صدر عن مؤسسة فكر شعبة منشورات فكر والتي يترأسها محمد الدرويش الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط مؤلف يحمل عنوان: "الزاوية والحزب بالمغرب : أصول الاستبداد السياسي" لصاحبه الباحث الشاب سعيد جعفر. الكاتب بحث في موضوع السلطوية وفق منهج أكاديمي صارم يطوق ما أمكن تسرب الذاتية، من خلال تعيين ماهية السلطوية، وتشريح أصولها، وتتبع أشكال تسربها إلى السياسة والفعل السياسي من خلال مؤسسة الحزب السياسي بالمغرب، وأخيرا تداعيات وامتدادات السلطوية على بنية الدولة والمجتمع.
سيجد القارئ أن الباحث لم يعتمد تعريفا مرجعيا للسلطوية تخوفا منه من السقوط في اقتسام نضالية أو عقدية أو مذهبية أو إيديولوجية جهة ما، وحاول تشبيك تعريف ممكن من داخل المؤلفات السياسية العربية حصرا لقدرتها على الجواب على حقيقة الاستبداد في الفكر والفعل السياسي العربي، ولقدرتها على تقريب المفهوم والفعل والظاهرة بأمانة متناهية.
في تعيين ماهية الاستبداد أبحر الباحث في أمهات مؤلفات الآداب السلطانية وآداب النصائح ومراجع الفكر السياسي العربي القديم، مع بعض الانفتاحات على الفكر السياسي المعاصر. وهذه الخطوة قادت بشكل تلقائي إلى تعيين أصول السلطوية والاستبداد السياسي، وبما أن الأمر يتعلق بحالة المغرب ولأن البحث يتناول الزاوية والحزب حصرا، فقد حصر الباحث هذه الأصول في الولي (الصالح) والزاوية لخصوصيتهما ولأدوارهما في تشكيل جزء من الفعل السياسي والمخيال الرسمي والشعبي بالمغرب.
استقر اختيار الباحث على نموذجين من الولي (الصالح)، الشريف الزرهوني المعروف بالروكي بوحمارة، والشريف عبد الحي الكتاني.
ولعل اختيار هذين النموذجين له مسوغاته, أولها الاستفزاز الذي تحدثه الرواية المخزنية الرسمية حول شخصيتيهما ومسارهما التاريخي، إذ الإثنان يشكلان اختبارا حقيقيا لخطاطة السلطوية كما ينعشها ويحميها نظام المخزن ونموذجا مقاوما لفلسفتها وسلوكها وخططها. نموذجا الشريف الزرهوني وعبد الحي الكتاني يمثلان الوجه الآخر لخطاطة السلطوية، وجه التدافع لحيازة الشرف والمقدس والبركة، حيث يشكل الأمر مدار الفعل السياسي.
حاول الإثنان بناء شرعية خارج المخزن كمصدر للشرعية لذا حاولا لعب نفس الخطة والتكتيك، وظفا ورقة الدين والنسب الشريف والامتداد التاريخي وادعاء الكرامات والمعجزات. إذ ليس غريبا أن الشريف الزرهوني في أفق تأسيس إمارته في تازة وأحوازها ادعى في الناس أنه الأمير مولاي امحمد شقيق السلطان محمد بن عبد الله الذي أشاع في الناس وفاته حتى يستفرد بالحكم، وهي الجزئية التي سيتوصل إليها الشريف الزرهوني عند اشتغاله في سرايا دار المخزن ككاتب في ديوان السلطان. كما أن الزرهوني سيؤسس طريقة خاصة به بعد أن رحل إلى الجزائر لأخذ علوم الظاهر والباطن عن الشيخ ابن أبي عدة مريد القطب مولاي عبد القادر الجيلاني.
وفي لحظات متفاوتة سيدعو القبائل إلى الجهاد تارة ضد المحتل الفرنسي والإسباني وتارة ضد تقاعس السلطان عن حماية الثغور وإقامة الحدود . إنه نفس المسلك الذي سيسلكه الشيخ عبد الحي الكتاني إذ سيعمل على تعزيز شرعيته بالتشكيك في شرعية السلطان وليس سرا أن الكتاني من استنفر فقهاء فاس أولا وفقهاء المغرب لاحقا لتحرير وثيقة البيعة الحفيظية التي ستعزل المولى عبد العزيز عن الحكم وستطوق عنق المولى عبد الحفيظ بالتزامات شرعية وسياسية وجد صعوبة كبيرة في التخلص منها لاحقا.
وربما يكمن الفارق في استغلال كل من الشيخين لظروف وامتيازات مرحلته لتحقيق هدفه السياسي – الديني، فالشريف الزرهوني (الروكي بوحمارة) سيعتمد جيشا منظما وتنظيما إداريا مضبوطا مستغلا ضعف وتراخي السلطة القائمة، والشيخ الكتاني سيستغل امتياز الإعلام والعمل المدني والتفاوض مؤسسا جرائد وجمعيات وعاقدا تحالفات ظرفية ونفعية في هذا الصدد.
ومن الطبيعي أن يعزز الاثنان مرجعهما النظري وأفقهما السياسي بمرجع وبناء تنظيمي محكم يكون أداة لخدمة الهدف السياسي، ولهذا سيخضعان طريقتيهما لخطاطة تنظيمية متكاملة هرمية ومجالية نجحت في تحقيق الهدف السياسي الذي يحكم حركيتهما.
منهجيا كان من الضروري البحث في خطاطة وبنية الولي الصالح لتشريح أصول الاستبداد والسلطوية والشرف والبركة والمقدس قبل البحث في الزاوية لكون الولي الصالح صورة مصغرة عن الزاوية وقد يكون مقدمة لتأسيسها واتساع شأنها، ذلك أن الصلاح والشرف شكل قوة ممغنطة للأتباع والمريدين مما فرض على الولي الصالح الانتقال إلى مقام أكبر هو الزاوية.
الاختيار انصب على زوايا سهل تادلا لأسباب متفاوتة، فالزاوية الشرقاوية والزاوية الدلائية يمثلان توجهين خاصين في حيازة الشرف والبركة والأفق السياسي، شيوخ الزاوية الشرقاوية ناوروا السلاطين ونجحوا في ضمان مكانة خاصة للزاوية لدى المخزن العلوي خصوصا وتفادوا مطولا إقصاءها وتهميشها في إطار الصراع السياسي والصراع حول المجال.
وأما الزاوية الدلائية فتشكل حالة خاصة في إنتاج قيمها الخاصة وفي إنتاج خطاطة الخضوع والطاعة، فهذه الزاوية المعاندة والمعارضة نجحت في اختبار قيم السلطة وإنتاج قيمها ونموذجها في الحكم. والنموذجان كلاهما يساعدان في تشريح أصول السلطوية والقبض على خطاطة الطاعة والخضوع خصوصا عندما يقف الباحث على البناء التنظيمي الذي اعتمداه.
وليس مصادفة أن هذه الكيمياء المميزة للحقل الديني بكل مقدسه وبركاته وغيبياته وأدواته وتنظيمه تتسرب إلى الحقل السياسي بالمغرب ومؤسساته المركزية ممثلة في الملكية والحزب السياسي.
بدأ هذا التسرب لكيمياء الخضوع والطاعة والمقدس والسلطوية إلى مفاصل الحزب السياسي منذ حدوث التلاقح الأول الصدامي بين الزوايا والحركة الوطنية من أجل حيازة الشرف والنجاح السياسي، إذ شكلت الزوايا قوة نابذة ورأت الأخيرة في أفكار الحركة الوطنية اغترابا عن الأصول.
وفي خضم هذا الصراع العلني الفكري والسياسي حصل تسرب ناعم لخطاطة متكاملة من الطاعة والخضوع والسلطوية فكريا وتنظيميا قبل أن تخضع لتجديدات فرضتها التطورات المتلاحقة لكن دون أن تمس الجوهر الذي تمثله جدلية الشيخ والمريد ومظاهر الطاعة والخضوع والولاء والشرف والبركة والزعامة والريع والزبونية والحلقيات وغيرها من التمظهرات التقليدانية الحافلة بطقوس القداسة. هذا الكتاب يقف مطولا عند أشكال الإخضاع والمناورة التي ينهجها كل من شيخ الزاوية والولي الصالح، وتلك التي ينهجها السلطان لحماية سلطانه عبر إخضاع الزوايا واحتكار سلطة الدين والمقدس والشرف والبركة.
وختاما فدرس خطاطة الخضوع والطاعة والسلطوية في الحالة المغربية من خلال قنطرة الزاوية – الحزب يساعد في فهم جزء معين من طبيعة الفعل السياسي، كما يساعد على استشراف درجة ومنسوب دمقرطة الممارسة السياسية أو تجذر سلطويتها في المستقبل.