كان شفيق، الذي يملك جسماً رشيقاً وعقلاً متوقداً، يعمل مدرباً للياقة البدنية في نادي الميناء، قبل أن يستدعى لتقديم برنامجاً رياضياً في الإذاعة المحلية في الثمانينات. كان نشيطاً، بشوشاً، ممتلئاً بالحياة، يعشق الدعابة، ويستيقظ مع طقة الإبريق وأول صيحة يطلقها ديكه الأحمر، الذي جلبه خصيصاً ليوقظه في تلك الساعات المبكرة، ليبدأ بعدها ممارسة رياضته الصباحية، العدو، رفع الأثقال، وبعض الحركات الأكروباتية. يحلق ذقنه، يستحم، ويتناول فطوره، بيضة نيئة، قطعة خبز أسمر، وكوباً من حليب الجاموس الطازج الذي يشتريه من بائعات الأجبان المعيديات في سوق الخضارة. يرتدي ثيابه الرياضية ويذهب راجلاً إلى مبنى الإذاعة، ليسجل حلقة جديدة من برنامجه الأسبوعي الذي يعنى بالرشاقة وبناء أجسام سليمة، فضلاً عن تقديم النصائح بشأن الغذاء الصحي للمستمعين، وشرح الطرائق المناسبة للتخلص من الوزن الزائد. فكان يخصص نصف الوقت من كل حلقة لذكر الفوائد الصحية للأغذية، ثمرة معينة أو نوعاً من الخضار أو المكسرات، ولا يكتفي بذلك، إنما يحمل معه كيساً مليئاً بذلك النوع من الغذاء، ويقوم بتوزيعه على زملاءه في الإذاعة، ويروي عنها، أمام الميكرفون، بعض النوادر التي لا تخلو من الطرافة، والتهكم أحياناً. فبعد أن يشرح لمستمعيه فوائد الجزر مثلاً يربط حديثه بالأرانب، ويروي حكايات مسلية عن علاقة الجوز بالسناجب، والدببة بالعسل.
وفي أحد الأيام، توحمت زوجته بموزة. كانت حاملاً بشهرها الثالث، فخرج إلى السوق تلبية لرغبة جنينها، وبينما هو في طريقه إلى هناك، فكر بجدوى أن يخصص الحلقة القادمة من برنامجه للموز، ويبين فوائده وأهميته. وقرر أن يشتري كيلو غرام إضافي، ليوزعه على زملاءه في الإذاعة، كما اعتاد أن يفعل في كل مرة. لكنه لم يجد في السوق ولا حتى رائحة موز. بحث في كل مكان، وراح يتنقل بين الأسواق، ويسأل الباعة، لكن دون جدوى. شعر بالغضب : " لا يعقل أن تخلو البصرة من الموز يا إلهي! " فكر بطفله القادم، وكيف سيخرج إلى الحياة بوحمة على شكل موزة ملتصقة في خده، أو جبينه، وربما رقبته. تخيله محاطاً بمجموعة من الأولاد الوقحين، يسألونه عما إذا كانت تلك الوحمة موزة حقاً، أم عضواً تناسلياً اشتهته أمه حينما كان جنيناً في بطنها. لم يحتمل المشهد، فعاد إلى البيت حاملاً معه كيساً مليئاً بالبرتقال، لكن زوجته رفضت أن تأكل إلا موزاً، وطفقت تتبكبك بدلال زائف : " أريد موزاً ! " كانت تعبث بسحاب قميصه الرياضي، وتزم شفتيها، وتحرك كتفيها نحو الأعلى والأسفل، على نحو ما يفعل الأطفال : " اشتهي موزاً، الآن ! " بينما كان هو يفكر بالحلقة الجديدة من برنامجه.
في اليوم التالي، ذهب شفيق إلى الإذاعة، ولاحظ في طريقه إلى هناك قافلة طويلة من الشاحنات العسكرية، تحمل دبابات يبدو أنها وصلت مؤخراً من الاتحاد السوفيتي. امتقع وجهه بينا هو يحصي تلك الدبابات، ويتساءل عن سعر الواحدة منها. كانت تمر من أمامه في طريقها إلى الخطوط الأمامية في شرق البصرة، لتُدمر هناك وتحيلها المدافع المضادة الإيرانية إلى خردة. ابتأس كثيراً. غادرت البشاشة وجهه، لتحل مكانها ملامح الاستياء، مما لفت انتباه زملاءه، الذين لاحظوا أنه جاء هذه المرة بيدين فارغتين، فلا جوز ولا جزر ولا عسل، ولا حتى نبقة. دخل إلى الاستوديو وجلس في مكانه أمام الميكرفون. أومأ له المخرج بإشارة البداية، فشرع يحيي مستمعيه بخمول، ثم راح يحدثهم عن فوائد الموز : " يجب على كل مواطن أن يأكل موزة واحدة في اليوم على الأقل ! " ثم بدأ، كعادته برواية بعض الدعابات التي لها علاقة بموضوع الحلقة :
"هل تعلمون يا أعزائي أن القردة تحب الموز، وتأكله أكثر منا ؟ وبمناسبة الحديث عن القرود، يقول ديكارت أنها كانت تتكلم، لكنها صمتت لكي لا تضطر إلى العمل هأ هأ ! تصوروا معي قرداً يتكلم إلى مزارع في إحدى جزر الأكوادور قائلا له بتودد : من فضلك أيها المزارع الطيب، هلا أعطيتني موزة. زوجتي تتوحم بموزة، إذا لم تأكلها ستنمو وحمة في مؤخرة طفلي، وأنت تعرف كم سيكون ذلك معيباً، أليس كذلك أيها العجوز الطيب ؟ اقطف واحدة وارميها لي، نعم، هاتها، هكذا، الآن ! وفضلاً عن ذلك هناك أسطورة صغيرة سمعتها من جدتي في صغري، عندما سألتها عن السبب وراء اعوجاج الموز، فقالت أن الموز يأتي مستقيماً، مثله مثل الجزر والخيار، إلا أن ثمة قرود تقوم بثنيه في الميناء، فيصل إلينا بهذه الصورة، معوجاً ! "
ازداد تهكمه في الدقيقة الأخيرة من عمر البرنامج الذي ختمه بقوله : " أكثر من مائة مليار موزة تؤكل في العالم سنوياً، نصيب القرود منها الثلث ! وحكومتنا تشتري الدبابة الواحدة من الاتحاد السوفيتي بأربعة ملايين دولار ! في الوقت الذي تخلو أسواقنا من الموز : " موزة يا أخي، موزة واحدة على الأقل ! "
لم يعد شفيق إلى بيته في ذلك اليوم، فقد اعتُقل بعد أقل من ساعة كانت قد مضت على انتهاء البرنامج. جردوه من ثيابه، ووضعوه في زنزانة انفرادية، ومنعوا زوجته من زيارته. كان طعامه في الأسبوع الأول موزة وقدح ماء، وفي الأسبوع الثاني موزتان ونصف قدح ماء، وفي الأسبوع الثالث ثلاث موزات وربع قدح ماء، وبدءاً من الأسبوع الرابع صار غذاءه في الحبس مقتصراً على الموز فقط، مع قدح ماء واحد في كل يوم. كان هناك الكثير من الموز الذي تمنى أن يرسل لزوجته إصبع منه، لكي يتفادى بذلك إمكانية أن يولد طفله بوحمة على هيأة موزة في خده. كانت بوادر المرض قد بدأت بالظهور منذ الأسبوع الأول، عندما راح يعاني من الأرق والإسهال الشديد، ثم الصداع النصفي وتلف الأعصاب. تسوست أسنانه، وازداد وزنه على نحو خطير، قبل أن يصاب بالسكري ويشرف على الموت.
وفي صباح خريفي مؤرق، في ساعة مبكرة، استيقظ السجناء والسجانون على صوت صاخب لغوريلا نهمة، جائعة، تضرب صدرها بهياج :
" هل هناك المزيد من الموز ؟! "