أمام التلفزيون، ثم تتجه للصلاة وقراءة القرآن. وبرغم أنها لا تفهم مفردات العديد من الآيات لكنها كانت تقرأها بإنفعال ورهبة.

كانت تخاف الجحيم وصوره الرهيبة في القرآن، لكنها كانت تخاف أكثر من تلك القصص التي سمعتها أثناء طفولتها أو التي قرأتها في بعض الكتب والكتيبات التي كانت تشتري منها أثناء قيامها بالزيارة إلى المراقد المقدسة للأئمة، لاسيما تلك الكتب التي تتحدث عن عذاب القبر وزيارة الملائكة للميت وحسابه هناك.

 كان تلك التصورات عن عالم القبر تثير رعبها الحقيقي، ليس في ما يخص الملائكة، منكر ونكير، وإنما حين تتصور نفسها وحيدة في ظلمة القبر، ثم تمطر السماء فيتسرب الماء والوحل إلى داخل القبر فيغطيها بينما هي عاجزة عن الحركة، أو حينما تتسلل الأفاعي إلى قبرها وتسير زاحفة على جثمانها بينما هي لا تستطيع الصراخ أو الحركة، أو حينما تصل العقارب إلى قبرها وتدب عليها وهي مشدودة بالكفن، والغريب أنها في كل هذه التخيلات عن موتها تتصور نفسها حية وتتنفس، أي في كامل وعيها، لكنها ملفوفة بكفنها ومتروكة وحدها هناك. وهذا ما كان يرعبها بشكل حقيقي.

أحيانا كانت تروادها تساؤلات غريبة، فقد كانت تسأل نفسها: أين سيجلس الملاكان منكر ونكير، فلا مكان في القبر، إنه ليس غرفة وإنما حفرة يدفن فيها الجثمان ويهال عليه التراب. ؟ ثم من أين يدخلان. ؟ وماذا عن الذين يموتون غرقاً. !! أين سيكون منكر ونكير. ؟ هل سيسبحان تحت الماء؟ وإذا ما أكلت الأسماك أجساد الغرقى فكيف ستتم محاسبة الجثة الميت الغريق. !! وإذا ما تم اصطياد تلك الأسماك وأكلها من قبل الناس، فكيف ستتم تلك المحاسبة. !!؟؟.

وماذا عن الذين تتمزق أجسادهم في الحروب ولا يبقى منهم سوى أوصال متقطعة من أجسادهم؟ أو هؤلاء الذين يدغنون في حفرة جماعية. كيف سزورهم الملاكان. ؟ أيعقدان حسابا جماعيا. ؟ وماذا عن الهنود الذين يحرقون جثامين الموتى وينثرون رمادها في الريح أو في النهر المقدس، كيف سيحاسبهم منكر ونكير. ؟؟؟. كانت هذه الأسئلة تشوش عليها ذهنها. لكنها كانت بعد أن تطرح على نفسها هذه الأسئلة تعود لتستغفر الله على هذه الأفكار والشكوك، فقد كانت تخاف منكر ونكير أكثر من رب العالمين، فالله نور السماوات والأرض، وهو الرحمن الرحيم، الغفور العطوف الرؤوف. لقد كتب الله على نفسه الرحمة والغفران. لكن هذان الملاكان مرعبان!

وصارت حواء المؤمن حينما تستغرق في الصلاة وقراءة القرآن تفز من أي حركة أو نأمة تسمعها في شقتهما الفارغة، وكثيراً ما كانت تتصور بأن ثمة شبحا ً أو روحا ً تدخل عليها الغرفة أو تقف خلفها وهي مستغرقة في القراءة، فتتوقف حينها عن القراءة للحظات ثم تلتفت مباشرة إلى الخلف فلا تجد أحداً، فتبسمل وتصلي على النبي وتقوم من جلستها لتذهب إلى غرفة الاستقبال لتشغل التلفزيون وترفع صوته عالياً ليقضي على هذا الصمت والسكون والوحدة التي صارت ترعبها.

ومنذ عشرة أيام. صارت حواء المؤمن تتوقع حدوث كارثة ما، كارثة لا تستطيع أن تعرف ما هي. كانت تتوقع زلزالاً ما سيهز حياتها، وكان هذا الأحساس يعذبها ويرعبها!

**********

في أحد الأيام احتاجت أن تذهب إلى السوبرماركت القريب من بيتهم لشراء بعض منظفات البيت والمواد لغسل الملابس، وكانت قد نسيت أن تطلب من زوجها أن يشتري هذه المواد عند عودته إلى البيت، وما أن فتحت الباب حتى واجهها جارهم آدم اللبناني في تلك اللحظة. كان باب شقته مفتوحا على آخره.

كان آدم اللبناني واقفا عند منتصف الباب ما بين الخروج والدخول. ابتسم لها وحيّاها قائلا:

-                     صباح الخير مدام حواء.

جمدت هي في مكانها، فلم تستطع أن تتقدم خطوة واحدة. نظرت إليه بارتباك، ولم تجبه، وشعرت فجأة برغبة في الفرار منه وإلا فأنها لا تعرف كيف سينتهي لقاؤها معه، فأرادت الرجوع للدخول إلى البيت لكنه كان أسرع منها، فقبض على كفها وسألها:

-                     ما بك حواء. ؟ ما الذي فعلته حتى تهربي مني. ؟

لم تجبه وإنما أرادت أن تسحب كفها من كفه، لكنه كان أقوى منها فسحبها بقوة جاذبا إياها إلى شقته. لم يترك آدم اللبناني الفرصة، فأغلق الباب وأوصده بالمفتاح، شلتها المفاجأة وأخرستها فلم تنطق بشيء، وبدون أي تحرج، وبجرأة كبيرة، بل وبتهور مجنون، حصرها على الجدار وضغط جسده عليها حتى كادت أنفاسها تتقطع، لكنها أحست برغم ذلك بالخدر، ووجدت وجهه قريباً منها وهو يقول لها:

-                     ما بكِ. ؟ أنت تهربين مني أم من نفسك. ؟

تمتمت بتوسل:

-                     أرجوك اتركني.

-                     كيف اتركك وأنا منذ أيام لا أعرف النوم ولا أستطيع الخروج، أجلس قرب الباب مستمعاً لكل حركة، مترقباً خروج زوجك، منتظراً رؤيتك، والآن تقولين اتركني.

كان يتحدث بينما يده أخذت ترفع ثوبها إلى الأعلى مداعباً فخذها. انتبهت إليه فأرادت أن تدفع يده عن موضعها تحت الثوب فتحركت مائلة قليلة مما أتاح له أن يطبق بشفتيه على شفتيها، فرفعت رأسها فصارت شفاهه على رقبتها ونزل بهما إلى صدرها. في هذ اللحظات بالذات تذكرت رواية (المرأة المجهولة – متاهة آدم) التي كتبها زوجها، وتذكرت مشهد المهندس آدم المطرود حينما أراد مضاجعة سكرتيرته حواء اللهيبي أول مرة، أحست بالتهيج، لكنها أرادت أن تقاوم، فهي الآن متحجبة وتقيم الصلاة، وتقرأ القرآن. لكن آدم اللبناني كان منهمكاً في التوغل إلى مناطقها الحساسة، وبدون أن تتوقع رفعها من وسطها وذهب بها إلى السرير، وألقاها عليه.

حاولت حواء المؤمن أن تصرخ لكنها كانت عاجزة فلا صوت يخرج من حنجرتها، وأحست بالشلل الكامل. أرادت الهرب من السرير، لكنه كان أقوى منها، فرفع ثوبها إلى وسطها وكشف عن أسفل جسدها. لم تعرف متى وكيف فتح آدم اللبناني حزامه وبنطاله، كان شبه عار أيضا، ودون أن يعريها، فتح فخذيها وأزاح سروالها جانباً بحيث يستطيع أن يولجه فيها. كان فرجها نظيفا جداً، ومبتلاً قليلا، فأولجه فيها بسهولة.

كانت هي في حجابها ملقاة على سرير آدم اللبناني، وكان هو يدخل فيها بقوة وانتصاب مثير، وكانت هي وكأنها ليست هي، بل تسترجع مشهد اغتصاب السكرتيرة في الرواية. فجأة أحست بالخدر وتيارات كهربائية تنتابها، تيارات من المتعة، وكان وجهه قريباً منها، فلم تجد نفسها إلا وهي تضمه وتقبله بشراهة وعنف، وأحست به وهو يملأها بمائه، أحست بدفقاته فيها، أحست بأنها تغرق، وتهوي معه في هوة بلا قرار.

بعد لحظات انتبهت لما اقترفت فصاحت بأعلى صوتها:

-                     استغفر الله. عليك اللعنة.

وهربت من الغرفة. فتحت الباب ودخل شقتها التي بابها لما يزل مفتوحا.

**********

أغلقت الباب ووقفت خلف الباب متكئة عليه وهي ترتعش من الغضب الممزوج بارتعاشات اللذة التي تسري كتيار في مسامات جسدها. أحست بسائله المنوي يخرج منها فاسرعت إلى الحمام نازعة عن نفسها وهي في الطريق حجابها وبلوزتها الخفيفة وثوبها الطويل، ووقفت تحت دش الماء نازعة عنها ما تبقى عليها من قطع قماش.

أخذت تفرك جسدها بالماء والصابون بسرعة وقوة، وكأنها تريد أن تتخلص من رجسٍ لوث جسدها، بل أخذت خرطوم الماء وأدخلته في فتحة رحمها محاولة تطهير رحمها من مني آدم اللبناني الذي اغتصبها بسهولة شديدة.

أرجعت خرطوم الماء إلى موضعه وقرفصت تحت شلال الماء المنهمر، وهي تسأل نفسها لماذا لم تصرخ. ؟ ولماذا لم تقاومه. ؟ بل لماذا ضمته وقبلته بشهوة وحرارة وهي تلهث من الشهوة والمتعة. ؟ هل هي سافلة ومنحطة وفاسقة إلى هذا الحد، بحيث تقوم الليل بالصلاة وقراءة القرآن بينما في أول خطوة لها خارج الباب تنهار وتزني؟ كيف جرى كل ذلك بلمح البصر. ؟ كيف تجرأ هو على ذلك؟

 فجأة تذكرت زوجها الدكتور آدم التائه ملقية اللوم عليه، فهو لم يقترب منها منذ أكثر من أسبوعين، بينما عودها منذ سنوات بأن يضاجعها بشكل شبه يومي، فهي تعودت على المضاجعة وأدمنتها ولا تستطيع أن تبقى هكذا. لكنها عادت ولعنت نفسها. تعرف أنها تبحث عن تبرير لفعلتها. أخذت تبكي وهي في جلستها تلك، بينما ظل شلال الماء ينهمر عليها غاسلاً دموعها وشعورها بالإثم الذي هز كيانها.

الـفـصـــل الـثـــاني عـشــــــــر
الجـنــي الأزرق
حين عاد الدكتور آدم التائـه متأخراً على غير عادته في ذلك اليوم بعد أن شارك في تظاهرة سياسية عراقية ضد النظام في مدينة (كولن) كانت زوجته في سريرها تبكي.

لم ينتبه لها أول الأمر، لكنه حينما دخل المطبخ وبدأ يفتش عن الطعام قامت هي من سريرها وجاءته لتعد له الطعام فلاحظ أنها على غير عادتها، وانتبه لعينيها المغروقتين بالدمع وأنفها المنتفخ قليلا فعرف أنها بكت بحرقة. سألها دونما اهتمام واضح وبحيادية:

-                     ما بك. ؟

أجابت بحزن ممزوج بالخوف:

-                     لا شيء.

خرج آدم التائه من المطبخ متجها إلى غرفة الاستقبال دون أن يبدي اهتماماً أكثر بوضعها، فقد كان متعبا، واعتقدَ أنها متأثرة من تعامله الجاف معها، فقرر مع نفسه أنه سوف يرضيها الليلة.

أعدت له عشاء مكوناً من بيضتين مخفوقتين بالدهن، شاي عراقي، وجبن لبناني، وزيتون يوناني وخبز تركي. وضعت الصينية أمامه وجلست بالقرب منه بينما كان هو يتابع قناة عربية تبث من لندن.

لم تطق حواء المؤمن الاستمرا بالجلوس، بدت وكأنها في عالم آخر فنهضت خارجة من غرفة الاستقبال متجهة إلى غرفة النوم.

**********

حينما فتحت حواء المؤمن باب غرفة النوم لم تستطع أن تبصر أي شيء. كانت الغرفة باردة ومليئة بالضباب البارد المخضر، ويتوسط الضباب ضوء فضي باهر مائل للإخضرار وكأنه ينسكب من مكان مجهول في السماء.

توجهت كالمأخوذة إلى سريرها، إذ لم يراودها قط أن تهرب أو ألّا تدخل الغرفة أو تنادي زوجها. ألقت بنفسها على السرير وأخذت تحدق في المجهول، نحو جهة الضوء الفضي المخضر الباهر والضباب الكثيف.

أحست أن شيئاً ما يقترب من خلال الضباب. وشيئاً فشيئاً بدا ثمة مخلوق يشبه تلك التي رأت مثلها في بعض الأفلام الغرائبية،. هيئتة هيئة رجل بلا ملامح، أصلع الرأس، لا يرتدي شيئاً، وبرغم ذلك كان وكأنه يلبس بدلة فضية مائلة للإخضرار تغطي جسده. كان وجهه بلا ملامح، وكان بلا عينين، فليس في محجر العينين أي شيء. كان يذكرها بتمثال الأوسكار الذي تراه أحيانا في الأفلام والمجلات الفنية.

إنكمشت مرعوبة في سريرها حين وقف الكائن عند حافة السرير من جهة القدمين. أحست بريح باردة، وعلى الرغم من أن هذا المخلوق كان بلا ملامح إلا أنها لاحظت ما يشبه الابتسامة قد ارتسمت على وجهه المطاطي الفضي. أحست بخوف طفولي بريء وأخذت تبسمل مع نفسها عسى أن يختفي هذا المخلوق، فكثيراً ما سمعت عن تأثير البسملة على كل شيء أثناء الخطر، لكن هذا المخلوق لم يختف.

مدّ المخلوق الفضي المائل للإخضرار وجهه لها فامتدّ لأكثر من متر حتى صار وجهه قريباً منها على بعد سنتميترات قليلة. لم يكن يتنفس، وبرغم وجود أنف يتوسط وجهه الخالي من الملامح إلا أن أنفه كان بلا منخرين. أغمضت عينيها خوفا، لكن بعد ثوان قيلة فتحتهما فرأت في موضع عينيه ما يشبه المجرات والكواكب والسحب الكونية، ثم سمعت صوتاً وكأنه صوت ميكانيكي وغير بشري يأتي من آلة تسجيل، سمعت الصوت يسأل:

-                     من أنتِ. ؟

إرتبكت حواء المؤمن وقالت متمتة برعب:

-                     أنا حواء المؤمن زوجة الدكتور آدم التائه.

نظر المخلوق الفضي إليها بتركيز، فرأت تحولات سريعة وصورا ً في محجر عينيه وكأن فيلما مصوراً مر في لحظات، ثم سمعت الصوت يقول لها:

-                     هذا بيتي. لقد حكم عليّ بالنفي كعقوبة فألقي بي إلى كوكب الأرض. سُجنت في أعماق البحار. هذه الأرض كانت بحراً قبل ملايين السنين، ثم انحسر البحر فصارت أرضا، ثم غابة، ثم سكنتها الدببة، ثم آدم، وما أن عمرت ببني آدم حتى تم إطلاق سراحي، لكني صرت أعود إلى هنا كل ألفي عام. في المرة السابقة كانت هنا خيمة لحكيم الهمج. ورغم أني أنهيت فترة عقوبتي وعدت إلى موطني في مجرة السديم الأزرق، إلا أني أزور هذا المكان مرة كل ألفي عام كما قلت لك. هذه المرة أنت هنا، لا تخافي، لا أريد أن ألحق الأذى بك، لكن لا تخبري أحداً بوجودي، أنت وحدك سترينني، سأكون هنا معك وحدك فقط، في هذا البيت وفي أي مكان ستذهبين، هل فهمت. ؟

تمتمت حواء المؤمن مرعوبة:

-                     فهمت. فهمت.

مد المخلوق رقبته التي تطول إلى أي مدى يريد، وأخذ يتأملها ثم سمعت صوتا صادراً منه:

-                     أنت آدمية جميلة. أريدك لي.

فتمتمت مرعوبة:

-                     أنا متزوجة.

-                     أعرف أنك متزوجة من هذا الذي اسمه الدكتور آدم التائه، لكنني أحببتك، أنا المخلوق من النار الزرقاء والدخان، أنت لي أنا.

كانت حواء المؤمن تفكر مع نفسها بأن ما يجري مجرد تخيلات، لذا شعرت بشيء من الجرأة في الحوار والمغامرة، فقالت بصوت خافت:

-                     أنا إنسانة وأنت مخلوق غريب لا أعرف كيف أسمّيك فماذا تريد مني. ؟

تراجع الوجه إلى حيث كانت بقية هيئته عند حافة السري. ثم سرعان ما امتد للإمام كما كان قريبا منها، وقال بالنبرة الآلية نفسها:

-                     أنتم بنو آدم تسموننا الجن أو الأشباح أو الشياطين، تطلقون علينا أسماء مختلفة، لكن الجوهر واحد هو أننا لسنا من لحم ودم، ولسنا مقيدين بقوانينكم البايولوجية والفيزياوية، وبرغم ذلك تعتقدون أنكم أفضل وأشرف وأعظم المخلوقات في هذا الكون الرحيب، بينما نحن ننظر إلى بني آدم من السماء وهم يتخبطون في الحضيض، في الشقاء الأرضي، نراكم تلهثون وراء المال والسلطة، وراء الذهب والنفوذ، تهربون من أنفسكم، تذهبون طائعين إلى عبودية المال والسلطة. أنتم منافقون، كلكم تتحدثون عن الخلاص لكنكم لستم صادقين لأنكم تتاجرون بكلامكم، لتبنوا سلطانا وجاها ولتكنزوا الأموال، وبذلك تصيرون عبيدا لدعوى الخلاص التي ترددونها بمناسبة وبدون مناسبة، حتى صارت دعوة الخلاص مهنة لكم.

صمت المخلوق الفضي لأقل من دقيقة، ثم واصل وكأنه يترافع في محكمة:

-                     ليس بنو آدم أفضل المخلوقات، فنحن أفضل وأذكى وأقوى منكم. نحن نرى ونسمع ونتحرك ونطير بسرعة الضوء ونتحول كما نشاء بينما أنتم لا تستيطعون ذلك، ونحن أشرف منكم، فنحن من نار زرقاء بينما أنتم من لحم ودم. أنتم جيفة، داخل كل منكم جيفة، غائط وبراز وسوائل كريهة، وعند الموت تتحللون وتكون جيفتكم قاتلة، لا يمحوها سوى التراب، بينما نحن نار زرقاء، موتنا انطفاء، ومقبرتنا السماء. لستم أشرف منا وأكرم. أنظروا إلى أنفسكم حينما تتغوطون، سواء كان الشخص ملكاً إمبراطوراً أو ملكة جمال فأنهما حينما يتغوطان ويتدفق الغائط والروائح الكريهة منهما فأنهما يكونان أسفل سافلين، فحتى خراء بني آدم أكثر جيفة من براز بقية الحيوانات على الأرض فأين الشرف والكرامة. ؟

فقالت متمتة:

-                     أنا لا أفهم هذا الكلام الكبير، ماذا تريد مني. ؟

تقدم بجذعه الأعلى متمططا ومقتربا:

-                     أريدك. أريدك لي.

-                     أنت جني وأنا إنسانة.

-                     ثم ماذا.

-                     أنا أخاف منك.

-                     لا تخافي مني، على العكس أنا سأحميك، سترتاحين معي.

صُدمت حواء المؤمن من سماع ذلك، فقالت بشكل ميكانيكي وكأن شخصاً آخر كان يجيب بدلاً عنها:

-                     استغفر الله.

فقال بنبرة حادة:

-                     هل تريدين أن أخطفك وأذهب بك إلى كهوف بعيدة. إلى كوكب بعيد. ؟

فقالت مرعوبة:

-                     لا.

-                     لا تخافي إذن. ستستمتعين معي. أعرف أنك تحبين الأير طويلاً ومتيناً، ومنتصباً. وسأريحك أنا من هذا الجانب، وسأوفر لك كل شيء من مال وثياب ومجوهرات.

أحست حواء المؤمن بالخجل والخوف من كلامه، لأنه يعرف عن مشاعرها الدفينة ورغباتها التي لم تفصح بها لأي كان.

-                     سأكون معك في كل مكان، وسأنتظرك وحدك هنا في هذه الغرفة.

بدأ المخلوق الغريب ينسحب ويدخل وسط الضباب ثانية، وفجأة، وكأن ريحا تدور، إلتف الضباب واختفى كل شيء. شعرت حواء المؤمن أن كل ما جرى ليس حقيقياً، بل وكأنه مشهد من فيلم سينمائي أميركي عن مخلوقات الفضاء، وبرغم أنها كانت تستشعر وجود شيء ما في هذه الغرفة، لكنها لم تفكر لحظة بأن يكون الجني بهذه الهيئة، فقد تصورته طويلاً، ضخماً، أصلعَ أو بظفيرة، لديه مخالب طويلة، أخضر، كما تم تجسيده في بعض الأفلام العربية والأجنبية المأخوذة عن قصص ألف ليلة وليلة.

كانت حواء المؤمن في فراشها في حالة ذهول وخوف. سألت نفسها بخوف: لماذا ظهر لي هذا المخلوق الغريب. ؟ ولماذا أختارني لتكون له. ؟ ولماذا ظهر اليوم بالذات. ؟ هل أنا رخيصة إلى هذا الحد بحيث حتى الجني يطمع بها. ؟ أم هل أنا جميلة إلى هذا الحد فعلا بحيث يرغب في ليس الرجال فحسب وإنما الجن أيضاً. ؟ ولكن كيف عرف أنني أحب عضو الرجل طويلا ومتينا ومنصباً؟ ومرقت في أعماقها رغبة غريبة في أن تخوض هذه التجربة؛ لكنها تذكرت أن هذا المخلوق كان بلا ملامح، ولا تربط مع الهيئة البشرية سوى قامته الهلامية!

تاهت حواء المؤمن في براري تفكيرها. سألت نفسها، هل يجب أن تخبر زوجها بما رأت. ؟ لكن ذلك المخلوق طلب منها أن لا تخبر أحداً بما جرى، ثم كيف سيكون رد فعله إذا ما أخبرته بكل تفاصيل الحديث الذي جرى بينهما. ؟

صحيح أنها لا تذكر كل ذلك الحديث عن بني آدم والمقارنة بينهم وبين الجن بالضبط، ولم تفهم أبعاده، إلا أنها تذكر جيداً إشارته بأنه سيمتعها لأنها تحبه طويلا وضخما، وأنه يريدها له، وأنه سيكون معها، وبإمكانه اختطافها.

شعرت حواء المؤمن بأن ثمة تغييرات تجري في أعماقها، وبأنها بدأت تفقد شيئاً من ذاكرتها، وأنها صارت ليست هي نفسها. راودها إحساس بأنها بدأت تخرج من شخصيتها مثلما تخرج الأفعى عن جلدها القديم. خافت قليلاً، لكنها أحست بالراحة لهذا التغيير الذي يجري فيها ومعها، إذ أحست أنها صارت لامبالية قليلاً، لايهمها كيف ستنتهي الأشياء. فهذا الجني وعدها بأن يحميها، لذا قررت أن لا تخبر زوجها بأي شيء.

قامت من مكانها واتجهت إلى غرفة الاستقبال حيث زوجها. حينما دخلت عليه وجدته منشغلا بقراءة كتاب رسمي وصل إليهما من دائرة الأجانب، لكنه لم يفهمه بالكامل، لذا كان يستعين بالقاموس الألماني العربي، بينما جميع الصحون في الصينية فارغة.

جلست على مقعد مقابل زوجها. لم يعرها اهتماما، إذ كان منشغلا بالكتاب الرسمي، وبالكلمات التي يفتش عن معنى لها في القاموس. فجأة. ؛ ألقى بالقاموس جانباً، ثم طوى الكتاب ووضعه على الطاولة القريبة منه. رفع رأسه إليها قائلا:

-                     هذه رسالة من محكمة اللاجئين في تسيلندورف فيها تحديد موعد للمقابلة في قضية اللجوء، ومعها كتاب من دائرة الأجانب يدعونا إلى أن نقدم طلبا وأشياء أخرى لم أفهمها. غداً أتحدث مع المترجم العربي الذي يعمل هناك ليترجمها لي.

شعرت وكأن الأمر لا يعنيها فانتبه هو لذلك. تأملها، وجدها مرتبكة ونظراتها شاردة، فقال لها:

-                     ما بكِ. ؟ حينما جئت اليوم وجدت عينيك محمرتين ومنتفختين من البكاء، والآن أراك وكأنك تائهة، حتى أن خبر تحديد موعد لمقابلتنا في محكمة الللاجئين لا يثيرك، بينما كنا ننتظر ذلك شهوراً، ما بكِ. ؟

-                     لا شيء.

نظر إليها نظرات متفحصة للحظات ثم قال:

-                     لا شيء، كل هذا ولا شيء. ؟

فجأة أحست وكأنها صحت من غيبوبة، أو وكأنها عادت من رحلة طويلة، ارتبكت وأحست بشيء من الخجل، متذكرة اغتصاب جارهم لها، فقالت:

-                     لا شيء أنا تعبانة قليلاً.

راود الدكتور آدم التائه شعور بالتعاطف معها، وأحس بالذنب في أنه يتركها طوال النهار وحدها، لكنه يعرف أن متعتها الحقيقية هي الجنس لذا أراد الاقتراب منها، انتبهت هي لذلك، وقبل أن ينهض قامت هي قائلة:

-                     سأذهب لأستحم، هل تحتاج شيئا. ؟

-                     لا.

قامت خارجة بينما ظل هو جالسا في مكانه يفكر كيف سيرضيها بعد الحمام. بعد دقائق قليلة قام واتجه إلى الطاولة وجلس على الكرسي. نظر إلى مخطوطة روايته (المرأة المجهولة – متاهة آدم)، أخذها وتصفحها. فكر في أن يكتب فصلا أو أكثر يكمل فيه حكاية (حواء كوناي) يروي فيه مصيرها وكيف صارت مهندسة وكيف واجهت الحياة بعد موت زوجها وعمها، لكنه فكر أيضا ربما سيكون شيقا أن تبقى المصائر مفتوحة على أقدارها.

لا يدري كم مر من الوقت وهو على كرسيه مستغرقاً في تفكيره بمصائر أبطال الرواية، لكنه انتبه إلى أن التلفزيون الألماني كان يبث موجزا للأخبار عند منتصف الليل، وهذا يعني أنه أمضى مع روايته أكثر من ساعتين.

قام واتجه إلى غرفة النوم بعد أن أطفأ جهاز التلفزيون والضوء في غرفة الاستقبال، وحينما فتح الباب كانت الغرفة مظلمة وزوجته نائمة في سريرها، فأغلق الباب ثانية وعاد إلى غرفة الاستقبال. ضغط على زر التيار الكهربائي فأضاء الغرفة ثم اتجه إلى طاولته وجلس على كرسيه مسترخياً غارقاً في تأملاته.

**********

آدم البغـدادي: لا أدري كيف سأمضي بهذه الشخصيات نحو مصيرها الروائي، فأمامي نهايات متعددة للدكتور آدم التائه وزوجته حواء المؤمن. إن مصير كل منهما هو إحتمال من بين مئات الإحتمالات التي يمكن أن تحدث أو حدثت فعلا.

لا أدري لماذا غيرتُ صورة الجني الأزرق وقدمته بهذه الصورة، فقد روى الدكتور آدم التائه، وأقصد صديقي الدكتور الحقيقي، بأنه تعرف على أديبة خليجية معروفة روت له بعد حديث عن الأرواح والجن بأن جنيا يعشقها، وعلى الرغم من أنها كانت متزوجة وأم لعدة أبناء، إلا أن هذا الجني كان يضاجعها بشراهة والغريب أنه أحيانا ً كان يضعها في كفه، كما روت له، وأنه كان بالهيئة التي قدمتها الأفلام العربية، ضخما، أخضر اللون، أصلع الرأس، نتن الرائحة، وكان يعرف عنها كل شيء.

وكما روى لي الدكتور صديقي الذي قابلته في ميونخ، والذي جسدته فيما بعد من خلال شخصية الدكتور آدم التائـه، بأن هذه الأديبة كانت مثقفة جدًا وتعرف كل النظريات حول الكبت واللاوعي، وأنها تؤكد بأن ما يجري معها حقيقة وليس أزوداجية في شخصيتها، ولا تعبيرا عن رغبات جنسية دفينة.

الـفـصـــل الــثــــــالــــــــث عـشـــر
باب الضيـــاع
لم تخرج حواء المؤمن من الشقة منذ أكثر من عشرة أيام حتى ولو لشراء أشياء تخص المطبخ والغسيل. انتبه زوجها لذلك ففسره بالتحولات النفسية المزاجية للمرأة، لاسيما وأنها توجهت في الفترة الأخيرة نحو التدين فتحجبت وبدأت بالصلاة في مواعيدها، واخذت تقضي وقت فراغها في قراءة القرآن!

كان هو يخرج مبكرا أحيانا ويعود متأخرا فيجدها نائمة أو يجدها متعبة، لكنه استغرب من إنكماشها النفسي، وتهربها من أي تلاحم جسدي معها. انتبه إلى أنها تقضي معظم وقتها في غرفة النوم، وخمن أنها منشغلة بالصلاة والعبادة. وبرغم إستيائه من إبتعادها عنه عندما حاول أن يقترب منها، إلا أنه ضغط على نفسه وألزمها بالصبر لبضعة أيام أخرى.

**********

صارت حواء المؤمن كالمأخوذة، فهي تؤدي واجباتها البيتية من طبخ وغسل ملابس بسرعة شديدة لتدخل غرفة النوم. لم تكن كما يظن زوجها بأنها تصلي أو تقرأ القرآن، وإنما كانت تستلقي على السرير منتظرة حضور الجني الأزرق.

في اليوم التالي من رؤية الجني الأزرق كانت خائفة من دخول الغرفة، فبعد أن خرج زوجها من البيت بقيت وحدها. حاولت أن تجد لنفسها أي حجة للخروج من الشقة، ولا تعرف كيف حضر جارهم آدم اللبناني في ذهنها، وتمنت لو أنه حينها في شقته، فأخذت تفتعل الضوضاء عند الباب الخارجي للشقة لينتبه لوجودها. ؛ لكنها لم تخرج من الشقة، وكأن ثمة قوة خفية تشل إرادتها، فبرغم خوفها من البقاء وحيدة إلا أنها لا تستطيع الخروج بل ولا تريده.

ظلت حواء المؤمن ذلك النهار تتنقل بين المطبخ وغرفة الاستقبال وتتجنب الدخول إلى غرفة النوم، وأخيراً حزمت أمرها فتوجهت إليها بهدوء وتردد وفتحت بابها وبسملت ثم دخلت.

كانت الغرفة خالية من أي أثر غريب، لا ضباب ولا برودة، ولا ضوء فضياً مائلاً للإخضرار، كان السكون يعم الغرفة.

جلست على السرير للحظة ثم إستقلت على ظهرها منتظرة أن يحدث شيء، لكن لم يحدث أي شيء، ولا في اليوم الذي بعده، ولا في اليوم الثالث، بل صارت مهووسة بالبقاء في الغرفة متمنية أن يظهر لها الجني، بينما كانت أمواج الرغبة تتمدد في جسدها وتتصاعد.

وهكذا سكنت الغرفة معظم وقتها خلال تلك الأيام الفائتة، ولم تغادرها إلا عندما يأتي زوجها مساءً فتقدم له العشاء ثم تعود إليها ثانية، وحينما تشعر بدخول زوجها تغمض عينيها وتبدي وكأنها تغط في النوم، فيتمدد إلى جانبها، وأحياناً يحاول أن يشعرها بوجوده لكنها، وهذا ما أثار إستغرابها من نفسها، لم تحس بأية رغبة في التواصل معه، فهي في شوق ولهفة للقاء الجني الأزرق والتأكد من وعوده لها.

**********

يئست حواء المؤمن من ظهور الجني الأزرق ثانية، فأخذت تعود شيئاً فشيئاً إلى طبيعتها وحياتها الاعتيادية، حتى أنها أخذت تشك بأن كل ما جرى معها لم يكن أكثر من رؤيا وأوهام اختلقها عقلها، كما شعرت بالذنب إزاء زوجها الدكتور آدم التائـه، فهي لأول مرة منذ زواجهما تنقطع عن التواصل الجسدي معه لفترة طويلة دون أن يبدي تذمراً أو يجبرها على فعله، وهذا ما قدرته في شخصيته.

حينما استيقظت صباح هذا اليوم على ضوضاء قادمة من المطبخ عرفت حينها أن زوجها قد استيقظ قبلها، وربما هو الآن يسعى لإعداد القهوة، فأحيانا ًحينما يريد أن يكتب فجراً، أو في وقت متأخر من ساعات ما بعد منتصف الليل، يقوم هو بإعداد ما يحتاجه، شايا أو قهوة أو النسكافيه المحلاة بالسكر ومسحوق الحليب.

لا تدري ما بها. لم تشأ أن تواجهه في المطبخ وانتظرت إلى أن يذهب إلى غرفة الإستقبال، إذ أحست أن ثمة فراغا ًنشأ بينهما، وأن ثمة فتوراً يتغلغل في أعماق روحها.

سابقا كانت تتمنى أن ينظر إليها نظرة رضى ومودة. كانت تهاب شخصيته، وتهاب سمعته الأكاديمية والأدبية. كانت مليئة أعجابا به وبرجولته وخبرته في ايقاظ حواسها ورغبتها الشبقة، لكنها الآن فاترة الأحاسيس والمشاعر نحوه، بينما كانت في الأيام السابقة مشتعلة بل ومهووسة بالجني الأزرق، كما استغربت من حالتها النفسية، إذ أنها فكرت في آدم اللبناني أكثر من مرة، وراودتها الرغبة في رؤيته والإلتقاء به، برغم أنها عانت ما عانت من عملية إغتصابه لها، بل تتعجب الآن من نفسها، ومن رغبتها المجنونة التي تستقر في أعمق أعماقها في أن يغتصبها ثانية.

انتبهت الآن إلى أن زوجها صار في غرفة الإستقبال، فنهضت عن السرير بتثاقل. دخلت إلى غرفة الحمام. أقفلت الباب وتعرت ثم دخلت الحاجز الزجاجي تحت رشاش الماء. فتحت الصنبور على الماء الحار والبارد معا ً، فانهمر الماء البارد أولا ثم صار دافئا شيئا فشيئاً إلى أن صار ساخناً قليلاً.

ظلت حواء المؤمن تحت الماء المنهمر عليها بقوة شاردة الذهن. كانت تفكر في أشياء كثيرة مرت على ذهنها المتعب، لكن ما سيطر عليها هو عملية اغتصابها، إذ أخذت تفكر بكل تفاصيلها. فجأة ندت عنها صرخة خافتة حينما سمعت طرقاً على باب الحمام وسمعت صوت زوجها يسألها:

-                     حواء هل هناك شيء. ؟ هل أنت على ما يرام. ؟

فقالت مرتبكة وهي تغلق صنبور الماء الساخن:

-                     لا شيء. أنا على ما يرام. سأخرج حالا.

أحست بتدفق الماء البارد على جسدها فشعرت بقشعريرة، ومدت يدها فأغلقت الصنبور وخرجت من الحاجز الزجاجي وأخذت المنشفة فغطت جسدها الفتي ونشفته من البلل، ثم ارتدت ثوبها و لفت المنشفة على رأسها وخرجت.

كان آدم التائـه يتصفح القاموس الألماني العربي حينما دخلت عليه وألقت عليه تحية الصباح بطريقة ميكانيكية:

-                     صباح الخير.

تأملها للحظات ثم قال لها:

-                     صباح النور.

صمتت للحظات وهو ينظر إليها ثم سألها فجأة:

-                     حواء، ماذا بك. ؟ هل أنت مريضة. ؟ هل تحسين بشيء يقلقك. ؟

استغربت سؤاله وأجابت دونما اهتمام كبير:

-                     لا، أبداً، لا أحس بشيء، ربما بعض التعب والتفكير.

نظر إليها وكأنها يريد أن يعرف ما يدور في أعماقها وسأل:

-                     التفكير. ؟ التفكير بماذا. ؟

-                     ليس هناك شيء محدد. ؟ عموما علي مراجعة طبيبتي الإيرانية، ربما رجعت الآن من إجازتها.

-                     هل تحتاجين أن آتي معك. ؟

-                     علي أن أعرف أولا إن كانت قد رجعت من الإجازة، وبعدها يمكننا الذهاب، ففي آخر لقاء لي معها قبل ذهابها إلى الإجازة قالت من الضروري أن تذهب أنت إليها أيضا.

نظر إليها مستفهما. صمت للحظات ثم سأل:

-                     لماذا. ؟

-                     لا أدري، ربما لتتحدث معك عن أسباب عدم الحمل.

فوجئ آدم التائه بهذا الموضوع، واستغرب من سير الحوار إلى هذه المنطقة، لذلك فسّر مع نفسه غرابة حالتها بأنها مشغولة بمسألة الحمل، ولكونه كان على موعد للذهاب إلى مدينة أخرى مع بعض العراقيين من أجل توكيل محام ليتولى متابعة ملف اللجوء، فأنه ألقى القاموس الذي كان يمسكه بيده وقام خارجاً وهو يقول:

-                     تأكدي من وجود الطبيبة وخذي منها موعدا. وسآتي معك.

أوصلته إلى الباب حين خرج، ووقفت للحظات لتودعه وهو ينزل السلم الخشبي، وبرغم أنه انعطف عن زاوية النزول إلى الطابق الأرضي إلا أنها ظلت واقفة لا إراديا منتظرة خروج جارهم آدم اللبناني، إلا أنه لم يخرج. حينها سمعت الباب الخارجي يغلق فعرفت أن زوجها قد صار في الشارع. أحست بالخيبة تقبض على نفسها.

دخلت وأغلقت الباب، مضت إلى المطبخ، وفي تلك اللحظات سمعت حركة عند باب جارهم اللبناني فأسرعت إلى الباب الخارجي لتفتحه، وفي طريقها إلى الباب سمعت صوت خطواته وهو يهبط السلم الخشبي، وحينما وصلت الباب وفتحته كان هو قد اختفى في زاوية السلم المتجهة نحو الطابق الأرضي، فأحست بخيبة أكبر وشعرت بالندم لأنها لم تطِل وقفوها ولو لدقيقة عند الباب.

أغلقت الباب ثانية ووقفت خلف الباب للحظات. فجأة، شعرت بالخجل المصحوب بالمهانة والإذلال. فكرت مع نفسها هل هي عاقلة أو مجنونة. ؟ لقد كانت تبكي لأيام لأنه أغتصبها. بينما الآن تريده أن يأخذها بالقوة مرة أخرى؟ لماذا تركض وراء الرجل الذي اغتصبها. ؟ هل هي أمرأه ساقطة؟ لماذا هذا اللهاث وراء الجنس بحيث صار معنى لوجودها ولا يمكنها أن تتصور الحياة بدونه؟ كيف يمكنها أن توفق بين الصلاة وبين اللهاث وراء الجنس والزنا؟ ولماذا الزنا؟ أو ليست هي متزوجة من رجل وسيم وقوي ويعاملها بطيبة؟ ألا يشبعها زوجها؟ بلى إنه يلبي رغبتها؟ فلماذا تفكر في آدم اللبناني؟ هل هذه هي القيم التي تربت عليها؟ ألم تستغفر ربها وتوجهت إلى الدين؟ ما الذي يجري في أعماقها؟

استرجعت في لحظات شريط حياتها السابقة متوقفة عند محطات علاقاتها بالرجال، بدءاً من علاقاتها الأولى، إلى زواجها الأول، ثم زواجها الثاني، وأخيرا آدم اللبناني والجني الأزرق.

 سألت نفسها: هل أنا مستعدة أن أخون زوجي مع الجني. ؟ ووجدت نفسها تجيب على نفسها: نعم أنا مستعدة لذلك؟ وأخذت تفكر في حالتها، ما بها. ألا يكفيها البشر حتى صارت تبحث عن الجن؟

الفصـــل الــــرابـــــــع عــشـــر
طفل الخطيئــة
مـر أسبوعان منذ أن غادرا مدينتهما الصغيرة متجهين إلى جنوب ألمانيا، إلى مدينة تسيلندورف، حيث تتم مقابلة اللاجئين السياسيين إلى ألمانيا. قبل الموعد المحدد بأيام سافرا إلى أصدقائهم من العوائل العراقية الساكنين في المدن التي تقع في الطريق إلى المدينة – المحكمة.

عند كل عائلة يزورونها يسمعون قصصا عجيبة وغريبة، سواء معاناة هذه العوائل في العراق أم في البلدان المجاورة، أم معاناة وصولهم إلى ألمانيا. وخلال هذه الرحلة ألتقيا بنماذج مختلفة من العراقيين، ولأن بيوت اللاجئين ضيقة فقد كانت هي تنام مع النساء وهو مع الرجال، وفي معظم الأحيان تكون غرفة الاستقبال هي المكان المناسب للرجال حيث يفترشون الأرض بينما تكون غرفة نوم الأزواج هي مكان نوم النساء.

طوال رحلتهما أحست حواء المؤمن أن زوجها يشتهيها من خلال محاولاته الالتصاق بها كلما أمكنه ذلك، سواء حينما كانا في ضيافة الأصدقاء أو أثناء التنقل في القطارات، أو حتى حينما كانا يجلسان بانتظار دخولهما إلى التحقيق في مسألة لجوئهما السياسي إلى ألمانيا. لقد مضى حوالي أكثر من الشهر والنصف دون أن يقترب منها، فلا هي سمحت له، ولا هو أرغمها على ذلك، لاسيما وأنه انتبه لوضعها النفسي المتقلب.

طوال هذين الأسبوعين، ولدقائق قبل دخولها على المحقق، كان زوجها يلقنها كيف تجيب على أسلئتهم بحيث لا تتضارب معلوماتهما، لأن التحقيق يكون منفصلاً، فلربما سيسألونهما نفس الأسئلة أو بعض الأسئلة المختلفة ليكتشفا تطابق أقوالهما وصدقهما من كذبهما.

**********

في محطة القطار وهما في طريق الرجوع بعد أن تمت مقابلتهما والإستماع لهما. دخلت مع زوجها إلى السوبرماركت الكبير الموجود في المحطة لشراء بعض أنواع العصير والحلوى، وحينما مرت في القسم الذي يحوي على مواد التجميل ومحافظ الدورة الشهرية للمرأة، أحست وكأن وميضا أنار ذاكرتها، إذ إنتبهت إلى قضية هي بشارة وكارثة في الوقت نفسه.

إنتبهت إلى أن موعد دورتها الشهرية قد مر عليه أكثر من أسبوعين دون أن تظهر عليها علائم قدومها. فجأة ولا إراديا همست مع نفسها:

-                     يا مصيبتي.

تذكرت أن زوجها لم يقترب منها لأكثر من عشرة أيام قبل نزول دورتها الأخيرة، ولم يمسها بعد ذلك سوى آدم اللبناني، الذي كان قويا وماؤه دافقا وغزيراً. هل هذا يعني إحتمال أن تكون حاملا من آدم اللبناني. ؟ همست مع نفسها:

-                     يا إلهي خلصني من هذه المصيبة، خلصني من هذا العار، يا ربي جد لي حلاًّ، يا ربي دع هذا الأمر يمر على خير، لا أريد ابن زنا. ؟ لا أريد العار يا ربي. لماذا يكون جزاء زوجي الطيب أن آتيه بابن حرام. ؟ ربي إنقذني.

شحب لون وجهها وتبلل جبينها بالعرق بينما كانت هي منهمكة مع نفسها بقراءة الأدعية والرجاء من الله أن يكون الأمر مجرد إضطراب في الدورة ليس إلّا.

إنتبه زوجها لحالتها المرتبكة ولشحوبها وتعرق جبينها، فسألها بحنان:

-                     حواء، ما بك. ؟ هل أنت متعبة. ؟

فأخرجها صوته من عالمها الداخلي المرتبك، فقالت له:

-                     لا أبدا، ليس بي أي شيء، مجرد تعب.

قررت مع نفسها أن تنتظر لعدة أيام بعدها تذهب إلى الطبيبة النسائية لتجري الفحوصات اللازمة وتتأكد من الأمر.

طوال الطريق كانت تشعر بخوف شديد من أن تكون حاملا، وتمنت أن لا يتحقق ذلك ويكون الأمر مجرد إضطرابات نفسية سببت تأخر الدورة الشهرية، برغم أن الحمل هو حلمها الذي يعيد التوازن لحياتها لكنها أرادته من زوجها وليس من غيره. فكرت مع نفسها كم الحياة قاسية معها.

 لم يفهم الدكتور آدم التائه شيئا من هذا التدهور المفاجيء في حالتها النفسية، إذ كانت تائهة النظرات تترقرق الدموع في عينيها دونما سبب واضح، لكنه أحس بأن شيئا ً ما حدث بحيث وصلت إلى هذه الحال التي هي فيها. فكّر مع نفسه: ربما بسبب إبتعادي عنها وعدم التواصل معها مما دفعها إلى أن تفكر بأنني لا أريدها، لاسيما وهي رأت الكثير من العوائل وشاهدت الحميمية التي تربط الكثير منهم. لكنه برر لنفسه بأنه كان يراها غير مستعدة نفسيا للتواصل معه، وكلما كان يريد الإقتراب منها كان يراها نائمة، وهو عادة لا يقترب منها قبل أن يستلم الإشارة الخفية منها، إشارة التقبل التي يراها في ألق العيون وطبيعة النظرة أو الحركات الخفية والإشارات الجسدية الممغنطة، وخلال الأسابيع الماضية كانت هي في عالم آخر، لكن هذا لا يعني أنه لا يرغب فيها، بل إنه يحس أنها صارت جزءا مهما من عالمه ووجوده.

**********

كان الوقت مبكراً حين وصلوا مدينتهم. وعندما دخلوا بيتهما القديم إلتقوا جارهم اللبناني آدم وهو خارج بكامل أناقته. ألقى التحية عليهما وأختلس نظرة خاطفة إلى حواء المؤمن. وبرغم سرعة تلك النظرة إلا أن آدم التائه لمحها، وحينما مر من أمامهما ألقى آدم التائه نظرة على وجه زوجته وكأنه يريد أن يقرأ ما فيه. لمح أنها صارت أكثر هدوءاً، ولم يستطع أن يشخص شيئاً محددا.

لم يتأخرا كثيرا في البيت، فبعد أن تحمما وشربا الشاي وأكلا وجبة الفطور بصمت تقريباً خرجا متوجهين إلى عيادة الطبيبة. وعلى الرغم من أنه أراد أن تذهب إلى طبيب متخصص في الطب العام إلا أنها أصّرت على الذهاب إلى طبيبتها الإيرانية.

**********

جلس الدكتور آدم التائه في صالة الانتظار في العيادة الطبية. أخذ يتصفح مجلة ألمانية مصورة كانت على الطاولة مع مجلات أخرى. توقف عند صورة ممثلة انكليزية مشهورة اسمها إيفا ليسنج، أذهلته بجمالها، وكان ثمة خبر قصير فضائحي حول انفصالها عن صديقها.

لم يكن في صالة الانتظار سوى امرأتين إحداهما ثلاثينية، سوداء الشعر ذات جمال هاديء، مثيرة، تلبس ثوبا ضيقاً وطويلا يصل إلى قدميها، ويكشف عن ساقين ممتلئتين ومتناسقتين وصدر يحمل نهدين صغيرين. أما المرأة الأخرى فكانت شقراء، يبدو أنها ألمانية.

كانت المرأة الألمانية منشغلة بتصفح المجلات التي أمامها، أما المرأة الأخرى، فكانت تنتظر وهي تنتقل بنظراتها بين الفتاتين المساعدتين العاملتين في العيادة والمرأة الألمانية وبينه، ثم تخفض رأسها ناظرة إلى الأرض، لتعود ثانية للتجوال بنظراتها.

وبينما كان الدكتور آدم التائه يتأمل المرأة الثلاثينية محاولاً قراءة جسدها وتعريتها في ذهنه مكتشفا جمالها الافتراضي، ومفكراً في سبب وجودها في هذه العيادة، مفترضا في ذهنه سيرة شخصية لها. أخرجت هي من حقيبتها كتاباً. وبسرعة خاطفة عرف آدم التائه أنه كتاب باللغة العربية من خلال عنوان الكتاب على الغلاف الأيمن.

أحس الدكتور آدم التائه بفرح يغمره وقرر مع نفسه أن يتعرف على هذه السيدة العربية، لكن هذه التخيلات تم سحقها حينما سمع مساعدة الطبيبة تنادي:

-                     السيدة حواء فاكهاني.

طوت السيدة الكتاب ووضعته في حقيبتها وقامت متجهة نحو غرف الفحص بينما وصلت زوجته خارجة من ذات المرر الذي يضم الغرف.

ربما لأول مرة منذ وجوده في ألمانيا يحس آدم التائـه بمثل هذه الخيبة. فقد نما في داخله غضب داخلي من زوجته، فلو أنها تأخرت قليلا لأمكنه فتح حوار مع المرأى الثلاثينية التي اسمها حواء فاكهاني، ولتعرف عليها. فكّر مع نفسه بأنه لا يستطيع حاليا البقاء في العيادة فلا مبرر لذلك، عليه الإسراع بتوصيل زوجته إلى البيت أو الإدعاء بأن لديه موعدا، ثم ليعود منتظرا بالقرب من العيادة خروج السيدة الثلاثينية. فجأة سأل نفسه: هل هي سورية أم لبنانية؟

لم ينتبه آدم التائـه لزوجته حواء المؤمن حينما خرجت من غرفة الطبيبة، لأنه كان مشغول الفكر والمشاعر بالسيدة الثلاثينية. فقد كانت مضطربة، وخائفة، ووجهها يعبر عن إنشغال وتفكير بعيد، وحينما سألها زوجها وهما خارجان:

-                     ماذا قالت الطبيبة. ؟

لم تجبه مباشرة حيث صمتت للحظات ثم قالت بصوت منخفض:

-                     لا شيء.

-                     لكنك قلت إنها تريد مقابلتي. ؟

-                     قالت فيما بعد.

إراد آدم التائـه أن يتخلص من زوجته بأي شكل وأن يرسلها إلى البيت بسرعة فقال لها:

-                     لدي موعد مهم، هل أوصلك إلى البيت أو تذهبين وحدك. ؟

لم تجبه. كانت شاردة في أفكارها تطارد خيالات ونهايات بعيدة جداً. كرر سؤاله بنبرة غاضبة:

-                     ألا أتحدث معك. ؟ هل تريدين أن أوصلك إلى البيت أو تستطيعين الذهاب وحدك. ؟

نظرت إليه بقلق شديد وقالت:

-                     أستطيع أن أذهب وحدي، أنا أعرف الطريق جيداً، البيت ليس بعيداً. اذهب أنت لموعدك.

نظر إليها للحظات وقد استرخت ملامح وجهه ثم استدار، بينما استمرت هي في الطريق العريض المتجه نحو البيت.

**********

في الطريق العريض المتجه إلى البيت كانت حواء المؤمن مصدومة من النتيجة التي أخبرتها بها الطبيبة، حينما أطلقت في وجهها كلمتها المصيرية الحاسمة وهي تبتسم محاولة أن تجاملها باستخدام كلمة ذات أصل عربي: (مبارك) أنت حامل.

لم تعرف حواء المؤمن منذ أن سمعت تلك الكلمة ماذا تفعل. ؟ هل تفرح أو تحزن. ؟ ماذا لو عرف زوجها آدم التائـه بالحمل، وشك في أن الجنين ليس منه، وهي تعرف أنه رجل شكاك. ؟ هل تكذب عليه وتقول له إن دورتها انقطعت منذ شهرين لكنها لم تخبره وانتظرت لتتأكد. ؟ ثم أنها لا تريد ابن زنا. ؟ ويا تُرى هل تريد الطفل الذي انتظرته طويلا أو تريد زوجها. ؟

كانت حواء المؤمن متوترة جداً من الداخل، وكانت تمشي دون أن تدري ما يدور حولها، ولم تنتبه للإشارات المرورية حيث عبرت الطريق برغم الاشارة الحمراء، لكن ومن حسن حظها لم تكن هناك سيارات أو شرطة سوى بعض الألمان الذين نظروا إليها بغضب مكتوم.

فجأة، وخارج سياق أفكارها وانفعالاتها، انبثقت في أعماقها رغبة عارمة في أن ترى آدم اللبناني. أسرعت السير إلى البيت، وصعدت السلم بسرعة وبضجة كبيرة، كي تعلمه بمجيئها، لأنها تعرف أنه يترصد خروجها ودخولها، إلا أن خيبتها كانت كبيرة حينما وجدت بابه مسدودا ولم تصدر أية أشارة عن وجوده. وتذكرت أنه غادر المنزل حينما وصلا هما إلى البيت في الصباح الباكر.

وقفت للحظات أمام بابه تتنصت لأية حركة تأتي من الداخل فلم تسمع ما يؤكد لها عن وجوده، ففتحت باب شقتها ودخلت ثم أغلقت الباب.

فجأة سمعت طرقا خفيفا على الباب ومحاولة فتحه من قبضته، وما أن فتحت الباب حتى اندفع آدم اللبناني داخلا بارتباك وهو يقول لها بلهفة:

-                     وينك. ؟

لم تستطع أن تجيبه فقد أصابها دخوله إلى شقتها بصدمة شلّت تفكيرها، وعلى الرغم من رغبتها العارمة لرؤيته إلا أنها لا تريده في شقتها، ولا تدري كيف نطقت بتلك الجملة الحاسمة:

-                     ليس هنا، أرجوك، خلينا ندخل عندك.

ذهل آدم اللبناني للحظات عند سماع هذه الجملة، وبسرعة فتح الباب وسحب حواء المؤمن بقوة ودخل بها إلى شقته لكنها قالت له:

-                     علي إغلاق الباب بالمفتاح.

فترك يدها حيث أدارت المفتاح في الباب غالقة إياه، وعادت مسرعة إلى الشقة الأخرى المقابلة وأغلقت الباب خلفها. وعند الباب بالضبط أحتضنها آدم اللبناني فأحست بالرغبة المفاجئة. رفع هو وجهها وأخذ يقبلها بينما يده تمتد تحت ثوبها وتداعب فرجها الأملس، وبينما هو منهمك بفك حزامه مسكت يده وتمتمت وهي مثارة مثله:

-                     توقف، أريد أن أقول لك شيئا.

لم يستمع لها بل استمر في نزع بنطاله، فمسكت يده بقوة وقالت:

-                     أنا حامل، حامل منك، في بطني طفلك.

شلت الصدمة آدم اللبناني، جمد في مكانه للحظات. هربت الرغبة، وأندفع دون أن يشد حزامه ملقيا بنفسه على الصوفا:

-                     ماذا تقولين. ؟

تمتم مصدوما، حانقاً، مندهشاً، بينما أحست هي بأنها قريبة منه جداً، جداً، أقرب من زوجها آدم التائـه.

جلست إلى جانبه على الصوفا وهي تبحث عن بداية مناسبة لسرد قصتها، لكنه قاطعها قائلا بهدوء وفي صوته خيبة واضحة:

-                     هذا ما لم أتوقعه، لقد حاولت أن أكتب قصة بطلتها أنت وزوجك، لكني لم اتوقع أن تأخذ القصة هذا المسار بأن تحملي مني.

نظرت إليه مندهشة وعلى وجهها ملامح خيبة وحزن وسألت:

-                     هل أنت كاتب أيضا. ؟

-                     نعم، أنا كاتب مبتدئ. ما أزال في بداياتي. أحاول كتابة القصص والروايات، مالك تنظرين إلى الأدباء بهذه السلبية. ؟

-                     زوجي الدكتور آدم التائه كاتب أيضا.

-                     سمعت عنه. لكني لم أقرأ له شيئاً.

-                     هذا يعني أنت مثقف أيضا. ؟

-                     يعني. من يريد أن يصبح أديبا وكاتبا لا بد أن يكون مثقفا.

-                     إسمعني جيدا، أريد أن تسمع قصتي قبل أن تحدثني عن قصتك التي تحاول كتابتها عني.

نظر إليها بانتباه وتأمل وكأنه يكتشفها لأول مرة، فقد كانت سابقا بالنسبة جسداً مثيراً لا يفكر إلا باختراقه واحتوائه وتقبيله من الأعلى إلى الأسفل، لكنه الآن أمام إنسانة، تدعي بأنها تحمل جنينا في رحمها ومنه بالتحديد.

**********

آدم البغــدادي: أحس أنني أتدخل أكثرمن اللازم في تقييد وتحديد حركة الشخصيات في هذا الفصل، وهذا ينتقص من الحرية الإبداعية وحرية الشخصية الروائية.

 لم أتوسع في خيالات الدكتور آدم التائـه في العيادة حينما رأى السيدة حواء فاكهاني، فأثناء كتابتي لذلك المشهد متقمصا شخصية الدكتور آدم التائه، راودتني، أقصد راودته. أحلام يقظة مليئة بالشبق وتفاصيل تجنبت سردها وكتابتها، لخوفي من تداخل أحلامي مع أحلامه، وأيضا خوفي من إمتلاء الرواية بتفاصيل جنسية وشبقية أخرى.

 أحس أنني لقصدية غير إبداعية غيرتُ مسار الأحداث عندما دخلت حواء المؤمن إلى شقة آدم اللبناني. لم أود أن أتركها تنحدر إلى عالم الغريزة أكثر، بل تقصدت في أن تجلس على الأريكة لتروي له قصتها التي ستغير من مسار الأحداث.

والحقيقة أنني أريد إنهاء هذه الرواية، فأنا أريد أن تكون بحجم متوسط لأن الناس لا تستطيع قراءة الروايات الكبيرة الحجم. شخصياً أحب الروايات المتوسطة الحجم التي أستطيع قراءتها في يوم فراغ مخصص لها، وخلال ساعات معدودة، وليس في أيام، لذا أنوي عدم التوسع في مسارات هذه الرواية، وسأحاول الضغط على الشخصيات لكي اقترب من النهاية التي تتسرب من بين يدي كالرمل.

إنني أخاف هذه الرواية، وأتردد في نشرها، فهي مليئة بالمشاهد الجنسية، وتقدم البشر في حضيضهم الأرضي حيث هم مكبلون بجاذبية الجسد لا يستطيعون الخلاص والآنفكاك عن الجاذبية إلا بالإرتماء في أتونها. إنها رواية عن حضيض آدم الأرضي، لا تهم هنا الجغرافيا ولا القومية ولا الزمان والمكان.

الفـصــل الـخـــــامـــــــس عشــــــر
شـهران من الشــك
مر شهران على ما جرى من أحداث في الفصل السابق. خلال هذه الفترة جرت كثير من المياه تحت الجسور، وانطفأت الكثير من النجوم والكواكب في هذا الكون الفسيح وولدت نجيمات طفلة جديدة.

خلال هذين الشهرين جاءت موافقة المحكمة الاتحادية الخاصة باللاجئين على اعتبار آدم التائه وحواء المؤمن لاجئين سياسيين، وهذا يعني منحهم جواز سفر ألماني وإقامة دائمة تتجدد كل سنتين أو أكثر، ويعني هذا أيضا إمكانية السفر إلى بلدان أوروبا وبعض البلدان الأخرى.

خلال أيام بعد وصول الموافقة حصلا على جوازي السفر الخاص بهما. وترتب على ذلك تحول في وضعهما حيث تم انتقالهما من دائرة الأجانب إلى دائرة العمل وسجلا كعاطلين عن العمل، وتحسن وضعهما المعاشي قليلا.

خلال هذين الشهرين تعمقت وبقوة علاقة حواء المؤمن بآدم اللبناني، إذ اتفقا على أن تتطلق حواء المؤمن من زوجها آدم التائـه وتتزوجه، لأنها لا تريد لأبنها أن يكون نغلا.

 كما أن حواء المؤمن أخذت تحس بأنها تحب آدم اللبناني فعلاً، فهو رائع في تعامله معها، بل أنها لا تهابه حيث تأخذ حريتها معه في الجنس وتتحدث معه بألفاظ كانت لا تجرأ أن تفكر في نطقها مع زوجها الدكتور آدم التائـه، حتى أنها أخذت تبادر في قيادة العملية الجنسية بينما لم تتجرأ أن تطلق آهاتها الشبقية بكامل حريتها مع زوجها. إلا نادراً.

خلال هذين الشهرين أقتنع آدم اللبناني بمسألة الزواج من حواء المؤمن، لأسباب عديدة لكن من أهمها أن الجهات الألمانية سوف لن ترحله إلى لبنان إذا ما ارتبط بامرأة ألمانية أو مقيمة إقامة دائمية، وبالتالي فأنه يستطيع البقاء في ألمانيا إذا ما تزوج من حواء المؤمن التي حصلت على إقامة دائمة في ألمانيا. ثم انه أخذ يحس بتعوده على وجودها في حياته فهو يلتقيها بشكل يومي، وكثيراً ما تأتيه وتطبخ له أو تحمل له مما طبخته في بيتها، بل إنه صار يعرف كل زوايا جسدها مثلما صارت تعرف جسده أيضا.

خلال هذين الشهرين حاول آدم التائـه معادلة شهاداته الأكاديمية في ألمانيا، كما راسل صديقا يعمل في إحدى الجامعات الخليجية.

خلال هذين الشهرين تكشف له بعض جوانب مشهد المعارضين العراقيين للنظام وصراعاتهم التافهة، ومبالغاتهم السياسية وإيلاء الأهمية لأنفسهم ودورهم، فأصيب بالإحباط السياسي والفكري.

**********

كان الدكتور آدم التائـه في وضع نفسي متعب ومحبط، فشكه شبه اليقيني بزوجته عذبه كثيراً، وكثيراً ما جلس ساعات يفكر مع نفسه عن السبب الذي يدفعها إلى المغامرة مع غيره، فهي متدينة، ترتدي الحجاب وتقوم بالفرائض، لكنها من جانب آخر غير مخلصة له، ولم يشأ أن يقول مع نفسه بأنها زانية. هل هو المسؤول عن ذلك. ؟

فكّر مع نفسه مسترجعا مسيرة حياته معها، فهو لم يضربها يوما، ولم يشتمها أو يعاملها باحتقار يوما، ربما لم يوليها الاهتمام الكافي، ولم يمتدحها أو يقل لها كلاما ناعماً وجميلاً. ؟ نعم، هذا صحيح، فهو لم يقم بذلك، لكنهما كانا على انسجام في الفراش، هل كانت غير مرتاحة معه من هذه الناحية ولم تبد شيئاً. ؟ لا، لم يبد عليها إنها غير مرتاحة لذلك. ؟ ربما كان يمارس معها أشياء تخدش الحياء مما نفرّها منه وابعدتها عنه. ؟ ربما. ما الذي تفعله في السرير مع الآخر. ؟

لكن الذي كان أشد إيلاما وعذابا بالنسبة له هو شكه بأن زوجته خانته مع هذا الشاب العاطل عن العمل والذي ربما ينتمي لمافيا المخدرات المنتشرة بين أوساط العرب في ألمانيا! ولم يكن آدم التائه يعرف بأن آدم اللبناني شاب جامعي ترك الجامعه في السنة الأخيرة وأنتقل للقتال في صفوف المقاومة اللبنانية، وأنه تركها وجاء إلى ألمانيا بحثا عن خلاصه الفردي، وأنه شاعر نشر بعض قصائده في الصحف اللبنانية، ولديه محاولات قصصية نشر بعضها، وأنه يحاول كتابة رواية عنه وعن زوجته حواء المؤمن وكل سكنة هذا البيت.

**********

الغريب أنه لم يبد على حواء المؤمن أية عوارض حمل استثنائية، بل لم يبد على جسدها أية تغيرات واضحة للعيان. صحيح أن مزاجها متقلب، فتراها خلال الساعة الواحدة تتقلب ما بين الحزن والفرح والوجد الديني والشرود الذهني، لكن ما كان يعذبها هو أن زوجها هجرها، إذ أنه خلال ما يقارب الثلاث أشهر لم يقترب منها.

فكرت حواء المؤمن أن تفاتحه بالطلاق. ؟ لكن مجرد التفكير في ذلك يصيبها بالرعب. لم تجد أي تبرير كي تطلب الطلاق منه إلا أن تعترف له بأنها زانية وأنها خانته وأنها حامل من جارهم اللبناني.

إنها تعترف بأنه كان طيبا معها، لم يسيء لها، ولم يبخل عليها بالمال. ؛ صحيح أن بينهما هوة فكرية وثقافية، لكنه كان يشاركها بعض الأمور المهمة بالنسبة له، فقد كان يسألها عن أبطال روايته مثلاً. لكنه صامت معظم الوقت، في أعماقه حزن لا ينتهي، وهو تائه فعلاً مثل لقبه، لا يستقر على حال، الشك مثل دودة تقضم تفاحة قلبه، الشك، الشك، الشك، هذا ما يرعبها فيه، فهو يشك في كل شيء.

لا، لا، أنها لا تستطيع أن تطلب الطلاق منه، صحيح أنها حينما أخبرت آدم اللبناني بحملها منه وأنها أقنعته بأنها لا تريد لأبنها أن يتربى عند رجل آخر. ، وانها لا تريد ابنها أن يكون ابن زنا، لذا فأنها ستطلب الطلاق من زوجها، وتتزوج منه. ، وطبعاً حينها اقتنع هو بما قالت وظل ينتظر، بل إنه في الشهر الأخير صار يلح عليها بطلب الطلاق، لكنها وجدت نفسها لا تستطيع أن تقدم على هذه الخطوة. ، وها هي الأسابيع تمر. وستظهر بطنها بمرور الوقت. فما العمل إذن. ؟ ليس أمامها سوى الفرار مع آدم اللبناني، نعم ليس أمامها سوى الفرار، لكن إلى أين. ؟

الـفـصـــل السـادس عشــــــر
بـصــقـة الـنـهـــايـة
إستيقظ الدكتور آدم التائه صباحاً على رنين قوي لا ينقطع لجرس الباب. ؛ انتبه إلى أن حواء المؤمن فتحت عينيها مستيقظة أيضا. نهض مسرعاً وهو يقول لها:

-                     أعتقد أنه ساعي البريد.

فقالت بهدوء ممزوج بتوجس من شيء مخيف على عادة العراقيين:

-                     يا ساتر يا ربي.

لملم الدكتور نفسه ولبس بنطاله بسرعة وخرج هابطاً السلّم بسرعة واضحة، فقد كان كمن ينتظر بريداً يصله.

نهضت حواء المؤمن وخرجت إلى المطبخ لتعد الفطور فأشعلت الطباخ وأخرجت عدة الشاي، بينما كان ضجيج أقدام زوجها وهو يصعد السلم يصل إليها صاخبة. وفجأة وجدته يقفز فرحا داخل الشقة وهو في حالة نشوة تطفح من عينيه ومن مفاصله وهو يمسك بيده رسالة قد وصلته وقلبت كيانه بهذا الشكل.

نظر إليها ووجهه يفيض فرحا:

-                     وأخيرا سنسافر إلى الخليج يا حواء. لقد حددوا لي موعداً للمقابلة للعمل كأستاذ جامعي.

لم تستوعب حواء المؤمن الجملة بالكامل أول ما سمعتها لكنها أحست وكأن كارثة ستحل عليها. أحست بشيء من الدوار يلف رأسها فامسكت بالحوض الصفيحي.

انتبه هو لها فسألها:

-                     ما بك. ؟

-                     لا شيء.

-                     لا شيء. ؟

-                     لا شيء.

لم يعرها اهتماماً كبيراً، فقال وهو يتجه للحمام:

-                     عليّ الذهاب إلى المكاتب السياحية والسؤال عن تفاصيل الرحلات إلى دول الخليج.

لم تجبه وإنما استمرت في إعداد الفطور المعتاد، فأخرجت الجبن والزيتون والخبز التركي من الثلاجة، ووضعت الخبز في فرن التسخين الكهربائي.

فكّرت بأن عليها أن تتخذ موقفاً سريعاً فهي لا تستطيع الذهاب معه إلى الخليج، أنها تريد أن تكون مع آدم اللبناني الذي اتفقت معه على الزواج بعد أن تنفصل عن زوجها، على الرغم من أنه أوضح لها بأنها وزوجها يعدان أمام الألمان بحكم غير المتزوجين، لأنهما لم يتزوجا زواجا مدنيا وفق القانون الألماني، أو حتى وفق القانون العراقي، وبالتالي فهي قانونيا ليست زوجته. لذا يمكنهما الزواج في مكان آخر لو أرادا ذلك. وبينما كانت تعد الفطور كانت قد قررت مع نفسها بضرورة التفاهم مع آدم اللبناني لحسم الموقف بعد هذا الخبر المفاجئ.

لا يعرف الدكتور آدم التائـه من أين جاءه الإحساس بأن زوجته لم تفرح للخبر وأنها لا تريد مغادرة ألمانيا، وتأكد من إحساسه هذا حينما وضعت صينية الفطور أمامه وغادرت الغرفة، وحينما دعاها للفطور معه إعتذرت منه بأن معدتها تؤلمها وأنها ستفطر بعد أن يخرج.

دفق الأحلام والأفكار التي تمخضت عنها هذه الرسالة التي وصلته من إدارة الجامعة الخليجية لم تترك له الوقت الكافي للتفكير والتأمل في وضع زوجته، فأسرع في فطوره وخرج.

ومثلما حملت الرسالة التي وصلت باكرا الأحلام والفرح للدكتور آدم التائـه، فأنها كانت كابوسا حقيقيا بالنسبة لحواء المؤمن. ، فما أن خرج زوجها وتأكدت من أنه صار في الشارع حتى خرجت من شقتها وطرقت الباب على آدم اللبناني الذي فتح لها الباب وهو شبه عار إلا من سرواله الداخلي فدلفت داخلة وأغلقت الباب.

**********

حينما جاء ساعي البريد صباحا وهبط آدم التائـه السلم مسرعا لاستلام بريده لاحظ أن السماء بدت مثل جدار سميك من غيوم سوداء وبيضاء كثيفة، لكن لم يرد في ذهنه قط أن السماء ستنشق عن برق ورعد وشلالات من المياه التي ستعطل الحياة في المدينة لساعات. فما أن خرج من البيت بعد الفطور ولم يصل بعد منتصف الطريق إلى المكتب السفريات السياحية حتى أهتزت المدينة بالرعد والبرق الذي شق قشرة السماء التي بدت لآدم التائه الذي نظر إلى السماء عند لحظة ولادة البرق وكأن الأرض وما عليها ليست إلا بيضة كبيرة، فما وراء الشق الذي أحدثه البرق أحس بأن هناك عوالم هائلة وليست سمائنا إلا السقف الداخلي لقشرة البيضة الكبيرة. وكانت السماء تهطل بالمطر مدرارا وكأن شلالات علوية بدأت تنهمر على المدينة الصغيرة.

فكر آدم التائـه بأنه يجب أن يذهب إلى المكتب السياحي وعليه إنجاز الأمر بأسرع وقت ممكن، لاسيما وأن وضعه الاقتصادي بشكل عام ليس بالسيء، فلديه مبلغ البطاقة ومبلغ إضافي آخر للإقامة لفترة ما هناك. لكنه انتبه بأن المسافة المتبقية إلى المكتب السياحي تكاد تكون عارية من أي غطاء أو سقوف فالمكتب يقع في شارع بيوته تصطف بشكل متسلسل وبالتالي عليه العودة إلى البيت وأخذ المظلة.

حينما وصل آدم التائـه إلى البيت لم يشأ أن يصعد السلم مسرعا، بل راودته فكرة أن يعرف ماذا تفعل زوجته بغيابه. وبينما كانت إحدى يدي آدم التائـه تفتش في جيب سترته عن المفتاح كانت يده الأخرى تمسك بمقبض الباب، وبحركة لا إرادية دفع الباب فوجده مفتوحاً. إستغرب ذلك. دخل الشقة بهدوء، وقف عند الباحة الصغيرة، نظر إلى غرفة الاستقبال المقابلة فعرف انها فارغة، دخل المطبخ ومنه إلى غرف النوم فوجدها فارغة أيضا.

أين هي يا تُرى. ؟ سأل نفسه.

خرج من غرفة النوم واتجه إلى الحمام فلم يجدها. وقف للحظات، أحس بتدفق الدم يصعد إلى رأسه، وبضغط قوي على صدغه، وبدون تفكير خرج من الدار غاضباً، لكنه وقف أمام جارهم آدم اللبناني، ولا يعرف من أين هبط عليه الهدوء المفاجيء، وكأنما سكبوا عليه سطلا من الماء المثلج. كان يحس وكأنه عاش هذه اللحظات في زمان ما. وكان يتوقع بيقين ما سيرى بشكل غامض.

إقترب من الباب وأخذ يتنصت. سمع أصوات لهاث جنسي، وسمع صوت زوجته الذي عرفه مباشرة وهي تقول بشبق ولهاث:

-                     أدخله كله، أدخله كله، أرجوك. ؟

وسمع صوت جارهم يقول وهو يلهث:

-                     لكنه فيك. كله أدخلته فيك. لم يبق منه شيئاً.

-                     لا تترك منه شيئا. لا تترك منه شيئا. أرجوك. أصير عبدتك بس ريحني.

لم يتمالك آدم التائـه نفسه، ولم يستطع أن يفكر، وفجأة، أقتحم الباب بكل قوته فأنفتح.

لم يستطع أن ينسى ذلك المشهد. كانت حواء بثيابها، وحجابها على رأسها، متربعة بإنحناء على الأريكة وقد رفعت ثوبها كاشفة عن مؤخرتها عارية وسروالها الداخلي عند أحد قدميها، بينما يتربع آدم اللبناني بسرواله المنزوع حتى ركبيتية وهو يدفع قضيبه في فرجها من الخلف، وهي تمد يديها إلى الوراء ماسكة بفخذيه وهي تتوسل أن يدخله فيها.

جمد الجميع، حتى أن آدم اللبناني لم يستطع أن يغير من وضعه مع حواء المؤمن التي سحبت يدها من فخذي آدم اللبناني ومسكت حجابها لتغطي به وحهها.

لم يفعل الدكتور آدم التائـه شيئاً، أحس بأن جسده قد تيبس، لحظات قليلة كانت أقسى من سنين. تقدم بهدوء شديد وأقترب منها، نظر إليها للحظات بينما أخذت هي تنزل ثوبها لتغطي عريها، دون أن تتجرأ للنظر إليه. لم يفعل هو شيئا سوى أنه بصق عليها، وأطلق كلمات الطلاق الثلاث في وجهها، وخرج، بينما هيمن صمت ثقيل على ذلك المشهد الغريب.

بمــثـــــابـــة الـخــاتمـــــــــة
آدم البـغــدادي
: لم أشأ أن انهي علاقة الدكتور آدم التائـه وزوجته حواء المؤمن بهذه الطريقة المخزية، لكنني كنتُ مدفوعا بشكل لا إرادي إلى أن تجري الأحداث هكذا، لماذا وكيف. ؟ لا أعرف هذا حقا.

ورغم أني تجنبت أن يكون هذا النص خطابا جنسيا لأسباب تتعلق بواقع الحياة الشرقية اليوم وأفق الحريات الفكرية، لتوقعي بأنه هذه الرواية ستواجه سوء فهم كبير، إلا أني انتبهت لمدى تراجع الحرية الفكرية في بلدان الشرق اليوم، لأني وجدت أن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هجرية)، الذي يُعد أول من ألف كتبا ورسائل في الجنسانيات مثل كتبه: (في النساء) و(مفاخرة الجواري والغلمان) بل وحتى النتف التي جاءت في كتابيه (الحيوان) و(البيان والتبيين)، حيث أتخذ موقف اعتزاليا في أن الشريعة هي التي تنظم العلاقة بين الإنسان وشهواته، رغم أنه أباح المتعة بين الذكور والأناث دون قيد مؤكدا القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

وإذا كان الجاحظ قد فتح الباب أمام الأخرين للكتابة عن النساء والجنس، فقد خصص ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هجرية) المجلد الرابع من كتابه الشهير (عيون الأخبار) للنساء ووضع له عنوانا هو (النساء: أخلاقهن وخلقهن وما يُختار منهن وما يُكره).

وكذلك كتب أبو الفضل ابن طيفور (ت 280 هجرية) كتابا خاصا عنوانه (بلاغات النساء). وكذا يمكن ذكر أشهر الكتب التراثية (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني ( ت 356 هجرية) الذي يُعد من أبرز الكتب التي تناولت الأخبار الجنسية عبر التاريخ العربي الإسلامي إلى عصره.

ونجد مثل هذا الخطاب الجنسي عند ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 هجرية)، وبديع الزمان الهمداني (ت 389 هجرية)، وكذا كتب أبي حيان التوحيدي (ت 414 هجرية) لاسيما (الإمتاع والمؤانسة )و (البصائر والذخائر).

بل هناك علماء تقاة فسروا القرآن الكريم وفي نفس الوقت كتبوا مؤلفات في الجنس والجنسانية التي صارت من النصوص المهمة في خطاب الجنس مثل كتب جلال الدين السيوطي لاسيما في كتابيه (الوشاح في فوائد النكاح) و (مباسم الملاح ومياسم الصباح في مواسم النكاح).

وكذا الأمر عند ابن قيم الجوزية (ت 751 هجرية)في كتابه الشهير (أخبار النساء)، وابن كما باشا (ت 940 هجرية) في كتابه (رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه). بل هناك عشرات الكتب التراثية حول (الباه) وحول الأوضاع الجنسية،بل ولدينا الكتاب العربي الاسلامي الخالد (الف ليلة وليلة) المليء بالحكايا الجنسية.

ولا أريد أن أقدم جردا للكتب التي شكلت الخطاب الجنسي في التراث العربي، وانما أوردتها لأقنع نفسي بأني لم أقترف خطأ أو خطيئة عندما توغلت في أعماق الشخصياتلأضعها أمام رغباتها الحقيقية الدفينة، فمن خلال الجنس نستطيع أن نتلمس آلية السلطة وإشارات المعرفة.

لكني، وأعترف هنا، كنت متردداً في التوغل أكثر، فثمة هاجس يدفعني لإنهاء هذه الرواية بأي شكل. لا أدري، ربما خوفي ينعكس على عملي الإبداعي، وإلا لماذا إختزلت أحداث الشهرين الأخيرين بسرد تقريري؟

عليّ الانتهاء من هذه الرواية بأي شكل لأنها صارت تشكل خطرا عليّ، لكن لماذا استمر في الكتابة إذن لو كانت كذلك؟ أنا نفسي لا أعرف لماذا استمر في كتابتها؟ إنها متاهة لا نهاية لها. أبناء وبنات آدم يتناسلون في هذه المتاهة. ولا أجد أفقا للنهاية.

سبات آدم. يقظة آدم

طوى آدم البغدادي آخر صفحة كان قد دون عليها ملاحظاته وتعليقاته على النص الروائي الذي كتبه، والذي أطلق عليه عنوان (متاهة آدم) مستغنياً عن العنوان السابق الذي وضعه لها وهو (السقوط إلى الأعلى).

استرخى على كرسيه. تأمل زاوية سقف الغرفة، وجد ثمة ذبابة عالقة في خيوط قد نسجتها عنكبوت وهي تحاول أن تخلص نفسها لكن بدون جدوى، فهي عالقة هناك ولا تستطيع الفكاك. ظل لفترة ربع ساعة وهو يحدق إلى تلك الزاوية منتظراً خلاص الذبابة، ولم يقطع تأمله وتحديقه سوى طرقات على الباب.

لم يكن آدم البغدادي ينتظر أحداً يزوره، بل إنه يستعد للذهاب إلى المقهى القريب من سكنه لملاقاة صديقه الحميم الصحفي آدم المحروم، فمن ترى يطرق الباب. ؟

نهض عن كرسيه وأتجه ليفتح الباب.

فتح الباب. أطل عليه وجه يعرفه، يراه أحياناً في المقهى القريب الذي يرتاده، لكن لا تربطه به علاقة وطيدة، لذلك استغرب وسأل نفسه: لماذا جاء؟.

بادره الشخص الذي طرق الباب قائلاً وعلى وجهه ابتسامة بريئة:

-                     تحياتي أستاذ آدم البغدادي.

بادره آدم البغدادي بهدوء مستغرباً، لكن بأدب:

- أهلاً وسهلاً.

- هل يمكن أن أتحدث معك في موضوع مهم. ؟

- ولكن هل يمكنني أن أعرف مع من أتحدث. ؟

--عفواً. لم أقدم لك نفسي. آنا آدم العراقي.

--آدم العراقي. ؟

--نعم. أنت آدم البغدادي. وأنا آدم العراقي. والحقيقة هناك موضوع مهم أود أن أكاشفك به.

نظر آدم البغدادي إليه بتساؤل، وقال:

--موضوع مهم. ؟ خير إن شاء الله.

ابتسم الشخص الآخر، وقال ببراءة وبمودة:

-هل أبقى عند الباب أو تسمح لي بالدخول لأشرح الموضوع. ؟

صمت آدم البغدادي للحظات وفكر مع نفسه بأن الشخص الذي اسمه آدم العراقي يبدو، من ملامح وجهه، مسالماً ولا يحمل شراً، فليستمع إليه، لذا فتح له الباب، وهو محرج، لكنه قال:

-بالرغم من أني على وشك الخروج. لكن تفضل.

رد الشخص الغريب الذي اسمه آدم العراقي بجمل الترحاب البغدادية التقليدية، ودخل:

-شكراً أستاذ آدم. سوف لن أطيل عليك أبداً.

جلس الشخص الغريب على الصوفا الجلدية، بينما سأله آدم البغدادي، مستكملاً أصول الضيافة:

-ماذا تفضل أن تشرب، شاياً أم قهوة أم عصير برتقال. ؟

-عصير برتقال. رجاء.

إتجه آدم البغدادي إلى المطبخ، فتح الثلاجة وأخرج الدورق الزجاجي الذي كان فيه بعض عصير البرتقال، وهمّ بسكبه في القدح الذي كان أمامه. فجأة، أحس بوخزة في مؤخرة رأسه، وخزة صغيرة لكنها مؤلمة جداً، ولم تستمر سوى لحظة ربما أقل من رفة رمش. ثم الظلام. الظلام. الظلام. الظلام. واللاشيء.

كان الشخص الغريب الذي اسمه آدم العراقي خلفه تماماً في المطبخ، وفي يده مسدس كاتم للصوت. سقط آدم البغدادي على وجهه، وسقط الدورق الزجاجي متهشماً على الأرض، وتدفق الدم على الأرض مشكلاً بقعة صغيرة عند الرأس، حيث تجمد بعد لحظات.

كان القاتل الغريب الذي اسمه آدم العراقي شاحباً. ثمة ابتسامة صفراء تجمدت على وجهه. وضع المسدس في حزامه من جهة الظهر، وغطاه ببلوزته، وخرج من المطبخ إلى الغرفة.

مسح القاتل آدم العراقي الغرفة بنظرته. رفع رأسه إلى الأعلى، إلى تلك الزاوية في السقف، لاحظ الذبابة وهي تحاول الخلاص، بينما قبضت العنكبوت عليها. ابتسم، وخرج دون أن يغلق الباب، بينما ظل آدم البغدادي ملقى على أرضية المطبخ، مستغرقاً في سباته الأبدي.

 

20/9/2011

بغداد – برلين – بيروت – دبي