يقدم الباحث الجزائري المرموق هنا تحليله لواحدة من الروايات الجزائرية الجديدة التي تطرح عددا من إشكاليات الواقع الجزائري، بدءا من إشكالية الهوية الممزقة بين التراث الطارقي المتجذر في الصحراء والوافد الغربي الذي رسخته التجربة الاستعمارية وصولا إلى قضايا الفساد التي تهدد إيكولوجيا البيئة الصحراوية ذاتها.

«نادي الصنوبر» وأنثروبولوجيا الهوية والثقافة

عبدالله شطاح

انفردت رواية (نادي الصنوبر)1 للكاتبة الجزائرية ربيعة جلطي بقراءة هوية الطوارق المغيبة عن المشهد الثقافي الرسمي، وعن ثيمات النصوص الروائية القارة، سواء عند الرواد المؤسسين أو جيل الشباب المتمرد عن النسق الموروث، المنصرف بالكلية إلى التجديد الشكلي والمضموني، والتجريب الجمالي المتعالي عن النمط والنموذج مهما كانت جنسيته أو طبيعته. والكاتبة وافدة جديدة إلى عالم الراوية، جاءت إليه من رحاب الشعر الفسيحة، ومن عواطفه المضفورة بالحنين والشوق واللهفة، والولع بمواطن الجمال الخفية والقضايا المغيبة عن المتون المطروقة، والالتباس العاطفي بالأقليات المهمشة، والحقوق المهضومة، ومواطن الثراء الرمزي والثقافي والجمالي المغيبة وراء حجب النسيان، أو الملقاة إلى الهامش في عالم سريع الإيقاع، مجنون الخطوات، انصرف عن الجوهري إلى الظاهري، وعن الروحي إلى المادي، وعن الشعري الحالم إلى النفعي الحاضر.

كون الكاتبة شاعرة بالأساس، وبالتكوين الثقافي والعاطفي القبلي، جعل موضوعها الرئيس حابلا بممكنات شعرية ثرية قابلة للاستثمار الشعري والسردي على السواء، حيث احتلت الأسطورة والهوية، وثقافة الطوارق المنفية في تخوم الصحراء، وخصائصهم الإثنولوجية المائزة لجنسهم، وموروثهم الشفوي، ولغتهم، وخطهم، وتركيبة مجتمعهم الأمومي، ووفائهم لحياة الترحال والبداوة، ورجالهم الزرق الملثمون ذوي الحضور الرمزي المكثف في الخيال العربي منذ دولة المرابطين، وتعصبهم لحياتهم البدوية تلك الواقعة على تخوم الحاضر، والملتفتة أبدا إلى الوراء والموروث، مكرسة هويتها الخاصة المركوزة في رمال الصحراء المتحركة على الدوام، دون أن تزعزع الحركة التي يموج وسطها مجتمعهم الثابت ذاك، واستعصاؤهم على التبديل والتفسخ والتلاشي وسط عالم عدواني لا يعرف الثبات، وتمسكهم بالحلم والرمز والطبيعة والبداوة، جعل منهم هوية استثنائية مغرية بغموضها وخصائصها المائزة، وقدرتها على التشبث بالأصول وسط معمعان العولمة واقتصاد السوق وهيمنة النموذج الغربي في الحياة شرقا وغربا.

وقبل أن تتخذ الكاتبة من الطوارق موضوعا لنصها الذي بين أيدينا، كان هؤلاء قد أصبحوا محور نصوص عالمية شهيرة، كنصي (الطوارق) و(عيون الطوارق)2 لألبرتو باثكث ـ فيكيروا الذي عاش بينهم لما يزيد عن عشرين سنة أكسبته معرفة عميقة بالطوارق وثقافتهم وشخصيتهم وحياته وأساطيرهم، مكنته من كتابة ذينك النصين الذين حققا انتشارا عالميا عبر ترجمات عديدة إلى معظم لغات العالم الحية، وقد صرح في مقدمة الترجمة العربية إلى أن الفترة الطويلة التي قضاها بين الطوارق دفعته إلى "الجهر بالظل والتعسف اللامحدود الذي خضع له في تلك اللحظات شعب من الشعوب الأكثر نبلا وأسطورية فوق هذا الكوكب."3.

وعلى الرغم من النبل الراسخ في مكونات الطوارق، وشخصيته الساحرة، وتاريخهم الحافل بالوقائع المثيرة، فإننا لم نسجل حضورهم على مستوى الأدب بما يتناسب مع أهميتهم الثقافية تلك، وما كاد أحد يلفت انتباه الناس إلى ثراء مكونهم الثقافي لولا ذلك الكاتب الإسباني الذي نذر حياته وأدبه للدفاع عن قضيتهم التي تتقاسمها أكثر من دولة على مستوى الجنوب الكبير، حيث يمتدون جنوب الجزائر وليبيا والنيجر ويرفضون التخلي عن حياة الترحال والاستقرار في صقع جغرافي وفي حدود وطن قطري واحد غير قادر عن استيعاب امتدادهم التاريخي في جغرافيا الصحراء والجنوب بصفة عامة. بالإضافة إلى قضيتهم السياسية تلك، يظل (التغييب) غير المقصود لثقافتهم جزء جوهريا من قضية الطوارق، وهويتهم الممزقة، وتاريخهم المبعد عن التاريخ الرسمي، وفنهم وأدبهم وأساطيرهم كلها ما زالت واقعة على الهامش من الأدب الرسمي المكرس، الأمر الذي يجعل من (نادي الصنوبر) نصا استثنائيا بمغامرته في كتابة، مبتكرة، وخارجة عن سياق المطروق والمتداول على أكثر من مستوى.

اتخذت الكاتبة من هوية الطوارق العصية على التغيير ذريعة نصية (prés – texte) لتغامر في قراءات متعددة ومتراكبة تنطلق من الجنوب الكبير وصحرائه الشاسعة لتستقر في العاصمة، وفي قلبها الإشكالي بالتحديد، نادي الصنوبر، وطن الصفقات السياسية والاقتصادية المشبوهة، وموطن الحل والعقد وصناعة القرار، منذ مطلع التسعينيات وانحدار البلاد إلى درك الحرب الأهلية والدماء والأشلاء، وما رافقها من ممارسات (مافياوية) اقتسمت خيرات البلاد في غفلة من الجميع، وكان نادي الصنوبر وطنا آخر (ممتازا) داخل الوطن الكبير الرديء، وعندما كان الناس مشغولين بالهروب من الموت المجاني الرخيص في الطرقات والحواري والقرى المنسية في عمق البلاد، كانت محمية (نادي الصنوبر) توفر أرقى حياة، وأرفع أشكال الأمان للمسؤولين والوزراء والضباط ليحكموا البلاد من وراء ستار، ويقتسموا الريع والمناصب والخيرات بعيدا عن أعين العامة والمتلصصين و(الرعاع) المنبوذين خارج المحمية المحظوظة السعيدة.

وتنجز الرواية قراءتها المسحية (البارونامية) تلك عن طريق البطلة الطارقية (عذرا)، الحسناء ذات الجمال البدوي الساحر، الذي يفتح لها مغاليق الجاه والنفوذ والثراء، فتنتقل من مجاهيل الصحراء إلى جنان نادي الصنوبر، ومن مضارب عشيرتها في الجنوب إلى أرقى شوارع العاصمة، فتتمكن، بنظرتها المستندة إلى عالمين متناقضين، (هنا) المدينة، و(هناك) البادية، (هنا) شتات الحضارة والمدنية المعاصرة، و(هناك) النقاء الأثنولوجي القبلي المنغلق، من قراءة الفضائين قراءة نافذة ومستبصرة بالفوارق الثقافية والأنثروبولوجية المكونة للعالمين، بحيث يظل انتماؤهما إلى فضاء الوطن الواحد انتماء يثري بالتنوع والتعدد أكثر مما يوحد بالتماهي والامتزاج، الأمر الذي يعطي للطوارق وثقافتهم وهويتهم الخاصة فاعلية استثنائية في قراءة تلك الهوية المعزولة في محيط الصحراء.

1.      الجمال/  سحر الهوية.
ينجز النص أولى مفارقاته بعتبة الإهداء التي تأتي على خلاف المتوقع الذي يبنيه العنوان الحامل لدلالات محددة في المخيال الجزائري، فالعنوان،
(نادي الصنوبر)، البارز فوق لوحة الغلاف، يحيل على المتداول والمعلوم، وما أشاعته الصحافة عن المكان، فظل موئلا للسلطة والحكومة والنافذين ورجال المال دون سواهم، يجسد السلطة وسياستها وتاريخها الموغل في الفساد، بما يجعل القارئ يتوقع أن يقتحم النص هذا العالم الموصد دون العامة، لينجز خطابه عن السلطة والفساد، والصفقات المشبوهة وعالم الليل والمافيا، ونحوها من القضايا المحرضة للخيال والتوقع والرغبة في التلصص والفضول. ذلك ما يستدعيه العنوان ويحيل عليه قبل أن تقطعه عتبة الإهداء بإحالة أخرى مغايرة على عالم لا يربطه سبب معلوم بالفضاء الدلالي الذي يستدعيه العنوان ويحيل عليه.

تهدي الكاتبة نصها إلى "عثمان بالي، زرياب الطوارق .. جرفتك مياه وادي جانيت ذات طوفان .. فارتفعت نجما .. تطل من عليائك عليك الصحراء."4 وعثمان بالي، ووادي جانيت، والصحراء، عناصر تنتمي إلى فضاء الصحراء الجزائرية الفسيحة، في جنوبها الكبير المنتصب عموديا في الطرف الآخر النقيض لنادي الصنوبر الواقع على ضفة المتوسط، منكمشا بين أشجار الصنوبر على أسرار السلطة وأياديها الخفية وبهرجها ومتعها، ونفوذ أصحابها المحظوظين، وصفقاتها المقررة لمصائر الأفراد والأمة والتاريخ. لا شيء يجمع النقيضين سوى الانتماء القطري، ورغبة الكاتبة في الانفتاح، على خلاف المقرر، على هوية الطوارق المشكلة للنسيج الوطني الثقافي الثري والمتنوع تنوع التضاريس الجزائرية نفسها، ومدينة جانيت المنتصبة في أقصى جنوب الصحراء الجزائرية ظلت، منذ بداية التاريخ الوطني الرسمي، جزء ترابيا ومكونا ثقافيا أصيلا من مكونات الهوية الجزائرية، لم يؤهلها شيء لأن تحتل صدارة الحدث الثقافي حتى أنجبت نابغتها وسفيرها وبلبلها الذي لفت أنظار السلطات والناس والأجانب: "كانت أرضا ولاّدة أنجبت عبقريا في الموسيقى والطرب الأصيل، وقف على خط متواز مع أكبر الفنانين في هذا العصر، استطاع أن يرسم لنفسه طابعا فريدا وكان الصورة الأصل فيه دون منازع، ولد في أقصى الحدود الجزائرية، لكن طابعه الفريد تعدى كل الحدود ووصل إلى أبعد القارات، داعبت أنامله آلة العود الذي كان توأمه، فاستأنست كل أذن إلى دفئه، نقف اليوم عند ذكرى فنان من الرجال الزرق الذي كان ألف ولام تعريف للفن "التارقي" في كل الأقطار، لكن بالصوت الرجالي وهو عثمان بالي."5

من هنا ينفتح النص على عالمه المغاير، وفضائه المختلف، وموضوعته المفارقة للمتون السردية الوطنية برمتها، بيد أن عتبة الإهداء والفضاء الذي (تعد) به على خلاف (وعد) العنوان، يحرض الخيال ويحفز التلقي لفك شفرة المفارقة التي أحدثتها العتبتان في أفق الانتظار، ولا تتضح الرؤية العامة ابتداء إلا بالباب الأول الذي حمل عنوان "باب واقعة الوسيم" ليتضافر مع عتبتي العنوان والإهداء في استنفار الاستقبال إلى أبعد مدى. و(الباب) إطلاق تراثي مخاتل، تقاسمته مصنفات الفنون والعلوم والمعارف التراثية في شتى تصنيفاتها، حتى تلك المتباعدة تصنيفيا وتأصيليا، من النحو والبلاغة إلى الفقه والتاريخ والأدب، يوحي بالاحتواء والجمع والاستقصاء والرصانة معا، فحواه المعرفة والتفصيل والعمق وسوائها من العارف المنطوية على الجد والأصالة، بما يجعل الباب الروائي المشار إليه متقاطعا دلاليا ومضمونيا مع الإيحاءات التراثية الراسخة في الوجدان المعرفي العربي، سليل المدونات والتصانيف الفخمة. وارتباط الباب بـ(الواقعة) يتقاطع جماليا مع وقائع السير الشعبية والمغازي والسير العربية ذوات الوقائع الجسام، والوسيم توصيف ذكوري يستدعي دلالاته من متون العربية التي أصلت للجمال والحب والجنس في مدونات إيروتيكية عربية شهيرة، ومن متون قصص الحب والعشق ووقائعها التي تداولتها كتب التراث بتفصيلات عذرية أو حسية مدهشة الحرية والجرأة.

ولا تتريث الكاتبة سوى مسافة فقرة لتضعنا في قلب الصحارى وطيوبها، بالدفع بـ(الحاجة عذرا) إلى قلب السيرورة السردية المتوقفة لضرورات وصف الجلسة النسائية ذات النكهة الصحراوية المنسجمة مع نص الإهداء الموازي وفضائه الدلالي:   "ضاجة مثل الرعد تدخل (الحاجة عذرا) الصالة بألبستها الفضفاضة ذات الألوان المتعددة، يغلب عليها الأسود الليلي البراق، أطرافها تطير في كل مكان حتى كأنها تجرجر وراءها الأشياء، إلا أن القماش الهفهاف العريض يمر مثل الماء مداعبا وسائلا فوق كل شيء دون أذى، ومن كثرة ما ترفع مناديلها حول كتفيها، تمتلئ الأمكنة بروائح المزيج من طيوب صحراوية، لا تشبه في شيء العطور الفرنسية المغشوشة التي نتنافس على شرائها من سوق الطراباندو."6.

تجري وقائع جلسات الشاي التي تديرها البطلة الطارقية (الحاجة عذرا) في إحدى شققها العاصمية التي أجرتها لفتيات ثلاث عازبات، سرعان ما يقعن تحت أسر حديثها وطقوسها وثقافتها المختلفة، ينتظرن مجيئها بشغف لسماع حكاياتها عن الصحراء ومجتمع الطوارق وطقوسه وثقافته الخاصة، كأنهن يستمعن إلى قصص خرافية ليست تقع في الطرف الجنوبي من صحراء الوطن. تحضر كل مرة مشفوعة بأسلوبها الحياتي الخاص، وبسحر أحاديثها عن المرأة الطارقية والرجال الزرق وتجاربها الحياتية التي نقلتها من عمق الصحراء إلى قلب العاصمة، حيث تمتلك عقارات وأموال لا تتناسب مطلقا مع واقع الحال وواقع الطوارق، بما يحرض خيال المتلقي ليعرف المزيد عن البطلة التي تبدو، طوال مساحة السيرورة السردية، مقتصدة أشد الاقتصاد في رواية قصتها الخاصة، وتكتفي بنثر نتف قصيرة منها كل جلسة شاي مع جاراتها، محافظة على نسبة من الغموض الذي يغذي توتر الحكاية وعقدتها حتى النهاية.

تحضر (عذرا) منذ بداية الرواية مشفوعة بنسق ثقافي مختلف عن السائد والمعمم، تنحاز لألوان الطوارق الأثيرة، الأسود والأزرق الذي يحملون اسمه، والألبسة الملونة الفضفاضة، والطيوب الصحراوية، والولع بالشاي وطقوس جلساته المميزة. وهي تفاصيل معيشية يومية تأخذ طبيعة العلامة السيميائية الدالة، يشكل البحث في معناها بحثا أساسيا في الثقافة، لأن "البحث في المعنى هو في الجوهر بحث في الثقافة باعتبارها صيغة من صيغ تصريف الإيديولوجيا في السلوك اليومي."7 على حد تعبير سعيد بنكراد.

يكتب النص ثقافة الطوارق من خلال تحرك بطلته (عذرا) على مساحة السرد والوصف وهما يتحركان في الفضاء المرصود لقراءة نوازع الشخصية الرئيسة وتصرفاتها، وبدائلها الثقافية المطروحة في سياقات متوترة كاشفة تستدعي الموروث المستقر في خلفية اللاشعور، كما تستدعي الثقافة والتجربة الخاصة في تصريف حياة مختلفة من حيث التكوين عن ثقافة الأصل والجذور، وتظل، على الرغم من التباسها العميق بثقافات أوساط أخرى مغايرة، محافظة على (عذرية) الروح والفكر والذائقة والهوية، بما يجعلها في الأخير تحس مصيرها على نحو غير متوقع، أو على الأقل، تحسمه بما يخالف توقعات الثقافة السائدة في مجتمع العاصمة، وذلك ما يفسر، على نحو ما، سيميائية اسم الشخصية الرئيسة (عذرا) التي لا تكشف عن عمق العذرية في تكوينها إلا في آخر النص لتنجز مقصدية النص العميقة من كتابة/ قراءة ثقافة الطوارق وهويتهم الأصيلة.

وعلى هذا الأساس ينصرف باب (وقعة الوسيم) إلى رسم تفاصيل الحضور الإنساني الاستثنائي الذي تشكله البطلة الطارقية، عبر جلسات الشاي وطقوسه الدافئة الحميمة مع الفتيات الثلاث، حيث تتولى سرد تفاصيل الثقافة الطارقية في الزواج والطلاق والعلاقات الاجتماعية وعلاقات الرجال بالنساء، وثقافة الغناء والموسيقى التي تتولى عزفها على آلة (الإمزاد) الطارقية العريقة ذات الوتر الواحد، تغني عليه حنينها إلى مسقط رأسها ورماله الحارة، تقول إحدى الفتيات: "منذ أن أقمت في بيت الحاجة عذرا وأنا لا أزداد إلا رهبة من هذه المرأة المدهشة الضخمة، ذات الوجه ذي الجمال النادر بملاحه المنسجمة في تناسق غريب، الآتية من الجنوب البعيد الحار، في صوتها حشرجة وكأن بقايا الرمل لا يبرح حنجرتها القوية ... لا أدري لماذا آخذ كل ما تقوله على مأخذ الجد، على الرغم أنها لا تتكلم إلا هازئة ساخرة، فلا تعرف هل أن ما ترويه قد حدث فعلا، أم أنها تطعمه بخيالها الخصب الواسع وسع الصحراء التي جاءت منها. يبدو لي أحيانا أن الحاجة عذرا عبارة عن خيام متراصة من أسرار ملونة متينة الأوتاد. في الحقيقة الحاجة عذرا لا يأسرها شرب الشاي كثيرا، مع العلم أنها لا تستغني عن سحره أبدا، بقدر ما تعشق طقوس إعداده، وتوزيع كؤوسه، والتمتع برؤية راشفيه وببهجة المتمتعين بلذته، ولذة الحكاية التي ترافقه مثل حلوى محشية بالتمر الناضج."8

الواقع إن جلسات الشاي، والطقوس المحيطة بها، تشكل ذريعة نصية لتفعيل الحنين والذاكرة وخطاب الاسترجاع، فحيثما يحضر الحنين تحضر الذكرى والشوق إلى مراتع الصبا وضارب الطفولة والوطن الأول9، ورائحة الأرض والتراب، وتفاصيل المكان الطفولي التي أودعت بذور الانتماء إلى الجذور مبكرا في مكونات الوعي واللاوعي التي تناط بها، في النهاية، مهمات الوفاء للهوية والمكونات الأنثروبولوجية الأولى للنسق الأثنولوجي الثقافي الخاص الذي يعطي لمفهوم الوطن معناه العميق كله.

ينمط الحنين مسارات الحكاية غالبا، يستدعي البعيد، وينزل إلى أعماق الذاكرة، ويسترجع الحياة الأولى، ويكون مرادفا للبعد، والهجرة والمنافي، إذ لا تشتغل الذاكرة ولا يشتعل الحنين معظم الوقت إلا تحت سطوة الزمان والمكان، على نحو ما وجدنا مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال10 يفعل في شقته اللندنية، أين جمع المخطوطات الشرقية النادرة والطيوب السودانية وريش النعام، وغيرها من مكونات الفضاء السوداني العربي الشرقي، وعلى نحو ما يغلب على السرود المستندة إلى الذات كالتخييل الذاتي والأوتوبيوغرافيا وروايات السيرة الذاتية عموما. والنص في هذا المفصل الأولي من الحكي يسعى، عبر جلسات الشاي والطقوس المتعلقة به، إلى (تهييج) الذكرى، وتفعيل الحنين، واستدعاء الصحراء من الجنوب الكبير إلى فضاء الجلسة المعقودة في شقة العاصمة الضيقة، حيث يتفاعل الضيق والاتساع، البرد والحر، الكرم والبخل، وبذخ الوقت والسمر في واجهة الإيقاع السريع للمدينة وللعاصمة بالتحديد، وعبر التقابل بين هذه الثنائيات الضدية تتضح صورة الخصوصية المرتبطة بالطوارق وثقافتهم المعزولة عن سياق التغريب والعولمة. فكل شيء تعلق بالبطلة، جسديا ومعنويا، يقرر الانفصال الكلي عن النسق الغربي المهيمن على المدن العربية من حيث هيمنته على مدن العالم وثقافتها المتشابهة إلى حد الاستنساخ.

وعبر لغة الحنين والاسترجاع تلك ينجز النص خطابه الخاص حول الهوية وثقافة الطوارق المهمشة، يستدعيها ويزج بها في سياقات المقارنة مع المحيط القريب والبعيد، محيط الوطن ومحيط الغربة التي تعيشها عذرا في الخليج العربي مدة من الزمن، ويتجلى التمظهر الأول لتلك المقارنات بين الطيب الصحراوي الأصيل الذي كانت تتطيب به البطلة وبين الروائح المقلدة المغشوشة التي تستعملها الرواية، ففي الوقت الذي كانت تحرص فيه الأولى على نقاء النوع وأصالته وتاريخانيته وتجذره في الثقافة والمحيط والموروث، مالت الثانية إلى النمط الاستهلاكي المرتبط بالسوق الحديث والإشهار وهيمنة العطور الفرنسية، حتى تلك الرخيصة منها، على ذائقة الناس.

يصح التوصيف نفسه المتكئ على الأصالة وهيمنة النمط السائد في ما يتعلق باللباس وتزجية الوقت، والموقف من الموروث الجمالي الخاص بالسمنة والنحافة وغيرها، حيث تأخذ البطلة الطارقية ابتداء ما يكفي من الوقت للتمتع بلحظات الشاي الحميمة التي تشكل عنصرا مفارقا في سياق المقارنة بين الثقافتين، ثقافة البداوة/ الطارقية، وثقافة المدنية/ العاصمة، حيث تبدو الأولى متماهية مع امتدادات الصحراء وإيقاعها الرتيب المتمهل في ضرورات الرعي والانتقال والسمر، بديلا عن اللهو الذي توفره أدوات التكنولوجيا المعاصرة كالتلفزيون والانترنت وغيرها. وحتى اللباس الملون الفضفاض الأثير عندها لا يبدو حياديا تماما بقدر ما يلفت الانتباه إلى الخيارات التي أملتها بيئة الطوارق وطريقتهم الخاصة في الوجود في العالم، وهنا أيضا " نكون أمام رمزية مزدوجة: قد يكون القصد الظاهري منها التعبير عن (وقار) أو (حشمة) تقتضيها أعراف اجتماعية بدون أي مرجعية دينية صريحة، أو مجرد عادة لباسية خاصة بمنطقة أو مجموعة عرقية أو ثقافية."11، لأننا "لسنا أحرارا في أمر ذواتنا، إننا نقرر في شأنها استنادا إلى إكراهات ما يأتي من (الخارج)، الطبيعي والاجتماعي على حد سواء. ووفق هذه البداهة نظر الإنسان إلى لباسه، منذ لحظات (تمدنه) الأولى، باعتباره شكلا من أشكال الحضور في العالم."12

وعلى هذا الأساس تصبح الهوية نتيجة طبيعية للمحيط، واستجابة خاصة له، وتكيفا نوعيا مع إكراهاته، لأن (الحضور في العالم) ليس حضورا واحدا شاملا للجنس البشري، وإنا هو (حضورات) متعددة ومتنوعة بتنوع الجماعات البشرية، وبتنوع (الهويات الخاصة). ولم يكن العامل وراء سعة الأثواب الطارقية، الرجالية والنسائية على السواء، سوى تكيف (قومي) مع الصحراء وحرها اللافح، ورمالها المتحركة، وضرورات المعالجة اليومية لأشغال الخيمة التي تتعذر عن لباس المدينة الضيق النازل منذ المنطلق عند إكراهات ثقافة الاستهلاك والتمدن، على حساب مقتضيات التاريخ والبيئة.

أما حضورها الجسدي الممتلئ الضخم فقد حشدت له الكاتبة، على لسان عاشقها الهائم عشقا وولها، مسعود، خريج اللغة العربية وآدابها، عشرات الأبيات الشعرية المختارة من محفوظه التراثي الواسع، تمجد البدانة والامتلاء، وتتغزل في النساء العامرات، وتشبب، وتتلو محاسنهن وفتنتهن وإغراءهن وولع الناس بهن، وفوق ذلك تنجز الكاتبة على لسانه مرافعة طويلة عن البدانة وجمالها وقبح النحول وسوئه، يقول:   "أنا رجل أحب السمينات اللواتي يشبهن محبوبتي الطارقية الحاجة عذرا ومحبوبات امرئ القيس اللواتي يشبهن الأبقار البيضاء أو المرقطة أو الملونة، الحوامل منها خاصة ... يضحكني هؤلاء الرجال الذين يسيل لعابهم وهم يتفرسون في المارات من النساء، نحيفات شاحبات وكأنهن على مرض عضال، تكاد أصوات قرقعة عظامهن تسمع، يتحركن مثل أسلاك الكهرباء المسننة، وهن يمشين مثل أقلام رصاص منجورة."13

يؤسس الصوت الروائي المفتون بعذرا وامتلائها لخطابه الخاص عن من الموروث الثقافي العربي القديم، وتبدو الطارقية ومجتمعها تنميطا ثقافيا قارا وسط تحولات الثقافة والمجتمعات والأهواء والقيم الجمالية التي تشكل مكونا أساسا من مكونات الهوية الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات، ولا ينسى في خضم مرافعته أن يندد بثقافة الاستهلاك التي طوحت بالقيم الموروثة وأحلت محلها قيما أخرى لا تسندها إلى القاعدة الاجتماعية والتاريخية رابطة صلبة: "أنا متيقن أنني على حق وأن ذوقي سليم عال، فقط أنا من الناجين القلائل، من المحظوظين، لم تسحقني حرب الدعاية العالمية التي تطارد الناس حتى في بيوتهم، حتى وهم متمددون فوق أسرتهم. حرب الدعاية التي تتابعك مثل قدرك، منذ صرختك الأولى عند هبوطك الاضطراري من بطن أمك، فأنت توجه عن بعد، وكأنك جرو كهربائي ... تملي عليك ما عليك أن تحبه، وما عليك أن تكرهه ... تحاصر رغباتك الجنسية بعاصفة البورنو، تقلع جذور شجرة الإنسان فيك، فتتشوه وتمرض نفسك، ولا تدع حديقة خيالك تزهر."14

تبدو عذرا، في هذا السياق، عصية على المعمم والسائد والمبتذل، تجسد استعصاء الطوارق أنفسهم على التحولات التي دفعت بالمجتمعات من حولهم إلى الانسلاخ من جلدتهم وتاريخهم. وبهذا المعنى يصبح تاريخ الطوارق هو تاريخ (المقاومة) الثقافية للانسلاخ والذوبان في السائد والمعمم، من أجل ذلك ربما ترفض عذرا أن تكيف وجودها الذاتي ممثلا في الجسد على نحو ما تفرضه ثقافة الاستهلاك المستبدة وسطوتها التي تمارسها بقسوة عبر وسائل الإعلام المعاصرة، وعبر التأسيس لثقافة واحدة عابرة للقارات والهويات والثقافات جميعا. على نحو ما تبدو مقصدية النص معلقة بمعنى المقاومة في معناها الواسع، لا سيما مقاومة الهويات الهشة المهددة في أصل وجودها بفعل معاول العولمة التي لا تنفك تزداد ضراوة مطردة مع ازدياد الهيمنة الغربية، والرأسمالية المتوحشة وأذرعها الإعلامية الجبارة، بما يجعل النص في مجمله "إغراء ومقاومة واستدراجا إلى عوالم تخفيها دوائر التجريد."15 بما يجعل النص، في النهاية، تنويعا تشخيصيا لقضايا العولمة وهوية الطوارق المستميتة في المقاومة والدفاع عن هويتها الخاصة وثقافتها الموروثة التي ما زالت تنجز سحرها الثقافي الخاص الذي ألمحنا إليه في مقدمة هذه المقالة، بانتصابها الثابت وسط حركية العالم وحركية الرمال الصحراوية على السواء، مجسدة معنى المقاومة والثبات على النحو نفسه الذي تتولى البطلة عذرا تجسيده تخييليا من خلال خياراتها الجمالية والسلوكية التي تحمل في جميع تجلياتها أثر البنية الأمومية لمجتمع الطوارق.

ولا يكف النص عن تأكيد هذا الملمح الأمومي في مواجهة المجتمع الأبوي (الباترياركي) لمجتمع الشمال المخترق من الداخل، من العنصر النسوي الذي جعله ينهار سريعا أمام رياح العولمة المتكررة، بينما ظل المجتمع الطارقي، الذي أسند مهمة الحفاظ على الهوية ممثلة في الغناء والشعر والموسيقى وخط التيفيناغ والحكايات القديمة والأساطير وغيرها من مكونات الهوية الثقافية، إلى المرأة، فمكنته، بمركزها الحيوي في قلب العائلة والقبيلة، من الثبات والاستعصاء على التفسخ والاستلاب. تتمظهر مكونات المجتمع الأمومي للطوارق في ممارسات عديدة تتولى عذرا إيرادها باتساق مع سيرورة النص وتناميه، ابتداء من اللحظة التي تكشف فيها عن ملابسات حضورها في مجتمع العاصمة الذي لا يكاد يشبهها، فأبرز بسرعة مفارقات وجودها في مكان كل ما فيه يوحي بالتشوه والاستلاب:" (الحاجة عذرا) ابنة الطوارق جاءت إلى هذه المدينة الساحلية الرطبة ذات صيف، آتية من أقصى الجنوب رفقة خليجي وسيم حضر وبالصدفة حفلة طلاقها، ونتيجة لعلاقاته القوية بذوي النفوذ في البلد، أسكنها حيا راقيا لا يصل إليه العاديون."16

حفلة الطلاق؟ حدث يكشف لوحده استثنائية المكون الأمومي في تركيبة المجتمع الطوارقي، تحتفل بطلاقها كما تحتفل بزواجها، سواء بسواء، تأكيدا على (الاستقلالية) التي تتمتع بها المرأة وسلطتها ومكانتها المركزية عند الطوارق الذين يستمدون معظم تراثهم الثقافي ونظامهم الاجتماعي الأوائل وملكتهم الأسطورية (تينهنان). مهما يكن فقد أنجزت البطلة عذرا تحولها المصيري في حياتها من تلك الاحتفالية العظيمة التي "كانت لا تنسى، ولا مثيل لها بين حفلات الطلاق في تاريخ نساء الطوارق."17 دعت إليها الجميع بمن فيهم أولئك الخليجيين الأثرياء الذين كانوا بجوارهم في رحلة صيدهم للغزلان والظباء والطيور الصحراوية النادرة. لم يكن هؤلاء الأمراء ومرافقوهم الأثرياء الذين استباحوا الصحراء وأشياءها النادرة الثمينة إلا أصحاب (الحاكم الأوحد) كما تسميه الكاتبة، الذي أباح لهم الصحراء والهضاب والفيافي الجزائرية يعيثون فيها فسادا بطائراتهم وسياراته الفخمة وأسلحته الفتاكة، ردا لجميل قديم، جعل البطلة نفسها تحتج بالقول: "لماذا لا يجازيهم من جيبه.. والله زمر."18 سوى أن الحاكم العربي لا يفرق بين الأوطان التي يحكها وأمواله الخاصة، بين الرعية والمواطنين، وليس في عرفه قانون، ولا تفريق بين الخاص والعام، تصير الأوطان أشياءهم كما تصيرهم بالفعل والقوة19.

وفي هذه الحفلة الاستثنائية تقرر الحاجة عذرا أن (تنتقم) بطريقتها الخاصة من هؤلاء الأمراء الذين استغلوا نفوذهم ومركزهم، وعلاقتهم بالحاكم الأوحد لاستباحة قدسية صحرائها ومخلوقاتها النادرة الجميلة، وذلك بان تقوم بدورها بـ(اقتناص) الأمير الوسيم الذي حضر حفلتها في من حضر، يدفعهم الفضول لمعرفة طقوس حفلات الطلاق التي لا وجود لها في بلادهم العربية البعيدة، فقامت بطقوس (إغرائية) غريبة ومثيرة في نفس الوقت، تبدو أشبه ما تكون بطقوس السحر، بغية اقتناص قلبه وعواطفه ومهجته، ولم تكن تلك الطقوس في مجملها إلا ارتفاع الأصوات بالغناء، وتناوح أصداء الدف وأوتار الأمزاد، واختلاط روائح الطيوب النفاذة والحناء، وارتفاع الحرارة وسط خيمة الوبر المنصوبة على مد البصر، تضافرت جميعا لتجعلها تقوم من جلستها (الملوكية) وتنخرط في (نوبة) رقص جميل متوحش تفتك بلب الأمير الوسيم، وما هي إلا جولات عاصفة حوله، غمرته خلالها بالحرارة المتفقة من جسدها الفوار، وأصابته في القلب سهام عينيها السوداوين المنطلقة من رحابة عينيها مشفوعة بالزرقة والطيوب ورنات الدفوف والزغاريد والرقص المجنون، حتى عادت إلى مجلسها وقلب الأمير سرق منه نهائيا وإلى الأبد: "ضيقت أهداب العين مني هكذا .. مثل قوس على السهم، ورميته فأصبته."20 على حد قولها وهي تروي لجليساتها لاحقا تفاصيل الحفلة ووقوع الأمير الوسيم في غرامها.

وفي الصباح، وكما توقعت وخططت بالضبط، جاءها رسوله وهداياه، رسول الأمير الوسيم "الذي كان آسرا، تتداخل سمرته النحاسية بما يشبه حليب النوق الرائب، وشفتاه تلمعان من بعيد مثل تمرة براقة وسط عرجون علق في أعالي نخلة."21 يطلب يدها وودها، وليسافر بها إلى الخليج، وإلى حياة الجاه والثراء والثقافة والحضارة والأضواء. من أجل ذلك كان (باب الوسيم) أول باب في الرواية وفي الحفر في أريكيولوجيا الطوارق وثقافتهم وهويتهم الفريدة التي تتوالى تمظهراتها مع سفر الحاجة عذرا في الزمان والمكان، من أقصى صحراء الجزائر إلى الخليج، ومنه إلى العاصمة ونادي الصنوبر، قلب العاصمة النابض بالغموض والأسرار.

2.      تينهنان/الميراث والأسطورة.
تحضر الملكة (تينهينان) في الخلفية المظللة للمكون النفسي والثقافي العميق لمختلف تصرفات البطلة عذرا وهي تجسد، تنميطيا، تحقق المكون الأنثوي الأمومي في مجتمع الطوارق، الذي بدأ فعليا منذ عصر الملكة المذكورة التي أسست مملكة (الأهقار) الطارقية في جنوب الصحراء الجزائرية منذ عصور سحيقة في التاريخ، لا يذكر قومها مآثرها إلا محفوفة بهيلمان الأساطير والخرافة والأحداث العجائبية الخارقة، الأمر الذي يجعل من استدعائها في النص لتفسير الخيارات المميزة لأحدى (وريثاتها/ عذرا) محض توظيف أدبي لميراث أسطوري يهيئ أسباب التخييل لقراءة الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر.

لقد لاحظ غريماس أن توظيف الأسطورة في الأدب هو إعادة تنشيط للمعنى وذلك   "بإعادة إدماج لفعل التدليل Le sémantisme في البنية الشكلية، مع الاختلاف الكبير، بالطبع أن الحكايات الأدبية تعبر عن أنظمة من القيم المفردنة، بينما تعبر الأساطير عن نظم القيم الجماعية."22 وهكذا تملك الأسطورة الأدبية تداخلا بين القيم الفردية والقيم الجماعية، فهذا الوضع الغامض للأسطورة في النص الأدبي يبرز من حيث "الجمع بين الوصف والتأويل، على السجل المزدوج للقصة (الحكاية) المؤسسة وللتمثل (الصورة المشفّرةimage codifié  "23، ومن ثم وظفت الكاتبة على غرار كتاب جزائريين كثيرين موروثات الأساطير والتراث الشعبي لتفتح نوافذ جديدة على التاريخ والمجتمع، حيث إن قراءة التاريخ من خلال الأسطورة "ستمكن الكتابة الروائية، التي تسترجع التاريخ، أن تحقق تأثيرا فعليا."24 على حد تعبير شارل بون.

وإذا كانت الأساطير تعبر عن نظم القيم الجماعية كما أكد غريماس، فهي بذلك تعبر عن الحامل الثقافي الذي أنتج الأساطير والرموز والحكايات والأمثال والفولكلور والثقافة الشعبية، وغيرها من المكونات المادية والمعنوية للثقافة التي عرفها  عالما الانثربولوجيا الأمريكيان كروبير (A.L.Kroeber) وكلوكهون (C.Kluckhohn) بأنها "تتكون من نماذج ظاهرة وكامنة من السلوك المكتسب والمنتقل بواسطة الرموز، والتي تكون الإنجاز المميز للجماعات الانسانية، والذي يظهر في شكل مصنوعات ومنتجات. أما قلب الثقافة فيتكون من الافكار التقليدية (المتكونة والمنتقاة تاريخياً) وبخاصة ما كان متصلا منها بالقيم. ويمكن ان نعد الانساق الثقافية نتاجا للفعل من ناحية، كما يمكن النظر بوصفها عوامل شرطية محددة لفعل مقبل."25 وعلى هذا الأساس يصبح "الفاعل الحقيقي في الابداع الثقافي هو الجماعات الاجتماعية لا الافراد المنعزلين."26 على حد تأكيد غولدمان.

من أجل ذلك انحاز النص إلى قراءة المجتمع الطارقي وثقافته قراءة أنثروبولوجية بواسطة السرد والتخييل وسواهما من الآليات الروائية المختلفة من حيث الجوهر عن التقنيات العلمية لعلم الأنثروبولوجيا، ولكنها تلتقي معه في الغاية العليا والهدف البعيد، إذ كان في وسع النص أن يعري شخصيته الرئيسة من امتداداتها الثقافية المميزة، دون أن يقصر النص عن قراءة الواقع وفق المنظور المرسوم سلفا، أو وفق إملاءات السياق الافتراضي الذي تتحرك داخله، كما كان بالإمكان أن تكون شخصية طارئة على المجتمع الطارقي كما هو الشأن مع بطل رواية (عيون الطوارق) الإسباني، الذي أنجز بدوره متنا أنتروبولوجيا تخييليا مهما عن مجتمع الطوارق، بيد أن ذلك كان سيفوت على النص إمكانية قراءة اللاشعور الجمعي الذي تحمله بطلة أنثى سليلة المجتمع الأمومي، كما كان سيفوته تقاطب (الهنا) و(الهناك) الذي استثمرته الكاتبة في قراءة تحولات مجتمع الشمال، والفساد السياسي المجسد في مربع (نادي الصنوبر) المكاني، بالإضافة إلى الاشتغال على فضاء العاصمة من خلال التشوهات المعتملة في المكان والإنسان معا. من هنا يستمد النص قيمته الأنثروبولوجية من حيث اشتراكه مع هذه الأخيرة في إعادة بناء "العالم الإنساني الذى يتحلّق حوله كل من العمل الأنثروبولوجي والعمل الروائى."27 بيد أنهما يظلان، على الرغم من اشتراكما في المادة الأولية التي يشتغلان عليها، مختلفين في الطريقة والأسلوب والأداة والمنهج، حيث يظل الأدب تخييلا بالأساس مهما أوغل في التفاصيل والشرح والتوثيق، وتظل الأنثروبولوجيا علما يحرص على برودة تعاطيه مع المادة تعاطيا علميا إحصائيا لا مجال فيها للعاطفة والخيال. ومن جهة أخرى أمكن النظر إلى الأدب نظرة شاملة حاولت الاستفادة من نتائج العلوم الإنسانية المختلفة بما فيها الأنتروبولوجيا التي تدرس "المؤسسات والتقنيات في مختلف المجتمعات."28 بما يجعل من معالجة النص الأدبي محاولة " تفكير حول مسألة التمثل  la représentati، ومنها على الأخص التمثل الرمزي، أي ذلك الإطار الأنثروبولوجي الواسع الذي يدعو لوضع النصوص الأدبية في مجموع الانتاجات التي يحاول الإنسان بواسطتها معرفة العالم، والآخرين، وبالتالي معرفة ذاته أيضا."29.

وعلى هذا الأساس بدا النص مشغولا بقراءة الشمال في مرآة الجنوب، والعكس، بحيث تبادل الموقعان النظر إلى نفسيهما في مرآة الآخر، فلم تكن دهشة عذرا وهي تكتشف العالم من حولها بأقل من دهشة الآخرين وهم يكتشفون سطوة الثقافة الموروثة والحضور المميز لهوية الطوارق المنسية في كل التفاصيل المتعلقة بشخصية هذه المرأة الاستثنائية الخارجة من عمق الصحراء، مجللة بالرموز والقيم ووضوح الشموس الصحراوية وقوة أهلها الراسخين في الزمان والمكان: "نظرتها تلك من تحت رموشها الطويلة مثل نمرة متوثبة خلف قضبان. تدفع الأرض بقوة قوائمها الأربع .. بارزة المخالب .. جاهزة للانقضاض .. لا .. أنا متأكد أنها لا تخطئ .. نعم هي الطارقية بدمائها الحارة قادرة أن تلتقط حركة مثل البرق، لحرباء تقفز فجأة لتختبئ في الرمل .. الشمس القريبة التي تربت تحتها، أضاءت بما يكفي نباهتها لتدرك ما لا تدركه الأخريات."30

تلك هي خصائص الشخصية البدوية الصرف، التي نشأت في الطبيعة البكر، وامتزجت بالأرض والسماء والرمال وعناصر الطبيعة، وتعودت منذ النشأة المبكرة أن تعتمد في معاشها وترحالها ووجودها على قدراتها الخاصة وشجاعتها في مواجهة الصعاب، تستقرئ السماء والنجوم وحركة الرمال والعواصف والعلامات الخاصة التي لا يفقهها إلا أهل البداوة الأقحاح، الذين علمتهم التجربة والطبيعة وخبرة الأجداد أن يستمدوا عناصر وجودهم من دواخلهم ومن محيطهم القريب ومن قدرتهم على التكيف النشيط معه. ولا ينفك ذلك من جزاء استثنائي يهبه لمن عاشوه بإخلاص، يهب النباهة والذكاء وصفاء القريحة وقوة الطبيعة، وذلك شأن معروف منذ أيام الجاهلية الأولى، فلم يخل الشعر العربي، ولا التراث عامة، من إشادة بالبداوة وقيمها الاستثنائية. وليس عجيبا أن تمتلك هذه الشخصية قوة مذهلة، تفيض بالسحر والجاذبية والأنوثة الموروثة من سحيق الأزمان الغامضة الملتبسة بالأساطير والغرابة: "نعم .. أنوثة تينهينان، تلك الأنوثة الأسطورية الرمزية التي ورثتها نساؤنا عن ملكتنا تينهينان .. المرأة في عرفنا لا تتعلم فنون الأنوثة فهي تولد بها ومعها، تدرك أسرارها بالسليقة، تولد وهي تجمع بين الجمال والشجاعة والحكمة والقيادة، مثل ملكتنا تماما."31 كأن الأمر لا يحتاج إلى تفسير لمكونات الشخصية الطارقية ذات النبل الساحر خارج نظام الوراثة والأسطورة، بيد أن البيئة وعناصرها الحيوية والفضاء والمكان لها سطوتها وفعلها الخاص الذي يمكن أن نفسر على ضوئه مختلف تمظهرات السلوك وملامح الشخصية، فالإنسان ابن بيئته في النهاية.

والطوارق أبناء الصحراء المخلصين: "الصحراء المتمردة رمالها، صحراؤها التي ترتمي لتبسط سحرها على ربع القارة الإفريقية حيث كان أجدادها الطوارق منذ آلاف السنين جزءا منها، من جنونها وصوابها، من هدأتها ويقظتها من ثبات صخورها التي تنتصب منذ أزل، غريبة الأشكال، عملاقة شاهقة، حتى لتكاد تبدو أبدية. كانوا جزءا من سر تحرك الرمال وهشاشة كثبانها، يعرفونها كما يعرفون كفوف أيديهم، ويقرأونها كما يقرأون حروف التيفيناغ، تتمرغ فوق حبيبات الرمل وتكلمها."32 للصحراء إذا يدين الطارقي بما في تكوينه من علو همة ورحابة أفق وشجاعة وتعلق بالحرية وشهامة وكبرياء، لا يعرف الحدود بل المسالك والدروب، لا يعول في وجوده على شيء خارج سلطة ذاته وشجاعته وأنفته، تعلم مبكرا فن الاختزال والاحتفاظ بالجوهري والأساسي فقط، فتعلق بذاته وفضائه الممتد وترحاله على حساب الارتباط بالأشياء والحدود والملكية الصغيرة. تعلم الشراكة الحكيمة في الماء والكلأ والفضاء ولم تختزله المسافات إلى حدود البورجوازية الاستهلاكية المتثاقلة إلى الأرض، فكان شموخه عنوان الحرية الظاهرة والضمنية، حرية الحركة والتنقل في الزمان والمكان التي تتيحها حياة البداوة، والحرية الضمنية التي يوفرها الخلاص من أسر الأشياء ودعة المدنية ورخاء الحضارة.

وللصحراء أيضا يدين الطارقي بشخصيته الاستثنائية، ونبله، وشموخه، وثباته على القيم العليا والمبادئ الموروثة، وصبره على المكاره، واحترامه للمرأة ذلك الاحترام الذي جعله يتنازل لها عن كثير من تبعات الذكورة في العالم شرقا وغربا، ووفى لها ذلك الوفاء الذي بوأها الصدارة في مجتمعه الصغير ذلك، لا يتزوج عليها، ولا يضربها، ويحبها ذلك الحب السامي الذي نقرأ، مشدوهين، نماذج من سموه ونقائه في حكايات العذريين العرب، وحتى المرأة الطارقية التي أنجبت ذلك الفارس الماجد أما، أو عشقته حبيبة لا تنفك تتصل بأسباب عديدة بتلك المرأة التي خلد حسنها ومآثرها شعراء العربية الكبار منذ آلاف السنين، في البيئة الجاهلية، وفي البيئة الإسلامية البدوية في بادية الشام والعراق والجزيرة العربية: "لست أدري بالضبط ما الذي يأسرني بها .. ربما لأنها تشبه حبيبات الشعراء الجاهليين ... طريقة لباسها لم تبدلها بزي آخر، وأساور الفضة تزهو في معصمها وعطرها الغريب المدوخ الذي يتغلغل فيَ دون رحمة .. لعل أكثر ما يشد نظري أنفها ذاك، عال مستقيم دقيق وكأنه يرفع السماء على قمة أرنبته."33

تلك هي الهواجس التي عبرت رأس عاشق عذرا الأخير، المتعلم، خريج اللغة العربية وآدابها، تقاطعت في ذهنه صور التراث والحداثة، فأحدثت المفاجأة التي تمخضت عن لهفة وعشق وحيرة ودهشة ملتبسة بهذه الشخصية الواقفة على الحافة الحادة بين الماضي والحاضر، التاريخ والراهن، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، تلعب ببراعة بهلوانية على حبل الزمن والسياق بلا مشقة تذكر، أنفها الشامخ ولباسها الأزرق، وعطورها الغامقة الغامضة، وأسلوبها الآسر للعشاق، ووفاؤها العميق لهويتها وتاريخها ووجودها المسحوب من غابر الدهور، كلها عوامل تضافرت لتجعل منها (أيقونة) سيميائية حاملة لخصوبة دلالية استثنائية في سياق العالم المفتوح على أعاصير العولمة، وثقافة الاستهلاك وما تقتضيه من ضحالة وسطحية وافتقار إلى المعنى والعمق والأصالة. في هذا النسق الثقافي السطحي المتعجل على الدوام، تصنع عذرا فارقا جوهريا ملتفتا إلى الأعماق ومتشبثا بالجذور، ومفعما بالسحر الأسطوري الموروث عبر تراكمات الخبرات والسنين: "في قرارة نفس عذرا سليلة الملكة تينهينان لا تغفر لنفسها أن تكون أقل منها ... لا تكتفي بنصف اشتهاء، ولا يرغب فيها كما اتفق .. لا .. إنها لا ترضى إلا بقلب كيان من يقترب منها رأسا على عقب...(أنا التي أختار، أنا بنت الطوارق)."34

لا يمكن لهذه القدرة العجيبة على الامتلاك أن تنبت من فراغ، ولا يمكن للأنوثة الممتلئة الآسرة بمضامينها ومعانيها أن تنجم فجأة وبلا مقدمات، لأنها، في العمق، تراث وثقافة وحضارة، وإرث أنثوي سليل (السيادة) التي احتازتها المرأة في بيئة الطوارق ومجتمعهم وفلسفتهم. مزيج عجيب من معاني الذكورة والأنوثة والشموخ والنبل والزهو الذي تزرعه الصحراء والآفاق الرحبة والفضاء الممتد، وغياب الحدود، ومسؤولية الرعاية للذاكرة الجمعية والهوية والتاريخ، كلها اجتمعت واستقرت في أعماق المرأة الطارقية، قبل أن تتجلى سحرا وغموضا وعذوبة وجاذبية، هي في النهاية جاذبية الشخصية المتميزة والتاريخ والثقافة والقومية جميعا.

وذلك ما يفسر جزئيا تشبث عذرا بأسلوبها الموروث في اللباس والعطر والحياة، حتى وهي تعيش في الخليج مع الأمير الوسيم، في كنف الجاه والثراء والملابس الثمينة والحلي الفاخرة: "عدلت من ثوبها الطارقي فوق كتفيها، لباسها الذي لم تتخل عنه أبدا ولم تغيره، ولم تفتنها أشكال العباءات الخليجية الأنيقة، الجميلة، الثمينة، التي يشتريها عبده ويهديها لها."35 وهكذا يصبح التشبث بالموروث الثقافي مبدأ حضاريا، وموقفا من الحياة نفسها، هو الموقف نفسه الذي يفسر استمرارية الهوية الطارقية نفسها في الوجود على الرغم من كل الشطط الذي عاشته بما فيه الاستعمار الفرنسي نفسه الذي استحدث الحدود الجغرافية في وطن الطوارق العابر لجغرافيا الدول التي حددتها مسطرته الاستعمارية، وعلى الرغم من سعيه لفرض حياة الاستقرار في المدن والقرى عليهم بدل البداوة والترحال: "ولكنه على الرغم من كل قوته وجبروته لم يستطع أن يكسر دواخلنا أو أن يمحو جوهرنا أن يبيد حقيقتنا، أو يضخ في نفوسنا وأجسادنا من روحه وريحه ... لم يستطع أن يصل إلى قوتنا الداخلية ولم يفلح في تدمير اللؤلؤة العصية على الكسر داخلنا. رجالنا فرسان زرق. ونساؤنا حافظات العهد."36

أما زرقة الرجال والنساء فللأثواب السابغة الزرقاء التي يتلفعون بها، واسعة لا تعيق الحركة، وخفيفة تناسب حرارة الصحراء، وزرقاء كالأفق الرحب والسماء والبحر، توحي بالامتداد والسعة والخلود، كخلود البحر والسماء والأفق المديد، وللطوارق من الثبات والأصالة والصمود ما يوحي بتلك المعاني كلها ويفيض عليها بخصوبة الخيال وثراء الثقافة الموروثة، وعمق الهوية المتجاوزة للآني والمرحلي والجغرافيا، ورسيس الأساطير والرموز المتمظهرة في الحلي واللباس والوشم وحكايات الأولين، ومعالم السيرة الأسطوربة الباهرة في مخلفات الملكة الأم، الملكة المؤسسة، الملكة الهوية التي أرست في أعماق السلالة كثافة الرمز والأسطورة وخصوصية الهوية وما "تقوله جزئيات السلوك اليومي، أي ما يصنف عادة ضمن (الثقافة)."37 وضمن هذه الثقافة نفسها يندرج اللباس الطارقي المعروف بزرقته وسباغته، حيث إن "طريقة اللباس تحددها إكراهات الزمان والمكان والطقوس، وتحددها حالات النفس أيضا."38

ولا ترتبط الطقوس بالممارسة الدينية كل الوقت، بل تكون أحيانا ترجمة عملية لتصور خاص عن الذات، وعن الهوية، وعن فلسفة الوجود الخاصة، بما يجعل (السباغة) المشار إليها آنفا في لباس الطوارق ذكورا وإناثا، تصورا مخصوصا لمفاهيم الذكورة والأنوثة، لا تحتاج إلى اللباس الضيق الفاشي في مناطق الشمال لتعبر عن المعنى المستتر وراء الضيق أو العري، فما "يقدمه اللباس (اللاصق) ذاته ليس حالة محايدة خالية من الشكوك. إنه يشكل حالة انزياح صريح عن المعيار، فهو يمثل حالة (فائض في المعنى)، أو حالة إشباع قصوى لا تمنح العين فرصة البحث عن المداخل والمخارج. فكل شيئ معطى بشكل مسبق، لقد أسلم الجسد كل مفاتيحه للعين التي عوض أن تتأمل جغرافيته المتوارية في خطوط خجولة، أصبحت منه في خشية من التلبس بالنظرة الفاضحة."39

الواقع إن أسلوب الطوارق المخصوص في اللباس، يعبر بدرجة عميقة عن حالة الحياد التي يرغبون في التعبير عنها، الحياد بمعناه العميق الذي يصرف النظرة العجلى، ويأبى أن يبوح بأسراره لأول ناظر، ويترفع عن التبذل والسطحية وقرب المأخذ، فكما تتأبى عذرا عن عشاقها؛ ولا ترضى بأنصاف الحالات العشقية قبل أن تقلب حياة عاشقها رأسا على عقب، كذلك يرفض الطوارق الإفصاح عن أعماقهم لأية نظرة؛ كأن العمق والثراء والخصوبة الضمنية المستقرة في دواخلهم تمتلك فائضا كبيرا من الثقة في المستتر والمغيب. فلا تبوح بأسرارها لأول عابر، كما تعبر، من ناحية أخرى، عن الفخر والأنفة والإباء والاعتداد بالنفس والترفع عن السطحية والابتذال. وإذا كان رجل الشمال المشوه من داخله يستمد كل معانيه من المال فإن "الرجل الأزرق كل رجولته وقوته وجماله وفتنته تنبع مما يملكه في ذاته، من كرمه، من مروءته، من ظله المنسحب بسخاء على الرمل ... من شجاعته وإقدامه، ومن أخلاقه العالية التي تلقنها له أمه، ومن فروسيته وبلائه الحسن في كل ما يواجه وجوده من أخطار، ومن معرفته بأسرار الصحراء."40

من الصعب على أمة أولئك رجالها وفرسانها أن تذوب في الوافدين أو تستعير ثقافتهم وقيمهم؛ بله أن تذوب فيهم وتفقد عراقتها وأصالتها؛ لأن القيم التي يتوارثونها جيلا بعد جيل، قيم صميمية تقع في جوهر الروح وليس في قشور المدنية. تتصل بالمضمون والمعنى العميق وليس بالكسوة المستعارة، وتتعلق بالجوهري في الحياة الإنسانية وليس بالهامشي أو الفائض عن القيمة: "أبا عن جد، شمسا عن شمس، ولا أحد يستطيع أن يطفئ شعلة العشق الدائمة بيننا وبين صحرائنا .. إنهم يريدون اغتصابها منا، نحن أجزاؤها وأسيادها وعبيدها وخدامها وأبناؤها، سنهزمهم بالصبر وقوة العشق، لا سلاح أقوى وأمضى من العشق، وعشقنا للصحراء لا حدود له."41

الواقع إن الصحراء والحالة العشقية الفريدة التي يعيشها الطوارق معها، هي وحدها القادرة على تفسير العمق الروحي والنبل والشموخ والاستعصاء على التلاشي في تاريخهم المليء بالملاحم والأساطير والمخاطر، الصحراء الممتدة والسماء، والكواكب المشرفة على الآفاق البعيدة، والارتباط العضوي بالفضاء ومكوناته الممعنة في القدم، كانت دوما موطن الوقائع المدهشة، والنبوّات، والشعر، والفن الذي ينحت تفاصيله من أعماق الإنسان المحتفظ ببراءة الدهشة الأولى؛ قبل أن تشوه صفاءه وبراءته أسواق الاستهلاك المكتظة بالسلع والقيم الوافدة والثقافات المفرغة من ثراء الروح الذي ما زال يحتفظ به الطارقي في عالم معاد لا ينفك يهدد استقراره ونبله وهدوءه الروحي العميق. ظلت الصحراء، على مدى الأزمان، قلعة الطوارق التي احتموا بها من هجمات الطارئين على فضائهم البكر، أعطوها حياتهم وعشقهم اللامحدود فكشفت لهم عن أسرار الخلود المستقرة في أعماقها المغيبة عن الطارئين والفضوليين: "من يملك تلك العلاقة العضوية السرية مع السماء غير أجدادي الطوارق (تقول عذرا)؟ يكلمونها وتكلمهم عن الظل والضوء. من غيرهم يقرأ آثار الخطو، ويفسر الأصوات البعيدة، وروائح الماء والشجر والمخلوقات من مسافات مديدة؟ من غيرهم يحدث النجوم والكواكب، فتدلهم معرفتهم بلغتها ورموزها على الطريق وعلى تبدل الفصول؟ من سواهم يملك بوصلة الطريق في صحراء مترامية الضياع، لا معلم يحدها غير هسيس الرمل والصمت. بوصلة يولدون بها من أرحام أمهاتهم معلقة في جباههم مثل عين ثالثة، يدركون بها وبدقة متناهية موقعهم ووجهتهم، فلا يضيعون البتة في غياهب الصحراء؟ الصحراء أمهم الأولى .. الصحراء ظل تينهينان ملكتهم."42 تلك الخبرة العميقة الموروثة بالصحراء ومسالكها، وتلك العلاقة (الأمومية) الحميمة التي تجعل من الصحراء أما وملكة محبوبة/ تينهينان، وجنسا، وقومية، وهوية، تصبح هي مقومات الحياة نفسها، من حيث هي استمرارية وديمومة ورسوخ، تفسر الصمود واستمرار النوع من حيث تبين المقومات الداخلية للشخصية التي هزمت عوامل الهدم والغزو والتلاشي.

3.           المرأة/ حافظة العهد.
ولا يمكن أن نفهم تلك المقومات الداخلية العميقة بعيدا عن عنصر المرأة الذي تعلقت به هوية الطوارق كلها، حيث ظلت محور الهوية الطارقية وقلبها النابض، وكتابها القديم الراسخ الذي تستمد منه المعاني والمضامين والأفكار وعوامل الاستمرار، من حيث تستمد هي الأخرى أسطورتها الشخصية وسحرها وعنفوانها وعمقها الباهر من مركز ثقل تاريخي عميق يمتد إلى الأم المؤسسة، الأم الملكة، الأسطورة المعنى والمثال الذي تسعى إليه المرأة الطارقية بكل قوتها وجهدها، ونعني به المكلة تينهينان نفسها، فقد بقيت أمجادها وبطولاتها محتفظة بحرارتها وقوتها الإيحائية التي ما زالت تلهم إناث الطوارق وتدفعهم إلى تجاوز مضايق الظرفي والآني إلى آفاق الأساطير الخالدة. لقد أسلفنا التعليق على مقبوسات عديدة ظهرت فيها البطلة عذرا  وهي تؤكد وفاءها لسلالتها وملكتها وأسطورتها الملهمة، وما انفكت تستدعيها في مختلف المناسبات، وتعزي إليها فضائل شخصيتها الاستثنائية، وتستشير ذكراها مؤكدة وفاءها للنموذج/ النمط الأعلى القائد والملهم: "تعالوا أقول لكم .. لم أنس لحظة واحدة أنني سليلة ملكة. أنا تينهينان أخرى، مثل أمي وجداتي وجدات جداتي، أليس من الفخر لامرأة مثلي أن تكون سليلة ملكة؟ نساء الطوارق نحن، جميعنا نأخذ قوتنا من روح تينهينان الساكنة فينا."43 ولا يخلو ذلك (التقمص) العجيب من تفسير للقوة والصلابة والشجاعة والمجد التي تتمتع بها الطارقيات جميعا، لأنهن يستمددن مقومات شخصيتهن الفريدة من نموذج فريد هو نموذج تينهينان نفسها: "أليست هي تينهينان التي، منذ ألف عام قبل الميلاد، جمعت بين الجمال وحكمة القيادة، من وضع على رأسها تاج أول ملكة على قبائل الطوارق، بعد أن توحدوا تحت ظلها الوارف، فقادتهم بحكمة على الرغم من الظروف القاسية، ولم تتردد في حمل السيف كأية فارسة تتقدم جيشها وتقوده دفاعا عن وجود قومها وفلسفتهم في الحياة وشرفهم .. إنها الأنثى تينهينان."44

وبسبب من ذلك النسب الاستثنائي، ومن ذلك النمط الأعلى المستقر في الشعور القومي لنساء الطوارق، ومن نموذج المكلة الأم والمرأة والنموذج في الوقت نفسه، أصبح المجتمع الطارقي مجتمعا أموميا ينزل المرأة منزلة خاصة في سلم تراتبيته الاجتماعية، منزلة أفاض عليها الزمن هيلمان القداسة، وتولت هي نفسها الحفاظ عليها من خلال الحفاظ على دورها الاستثنائي الذي أولاها إياه المجتمع الذي تعيش في كنفه، فهي المرأة الام المدرسة بالدرجة الأولى: "ومعلمة (التيفيناغ) كتابتنا الجميلة التي لولا المرأة التي تنقلها جيلا بعد جيل على الرغم من توالي القرون لأصبحت من خبر كان."45 وعلى هذا الأساس لم تعد الطبيعة الأمومية لمجتمع الطوارق خصيصة إثنية رسخها ضعف الرجل أو قلة سطوته وفحولته، بقدر ما هي نتاج طبيعي للدور المحوري الذي تقوم به الأنثى في تأبيد الهوية وحفظ التراث وترسيخ الذاكرة الجمعية.

لقد احتازت المرأة الطارقية مكانتها الاستثنائية تلك من خلال الوظيفة الثقافية العجيبة التي تنهض بها وسط القبيلة، لأنها "الوتد الأساسي في خيمة الطوارق، هي ملقنة الكلام، وهي الشاعرة، وهي العازفة، وهي المغنية، وهي الحكيمة التي ينصت لصوتها ولأشعارها الحاملة للفلسفة والتاريخ."46 هي بعبارة أخرى المؤسسة الثقافية برمتها، تتولى المهمة الثقافية المتعلقة بالرموز والمضامين والذاكرة الجمعية التي لا تحتل صدارة الاهتمام عند الرجل الطارقي المشغول بالوجود المادي الصرف، كأنهما يتقاسمان مهمة الحفاظ على النوع بحكمة واعتدال، لأحدهما مهمة رعاية المعنى والروح وللآخر مهمة رعاية المادة وأسباب المعاش، ولا ينفك الوجود البشري في كل الأحوال من مادة وروح، من ظاهر ومضمون، بل تصبح المضامين بما هي مرادف للرموز والشعائر والذاكرة والتاريخ الخاص أحيانا أكثر أهمية من مقومات الأبدان في الحفاظ على استمرار الهوية الخاصة المعرضة للتلاشي في معمعان الحروب والغزوات والكوارث.

هذا وقد ارتبطت وظيفة المرأة الطارقية بأخطر مهمة ثقافية على الإطلاق، وهي مهمة الكتابة والقراءة والتعليم، تتولى بنفسها تعليم أولادها ميراث الأجداد، وعنوان الهوية، وأسرار السلالة، تعلمهم كما تعلم الإناث صنعة النساء ورعاية الرجال، كما تعلمهن وظائف البيت وشغله وروتينه اليومي، وتلقن الفتيان منذ حداثة الصبا الأول تقاليد الفروسية وخصال النبالة والشرف الطارقي: "كل الأمهات الطارقيات يدرسن أبناءهن، هن المدرسة، والمعلم، والمدير، والحارس العام، والمفتش، ووزارة التعليم. الأمهات الطارقيات يكتبن على سبورة الأرض، من رمل صاف رائق مثل ذهب ذائب .. رغم العواصف الرملية، وتحرك الكثبان، وتغير التضاريس، تظل كتابة التيفيناغ التي تعلمه الطارقيات لأبنائهن واقفة ضد النسيان، منتصبة حية ناطقة."47 كانتصاب هامة الفرسان المتحركة على رمال الصحارى بفخر لا يضاهى، ومجد ونبل لا ينبت في مواطن الشظف والروح والفن والتشبث بقيم موروثة مخلصة لذاتها ولنسقها الخاص، تكسرت على صلابتها وعنادها جحافل الاستعمار الذي صادر الأرض، ونصب الحدود، وأنشب أظفاره في خيامهم التي ظلت منتصبة على الرغم من شطط التاريخ وشراسة الجغرافيا. وظلت النسوة تنسج بالوشم خطوط التاريخ والهوية كما ينقشن على الرمال حروف الكتابة ومفردات اللغة، وخرائط السفر في فضاءات الصحراء اللامحدودة، تجاوزا للحدود المصطنعة، وتأبيدا لتراث الرحلة والأسفار والإرث والذاكرة، لا غرو إذا من أن تظل "منذ بدء التاريخ، هي أغلى الكنوز، تمثل الشرف المجسد، لا تُنهر، ولا تقهر، وكرامتها لا تُهدر، والمساس بقيمتها إدانة لجوهر وجود الطوارق، ولتاريخهم وكينونتهم، هي الذاكرة العتيقة الحية التي لا تفوتها شاردة ولا واردة، النساء عندنا (تقول عذرا) هن الحافظات الصادقات لكل تفاصيل حياتنا عبر الأيام والسنين والقرون."48

لقد انبرى النص منذ صفحة الإهداء المبيضة بخطاب مقدماتي موجه للطوارق والصحراء ومغنيها الكبير (عثمان بالي)، إلى إرساء لحن الخطاب على الإشادة بالاستثناء الطارقي في الحفاظ على الهوية والكينونة الموروثة والذاكرة والثقافة ونظافة السلالة، على الرغم من عتو الأخطار المهددة والاستعمار وتوالي المحن وتردد الغزاة، حيث قيض لمنحاه (الثقافي) ذلك شخصية (عذرا) التي كشفت مع توالي السيرورة السردية انطواءها على تفاصيل الذاكرة الجمعية لمجتمع الطوارق، ولاسيما قوة الاستمساك بالتقاليد، والحرص على استدعاء الذاكرة الثقافية الخاصة واستلهام مبادئها وقيمها وهي تضطرب في معمعان الحياة واختلاف الثقافة التي عبرتها في رحلتها الحياتية من أقصى الجنوب الجزائري إلى ضفاف الخليج العربي ثم منتجع السلطة والمال والنفوذ في نادي الصنوبر بالعاصمة الجزائرية.

كانت (عذرا) المجسدة لقيم الطوارق وثقافتهم تتحرك بحذر في أوساط معادية تماما، منذ اكتشافها أن الأمير الخليجي الوسيم، الذي هام بها وتزوجها وطار بها إلى قصوره الفخمة وثرائه الباهر في الخليج، متزوج بامرأة أخرى قبلها، وأنها زوجة ثانية قد تجيء بعدها ثالثة ورابعة، وهو أمر لا وجود له في مجتمع الطوارق الأمومي الذي ظل، على الرغم من إسلامه، متشبثا بعاداته القبلية الموروثة، يسود المرأة، ويقدسها، وينزلها منزلة فوق نساء المجتمعات الذكورية الأخرى، ومنذ ذلك الحين، وذلك الاكتشاف المذل، لم تتردد (عذرا) لحظة في عزمها على ترك الأمير الوسيم وقصوره وثرائه وذهبه ولآلئه، لم يغرها شيء من ذلك، ولم  يتمكن من تغيير عاداتها الطارقية الموروثة، في اللباس والزينة والسلوك اليومي، واكتشفت مذعورة أن صحراء الخليج صحراء اصطناعية لا شيء فيها من صفاء صحرائها وحميميتها وأصالتها، تنازلت بسهولة عن موروثها لغزو المنتجات الصناعية والاستهلاك وفشو الآلة.

وعند استقرارها في العاصمة، في العقارات الفخمة التي أهداها لها الأمير الخليجي، لم تتورع لحظة من انتقاد التشوه والاستلاب الذي شاهدته في تفاصيل الحياة اليومية لناس العاصمة، وفي صحبة الفتيات اللواتي اكترين شقتها الثانية راحت تعقد جلسات حميمة تستدعي من الجنوب البعيد (قعدات) الشاي والحكي والغناء والعزف على (الإمزاد) آلة الطوارق التراثية العجيبة. تفتح لهن القلب والذاكرة وتسوق في حكي مشوق تفاصيل التراث الطارقي وعاداته في الزواج والحب والحرب، والمكانة الاستثنائية التي تتمتع بها المرأة الطارقية، تفاصيل وظيفتها الثقافية في حفظ التراث والأغاني والأساطير وحكايات الأجداد، قبل أن تشعر مرافقاتها بأنهن بصدد امرأة لا تشبههن، امرأة تحمل في ثناياها سحر الصحراء وغموض مسالكها وقوة المكلة (تينهينان) نفسها: "نعم لقد افتكت الحاجة عذرا هذه الطارقية الآتية من مسكن الشمس إعجابنا ثلاثتنا، فلم نعد مجرد مستأجرات مؤقتات غريبات لشقتها، بل أصبحت بالنسبة لنا مثل الدليل الثمين البارع، مثل البوصلة التي لا تخطئ. تأسرني قدرة الحاجة عذرا على إشاعة الفرح حولها، وتمكنها من أن تكون دائما إيجابية، أن تكون عملية، قابضة على لجام المصير، لا وقت للتأوه ولا مكان للشكوى."49

الواقع إن هذه المميزات الفارقة في شخصية (عذرا) لا تكشف عن كل ثرائها ومضمونها إلا بالمقايسة الفضائية بين «الهنا» و«الهناك»، بين هناك الصحارى والهوية المتجذرة، وهنا الشمال والاستهلاك وظلال الهويات المتداخلة المشوهة والمريضة، ومن ثم يبدو الإعجاب الذي أبدته النسوة بمثابة الإقرار بصلابة الدليل وقوته ووثوقيته التي أنجزتها قيم الوفاء للأصل والتاريخ والذاكرة الخاصة، قيم تشكل لوحدها مكونات الدليل المنتصب للهداية وسط دياجير الهويات المتقاتلة، والثقافات الوافدة، وتشابك القيم التي حملها الغزاة قديما، وتحملتها وسائل الإعلام ومنتوجات الصناعة وبضائع الأسواق حديثا. وهكذا تصبح الهوية الواضحة التي لا يعتريها اللبس والشك والحيرة مرادفا للفاعلية والإيجابية والإنجاز ووضوح القصد، والثقة في الذات والموروث والحاضر والمستقبل جميعا. وهذا ما عناه مصطفى سعيد بطل الطيب صالح في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) عندما أشاد بـ"الذين يقرأون بلغة واحدة، وينظرون بعين واحدة "، فقد كان يؤكد، على نحو ما يؤكد النص الذي نحن بصدده، بأن الهويات الممزقة بين الألوان واللغات والمشرق والمغرب تظل مضطربة في مقصدها ووجودها، ولا تعطي أصحابها القوة الداخلية اللازمة لإنجاز الحاضر والمستقبل.

وعلى هذا الأساس أصبحت (عذرا) وخلفيتها الثقافية الطارقية نموذجا للرسوخ والثبات والوضوح والتماسك وتضافر الماضي والحاضر، بلا زيف ولا اصطناع ولا انجرار أعمى وراء الأمزجة الثقافية الاستهلاكية التي أصبحت عابرة للقارات والسماوات والهويات جميعا، وهو المنحى الاستثنائي البارز الذي أضفى على الطوارق وثقافتهم تلك الجاذبية الغامضة التي لا تخطئها العيون والقلوب.

4. المدينة/ الهويات السليبة.
وعلى خلاف الجنوب/ «الهناك» ذي الصفاء الخلاب، والنقاء الباهر، والأصل الأصيل المتشبث بالذاكرة والجذور، يحضر «الهنا»/ المدينة موئلا لكل التشوهات التي خلفتها عربات العابرين والغزاة والمستعمرين، حتى أصبحت في تحققها الرمزي الأخير (نادي الصنوبر) عتبة لعالم يموج بالقهر والفساد والانحدار صوب قيعان الإنسانية التي أخطأت رسالتها ونبلها، كأن لاوعي النص العميق لم يشتغل أساسا على ثيمة الهوية الطارقية النقية إلا ليندد بالتشوه والفساد والاستلاب الذي تعانيه هوية الشمال/ العاصمة، على الرغم من اشتراكهما في المصير وحدود الوطن الواحد، وقد أمكن التسلل إلى ذلك اللاوعي الذي يبدو لوحده غاية كافية للقراءة والتحليل من "خلال استحضار ما تنتجه اللغة الواصفة والساردة عبر مضامينها كما تشير إليها السياقات المتحققة أو الضمنية أو الموحى بها، وأيضا من خلال كل التقنيات التي يستعملها السرد من أجل تحديد بنائه وصياغة أكوانه الدلالية."50 من أجل ذلك كان توطين الشخصية الأساس، الطارقية عذرا، المحملة بتراث الطوارق الثقافي ورموزهم وأساطيرهم في القلب النابض للحياة السياسية والاقتصادية في الجزائر الحديثة، نادي الصنوبر الحامل لدلالات سلبية ملخصة للمأساة الوطنية وخيارات السلطة، وعنوانا بارزا للفساد المستشري في دواليب الدولة، سعيا لتحقيق التسريد والتوصيف من داخل منظومة الفساد، ومن داخل الحميمية الشعبية نفسها، بالاشتغال على محنة الفتيات اللواتي أجرت لهن شقتها والتبست معهن بعلاقات إنسانية مفعمة بالطيبة الصحراوية وسخائها، على نحو ما حصل مع (مسعود)، خريج الأدب المسكون بها حد التهلكة، والأمير الخليجي الوسيم، والعاصمة، والخليج، ووهران، ونادي الصنوبر. كلها مكونات نصية تشابكت مصائرها في الرواية لتبني مضامين الهويات والثقافات والإيديوجيا، تصريحا حينا، وتلميحا أحيانا كثيرة، فـ"(الأنا) و(الهو) وكل الضمائر الصالحة لنقل تجربة حياتية ما تشكل بؤرا للأحكام والمسبقات، أو هي الأدوات التي تسرب من خلالها الثقافة أحكامها وتصنيفاتها ومواقفها."51.

وقد تسربت الأحكام الثقافية لفضاء الشمال/ العاصمة من خلال عيون (عذرا) الناقدة، ووعيها المتيقظ، وسلم قيمها الموروثة، وشبكة التصورات الخاصة بمجتمعها البعيد، فجاءت أحكامها عميقة طازجة شديدة العمق والنفاذ، شأنها شأن النظرة الجديدة البريئة التي لم تضببها العادة والمألوف فصارت بها الأشياء ملساء عديمة النتوءات والحدود والخصوصية، واستطاعت النفاذ إلى وراء ظاهر الحياة الفاشية لتلمس عن قرب عمق التشوهات التي أصابت تركيبتها العميقة، فانحدرت صوب أقبح ما يهيئه العمران والحضارة، وأسوأ ما يسببه الحرمان من قيم البداوة والصحراء وبراءاتها المفعمة بالنبل والكرم والعمق:" الناس هنا (العاصمة) البسطاء منهم طبعا، هؤلاء الذين يمتلئ بهم الشارع، هؤلاء الذاهبون من مساكنهم في الصباح الباكر، العائدون على الساعة الخامسة أو السادسة من إداراتهم وأعمالهم ووظائفهم، لا حياة لهم تذكر. يخرجون صباحا شاحبي الوجوه منحني الظهور، يتكدسون في الحافلات أو في الشوارع المكتظة بالسيارات، حتى لتبدو وكأنها سيل عارم من الحديد، ثم يعودون في المساء متعبين، منكسرين، أكثر ذبولا وشحوبا من الصباح...ينامون مبكرا مثل الدجاج في خمه ليستيقظوا في اليوم التالي من أجل الدورة نفسها، فلا تختل الدورة تلك إلا بالمرض. ثم يموت الشخص هنا فلا يسمع رفيف روحه حين يودع."52.

ولا تنسى أن تقارن بسرعة بين نمط الحياة الحضرية العاصمية وتلك التي يزجيها أهلها في أحضان الصحراء وتقاليدها المفعمة بالدفء والحرارة والحيوية والنشاط، حياة تحتفل بنفسها في الأفراح البسيطة ولا تودع موتاهها بالصمت والنسيان واللامبالاة، ولا تنسى نفسها في طاحونة الروتين اليومي والملل والأيام الممسوحة المكرورة بلا حرارة ولا شغف، لا تقيدها الوظيفة ولا بؤس طقوسها القاتلة للحس والوجدان ولسحر المغامرة والاكتشاف. على خلاف الانغلاق والاكتظاظ والإيقاع السريع المجنون يأخذ الطارقي ما يكفي من الوقت ليتأمل الطبيعة من على ظهر مطيته السائرة على بساط الرمل الذهبي بتؤدة وأناة، يحضر الشاي ويوزعه على المتحلقين على النار بهدوء، وهو يسمر ويروي الحكايات ويستمتع بموسيقى التندي المتصادية مع إيقاع الحياة الصحراوية المحتفية بالوقت والتفاصيل والصمت والسكينة، مدينته خيمته، وشارعه ومدينته يمتد امتداد الفضاء اللانهائي، لا يزعجه ضجيج ولا اكتظاظ ولا سوء جوار، ينتقي من مضارب الصحراء ما يروق له، ويقيم في أرجائه ما أسعفه الشغف، ثم لا يلبث حتى يطوي خيمته ليسافر في الامتدادات البعيدة ممتطيا صهوة الحرية التي يعبدها.

الطوارق وحدهم، والبدو الرحل عموما، من يمتلك هذه الفلسفة المكانية الخارقة، التي تضرب المكان في قلب اللامكان، تختصر المكان السكني المستقر في جميع الحضارات في خيمة قابلة للطي بأشيائها وتفاصيلها وحميمتها، ثم يعاد نصبها في أي مكان دون أن تفقد شيئا من حميمتها الخاصة وعلائقها الاستثنائية التي ينشئها الكائن بالمنزل الذي يسكن فيه، والذي يتسع رمزيا ليصبح قوقعته الوجودية التي تحتضن عبوره الآني لهذا العالم، وتصبح عنوانا له ودليلا عليه ومبررا كافيا أحيانا للعيش أحيانا على حد تعبير غاستون باشلار الذي أكد بأن "الإنسان لا يبني بيتا ليعيش فيه ولكنه يعيش ليبني بيتا."53 فهو قوقعته ومأواه على حافة العالم، يختصر أحيانا معاني الوطن وحميمية الأمكنة الأليفة التي يتخلى فيها طواعية عن إكراهات الخارج ورسومه وجديته وصرامته، ويتوازى مع مراتع الصبا وشقاوات الطفولة وبدايات انفتاح الوعي الساذج على العالم وتعقيداته المخيفة.

لا يحضر المكان الطفولي إلا مشفوعا بغلالات الحنين، على النحو الذي دفع (عذرا) إلى استدعاء الجنوب إلى شقتها العاصمية، فرشتها بزرابي الطوارق وبثت في جوانبها مكونات الخيمة البدوية من أعشاب طبية وعطور وبخور وآلات، وجردت نوافذها الواسعة من الستور كي لا تحجز أشعة الشمس البهية من الاستلقاء على أرضية الشقة كالخيوط الذهبية. وقبل ذلك لم يسل قلبها عن خيمة الطفولة قصور الخليج ورياشها وأثاثها الفاخر الثمين، وظل الحنين يشدها بقوة حتى استسلمت لقبضتها القوية ذات صباح فحزمت حقابها عائدة إلى عائلتها في عمق الجنوب بعدما تخلت عن شقتيها لرفيقتيها ولمسعود عن قصر نادي الصنوبر، في أريحية وكرم راسخين لا تنبتهما في الأفئدة إلا خيمة الطفولة الطارقية بمتاعها القليل المتسامي عن عبودية الأشياء وجاذبية الحضيض التي يمارسها المال على عاشقيه.

لو لم تكن (عذرا) ابنة الخيمة الطارقية المستعصية عن جاذبية الحضيض نحو الثراء الداخلي الممتلئ بمعاني الشهامة والنبل والكرم، لما استطاعت أن تكشف عمق التشوهات التي أصابت هوية الشمال المفتوحة كالثوب المخروق على كافة الثقافات العابرة، ولما استطاعت أن تعلو عن سلطان المال الذي استعبد ناس الشمال وطوقهم بالصقيع والزحام والضجيج والرطوبة والحرص والخواء الداخلي. المكان وحده إذا جعل من (عذرا) شاهدا حياديا قادرا على قراءة عمق التفسخ والتشوه والانكسارات العميقة في شخصية الشمال السطحية الباردة، من خلال استقطاب عالمين مختلفين يتناظران في مرآة وعيها بعمق وحضور قويين، عالم الجنوب المسكون بالتاريخ والتشبث بالذاكرة والجذور، وعالم الشمال الفاقد الذي اغتصبته الغزاة والعابرين على سطحه أفواجا أفواجا منذ فجر التاريخ. عالم متجه بكليته نحو الموروث والماضي ليس كله خيرا، وعالم منصب على الحاضر والمستقبل ليس هو الآخر كله شرا.

 

جامعة البليدة 2 / الجزائر

 

الهوامش

1.         ربيعة جلطي، نادي الصنوبر، منشورات الاختلاف، ط/1، الجزائر، سنة/2012.

2.         ترجمة عبدو زغبور، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، ط/1، سوريا، سنة/2006.

3.         مقدمة المرجع نفسه، ص:08.

4.         نادي الصنوبر، مصدر مذكور، الإهداء، ص:05.

5.         انظر مقال: من الرجم بالحجارة إلى اسم عالمي في الأغنية التارقية عثمان بالي، الفنان الملثم الذي سطع نجمه في الصحراء، لعزوز صالح، مجلة الشروق، عدد: 19 نوفمبر 2014.

6.         نادي الصنوبر، ص:07.

7.         سعيد بنكراد، وهج المعاني، سيميائيات الأنساق الثقافية، المركز الثقافي العربي، ط/1، سنة/2013، ص:12.

8.         نادي الصنوبر، ص:09.

9.         انظر:  Gaston BACHLARD.la poétique de  l.espace

10.      الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال.

11.      سعيد بنكراد، وهج المعاني، رجع سابق، ص:27.

12.      الرجع نفسه، ص: 37.

13.      نادي الصنوبر، ص:53.

14.      نفسه، ص: 52.

15.      سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، ط/1، سنة/2008، ص: 102.

16.      نادي الصنوبر، ص:14.

17.      نفسه، ص:15.

18.      المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

19.      تستثمر الكاتبة في هذه الحادثة القضية التي ما زالت تشغل الرأي العام الوطني جميعه والصحافة المكتوبة على وجه الخصوص والوسائط الاجتماعية كالفايس بوك وغيره، والتي ما انفكت تندد بالإبادة التي تتعرض لها الثروة الحيوانية الصحراوية وخصوصا الغزال وطائر الحبار على يد الخليجيين الأثرياء والأمراء الذين تحصلوا على رخص استثنائية من الرئيس الجزائري نفسه، حيث لم تتردد هذه المجموعات في استعمال الأسلحة المتطورة والطائرات في قنص الحيوانات النادرة المهددة بالانقراض، وقد شكلت هذه القضية محور الجدل الذي يدور في الجزائر حول الفساد واستغلال النفوذ وهدر الثروات العامة.

20.      نادي الصنوبر، ص:18.

21.      نفسه، ص:16.

22.      GREMIAS : Sémiotique et sciences sociales.- Paris, Seuil, 1976.- p.180  

23.      المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

24.      BONN, Charles. Le roman de langue française. Paris, L’Harmattan, 1985. p/57  

25.      عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والاشكاليات، من الحداثة الى العولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط/1، بيروت/لبنان، سنة/2006، ص:32.

26.      لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار الحوار، ط/1، سوريا، سنة/ 1993، ص:11.

27.       أحمد أبو زيد، الرواية الأنثروبولوجية بين الواقع الإثنوجرافي والخيال الإبداعي،عالم الفكر، الكويت، ع/ 43 م/ 23، يناير/يونيو /1995، ص:135.

28.      Le Petit Robert,Paris/1987,P :74. 

29.      REICHLER, Claude. La littérature comme interprétation symbolique (in) l’interprétation des textes (collectif).- Paris, Ed. De Minuit, 1989 p/82

30.      نادي الصنوبر، ص:24.

31.      نفسه، ص:

32.      نفسه، ص:116/117.

33.      نفسه، ص:46.

34.      نفسه، ص:84.

35.      نفسه، ص:91.

36.      نفسه، ص:115.

37.      سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، مرجع سابق، ص:07.

38.      المرجع نفسه، ص:27.

39.      نفسه، ص:29/30.

40.      نادي الصنوبر، ص:114.

41.      نفسه، ص:118.

42.      نفسه، الصفحة نفسها.

43.      نفسه، ص:110.

44.      نفسه، ص:109.

45.      نفسه، ص:113.

46.      نفسه، الصفحة نفسها.

47.      نفسه، ص:135.

48.      نفسه، ص:111.

49.      نفسه، ص:172.

50.       سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط/1، سنة/2008، ص:199.

51.      المرجع نفسهن ص:200.

52.       نادي الصنوبر، ص:100.

53.      : Gaston BACHLARD.la poétique de  l.espace، مرجع سابق.