مع تفجُّر الحراك العربي التاريخي الاجتماعي، في أواخر العام 2010، وعلى النحو الذي فاجأ وعي العرب ووعي الغرب معا، وعلى النحو الذي كشف عن نوع من التمرّد على "العقل السياسي العربي المعاصر" ككل، طُرح سؤال كبير، ومركَّـب، على النحو التالي: "أين هم المثقفون العرب؟" وهل من أدوار لهم على مستوى التمهيد لهذا الحراك في أفق إكسابه "طابعا تاريخيا عمليا"، وفي أفق حمايته من مخططات السرقة، أخذا بخطاطة "القابلية للثورة واحتمالات الثورة المضادة"، وأخذا بخطاطة "المثقف والمثقف المضاد" أيضا؟ واللافت، هنا، أن السؤال تمحور حول المثقفين وليس حول الأحزاب أو النقابات أو باقي أنماط التمثيل السياسي ــ الاجتماعي. ولقد كان من المفهوم أن يطرح مثل هذا السؤال، العريض، والمعهود أيضا (وعالميا)(1)، وعلى ما ينطوي عليه من أسئلة متناسلة، بالنظر للمكانة التي يحتلـّها المثقفون، عبر التاريخ، أمام الأحداث الكبرى والهزَّات التاريخية التي تعرفها شعوبهم. والمؤكد أن الدارس سيظلّ يستحضر أسماء مثل إميل زولا وأنطونيو غرامشي وجان بول سارتر وعباس محمود العقاد وبرتراند راسل وميشال فوكو وبيير بورديو... دون أن يستحضر الإطارات أو الهيئات التي انتمى إليها بعض هؤلاء أو التي سادت في الفترات التي عاشوا فيها. فـ"صوت المثقف يسمع رنـَّانـًّا" كما يلخِّـص، وبشكل جامع، الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد(2).
وحدث "الربيع العربي" تبعا لتسمية ماكينات الإعلام الغربي، والذي ابتدأ في شكل احتجاجات اجتماعية عفوية ليترجم إلى انتفاضات شعبية معمَّمة وبعد ذلك إلى ثورات سياسية جارفة، والذي أحدث "رجـَّة" غير مسبوقة في الذات العربية وفي بنيان العالم العربي ككل، من صنف الأحداث التي لا يمكن التعاطي لها بمعزل عن النبش في ملف أداء المثقفين العرب بالنظر إلى الآمال التاريخية الكبرى التي ظلـَّت معلـَّقة على هؤلاء، ومنذ حصول بلدانهم على "الاستقلال"، من أجل التصدّي لجميع السيناريوهات التي تصادر هذا الاستقلال وتعيد ــ تاليا ــ سيناريو الاستعمار بمتعلقاته المتشابكة. وهو ما تحقَّـق في العالم العربي، وعلى نحو أدهى وأسوأ، على مدار العقود الأربعة الأخيرة التي سبقت تفجُّر الحراك العربي. وكانت الحصيلة الثقيلة، والمتحرِّكة، "استعمار داخلي"(3) قائم على قذارات الاستبداد السياسي الافتراسي وعلى إعادة إنتاج "سايكس ــ بيكو" على نحو أبشع وأفظع. كان من تحصيل الحاصل، إذا، أن يتفجّـر العالم العربي بعد هذه العقود، الرهيبة، من الدوغمائيات الإيديولوجية الإسمنتية والأصوليات العسكرية الحديدية واللغات الشمولية الاستئصالية... وغير ذلك من الأشكال التي كانت في أساس ظاهرة الحاكم الذي يصرُّ على أن يحكم مدى الحياة ودونما اكتراث وسواء بمواثيق الأرض أو تعاليم السماء. فهو لا يتصور أنه ينتمي للتاريخ والطبيعة، بل يتصرّف كأنه لن يموت.
والظاهر أن المثقفين العرب، ومن ناحية الدور الذي يمكنهم الاضطلاع به، ظلـّوا، دوما، عرضة لـ"النقد" الذي بلغ حدَّ التشكيك في وجودهم داخل العالم العربي. لقد تمَّ الاستقرّار على أن هؤلاء تخلـَّوا، ومنذ زمن ليس بالقصير، عن أداء رسالتهم التاريخية، وصاروا علامة على أنماط من "الخيانة الجماعية المعاصرة" لاسيَّما في عالم في حجم العالم العربي الذي تحيطه، ومن جميع الجوانب، وعلاوة على أنهاج الاستبداد السياسي سالفة الذكر، أشكال من الحصر الاجتماعي والعجز الاقتصادي والفقر الفكري؛ مما جعل الفرد العربي لا يشعر أنه مجرد "تابع" فقط، وإنما مجرد "ش يء" ما لم نقل مجرد عبد من "عبيد القرون الوسطى" أو "عبيد الأزمنة الحديثة" كما وصفهم فرانز فانون (Frantz Fanon) في كتابه "معذبـّو الأرض"(4).
وأمام هذه الأدغال، من العجز التاريخي، لم يجد المثقف، وكما بدا له، بدًّا من الركون إلى "إيديولوجيا الفرجة"... على شاكلة "المتفرّج المسرحي الأصمَّ الجالس في الصف الأخير" تبعا لعبارة الصحفي الأميركي والتر ليبمان (Walter Lippmann) صاحب الكتاب الكلاسيكي الشهير "جمهور الأشباح" (1925). وحتى إن كان هذا المثقف لا يتقلد المناصب، ولا يضطلع بدور من الأدوار، فإنه يظل "متفرجا ملتزما" (Spectateur Engagé) بتعبير السوسيولوجي الفرنسي ريمون آرون (Raymond Aron)؛ ولعل هذا ما يبرّر توصيف "المشاهد المتورِّط" في حال هذا "المتفرج الملتزم"(5). "إن الواقع ليس هو الفيلم، ولكنه صالة العرض" كما يقول الفيلسوف ألان باديو (Alain Badiou)(6). الصالة التي يغالب فيها هذا المثقف "النعاس". وقد برع بعض المثقفين العرب في التستـُّر على "إيديولوجيا الفرجة" من خلال التخندّق، الواعي والمدروس، في دوائر التحليل البارد لمواضيع لا تجلب، وسواء في وحدتها السياقية الكبرى أو في وحدتها السياقية الصغرى، أي نوع من الخطورة، بل لا تدخل حتـَّى في نطاق ما يمكن نعته بـ"النضال الأكاديمي". وهذا لكي لا نتطاول على التعاطي لـ"الألغام" و"الزوابع"، ومن موقع يصل ما بين التحليل والتقويم، مما يجعل المثقف عرضة لما يتجاوز النقد نحو التهديد بمعناه المباشر والحرفي. هؤلاء المثقفون هم، وحقا، "أبطال الغياب المُفجع".
وفي مقابل ذلك هناك مثقفون آخرون اختاروا، وبذكاء مقصود ومستثمر (وانتهازوي، ابتداءًا)، و"من بعيد"، خدمة الطاغية. وكان لهم ما أرادوه وسواء من خلال المؤسسات الثقافية التابعة للدولة أو من خلال المؤسسات التي يفترض فيها أن تحافظ على صبغتها المدنية. وهذا في الوقت الذي أصرَّ فيه صنف آخر من المثقفين على الانخراط، وطواعية، ومباشرة، في "صناعة الطاغية"؛ وذلك من خلال ثقافة الولاء التي بلغت ــ في حالات كثيرة ــ لوثة الانبطاح. وكان من المفهوم أن يلتزم الصنف الأخير من المثقف، تجاه كل ما كان يحدث، قبل الحراك، نوعا من الصمت المطبق... ولو بلغت الأحداث حدّ التراجيديا أو الأبوكاليبس (جهنم أرضية).
وحتى لو كان النمط الأخير من المثقف قد "تحوّل"، ولو بالكلية، إلى مناصرة الحراك العربي (المباغت) وتبني مطالبه، وحتـّى من أوّل وهلة، فإن ذلك كان لن يفتح له سجـّلا جديدا بقدر ما كان سيعمـّق من سجل الخيانة المفتوحة ومن تحريك لإسهامه في ميراث الاستبداد المطلق. وهذا في الوقت الذي اهتدى فيه المثقف نفسه، في سياق التنويع على التنصّـل من أداء الدور المطلوب منه، إلى التزنّـر بـ"حبل نظرية المؤامرة" في إصرارها ــ وبهكذا "تأويل" ــ على اجتثاث البقية الباقية من الأمة في حال دعم الانتفاضات الغامضة السائرة نحو "المجهول". وحتى يتظاهر هذا النمط من المثقف، أو بالأحرى هذا "المتحوسلة" (من "تحول الذات إلى وسيلة" تبعا لتسمية عبد الوهاب المسيري)، بحيِّـز من "واجب النقد"، فإنه لا يرى مانعا من أن يسارع الحاكم العربي إلى بعض الإصلاحات السياسية والقانونية التي تشكّـل مدخلا للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم "مخطّط" عزل الحركات الاجتماعية الاحتجاجية ــ في مطالبها المشروعة ــ عن التيارات السياسية الجذرية التي لا تُـقرن ــ في أذهان الطغاة ــ إلا بالتصميم على "الاستحواذ على السلطة". وكل ذلك في المنظور الذي لا يلحق أدنى مساس بالجذور الاجتماعية ذاتها لـ"الدولة التسلطية"؛ ذلك أن بقاء هذه الدولة من بقاء قاعدتها الاجتماعية كما في أبجديات العلوم السياسية.
وفيما يتعلق بالمثقفين من الذين ناهضوا الأنظمة الفاسدة وانتقدوا الاستبداد السياسي، فهم قلـَّة قليلة جدًّا في العالم العربي، وقد يتضاءل عددهم أكثر بالنظر إلى اختلاف الأنظمة على مستوى التعاطي للفكر النقدي والعمل السياسي. ومهما كان من تشابه في حال العالم العربي ككل على مستوى التعاطي لـ"المقاربة الثقافية" فإن بلدا في حجم مصر، الذي يتيح "هامشا" للمثقف، ليس هو سوريا التي يسود فيها الاستبداد بالمطلق وبما لا يتيح أي "هامش" (ولو صغير) بموجبه يمكن الحديث عن نوع من "أهل الثقافة" (تبعا لاصطلاح ماتيو أرنولد) وبموجبه يمكن ــ واستطرادا ــ الحديث عن نوع من "الموقف النقدي" من السلطة. وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى بلد مثل "ليبيا الأخ القائد ومرشد الثورة" التي سادها التجريف السياسي والتصحـُّر الثقافي والتحجـُّر الفكري وبما لا يتيح الحديث عن أداء المثقف ولو في حدّه الأدنى أو الفتاتي. إضافة إلى أن كل ليبي أشهر معارضته أو انتقاده للقذافي يصير هدفا مشروعا في أي مكان من العالم(7). وأمَّا في اليمن، التي شهدت بدورها أطوارا غريبة وغرائبية ("مرضية"، تعيينا) من الارتباط بالسلطة، فالحال ليست بأفضل من الحال الليبية. وفي تونس لم يكن الوضع مخالفا بالرغم من الوجود الظاهري لنخبة مثقفة؛ ما دام أن هذه الأخيرة كانت، وفي الحالات التي تحتم قدرا من "المواجهة"، مشلولة أمام الماكينات الحاصدة لـ"الدولة البوليسية الاستخباراتية". ويشرح المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط الفكرة قائلا: "ليس لدينا مثقف بمعنى المفكر الحقيقي. وفي تونس صحيح أن لدينا ثقافة عامة لكن حتى الأكاديميون لديهم عقلية الموظف(8). "لكن انفتاح التونسيين على الخارج وامتلاك هؤلاء الأكاديميين لقدر معين من العلم جعلهم لا يستسيغون سياسة بن علي الغبية، كما وقع ارتفاع في مستوى الوعي من قبل جمهور واسع من التونسيين وهذا طور ضروري لتطور البلاد" حتى لا نعمل على إهدار سياق كلام المؤرخ(8). مصدر التأثير، في تونس التي كانت في أساس "حريق الحراك العربي"، كان في "مثقف اليسار النقابي" المحلي والجهوي الذي كان دوره حاسما في إنجاح الشوط الأول من الثورة. فالاتحاد العام التونسي للشغل لعب دور الملجأ للمعارضة(9). في هذه الحال تجسّـد ما يسميه غرامشي بـ"المثقف العضوي الذي يخرج من طبقة مظلومة ويتماثل معها"(10).
وفي ضوء ما سلف يبدو جليـّا أننا لسنا بصدد حالة واحدة بخصوص المثقفين، وإنما بصدد أصناف من المثقفين إلى الحد الذي يستلزم نوعا من الرصد والفرز والتمييز في أفق المصاحبة والتشخيص والتقويم. هذا بالإضافة إلى الصعاب المطروحة، بإلحاح على مستوى التمييز بين هذه الآليات التحليلية، نتيجة المناخ السياسي الموبوء الذي يدفع بالمثقف الواحد إلى أن يغيـِّر، في أحيان وأحيان كثيرة، مواقفه وقناعاته. موازاة مع "المثقف الخبير"(11) الذي صار متنقـّلا، وبسهولة تامة ودونما حاجة لتبرير، بين المؤسسات بل بين الأطراف التي تدفع له أكثر في سياق عرض خبراته وبيع استشاراته. ومن ثمَّ انتفي "شرط التفكير" ذاته، ومن ثم انتفى أيضا الاستناد إلى "الأفكار الكبرى والواضحة"، وهذا لكي لا نتطاول على "مقولة التغيير" التي تمَّ الدفع بها نحو أقبية النسيان مثلما تم إلقاء مفاتيح هذه الأقبية في الظلام. وفي المحصـِّلة الأخيرة: إن من تراجع أو غاب، بشكل أدق، هو صنف متعيِّن من المثقف.
المؤكد أن الحراك العربي جاء في سياق تحوّل عالمي، وخاصة على مستوى أنساق الفكر الكبرى، وعلى النحو الذي أفضى إلى ما يعرف بـ"خطاب النهايات": "نهاية التاريخ" و"نهاية الإيديولوجيا" و"زوال اليقينيات" و"السرديات الكبرى"... إلخ. وفي فترات سابقة، وفي إطار من رصد التحوّل الذي حصل لاحقا في أنساق التصوّر والتفكير، كان هناك "ثابت فكري" فيما يخصّ الثورات، لا سيما في المنظور الذي يفيد من الأطروحة الماركسية الرائجة. وكان هذا الثابت هو مدار تحرُّك المثقف ومدار إسهامه في الحراك الاجتماعي. ومفاد هذا الثابت أنه "لا ثورة بدون فكر" أو "لا ثورة بدون نظرية". ومعنى ذلك أن ثورة الواقع تكون مستحيلة بدون ثورة في الفكر تسبقها وتمهـِّد لها. وهذا ما يذكـِّرنا بفكرة "التهييء للفعل الثوري" الذي يسبق "انتصار التطور التلقائي للثورة" كما في تنظيرات فترات المد اللفظي الإيديولوجي والسائل البلاغي الثوري، وعلى نحو ما أسهم فيها كل من نديم البيطار وياسين الحافظ ومهدي عامل... حيث "التاريخ كدورات إيديولوجية"، وحيث "تمرحل التاريخ"، وحيث "حدود اليسار الثوري"... وهو المدار الذي كان المثقف يتحرّك فيه وفي إطار من مطمح المطابقة وحلم التغيير(12).
و"الثورة المبرمَجة" (Révolution Programmée) عادة ما لا تعرف طريقها إلى النجاح الميداني، وتصبح ــ تاليا ــ واقعا تاريخيا؛ ذلك أنه لا يمكن دائما تفسير الثورات بواسطة العقل السياسي التعليلي والتخطيط الاستراتيجي التبسيطي والتصوّر الميكانيكي الغائي. وألم يتنبأ ماركس بالثورة في مركز النظام الرأسمالي (بريطانيا، تعيينا)، غير أنها حصلت في هامش على هذا المركز (روسيا)؛ مما جعل أنطونيو غرامشي يقول بأن ماركس ولينين ينتميان لمرحلتين متمايزتين. وكما أنه لا جان جاك روسو ولا فولتير تنبآ بالثورة الفرنسية التي تعدُّ إحدى أهم الثورات على الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وهذا مع أن ثوار الباستيل سيهتفون باسميها في الثورة. سيكون من الصعب تقبـُّل أن هذه الثورة كانت بمعزل عن فكر مهـَّد لها، بل إنه لولا هذا الفكر ما كانت هذه الثورة ستنال مكانتها في تاريخ الثورات. والمقصود، في الحال الأخيرة، "فكر الأنوار" الذي نصَّ على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ... وعلى نحو ما أسهم فيه كل من روسو وفولتير نفسيهما: الأول في "العقد الاجتماعي" (1762) والثاني في "القاموس الفلسفي" (1771)، ومن قبلهما مونتسكيو في "روح القوانين" (1748) وهذا إلى جانب آخرين سبقوا هذا الأخير أو تلوه في القرن الثامن عشر الذي يعدَّه مؤرخو الفلسفة "قرن" أو "عصر الفلسفة".
وفي حال ثورات العالم العربي ثمة "تفسير سياسي بعدي" مفاده أن هذه الثورات كانت منتظرة بالنظر إلى تزايد أسباب الاحتقان الاجتماعي وبالنظر إلى انتفاء أي علامة من علامات التحرّك نحو الديمقراطية في هذا العالم الذي بدا داخل التاريخ وخارجه في آن واحد. فتراكم جميع الشروط الموضوعية للانفجار، وتراكم جميع العوامل السياسية والاجتماعية التي تفضي إلى الثورات، كانت قد تفاعلت بما يكفي لتصعد إلى "فوق السطح". ومن ثم منشأ "القابلية للثورة" أو حتى "القابلية للاشتعال" كما عبّر عنها البعض. وإذا كان لـ"شرارة البوعزيزي" من فضل، ومن وجهة "نظر سوسيولوجية"، فهو فضل التصعيد الميداني لمطلب: "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية"(13).
الأهم، في حال موضوعنا، أن الحراك حصل في غفلة من الأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية... وفي غفلة من المثقفين الذين من المفروض أن يلتقطوا "الإشارات والتنبيهات" (المقصودة وغير المقصودة) في مرحلتنا التاريخية السديمية هاته. والمؤكد أنه في العالم العربي لا يمكن للملاحظ والمهتم إلا أن يأسف على الأحزاب لوجودها الشكلي وغير الضروري، إلا أنه في حال المثقفين فإن إمكان الاعتراض على غيابهم ــ البطولي والمقصود ــ وارد وضروري. فلا المثقف العضوي أو التقليدي، ولا المثقف المتحرّر أو التابع، ولا المثقف العالـِم أو الشعبوي، ولا المثقف النجم أو الغُـفل... تمكـَّن، ولو في إطار من بؤس الإيديولوجيا أو كمين الأكاديميا، من أن يتهيأ أو أن يهيئ لتفجّـر الثورات.
هناك شبه إجماع على عجز النخب العربية عن فهم الفراغ السياسي البنيوي وعن فهم المتغيرات الهيكلية في العالم العربي. ولذلك فإن من صنع الحدث هو الشعوب التي نزلت، وبتلقائية مطلقة، ودونما أدنى خوف من "السلطوية"(14)، إلى الشوارع والميادين... من أجل التأكيد على مطالبها المشروعة التي تجاوزت، من أوّل وهلة، المطالبة بالإصلاح السياسي، الذي لم يكن أحد يجرأ على المطالبة بنتف منه من قبل، نحو المطالبة بالتغيير الجذري والشامل الذي بلغ حدَّ الإلحاح على إسقاط الأنظمة الفاسدة ورموزها المرتشية. وكان النزول إلى الشارع، للمطالبة بالتغيير، بشكل سلمي، أو بـ"القوة الناعمة" تبعا لأطروحة علي حرب(15)، تعبيرا عن "تحوّل حقيقي" في وعي الشعوب العربية. وحتى في حال اليمن، التي تخوّف منها الجميع بالنظر لتركيبتها القبلية، فقد كشف الحراك الثوري عن سلوك سلمي وحضاري... أهم ما ميزه مشاركة المرأة بشكل لافت وغير مسبوق. وكانت الطالبات الجامعيات، وبشعرهن المصفّف وراء "الفولار"، أكثر إصرارا على التأكيد على استقلالية جيلهن... وعلى نحو ما فعل شباب 1968 بفرنسا كما يقول المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا (Benjamin Stora)(16). لم تنجر الثورة، في البداية، إلى العنف الذي عادة ما يصاحب الثورات الشعبية، وهو ما كان سيصب في مصلحة السلطة الديكتاتورية. كانت الثورة "قوية بنهجها السلمي وبتفوّقها الأخلاقي" كما يقول توفيق المديني وإن في الحال التونسية(17).
لقد أشَّـرت الثورات على "أجيال جديدة" كبرت في غيبة من المثقفين والأحزاب والهيئات ... وفي غيبة من "العقل السياسي العربي المعاصر" بصفة عامة. ويوضّح علي حرب فكرة ما كان يعتمل في الخفاء قائلا: "وهكذا، ففيما كان الحاكم والداعية والمثقف أو المتلاعب والمُضارب، يتربع في سلطته المغتصبة، أو يتنعم في ثروته غير المشروعة، أو يتشبث بعقائده البائدة وأفكاره المستهلكة، أو يدافع عن هويته العاجزة وثوابته المعيقة، كانت تعتمل وتتشكل في رحم المجتمعات العربية قوى جديدة، بصورة صامتة وغير مرئية ومن غير ادّعاء، أفاد أصحابها من التحولات التي صاحبت الموجة الحداثية الجديدة، بأدواتها الفائقة ومعطياتها السيالة ووقائعها الافتراضية"(18).
إلا أن الملاحظ أنه كثيرا ما تمّ حصر السياسة، في العالم العربي، في الأنظمة والأحزاب والإيديولوجيات... دونما التفات إلى ما يحصل، في هوامش المدن وفي أحيائها الخلفية، من تحوّلات وتبدّلات أفضت إلى انفجار اجتماعي متزايد ــ وغير محسوب ــ أفضى بدوره إلى "التسونامي السياسي" الذي تعرفه المنطقة العربية الآن. ومن ثم الحاجة إلى منظور "الديموغرافيا التاريخية"، فهذه الأخيرة تفيد إن لم نقل تظل الأقرب لفهم ما يجري كما ينبهنا إلى ذلك أدوي بلينيل (Edwy Plenel) الصحافي الفرنسي المعروف في جريدة "لوموند"(19).
في الحق إن ما يقوله علي حرب، عن "ثورات القوة لناعمة في العالم العربي"، ومن منظوره التفكيكي الإيجابي لا العدمي، وفي المدار ذاته الذي يثمِّـن "العولمة"، لا يخلو من أهمية لافتة لا سيما وأن فرحة علي حرب بالحراك الثوري معلن عنها في أكثر من موضع من الكتاب (ص133، 191)، ولا سيما أن مناهضته للاستبداد (السياسي) واضحة أيضا، غير أن كل ذلك لا يحول دون الإفادة من الديموغرافيا سالفة الذكر ومن الأنثروبولوجيا والاتنوغرافيا والتاريخ واللسانيات... إلخ. فالعلوم الاجتماعية تفيد كثيرا على مستوى التعاطي لـ"الزفت السياسي العربي" في سياق استخلاص معطيات "العلاقات المركبة" التي من خلالها تحكم الدولة قبضتها أو هجمتها على المجتمع المحلي؛ ومن ثم منشأ "الإخضاع اليومي". ثم إن سعي الناس للحصول على متطلبات العيش، الأساسية، يتحوّل، في حدّ ذاته، إلى وسيلة لمضافة التسلّط عليهم. فالتقاط ذبذبات الحياة السياسية اليومية وآليات اشتغال الدولة التسلطية وإدارتها لهذه الحياة... يستلزم "صندوق أدوات" (Boite a Outils) (إذا جاز المصطلح الذي خصّ به الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز صديقه ميشال فوكو) يأخذ من الأنثروبولوجيا السياسية ومن العلوم الاجتماعية بصفة عامة.
فـ"البارديغم الجديد" الذي تكشـَّف عنه الحراك، وعلى صعيد الثقافة ذاتها، هو "براديغم الفرد" الذي قطع مع "سياسات الخوف" و"ثقافات الخوف" و"جمهوريات الخوف". تلك الثقافة التي بموجبها كان الخوف يتحوّل إلى فزع وبعد ذلك إلى عبادة للديكتاتور. ولذلك سجّل الحراك الثوري الشعبي، ومنذ انطلاقاته الأولى، تحطيم تماثيل الحكام وإحراق صورهم في الميادين والساحات... في دلالة على التحرّر من العبادة سالفة الذكر التي بلغت حد "التأليه" الذي كان في أساس متوالية الطغيان والاستبداد. وكان الباحث الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي قد قدّم تحليلا، قويا، للأنظمة العربية التسلطية، وتحديدا للنسق الثقافي للسلطة، من خلال فرضية تقول بـ"تسرّب خطاطة ثقافية من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي"، وهي خطاطة "الشيخ والمريد". والخطاطة الأخيرة ككل الخطاطات الثقافية التي تتبلور، كما يتصوّر الباحث، في سياق المجابهات العملية حول تحديد الواقع وبنائه(20)
لقد تمَّ تحقير هذا الفرد، على نحو غير مسمى، بل تمّ استحماره، وتقزيم قدراته، وتقشير أحلامه، وتقريد مواهبه، وانتهاك كرامته... وتم َّ إفراغه من المواطنة ومن حس الانتماء للوطن وللعروبة، ومن حس الانتماء للهوية الفردية والجماعية. وكل ذلك في المدار الذي أفضى إلى شطبه ومحوه من قبل "النظام" الذي علا على الفرد والمجتمع معا. وقد تمّ شطب الفرد من ناحية المرتكز ــ الأساس. والمقصود، هنا، "الحرية" المحكومة بزمان ومكان متعيـِّنين... والمرتبطة بمجموعة قومية هي العرب. هذا مع "أن ما يجعل من الفرد شخصا هو الشعور بأن الحرية بديهية" كما يقول عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الحرية"(21). ونتيجة أشكال التحقير سالفة الذكر، ونتيجة اليأس من الأحزاب والنخبة، وجد هذا الفرد ذاته يحتجّ بتلقائية وعفوية مرسومتين ومتزايدتين. ونجاح ثورة تونس ومصر كان نتيجة التلقائية والعفوية. فنحن بصدد "ثورة بلا إيديولوجيا" يحرِّكها الجوع إلى الحرية" كما قال ماهر مسعود(22). وألم تنطلق الثورة الفرنسية، وباعتبارها إحدى أهم الثورات في تاريخ الإنسانية، بدون قيادات؟
واللافت، كذلك، أن هذا الفرد سيكشف عن ثقافة جديدة نتيجة نوع من الوعي السياسي المادي الإجرائي والمباشر، وحتى البسيط، وعلى نحو ما نمَّاه عن طريق ارتباطه بـ"الإعلام الاجتماعي البديل"، وعن طريق ما أخذ يسمعه في الفضائيات من أخبار وتعليقات وبرامج وانتقادات... لا سيما في قناة "الجزيرة" التي كانت وراء "انقلاب غير مسبوق" في الإعلام العربي، وعن طريق ما أخذ يشاهده من متغيرات إقليمية وعالمية كذلك، ودونما تغافل عن "غسيل ويكيليكس" على مدار خريف العام نفسه (2010) الذي سيتفجّر فيه العالم العربي وعلى النحو الذي قزّم من أكثر من حاكم عربي ديكتاتوري مثلما بيّن كيف أن هذا الأخير مرتهن للغرب وجاهز للتضحية بشعبه بأكمله من أجل بقائه في الكرسي. لقد اكتنز هذا الفرد/ المواطن، وبطريقته، بتصوّرات وأفكار ومواقف وآراء وتخييلات وأحلام وانتظارات. ومن ثم كان هذا الأخير مجلى لحشد سياسي/ اجتماعي برهن عليه في "الميادين" التي خطفت دور ما يسمى بـ"برلمانات الشعوب العربية". لقد نجح الجيل الجديد في إعادة ترتيب العلاقة بين الثقافة والشارع، وقبل ذلك وجدت الثقافة السابقة نفسها معزولة تماماً بعد الثورة كما قالت شيرين أبو النجا في مقدمة كتابها "المثقف الانتقالي: من الاستبداد إلى التمرد"(23).
والمؤكد أنه ما كان للثورات أن تبلغ ما بلغته بمعزل عن انضمام جميع شرائح المجتمع إلى الشوارع والميادين. ولا نعتقد أن الثورات "كسَّرت ثنائية النخبة والجمهور" فقط، وإنما غيـَّرت من العلاقة القائمة بين الطرفين وعلى النحو الذي أربك ــ وإذا جازت "لغة ما بعد الحداثة" ــ "منتجي الأفكار وعمَّال المعرفة" إن لم نقل لطمتهم أو دهستهم وبأكثر من معنى. فقد "طلع الناس من حيث لا ينتظرهم أحد. بلا حماية. بلا قيادات. بلا أفكار جاهزة. بلا يوتوبيات معلـَّبة. وبلا انتماءات حزبية أو مناطقية أو طائفية" كما قال الشاعر والكاتب اللبناني بول شاوول في مقاله "جاءت الثورة وغاب المثقفون"(24). وقد طلع الناس أوّل مرّة، من مدن هامشية كما في حال مدن سوريا الهامشية التي كشفت عن إصرار غير مسبوق في مقاومة "لويثان الاستبداد" أو كما في حال محافظة سيدي بوزيد مفجـّرة "ثورة الياسمين" في تونس وبلدان أخرى في العالم في العربي. فلأوَّل مرة سيخطف الشعب دور "المثقف الجماعي الميداني" في التصدّي للسلطة الاستبدادية الكاسحة والجارفة، ولأوّل مرة سترغم الشعوب العربية "المثقف النقدي" على الانضمام إلى صفوف الثورات من أجل الإسهام في إنجاحها ومن أجل التصالح مع التاريخ. فقد كانت الشعوب "خميرة الثورة"، وأما النخب فأتت متأخـِّرة لكي تنضم إلى صفوفها كما قال علي حرب(25).
و"بالطبع، قد ينطق باسم الثورة شخص. ولكنه ليس نموذج الزعيم الأوحد" كما يقول علي حرب. فأهم ما كشف عنه الحراك هو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"مركزية الفرد". ذلك أن من ضاع، وابتداءًا، في العالم العربي، هو الفرد ذاته كما أسلفنا. صحيح أن الفرد معطى داخل المجتمع كما قال العروي في "مفهوم الدولة"(26)، غير أن هذا الفرد هو الذي سيكون وراء تفجير ثورات العالم العربي نتيجة "عياء الأحزاب" و"شيخوخة النخبة السياسية" و"تواطؤ النخبة المثقفة" أو "الأقلية المثقفة"... وغير ذلك من القنوات أو الأطراف التي كانت تتوسـَّط ما بين الدولة والمجتمع أو النظام والشعب تبعا للثنائي الذي ذاع ــ أكثر ــ ضمن شعارات الربيع العربي. وفي جميع الحالات لم يكن الشعب، ومن قبل، هو الذي "يتكلم"، وإنما كانوا "يتكلمون" باسمه ونيابة عنه وفي الصالونات والمقرات وفي جميع الاستحقاقات والمؤامرات... إلخ. وبلغة اللسانيين، من الذين حاولوا بدورهم فهم الثورة وخدمتها، "كان الشعب مجالا للملفوظ (Enoncé) وليس مجالا للتلفظ" (Enonciation) الذي يشير إلى فعل/ إنجاز في أفق تشكيل خطاب نقيض أو مضاد(27).
وكان علي حرب قد ركَّـز، في سياق قراءة "حدث الثورات"، على ما أسماه بـ"المستوى اللغوي" الذي "أثر في الغرب أيضا"(28). وأخطر ما يوجد في الشعار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"الشعب يريد إسقاط الاستبداد"، هو كلمة "يريد". ولذلك قال جلبير الأشقر: "يتمثل الإنجاز الرئيسي للانتفاضة العربية في أن شعوب المنطقة تعلَّـمت أن تريد"(29)؛ مما ما حذا به إلى أن يعنوّن كتابه، حول الحراك العربي أو "الانتفاضة العربية" تبعا لعنوان الكتاب الفرعي، بـ"الشعب يريد".
وقد ساهم الجميع، وكل من موقعه الجغرافي والثقافي، في التأكيد على الدلالة الحدية للشعار. وكما يلخص صاحب كتاب "تقليد وثورة" (1991) رضا مالك (رئيس الحكومة الجزائرية على مدار الفترة الممتدة من 1992 إلى 1994، أي في أحلك الفترات التي تلت انتفاضة خريف 1988) فـ"مفهوم الثورة يرتبط بتغيير المجتمع بصورة واعية وشاملة. وكل ذلك يستلزم حركة جماهيرية في سيرورة موحدَّة شاملة تتجاوز القرية والقبيلة والمنطقة لتشمل الأمة بما يستتبعه ذلك من تخط لفوارق السن وتباين الجنس والتفسخات المجتمعية المهنية دون أن تفقد الحركة ديناميتها الشعبية..."(30).
غير أن مفردة الشعب، بدورها، انتفضت ضد "المدلول التبخيسي" الذي لازمها لعقود بأكملها؛ ومن ثم اكتمل المدلول المضاد والممتلئ، الممتـد والجارف، للجملة ــ الشعار. يقول علي حرب في هذا الصدد (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "والوجه الآخر لتغيُّـر معنى الثورة هو تجدّد مفهوم "الشعب". هذا المصطلح كان يُفهـم، في الحقبة الإيديولوجية الآفلة، خاصة مع التجارب العقيمة والكاريكاتورية لمجالس الشعب والمؤتمرات الشعبية، على سبيل السلب والقدح والابتذال، بإحالته إلى ما هو شعبوي، غوغائي أو استبدادي، وكما ترمز إلى ذلك مصطلحات العوام والدهماء والجماهير العمياء والقطعان البشرية. ولكنه أصبح بعد اندلاع الثورات يرمز إلى ما يجسد القوة والحيوية، بقدر ما يرمز إلى المصلحة العامة والمشروعية العمومية أو إلى المرجعية العليا والنهائية"(31)
لقد جاء الحراك نتيجة "سيرورة طويلة الأمد" كتلك التي جاء كتاب جلبير الأشقر لتفكيكها واستخلاص أهم دلالاتها وأبرز خطاطاتها. والكتاب، في نظرها، بمعطياته التاريخية وبمنهجيته المكشوفة، من أهم ما كتب في الموضوع. والمؤكد إلى جانب كتب أخرى تظل معدودة جدا، ودونما تغافل عن كتابات مكتوبة بلغات أجنبية مثل كتاب سمير أمين في الموضوع نفسه(32) أو كتبها أجانب كما هو الشأن بالنسبة لكتاب/ حوار "89 العربية: تأملات حول الثورات الجارية" لبنيامين ستورا (Benjamin Stora) (وقد أحلنا عليه من قبل). وفي ضوء ما أتيح لنا من اطلاع على كتب وأبحاث ومقالات وحوارات وسجالات... فقد بدا لنا أن نشدّد على نموذج تفسيري، في العلوم الاجتماعية ككل، يسعف، إلى حد بعيد، على تفسير الحراك الثوري. والمقصود، هنا، "نظرية المجتمع الموازي" (Société Parallèle). ومن هذه الناحية فقد تأكَّد حضور "العامل" (وبمعناه المصاغ في نظريات التغيير الاجتماعي والعلوم الاجتماعية بصفة عامة) الذي فجُّـر الحراك، داخل مجتمع غير مجتمع المثقفين والأحزاب والنقابات والتنظيمات الشعبية... وغير ذلك من أنماط التمثيل السياسي التي تتأطر داخل المجتمع المركزي أو الرسمي أو المرجعي أو الحكومي... وغير ذلك من الأشكال الدالة على نوع من المجتمع الظاهر والخليط ومتشعب المخرجات... والخاضع، في الوقت ذاته، وهذا هو الأخطر، لـ"مراقبة عمودية" من قبل السلطة وفي إطار من التراتبية الاجتماعية،. بكلام آخر: بدا هذا العامل، وأغلبه من "شباب الظل" كما ينعتهم مصطفى حجازي(33) أو "الحائطيين" أو "الحطيست" كما باللغة المغاربية(34)، ومن الذين حرموا من أبسط أشكال العيش اليومي الكريم، في مجتمع غير رسمي أو هامشي أو تخومي أو شرعي أو مضاد أو متخارج أو طرفي أو شبحي أو خفي أو في "مجتمع موازٍ" تبعا للاصطلاح المتداول أكثر. أجل إن المجتمع الموازي مشروط، في وجوده، بالإمكانية المجالية والإجرائية والوظيفية التي يتيحها المجتمع المرجعي(35)... غير أنه ارتقى إلى أن يكون مجلى لمستوى محدّد في الهامشية وهو مستوى "الهامشية الواعية الاحتجاجية" التي هي قرينة "مجموعات جديدة" ستكون بدورها قرينة "بروز الوعي" و"أخذ الكلمة" بتعبير المؤرخ جان كلود شميث (Jean Claude Smith)(36).
وإذا كانت الأنظمة العربية قد برهنت على فائض من اليقظة بخصوص "المجتمع الموازي" فقد حصل ذلك في حالة واحدة هي حالة التيارات المضادة لها وخاصة تيارات الإسلاموية الراديكالية التي كانت حريصة على تشكيل مجتمع مواز في إطار من الصراعات المفتوحة مع السلطة وعلى السلطة. وفي جميع الأحوال لم تدرك هذه الأنظمة أنساق التوليد وسياقات التصعيد المتزايدة للمجتمع الموازي من قبل "عامل" من نوع آخر لا يعتقد في جدوى "الآلة السياسية" بجميع تياراتها المنتظمة أو حتى المتصارعة في إطار من "وطأة الكلية الاجتماعية".
لقد أكّـد الحراك الثوري، من أوّل انطلاقته، ومن منظور خطاطة "المجتمع والمجتمع الموازي" باعتبارها نموذجا تفسيريا في المقاربة السوسيولوجية، على اختلال في البنيات والوظائف، وكما كشف عن غياب أي نوع من الشراكة أو تقاسم الأدوار بين الهامشية والوظيفية... وكل ذلك في المدار الذي كان يعمل، عبر إواليات "إعادة الإنتاج"، على تثبيت الأوضاع ذاتها لكي لا يحصل أي تغيير يمس المجتمع السائد أو يخرج عن النسق. لقد أكدّ المجتمع الموازي، وفي الفضاء العام تعيينا، وباعتباره واقعا سياسيا ميدانيا أيضا، ومن خلال جملة من الاستراتيجيات والممارسات الموحَّـدة، على "هشاشة شروط التلازم البنيوي والانفصال الوظيفي" في مجتمعات الحراك التاريخي الاجتماعي جنبا إلى جنب فضح "الطابع الكارتوني" للأنظمة كما تكرّر في توصيفها. ما تأكد، هنا، هو "وهم الشفافية" إذا جاز أن نتكلم بلغة السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو ( Pierre Bourdieu)(37). ومعطى المجتمع الموازي برز في جميع بلدان الحراك، وبما في ذلك البلدان التي سعت أنظمتها إلى سحق هذا المجمع منذ بدايات ظهوره كما في الحال السورية الدموية(38). ويبقى أن نؤكد الآن، وحتى نخلص إلى مستوى آخر من التحليل بخصوص موضوعنا، على أن معطى المجتمع الموازي من العناصر التكوينية الأساسية لـ"مفهوم الثورة". لكن هل معطى المجتمع الموازي يحول دون التأكيد على إسهام المثقفين في الثورات؟ وهل بالفعل اختفى المثقفون؟ وهل يمكن التسرّع بخصوص فشل الحراك العربي؟ لعل هذا ما يتطلب بحثا آخر نأمل أن نخوض فيه عما قريب.
إحـــــــــــــــالات:
1 ــ في هذا السياق يمكن أن نحيل على كتاب الباحث السوسيولوجي البريطاني فرانك فوريدي (Frank Furedi) "أين ذهب كل المثقفين؟ّ" (Where Have All the Intellectuals Gone?) (2004) الذي عكس، ولو في إطار من منظور سجالي، جانبا من هذا النقاش العالمي. وللمناسبة، فقد ترجم الدكتور نايف الياسين الكتاب إلى العربية، وصدرت الترجمة في مكتبة العبيكان (السعودية) العام 2010. وأهم ما يركز عليه الكتاب "التسطيح المؤسسي" الذي طال أداء المثقفين وسواء في الفضاء الأنكلوسكسوني أو الفرنسي.
2 ــ إدوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة غسان غصن (بيروت: دار النهار، بيروت، 1997)، ص105.
3 ــ مصطلح "الاستعمار الداخلي" إلى جانب مصطلح "الاستقلال الثاني" من بين المصطلحات، البارزة، التي كشف عنها معجم الثورات العربية خصوصا في المنظور التحليلي الذي يفيد من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" في قراءة الحراك الثوري العربي.
4 ــ Franz Fanon, Les Damnés de La terre, (Paris : Ed. Gallimard, 1991), P105.
5 ــ لقد سعينا إلى مناقشة بعض أفكار هذا المحور في بحث لنا موسوم بـ"إيديولوجيا الفرجة في أمراض الحالة المغربية"/ مجلة الكلمة (الإلكترونية): العدد 89، سبتمبر 2014. وهي على الرابط التالي: www.alkalimah.net/dossierarticle.aspx?DAid=480
6 ــ ألان باديو، فشل اليسار، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوي (الدار البيضاء: دار توبقال، 2011)، ص63.
7 ــ يوسف محمد جمعة الصواني، ليبيا الثورة وتحديات بناء الدولة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص12.
8 ــ هشام جعيط، أخفقت الثورات العربية اليوم لكن ذلك لا يعني أنها لن تنجح... لقد زرعت بذورا للمستقبل (حوار)/ القدس العربي: 16 أغسطس 2014.
9 ــ انظر القسم الثالث من كتاب: توفيق المديني، تونس ــ الثورة المغدورة وبناء الدولة الديمقراطية (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013).
10 ــ بخصوص سياقات التداول انظر: ميشيل بروندينو والطاهر لبيب [تحرير]، جرامشي في العالم العربي، ترجمة كاميليا صبحي؛ مراجعة وتقديم أنور مغيث (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة؛ المشروع القومي للترجمة، 2002).
11 ــ لا ينبغي أن ننظر، وأبدا، إلى المثقف الخبير بعين من التشكيك... ما دام أنه، بدوره، يضطلع بدور متعين داخل جوقة المثقفين. وكان المفكر عبد الله العروي قد لفت الانتباه، في حوار معه، إلى أن هذا المثقف "قد أدى دورا إيجابيا، وطورا دورا سلبيا، وعلى المؤرخ يقع بيان هذا الأمر"/ جريدة أخبار اليوم (المغرب)/ السبت ــ الأحد: 03-04/04/2010.
12 ــ انظر: الطاهر عبد الله، نظرية الثورة ــ من ابن خلدون إلى ماركس (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979). وفيما يتعلق بـ"الإنتلجينسيا"، من ناحية صلتها بالفكر الثوري الوحدوي ومن ناحية صلتها بالجماهير، انظر: نديم البيطار، المثقفون والثورة (الرباط: المجلس القومي للثقافة العربية، 1987).
13 ــ ينبغي التنبيه إلى أن الفعل الذي أقدم عليه البوعزيزي، حين أحرق ذاته في 17 ديسمبر 2010، وعلى النحو الذي فجّـر الحراك الثوري العربي بعامة، جاء في سياق تراكمات سابقة وتضحيات مشابهة... وسواء في تونس أو خارجها، غير أنها لم تبلغ "حد القطيعة"/ انظر: جلبير الأشقر، الشعب يريد ــ بحث جذري في الانتفاضة العربي، ترجمة عمر الشافعي بالتعاون مع الكاتب (بيروت: دار الساقي، طبعة ثانية، 2014)، ص 160.
14 ــ انظر: عبد الله حمودي، الشيخ والمريد ــ النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة (الدار البيضاء: دار توبقال، 2000).
15 ــ علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي ــ من المنظومة إلى الشبكة (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة ثالثة، 2013)، ص47.
16 ــ - Benjamin Stora, Le 89 arabe, réflexions sur les révolutions en cours, dialogue avec Edwy Plenel (Paris : Ed. Stock, 2011),P107.
17 ــ توفيق المديني، تونس ــ الثورة المغدورة، ص12.
18 ــ علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، ص 133، ص191.
19 ــ - Benjamin Stora, Le 89 arabe, PP106-108.
20 ــ عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، ص 12.
21 ــ عبد الله العروي، مفهوم الحرية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1981)، ص22.
22 ــ انظر: ماهر مسعود، الثورة في زمن العولمة، على الرابط التالي: www.observerme.com/modules.php.
23 ــ شيرين أبو النجا، المثقف الانتقالي: من الاستبداد إلى التمرد (القاهرة: دار روافد، 2014).
24 ــ انظر: بول شاوول، جاءت الثورة وغاب المثقفون، على الرابط التالي: ademocracynet.com/Arabic/index.php?page=culture&id
25 ــ علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، ص87، ص153.
26 ــ عبد الله العروي، مفهوم الدولة، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الدار ، طبعة خامسة، 1993)، ص19.
27 ــ هناك دراسات سعت إلى دراسة شعار الحراك الثوري من منظور لساني موسّع. انظر: نادر سراج، مصر الثورة وشعارات شبابها (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014). وانظر: محسن بوعزيزي، شعارات الثورة التونسية ــ لغة الحرية والكلمة ـ الفعل/ مجلة "بدايات (بيروت: العدد: شتاء ــ ربيع 2012)، صص22 ــ 26.
28 ــ علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، ص8.
29 ــ جلبير الأشقر، الشعب يريد، ص300.
30 ــ رضا مالك، تقليد وثورة ــ الرهان الحقيقي، ترجمة جوزف أبو رزق (بيروت: دار الفارابي، 2003)، ص119.
31 ــ علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، ص190.
32 ــ Samir Amin, Le monde arabe dans la longue durée: un printemps des peuples? (Paris: Temps des cerises, 2011).
33 ــ انظر: مصطفى حجازي، ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية/ مجلة الآخر (بيروت: العدد: الثاني، خريف 2011).
34 ــ انظر: عادل بلحاج رحومة، الشبان "الحيطيست" يعمِّرون الفراغ الاجتماعي في "المجتمع الموازي بين الهامشية والوظيفية" [جماعي] (منوبة: كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، 2012).
35 ــ مولودي قسومي، المجتمع والمجتمع الموازي: شروط التلازم البنيوي والانفصال الوظيفي في "المجتمع الموازي بين الهامشية والوظيفية"، ص30.
36 ــ جان كلود شميث، تاريخ الهامشيين في التاريخ الجديد [جاك لوغوف وآخرون]، ترجمة د. محمد الطاهر المنصوري (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007)، صص 440 ــ 441، ص446.
37 ــ بيير بورديو، أسئلة علم الاجتماع، ترجمة عبد الجليل الكور؛ إشراف ومراجعة محمد بودودو (الدار البيضاء: دار توبقال، 1997)، ص12.
38 ــ انظر: جاد الكريم الجباعي، المجتمع الموازي، على الرابط التالي: www.assuaal.net/node/373