(1) انتفاضة القدس الثانية
إن كانت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى التي أطلق عليها اسم "انتفاضة الحجر"، قد حققت الهوية الفلسطينية، وأجبرت الكيان الصهيوني والعالم على الاعتراف بالشعب الفلسطيني، والتعامل معه على قدم المساواة مع الشعوب الحرة الأخرى، والإقرار بحقه في أن تكون له دولةٌ ووطن، ووجودٌ على الأرض ورسمٌ على الخارطة، ومكنت الشعب الفلسطيني من أن تكون له كينونة حقيقية داخل الوطن، وصوتٌ عالٍ خارجه، وأن يرفع علم بلاده في سماء وطنه، وأن يصدح في أجوائه بالنشيد الوطني الفلسطيني، وأن يكون له هوية خاصة معترفٌ بها، وجواز سفرٍ محترم محترمٌ ومقدر، وأن تكون له مؤسسات خاصةٌ وهيئاتٌ وطنيةٌ مستقلة، لا تلتزم تعليمات الاحتلال ولا تخضع لإرادته.
وإن بدت هذه الإنجازات وغيرها وكأنها إنجازات اتفاقية أوسلو، فإنه ما كان لها أن تكون، ولا أن يصدق عليها ويوقع، وما كان لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تعود إلى أرض الوطن، بصفاتها وأشخاصها، وقادتها ورموزها، وما كان العدو ليرضخ ويقبل، ويستسلم ويوقع، لولا انتفاضة الحجر، التي رفعت القضية الفلسطينية إلى مصاف القضايا الأممية الكبرى، وجعلت من الحجر رمزاً لكل ثورة، ومثالاً لكل الثائرين الغاضبين الساعين لنيل حقوقهم، والانتصار على أعدائهم، وجعلت من الأطفال أبطالاً، ومن تلاميذ المدارس رجالاً يخوضون الصعب ويصنعون المستحيل، ويواجهون الموت ويتحدون آلة القتل الهمجية، بقوةٍ جنانٍ لا يتردد، وبأسٍ لا يلين، رسمها وخلد صورتها فارس عودة وآخرون.
أما الانتفاضة الثانية التي جاءت انتصاراً للأقصى الشريف ومسرى رسول الله الكريم، والتي كانت غضباً من اليهود المحتلين، الغاصبين المعتدين، الذين دنس كبيرهم أرئيل شارون الحرم باقتحامه آنئذٍ، قبل أن يكون رئيساً للحكومة الإسرائيلية فيما بعد، فكانت انتفاضة الأقصى التي عمت فلسطين، وشملت الوطن، وطورت المقاومة، ونهضت بالإرادة، وصنعت المعجزات، وأرهبت العدو العالم بعملياتٍ استشهاديةٍ مروعة، وأخرى نوعية مرعبة، وشكلت سهماً من المقاومة صاعداً لا يتوقف، ونجماً في سماء فلسطين لا يغيب، وسباقاً محموماً بين القوى والشعب وأبنائه لا ينتهي، يبتدعون وسائل القتال ويبتكرون آلات المقاومة، وكثرت أوجاع العدو جراحه، وعلا صوته وطال نحيبه، وبات لا يعرف من أين تأتيه المفاجأة، وكيف يحل عليه الموت، وتنزل فوق رؤوس مستوطنيه الحمم، ومن تحت أقدامهم تتزلزل الأرض وتشتعل.
رغم أن العدو الصهيوني قد جن جنونه، واشتعل الشيب في رؤوس قادته، إلا أنه شيب رعب وليس شيب حكمةٍ، فقاموا بتدمير أجهزة السلطة ومؤسساتها، ومقراتها ومكاتبها، ووزارتها وهيئاتها، وقتلوا الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، واجتاحوا قطاع غزة مجدداً، وقسموه إلى مناطق وقطاعاتٍ عسكرية، ولكنهم فجأة من القطاع انسحبوا، وجروا أسلحتهم وحملوا متاعهم، ومن قبل فككوا مستوطناتهم ورحَّلوا مستوطنيهم، ولم يبقوا لهم في غزة على أثر، بل رحلوا كأن لم يكونوا، وانسحبوا وفي نياتهم أنهم لا يستطيعون أن يعودوا.
ما كان للعدو الصهيوني أن ينسحب من قطاع غزة مرغماً ذليلاً حسيراً وبأمرٍ من قائدٍ عسكري كبير، وجنرالٍ مشهودٍ له القسوة والشدة، لولا انتفاضة الأقصى التي أرغمته على اتخاذ قراراتٍ موجعة، والمضي في سياساتٍ مؤلمة، ومنها تفكيك مستوطناته في القطاع التي كان يسميها تارةً بأنها تاريخيةً، وتارةً بأنها أمنية ولا يمكن الاستغناء عنها أو التخلي عنها، فهي على الساحل تتحكم، وفي العمق تسيطر، وعلى الأطراف تراقب، ولكن انتفاضة الشعب العملاق، الثائر الحانق، بالصاروخ والقذيفة، والاستشهادي والمقاتل، والمدية والسكين، والبلطة والصاروط، أجبرهم على الرحيل والغروب إلى الأبد.
أما الانتفاضة الثالثة التي ما زالت برعماً يتشكل، ونواةً تكبر، وخليةً تتكاثر، ومارداً ينهض، فإنها ستكون هذه المرة مختلفة، وستكون ثمرتها مغايرة، ونتيجتها أعظم، وتداعياتها أفضل وأحسن، بما لا يجعلنا نندم أو نتراجع، لأنها انتفاضةٌ عن وعيٍ وفهمٍ، وإرادةٍ وتصميمٍ، ورؤيةٍ وبصيرة، وهي نتاج التطور والتقدم، والإيمان والعقيدة، والعمل والجهاد، وأبطالها الشعب كله، الرجال والنساء، والشباب والشابات، والصبية والأطفال، كلهم معاً، يلتحمون في أطراف الوطن كله، جنوباً في غزة الحرة، وشمالاً حيث الصمود والثبات، ووسطاً حيث القلب والجمرة التي تتقد دوماً ولا تنطفئ، وتتهيأ دائماً ولا تنخمد.
إنها انتفاضةٌ جديدة، مغايرة ومختلفة، وقودها الإيمان والعقيدة، ودافعها الغيرة والغضب، وتطلعاتها الحرية والوطن والاستقلال، فسيكون لرجالها ما يريدون، وستحقق ما تحب وتتمنى، ولن يقف في وجهها صلف الاحتلال ولا تطرف المستوطنين، ولا حقد الجيش وانتقام الجنود، فهذا لن يزيد الشعب المؤمن إلا إصراراً، والأمة إلا ثباتاً، فهي مع الشعب الفلسطيني اليوم تتطلع وترنو، وتأمل أن تكون ثورته اليوم انعتاق، وانتفاضته كرامه، وخروجه انتصاراً، وهذا ما يعلمه العدو ويدركه، ويخافه ويخشاه، ولكن المسير يلزمه خطة، والانطلاق يلزمه عزمٌ ونية، والعمل يباركه الصدق والإخلاص.
* * * * *
(2) فلسطين تتحد
الانتفاضة دائماً، الأولى والثانية والثالثة اليوم، فعلٌ مباركٌ، وعملٌ عظيمٌ، ومقاومةٌ محمودة، وعطاءٌ موصول، وجهدٌ موفور، ونفيرٌ عامٌ، وقوةٌ كبيرة، وشجاعةٌ لافتة، وهي بالخير تأتي على الشعب والأمة، وعلى الوطن والبلاد، وعلى العامة والخاصة، إذ يفيض خيرها، ويعم فضلها، ويمتد ظلها، وتسود منجزاتها، وتتعاظم استحقاقاتها، وتتوالى نتائجها الطيبة، وما تأتِ به من خيرٍ شامل، وفضلٍ سابغٍ تعجز عن الإتيان به السياسة والمفاوضات، والسلطة والحكومة، والقوى والفصائل والأحزاب، التي تستظل بظل الانتفاضة، وتتفيأ تحت ظلالها الوارفة، تستفيد منها وتكسب، وتغنم منها وتتعلم، وتحاول أن تتقدمها وتسبق، أو تلحق بها ولا تتأخر، إذ أن الخاسر هو من فاتته الانتفاضة ولم يلحق بها ولم يشارك فيها.
الانتفاضة توحد الشعب، وتجمع الكلمة، وترطب القلوب، وتصفي النفوس، وتجمع الشتات، وتقرب البعيد، وتنسي الهموم، وتقضي على المشاكل وتستر العيوب، فهي ذات فعلٍ عجيبٍ وأثرٍ كالسحر، تجمع المتناقضات، وتوحد بين المتضادات، وترفع الصوت وتجعل منه صوتاً واحداً، قوياً مجلجلاً، يخيف ويرعد، ويدوي ويهدد، ويؤكد أن هذا الشعب بخيرٍ وإن أصابته هنات، أو قعد ولحقت به على مر الأيام سقطاتٌ، فإنه دوماً ينهض، وغالباً يستفيق، ويعود أقوى من ذي قبل، وأشد بأساً وأصعب مراساً مما كان، فلا يقوى عليه العدو ولا يلجمه، ولا يشكمه ولا يرعبه، بل يخافه ويتحسب منه.
الفلسطينيون في كل مكانٍ من أرض الوطن فلسطين وقفوا اليوم لأجل القدس، وهبوا لنصرتها، واتحدوا في الدفاع عنها، فلم يغضب لأجل القدس ساكنوها ومجاوروها في الضفة الغربية فقط، ولم تجد القدس وبلداتها القديمة الصامدة أنفسهم وحيدين في الميدان، ضعفاء في المواجهة، يواجهون صلف الاحتلال دون سندٍ أو نصير، وإن كانت هبتهم عظيمة، واستبسالهم مهول، وتحديهم كبير، وغضبهم جارف، واندفاعهم جريء، فكانوا جديرين بنسائهم ورجالهم، وشيبهم وشبابهم، أن يكونوا حماةً للأقصى، وحراساً للقدس.
بل هبت معهم وقبلهم جنين وطولكرم، ونابلس والخليل، وبيت لحم ورام الله، وقلقيلية وجنين، ومعهم كل المخيمات والبلدات والقرى، في هبةٍ جماهيريةٍ أعادت للفلسطينيين صور الانتفاضة الأولى الناصعة، التي كانت تنتضي في تظاهراتها كالسيوف اللامعة، تواجه بصدورها العارية الدبابة والبندقية، والجندي المدجج بالسلاح وكأنه في ميدان حربٍ أو ساحة قتال، فكانوا سباقين قبل غيرهم، ليقولوا للقدس وأهلها أننا معكم ومنكم، يدنا فوق أيديكم، وقلوبنا وسيوفنا معكم، وحجارتنا إلى العدو تسبقكم، ولن يمنعنا عن نصرتكم قتلٌ ولا قنصٌ، ولا إعدامٌ غادرٌ وتصفياتٌ جبانة.
أما غزة البعيدة عن القدس، والمعزولة عنها بأسوار الاحتلال العالية، وجدرانه السميكة، وسياساته الظالمة، التي تحرمهم من التواصل مع أهلهم، والصلاة في مسجدهم، والمشاركة في الرباط معهم، فإنها هبت من خلف الأسلاك الشائكة، التي تفصل بينها وبين جنود الاحتلال، وحمل شبابها الحجارة، وقذفوا به وجوه العدو، مستعيدين مجد آبائهم، وتضحيات إخوانهم، وهم في أغلبهم شبابٌ يافعٌ ما شهد الانتفاضة الأولى، ولا عاش أيامها الماجدات، ولا ناله شرف حمل حجارتها، والخوض في رماد شوارعها، ولا ذرفت عيونه الدموع من أثر قنابل الغاز المسيلة للدموع التي كان جيش الاحتلال يغرق غزة ويخنق سكانها به.
ولكن هذا الجيل من الشباب شهد حروباً ضروساً، ومعارك طاحنة، وصمد أمام القصف والغارات الجوية المهولة، وتحمل الحصار والحرمان والمعاناة، وثبت أمام همجية العدوان، ورسم لشعبه صوراً عظيمةً في المقاومة والهجوم والمباغتة، فكان خروجه في مواجهة جنود الاحتلال ولو من وراء الأسلاك الشائكة، نصرةً للقدس وأهلها، ودفاعاً عن المسجد الأقصى وحق المسلمين فيه، ورسالةً صارخةً قويةً مدويةً أن غزة جزءٌ من الوطن فلسطين، وأنه لا تنبت عن أهلها، ولا تنفصل عن وطنها، وأنها تهب نصرةً للقدس مع سكانها، وتضحي في سبيلها، لأنها تؤمن أن القضية واحدة، والوطن واحدٌ، كما أن العدو المحتل الغاصب واحدٌ.
أما الأهل في أرضنا المحتلة عام 48، في حيفا ويافا، وفي اللد والرملة، وفي النقب والناصرة وغيرها، فقد كانوا أسبق منا وأسرع، وهم الذين هبوا للرباط في المسجد الأقصى قبل أهله، والدفاع عنه قبل جيرانه، وسقط منهم فيه شهداء، وقتل على الطريق أثناء عودتهم في حوادث سيرٍ كثيرون، ولكن الموت لم يمنعهم من مواصلة الرباط، وممارسات الاحتلال واستدعاءات شرطته لم تخيفهم، ولم تقلل من أعداد الوافدين الراغبين في المشاركة ونيل فضل الرباط وبركة المقاومة، وقد شاركوا هبة القدس جميعاً، ليقولوا للمحتل الإسرائيلي، إننا عرب مسلمون، لغتنا عربية، وديننا الإسلام، وكتابنا القرآن، ما نسينا ولن ننسَ.
لا شئ كالانتفاضة يوحد فلسطين وأهلها، ويرسم لهم صورةً جميلةً براقة، ناصعةً زاهيةً، يتغنى بها أهلها ويفرحون، ويباهون بها ويتيهون، ويقولون لغيرهم هذه هي فلسطين الأصيلة، وهذا هو شعبها الكريم، وهذه هي حقيقتنا التي كنتم تعرفون وتدعمون، وهذه هي انتفاضتنا التي كنت تؤيدون وتساندون، وها هم اليوم صفاً واحداً، وجبهةً موحدةً، لا انقسام بينهم، ولا فرقةً تمزقهم، ولا اختلافات تباعد بينهم، فاللهم انصرهم وأيدهم، واحفظهم وبارك في جهدهم، واحفظ عطاءهم وتضحياتهم، واحم بدمائهم القدس والأقصى، وأعد إلينا الأسرى والمسرى.
* * * * *
(3) شبابٌ يافعٌ ونساءٌ ثائرات
إن أهم ما يميز هبة القدس التي نأمل أن تكون بوابةً لانتفاضةٍ شعبيةٍ ثالثة، تغير الواقع، وتبدل الحال، وتحقق الأماني، وتسير بالأمة نحو فجرٍ جديدٍ وغدٍ أفضل، وتصوب المسار، وتعدل المسيرة، وتتجاوز الصعاب والعقبات، وتقفز عن العيوب والمشاكل والهنات، ويلتقي عندها الشعب وتلتف حولها الأمة، أن أغلب أبطال هذه الهبة المباركة هم من جيل الشباب، من الجنسين معاً، ممن لا تزيد أعمارهم عن الثلاثين عاماً، وكثيرٌ منهم قد ولد بعد اتفاقية أوسلو، وغيرهم كان طفلاً رضيعاً أو صبياً صغيراً عندما تم التوقيع على الاتفاقية، فنشأوا في ظلها، ولكنهم عندما كبروا ووعوا رفضوها واستنكروها، ورأوا أنها تحط من كرامة الشعب، وتتنازل عن حقوقه، وتفرط في أملاكه ومقدساته، وتعترف للعدو بما احتل، وتتنازل له عما اغتصب، فكانت استجابتهم للهبة قوية، ومشاركتهم فاعلة، وحضورهم طاغياً.
أما الميزة الثانية التي تميزت بها هذه الهبة المباركة، وإن كانت تتشابه نسبياً مع الانتفاضتين السابقتين، فهي الحضور اللافت للمرأة، والثورة الغاضبة للنساء، الشابات والمسنات، والعازبات والمتزوجات، والأمهات والزوجات الجديدات، فكن مرابطاتٍ في المسجد الأقصى، يدافعن عنه ويبتن فيه، ويصدن بما أمكنهن محاولات المس بالمسجد وباحاته، ولا يبالين بما يلقين من أذى وإساءة، وضربٍ مهانةٍ، ودفعٍ وركلٍ وجرٍ على الأرض، واعتقالٍ ومحاكمة أو قتلٍ وإصابة.
ومع ذلك فقد كن في الأحداث أكثرية، ينافسن الرجال ويسبقنهم، ويخرجن للمواجهة قبلهم وبدون إذن أزواجهن أو آبائهن، ويجتزن المعابر ونقاط التفتيش بقوةٍ ورباطة جأش، لا يهتز لهن جفنٌ ولا تضطرب جوارحهن، يتصدين إلى الجنود، ويحاورونهم بجرأة وشجاعة، ويصرخن في وجوههم، ويهددن وجودهم، ويتوعدن الاحتلال ومستوطنيه بمصيرٍ أسودٍ وخاتمةٍ أليمة، ومنهن من تخصورت بخنجرٍ، وأخرى تحمل سكيناً، وغيرهن يحملن ما يؤذي ويجرح، دفاعاً عن أنفسهن وعن قدسهن.
كأن الاحتلال الإسرائيلي وجد ضالته في الشباب الفلسطيني الغض، وفي الشابة الفلسطينية اليافعة، فأمعن في الإثنين معاً قتلاً وجرحاً واعتقالاً، فكان أوائل الشهداء مهند حلبي (19 عاماً)، وفادي علوان ( 19 عاماً)، وأمجد الجندي (17 عاماً)، وثائر أبو غزالة (19 عاماً)، وحذيفة سلمان (18 عاماً)، ووسام جمال (20 عاماً)، ومحمد الجعبري (19 عاماً)، واسحق بدران (16 عاماً)، ومحمد سعيد علي (19 عاماً)، وأحمد جمال صلاح (19 عاماً)، وإبراهيم عوض (28 عاماً)، وجهاد العبيد (22 عاماً)، والطفل مروان بريخ (13 عاماً)، وخليل عثمان (16 عاماً)، وشادي دولة، وأحمد الهرباوي، وعبد الوحيدي، ومحمد الرقب، وزياد نبيل شرف، وجهاد العبيد، وأحمد شراكة، وتتراوح أعمارهم جميعاً بين 11-22 سنة، والأم الحامل نور رسمي حسان وطفلتها الرضيعة رهف حسان.
رغم صغر سنهم وحداثة أعمارهم، إلا أن العدو لم تأخذه بهم رأفة ولا رحمة، بل إنه زاد في جرعة القسوة والشدة، وبالغ في تسديد الإصابات وتحقيق القتل، وتنقل في جرائمه بين القدس ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة الذي تعددت فيه وسائل القتل، بين القصف وإطلاق الأعيرة النارية وهدم البيوت على ساكنيها، فقتل أماً شابةً وهي حامل في الشهر الخامس وطفلتها التي لم تتجاوز الثانية من عمرها، ولم يستثن من جرائمه التي يرتكبها جنوده بخبثٍ ومكرٍ، أهلنا في الأرض المحتلة عام 48، الذين نالهم من الاحتلال سوء، ولحق بهم أذى كبيراً، وتنوع القاتل الإسرائيلي فكان جندياً بالبزة العسكرية ومستوطناً حاضراً، ومواطناً عابراً ورجل أمنٍ متخفي في ثيابه المدنية.
وفي كثيرٍ من الأحيان كان الاحتلال يقتل بدمٍ باردٍ، دون أن يكون هناك أي خطرٍ يتهدد حياة مستوطنيه أو أمن جنوده، ومع ذلك فإن جنوده كانوا يبادرون بإطلاق النار على الفلسطينيين العابرين والمتظاهرين، ويسددون طلقاتهم على الجزء العلوي من الجسد أو على الرأس مباشرةً، ولا يكتفون بقاتلٍ مجرمٍ يصوب بندقيته أو مسدسه تجاه الضحية، بل يتكاثرون على الفلسطيني كالكلاب الجائعة، ويحومون حوله كلٌ يريد أن ينشب أنيابه في جسده، وينهش من لحمه، وكذلك كانوا مع أغلب الشهداء الذين نجحوا في طعن إسرائيليين أو حاولوا، ومع أولئك الذين اشتبهوا بهم وشكوا في وجودهم أو هيأتهم، فأطلقوا عليهم النار بدمٍ باردٍ، وقد سجلت عدسات التصوير جرائمهم ووثقتها بالصوت والصورة، ومن أكثر من زاويةٍ ومكان.
لعل دراسة بسيطة للشرائح الاجتماعية والعمرية الفلسطينية التي تشارك بقوةٍ في هذه الهبة الجماهيرية المباركة، فإنه سيجد أن السواد الأعظم من المشاركين من الجنسين، هم من الشباب القوي الواعد الحالم في المستقبل، الذي لا يعرف العجز ولا يسكن قلبه اليأس، ويتطلع بأملٍ إلى الحرية والتحرير، والكرامة والعزة، ولا تعنيه حياته كثيراً أمام الهدف والغاية، التي يراها ساميةً ونبيلة، وعزيزةً وغالية.
ولهذا فإن هذه الهبة التي قد يمد الله في عمرها، ويبارك لنا في أثرها فتكون انتفاضة، ستكون مختلفة ومغايرة عن سابقتيها، لوعي أبنائها، وتضحيات رجالها، وعطاءات نسائها، ولعل العدو يدرك تماماً أنه لا يواجه جيلاً يائساً، ولا شباباً محبطاً، ولا شعباً كسيحاً، ولا قادةً مخصيين، إنما يواجه جيلاً يعرف ماذا يريد، ويدرك الغاية والسبيل، والطريق والوسيلة.
* * * * *
(4) نفوسٌ خبيثة وأحقادٌ موروثة
لا أقول أن انتفاضة القدس الثانية قد كشف عن نفوسٍ إسرائيليةٍ خبيثة، وأظهرت أحقادهم القديمة على العرب والمسلمين، وأنه لولا الانتفاضة ما كانت أخلاقهم لتظهر بهذه الصورة السافرة المقيتة، أو أنهم كانوا قبل أحداث القدس يتحلون بأخلاقٍ عاليةٍ وقيمٍ نبيلة، بل هذه هي طبيعتهم القديمة، وجبلتهم الأصلية، التي جبلوا وعاشوا عليها، وهم لا يستطيعون أن يخفوا حقيقتهم، ولا أن ينكروا طبيعتهم، لأن هذه النفوس الخبيثة موجودة دائماً، وحاضرة أبداً وإن بدت أنها تغيب أحياناً، وهي نفوسٌ متوارثة، وأحقادٌ يتواصون عليها جيلاً بعد جيل، ويتوارثونها كأنها صبغياتٌ وراثية، تميزهم عن غيرهم، وتعلمهم عمن سواهم.
فهذا مستوطنٌ يهودي يضع شرائحَ من لحم خنزيرٍ على جثة الشهيد محمد الجعبري (18 عاماً)، على مرأى ومسمعٍ من الشرطة الإسرائيلية ومن جنود الاحتلال، الذين قتلوه بدمٍ باردٍ، وكانوا قد أحاطوا به كوحوشٍ مفترسة، يريدون أن ينقضوا عليه لكنهم منه كانوا يخافون، وعلى أنفسهم منه يخشون، وهو الأعزل إلا من يقينه، فلا سكيناً كان يحمل ولا حجراً، ولكنهم تكاثروا عليه، وأطلقوا عليه رصاصاتٍ قاتلة، قبل أن يأتي مستوطنٌ حاقدٌ ويضع على جسده الطاهر ووجهه الصبوح، بمباركة المحيطين به، وفي حضور عناصر الإسعاف ورجال الدفاع المدني، قطعاً من لحم الخنزير بقصد الإهانة والإساءة، بينما كان غيرهم من المستوطنين والحضور يصورون الحادثة التي بثوها بفخرٍ عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
قيادة أركان جيش الاحتلال سمحت للجنود بارتكاب المزيد من الإساءات بحق الفلسطينيين، فقد هيأت ودربت كلاباً خاصة، تلاحق وتمسك، وتعض وتنهش، وتقتل وتجرح، وتفتك بمن يريدون الفتك به، وقد دربوها على مهاجمة العرب دون غيرهم، وتمزيق ثيابهم، والانقضاض بقوة عليهم، وعلى كل من يطلق صيحات أكبر، مبررين جريمتهم التي لا يفرقون فيها بين رجل وامرأة، بأن من يفجر نفسه، ويعزم على مهاجمة الإسرائيليين، فإنه عادةً يهتف الله أكبر، لذا فقد دربوا الكلاب القوية السريعة على مهاجمة هؤلاء عند سماعهم تكبير الفلسطينيين قبل تفجير أنفسهم، علماً أن التكبير عبادةً وتسبيحاً، يلتزم بها المسلمون في كل مكانٍ، اقتداءً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يستخدمونها أيضاً لمحاولة التعرف على المارة والمشتبه فيهم إن كانوا يحملون متفجراتٍ أو أسلحة نارية.
كما أنهم يأمرون بخسةٍ ونذالةٍ، وانعدامٍ للرجولة والمروءة، كلابهم بمهاجمة النساء، ومنهن محجبات، ويتركونها تتحرش بهن، عضاً ونهشاً وتمزيقاً للثياب، بينما يقومون بتصوير المشاهد، وأخذ الصور التذكارية الخاصة بهم، في أجواء من الضحك والسخرية والتهكم، ولا يستثنون من جريمتهم الأطفال والصبية، في الوقت الذي يمنعون الآخرين من نجدة المعتدى عليهم ومساعدتهم، وإلا أمروا الكلاب بملاحقتهم أيضاً.
لا يكتفي الجنود ورجال الشرطة الإسرائيليون ومعهم قطعان المستوطنين، بطلقةٍ واحدةٍ أو أكثر عندما يقتلون فلسطينياً بحجة أنه كان ينوي طعن أحدهم، يل يمطرونه بعشرات الطلقات، ومن أكثر من قطعة سلاح، وكأنهم بإطلاقهم النار عليه بكثافةٍ، ينتقمون منه ومن الفلسطينيين، ويشفون بقتله صدورهم ويروون غليلهم، إذ أن من يطلق عليه النار مجموعةٌ وليس فرداً واحداً، وكأنهم فريق إعدامٍ ينفذ الأمر، لكنهم ينفذونه بمتعةٍ وسعادةٍ، وفرحٍ كبيرٍ يبدو على وجوههم.
كما تثبت العديد من الصور التي تنشر عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والعربية وغيرها، إقدام الإسرائيليين جميعاً، جنوداً ومستوطنين ومارةً، على قتل الجرحى والمصابين الفلسطينيين، حيث يجهزون على الجريح والمصاب، وهم يرونه على الأرض ملقى ويتلوى ألماً، أو يطلق صيحات الاستغاثة وطلب النجدة، لكن أحداً لا يصغي عليه، ورغم انعدام الخطر منه، وإصابته البينة الواضحة، ودمه النازف بشدة على الأرض، ومع ذلك يأتي من يطلق النار عليه من جديد، ويصيبه في الرأس أو الصدر ضماناً لقتله، وتأكيداً على "موته".
لعل مشاهد قتل الإسرائيليين لنساءٍ فتياتٍ فلسطينيات، يكشف عن مدى السقوط الأخلاقي والتردي القيمي لجيش الاحتلال، الذي يوجه سلاح جنوده القاتل إلى النساء العزل، وهو الذي يدعي أنه الجيش الأكثر أخلاقية ومناقبيةً في العالم، وأنه يحترم قوانين الحرب ومبادئها، ومنها أنه لا يقتل أطفلاً ولا نساءً ولا مسنين ولا عجزة، ولا يجهز على مريضٍ أو مصاب، ولكن الحقيقة أنه يقتل كل هؤلاء، وقد رأينا كيف أطلق جنوده النار على العديد من الفلسطينيات، في الوقت الذي كانوا فيه قادرين على اعتقالهن، وتكبيل حركتهن، إذ يكن غالباً في حالة ضعف إذا سقطن على الأرض، ولا يشكلن خطراً على حياة الإسرائيليين، وسط هذا الكم الكبير من الجنود ورجال الشرطة المحيطين بهن من كل مكان، والذين يشهرون بنادقهم ومسدساتهم ويسددونها تجاههن، ومع ذلك فإنهم لا يطمئنون إلا إذا أطلقوا النار عليهن غزيراً بقصد القتل، وليس بنية شل حركتهن، والسيطرة عليهن لمنعهن من الحركة.
نحن لا نقاتل عدواً عادياً يمكن مصالحته، أو الوثوق به يوماً ومصافحته، فهذا عدوٌ يتغذى على الحقد، ويعيش على الكره، ويؤمن بدونية الآخرين واستعلاء شعبه، ولا يرى في قتل الآخر جريمة، ولا يعتقد أن ضميره يؤلمه إن هو اعتدى على الآخرين وقتلهم، فهذا في عرفهم ضرورة وميزة، فلا يكونون يهوداً إن لم يذلوا الآخرين ويركبوهم، أو يقتلوهم ويشربوا من دمائهم، أو يصنعوا منها فطيرةً لأطفالهم، فما هم في عقيدتهم إلا غويم، حميراً يركبون، أو عبيداً يخدمون.
* * * * *
(5) القرار المستقل والمشاركة الفردية
إنها هبةٌ شعبية عامة، وانتفاضةٌ شاملةٌ، ومشاركةٌ واسعة، وكأنها نفيرٌ عام، أذاعت بياناتِه الأولى القدسُ، واستفز الأقصى وباحاتُه الأمةَ، ورددت فلسطينُ التاريخية صداها، فلبت أطرافُها الشمالُ والجنوبُ القلبَ والوسطَ، ومنحها الجيلُ الجديدُ قوةً وعزماً، وإشراقاً وأملاً، واستجاب لها الفلسطينيون جميعاً بلا استثناء في الوطن فعلاً وفي الشتات دعماً وإسناداً، بأملٍ ورجاء، وثقةٍ ويقين، بعيداً عن النداءات الحزبية، والدعوات الفصائلية، تحركهم مشاعرهم وأحاسيسهم، وتدفع بهم ضمائرهم ونفوسهم، التي أبت الضيم، وثارت على الظلم، ولم تقبل بالذل ولم تستكن على الهوان.
لا شئ أصدق من القرار المستقل، النابع من الذات، والمنسجم مع النفس، والمتساوق مع الظروف والأحداث، الذي يستجيب للضمير، وتحركه المشاعر، ولا ينتظر قراراً من الخارج، أو ضوءاً أخضر من جهةٍ ما، أو إذناً وموافقة من تنظيمٍ أو حزبٍ، أو غض طرفٍ من حكومةٍ أو سلطة.
هكذا كانت هبة القدس، التي نأمل أن تكون انتفاضةً ثالثة، تعبيراً صادقاً عن إرادة الجمهور ورغبة الشعب، الذي لم يستشر فصائله، ولم ينتظر فعل قواه، ولم يخف من رد فعل سلطته، بل انطلق لا يلوي على شئٍ سوى الانتقام، ولا ينتظر من أحدٍ تقديراً وإشادة، أو تصفيقاً وتهليلاً، فمن يحمل روحه على كفه، ويودع أهله، ويلتقط معهم آخر صورٍ تذكاريةٍ لهم، ويخرج بعزمٍ وإصرار، فإن قراره مستقلٌ، وإرادته حرة، ونيته صادقة، وعزمه أكيد، وغايته معروفه، وعدوه واحدٌ يعرفه ويصر على أن ينال منه.
الذين يخرجون اليوم في شوارع فلسطين كلها، لا يخرجون في مظاهراتٍ صاخبةٍ، أو جماعاتٍ كبيرةٍ وجموعٍ حاشدة، إنما هم شبابٌ فرادى، يذهبون إلى القدس وحدهم، أو يدخلون إلى عمق فلسطين ومدنها المختلفة، ويقررون بأنفسهم الثأر والانتقام، غير خائفين من العاقبة والمصير المحتوم الذي ينتظرهم، فهم يعرفون يقيناً أن الإسرائيليين أياً كانوا، جنوداً أو مستوطنين أو عابري سبيل، ممن يتواجدون في مكان الحادث، فإنهم سيطلقون النار عليه، وسيستهدفون رأسه وجسده بقصد القتل والإجهاز عليه، ومع علمهم اليقيني بهذه الخاتمة، إلا أنهم يصرون ويمضون، ويواصلون ولا يترددون، كما أن أعدادهم تتزايد، وفئاتهم تختلف عمراً وجنساً، ومستوى اجتماعي ودرجةً علمية.
يدرك الفلسطينيون أنهم حملة الأمانة، والمسؤولون عنها، والمكلفون بالدفاع عن قضيتهم، والتضحية في سبيلها، والعمل من أجلها بكل ما أمكنهم وما بين أيديهم، ولو كان حجراً أو سكيناً فقط، ليثبتوا للجميع أنهم أمناء على قضيتهم، ومخلصين لها، وأنهم على استعداد للتضحية من أجلها، وأنهم لا يطلبون من غيرهم القتال نيابة عنهم، أو مقاومة العدو بدلاً عنهم، بل يقولون لهم نحن رأس الحربة وجبهة القتال المتقدمة، ونحن السهم الأول والطلقة والأولى، وكل ما نريده من الأمة العربية والإسلامية أن يصدقوا نضالنا، وأن يدعموا مقاومتنا، وأن يكونوا إلى جانبنا، وألا يخذلونا في منتصف الطريق، وألا ينقلبوا علينا إذا تغيرت الظروف، بل إن عليهم تقديم العون والمساعدة، سياسياً وإعلامياً، قبل الدعم المالي والمادي الملموس، الذي يحتاج إليه الشعب الفلسطيني ويتوقعه من أمته.
يدرك الفلسطينيون أن سلطتهم مشغولة بغير الانتفاضة والمقاومة، وأنها قد لا تريد انتفاضةً شعبية، وأنها تصفها بالعنف وتستنكره، وترفض أن تستمر فعالياتها وأنشطتها، كما أن فصائلهم مشغولةٌ أيضاً بخلافاتها وصراعاتها، سواء الداخلية أو مع غيرها من القوى، نتيجة الانقسام والفرقة الحادثة بين قوى الشعب الفلسطيني كلهم، بما يجعلهم بعيدين عن الفعل، وعاجزين عن العمل، ومتأخرين في الأداء، وقد لا يستطيعون اللحاق والإدراك إذا سبق الشعب وقرر، وانطلق ولم ينتظر.
كما يعلم الفلسطينيون أن قيادتهم ونخبهم الحزبية والسياسية قد شوهت صورتهم لدى العالم العربي والإسلامي على وجه التحديد، ورسموا له صورةً مغايرة لحقيقتهم ومخالفة لجوهرهم، وأنهم أظهروا الفلسطينيين بأنهم يتعاونون مع العدو الإسرائيلي وينسقون معه أمنياً، كما أنهم يختلفون ويتنازعون على أمورٍ وقضايا ما يجب عليهم الاختلاف عليها، وأن الصراعات التي بينهم قد فاقت صراعاتهم مع العدو المحتل لأرضهم والغاصب لحقوقهم، ولكنهم يصرون على الاختلاف والانقسام في الوقت الذي يعاني فيه شعبهم ويكابد، ويحاصر ويحرم من أبسط حقوقه، ولا يجد لقمة العيش الكريم ولا فرصة العمل الشريف.
ويدركون أيضاً أن العالم منشغلٌ بقضايا أخرى، سواء الدول العربية المهمومة بمشاكلها الداخلية وحروبها البينية، التي أهدرت طاقات الأمة وحرفت بوصلتها وغيرت وجهة نضالها، وأبعدتها كثيراً عن أهدافها السامية وغاياتها النبيلة، كما أن دول العالم مشغولةٌ أيضاً بتداعيات الخلافات العربية وحروبها، التي أصابت شظاياها دول العالم بمهجريها ولاجئيها، وتسببت لهم بقلاقل واضطرابات، واختلافاتٍ ونزاعات، فضلاً عن قلق الدول الكبرى من اندلاع حربٍ كونية جديدة، الأمر الذي يجعل القضية الفلسطينية آخر الهموم، وأقلها اهتماماً وسخونة، إذ هناك ما يسبقها ويتقدم عليها.
لا يدعي أحدٌ أنه صانع هذه الانتفاضة ومفجرها، أو أنه ملهمها والمخطط لها، أو فيلسوفها وقائدها، أو أنه صاحب الحق في توجيهها وتحديد مسارها، أو أنه يملك مفاتحها وعنده مغاليقها، أو أنه تنبأ بها وخطط لها، أو حدد موعدها ونظم طبيعتها، إنها انتفاضة شبابٍ ثائرٍ حانقٍ غاضبٍ، حرٍ صادقٍ صافي القلب نقي السريرة، أغضبه ما رأى، وأحزنه ما ارتكبه المحتلون بحق القدس والمسجد الأقصى، فقرر أن يثور وحده، وأن ينتفض حراً مستقلاً، فلا ينتظر إملاءً ولا يطلب توجيهاً، ولا يخشى الشهادة بل يسعى إليها، ولا يهاب الإسرائيليين بل يذهب إليهم، ولا ينتظر عدوانهم بل يبادرهم بالرد.
* * * * *
(6) المقدسيون غرباءٌ في مدينتهم مشبوهون فيها
كان الفلسطينيون في القدس قبل انتفاضتهم الثانية يعانون في مدينتهم، يشعرون فيها بغربةٍ وعزلةٍ، وإقصاءٍ وحرمانٍ، ومعاناةٍ وكربٍ، وكأنهم ليسوا سكانها الأصليين، ولا ملاكها الشرعيين، فكانوا فيها كالأجانب غير المرغوب في وجودهم، أو كالسود في معازلهم في جنوب أفريقيا، يحرم عليهم دخول مناطق كثيرة في وطنهم، ويضيق عليهم بقصدٍ، وتتشدد الحكومة وبلدية القدس في التعامل معهم عن سابق تخطيطٍ وسوء نية، فتفرض عليهم الضرائب العالية، وتسحب هوياتهم المقدسية، وتطردهم إلى مدن الضفة الغربية، وتمنع عودتهم إلى مدينتهم المقدسة، وإلى بيوتهم العتيقة فيها، وتهدم بيوتهم الباقية، وتمنع تعميرها وصيانتها، وتحول دون توسعتها أو ترميمها، وتصادر أرضهم وممتلكاتهم، وتعتدي على أملاك الغائبين وتضع يدها عليها، ولا تفرق في استيلائها على أراض المسلمين والمسيحيين معاً، وأراضي الوقف الإسلامي والكنسي.
اليوم زادت غربتهم فيها، إذ أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بوابات مدينة القدس الشرقية، وكلفت جيش الاحتلال ضبط الأمن وحفظ النظام فيها، ونصبت الحواجز العسكرية على مداخلها، وهي حواجزٌ كثيرةٌ وعديدة، فما أبقت مدخلاً صغيراً ولا زقاقاً ضيقاً إلا وأغلقته، وبدأت تدقق في هويات المواطنين المقدسيين، وتفتش سياراتهم، ومعها سجلاتٌ تدقق فيها، وتطابق بين الأسماء، وتعيد بعضهم من حيث أتوا، ولا تسمح لهم بالمرور ولو إلى بيوتهم في أحياء القدس الشرقية، بينما تعتقل من شاءت من المارين أمامها والعابرين للحواجز التي وضعتها، وقد ناهز عدد المعتقلين خلال الأيام الماضية ألف معتقل.
أما مداخل البلدات العربية المقدسية فقد باتت مغلقة بمكعبات الإسمنت الضخمة، التي تعيق الحركة، وتمنع تدفق حركة السير من وإلى البلدات العربية، إلا بعد المرور على الحواجز العسكرية، أو بعد تحويل مسار السير إلى مساراتٍ متعرجة، أو طرقٍ فرعية، أو شوارع بعيدة، تزدحم فيها السيارات، وتمتد طوابيرها مسافاتٍ طويلة، مما يضيق على المواطنين أنفاسهم، ويذهب بصبرهم.
عيون الإسرائيليين تراقب الفلسطينيين الماشين على أقدامهم، أو العابرين بسياراتهم، أو الراكبين في الحافلات، لكنهم جبناء إذ يهاجمون في وجود الشرطة، ويعتدون بحماية الجيش وعناصر الأجهزة الأمنية، يستفزون الفلسطينيين ويشتمونهم، ويتهكمون عليهم ويستهزؤون بهم، ويسمعونهم كلماتٍ بذيئة، ومفرداتٍ نابية، تطال أمهاتهم وشرفهم، وعرضهم ونسبهم، ودينهم ورسولهم، ومنهم من يرشقهم بالحجارة، أو يصرخ فيهم طالباً منهم الرحيل والمغادرة، محذراً إياهم من القتل الذي ينتظرهم، ويتوعدهم بالموت، مدعين أن هذه المدينة ليست لهم، ولا يحق لهم العيش فيها.
أما الدوريات العسكرية التي تجوب الشوارع والطرقات، فهي توقف كل فلسطيني وتشتبه فيه، فما عادت حقيبة الظهر آمنة، ولا حقيبة الطلاب التي يحملون فيها كتبهم المدرسية أو الجامعية محل ثقةٍ وأمان، وبات الفلسطيني لا يستطيع أن يأتي بحركةٍ اعتيادية في الشارع، فلا يقوى على حمل شئٍ في يده، أو حقيبةٍ على ظهره، وإلا فإنهم يشتبهون فيه ويطلقون عليه النار، ويقتلونه أو يصيبونه قبل أن يتبين لهم أن ما يحمله ليس إلا خبزاً أو فاكهة، وأن الذي بأيديهم هواتفهم النقالة أو مفاتيح بيوتهم وسياراتهم.
أما السيارات العربية في مدينة القدس، فقد باتت كلها محل شبهةٍ وموضع شك، فلا يسمح لأصحابها بالمرور أو الاجتياز، وإن حاول بعض السائقين زيادة السرعة أو التجاوز، أو التوقف المفاجئ أو الاعتيادي ببطء، فإن الإسرائيليين، شرطةً ومستوطنين، يمطرونه بالطلقات النارية، ولو ترجل السائق من سيارته، ومشى أمامهم رافعاً يديه، ولو كان من يسوق السيارة سيدة، فإنهم يتعاملون معها بالمثل، ويطلقون عليها النار وكأنها كانت تنوي دهسهم أو صدمهم.
العربي في القدس أجنبيٌ غريبٌ، فصاحب الكوفية مشبوه، والشاب الملتحي أكثر شبهةً، والفتاة المحجبة تثير الريبة وتبعث على الخوف، والمرأة الفلسطينية التي تلبس الثوب الوطني الفلسطيني تثير الجزع، وتقلق من تقترب منهم، والصبي الفلسطيني المرافق لأبيه أو الماضي وحده، يثير الخوف أكثر، فهو ينتمي إلى جيلٍ لا يعرف الخوف، ولا يخشى قوة العدو، ولا يحسب لوجوده حساباً، ويقدم ولا يتردد ولو كان في إقدامه منيته، وفي مواجهته لهم مقتله، أما المفردات العربية فهي تشنف الآذان، وتحفز الأبدان، وينتفض لسماعها اليهود من الرجال والنساء، وكأن قائلها شبح، سيطلع عليهم من حيث لا يتوقعون أو يعرفون، أو كأنه نسرٌ سينزل عليهم ويحط فوق رؤوسهم، أو صقرٌ سينقض عليهم وسينهش أجسادهم.
لأن أعجب هذا الحال ورضي بهذا الواقع جيلٌ فلسطيني سبق، فإن جيل اليوم، الناهض الفتي، القوي الأبي، يرفض أن يتساوق أو أن يتعايش معه، ويأبى أن تتأقلم حياته اليومية على أساسه، فثار وانتفض، وخرج إلى شوارع مدينته حاملاً سكينه يدافع عن شرفه ووجوده، وعن قدسه وبقائه، وهو يعلم أنه يثور لشعبه ولصالح الأجيال من بعده.
وهم إن ضحوا اليوم في مدينتهم ومن أجلها، فذلك حتى يعيش من بعدهم بعزةٍ وكرامةٍ، وحتى تكون لهم هيبة ومنعة، وحتى لا يستفرد العدو بهم مرةً أخرى، ويظن أنهم ضعافٌ لا يقوون، وفرادى لا يجتمعون، ووحدهم لا ينصرون، فكان رد الفلسطينيين عموماً والمقدسيين خصوصاً، ما ترى عيون العدو لا ما تسمع آذانهم، شبابٌ وشاباتٌ في كل مكانٍ ينهضون، مردةً يقاتلون، وأشداء يواجهون، لا تقعدهم الجراح، ولا تمنع الطلقات الحاقدة من قيامهم، بل ينهضون ويطعنون، وإن كانوا يترنحون ويسقطون، فإن السكين تبقى في أيديهم، يحملونها والدم يقطر من أجسادهم من أثر الرصاص الذي اخترقه ولكنهم لا يسلمون الروح إلا مقاتلين مهاجمين، والصورة على شجاعتهم تشهد، وعلى إقدامهم تتحدث.
* * * * *
(7) انتفاضة المدية والخنجر والسكين
لكل انتفاضةٍ ما يميزها وما يمنحها هويتها الخاصة وطابعها المميز، ولكلٍ منها سلاحها وأدواتها، ومفرداتها وأساليبها، وأهدافها وغاياتها، كما لها أبطالها ورجالها، ورموزها وقادتها، ولو أنها تقاطعت في بعض الأحيان في الشكل والأسلوب، وفي الأداة والوسيلة، نظراً لقلة الخيارات، وانحصار الأدوات ومحدوديتها نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة، والمتابعة والملاحقة الدقيقة، التي كانت تحول دون التنوع والتبديل، والابتكار والاختراع، فضلاً عن عمليات الاعتقال الواسعة جداً، والقمع الشديد المتواصل بقصد وقف الانتفاضة وإنهاء فعالياتها، إلا أن الفلسطينيين في انتفاضاتهم السابقة والجديدة الثالثة، لا يعدمون وسيلةً، ولا يعلنون اليأس والاستسلام، بل كانوا دائماً يبتكرون الجديد، ويتواءمون مع الواقع، ويختلقون وسائل تتناسب والظروف، وتصمد في وجه التحديات، وتعجز سلطات الاحتلال عن محاربتها والتصدي لها.
فإن كان الحجر هو سلاح الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي سميت باسمه واشتهرت به، وعرفت في العالم كله بانتفاضة أطفال الحجارة، وفيها كان الحجر هو الرمز والشارة، وهو الصورة والحقيقة، وإن كان قد تطور بعد ذلك قليلاً، ودخل المقلاع "الشُدِّيدة" في المعركة، وأحسن الشبان الفلسطينيون استخدامه وتصويبه، فكانوا يصيبون به بدقة، وكان مداه أبعد من الحجر الملقى باليد.
هدم الفلسطينيون بيوتهم ليتخذوا من حجارتها سلاحاً، يقذفون بها الجنود وآلياتهم، ويعيقون حركة سياراتهم ودورياتهم، ويشجون بها وجوههم، ويرضخون رؤوسهم، ويدمون أجسادهم، وبعض الحجارة أصابت عيونهم وأعمتها، وكانت تؤذي وتجرح، وتعطب وتعيق.
كان الحجر متوفراً بكثرة، فلا يشكو الفلسطينيون من قلته، ولا يخافون من منع استيراده، والحيلولة دون وصوله إلى أيديهم، فهو سلاحهم الوطني، المصنوع من تراب الوطن وطينه، وإن كانت سلطات الاحتلال في بداية الانتفاضة الأولى قد عمدت إلى جمع الحجارة ودفنها، وكانت تجبر الفلسطينيين على جمعها من الشوارع والأزقة ودفنها في جوف الأرض، ظناً منهم أنهم بذلك يجردون الفلسطينيين من سلاحهم، وينزعون من أيديهم عامل القوة وعنصر التفوق.
أما الانتفاضة الثانية فقد تميزت بعملياتها الاستشهادية، والمتفجرات المتنقلة بين القدس والعفولة، وتل أبيب والخضيرة، وأسدود وعسقلان وكل المدن والبلدات الفلسطينية، التي فجر فيها الاستشهاديون الفلسطينيون الحافلات ومحطاتها، وتجمعات الجنود والمقاهي، والسيارات الصغيرة والشاحنات الكبيرة، وفيها سقط المئات من الإسرائيليين قتلى، وسكن الرعب في قلوبهم جراء سلسلة التفجيرات المتنقلة، وامتنعوا عن ركوب الحافلات والجلوس في المقاهي والتجمع أمام المحطات أو الأماكن العامة، مخافة أن يقوم فلسطيني بتفجير نفسه بينهم، وتوزيع الموت عليهم، وقد تسببت العمليات الاستشهادية إلى جانب الذعر الذي بثته في الأوساط الإسرائيلية، إلى سقوط أعدادٍ كبيرة من القتلى في صفوفهم، الذين كانوا يسقطون فرادى وبالجملة أحياناً.
أما الانتفاضة الثالثة التي نعيش فصولها هذه الأيام، ونقلب صفحاتها كل ساعة، ونترقب جديدها ونتابع تطوراتها، فإنه يغلب على سلاح الفلسطينيين فيها السكين والمدية والخنجر، إذ لا شئ يملكونه اليوم إلى جانب الحجر غير السلاح الأبيض القديم، فقد تعرضت المقاومة في الضفة الغربية إلى حصارٍ خانقٍ وملاحقةٍ قاسية من المخابرات الإسرائيلية ومن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فلم يعد بين أيدي الفلسطينيين أسلحةً ناريةً يقاومون بها، وقد لا يريدون استخدامها في هذه الانتفاضة، أو في هذا الوقت بالتحديد.
إن كان الفلسطينيون لا يريدون استخدام الأسلحة النارية في الانتفاضة الجديدة، فإنهم جميعاً يملكون في مطابخهم سكاكين حادة، وعندهم خناجر ومعاول ومِدَى حادة، وغير ذلك مما حد نصله ودق طرفه، فيه يقاومون ويقاتلون، وبه يواجهون ويصدون، ورغم أن القتال بهذه الأسلحة البيضاء يلزمه إرادة وشجاعة كبيرة، لأن القتال به يلزمه مواجهة مع العدو وجهاً لوجه، أو طعنه من مسافة صفر، ومع ذلك فإنهم يقدمون على المواجهة والتحدي، بل ويتنافسون في أن يكونوا أوائل وسباقين، ولو كلفهم ذلك حياتهم، وهو غالباً ما يحدث، إذ يقوم الإسرائيليون في مكان الحادثة بإطلاق النار على المهاجم ويقتلونه، ولو كان مصاباً فإنهم يجهزون عليه، رغم أنه أحياناً لا يشكل خطراً عليهم، ولا يتسبب في أذى، إلا أنهم يصرون على قتله، بل على إعدامه ميدانياً، أو يتركونه إن لم يقتلوه فوراً ينزف حتى الموت، أو يمتنعون عن تقديم المساعدة الطبية له، ويتأخرون في نقله إلى المستشفى، أو ينقلونه بطريقةٍ سيئة تعجل في مقتله.
تحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية تصوير الفلسطينيين بأنهم إرهابيين، وتصفهم بأنهم داعش، يقتلون بوحشية، ويطعنون بهمجية، ويبطشون بالضحية، ولا يفرقون في عملياتهم بين مستوطنٍ وعسكري، وطالبٍ ورجل دين، وأنهم يتباهون بالسكاكين والأدوات الحادة التي يحملونها، ويفاخرون بعملياتهم، ويحضون الشباب على القيام بمثلها، والتنافس فيها، ويرفعون صور منفذيها، ويحتفلون بالشهداء منهم.
ينسى الإسرائيليون أنهم والسلطة الفلسطينية ما أبقوا في أيدي الفلسطينيين سلاحاً يقاتلون به، في الوقت الذي يستفزونهم ويعتدون عليهم، ويدنسون مسجدهم، ويحاولون اقتسام أقصاهم أو السيطرة على بعض الزوايا فيه، كما أنهم يعتدون قتلاً وضرباً وإساءة للرجال والنساء على السواء، ويقتلون الفلسطينيين على الشبهة والهيئة والشكل واللسان وما يحمل، ثم يستغربون مقاومة الفلسطينيين ويستنكرون غضبتهم، ويرفضون انتفاضتهم، ويعترضون على أسلحتهم، ويرفضون ابتكاراتهم، ويشكون من نجاحهم وتفوقهم، وكأنهم يريدونهم نعاجاً يستسلمون للذبح، ونوقاً تستنيخ بذلٍ، وما علموا أن الفلسطيني حرٌ ولو كان سجيناً، وثائرٌ ولو كان طفلاً صغيراً، ومقاومٌ ولو لم يكن يملك في يده غير سكينٍ تجرح، وشوكةٍ توخزُ، وعصاً تضرب وتؤلم.
* * * * *
(8) صورٌ معيبة وتصرفاتٌ مشينة:
الصورة الفلسطينية ليست كلها ناصعة البياض مـتألقة، وليست كلها مشرقة مبهجة، وموضع فخرٍ واعتزاز، ومحل تيهٍ ورضا، رغم أن الصورة الغالبة هي كذلك، فهي صورةٌ بمجموعها مشرفة، وتبعث على الفخر، وتعيد الألق إلى القضية الفلسطينية التي عرفتها الأمة وضحت في سبيلها، وهي صورةٌ عظيمة أحبتها الأمة وأيدتها، وساندتها وساعدتها، وجعلت منها أيقونة للفخر، وصورةً للزينة، وشعاراً للنصر، وصاغت منها قصيدة ولحنتها أغنية، وغنتها أنشودة، وكانت محل إعجاب الشعوب وموضع تقديرهم، وعنوان تطلعاتهم، وألهمتهم القوة، ومنحتهم الإحساس بالكثير من العزة والكرامة، وتمنى الكثيرون لو كانوا من المرابطين فيها، أو المدافعين عنها، أو المقاومين في صفوف رجالها.
لكن هذا لا يمنع وجود بعض الهنات، وظهور بعض الصور والمشاهد المشينة، وصدور بعض المواقف المعيبة، ووجود من يتعمد تشويه الصورة، وتغيير النمطية العظيمة للشعب والقضية، لمقاصد خاصة أو استجابةً لتعليماتٍ خارجية أو ضغوطٍ دولية، إذ يحرصون بغباءٍ أو بدهاءٍ على رسم صورةٍ أخرى مخالفة ومغايرة، لا تعبر أبداً عن حقيقة هذا الشعب العظيم، الطموح العنيد، الذي يضحي بلا يتردد، ويرفع رأسه رغم القهر بكل كبرياءٍ وشموخ.
اليوم وفي ظل انتفاضة القدس الثانية، التي ما زالت برعماً يتفتح، وغصناً يشتد ويقوى، وأملاً يكبر في النفوس، ورغبةً تكبر مع الأيام، فإن بعض الجهات تأبى إلا أن تشوه الصورة المتألقة التي يحاول الشبان الفلسطينيون الشجعان رسمها، الذين يصحون بأرواحهم وهم في ريعان الصبا وميعة الشباب الواعد، ويحرصون على أن يجدفوا عكس التيار، وأن يقولوا للعالم أن الصورة الفلسطينية التي ترونها صورة زائفة، وأنها لا تعبر عن كل الشعب الفلسطيني، وأنه يوجد من يعارضها ويرفضها، ويبدون اعتراضهم على الانتفاضة، ويصفون فعالياتها بالعنف والتطرف، ويدعون إلى وقفها والإقلاع عنها.
هو ذات الصوت الذي نسمعه من المسؤولين الإسرائيليين، عبر المؤسسات الإعلامية ورجالها، أو الجهات الأمنية وقادتها، ومن السياسيين ورئيس الحكومة أيضاً، الخائفين من الانتفاضة، والجزعين من ظواهرها، والقلقين من استمرارها وانتشارها، وتأصيلها وتنظيمها، إذ يسكنهم خوف عدم السيطرة عليها أو احتوائها، وتمكنها من اكتساب الرأي العام الدولي والتأييد الرسمي، ونيل الاعتراف الدولي بشرعية مطالبها، وعدالة قضيتها.
كما أنهم يخشون من نجاح الانتفاضة الجديدة في تشويه صورة كيانهم، وكشف حقيقته العنصرية من جديدٍ أمام العالم الحر، لهذا فإنهم يحاولون استباق الأحداث والتأثير على الرأي العام ويشكون بأن الأحداث تشكل خطراً على أمنهم وسلامة مستوطنيهم، ويصفونها بالأعمال الإرهابية الفوضوية، التي ترعاها دولٌ وتشجعها تنظيماتٌ، وأنها تضر بالفلسطينيين ومستقبلهم، وتعيق المفاوضات وتعطل مساعي التوصل إلى حلولٍ نهائية، وأنها حالاتٌ شاذة لا تعبر عن الشعب الفلسطيني كله، ولا يقبل بها كل الفلسطينيين، في محاولةٍ منهم ماكرة وخبيثة لعزل المقاومين، وفصل الثائرين عن محيطهم الوطني ووسطهم الاجتماعي، كي ينفردوا بهم، ويسهل عليهم السيطرة عليهم، وتطويق محاولاتهم، وإجهاض انتفاضتهم.
من الصور المقيتة التي يرفضها الشعب الفلسطيني ولا يقبل بها، والتي لا تعبر عن إرادته ولا تتوافق أبداً مع ما يقدمه ويقوم به، والتي لا تدل على استقلالية القرار ووطنية أصحابه، والتي تثير الريبة وتبعث على القلق والخوف معاً، الأوامر الصادرة إلى تلفزيون فلسطين، وهو التلفزيون الرسمي للسلطة الفلسطينية، تطلب منه تقليص بث المواجهات الفلسطينية، وعدم بث موجة مفتوحة من أماكن المواجهات، خشية أن تؤدي إلى زيادة وانتشار الغضب في الشارع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لو أن الجهات الرسمية كانت تقصد حقن دماء الشبان الفلسطينيين، وتحرص على ألا يعرف الإسرائيليون أماكن تجمعات المتظاهرين، وتخاف من أن بث الصور وتحديد الأماكن، من شأنه أن يسهل على سلطات الاحتلال مداهمتهم وفض جمعهم، وربما قتل بعضهم، وتدعي بأن لديها شواهد قديمة وسوابق عديدة تبرر فعلها وتجيزه، فلو كان هذا هو قصد المسؤولين فإننا نحمده ونشكرهم عليه، ولكننا نعلم أن قصدهم غير ذلك تماماً، إذ أنهم يريدون تطويق الأحداث، وضبط انتشارها لمنع امتدادها وخروجها دائرة عن السيطرة.
أما المواقف الأشد غرابة والأكثر سوءاً، فهي تلك المواقف الفلسطينية غير المسؤولة، التي دعت الحكومة الإسرائيلية ورئيسها إلى ضبط المستوطنين الإسرائيليين، وتنظيم حركة ونشاط الأحزاب الدينية المتطرفة، ومنع طلاب المدارس الدينية من الاحتكاك بالمصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى، في الوقت الذي تلتزم فيه السلطة الفلسطينية بضبط الأحداث، وتقييد حركة المتظاهرين، ومنع العمليات العسكرية كلها، ويضيفون بأن هذه الإجراءات المتبادلة، فضلاً عن أنها تعزز الثقة بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، فإنه من شأنها أن تهدئ الأجواء، وأن تقلص من ألسنة اللهب المتصاعدة، وتضمن أن تعيد الهدوء إلى كل المناطق.
ونشرت بعض الجهات الفلسطينية تقارير ومستنداتٍ رسمية، صادرة عن جهاتٍ أمنية فلسطينية، تطالب عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالانتشار باللباس المدني في الشوارع العامة ، والانخراط في المظاهرات وسط الجمهور، لمنع تظاهرهم أولاً، أو لحرف مسيرتهم ومنعهم من الوصول إلى مراكز الجيش الإسرائيلي أو طرق مستوطنيه، وإطلاق الأعيرة النارية خلال المظاهرات لتبرير قيام الأجهزة الأمنية باعتقالهم وفض جمعهم.
لعل هؤلاء قد نسوا انتفاضة القدس الأولى، عندما اعتدى الاحتلال على مؤسسات السلطة الفلسطينية، وقتل عناصرها واستهدف رجالها، ولم يفرق بينهم وبين بقية المواطنين، فسقط برصاصهم وقصفهم من المنتسبين إلى الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية مئات الشهداء، في الوقت الذي وقف الكثير من أبناء المؤسسة العسكرية والأمنية الفلسطينية إلى جانب شعبهم، ووضعوا أيديهم بأيدي إخوانهم، واستطاعوا أن يرسموا صورةً فلسطينية رائعة، جسدت ملاحم بطولية لهذا الشعب الأبي.
تلك هي الصورة الرائعة لأبناء شعبنا الفلسطيني، أياً كانت صفاتهم ووظائفهم، وانتماءاتهم وتنظيماتهم، فهم فلسطينيون أولاً، وهذا وطنهم محتلٌ سليب، وهذا عدوهم قاتلٌ مجرم، وهذا هو شعبهم العظيم يقاتل ويقاوم، ويضحي ويقدم، ويرسم بدم شبابه للشعب والأمة أزهى الصور وأعظم اللوحات الخالدة، أفلا ننتمي إليه وندافع عنه، ونكون جزءاً أصيلاً منه.
* * * * *
(9) قطاع غزة والمساهمة في الانتفاضة
قطاع غزة جزءٌ أصيلٌ وعزيزٌ من أرض الوطن الغالي فلسطين، وهو قطعةٌ صغيرة المساحة عظيمة الأثر من أرض الوطن الكبير، قدر الله له أن يتحرر وأهله، وأن يتطهر وأرضه، وأن يتخلص من الاحتلال وشعبه، وألا يعود فيه محتلٌ أو مستوطنٌ، فقد رحلوا جميعاً عنه في يومٍ مشهودٍ وليلةٍ لا ينساها الفلسطينيون، وتركوا وراءهم مستوطناتٍ بنوها، ومعسكراتٍ شيدوها، وأسلاكٍ شائكةٍ نصبوها، وأسوارٍ عازلة علوها، وأبراجٍ عالية رفعوها، ومشاريع أقاموها، ومساكن ومستشفياتٍ ومدارس وجامعات ومزارع ونوادي خربوها قبل المغادرة، لئلا يبقى منها في غزة أثرٌ أو معلم يستفيد منها الفلسطينيون وينتفعون، فقد أجبروا على الرحيل والمغادرة، فتركوا كل شئٍ كانوا يظنون أنه لهم، وخلفوا وراءهم أحلامهم وخيالاتهم وأساطيرهم وخزعبلاتهم ونبوءاتهم، ولم يلتفتوا إلى شئٍ كانوا يؤمنون به، ويعتقدون أنه جزءٌ من وعد الرب لهم.
من غزة ومن مخيم جباليا لللاجئين انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى، واستعرت نارها واتقدت، حتى عمت فلسطين كلها، وشملت الوطن بكل ألوانه وأشكاله، وأحزابه وتنظيماته، وقدم سكانه خلالها شهداءً عظاماً، وأسرى أبطالاً، وآلاف الجرحى والمصابين.
وفي الانتفاضة الثانية كانوا الغزيون سباقين ومقدامين، فأعطوا وما بخلوا، وسبقوا وما تأخروا، وابتكروا وابتدعوا، وأحسنوا وأبدعوا، وقدموا الجديد واللافت، والقوي والمثير، والموجع والمؤلم، ودفع سكانه ضريبة مقاومتهم، وثمن صمودهم وتحديهم، فدك شارون أرضهم، ودمر بيوتهم، وقسم مناطقهم وجزأها، ولكن أمله خاب، وجهده ضاع، ومخططاته فشلت، إذ رحل بعدها وهرب.
غزة دوماً جزءٌ من المعركة أصيلٌ، وفصيلٌ في الحرب كبيرٌ، وقطاعٌ في الجبهة متقدمٌ، وفيلقٌ في القتال منتصر، ورايةٌ مرفوعةٌ، أعلامها ترفرف، ورجالها يتصدرون المقاتلين، ويشعلون الجبهات، ويخوضون الصعب، ويتحدون المحتل، وينتصرون لأنفسهم ولإخوانهم، ويهبون انتقاماً لأبنائهم وثأراً لشعبهم، لا تقعدهم الخطوب، ولا تفت في عضدهم الصعاب، ولا يخيفهم العدو وإن بطش، ولا يردعهم وإن قتل.
اليوم يسأل كثيرون أين غزة ورجالها، وأين المقاومة وصواريخها، وأين الكتائب والألوية، والجبهات والقوات، وأين قادة الفصائل، ولماذا لا يهبون بسلاحهم نصرةً للقدس والأقصى، وانتصاراً لفلسطين والضفة، فإن لم يتحركوا اليوم نصرةً للقدس فمتى يتحركون.
ليس المطلوب من غزة الباسلة اليوم ومن مقاومتها العتيدة، أن تطلق صواريخها على المدن والبلدات الإسرائيلية، فنحن نعرف تماماً، والعدو يعرف يقيناً أن المقاومة الفلسطينية تستطيع أن تدك بلدات الغلاف كلها، كما أنها قادرة على أن تصل إلى عمق الكيان وقلبه وشماله، وقد باتت صواريخها المحلية الصنع والمهربة دقيقة نسبياً، وكما أنها قادرة على الوصول إلى أغلب أهدافها، فإنها أصبحت قادرة على إلحاق الضرر والأذى في الأرواح والممتلكات، فضلاً عن قدرتها الرهيبة على إثارة الذعر والهلع في صفوف المستوطنين جميعاً.
إلا أننا ندرك أن الإسرائيليين يبحثون عن حرف انتفاضة القدس، وتغيير شكلها ومسارها، وتحويل الأضواء عنها، وإجهاضها بطريقةٍ أخرى، بعد أن بات غير قادرٍ على مواجهة شبابها، الذي يتقد في كل يومٍ حماسةً أكثر، ويزداد عدداً، ويوغل في صفوف العدو أكثر، فلعل المواجهة العسكرية الشاملة، عبر حربٍ وحشية جديدة يشنها على قطاع غزة، تنقذه من مستقبلٍ غامض، وتعفيه من دفع استحقاقاتٍ كبيرة، وتكون كفيلة بوأد الانتفاضة، وإشغال الفلسطينيين في حدثٍ آخر، وحربٍ دمويةٍ جديدة، يطالب العالم كله بوقفها.
إذا كنا لا نطالب قوى المقاومة في قطاع غزة أن تنجر إلى حربٍ جديدة مع الكيان الصهيوني، رغم اعتقادنا أنها آتية قريباً لا محالة، فالعدو يتهيأ لها، ويهدد بها من حينٍ إلى آخر، في محاولاتٍ منه مستميتة للهروب إلى الأمام، للتخلص من مشاكله والهروب من الاستحقاقات المفروضة عليه والمطالب بها دولياً.
فإننا نطالبها وقادة الفصائل في قطاع غزة، بحماية الشباب الفلسطيني والوقوف إلى جانبهم، وعدم دفعهم كل يومٍ لمواجهةٍ غير عاقلةٍ ولا حكيمة، خلف الأسوار العالية والأسلاك الشائكة مع جنود العدو الصهيوني، الذين يقفون بعيداً عنها، ولا يمكن الاقتراب منهم، ولا الاشتباك بالحجارة معهم، ومع ذلك يسقط في قطاع غزة شهداءٌ كل يومٍ، دون أن يتمكنوا من إلحاق أدنى ضرر أو أذى بالجنود الإسرائيليين، الذين يفرحون بقتلهم، وتتشفى صدروهم بسقوطهم، لهذا ينبغي البحث عن شكلٍ آخرٍ من المظاهرات والاحتجاجات، نشارك فيها أهلنا في القدس والضفة الغربية، ونكون معهم وقبلهم، وفي الوقت نفسه نوجع العدو ونؤلمه، ونؤذيه ونلحق بها خسارةً توجعه، ترضي نفوسنا، وتثلج صدرونا، ونروي بها بعض غليلنا.
لكننا لا نريد أن نقدم له المبرر الآن لينحر بها الانتفاضة الغضة ويقضي عليها، فهو يعلم يقيناً أن صوت الحرب أعلى، وقعقعة سلاحها أكبر، ودوي صواريخها وقصف طيرانها ودك مدافعها يغطي على كل صوتٍ آخر، ويدفع المجتمع الدولي كله إلى رفع الصوت عالياً والصراخ دائماً مطالباً بوقف الحرب وإنهاء القتال، وبذا ينهي الانتفاضة التي توجعه باستمرارها وعدالتها وشيوعها وتجذرها.
الحرب قد تشغله أياماً قليلة مهما طالت، ولكن الانتفاضة قد تشغله سنين طويلة، وهي بالتأكيد ستربكه زمناً أطول، والحرب إن كلفت ميزانيته مبالغ كبيرة، فإنها لفترة محدودة وتنتهي، ولكن الانتفاضة تتطلب ميزانياتٍ متجددة، وأموال متدفقة، يدفعها المواطن الإسرائيلي ضريبةً، فضلاً عن أنها ستثقل كاهل الاقتصاد، بعد أن تعطله وتحدث فيه اضطراباتٍ تجمده فترةً طويلة، وتقلص من حجم مدخولاته وكميات إنتاجه.
وهي تحرج بهذا الشكل العدو أكثر، وتربكه ومستوطنيه وحكومته، وتتسبب له في مشاكل دولية، وتحدياتٍ إقليمية، وتسقط محاولاته لاستخدام ترسانته العسكرية، إذ أنها تحيد قطاعاتٍ كبيرة من أسلحته الفتاكة، فلا يستطيع استخدام سلاح الطيران ولا الصواريخ والمدفعية، ويبقى عدوانه –وهو كبير- مقتصراً على البندقية والمسدس، وقنابل الغاز وخراطيم المياه، وغير ذلك مما يقوى الشعب على مواجهتها والصمود أمامها.
إن الحفاظ على شكل الانتفاضة الحالي، دون أن ندخل إليها سلاحاً حربياً جديداً، يمد في عمرها، ويزيد من فرص نجاحها، ويوسع انتشارها، ويعمق جذورها في كل الأرض الفلسطينية، ويعمم المقاومة، ويشرك الشعب بكل فئاته فيها، وينمي ثقافة المقاومة الشعبية الشاملة، ويعيد الشعب والأمة إلى ظاهرة الانتفاضة الأولى النبيلة، التي أحسنت رسم صورة الشعب، وأعادت إخراج قضيته في إطارٍ أفضل، وأكثر جاذبية وعدالةٍ.
* * * * *
(10) أقوالٌ وتعليقات من الشارع الإسرائيلي
أثرت الانتفاضة الفلسطينية على مجمل الشارع الإسرائيلي بشهادة واعتراف العامة والخاصة، والشعب والحكومة، وباتوا يحملون بعضهم البعض المسؤولية عن تفجير الأوضاع وتوتير الأجواء والتمهيد لاندلاع الانتفاضة، التي ألقت بظلالها عليهم جميعاً، وفرضت نفسها بقوة على يومياتهم، وطغت على إعلامهم، وهيمنت على نشرات أخبارهم، وانبرى المحللون والمختصون، العسكريون والأمنيون والسياسيون وغيرهم، يدرسون ظاهرة الانتفاضة، ويتعرفون على أسبابها، ويفكرون في نتائجها وأبعادها، وإلى أين يمكن أن تصل، وحتى متى ستستمر، وما هي برامجها المستقبلية، وهل ستنتظم وستتطور، وستتغير أهدافها وتتعدد.
ليس بالضرورة أن يكون أصحاب بعض الكلمات من الساسة المخضرمين، أو من الباحثين والدارسين، الذين يدرسون كلماتهم بعناية، ويختارون مفرداتهم بدقةٍ وعقلانية، ويخافون أن تحسب عليهم كلماتهم وتسجل مواقفهم، بل يكفي أن بعضها معبر وله معنى، وإن صدرت عن العامة والدهماء، وفي أوقات الهزل والجد، والأمن والخوف، والسلامة والخطر، لأنها الأصدق والأكثر عفوية، والأقرب إلى حقيقة المجتمع، والخالية من الزخرف والزينة، وليس لها تبعاتٌ أو مسؤوليات، ولا يخاف أصحابها من السؤال والحساب، كقائلٍ وهو من العامة "إذا كانت إسرائيل تريد وقف ثورة السكاكين، فإن عليها أن تسمح بقيام دولةٍ فلسطينية".
ولكن خبيرة اقتصادية إسرائيلية مسؤولة، تعي بقلقٍ ما تقول، وتقصد بكلماتها بدقة، وتتلمس بعلميةٍ وإحصائياتٍ رقميةٍ لا تخطئ، ما أصاب اقتصاد كيانها، وما لحق بأسواقه المالية والتجارية بفعل الانتفاضة فتقول "إن الضرر الذي لحق بالسوق الإسرائيلي نتيجة الأحداث، أكبر بكثيرٍ مما ألحقته حرب غزة".
وينتقد كاتبٌ إسرائيلي رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، ويحمله كامل المسؤولية عن تصاعد أعمال العنف وتأجيج المشاعر، وتحريض الجمهور، عندما أراد أن يستميل المتدينين، ويكسب تعاطف المتشددين اليمينيين، فسمح لهم باستفزاز مشاعر الفلسطينيين، والدخول بصورة مستفزة إلى باحات المسجد الأقصى، فيقول "إن كيد نتنياهو قد ارتد عليه".
أما صحيفة هآرتس فهي تتهم نتيناهو بعدم الحكمة، وأنه أهوج في قرارته، وغير حكيمٍ في سياسته، وأنه يتخبط ويسير خلف قادة اليمين المتشدد وزعماء المستوطنين الكبار، فتقول في وصف إجراءاته "قرارات نتنياهو لن تجلب الأمن لإسرائيل"، وهي بهذا تنتقد سلسلة القرارات العقابية التي اتخذها نتنياهو بحق منفذي عمليات الطعن والدهس وقذف الحجارة، والتي أرادها قراراتٍ ردعية وزجرية لمنع الفلسطينيين من تكرار عملياتهم، أو المضي في انتفاضتهم.
بعض الإسرائيليين يتهمون نتنياهو أنه يهوى تفجير الأزمات، وأنه يتعاقد مع التحديات، فهو لم يكد يخرج من أزمته مع الإدارة الأمريكية، في الوقت الذي فشل فيه في فرض الرؤية الإسرائيلية على الاتفاق الغربي مع إيران حول مشروعها النووي، حتى أدخل البلاد في أزمةٍ جديدة، قد يكون من الصعب عليه أن يجد له أنصاراً ومؤيدين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا الغربية، وهو ما أكدته القناة العبرية الثانية، من خلال نتائج استطلاعٍ أجرته، بأن "71% من الإسرائيليين ليسوا راضين عن أداء نتنياهو، ويعتبرون أنه فاشل في مواجهة الأزمات، والتعامل مع الأحداث التي تشهدها المناطق، وأنه كان بشكلٍ أو بآخر أحد أهم أسباب انفجار الأزمة".
كما كشفت الهبة المقدسية، التي باتت تؤول يوماً بعد آخر إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ عامة، تشترك فيها غزة والضفة مع القدس، أن "قرابة ثلثي الإسرائيليين باتوا يؤيدون الانسحاب من الأحياء العربية في مدينة القدس، ويوافقون على قيام دولة فلسطينية، تلتزم أمن إسرائيل، وتلاحق وتعاقب كل من يفكر بالاعتداء عليها وعلى مصالحها، وترتبط مع الحكومة الإسرائيلية باتفاقياتٍ ضابطة".
أما عملية بئر السبع فقد أثارت موجة كبيرة من الانتقاد والسخرية والتهكم في أوساط الإسرائيليين أنفسهم، الذين ذكروا أن "جنود جيشهم لا يصلحون للقتال، ولا يحسنون غير الجري والركض والهروب"، فقد فروا جميعاً أمام شابٍ فلسطيني أعزل إلا من سكينٍ، قبل أن يتمكن من أحد الجنود ويسلبه بندقيته، ومن آخرٍ مسدسه، ثم استخدمهما في إطلاق النار على الجنود والمارة، ولم يوقفه عن الهجوم سوى نفاذ الذخيرة، ولو أنه أراد الهروب والتواري عن الأنظار لفعل، لكنه آثر مواصلة هجومه حتى النهاية، التي كانت بالنسبة له محتومة ومعلومة، ولكنه لم يكن يخشاها أو يتردد منها.
ويزيدون في تهكمهم على الجنود ورجال الشرطة الذين لم يجدوا إلا أن يشتبهوا في مواطنٍ إسرائيلي من أصلٍ أرتيري، فأوجعوه ضرباً وركلاً، قبل أن يأتي شرطي ويطلق النار عليه، ثم قاموا بركل جثته ونكلوا بها وداسوها بأقدامهم، ولكن خيبتهم كانت كبيرة عندما علموا أن هذا القتيل "المسكين" لم يكن إلا مهاجراً يهودياً، كان من حظه العاثر أن ملامحه قريبة من ملامح العرب.
ويتهكم معلقٌ عسكري إسرائيلي تعقيباً على عملية بئر السبع "جنودنا جلبوا لنا العار، إنهم يصلحون لتنظيم السير وليس للقتال"، وذلك بعد أن أفرجت الرقابة العسكرية عن عشرات صور كاميرات الرقابة في منطقة العملية، التي بينت أن الجنود كانوا مشغولين في الفرار والاختباء في الزوايا وخلف الجدران، بينما كان الفلسطيني يلاحقهم ويطلق النار عليهم.
ما عاد إسرائيليٌ بمأمنٍ من تداعيات الانتفاضة، ولا بعيداً عن نتائجها، فكلهم سيناله جزءٌ منها، وسيتعرض لبعض لفحاتها الساخنة أو اللاهبة أحياناً، التي قد تلسع البعض، ولكنها قد تحرق وجوه وأيدي وأجساد آخرين، وقد أصابهم فعلاً لهيبها، ومسهم الكثير مما أوجعهم وآلمهم، وأقلقهم وأخافهم، ما جعل الكثير منهم يخرج عن صمته، ويعبر بلسانه، ويظهر بعض ما يخفيه في قلبه، ويعبر جاداً أو هازلاً، بالقدر الذي تمسه الأحداث وتنعكس عليه، وبمجموع التعليقات واختلافها، فإنها تشكل صورةً مختلفة شبه حقيقية عما يدور في الأوساط الإسرائيلية الداخلية، وهي الصورة البعيدة نسبياً عن الإعلام العام، والتي لا قد تصل إليها آذان وأذهان العرب، الذين لا يتابعون المجتمع الإسرائيلي من الداخل.
* * * * *
(11) خليل الرحمن لعنةٌ على العدوان
الخليل هذه المدينة الموغلة في القدم، والموسومة بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وفيها مسجدٌ حرمٌ باسمه، يتعرض لأبشع حملات التهويد والسيطرة، والتقسيم والهيمنة، بل والمصادرة والتملك، تعاني كثيراً من الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، ففيها مستوطنة كريات ملاخي، وهي المستوطنة الأشد تطرفاً لدى الإسرائيليين، ومنها خرج مئير كاهانا، زعيم حركة كاخ العنصرية، والمجرم باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994، وفي أحيائها تنتشر التجمعات اليهودية، وتكثر بيوت المستوطنين المتشددين، الذين يحتلون الشوارع ويغلقونها، ويضيقون على الفلسطينيين ويطردونهم، ويسيرون في شوارعهم حاملين أسلحتهم يستفزون ويتحرشون، وبألسنتهم يشتمون ويسبون بفاحش القول وبذيء الكلام.
اليوم ... لا أحد يخيف الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية كمدينة الخليل، وإن كان بات يخشى من الفلسطينيين جميعاً، صغاراً وكباراً وأطفالاً، إلا أنه ينظر إلى مدينة الخليل بخوفٍ شديدٍ وحذرٍ أكبر، ويرى أنها القنبلة التي ستنفجر والبركان الذي سيندلع، وهو إذ يعاني منها قديماً ويشكو، فإنه اليوم أشد معاناةً وأعظم شكوى، فهذه المدينة بقراها وبلداتها ثائرة دوماً، ومنتفضة أبداً، ولا تقبل الإهانة، ولا تسكت على الضيم، ولا تنام على الحيف، وتصر على الرد، وتصمم على الانتقام، ولا تبالي بالجراح، ولا تحزن إن أصابتها الآلام طالما أنها من أجل وطنها، وحمايةً لشعبها.
كثيرةٌ هي العمليات العسكرية النوعية التي قام بها الخلايلة والتي يصعب على العدو نسيانها، فهو لا ينسى شبانه الثلاثة الذين اختطفتهم المقاومة، ولا ينسى قناص الخليل الذين أرعب مستوطنيهم، ومنعهم من عبور الشوارع وارتياد الطرقات، ولا عمليات القنص الناجحة التي طالت جنوداً وضباطاً، وتمكن خلالها المنفذون من الفرار والتواري عن الأنظار، دون أن يتركوا وراءهم دليلاً أو شاهداً يدل عليهم، أو يقود إليهم، أما عملية الدبويا فهي أم المعارك الفلسطينية في مدينة الخليل، التي أوجعت الإسرائيليين وأدمتهم، وأبكت جنودهم وضباطهم كما بكت بحرقةٍ فاجعةٍ نساؤهم، وما زالت حتى اليوم محل فخر الفلسطينيين وموضع ألم وحسرة الإسرائيليين.
أما في يوميات انتفاضة القدس الثانية، فلا يكاد يمر يومٌ دون أن تترك الخليل، المدينة والمحافظة، آثارها الوطنية البارزة على الأحداث الجارية، فهي تأبى أن تكون متفرجة، أو شاهدة على الأحداث، تراقب وتتابع، وتندد وتستنكر، وتبكي وتحزن، بل تصر على أن تكون شريكاً أساسياً، ولاعباً مهماً في هذه المعركة، تضرب حيث تجد الضرب ممكناً، وتتظاهر وتغضب في كل مناسبةٍ توجب عليها أن يكون لها كلمة وموقف، يحفظه لها التاريخ ويدونه الوطن في سجلاته.
تعرف سلطات الاحتلال أن الكثير من الاستشهاديين ومنفذي عمليات الطعن الدهس في كل أرجاء فلسطين المحتلة، يخرجون من مدينة الخليل، التي ينتسبون إليها سكناً، أو ينتمون إليها ثقافةً وتدريباً وتأهيلاً، حيث تصفها المخابرات الإسرائيلية بأنها العقل الأيديولوجي للعمليات العسكرية والاستشهادية التي عمت البلاد في الفترة الأخيرة.
ويقول محللون عسكريون إسرائيليون أن الخليل مدينة معروفة بأنها من معاقل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" منذ عشرات السنين، فضلاً عن القوى الفلسطينية التقليدية وعلى رأسها حركة فتح والجبهة الشعبية، ورغم الجهود الأمنية الهائلة التي تبذلها إسرائيل والعمليات الاستخبارية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية من أجل إحباط العمليات المسلحة، بما في ذلك اعتقال المشتبه بهم، فإن هناك في الخليل دائماً من هو مستعد لقتل اليهود.
وقد بات معروفاً أن العديد من منفذي العمليات العسكرية ضد أهدافٍ إسرائيلية، التي تتم بالأسلحة النارية أو بواسطة السلاح الأبيض، أو من خلال عمليات الدهس والصدم، هم من مدينة الخليل، ما جعلهم في انتفاضة القدس سباقين ومقدامين، ومعطاءين ومضحين، ولا يسبقهم إليها أحد، ولا تبزهم مدينةٌ فلسطينيةٌ أخرى.
في الوقت الذي كانت فيه حاضنة خلايا المقاومة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية في كل المراحل، وما يغيظ سلطات الاحتلال أكثر أن العديد من العمليات التي ينفذها الخلايلة كان فيها تحدي وعناد، سواء تلك التي تتم في قلب المدينة وفي محيط الحرم الإبراهيمي، حيث الحراسات المشددة وجنود الجيش المنتشرين في كل مكان، أو عمليات القنص التي تتم في وضح النهار، وينسحب خلالها المنفذون بأيدي نظيفة جداً.
كأن الخلايلة ينتقون أهدافهم، ويبحثون عن عدوهم، فلا يقتلون إلا ضابطاً، ولا يهاجمون إلا النخبة، ولا يقاومون إلا الجيش اللجب، ويصمدون أمام كل التحديات، ويعاندون العدو ويفسدون خططه، ويثبتون على الأرض رسوخاً كالجبل، وشموخاً في السماء كالشمس، الأمر الذي جعل الاحتلال يشكو منهم دوماً، ويخشاهم ويسميهم غزة الضفة الغربية، في إشارةٍ إلى معاناته الشديدة في غزة، وعجزه عن مواجهة رجالها ومقاومتها التي أوجعته وآذته، وأجبرته على الرحيل والمغادرة، مرغماً غير مختاراً.
لا يحب جنود جيش الاحتلال الخدمة في مدينة الخليل، ويتمنون ألا يأتي تكليفهم فيها، إذ يرون فيها حتفهم أو أسرهم، فتراهم منها يهربون، وعنها يصرفون الأنظار خوفاً مما قد ينتظرهم فيها، ولا تخلو بلدةٌ من بلدات الخليل، إلا ولها في المقاومة سابقة، ولها مع الإسرائيليين قصة وحكاية، تسجلها كل يوم المدينة العتيقة كالذهب، وبلداتها الرابضة على الأرض كأسد، يطا والظاهرية، ودورا وبيت عوا، وأدنا وصوريف وبيت أولا وسعير وبيت أمر، التي باتت أسماؤها أعلاماً، وعمليات أبنائها ملاحم وبطولاتٍ، ومعارك شرفٍ خالدات.
شهداء فلسطين الخلايلة أكثر من أن يحفظهم كتاب، أو يذكرهم كاتب، فهم على مدى سنوات الاحتلال سيلٌ جارفٌ من المقاومين، ونهرٌ يجري بدم الأحرار، ونبعٌ يتدفق بالمقاتلين الأخيار، والرجال الأبرار، والأمهات والأخوات الحرائر الطاهرات، وفي انتفاضة القدس ما تأخرت الخليل ولا بدلت من سنتها التي عرفت عنها.
مدينة الخليل صاحبة عملية الدبويا الشهيرة، الأشد وجعاً وألماً للإسرائيليين، والباقية آثارها، والخالدون شهداؤها، لا يبيت أبناؤها قبل أن يطعنوا جندياً إسرائيلياً، أو يقتلوا مستوطناً غازياً، أو يخطفوا متسللاً معتدياً، أو يقوموا بأعمالٍ من شأنها إرباك الاحتلال وإلحاق الأذى في صفوفه، فهذه يوميات الخلايلة وبرامجهم التي اعتادوا عليها، وكأنهم يقولون لا بارك الله لنا في يومٍ لا نجاهد فيه ولا نقاتل، أو لا نقاوم فيه ونقارع العدو، ليعلم أن هذه الأرض ليست له، وأنه ليس إلا محتلٌ عابرٌ، سيمضي كما مضى السابقون، وسيرحل كما رحل من قبله بقوة الفلسطينيين وبأس العرب والمسلمين، والتاريخ على هذا شاهدٌ، والزمان لن يخلد للمحتل، ولن يجمد على هذا الحال الذي يظنونه قد دان لهم.
* * * * *
(12) التداعيات الاقتصادية والكلفة المالية
انتفاضة القدس أو الانتفاضة الفلسطينية بصورةٍ عامة، كانت بالنسبة للإسرائيليين وربما لغيرهم أيضاً في الداخل والإقليم والجوار، هاجساً يقلقهم، وكابوساً يلاحقهم، وقد كانوا يسابقون الزمن، ويتحايلون على الأحداث لئلا تقع أو تنفجر، لأنهم كانوا يعلمون تداعياتها، ويعرفون نتائجها، وانعكاساتها على استقرار كيانهم وأمنهم وعلاقاتهم الخارجية، وصورتهم الإعلامية، وترابطهم الداخلي، وأنشطتهم البينية التي يلزمها الأمن والهدوء والاستقرار وطمأنينة النفس وراحة البال، ولكنهم رغم خوفهم وتحسبهم، ما كانوا يحاولون تجنبها عملياً، ولا الابتعاد عن أسبابها والقضاء على عواملها جدياً، بل كانوا بممارساتهم العدوانية القاسية المتعمدة سبباً في تفجيرها في وقتها أو تبكيرها عن أوانها.
انتفاضة القدس التي انفجرت داميةً، واتخذت السكين وسيلةً وسلاحاً وأداةً، بما فيها من رعبٍ وخوفٍ سيطر على المستوطنين والجنود معاً، وطافت وانتقلت إلى كل أرجاء فلسطين، قد ألقت بظلالها القاسية والمباشرة على الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، وأثرت بشكلٍ أو بآخر على مختلف المرافق الخاصة والعامة، وكان لها آثارها السلبية الملموسة والمعدودة والمحسوبة، التي انعكست بصورة مباشرة على المؤسسات والمرافق والخدمات، وعلى المدخولات والنفقات، وقد أصابت بعض المرافق بالشلل الكلي، وأخرى تعطلت جزئياً، وكلاهما مع توالي الأيام يغرق وتتعمق مأساته أكثر، الأمر الذي سيجعل معافاة الاقتصاد الإسرائيلي صعبة أو متأخرة.
فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الأيام العشرة الأولى من الانتفاضة قد تسببت في صدمة الأسواق المالية الإسرائيلية، وتركتها في حالة ذهول وتخبطٍ، وأدت إلى انهيار ملحوظ في أسهم الشركات الكبرى، وقد تستمر هذه التداعيات وتتفاقم في حال استمرار الأحداث، مما سيضر الحكومة ووزارة المالية الإسرائيلية إلى تخصيص ميزانياتٍ إضافية إلى جهاز الشرطة العام، وإلى قيادة الأركان ووزارة الدفاع، التي ستكون مضطرة لاستدعاء الاحتياط، بالإضافة إلى وزارة الداخلية والأمن الداخلي، وحالة الاستنفار القصوى التي تعيشها الأجهزة الأمنية، الأمر الذي سيرهق ميزانية الدولة، وسيرفع من حالة مديونتها الداخلية والخارجية، وحاجتها إلى المساعدات الدولية، لحقن ميزانيتها، وستكون هذه الميزانيات الإضافية على حساب فعالية وحيوية المرافق الاقتصادية الأخرى، حيث يتوقع أن يتراجع مستوى الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تراجع دخل الحكومة، وفي حال حصولها على مساعداتٍ أو قروض، فإنها ستكون مضطرة لتحويلها إلى جهاز الشرطة والجيش، ليتمكنا من مواجهة الأحداث المتصاعدة.
ونقلت الإذاعة العبرية عن مسؤول كبير في وزارة المالية الإسرائيلية قوله إن "الانتفاضة أدت إلى زيادة تكلفة المصاريف الأمنية والعسكرية بشكلٍ كبيرٍ، سيما في ظل استدعاء الآلاف من الجنود للخدمة في القدس وأرجاء الضفة الغربية، إلى جانب الحاجة إلى شراء الكثير من العتاد والتجهيزات العسكرية والأمنية اللازمة للعمل العسكري والأمني والاستخباري".
وقد سجلت دوائر الرصد الإسرائيلية انخفاضاً ملحوظاً في القطاع السياحي، حيث ألغيت مئات الرحلات، وألغيت آلاف الغرف الفندقية، خاصة تلك التي كانت مرتبطة بمدينة القدس وأماكنها الدينية، حيث لوحظ حالات إلغاء جماعية لرحلاتٍ وبرامج كانت معدة ومخطط لها قبل أشهر، ما أدى إلى إغلاق العديد من المكاتب السياحية وتعطيل الموظفين، وإلغاء التعاقدات الفنية والرياضية والثقافية، فضلاً عن توقف الخدمات المرافقة كالمطاعم والأماكن السياحية وشركات تأجير السيارات وغيرها.
يستطيع أي مراقبٍ أو متابع أن يلاحظ أن الحركة في الشوارع الإسرائيلية قد خفت كثيراً، وأن العديد من المحلات التجارية قد أغلقت أبوابها، وتراجع الإقبال على الأسواق العامة، وقل رواد المقاهي ومرتادو دور السينما والمسرح وأماكن الترفيه الأخرى، وأن الحافلات الإسرائيلية العامة قد باتت خالية من الركاب إلا قليلاً، خاصةً بعد عملية حرق عشرات الحافلات العامة وهي متوقفة في مرائبها، وهي إشاراتٌ واضحة على حالة الركود والانكماش التي يعيشها الاقتصاد الإسرائيلي.
لا تتوقف التداعيات السلبية لانتفاضة القدس على المرافق الاقتصادية المباشرة، بل امتدت آثارها لتطال قطاع التعليم، وخاصة التعليم الديني في مدينة القدس، حيث أغلقت عشرات المدارس، وغاب تلاميذها وطلابها عن مقاعد الدراسة، وبدأت بعض البلدات الإسرائيلية في تحديد ساعات الدراسة، ومتابعة حافلات نقل التلاميذ، في الوقت الذي اتخذت العائلات الإسرائيلية احتياطاتها الخاصة ومنعت أولادها من الذهاب إلى المدارس، خاصة تلك التي تتقاطع طرق الوصول إليها مع قرى وبلداتٍ فلسطينية.
وتري الخبيرة الاقتصادية الإسرائيلية إيليت نير أن الضرر الذي لحق بالأسواق الإسرائيلية نتيجة الانتفاضة، أكثر بكثير من تلك التي أصابها جراء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ففي الحرب على غزة كان المواطن الإسرائيلي يثق في الجيش لحمايته وصد الاعتداء عنه، ومهاجمة المقاومين في أماكنهم، أما عمليات الطعن العامة، والدهس والصدم في الشوارع والطرقات، فهي تتصف بالفردية والفجائية، وليس فيها تنظيمٌ ولا إعداد مسبقٌ، ومنفذها كل فلسطيني يرغب ويقرر، ولا يوجد ضدها ضربة أمنية حاسمة ومميتة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من كل مواطنٍ إسرائيلي هدفاً متوقعاً وضحية ممكنة، ويبدو في وجهة نظرها أن بقعة الزيت آخذةٌ في الاتساع والتمدد.
لا أحد ينكر أن الاقتصاد الإسرائيلي مزدهر بالمقارنة مع دول المنطقة، ودول المركز الرأسمالي المتقدمة، وأنها تحقق نمواً اقتصادياً يصل إلى 5% سنوياً، ولكن الاقتصاد الإسرائيلي اقتصادٌ يوميٌ آنيٌ، يتأثر باللحظة، ويستجيب إلى المؤثرات والمعطيات الزمانية والمكانية، ولهذا فهو على الرغم من درجة النمو العالية نسبياً، فإنها قد تؤول فجأةٍ بطريقة الانكسار الحاد غير التدريجي إلى درجاتٍ دنيا، في حال استمرار الانتفاضة، وانعكاسها النفسي والمادي على المواطن الإسرائيلي.
لا ينبغي أن نقلل من حجم وأثر الانعكاسات السلبية على بنية الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الانتفاضة المباركة، فأثرها يتجاوز الأرقام والإحصائيات، ومستوى النمو ودرجة الركود، إلى انعدام الثقة في الكيان ومستقبله، والإحساس فيه بالغربة والخوف، وفقدان الثقة في جيشه ومؤسساته الأمنية، وفرار المستثمر الأجنبي، وهروب رأس المال المحلي، ونزوع المواطنين إلى السكينة والهدوء، والكف عن البيع والشراء، والامتناع عن دفع الضرائب وأداء المستحقات، وغير ذلك مما تنتجه النفس المحطمة، والروح اليائسة، والأفق المسدود.
* * * * *
(13) بان كي مون ينصح وإسرائيل تأمل
بعد مضي قرابة شهر على اندلاع انتفاضة القدس الثانية، واتساع نطاقها، واشتداد أوارها، وتعدد وتنوع عملياتها، وتنافس شبانها وشاباتها، مخطئٌ من يظن أن الأوضاع في فلسطين المحتلة من الممكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، وإن كان هذا هو حلم حكومة الاحتلال، التي باتت تعض أصابعها ندماً، وتتمنى أن ما كان ما صار، وتتحسر على أوضاعٍ كانت تسيطر عليها، وظروفٍ كانت تصنعها وتهيمن عليها، ولكنها تفاجأت أن سحرها قد انقلب عليها، وأن خيوط اللعبة قد أفلتت من بين يديها، وأن كرة اللهب تكبر يوماً بعد آخر، وأن إمكانية السيطرة عليها أصبحت صعبة، فضلاً عن العجز التام عن إطفائها وإنهاء فعالياتها، وقد بدأت أصواتٌ إسرائيلية عديدة تعلو وترتفع، وتنتقد وتعترض، وتحمل الحكومة ورئيسها كامل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد.
وعليه فقد بدأت الدبلوماسية الإسرائيلية تنشط في السر والعلن، مع الحلفاء والأصدقاء ودول الجوار ومع السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تحاول فيه مخاطبة عواصم القرار الدولية الكبرى، وتطلب منهم التدخل السريع والفاعل، ليساعدوها في الخروج من هذا المأزق، وإقناع الفلسطينيين بضرورة التراجع عن انتفاضتهم، والكف عن فعالياتهم، حفظاً لحقوقهم، وحقناً لدمائهم، وصيانة لمنجزاتهم، في الوقت الذي يهددون فيه السلطة الفلسطينية ورئيسها بضرورة استنكار الانتفاضة وإعلان عدم تأييدهم لها، وضرورة التنديد بعمليات الدهس والطعن ووصفها بأنها عمليات إرهابية.
تشعر الدول الكبرى الراعية للكيان الصهيوني والحريصة عليه، أن نتنياهو وحكومته قد أضروا بمصالح شعبهم، وأنهم أساؤوا استخدام سلطاتهم، وارتكبوا في القدس حماقاتٍ كبيرة، وتصرفوا في السياسة بخفةٍ وسذاجةٍ وسخفٍ، دون تقديرٍ حكيمٍ للظرف والمخاطر المحتملة، وأدخلوا المنطقة في دوامةِ عنفٍ جديدة كان من الممكن تجنبها، فكانوا بقراراتهم سبباً في انفجار الأوضاع وتصاعد عمليات القتل المتبادل بين الطرفين.
وترى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية أن هذه الحكومة بسياستها قد أحرجتهم، ووضعتهم في مواقف محرجة ومآزق صعبة، ولهذا بادرت عواصمها إلى إرسال وزراء خارجيتها إلى المنطقة، للاجتماع بمسؤولي الطرفين معاً، والتوسط بينهما لإيجاد حلولٍ مشتركة من شأنها أن تضع حداً للأحداث، وأن تنقذ المنطقة من انهياراتٍ أكبر، وأن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل انفجارها، وهو ما يأمله الكيان الصهيوني ويتمناه، ويدعو أن تكلل جهود الوسطاء بالنجاح، وأن يتمكنوا من إخماد ألسنة النيران التي تتصاعد، والتي يبدو أمامها عاجزاً وغير قادرٍ على تطويقها أو الإحاطة بها.
كان بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة من أوائل المسؤولين الكبار الذين أطلقوا صيحة الخوف والقلق على الكيان الصهيوني ومستقبله، وإن بدا أنه حريصٌ على الفلسطينيين أيضاً وقلقٌ على مصالحهم، ومنزعجٌ من حوادث القتل التي يتعرضون لها يومياً، ، وخائفٌ على مستقبل المفاوضات والحوارات بينهما، إلا أن زيارته كانت في حقيقتها استجابة للنداءات الإسرائيلية الخفية، التي صدرت عنهم بصوتٍ خافتٍ، لكنه وغيره من المسؤولين الكبار يستطيعون سماعها، ويدركون جديتها، ويؤمنون بضرورة الإصغاء لها، فهب على عجلٍ لزيارة المنطقة، واجتمع مع المسؤولين من الجانبين، ودعاهما إلى التهدئة وضبط النفس.
عودة الحياة في المنطقة إلى طبيعتها، وإلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، حلمٌ إسرائيلي حقيقي، فهم يريدون الخروج من هذا المأزق، وضبط الأوضاع كما كانت، والعودة إلى سياسة الخطوات التدريجية المتدحرجة، التي يستطيعون من خلالها تنفيذ ما يريدون بصمتٍ وهدوء، دون صخب الزوار وجلبة المستوطنين، وتطرف المتدينين وعنصرية وعنف طلاب المدارس الدينية.
كلف الإسرائيليون بان كي مون أو هو أدرك هذه المصلحة بنفسه وتطوع لها من تلقاء ذاته، وأراد أن ينقلها إلى المنطقة بلسانه، وكأنه حريصٌ حكيمٌ، ومسؤولٌ أمين، فإنها في النهاية مصلحة إسرائيلية ومنفعة يهودية أو صهيونية لا فرق، فما كان قبل الانتفاضة بالنسبة لهم مكسبٌ ومنفعة، والعودة إليه حكمة بالغة، وإلا فإن المضي والاستمرار، والتعنت والتصلب، سيؤدي بهم إلى خسارة ما بين أيديهم وما كان قبل الانتفاضة لهم، وعلى هذا يجد بان كي مون ويسعى.
إنها نصيحة شعبيةٌ فلسطينيةٌ صادقةٌ خالصةٌ، نقدمها إلى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يكف عن دعوته الفلسطينيين والإسرائيليين إلى وقف الاعتداءات المتبادلة، والقتل المشترك، والعودة إلى طاولة المفاوضات، فهو بدعوته هذه يظلم الشعب الفلسطيني، ويساوي بين المقاومة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي، ويصف عمليات الطرفين بأنها عمليات عنفية، في محاولةٍ منه لاسترضاء الإسرائيليين ومنع غضبهم، في حين أنه يعلم ويرى أن الإسرائيليين جميعاً، جنوداً ومستوطنين وعامةً، يقتلون الفلسطينيين في الشوارع، ويدعون أنهم يدافعون عن أنفسهم، ويصدون الخطر عن مواطنيهم.
وعليه أن يعلم أن الفلسطينيين ليسوا يائسين ولا محبطين، وأنهم لجأوا إلى خيار القوة تعبيراً عن يأسهم من مسار التسوية، بل إنهم لا يريدون العودة إلى طاولة المفاوضات، ولا إلى الحوار مع العدو الصهيوني، وأنهم قد ثاروا على خيار التسوية، ورفضوا التنسيق الأمني، وطالبوا السلطة الفلسطينية بالامتناع عن لقاء الإسرائيليين والتفاوض السياسي معهم، ودعوها إلى وقف كل عمليات التنسيق الأمني معه، ويخطئ أكثر عندما يحذر الشعب الفلسطيني من مغبة الاستمرار في الانتفاضة "العمليات العنفية"، التي يرى أنها تضر بمصالح الفلسطينيين وتقوض مساعيهم للوصول إلى دولة مستقلة.
وندعوه إلى أن يكون عادلاً ومنصفاً، وأميناً وصادقاً، فهو في موقعٍ يوجب عليه أن يكون نزيهاً وجريئاً، فلا يخاف ولا يجبن، ولا يداهن الإسرائيليين ولا يتملقهم، فهو يعلم أن الشعب الفلسطيني مظلومٌ ومضطهدٌ، وأنه يعاني ويقاسي من الاحتلال الجاثم على صدره، ويعلم أن العدو الإسرائيلي ظالمٌ وباغي، وقاتلٌ ومعتدي، فلا ينبغي أن يكون بوقاً له، ولا أداةً في يده، ولا لساناً يعبر من خلاله، وملا مسؤولاً أممياً يشرع لهم جرائمه، ويسكت عن انتهاكاتهم وتجاوزاتهم.
* * * * *
(14) عقم مسار التسوية وعزة خيار المقاومة
كانت فلسطين كلها على موعدٍ دائماً مع الانتفاضة الشعبية الثالثة، وكان الشعب ينتظرها بفارغ الصبر، وكانت كل الإشارات تدل على أنها قادمةٌ لا محالة، وأنها ستكون الرد الفلسطيني الحاسم على كل الإجراءات والاعتداءات الإسرائيلية، فالفلسطينيون في الوطن وفي الشتات يشعرون بعقم المفاوضات مع العدو الصهيوني، وأنها لن تفضي إلى شئ، وأن الوعود الإسرائيلية والضمانات الأمريكية والدولية لن تمنح الفلسطينيين شيئاً، ولن تحقق لهم دولة، ولن تعيد لهم وطناً، ولن تسمح للاجئين بالعودة إلى بلداتهم وقراهم في فلسطين المحتلة، ولن تحقق لهم شيئاً من الوعود التي قطعتها، ولن تلتزم بالضمانات التي أعلنتها.
منت الولايات المتحدة الأمريكية طويلاً، ومعها دولٌ أوروبية كثيرة، السلطة الفلسطينية بعسل السلام، وبرفاهية الحياة ورغد العيش، وبالمن والسلوى الذي ينتظرها في نهاية الطريق، شرط أن تتحلى بالصبر وسعة الصدر، وأن تتحمل بعض الأذى والقليل من الحرمان والمعاناة، وأن تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، وأن تحسن تفسير تصرفاتها، وألا تشك في سياساتها، وألا تؤلب المجتمع الدولي ضدها، وألا تحرض الشارع الفلسطيني وتؤجج مشاعره، وألا تستعجل الخطى معها، ولا تفرض عليها شروطاً مسبقة، ولا أخرى مزعجة، بل عليها أن تتفهم وجود الأحزاب الدينية اليهودية المتشددة، وشروط المستوطنين القاسية، ومواقف اليمين المتطرف، وغيرهم من أعضاء الائتلاف الحكومي الذي يحترمه نتنياهو ويلتزم بالسياسة معهم.
كذب الفلسطينيون الوعود الأمريكية، وفضحوا تعهداتها وضماناتها، ويأسوا من مشاريع التسوية، ومن خطط السلام، ومن المبادرات الدولية وشعاراتها الزائفة، وملوا زيارات وزراء الخارجية المكوكية السياحية، وشعروا بأن ما يطرحونه عليهم من مشاريع وأفكار، ورؤى ومواعيد وتواريخ نهائية، إنما هي كذبٌ وسراب، وهي لتضييع الوقت وذر الرماد في العيون، وتمكين العدو على الأرض أكثر، ليتمكن من تنفيذ المزيد من مخططاته، مستغلاً تبني السلطة الفلسطينية لخيار التسوية حلاً وحيداً للقضية الفلسطينية، ورفضها ورئيسها لكل مشاريع المقاومة، بل ومقاومته ومحاربته لها، وتحديه لكل القوى والفصائل التي تتبناها، واعتقاله للقائمين عليها، رغم علمه بعقم هذا الخيار، وأنه لن يحقق أياً من الأهداف الوطنية الفلسطينية.
ظن العدو الإسرائيلي في ظل انشغال الدول العربية وحكوماتها بمشاكلها الداخلية، أن الفلسطينيين سيقبلون بهذا الواقع، وسيستسلمون لهذه الخطوات، وسيعترفون أنهم وحدهم ضعفاء، وأن أحداً لن يلتفت إليهم أو يهب لمساعدهم، فكثفت حكومة نتنياهو من إجراءاتها التهويدية للمسجد الأقصى، فسمحت للمستوطنين والمتدينين اليهود بالدخول إلى الحرم، والصلاة في باحاته، كما أذنت لعددٍ من النواب والوزراء بدخوله في مواكب استفزازية، واستعراضاتٍ عدائية، بصحبة المئات من رجال الشرطة، الذين كانوا يقومون بحمايتهم أثناء الاقتحام.
كما سمحت الشرطة الإسرائيلية لطلاب المدارس الدينية في الشطر الشرقي من مدينة القدس، وفي محيط المسجد الأقصى، باستفزاز الفلسطينيين والسخرية منهم والتهكم عليهم، والاعتداء عليهم بالضرب والإساءة، وشتموا الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، وحاولوا إخراج المرابطين والمرابطات من الحرم بالقوة، وخلال ذلك أصابوا بعضهم بجراح، واعتقلوا آخرين، ومنع كل من هو دون الأربعين من الصلاة في المسجد، في محاولةٍ منهم لتخفيف الأزمة والسيطرة عليها، ومعتقدين أن الفلسطينيين عاجزين وخائفين، وأنهم يشعرون باليأس والإحباط، وأنهم سيقبلون بالواقع عجزاً، ولن يثوروا عليه رفضاً.
لكن الشباب الفلسطيني من الجنسين، من سكان مدينة القدس والضفة الغربية، لم يعجبهم الحال، ولم يرضوا عن هذا الواقع، فهبوا للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، بما لديهم من إمكانياتٍ بسيطة، فاستخدموا السكاكين في الرد على الإسرائيليين، وعمت ظاهرة السكاكين مناطق مختلفة من مدن الضفة الغربية، وشعر الإسرائيليون بخطورتها، وأنها ككرة الثلج تكبر يوماً بعد آخر، وأنها تلحق الضرر بهم، فهي توقع بينهم ضحايا، كما أنها تسبب لهم الرعب والهلع.
جاء رد الفعل الإسرائيلي قاسياً وموجعاً، واتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات والقرارات الرادعة التي ظن رئيسها أنها حاسمة، وأنها ستقضي على الأحداث، وستخنق الانتفاضة في مهدها، وستعيد الفلسطينيين مرةً أخرى إلى مربع اليأس القاتم، ودوائر العجز الذليل، وستجبرهم على القبول بما يطرحه، والموافقة على ما يعطيه، دونٍ مقاومةٍ واعتراض، أو ثورةٍ ورفض، إذ سمح بقتل الفلسطيني في الشارع، وإعدامه بدمٍ بارد، بشبهةٍ أو بغيرها، وبسببٍ أو بدونه، وأذن للمستوطنين بالقتل، وسمح لهم بقوة قانون الاحتلال بمزيدٍ من البغي والفساد، دون أي مساءلة أو عقاب، ولا اتهام لهم بالجريمة ولا وصف لعملياتهم بأنها إرهاب.
رغم كل هذه الإجراءات، فإن جيلاً فلسطينياً صاعداً، قوياً مؤمناً، شجاعاً لا يتردد، صلباً لا ينكسر، وعنيداً لا يلين، ذكياً لا يخدع، وواعياً لا يغرر به، ويقظاً لا يستغفل، قرر أن يمضي في خيارته، وأن يصل إلى غاياته، أياً كانت التضحيات والتحديات، ومهما بلغ حجم الدم المهراق، وعمق الجرح المكلوم، رافضاً خيارات التسوية المذلة، ومفاوضات السلام المهينة، ووعود الغرب الكاذبة، وضمانات العدو الزائفة، معتقداً بيقين أن هذه مسيرة شعب، وانتفاضة جيلٍ، وحركة أمة، تتطلع إلى الحرية والتحرير، فلا يهمها ما تلاقي، ولا يعنيها شدة ما تواجه.
إنها الانتفاضةُ، خيارُ ذات الشوكة، فيها معاناةٌ وألمٌ ، وحزنٌ ووجعٌ، وفقدٌ وخسارةٌ، وتضحيةٌ وعطاء، وفيها محنةٌ وفتنةٌ، ولكن خاتمتها دوماً خيرٌ، ومآلها فوزٌ، ونتيجتها نجاحٌ، ونهاية الشوط فيها سلامةٌ وأمان، والدم المهراق فيها يعبد الطريق، ويسوي المسار، ويصحح المسيرة، ويبقي على جذوة المقاومة متقدة، ونارها مشتعلة، والشهداء فيها مناراتٌ يضيئون الطريق، وينيرون الدرب، ونجومٌ في السماء يهدون السبيل، ويأخذون بالنواصي والأقدام إلى جادة الحق والصراط المستقيم، وأعلامٌ على الأرض وبين الناس، يذكرونهم ولا ينسونهم، ويحفظون فضلهم ولا يجحدون تضحياتهم، ولا ينكرون عطاءاتهم، إنها درب العظماء، وسبيل الكبار، قد سبق إليها الرسل والأنبياء، وسار على نهجهم المخلصون والشهداء.
* * * * *
(15) مراسم وفاة ودفن الانتفاضة
في الخفاء وفي العلن، وعلى مشهدٍ ومسمعٍ من العرب والمسلمين، بدأت المراسم الرسمية لإعلان وفاة الانتفاضة، والشروع في إجراءات دفنها ومواراتها تحت التراب، والتخلص من شبحها المخيف، وحضورها الكابوس، فقد نشطت الجهود والمساعي الدولية لإنقاذ الكيان الصهيوني من الورطة التي أوقع نفسه فيها، والأزمة التي خلقها بسفاهته لنفسه، فهو لم يصعد شجرةً ولم يستطع النزول عنها، بل حشر نفسه في جحرٍ ضيق ولم يعد قادراً على الخروج منه، فبات يصرخ ويضرب برجيله في الأرض، فعفر نفسه وحلفاءه، وزاد من أزمته وتعثر أكثر في حفرته، وبات خروجه منها صعب، إلا أن تمتد إليه أيدي رحيمة ومحبة، وصادقة معه وله مخلصة، لتنتشله من أزمته، وتخرجه من حفرته، وتنعشه بعد أن ضاق صدره وتحشرجت نفسه.
بدأت الإجراءات الرسمية بإقناع الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن سياساتها التي اتبعتها في الحرم القدسي الشريف، فاستجاب نتنياهو وحكومته للنصيحة، إذ لا يملك صدها ولا ردها، ولم يعد يستطيع المعاندة أو المناورة، فهو كالغريق يستجيب لأي يدٍ تمتد له، يظن أن فيها النجاة، وأنه بغيرها يغرق ويموت، في الوقت الذي لا يريد أن يبدو في هذه المعركة وحيداً، فهو في حاجةٍ إلى كل شريكٍ وحليفٍ يقف معه ويسانده، ويصد عنه الاتهامات ويدافع عنه في المحافل الدولية، فما عاد يستطيع إنكار الصورة، ولا نفي الشهادة، ولا التنصل من المسؤولية الرسمية عما يقوم به جنوده ومستوطنوه.
إجراءات استخراج شهادة الوفاة والدفن في حاجة إلى أكثر من طرفٍ وجهةٍ، إذ لا يستطيع طرفٌ وحده أن يقوم بكل الإجراءات المطلوبة، فهي معقدةٌ ومركبة، وصعبةٌ ومتعددة، وقد لا يقبل أهل المتوفى خبر الوفاة، فكان لا بد من وسيطٍ دولي مقبول، وعنده القوة ولديه الإمكانية للحوار والوساطة، وإن كان منحازاً وغير نزيه، ويؤيد العدو ويدافع عنه، إلا أنه الوحيد القادر على لعب هذا الدور في هذه المرحلة، في الوقت الذي تنأى كل الأطراف عن الوساطة والتدخل، لعلمها بأن الحكومة الإسرائيلية ستتفلت من أي اتفاقٍ ولن تلتزم ببنوده، وستنقلب عليه في أقرب فرصة.
لهذا تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، وجاء وزير خارجيتها جون كيري إلى المنطقة، حاملاً حقيبته المليئة بالأفكار الغريبة والحلول المسمومة، التي سبق وأن أعلن عنها ناطقون باسم البيت الأبيض والخارجية، الذين أعطوا الحق للحكومة الإسرائيلية بقتل الفلسطينيين بحجة الدفاع عن النفس، وصد الخطر، ومنع الاعتداء، في الوقت الذي نزعت فيه الشرعية عن مقاومة الفلسطينيين، ووصفت دفاعهم عن أرضهم وقدسهم ومسراهم بأنه إرهابٌ، ودعت السلطة الفلسطينية ورئيسها إلى التنديد بأفعال الفلسطينيين واستنكارها، والإعلان عنها بأنها مرفوضة ومدانة.
بدأت الجلسات تعقد والخيوط تنسج والمؤامرات تحاك، وشرع جون كيري في لقاءٍ أول مع الملك الأردني عبد الله الثاني، ستتلوه لقاءاتٌ أخرى مع مسؤولين عرب، يطالبه بالتخفيف من لهجته، والتراجع عن شروطه، وعدم المطالبة بما أعلنه ووزير خارجيته، بإن إسرائيل دولة احتلال، وعليها أن تحافظ على الأوضاع في مدينة القدس والمسجد الأقصى دون أي تغيير أو مساسٍ بحاله الذي كان عشية الاحتلال.
جُل ما يريده كيري بالاتفاق مع الإسرائيليين هو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، أي أن يعود الإسرائيليون إلى محاصرة المسجد الأقصى، ومنع المصلين من الدخول إليه والصلاة فيه، أو تحديد أعمارهم، في الوقت الذي تنظم فيه الحكومة الإسرائيلية زيارات اليهود الدينية والسياسية إلى المسجد الأقصى، في أوقاتٍ محددة، وبعلم إدارة المسجد الأقصى أو السلطة الفلسطينية، ونسيان ما حدث، والترحم على الشهداء الذين سقطوا، والقبول ببعض الهبات والمساعدات والتسهيلات التي من شأنها أن تعزي ذوي الضحايا وأن تنسيهم حزنهم، وأن تعوضهم عن مصابهم.
هو لا يريد أن يفرض على الإسرائيليين الاعتراف بالحق الفلسطيني في مدينة القدس، ولا احترام حقوقهم في الصلاة في المسجد الأقصى، والدخول إليه في أي وقتٍ يشاؤون، بل يريد من العرب أن يمدوا للإسرائيليين حبل النجاة، وأن ينقذوهم من هذه الورطة، بالدعوة إلى وقف الانتفاضة ومنع عمليات الطعن والدهس، بحجة انتفاء الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة وتفجر الأوضاع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وبعد ذلك يمكن الحديث والحوار، إذ أن الحوار في ظل التشنج وسيادة العنف، سيؤدي إلى مزيدٍ من التأزم، وسيحول دون التوصل إلى اتفاقياتٍ دائمةٍ ومريحة، تحقق مصالح الطرفين معاً.
ينتظر كيري أن يلتقي بمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، ليطلعه عن خبر الاتفاق على نعي الانتفاضة وإعلان وفاتها، وسيطالبه بأن يكون أحد الذين يشاركون في إعلان النبأ، فهو من أهل البيت ومن سكان الدار، الأمر الذي سيجعل الفلسطينيين يصدقون هذا الخبر ويعتقدون به، ولن يثوروا ضده ولن يخرجوا عليه، وفي المقابل سيمنحه حزمةً من الوعود التي يحملها في حقيبته كعادته، وهي حزمة وعودٍ لا تنفذ، وسلسلة بنودٍ لا يتم الالتزام بها، ولكنه يجد نفسه مضطراً أن يعد بما لا يملك، وأن يتعهد بما لا يستطيع، وعلى رئيس السلطة الفلسطينية أن يصدقه، وأن ينفي عنه أي سابقة في التهرب والكذب والتخلي عن أي وعودٍ والتزاماتٍ قطعها على نفسه سابقاً.
يرتكب رئيس السلطة الفلسطينية وأي زعيمٍ عربي ومسلمٍ آخر، جريمةً كبرى إذا وضع يده في يد جون كيري، أو صدق كلامه، أو اتفق معه على ما يريد، أو سكت عما يخطط ويتآمر، أو شارك في وأد الانتفاضة والانقلاب عليها، فالانتفاضة لم تمت ولم يعلن أصحابها وأهلها الشرعيون وفاتها، وهم أصحاب الحق الحصري والشرعي في إعلان وفاتها، وهم يعلنون ويؤكدون بالدم أن انتفاضتهم فتيةٌ قويةٌ، وأنها عفيةٌ عصيةٌ، وأنها شابةٌ نضرة، تجري الدماء في عروقها، وتسري الحياة في أوصالها، وتنمو مع الوقت وتكبر، وتقوى وتشتد، وتتجذر وتتأصل، وهي أبعد ما تكون عن الموت أو السكون، أو الفناء والعدم، وستبقى حتى تحقق الأهداف الموعودة، وتصل إلى الغايات المرسومة.
* * * * *
(16) مشاهدٌ يومية وأحداثٌ دورية
كثيرةٌ هي المشاهد المؤلمة التي تشهدها أرضنا الفلسطينية في ظل انتفاضة القدس وقبلها، على مدى الوطن كله وامتداد شعبه في أرضه وشتاته، فلا يكاد يخلو يومٌ من مشاهد قاسية، وأحداث مؤلمة، باتت تجوب الأرض الفلسطينية كلها، وتوحد بالدم بينها، وتجمع بالمعاناة بين أطرافها، وتصبغ بالحزن أيامها، وتقوي بالإحساس الوشائج بين أبنائها، وتعمق بيقينٍ الأمل بين أهلها، حتى أصبحت مشاهد يومية، ومظاهر طبيعية تميز الأيام كلها، وتجعل منها حالاً واحداً لا يتغير، وزمناً متشابهاً متصلاً بلا انقطاع.
تحول الشطر الشرقي من مدينة القدس، حيث المسجد الأقصى وبواباته، والأحياء العربية الإسلامية فيها، بالإضافة إلى القرى والبلدات المقدسية، إلى ثكنةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، وقد غصت شوارعها بمئات الجنود وعناصر الشرطة المدججين بالسلاح، وبدورياتٍ عسكرية راجلة وعرباتٍ عسكرية صغيرة وكبيرة، محصنة ومصفحة، وبدورياتٍ غيرها على ظهور الخيل، تجوب الأماكن الضيقة، وتدخل إلى الشوارع المخصصة للمشاة فقط، بالإضافةٍ إلى عناصر أمنية متخفية بلباسٍ مدني، ومجموعاتٍ إسرائيلية مستعربة بأزياء فلسطينية، وكأن مدينة القدس تحتل من جديد.
جميع الدوريات على أهبة الاستعداد، يحملون بنادقهم الآلية، وأصابعهم على الزناد جاهزة، وآخرون بالزي المدني أو من المستوطنين والمتدينين، يحملون مسدساتهم ويشهرونها باستفزازٍ وتحدي في وجوه المارة، يهددون بها ويتوعدون، ويستعدون لاستخدامها ضد أي فلسطيني يشتبهون فيه، أو يعتقدون أنه ينوي مهاجمتهم والاعتداء عليهم، وهم يعلمون أن قانونهم معهم، وحكومتهم تؤيدهم، ولا يوجد من يتهمهم ويحاسبهم، وعناصر الشرطة والجيش حولهم تحميهم وتدافع عنهم، وتعتقل كل من تشك فيه، أو لا يعجبها شكله أو هيئته، أو يلفت نظرها صوته وحديثه، أو حماسته واستعداده، ولا ينجو من الاعتقال أو الضرب امرأة ولا طفل ولا شيخ عجوز يمشي على عكازة.
لا تخلو بوابات المسجد الأقصى جميعها من مئات المستوطنين الإسرائيليين، والمتدينين المتطرفين، والمئات من طلبة المدارس الدينية الشبان، الذين يستفزون المارة، يسبونهم ويشتمونهم، ويؤذون مشاعرهم ويخدشون أحاسيسهم، ويستفزونهم بشتم العرب وسب الإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرفعون أصواتهم بالشتائم والكلمات البذيئة والنابية، بينما تحميهم عناصر الشرطة الإسرائيلية، التي يحتمون بها وتدافع عنهم، حيث يستغلون وجودها للقيام بمزيدٍ من الاستفزازات والإهانات، في حين تقوم الشرطة بضرب وسحب واعتقال كل من فكر من العرب، من الرجال أو النساء، بأن يرد على طلاب المدارس الدينية اليهودية عليهم شتائمهم وإهاناتهم.
جميع المستوطنين الإسرائيليين لديهم القدرة على استخدام السلاح، بعد أن سمحت لهم قراراتٌ حكومية وأخرى تشريعية وقضائية، بجواز استخدام الأسلحة النارية للدفاع عن النفس، أو لرد الخطر وصده، وقد تبين بالصور الموثقة، أن مستوطنين مارةً، أطلقوا النار على فلسطينيين كانوا يتواجدون في محيط الأحداث، دون أن يكون لديهم علمٌ مسبقٌ أنهم مشتبهٌ بهم، أو أنهم قاموا بالطعن فعلاً، وقد سأل أحد المستوطنين بعد أن نفذ بيده عملية القتل، إن كان الفلسطيني القتيل قد طعن أو قتل أحداً، الأمر الذي يشير إلى أن الإسرائيليين يتعمدون استخدام الأسلحة النارية وتنفيذ القتل، بغض النظر عن وجود مبررات .
استغل المستوطنون الأحداث وانفلتوا من عقالهم، وكأنهم خنازير برية خرجت من حظائرها، يجتاحون من في طريقهم، فيدهسون ويصدمون، ويقتلون ويجرحون، ثم يدعون أنهم كانوا يدافعون عن أنفسهم، وأن من قتلوهم كانوا ينوون مهاجمتهم أو طعنهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون، وأنهم فقط يحاولون تبرير فعلتهم، وتبرئة أنفسهم من الجريمة المقصودة، إذ يدسون في ثياب الضحية الفلسطيني سكيناً، أو يضعونها في يده، أو يلقونها بالقرب منه، والصور التي تنشر إثر كل حادثة تفضح ادعاءاتهم، وتكشف بشاعة أفعالهم.
كما عمد المستوطنون كعادتهم إلى مهاجمة البيوت والمنازل الفلسطينية في مختلف مدن الضفة الغربية، وخاصة تلك القريبة من المستوطنات الإسرائيلية، أو القريبة من الشوارع والطرقات العامة التي يرتادونها، ويمطرونها بالحجارة، ويكسرون النوافذ الزجاجية والأبواب الخارجية، كما يقومون باعتراض سيارات الفلسطينيين المارة، ويقذفونها بالحجارة، يهشمون زجاجها، ويؤذون ركابها، وفي حال توقف بعضها ونزول سائقها ، فإنهم قد يقتلونه بتهمة محاولة دهسهم والاعتداء عليهم.
أما في مدينة القدس وبلداتها العربية، فإنهم لا يكتفون بمهاجمة البيوت والمنازل وقذفها بالحجارة، بل يقوم بعض المستوطنين باقتحامها، ويخرجون السكان عنوةً وبالقوة العنيفة منها، وأحياناً تحت سمع وبصر جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين يكتفون بالمشاهدة، أو بحماية المستوطنين في حال تعرضهم للخطر، الذين يقومون برمي أثاث سكانها العرب خارج البيوت، ويجبرونهم على المغادرة تحت تهديد السلاح، ثم يحتلون البيوت ويقيمون فيها، ويأتون معهم بنساء وأطفالٍ للإقامة في البيوت المغتصبة، بينما تقف الشرطة الإسرائيلية عاجزة عن إخراجهم، وتطالب العائلات الفلسطينية المتضررة باللجوء إلى البلدية أو القضاء للنظر في قضيتهم، والمطالبة بإخراج المستوطنين منها، على أن يبقى الحال على ما هو عليه حتى يقول القضاء كلمته.
يظن الإسرائيليون أن الإجراءات المشددة، والعقوبات المغلظة القاسية التي قررها رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو ضد المتظاهرين والثائرين الفلسطينيين وذويهم، أنها ستحد من اندفاعهم، وستضع حداً لغضبتهم، وستجبرهم على العودة إلى بيوتهم، والقبول بالمستجدات اليهودية، وستجعلهم يغضون الطرف عن استفزازات المستوطنين والحاخامات، ومحاولات الاقتحام المتكررة التي يقوم بها ساستهم المتطرفون، ووزراؤهم ونوابهم المتشددون، لكن الواقع أثبت غير ذلك كلياً، وأسقط معادلتهم، وسيفشل مع الأيام رهانهم، وسيعلمون أن الفلسطيني قرر أن يقاوم بعنادٍ، فيستشهد عزيزاً، أو يثبت صامداً، وأنه لن يسمح أبداً لمخططاتهم أن تمر أياً كانت التضحيات والدماء المبذولة، حمايةً لمقدساتهم، وحفاظاً على وجودهم الخالد في الأرض المقدسة.
* * * * *
(17) انتفاضة القدس والتضامن العربي والإسلامي
لا شك أن أغلب الدول العربية باتت اليوم مهمومة بمشاكلها الداخلية، وتحدياتها الخارجية، وأزماتها البنيوية، وحاجاتها الخاصة، وصراعاتها البينية، وبعضها يتهددها خطر التفكك والتحول إلى دولٍ فاشلة وحكوماتٍ ساقطةٍ، لا أنظمة تحكمها، ولا قانون يسودها، ولا أمن يطمئنها، ولا سلام يجمعها، ولا اقتصاد يقيمها، ولا جيش يحفظ أمنها وسلامتها، ولا احترام ولا تقدير لها بين الدول، إذ لم تعد مستقرة ولا مفيدة، بل باتت خطرة ومنبعاً للشر، ومصدراً للفوضى والاضطراب، وما ذلك إلا لغياب حكمة القادة والحكومات، الذين ضاقت عيونهم عن المصالح العامة، وتفتحت على المنافع الشخصية، والمكاسب الفئوية والخاصة، فما عادت تهمها شعوبها ولا سكان أوطانها، ولو بقي منهم القليل، وهاجر أو هرب قبل السحق والموت الكثير.
هذه الحكومات أو أغلبها مشغولةٌ بذاتها عن انتفاضة القدس وتحدياتها، وقد لا تعنيها القدس بقدر عواصمها واستقرار الأوضاع لهم فيها، فبعضهم لا يرى فيمن تحتل القدس عدواً، ولا يشعر تجاهها بالخطر، ولا يتوقع منها الغدر، ويرى أنها أقرب إلى أن تكون صديقاً أو حليفاً، وناصراً ومعيناً، ومستشاراً وخبيراً، في مواجهة التحديات التي يواجهون، والأزمات التي يلاقون، إذ كلاهما يسميها إرهاباً، ويتعامل معها على أنها كذلك، قتلاً واعتقالاً، واتهاماً وتشويهاً، وتضييقاً وحرماناً، وعلى هذا قد يلتقون أو ينسقون، ويتعاونون ويتبادلون المعلومات والمخططات، لتكون ضرباتهم شاملة، واستئصالهم عميقاً.
لكن الشعوب العربية ومعها الإسلامية، رغم الجرح الغائر في جسدها، والدم الناعب بغزارةٍ من جراحها، والألم الذي يسكن قلوبها ويعيش في حنايا صدورها، والحسرة التي تملأها، والشتات الذي تعيشه، والتيه الذي تعاني منه وتقاسي، والهجرة التي باعدت بين أبنائها، وشتت أهلها، إلا أنها تهفو للقدس، وتتطلع للأقصى، وترنو عيونها إليها وإلى المقيمين فيها وفي أكنافها، والمرابطين والمرابطات في مسجدها، والمدافعين عن عروبتها وإسلاميتها، والمضحين في سبيلها بأرواحهم وكل ما يملكون، لتبقى القدس لنا عاصمة، والأقصى لنا مسجداً.
لا يأس يسكن قلوب أمتنا، ولا قنوط يهيمن على شعوبنا، وهي ليست مفلسة ولا محبطة، بل إن الأمل لديها اليوم أكبر وأعظم، وأكثر صدقاً وأشد تجذراً، وهي تندفع نحو النصر، وتسير باتجاه العزة التي هي لها، وهي ترى الشباب اليافع، والفتيات النضرات، يتسابقون بسكاكينهم، ويهرولون بفؤوسهم، ويندفعون بقوةٍ نحو العدو ليغرسوا في صدره خنجراً، أو يسكنوا أعناقهم سكيناً لا تخرج، وهم يعلمون أنهم لن يعودوا إلى بيوتهم إلا على الأكتاف محمولين، شهداء يلاقون ربهم، لكنهم سعداء بخاتمتهم، وراضين عن جهدهم، ومستبشرين بغد أمتهم ومستقبل شعبهم.
في المغرب كانت جحافلٌ سيارةٌ، وشعوبٌ هادرةٌ تهتف للقدس وتغني، وتزحف إليها وتمضي، وتجوب شوارع مدنها الكبيرة، رايتها واحدة، وشعارها مشترك، ووجهتها نحو القدس معروفة، تردد بصوتٍ واحدٍ مجلجل، "بالروح بالدم نفديك يا أقصى"، و"الانتفاضة مستمرة حتى تعود الأرض حرة"، و"لا لتهويد القدس"، و"كلنا ضد الاحتلال"، وغيرها من الشعارات التي تجمع، والكلمات التي توحد، مما نعرف عن المغرب وأهلها، التي لهم في القدس مكانٍ وبابٌ، ودربٌ وطريق، وإليها قد رحل الجدود وفيها قد سكنوا، وكانوا لها عمَّاراً وعنها مدافعين، فاليوم إليها يتطلعون ومن أجلها يخرجون.
وفي غير مكانٍ من عالما العربي، تخرج كل يومٍ مسيراتٌ تضامنية، وتنتظم احتفالاتٌ مؤيدةٌ ومناصرة، بعضها يخرج على استحياءٍ وبأعدادٍ قليلة، مما تسمح به الحكومات أو تساعد عليها الظروف الصعبة، وبعضها تخرج حاشدةٌ لاهبةٌ كبيرة، لها أولٌ وليس لها آخر، عيونها على القدس مصوبة، وقلبها على الشعب الصامد في فلسطين يتطلع، تهتف للقدس شعاراتٍ حفظتها، وتردد كلماتٍ آمنت بها، وكلها أمل أن تكون انتفاضة السكاكين كانتفاضة الحجر، تعيد الألق والأمل إلى القضية الفلسطينية، فتوحد أبنائها، وتجمع كلمة فصائلها، وتساعد في رفع الضيم والأذى، والشدة والعنت عن الشعب المعنى المحاصر، والمضطهد بسوء إدارة سلطته وفصائله، الذين لا يرون بعيون شعبهم، ولا يحسون بمعاناته، ولا يعرفون ألمه، ولا يهمهم شفاءه، بقدر ما يعنيهم بقاءهم في مناصبهم ومراكزهم.
وحيث العرب والمسلمون في الشتات، في المهاجر الجديدة والقديمة، يخرجون بحريةٍ أكبر، ويتضامنون بصدقٍ أكثر، رغم المعاناة التي قاسوها، والألم الذي ذاقوه، والأهوال التي عاشوها في البحار وفوق لجة الأمواج، إلا أن عظم ما واجهوا لا ينسيهم القدس، ولا يمنع تعلقهم بها، وحرصهم عليها، وتضامنهم مع أهلها، فكانت جماهيرٌ عربيةٌ على موعدٍ جامعٍ في شوارع هولندا وبلجيكا، وبريطانيا وفرنسا، وألمانيا والنمسا، وغيرها من الدول العربية التي تحتضن اليوم آلاف العرب الوافدين إليها، الذين لم يسكنوا بعد في دورها، ولم يلتئم شملهم بين جنباتها، إلا أن القدس عندما نادتهم لبوا النداء، وعندما استصرختهم أجابوا صرختها، وهبوا لنجدتها، وأخذوا معهم أطفالهم وصغارهم، واعتمرت نساؤهم الكوفية الفلسطينية، وزين بها رجالهم صدورهم، وذيلوها بالقدس عاصمةً، وبالأقصى أمانةً، وكانت قلوبهم قبل حناجرهم للقدس تهتف، ومن أجلها بكت عيونٌ وذرفت حزناً عليها دموعٌ.
الشعوب العربية والإسلامية حيةٌ صادقةٌ، مؤمنةٌ واثقةٌ، قويةٌ عفيةٌ، أبيةٌ عزيزةٌ، بصيرةٌ مدركةٌ، وما زال الأمل يسكن قلوبها ويعمر صدورها، ولا يوجد ما يهدد هذا الأمل، ويزعزع في صدروهم هذا اليقين، مهما أصاب الأمة من وهنٍ وضعفٍ، ومر عليها مرضٌ وسقمٌ، فإنها تبقى مؤمنة بحقها، ومتمسكةً بدينها، وحريصةً على ثوابتها وقيمها، والقدس بالنسبة لها قيمةٌ وآيةٌ من كتاب الله تتلى ولا تبلى، وتقرأ على مدى الزمن وتبقى، فلا يضعفها جور حاكم، ولا بطش محتل، ولا تآمر جاهلٍ أو حاقد.
* * * * *
(18) قراءة في مشروع كيري حول الأقصى
للوهلة الأولى وقبل الدخول في تفاصيل اتفاق كيري – نتنياهو حول الأقصى، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن مباشرةً، أن هذا الاتفاق إنما هو مصلحة إسرائيلية، بل هو مسودة مقترحات إسرائيلية قديمة وقد كانت جاهزة ومعدة، نقلت إلى جون كيري، الذي حملها وسوقها وعرضها بصفته وشخصه، وحاول تمريرها على الفلسطينيين والعرب بضمانة ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية، مدعياً أنها لصالح كل الأطراف، وأنها تعيد الأوضاع في المسجد الأقصى ومدينة القدس إلى ما كانت عليه قبل الأحداث، وأنها تحفظ حق الفلسطينيين والمسلمين فيه، ولا تحرمهم من شئٍ كان لهم، في الوقت الذي توقف فيه مسلسل القتل المستعر بين الطرفين.
لا يستطيع أي عربيٍ أو مسلم أن يعتقد ولو للحظةٍ عابرة، أن جون كيري جاء إلى المنطقة وهو يحمل حلاً لصالح الفلسطينيين، وأن مشروعه لتسوية الأزمة جاء منسجماً مع الطلبات الفلسطينية، واستجاب إلى شروطهم التي يطرحونها.
فالأصل لدينا يجب أن يكون الشك والريبة، لا الثقة وحسن الظن فيه، ولا الاعتقاد ببراءته ونزاهته، وأنه لم يأت منحازاً إلى الكيان الصهيوني ولا منتصر له، فهذا الاعتقاد إن كان فهو للأسف نوعٌ من السفه وقلة الوعي، ونقصان الخبرة وغياب التجربة، فما يأتِ من الإدارة الأمريكية خيرٌ لنا أبداً، ولا يرتجى منها الحل ولا الدواء، إذ هي المشكلة والداء، والتاريخ على ما نقول خيرُ شاهدٍ ويحمل أكثر من دليل، فكيف نرجو من نصير العدو وراعيه، وربيبه الذي يؤيه، أن يكون عنده الشفاء ومعه السلامة.
كيري جاء إلى المنطقة هازاً طوله ومستعرضاً مواهبه وقدراته، ومتبختراً ببلاده وقوتها، ليهزأ من العرب والمسلمين، وليضحك على ذقونهم، ويذر الرماد في عيونهم، ويوحي إليهم بأنه أرغم الإسرائيليين على الخضوع والقبول بشروطه، والالتزام بالحفاظ على القدس وأقصاها على الحال الذي كانت عليه قبل الأحداث.
غاب عن المفاوضين الفلسطينيين والعرب أن مقترحات كيري هي أحلامٌ إسرائيلية، وهي مخططاتٌ عندهم مدروسة، قد عملوا عليها وانتظروا الوقت المناسب لتنفيذها، فهو قد كرس بمقترحاته السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وهي سيادة باطلةٌ بموجب القانون الدولي الذي يصف الكيان الإسرائيلي بأنه دولة احتلال، وباطلةٌ أيضاً بموجب اتفاقيات وادي عربة للسلام، المبرمة بين الكيان الصهيوني وحكومة المملكة الأردنية الهاشمية، التي أعطيت الحق بإدارة ورعاية المسجد الأقصى وبقية الأوقاف الإسلامية في مدينة القدس.
تفضل جون كيري على الفلسطينيين بادعاء أنه أجبر الإسرائيليين على السماح للمسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى، والدخول إليه ساعة يشاؤون، ولكنه في الحقيقة ثبت السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، التي تستطيع أن تحدد صفات المصلين وأعدادهم، والأوقات التي يجوز أن يدخلوا إليه فيها، وظهر الإسرائيليون وكأنهم يتصدقون على الفلسطينيين ويحسنون إليهم، إذ يسمحون لهم بالصلاة، ويأذنون لهم بالدخول.
لكنه بالمقابل ثبت حق اليهود "وأصحاب الديانات الأخرى" بالدخول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه بعد إبلاغ إدارة الأقصى والتنسيق معها، ليخلو لهم الطريق، ويهيئوا لهم الفرصة، ويزيلوا من أمامهم العقبات، التي قد تكون أحياناً بعض المصلين المسلمين أو المرابطين فيه، لئلا يقع بينهما تصادمٌ أو خلاف.
إن الحفاظ على الوضع القائم الذي نفهمه نحن، والذي يجب على العالم كله فهمه، هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة القدس إلى حضنها العربي والإسلامي، وإلى ما كانت عليه سابقاً تحت رعاية ومسؤولية وزارة الأوقاف الأردنية، التي يجب عليها أن تدرك وتعلم أن الكاميرات التي فرضها الجانب الأردني المفاوض، وطلب نصبها في جميع أنحاء المسجد الأقصى، لا تحقق السيادة العربية على المسجد، ولا تمنع الإسرائيليين من الانتهاك والاعتداء، ولا تحقق شيئاً إضافياً غير ما نرى ونشاهد، وما تسجله عدسات وسائل الإعلام وأقلام الصحفيين، الذين يسجلون الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، بل إن الشرطة الإسرائيلية قد تستفيد كثيراً من التسجيلات في مراقبة كل ما يجري داخل الحرم، أي أن الكاميرات قد تكون في صالح العدو وتخدمه أكثر.
ونذكر الحكومة الأردنية بصفتها الطرف العربي المفاوض إلى جانب السلطة الفلسطينية، أن حائط البراق وباحته كان ضمن المناطق التي احتلها جيش العدوان الإسرائيلي في حرب حزيران 67، وقد قام الإسرائيليون بفرض سيطرتهم عليه، وأقاموا فيه حائط مبكاهم، ومنه أخذوا في التمدد والاتساع، والانتشار والسيطرة، وكأن ما اغتصبوه حقٌ لهم، لا يجوز تغييره ولا إعادته إلى ما كان، لذا فإن إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه تعني السيادة العربية الكاملة على كل مرافق المسجد الأقصى، بما فيها حائط البراق الذي يمثل لدى المسلمين جميعاً بداية المعراج، وعند الفلسطينيين والعرب رمز ثورة البراق، وذكرى الشهداء الأبطال، شمشوم وحجازي والزير، الذين قادوا ثورة البراق، وقدموا فيها أرواحهم فداءً للقدس وأقصاه.
ونحذر الحكومة الأردنية من مغبة الوقوع في الفخاخ الإسرائيلية، التي تتطلع إلى تشكيل لجنة تنسيق دينية، بين وزارة الأوقاف الإسلامية في الأردن ووزارة الأديان الإسرائيلية، تقوم بالتنسيق الديني بما يشبه التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي، فهذا مقترحٌ يضر بنا، وينقص سيادتنا، ويتنازل عن حقنا، فلا نقبل به ولا نوافق عليه، فهو يخضع حقوقنا كلها للمناقشة والحوار، ويجعلها في موضع القبول أو الرفض.
أيها المفاوضون العرب، ما لهذا الحل ثار الفلسطينيون وانتفضوا، ولا لأجل هذه المقترحات ضحى الشباب بأرواحهم واستشهدوا، بل إن غايتهم كانت تخليص القدس والأقصى، وتحريرهما وتطهيرهما من الإسرائيليين، وإنهاء أي سيادة سياسية أو دينية لهم عليهما، والتأكيد على أن هذه الأرض المقدسة بما فيه الأقصى الشريف، أرضٌ محتلةٌ ومغتصبة بقوة السلاح، وأن سكانها وأهلها يخضعون لسلطة الاحتلال، التي يجب عليها احترام القوانين الدولية والالتزام بها، فلا تطرد سكانها، ولا تحدث فيها تغييراً ديموغرافياً، ولا تغير في تركيبتها السكانية، ولا تجري على الأرض تغييرات من شأنها تغيير الواقع الذي كانت عليه الأرض والمقدسات قبل الرابع من يونيو/حزيران عام 1967.
* * * * *
(19) الخليل تتقدم وشهداؤها يتسابقون
عجيبٌ أمرُها مدينةُ الخليل، مثخنةٌ بالجراح، ومسربلةٌ بالدماء، ومقيدة الأطراف، ومكبلةٌ بالقيود والأغلال، ومحتلة الأرض ومسكونة القلب، والاستيطان ينخر في كل مكانٍ فيها، والمستوطنون يجوبون بالسلاح في شوارعها، ويعتدون بوحشيةٍ على سكانها، وقد احتلوا طرقاتها وأزقتها الضيقة، وسكنوا بيوتها، وسوروا أسواقها، وملأوا طرقاتها وأغلقوها بمكعبات الإسمنت الضخمة، وسيطروا على حرمها الإبراهيمي، واستولوا على أغلبه، ومنعوا الآذان من على مآذنه، وكانوا قد سفكوا دماء المصلين فيه، ولكنها تأبى إلا أن تتقدم الصفوف، وتسبق الجميع، وتعلم الكل دروساً في التضحية والفداء، والمقاومة والجهاد، فما إن يرتقي منها شهيدٌ حتى يتبعه آخر، ويتلوه جديد، في مدينة الخليل أو في بلداتها وقراها، أو من الخليل ولكن في عموم الوطن فلسطين.
ويبقى اسم مدينة الخليل يتقدم الأسماء، ويسبق البلدات، وفي كل يومٍ تزف شهيداً أو أكثر، وتحيي عرساً أو تقيم احتفالاً، ولكنها تذيع قبل الشهادة نبأ طعنٍ أو دهسٍ، وإن كان بعضهم يقتلون اشتباهاً وريبة، وخوفاً وجزعاً، خاصةً في محيط الحرم الإبراهيمي وفي الطرق المؤدية إليه، إذ فيها وفي المدينة القديمة سقط أكثر الشهداء، ودارت أغلب العمليات، ولكن معين شباب الخليل لا ينضب، وسيلهم لا يتوقف، وهديرهم لا يهدأ، ولا هم يتراجعون، ولا يجبنون ولا يخافون، بل يتدافعون ويتزايدون، ويتنافسون ويتزاحمون، في مسيرةٍ نحو الشهادة يخشاها العدو، ولا يعرف كيف يفسرها ولا السبيل إلى مواجهتها، إذ كيف يصدون رجلاً أقسم على الله سبحانه وتعالى أن ينتصر أو يستشهد، وأن ينتقم ويثأر، أو يزرع في الأرض جسده ويروي ثراها بدمه، لتنبت من بعده رجالاً يصبغون الأرض، ويلونون سماء الوطن.
إنهم يعلمون أنهم على الحق، وأنهم يقاتلون من أجل حق، ويصدون عدواً بحق، اغتصب أرضهم، وعاث فيها فساداً، قتلاً واعتقالاً، ومصادرةً وبناءً، وجعل الحياة فيها مرةً ذليلة، والإقامة فيها حزينة أليمة، فماذا تراهم يفعلون، وكيف يتصرفون، ليس إلا أن يثبتوا أنهم رجالٌ لا يطأطئون الرأس، ولا يحنون الجبهة، ولا يهينون النفس ولا يسلمون الراية، ولا يخضعون للقوة القاهرة، ولا للاستعباد المذل، فما عيشهم إلا عزاً أو عيش الآخرة، وهذا ما عرفه عنهم الإسرائيليون وخافوا منه، حتى غدت مدينة خليل الرحمن التي يدعون أنها المدينة المقدسة التي اشتراها أنبياؤهم بأربعة شواقل، وسكنها أجدادهم وبنى فيها ملوكهم حصوناً وقصوراً، تطاردهم كشبح، وتلاحقهم ككابوس، فبزت غزة ونافستها، وهي التي ظنها المحتلون أنها ملعونة، وأن الموت يسكن في جبناتها وتحت أقدام جنودها، ويقفز من جوفها موتاً سراعاً، حتى هربوا منها، يضربون كعوب أقدامهم ببعضها فرحاً، أنهم من الموت نجو، وفي الحياة كتب لهم فيها يومٌ آخر.
العدو الإسرائيلي بجيشه ومستوطنيه ومتدينيه، وحكومته وأجهزته الأمنية، ينتقمون من مدينة الخليل، ويثأرون لأنفسهم منها، فيحاولون قتل أكبر عددٍ من شبانها وفتياتها، ويبادرون لقتلهم دون تحذيرٍ منهم، أو اشتباهٍ فيهم، فمن بين قرابة سبعين شهيداً هم شهداء انتفاضة القدس، قدمت محافظة الخليل وحدها ثلاثين شهيداً، وما زال عدد الشهداء في ازدياد، وأفواج الراغبين في الثأر والانتقام يتتابعون ويتزايدون، فما منعهم دمٌ مهراق، ولا صور أجساد الشهداء التي في الأرض تغرس، وسرادقات الزفاف تنصب، ووفود المهنئين لا تتوقف، وأمهات الشهداء قد حبسن دموعهن، وأخفين حزنهن، وكظمن غيضهن، ولكنهن أقسمن أن يلدن أبطالاً، وأن يأتين بأولادٍ ينتقمون، وأن ينجبن أجيالاً يحملون الأمانة، ويرفعون الراية، ويمضون على طريق المقاومة.
كأن العدو الصهيوني قد صمم أن ينتقم من أبناء محافظة الخليل أكثر من غيرهم، ليكسر شوكتهم، وليحد من شره اندفاعهم نحو الشهادة، ويمنع غيرهم من الالتحاق أو المواصلة، فقتل الفتيات واستهدف الأمهات، ونكل بهن أحياءً وشهيداتٍ، واحتجز جثامين الشهداء، ومنع ذويهم من استلامهم للصلاة عليهم ودفنهم، وما زال يرفض تسليمهم، في الوقت الذي يعجل بهدم بيوتهم، واعتقال إخوانهم وأقربائهم، ليضغط بذلك على العائلات ويرهقها، ليعلم المقاومون أن أهلهم من بعدهم لن ينعموا بالراحة، ولن تستقيم لهم الحياة كما يرجو الشهيد ويتمنى.
لكن فلسطين كلها وأهلها جميعاً لا يتركون الخليل وحدها، ولا يتخلون عنها، ولا يتركونها تقاتل ويتولون بعيداً عنها، ولا يقولون لها كما قال اليهود لنبيهم عند القتال وساعة الحرب، اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون، بل يقولون لها ولأبنائها، نحن معكم وإلى جانبكم، نساندكم ونؤيدكم، ننصركم ونخفف عنكم، ونقاتل معكم ونصمد وإياكم، نصنع النصر معاً، وننسج خيوط العزة سويةً، فإن كنتِ قد سبقت فأنت لنا الرائد ولزحفنا القائد، نتأسى بك ونقتدي، ونتعلم منك ونهتدي، فافعلي يا خليل الرحمن ما تؤمرين، فستجدينا معك إن شاء الله من الصابرين.
شهداء الخليل فلذات أكبادها، ومن عيون عائلاتها، ينتمون إلى بطونها الكبيرة، وأسمائها اللامعة الشهيرة، الذين تضرب شهرتهم في عمق الأرض ومدى التاريخ، وهم قرة عين أهلهم، ومهجة فؤادهم، وليسوا فقراء ولا معدمين، ولا بائسين ولا محبطين، بل إنهم يغلون شباباً، ويمورون ثورةً، ويتقدون حيويةً، ولكنهم لا يستعظمون الحياة أمام فلسطين وقدسها، وأمام الأقصى وأهله.
إنهم رجالٌ ينتمون إلى فلسطين وينتسبون إلى هذا الوطن، قد عرفوا أن الكرامة تعني الرأس المرفوع، والقامة المنتصبة، والصوت العالي المسموع، والإرادة الحرة، والعزة والشمم، والإباء والسنم العالي، وهذا كله لا يكون بالذلة والخنوع، ولا بالخوف والجزع، إنما يكون بالقوة والبأس، والشدة والعزم، فمضوا وكأنهم يشقون طريقهم إلى مجدٍ هم يعرفونه، وشرفٍ يرومون نيله، فهنيئاً لنا بهم، وهنيئاً لفلسطين بخليلها وأبنائها.
* * * * *
(20) الآمال المرجوة والأهداف الممكنة
ينظر البعض إلى انتفاضة القدس الثانية، على أنها انتفاضة الثورة والتحرير، والاستقلال والسيادة، والعودة والدولة، وأنها خاتمة النضال، ونهاية الأحزان، وبداية مواسم الأفراح، وأنها بقدر الوجع والألم، والحزن والسقم، والقتل والاعتقال، والتدمير والتخريب، ستكون نتيجتها سعادةٌ وفرح، ونشوةٌ وابتهاجٌ، وستتلوها احتفالاتٌ ومهرجانات، وأفراحٌ وليالٍ ملاح، وأن ليلها سينجلي عن صبحٍ أبلجٍ، وسيبدد نور النهار ظلمات الاحتلال وليله الأسود الحالك، وسيفرح بعدها ذوو الشهداء، وسيرضى الجرحى والمرابطون، والأهل في الوطن والشتات، إذ تحققت أمانيهم، ونالوا ما كان يطمحون إليه ويأملون فيه.
لعل هؤلاء يظلمون الانتفاضة، ويحملونها أكثر مما تحتمل، ويتوقعون منها أنها ستحقق ما عجز عنه الأولون، وما تأخر عن إنجازه السابقون، وأنها ستكون أقوى من الانتفاضات التي سبقتها، والمقاومة التي عبدت لها الطريق، واستخدمت في مسيرتها الرصاصة والقنبلة، والصاروخ والقذيفة، وكان للاستشهاديين فيها دورٌ كبيرٌ وأثرٌ فعال، وسقط خلالها آلاف الشهداء والجرحى، واعتقل آلافٌ أمثالهم وأكثر، ومع ذلك فما حققت الكثير مما نأمل من هذه الانتفاضة المقدسية المباركة الثالثة، وإن كانت تخيف المحتل، وتربك حكومته، وتنشر الذعر والهلع خوفاً من الطعن بين سكانه.
إنهم يثقلون كاهل الفلسطينيين في الوطن، ويأملون منهم أكثر مما يتوقعون بأنفسهم أو يستطيعون بقدراتهم، ولعلهم بما يأملون منهم يكبرون حجر الانتفاضة أكثر مما ينبغي، وينسون أنها انتفاضة سكينٍ لا أكثر، وأن كل طعنةٍ تكلف الشعب شهيداً أو أكثر، ويُكلفُ ذووه من بعده الكثير، إذ يُسجنون ويُعتقلون، وتدمر بيوتهم وتهدم، وتسحب هوياتهم ويطردون من القدس إن كانوا من سكانها، وقد تضيق عليهم سلطات الاحتلال أكثر، ليكونوا درساً لغيرهم وعبرةً لسواهم، لئلا يمضي على دربهم أحد، أو يقلدهم آخر.
نحن لا نحبط أحداً، ولا نقتل آملاً، ولا نسبح عكس التيار، ولا نتحدث بلسان غيرنا ونعبر عن أماني سوانا، بل نتحدث بلسان الشعب في الوطن وأهلنا في الميدان، بلغةٍ واضحةٍ رصينةٍ موزونة، ونريد أن نكون واقعيين ومنطقيين، فلا نخطئ الحساب، ولا نسيئ التقدير، ولا نرفع السقف عالياً ثم نعجز، أو نضخم الأهداف ثم نضعف عن تحقيقها، أو لا نستطيع الوصول إليها، فنحبط أنفسنا والأمة، ونضر بالشعب ونلحق بالقضية الأذى، ونخسر ما ضحينا، ونفقد الشهداء وما قدمنا.
الفلسطينيون في الوطن إذ يشكرون الأمة العربية والإسلامية على مواقفها وتضامنها، وتأييدها ومساندتها، فإنهم يأملون منهم أن يفكروا بعقل من يقيم على الأرض، ويسكن في الوطن، ويقاتل في الميدان، ويعاني ويقاسي، ويجد صعوبةً في الحركة والانتقال، وحمل السكين والسلاح، ويواجه بصدره العاري الخطر، ويتحدى بإرادته ويقينه جيش الاحتلال وآلة قتله الهمجية، وألا يظنوا أن المواجهة مع الاحتلال لعبةٌ سهلة، ومعركةٌ بسيطةٌ، فالعدو الصهيوني خبيثٌ ماكر، ويعرف ماذا يريد منا وماذا يخطط لنا، وهو القادر بسلاحه وعتاده، وقدراته وإمكانياته على أن يتقدم ويتفوق، أو هكذا يتوقع ويأمل.
ولعل الفلسطينيين في الوطن في هذا على حقٍ تام، فلا يشكك فيهم أحد، ولا يكابر عليهم آخر، رغم علمهم بصدق المتضامنين، وإخلاص المحبين، وأمل ورجاء المناصرين، ولكن صدق الأولون عندما قالوا أن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن أهل فلسطين أدرى بعدوهم، وأعلم بمواجهته، وأقدر من غيرهم على مقارعته، في الوقت الذي يخاطبون الأمة كلها ويأملون منها أن تصدق قولهم، وأن تؤيد فعلهم، وأن تساندهم في انتفاضتهم التي يعرفون أهدافها، ويدركون أبعادها، ويعلمون يقيناً أنها ليست إلا خطوة كبيرة على طريق النصر والتحرير، وأنه سيكون لها ما بعدها يقيناً.
اعتاد الأسرى والمعتقلون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أن يخوضوا إضراباتٍ عن الطعام، أو يمتنعوا عن الزيارة أو غيرها، ويضعون قائمة شروطٍ وعدة مطالب، تتعلق أغلبها بتحسين شروط اعتقالهم، واحترام حقوقهم، وتمكينهم من الاستفادة مما نص عليه القانون وسمحت به الاتفاقيات، ولكنهم لا يطالبون بالإفراج عنهم وإطلاق سراحهم، رغم أن هذا هو الأمل والغاية، وهو أسمى المطالب وأنبل الأهداف، لكن كونهم يعرفون أن هذا الهدف يستحيل على العدو تنفيذه إلا بقهر عمليات التبادل، فإنهم لا يحبطون أنفسهم ويضعون هذا الهدف الكبير ضمن سلسلة أهدافهم المنطقية والمعقولة، والممكنة التنفيذ والسهلة الإنجاز.
وعليه فإن انتفاضة القدس وفلسطين الثانية قادرةٌ بإذن الله، بتضحيات أبنائها وصمود شعبها، وإرادة المرابطين والمرابطات، والثابتين والثابتات، على أن تفرض على سلطات الاحتلال العودة بالأوضاع في المسجد الأقصى ومدينة القدس إلى ما قبل العام 2000، عندما كانت القدس مفتوحة أمام أهلها، والأقصى مشرعٌ للمصلين الفلسطينيين، والزائرين المسلمين، فلا يزاحمهم فيه أحد، ولا تحد من أعدادهم سلطة، ولا يفرض الاحتلال عليهم شروطاً، ولا يحاول تغيير تركيبة السكان فيها، وطرد العرب منها.
كما أن انتفاضة القدس قادرةٌ بإذن الله على منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة الاستيطان، ومصادرة الأراضي، وطرد السكان، وهدم البيوت والمنازل، وإبعاد المواطنين والأهل، ومداهمة البلدات والقرى، والتجوال في المدن ووضع الحواجز على الطرقات، وقادرةٌ على رفع الحصار عن قطاع غزة، وإكراه العدو على القبول بمشاريع التخفيف عن سكانه، وتسهيل حياته، وبناء ميناءٍ ومطارٍ له، يرتبط من خلالها بالعالم، ويتحرر بهما من قيود الجوار وشروط الأقوياء.
وهي قادرةٌ بإذن الله ما صمدت وبقيت، وما واصل أبناؤها المقاومة والمواجهة، وما وقف إلى جانبهم إخوانهم وأشقاؤهم العرب والمسلمون، على المطالبة بالإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وتحريرهم من قيدهم وسجنهم، وفي مقدمتهم قدامى الأسرى والمعتقلين، والأسرى المرضى والأطفال والنساء والمسنين، أو تحسين شروط اعتقالهم، ومنع الاعتقال الإداري التعسفي، والتعذيب الوحشي في السجون.
تلك هي بعض الأهداف التي يتطلع إليها شعبنا من انتفاضته، والتي يسعى لتحقيقها بنضاله وتضحياته، ولعله سيمضي حتى يحققها أو بعضها، وسيرغم قادة الكيان وحكومته على القبول والإذعان، وله في انتفاضتيه السابقتين خير أسوةٍ ومثال، فالأولى أجبرته على الاعتراف بالشعب، والثانية أكرهته على الانسحاب من غزة، أما الثالثة فستكون نتيجتها بإذن الله أكبر مما نأمل، وأشد ألما مما يتوقع العدو ويخشى.