وقفتُ على بعد أمتار من فلسطين ولم أدخلها!

حزامة حبايب

أصدقائيالجميلين.. أصدقائي الطيّبين،على قلّتكم..

كانتقرّر في الحُلُم، حُلُمي أنا، أن يتحقّق أوّل لقاء لي مع فلسطين خاصتي، كان ليموعدٌ ـ كما يفترض ـ مع النظرة الأولى، اللمسة الأولى، الهمسة والشهقة وارتعاشة القلبالضعيف والعشق المستكن في ذاتي التائهة، منذ أُرغمتُ على تذوّقِ طعم اللجوء، وهو مذاقٌمرّ تظلّ الروح تلوكه، فلا يخفّ طعمه بالتعوّد، كما لا يخلد للعادة.

بعدانتظار مضنٍ لنحو ألف عام من الحزن، جلستُ في الأثناء على رصيف اليأس مرّات ومراتبقلب مُنكّس وآمال مهشّمة، انتزعتُ أخيراً حقاً "مشوّهاً" ضمن الحد الأدنى المحتمل للكرامة لزيارة فلسطين المحتلّة،أو شظاياها المسموح لنا بالاعتراف بها، أرض أبي، وجدّ أبي وجدّ جدّي، وأجدادي الماثلينفي صفحات التاريخ كلمات بارزة، واضحة التشكيل، في ما وصفته بـ"تمرين على العودة":أنا اللاجئة، ابنة اللاجئ، الذي غادر قريته في أرض فلسطين التاريخية في نكبتناطفلاً حافياً، جائعاً، باكياً (لأنّ أمه كانت تبكي كثيراً دون أن يعرف سبب بكائها)، ولأنه كان يفلت من يد أمّه فتطأه جموع أهل القرية الذين يغسلونطريق الرحيل الماحلة بدموعهم، شاعراً ومستشعراً ـ من مشاعر الآخرين ـ أنهم يسيرون إلىنهاية الأرض، ونهاية الوطن، وأن البيت الذي تركوه لن يظل.

وهكذا،انطلقتُ صباح السبت الموافق 21 نوفمبر (تشرين الثاني)2009، من عمّان إلى فلسطين: أو شقّها شبه المحرّر علناً، المحتلّ فعلاً، شبه المعترفبه، شبه المتاح لنا، المتبقّي من يأسنا، الباقي من شعرِنا، الصامد من عذاباتنا، المنسوجمن آمال مقزّمة، المستقطع من تاريخنا المرتهن، المحصّص لنا من الجغرافيا المنهوبة،المجتزأ من حياة منقوصة، وذلك في رحلة حب إلى وطن عرفته توْقاً وحلماً وانزياحاًعن المنطق وواقعاً يحاذي الغرائبية وحزناً موصولاً وبكاءً متقطّعاً أمام صورة الأرضالنازفة في شاشة التلفزيون المحايدة. كنتُ دُعيت إلىحضور فعاليات "الأسبوع الثقافي للمرأة الفلسطينيةالمبدعة في فلسطين والشتات"، الذي نظمته وزارةالثقافة الفلسطينية ضمن احتفالية «القدس عاصمة الثقافةالعربية 2009»، وذلك في الفترة ما بين 21إلى 25 نوفمبر (تشرين الثاني) في فلسطين، حيث استصدرت السلطةالوطنية الفلسطينية تصريحاً لي بالدخول ـ بوصفي أديبة فلسطينية عنواني الشتات ـبعد ما يشبه العمر من الانتظار، وكان يُفترض أن أشارك في كلمة عن القدس المدينةالتي لم أعرف لكنّني أعرفها ـ بطريقتي ـ جيداً.

الطريق،الذي قطعته السيارة، إلى جسر الملك حسين كان مليئاً بالترقّب والتوقّعات التي لا تستندإلى تجارب لقاء مماثلة. للمرة الأولى ـوأنا على سفر ـ أعبُّ الطريق كلّه في عيني، فلم أشأ أن يفوتني وجهٌ ماشٍ أو شجرة عابرةأو حجر، حتى وإن أوحى بأنه حجر عثرة في طريقي.. طريقي التي كانت تقصر وتقصر فيصباح عمّاني ـ عادي جداً، منشغل عنّي ولاهٍ عن مشاعري ـ إلى فلسطين.

لكنالطريقَ من الجسر إلى الوطن عبر معبر أريحا تصبح فجأة غير عاديّة، وغير إنسانية..إذ نقطع نحن الفلسطينيين طريق الآلام والعذابات إلى الأرض في حافلات تنتظر أوامر المحتل،الواقف على بوابتنا الفلسطينية، عبر شرذمة بشرية يشبه أفرادها الكراهية، يتفرّسونفي وجوهنا، علّهم يقرؤون احتمالات غضب وشيك، فيما نطوي المهانة في أبداننا التيصلّبها الصبر، قابضين على حقائب الأيدي التي تصطف فيها جملة أوراق وهويات وتصاريحتؤكد أحقيّتنا المهدّدة في الأرض التي تنتظرنا في الداخل. حتى الهواء في المعبر فينهار خريفي قلق كأنه يستكين، متبعاً الأوامر الإسرائيلية التي تتقصّد إذلال الفلسطينيللجلوس إلى أبد الآبدين في حافلة بشرية مكتظة، على بوابة تؤدي إلى جزء من الأرض، شريطمن الوطن، ضمن احتمال وارد جدا ألا يصل، وإن وصل فقد لا يدخل.

فيالمحطة الأخيرة من طريق الآلام إلى فلسطين، فلسطين الحلم والأمل المؤجّل والأرضالتي أتعبني حنيني إليها، لم أدخل. وقفتْ فلسطين هناك، قريبة مني، أقرب مما حلمتُ،على بعد أمتار قليلة من جسدي و من حبي، ولم أدخل. لم يعترف المحتل بتصريح السلطة الفلسطينيةـ التي شطب منها كلمة "الوطنية"كتعريف ـ وإنما أراد أن يختم على جواز سفري بتأشيرة دخولإلى الأرض المحاصرة المصادرة. بالنسبة لي، فإنالتصريح، الذي يحمل اسمي (والذي استُصدر بشقّ النفس اعترافاً بي ككاتبة فلسطينيةقبل أن أكون فلسطينية "مشتتة")، يبرهن على الاحتلال ولا يحّلله، يشرح واقعنا ولا يُشرعنه، يرسموجودنا الصعب ولا يُسهِّله، أما ختم المحتل على جواز سفري فيُراد به تأكيد سيادة الاحتلال،وتفعيل فاعليتها قبل رمزيتها.

نظرإليّ الضابط الإسرائيلي متحدياً، قائلاً بلسان مستعرب: "في ختم يدخل.. ما فيختم يرجع!" لم يضعكلمة "فلسطين" على لسانه، ففلسطين بالنسبةله ترهبه لفظتها، أو كأنها ليست موجودة إلا في ذاكرتنا، في وجودنا المنهَك الذي "يتبهدل" على المعابر، لكنه مع ذلك لا يفقد فلسطينيته..فالأرض أولاً، نحن أولاً، وهم الزائلون.

حملتحقيبتي وكتبي وكلماتي، التي أردت أن أهديها للوطن الحلم وعدت، وقد رفضت أن أرضخلمبدأ الختم الذي يؤكد سيادة، قد لا أستطيع أن أقاومها أو أدحرها بغضبي، لكنني علىالأقل أستطيع أن أرفضها. عدتُ من بوابة فلسطين الوحيدة المتاحة لي عبر طريق عكسيمن الدموع، بتصريح لم يصرح لي دخول الوطن، وجواز سفر رفضتُ أن أطبع عليه ختم سيادةالاحتلال، ومنطق الواقع الذي لا حيلة لنا في ردعه، دون أن يعني ذلك أني أدين أوأشجب من شاء الدخول لأن قلبه غلّب منطق الحب على منطق الختم.. كما لا ألوم من حكّم فضيلة الشوق على مبدأ الاحتلال، وأتفهم الأصوات التي جاءتنيمن داخل الأرض، التي لم أطأ، ومن خارجها، بأن الختم زائل والوطن ماثل، وأن حلمرؤية الوطن أهمّ بكثير من ختم "تافه"لا يجب أن تكون له أية قيمة، وأنني بإرادتي أستطيع أن أشطبه من جواز سفري ومنهويتي التي تمنح إطاراً رسمياً لوجودي.. كل هذا قد يكون صحيحاً، كل هذا قد يكون ممكناً.. ربما.. لكنني أنا الفلسطينية، أعلاه وأدناه،وإن كنت أستطيع أن أشطب ختم السيادة الإسرائيلية رسمياً فإني لا أستطيع أن أمحوهمن قلبي، كحقيقة تذكرني بأني رضخت لهم في الشيء الوحيد الذي أملك ألا أرضخ لهم فيه.

لمآتكم بزجاجات الرمل التي وعدتكم بها، ولم أحمل معي حجراً من الأرض تخبئونه لأيامعصيبات قادمات. لقد رجعتُ بحُلُم تهشم، وبكاء كثير غزير، مخلفةً نظرة عالقة بحنو عندالبوابة ووعدا بأن أعود.. سوف أجمع نثار حلمي الذي تكسر، وسوف أعود ثانية.

غداأجفف دمعي، وغدا أخلع حزني.. وسوف أعود مراتومرات، حتى وإن اقتضى الأمر أن أقول: "لا" على بعد أمتار من الوطن الحلم في كل مرة، لأنني أعرف أنني سوفأظل أعود.