يقدم الباحث السوري في هذه الدراسة الضافية استقصاءاته لماهية الجمال وتجلياته النصية والأسلوبية في شعر نزار قباني الأول، حيث كانت المرأة موضوعا رئيسيا فيه. ويكشف لنا من خلال التحليل النصي عددا من مصادر الجمال ومحفزاته الإبداعية من مدركات حسية، وتجربة حيّة، وفضاء تصويري خصب، وتأمل وجودي.

ماهية الجمال في شعر نزار قبَّاني

ومحفِّزاته الإبداعيَّة

عـصام شـرتح

ماهيَّة الجمال في شعر نزار قبَّاني
إنَّ الكثير منا من يتساءل بعض الأسئلة من غير أن يجد لها إجابات محدّدة؛ أو حاسمة منها: ما هي ماهيَّة الجمال؟ وهل للجمال ماهيَّة تكسب هذه الصفة؟! وهل للجمال معايير محدّدة تضبط الحكم النقدي له أو عليه؟! وهل الجمال كماهيَّة نصّيَّة قيمة تلازم الشكل أم المضمون؟! بمعنى أن نحكم على قيمة الجمال من خلال ماهيَّة الشكل أم من خلال ماهيَّة المضمون؟! وما هو الجمال كماهيَّة في النصّ الشعريّ؟! ومتى نستطيع أن نطلق هذه القيمة في الحكم على نصّ شعريّ دون آخر؟! ومتى نوفق في الحكم على نصّ ما بالجماليَّة ونصٌّ آخر بالقباحة أو الدونية؟! ما هي معاييرنا في الحكم النقدي المتخذ؟ هل هو انطباعي حدسي أم علمي مبنيٌّ على أسس موضوعية دقيقة؟!

إنَّ مَنْ يملك الرؤيا يملك الشعر؛ ومن يملك الرؤيا يملك الإحساس بالجمال، والشعور به؛ والجمال هو روح الشعر؛ والشعر الذي ينتزع منه الجمال أو الشعر الّلامؤسس على ماهية الجمال يفقد صفة الشعر؛ ولو كان موزوناً في أدق القوالب، والتشكيلات، والأنساق التصويريّة المحكمة؛ وهذه رؤيتي الأولى؛ وحدسي الأولي قبل الدخول في العالم النقدي لأشعار نزار قباني فيما يخصّ (ماهية الجمال)؛ والإحساس بالجمال؛ وإنَّ ما يميَّز عالم نزار قباني أنَّه عالم استثنائي في زمنٍ استثنائيّ؛ عالم خَطَّهُ نزار في محراب الجمال؛  في عالم الأنثى والشعور الرهيف بها؛ إنَّ نزاراً – دون أدنى مبالغة- خلق ماهية أخرى للجمال، وجوداً جديداً للأنثى في حيِّز الجمال، وشكَّل رؤية جديدة، ووجوداً إبداعياً للأنثى، مغايراً ، ورسم معالمه في جسد الأنثى؛ فكانت أسَّ الجمال، ومعياره الذوقي؛ لقد نحت تمثالها الأسطوري، ووقف في محراب جسدها ساجداً بداعة الخالق، أمام لوحة الرخام التي صاغها المبدع (خالق الخلق) في تحفة فنية نادرة؛ ومن يتأمل أشعاره التصويريَّة الوصفية في الجسد الأنثوي يدرك أنَّ القباني خلق الجمال في توصيفاتها إنْ شكلاً بصريًّا؛ وإن مشهداً وصفيًّا؛ وإنْ صورة أيقونية؛ وإنْ لوحة تشكيليَّة متداخلة الظلال، والخطوط، والألوان؛ مؤكداً جمالها، ودقة ما تدلُّ عليه من محفِّزات الجمال؛ والسؤال المطروح أمامنا على خارطة التداول النقدي؟! كيف نعي أو نتحسَّس الجمال حقيقة؟! وهل للجمال معايير، ورؤى، ومتطلبات وخبرات مكتسبة؟! ما هو الجمال كماهيَّة وجود؟. وما هو الجمال كحيِّز وجودي وتفاعل حر مع الموجودات؟!. وهل الجمال مجرَّد إحساس، وشعور، وجماليَّة تعبير؟! والسؤال المهم المطروح أمامنا الآن...كيف استطاع نزار أنْ يخلق ماهيَّة جديدة للجمال؛ شعراً، ورؤية، ونبضاً، وتأملاً وجوديًّا عميقاً للمشاعر والأحاسيس .. هل ملك نزار روحاً شاعريَّة حساسة تعي الجمال، وتتحسسه، وتعيشه وجوداً، وماهية، ونبضاً في كيانه ووجوده؟!..كيف جسَّد نزار الجمال في أشعاره؟! وما هي أبرز مثيرات الجمال في لغته الشعرية؟! و ماهي مستويات التجديد في فضاء شعره التأملي التخييلي المفتوح؟! واستناداً إلى هذه المعطيات سنقوم بدراسة ماهية الجمال في تجربة نزار قبَّاني وفق معطيات ورؤى استقصائية تحليليَّة؛ وهي كما يلي:

1-              الجمال كماهيَّة نصّيّة لغة مبتكرة وطريقة تعبير.

2-              الجمال كماهيَّة نصّيّة فضاء تخييلي إيحائي ممتد.

3-              الجمال كماهيَّة نصّيّة ألق وشعور وكثافة مدركات حسيَّة.

4-              الجمال كماهيَّة نصّيّة خبرة مكتسبة وتجربة معيشة.

5-              الجمال كماهيَّة نصّيّة فضاء تصويري خصيب وتأويل نصّيّ مفتوح.

6-              الجمال كماهيَّة نصّيّة تأمّل وجودي ونسق تشكيلي مراوغ.

7-              الجمال كماهية نصّيّة خلق التوافق الفني بين الجدليات [المتضادات/ والمنعكسات الوجودية].

8-              الجمال كماهيَّة نصّيّة تكامل نصّيّ، أو بناء نصّيّ محكم.

1- الجمال كماهيَّة نصّيَّة لغة مبتكرة، وطريقة تعبير:
إنَّ الإحساس بالجمال هو إحساس إبداعي؛ فكما أنَّ الإبداع أساسه الجمال؛ فإنَّ الجمال هو حيِّز إبداعي جماليّ أساسه التعبير عن الجمال، وفهم ماهية الجمال؛ بطرائق جماليَّة؛ فالجميل ليس قيمة تُطلَق على الشيء؛ أو تُكْتَسَبُ اكتساباً، وإنما هي جوهر وجودي في باطن الشيء الجميل ذاته؛ بمعنى أنَّ الجمال ليست قيمة معياريَّة تُطْلَقُ على الشيء، وإنما هي ملازمة للشيء الجميل لتدخل في ماهيته؛ وهذا ما ينطبق على اللغة الإبداعيَّة؛ وعلى النصّ الشعريّ المتميِّز؛ فالجمال كماهيَّة نصّيّة هو خلق لغة مبتكرة، وطريقة تعبيريَّة جديدة في الصوغ الشعريّ؛ وعلى هذا؛ فـ "الإبداع ليس نشاطاً ذهنياً يجري على مستوى الخيال كما وقع في ظنّ كروكشه، فإنَّ يد الفنان وفرشاته؛ أو أية أداة أخرى يستعملها كامتداد ليده أو بدنه؛ إنما هي أدوات لها نفس الأهميَّة التي تكون للذهن في عمليَّة الإبداع. بل إنْ شئنا الدقة لقلنا: إنَّه ليس هناك بدن من ناحية، وذهن من ناحية أخرى، في النشاط الإبداعي. بل هناكَ فقط فنَّان يُفَكِّر بيديه، ويرى بعيون البدن؛ وهي ما يُسَمَّى بفن التصور باسم (التفكير البصري)([1]).

إنَّ الإبداع - من منظور كروكشه- هو فن الرؤية، وفن التعبير عن الرؤية؛ بقدر ما يكون هناك وعي جماليّ، وفكر تأملي بقدر ما تثير هذه الرؤية الحيِّز الإبداعي الجمالي؛ وتخلق اللذة الجمالية؛ وإنَّ الشاعر نزار قبّاني هو شاعر جماليّ حساس يملك حساسيَّة إبداعيَّة عميقة؛ وظلال تأمليَّة خصبة؛ فهو شاعرٌ خالق للغة، ومشكل للرؤية الشعرية، ومبدع لأنساقها اللغويَّة، بطريقة مبتكرة في التعبير؛ فأجمل ما في قصائده اللوحات الوصفية في الأنثى؛ كما في اللوحة التالية:

"في وجهها يدورُ كالبُرْعُمِ

بمثلِهِ الأحلام لم تَحْلُمِ

كلوحةٍ ناجحةٍ ... لونُهَا

أثارَ حتّى حائطَ المرسَمِ

كفكرةٍ جناحُهَا أحمرٌ

كجملةٍ قِيْلَتْ ولم تُفْهَمِ

كنجمةٍ قد ضيَّعَتْ دَرْبَها

في خصلاتِ الأسودِ المُعْتمِ

زجاجةٌ للطيبِ مختومةٌ

ليتَ أواني الطيبِ لم تُخْتَمِ

من أينَ يا ربي عصرتَ الجنى؟

وكيفَ فَكَّرْتَ بهذا الفمِ

وكيف بالغتَ بتدويره؟

وكيف وزَّعتَ نقاطَ الدم؟

وكيفَ بالتوليبِ سوَّرتَهُ

بالوردِ، بالعنابِ، بالعندمِ؟

وكيف ركَّزتَ إلى جنبهِ

غمَّازةً .. تهزأ بالأنجمِ

كم سنةً .. ضيَّعتَ في نحتِهِ؟

قُلْ لي ألم تتعبْ ألم تسأمِ؟

منضّمةَ الشفاه ..لا تُفْصِحي

أريدُ أن أبقى بوهمِ الفمِ"([2]).

قد يتساءل القارئ أين مكمن الجماليَّة أو القيمة الجماليَّة في النصّ السابق؟! وهل حقق هذا المقبوس القيمة الجماليَّة، من حيث الابتكار اللغويّ وطرائق التعبير الإبداعيَّة؟!

إننا نلمس جماليَّة الصور الشعريَّة، ودهشتها الإسنادية، وسلاستها، وقربها من ذهن المتلقي؛ بمعنى أنَّ جمالية الصورة تنبني على الصور الحسيَّة القريبة من البصر والذهن؛ دون إغراق أو تجريد في الصورة؛ ناهيك عن انسجامها مع الإيقاع الصوتي المتناغم، كما في التشكيلات التصويريَّة المثيرة: [حائط المرسم- كفكرةٍ جناحُهَا أحمرٌ- خصلاتِ الأسودِ المُعْتمِ- زجاجةٌ للطيبِ مختومةٌ- نقاطَ الدم- منضمَّة الشفاه- وهم الفم]؛ ومن يدقِّق - في الأنساق التصويريَّة السابقة- يلحظ أننا أمام لوحة تشكيليَّة تتجسد جزئياتها عبر تنسيق الخطوط، والألوان، والحركات؛ فهو يبدأ في رسم الصورة الوصفية منذ البداية؛ في رسم فم محبوبته؛ واستدارة هذا الفم؛ وجمال تكوينه؛ وترسيمه الرباني الفائق الجودة، والإتقان، ورائحة الطيب التي تفوح منه كزهرة حمراء نضرة؛ تزيد الوجه جمالاً، وإشراقاً، وجلالاً؛ محاولاً رسم استدارة الفم بصور وصفية جماليَّة تتجسد بصريًّا، وعمقاً تخييلياً رومانسيًّا، غاية في الإثارة، والتحفيز الجمالي، وفق الصور التالية:

* في وجهها يدورُ كالبرعمِ

بمثله الأحلام لم تحلمِ

* كلوحةٍ ناجحةٍ..لونُهَا

أثار حتى حائط المرسمِ

* كفكرةٍ جناحها أحمرٌ

كجملة قيلت ولم تُفْهَمِ

إنَّ هذه الصور التجسيدية الوصفيَّة هي أبرز ما يحرِّك اللوحة جماليًّا؛ بحس مرهف؛ وحساسية في رسم منعرجها الفني؛ والمثير- حقًّا في القصيدة- ليس فقط ترسيم صورها الشاعري؛ وإنما دقة المتخيلات الشعريَّة في رسم الجزئيات الجماليَّة التي تمتاز بها الحبيبة؛ بصور حساسة تفيض عذوبة، وشفافيَّة، ورومانسيَّة، وغنائيَّة آسرة؛ إذْ تبدو أنَّ كل صورة تشد الأخرى، وتقصدها جمالاً، وإيحاءً، وتناسقاً تعبيرياً مدهشاً؛ فأبرز خصائص الجمال - في القصيدة السابقة- أنها ذات صور متضافرة مرسومة بعناية فائقة وحس شعوري رومانسيّ مرهف؛ في ترسيم الصورة بأبعادها المتخيلة، وحسها الرومانسي الشاعري؛ وكأنَّ الشاعر رسم الصورة الدهشة، ليخلق مداعبة نسقية في حركة الصورة؛ فما أجمل هذه المداعبة التشكيليَّة، والتأنق الجمالي في قوله: "وكيفَ ركَّزت إلى جنبه غمَّازةً تهزأ بالأنجمِ إنَّ هذه الصورة الترسيمية الوصفية التي تتقطر دعابة، وشفافية شعرية تؤكِّد أنَّ جماليَّة التعبير هي أبرز خصوصيات شعريَّة القبّاني؛ من حيث تنامي الإيحاءات، وتكثيفها؛ فجماليَّة القبّاني ليست في الصوغ الشعري، والحرفنة النسقية في التشكيل فحسب؛ وإنما بالحس الجمالي الذي يملكه، وتشعير النسق الشعري بجماليَّة بما يتوافق ونبضه الشعوري، وإحساسه الداخلي؛ محقِّقاً أهم عنصرين من مقوِّمات الجمال؛ وهما التشكيل الجمالي المبتكر، والحس الشعوري الداخلي العميق؛ يضاف إليه بداعة التخييل، وعمق الرؤى التجسيدية في تشكيل أبعاد وظلال اللوحة الشعرية المجسدة؛ ومما يؤكِّد ذلك قوله في قصيدة (القرط الطويل) ما يلي:

"جارانِ للسالفِ ... من ذا رأى

على بساطٍ ... رُزْمَتِي جوهر

قد فُكَّتا ... فانفرطتْ أنجمٌ

على طريقٍ معشبٍ مُزْهِرِ...

حَبْلا بريقٍ ... رافَقَا جِيْدَهَا

واستأنسا بالهُدْبِ والمِحْجَرِ

وشوشةُ البَحْرَاتِ ... مسموعةٌ

من مقعدي، وضجَّةُ الأنْهُرِ

يا طيْبَ شلالينِ من فضَّةٍ

سالا على مقالع المرمرِ

كَمْ غَلْغَلا خلف ذؤاباتها

وخوَّضا في المسكِ والعنبرِ...

ما تَعِبَا رقصاً على جيدها

ولا انتهى الهمسُ مع المئزرِ

أُرجوحةٌ من قلقي خيطُهَا

من نزقِ المدوَّر الأسمرِ..

أسلاكُهَا تمضي على كيفِهَا

تمضي..وتمضي...في مدى مقمرِ

تحطُّ إنْ شاءتْ على شعرها

أو..لا..ففوقَ البؤبؤ الأخضرِ.

يَرُدّني القرطُ كأنّي به...

يخافُ أنْ أعلقَ بالأحمرِ

رغم امتناعِ القرطِ أجتاحُهُ

أشرس من عصفورة البيدرِ"([3]).

إنَّ من يتأمل – في القصيد السابقة- يلحظ أننا أمام لوحة فنيَّة مزركشة من الصور الحسّيّة التي يدخل فيها عنصر اللون دوراً مؤثراً في تشكيل ظلالها، وترسيماتها الإيحائيَّة والبصريَّة في آن؛ فكل صورة هي ترسيمة جماليَّة من الظلال، تبثُّ جماليها بدهشة إبداعية؛ تستقي جلّ مثيراتها من هذا الفضاء التخييلي  المفتوح في عقد الصور بمتخيلات متحايثة للصور البصرية المرئية؛ كما في قوله: "يا طيْبَ شلالينِ من فضَّةٍ/ سالا على مقالع المرمرِ/ كَمْ غَلْغَلا خلف ذؤاباتها وخوَّضا في المسكِ والعنبرِ"؛ وعلى هذا النحو يبدو، أننا أمام لوحة تشكيليَّة جماليَّة من الترسيمات التصويريَّة الرومانسيَّة الشاعريَّة؛ التي تبث مثيراتها عبر دقتها في تجسيد الرؤية، وتصوير موحيات مسارها الفني؛ فالصورة هي حياكة جماليَّة لما يسمى بالطابع التوصيفي الحسّيّ البصريّ للأنساق الشعريَّة، أو التمثيل البصري لحيِّز الرؤى المتخيلة بأنساق تصويريَّة مكتنزة بالتناسق، والتداخل، والانسجام؛ وتُعَدُّ خاصيَّة التناسق من أبرز خاصيات مثيرات الجمال الشعري أثناء الحكم على القيمة الجمالية، بوصفها معياراً لإدراك التناسق الفني في تموضع الأشياء بهندسة، وإحكام؛ فالصورة لا تبدو معلقة في فضاء تخييلي تجريدي غائصة في بحر التأمل، بقدر ما تتجسد بصريًّا، أو مشهديًّا بعين القارئ؛ فما أجمل هذا التناسب والتناسق في حركة الصورة؛ وما أبلغ دهشتها؛ وما أعظم مثيراتها الجماليَّة؛  كما في قوله:

"يَرُدّني القرطُ كأنّي به...

يخافُ أنْ أعلقَ بالأحمرِ

رغم امتناعِ القرطِ أجتاحُهُ

أشرس من عصفورة البيدرِ"

إنَّ الرؤية الجماليَّة التأمليَّة التي يملكها القبّاني تخوِّله أن يرسم الصورة رسماً دقيقاً شاعريًّا؛ لتأتي بغاية التنظيم، والتنسيق، والشاعريَّة؛ كما في هذا النسق التصويري التالي:

"كَمْ غَلْغَلا خلف ذؤاباتها

وخوَّضا في المسكِ والعنبرِ...

ما تَعِبَا رقصاً على جيدها

ولا انتهى الهمسُ مع المئزرِ

أُرجوحةٌ من قلقي خيطُهَا

من نزقِ المدوَّر الأسمرِ"

إنَّ قارئ هذه الأسطر يعي حقيقة الحس الجماليّ الذي يملكه الشاعر؛ خاصَّة من خلال بداعة هذه الرؤية التي جسدها بصورة غير مسبوقة؛ بومض جمالي أخَّاذ [ما تَعِبَا رقصاً على جيدها/ ولا انتهى الهمسُ مع المئزرِ]؛ والمثير حقًّا؛ هذا الرصد الدقيق لحركة القرطين؛ واهتزازهما؛ مشبهاً هذه الحركة بالرقص والنوسان؛ ثم  تابع هذه الحركة بقوله: [ولا انتهى الهمسُ مع المئزرِ]؛ إنَّ حركة القرطين تهمسان للمئزر بما ينتابهما من نشوة، وخيلاء، وسرور لأنَّهما يهتزان على قرطي محبوبته الحسناء؛ برشاقة وتناغم مع حركة مئزرها،وذؤاباتها اللتين تغطيهما بمودة ، وألفة، وحنان؛ إنَّ هذه الصورة المرسومة بدقة تصويريَّة بالغة، وترسيمات نسقية غاية في التلاحم، والإثارة؛ تعزز فاعليَّة الصورة؛ وترسم لوحة جماليَّة تكامليَّة لحركة القرطين على جيد محبوبته؛ وهكذا؛ يطالعنا نزار قبّاني دائماً بهذه اللوحات التشكيليَّة الوصفية التي ترسم المشهد الشعري، بعدسة مشهدية لاقطة، أو تشكيليَّة ترسم المشاهد، وترصد كل جزئيات الصورة، وأبعادها، ومثيراتها النفسية، والذهنية التي تتبادر إلى الذهن؛ بإدراك، ووعي فنّي عجيب؛ وتأمل جمالي يستحوذ على قلوب القرَّاء أو المتلقين؛ وكأنَّ الصورة هي التي تخلق ذاتها، وترسم ذاتها بأجمل الألوان، والتشكيلات، والنحت الجمالي للصورة الشعرية؛ لتأتي كأجمل اللوحات التشكيليَّة جودة وفنيَّة، ودهشة إبداعيَّة؛ وكأننا أمام لوحة تشكيليَّة بارعة الدقة، والإتقان في ألوانها، وتداخل خطوطها، وظلالها اللّونيَّة؛ وهذا ما يحسب للوحته التشكيلية في توصيف الأنثى، وتجسيد حركتها، وأوصافها الباطنة والظاهرة.

ويشدُّنا نزار قبّاني جماليًّا إلى أوصافه الحسيَّة الجسدية للأنثى، ليرسم لوحة متكاملة يمزج فيها الشكل بالشعور، أي يجمع في اللوحة جمال الشكل الفني، وجمال الحس الشعوري الباطني الذي يجسده؛ تبعاً لأحاسيسه، وتأملاته، وفنيَّة منظوراته العميقة لطبيعة الأشياء؛ كما في قوله في وصف النهد:

"تزلقُ فوقَ ربوتي لذَّةٍ

ناعمة دارت على ناعمِ

خَمْرِيَّةٌ كلونِ عاطفتي

واهمةٌ مثل غدي الواهمِ

تنشقُ من مزرعتيْ زنبقٍ

زَرَّرتا ... للموسمِ القادمِ

تؤويهما .. تحميهما من أذًى

من الهوى ... من الشتا الهاجم

وتغزلُ الغزلَ لكي يَدْفَآ

كي يَهْنَآ .. في المخبأ الحالمِ

وتُطْعِمُ الاثنين من قلبها

من لحمها .. من خيطِها الفاغمِ

تداعبُ الواحدَ ... إمَّا صحا

وتسدلُ السِترَ على النائمِ

رافعةَ النهدِ ... أحيطي بهِ

كوني له أحْنَى من الخاتمِ

قد يجرحُ الدنتيلُ إحساسَهُ

فَخَفِّفي من قيدك الظالمِ..

هذا الذي بالغتِ في ضمّهِ

أثمنُ ما أُخْرِجَ للعالم"([4]).

إنَّ جوهر الإبداع الشعري يكمن في مهارة التشكيل اللغويّ، وبداعة الصور، وبكارتها، وتمازجها مع الإيقاعين الصوتي (الإيقاع الخارجي/ والإيقاع الداخلي) للذات الشاعرة، وهنا؛ نتلمس – في الصور السابقة- درجة من الإبداع في تشكيل الصور الحسيَّة التي تُجَسِّد أوصاف الأنثى؛ بنحتٍ فنيٍّ تشكيليّ؛ فائق الدِّقة والإبداع؛ وهنا، نلحظ جماليَّة النسق التصويريّ التشكيليّ؛ فهو أشبه بلوحة فنيَّة متكاملة من الأوصاف الحسّيّة البصريَّة التي تخفي وراءها دهشة في الإسناد اللغويّ، والرهافة التصويريَّة الفائقة في تشكيل اللوحة الشعريَّة المتكاملة في ألوانها، وصورها، وظلالها المرئية؛ كما في قوله:

"خَمْرِيَّةٌ كلونِ عاطفتي

واهمةُ مثل غدي الواهمِ

تنشقُ من مزرعتيْ زنبقٍ

زَرَّرتا...للموسمِ القادمِ"

إنَّ هذا الترسيم الدقيق لحركة النهدين؛ يخطّ جماله من مثيرين متضافرين أولهما: مثير تخييلي عميق يتبدَّى لنا من خلال النسق التصويريَّ المبتكر، الذي تمثله كل صورة في ترسيمها الدقيق لحركة النهدين؛ وثانيهما: مثير شعوري جمالي يملكه الشاعر بهذه الحنكة التصويريَّة، والقلقلة النسقيَّة التي تثير الحساسية الشعريَّة بتنامٍ جماليّ، وحسٍّ لغويّ عميق بقوله:

"تؤويهما .. تحميهما من أذًى

من الهوى ... من الشتا الهاجم

وتغزلُ الغزلَ لكي يَدْفَآ

كي يَهْنَآ.. في المخبأ الحالمِ"

إنَّ أبرز مثيرات النسق الشعريّ هذا الحسّ الجماليّ المفعم بالعمق، والإحساس الفني الرهيف؛ فما أجمل هذه الحنكة الترسيميَّة، والمداعبة الفنيَّة بين تلكم الصور؛ وقدرتها على التعبير عن المكبوت الجنسي بروح شفافة؛ تغرق في الحسيَّة؛ وتميل إلى الّلذة التصويريَّة؛ بروح عميقة؛ تتلمس روح الشعور، وعمق الإحساس؛ كما في قوله: "وتُطْعِمُ الاثنين من قلبها...من لحمها..من خيطِها الفاغمِ... تداعبُ الواحدَ إمَّا صحا وتسدلُ السِترَ على النائمِ"؛ إنَّ ما يثير الموقف التصويريّ جماليَّة الصورة، وقدرتها الفائقة على التجسيد التصويريّ؛  برهافة شعوريَّة نادرة؛ وإحساس فني عميق بالمثيرات الجماليَّة التي تثيرها الأنثى في مخيلة الشاعر؛ فيبدع أنساقاً تصويريَّة مثيرة؛ تضجّ بالحركة، والإثارة، والامتداد التأملي العميق. إنَّ اعتماد القبَّاني الصورة الحركيَّة التي ترصد حركة النهدين، تستفِّز الرؤى الشعريَّة، وتؤكِّد الحساسيَّة الفائقة التي يملكها القبَّاني في تشكيل الصور الحسيَّة الغريزيَّة الدهشة في منحاها وتجسيدها الحسيّ.

وقد يجسد الشاعر نزار قبّاني هذه المثيرات الجماليَّة عبر إحكام القصيدة؛ وكأنها لبنة تشكل جزءاً جزءاً؛ في معماريَّة بناء القصيدة، لبلورة لوحة تشكيليَّة متكاملة فنيًّا؛ تحقق كل مثيرات المتعة، والصنعة، والإدهاش الجمالي؛ كما في قوله:

"سمراءُ ... صُبِّي نهدكِ الأسمرَ في دنيا فمي

نهداكِ ... نبعا لذَّةٍ حمراءَ تُشْعِلُ لي دمي

متمرِّدانِ على السماءِ ... على القميصِ المُنَعَّمِ

صنمان عاجيَّان ... قد ماجا ببحرٍ مُضْرَمِ

صنمان ... إني أعبدُ الأصنامَ رغم تأثَّمي

فُكِّي الغلالةَ ... واحسري عن نهدكِ المتضرِّمِ

لا تكبتي النارَ الحبيسةَ وارتعاشَ الأَعْظُمِ

نارُ الهوى في حلمتيكِ أكولةٌ كجهنَّمِ

خمريَّتانِ ... احْمَرَّتا بلظى الدمِ المُتَهَجَّمِ

محروقتانِ بشهوة تبكي وصبرٍ مُلْجَمِ

نهداكِ وحشيَّانِ ... والمصباحُ مشدوهُ الفمِ

والضوءُ مُنْعَكِسٌ على مجرى الحليبِ المعتمِ

وأنا أَمدُّ يدي وأسرقُ من حقولِ الأنجمِ

والحلمةُ الحمقاءُ ترصدني بظفرٍ مجرمِ

وتغطُّ إصْبَعَهَا وتغمُسَها بحبرٍ من دمي

                        * * *

يا صَلْبةَ النهدينِ... يأبى الوهمُ أنْ  تَتَوَهَّمي

نهداكِ ... أجملُ لوحتينِ على جدارِ المرسمِ

كُرَتانِ من ثلجِ الشمالِ .. من الصباحِ الأكرمِ

فتقدَّمي، يا قطتي الصغرى، إليَّ تَقَدَّمي...

وتحرَّري مما عليكِ وحَطِّمِي ... وتَحَطَّمي...

                        * * *

مغرورةَ النهدينِ ... خَلِّي كبرياءكِ وانْعَمِي

بأصابعي... بزوابعي ... برعونتي ... بتَهَجُّمي

فغداً شبابُكِ ينطفي مثل الشعاعِ المضرمِ

وغداً سيذوي النهدُ والشفتانِ منكِ .. فأقدِمي

وَتَفَكَّري بمصيرِ نهديكِ بَعْدَ موتِ الموسمِ

لا تفزعي ... فالَّلثمُ للشعراءِ غيرُ محرَّمِ

فُكِّي أسيري صدركِ الطفلين .. لا.. لا تظلمي

نهداكِ ما خُلِقَا للثمِ الثوبِ .. لكن للفمِ

مجنونةٌ مَنْ تحجبُ النهدين؛ أو هي تحتميَ

مجنونةٌ مَنْ مرَّ عَهْدَ شبابها لم تُلْثَمِ"([5]).

إنَّ من يتأمل في القصيدة ومداليلها العميقة يدرك فنيَّة الشعر، ويدرك قيمة الجمل الشعريَّة؛ ويدرك مستوى الإبداع وقيمته الجماليَّة؛ ويدرك أنَّ الشعر فنٌّ جماليٌّ بنائيٌّ يتحسس مواطن الإشعاع الجماليّ في العبارة والتركيب؛ وهنا؛ قد يتساءل السائل قبل الخوض في غمار  تحليل جزئيات القصيدة؛ وتموضُعها النصي جماليًّا؛ كيف استطاع نزار قبّاني أن يولِّد هذه الجماليَّة في نحت صوره الشعريَّة نحتاً جماليًّا مدهشاً؛ ليصل فيها حدّ الإثارة، والإدهاش؛ إنْ على صعيد الصور الجزئية، ومستلزماتها الفنية؛ وإنْ على صعيد الصورة الكلية، ومحفِّزاتها، ومثيراتها التشكيليَّة، ورؤيتها الكليَّة؛ فالقبّاني يملك قدرة فنية عالية على تشعير الصور، وربط أنساقها بمثيرين: الأول صوتي، عن طريق مثيرات القوافي المتواترة المتناغمة صوتيًّا، ودلاليًّا؛ والثاني تشكيلي، بابتكار الصور الفاعلة - جماليًّا- في تحفيز القارئ، وإثارته جمالياً؛ كما في هذه اللوحة التشكيليًّة المزركشة على مستوى البيتين التاليين:

"نهداكِ...أجملُ لوحتينِ على جدارِ المرسمِ

كُرَتانِ من ثلجِ الشمالِ.. من الصباحِ الأكرمِ"

إنَّ هذا التشبيه النحتي التشكيلي الجمالي يؤكد جماليَّة النسق الشعري، من خلال فنية تشكيل الصورة، في توصيف النهدين؛ بأسلوب ترسيمي تشكيلي عميق؛ يعتمده في هذا التآلف التقفوي، والنسج التصويري الفني المحكم: [نهداكِ كرتانِ من ثلجِ الشمالِ]؛ إنَّ هذا التجسيد الحسي؛ يخلق لذة جماليَّة،  ولذة حسيَّة تصويريَّة دقيقة، تستقي درجة شفافيتها المثلى من هذا التناغم الرهيف بين الشكل التصويري، والشعور الإيقاعي الجمالي الداخلي؛ محفِّزاً الرؤية الكليَّة؛ كما في قوله:

نهداكِ وحشيَّانِ... والمصباحُ مشدوهُ الفمِ

والضوءُ مُنْعَكِسٌ على مجرى الحليبِ المعتمِ

إنَّ هذه الصور لا تعكس - فقط- إثارة مشهديَّة؛ وإنما تعكس نحتاً جماليًّا تشكيليًّا لصورة النهدين؛ بطابع حسي تصويريّ شفَّاف، وإيحاء غزلي ترسيمي تجسيدي دقيق، بالغ الإثارة والتحفيز الجمالي؛ وإن طغى عليه الطابع الحسيّ؛ فالقباني لا يبني الصور بناءً فنيًّا نحتيًّا فحسب؛ وإنما يُحرِّك النسق الجمالي للصورة الشعريَّة المجسدة؛ لتبدو الصورة مشكلة بطريقة فنية عجيبة؛ وكأنها تمثال فني منحوت بدقة، وإتقان، لا يطاله أيّ تنافر أو نشوز في الشكل الخارجي؛ وعلى هذا؛ تبدو الصور السابقة منحوتة جماليًّا؛ لتأتي بغاية التمظهر الفني الجمالي المخصوص؛ وهكذا؛ فإنَّ القبَّاني يتخذ التشكيل النسقي الجمالي مقوِّماً فنيًّا في استقطاب الصورة المبتكرة، ذات الحس التصويري الدقيق؛ والإيحاء الفني العميق؛ ففي قوله: "نهداكِ وحشيان"؛ أضفى على النهدين حركة مشبوبة من خلال ميزان الغريزة، والشبق الجنسي؛  ثمَّ ولَّد صورة بغاية المراوغة والتحفيز: [والمصباح مشدوه الفم]؛ وكأنَّ المصباح قد تحوَّل إلى ماهيَّة جديدة إلى رجلٍ شبق جنسيًّا يسعى إلى التقاط مثيرات هذين النهدين؛ ثم بدت الصور التالية: [والضوءُ منعكسٌ على مجرى الحليب المعتمِ]؛ ذات فاعليَّة إدهاشيَّة –أيضاً- في تعزيز إيحاء الصور السابقة، وتأكيد فاعلية التخييل الشعري لديه؛ فما أجمل هذا التلاحم، والتناغم الجمالي في التشكيل الفني الذي تخلقه حركة الصور؛ بتمظهرات إيقاعية، وتمفصلات تقفوية تزيد خصوبة الصورتين فنيًّا وجماليًّا؛ وكأنَّ القصيدة لحمة فنية متناغمة من الصور، والإيحاءات الشعوريّة المجسدة بعمق، وفنية، وإتقان.

2- الجمال كماهيَّة نصّيّة فضاء تخييلي إيحائي ممتد:
إنَّ الجمال إشعاع وانبثاق من جوهر الشيء؛ ولا ينبني الجمال إلاَّ على الخيال الخصيب؛ والنصّ الجميل يخلق توازنه بطريقة إبداعه وخصوبته الفنيَّة، وقلبه لحركة الأشياء؛ لهذا، بدت حركة الحداثة الشعريَّة «انفجار معرفي، حركة لا نهائية من السؤال، والبحث، والتجديد، رغبة محمومة في التعلق الجمالي والأسطوري، والإقامة في أعماق بنية الذات والعالم»([6]). ومن هنا؛ فإنَّ الجمال أفق تأملي خصيب ومطلب كل فن إبداعي رفيع؛ ولا يمكن للجمال أن يحقق تأثيره بمعزلٍ عن  ماهيَّة الشيء الجميل وجسدانيته، أو شكله ومظهره الخارجي؛ فالجميل .. هو شكل متناسق محسوس؛ بأبعاد، ومقاييس حسيَّة؛ ولا نَعُدَّ الشيء الجميل جميلاً إلاَّ بتواجد مثيرين مثير التناسب، والتناسق في الشكل؛ ومثير الإيحاء أو التصور، أو الإشعاع الجمالي الذي يخلقه الشكل الجميل ويثيره فينا من استجابات؛ وهنا، يتبادر سؤالٌ إلى الذهن؛ كيف نظر نزار قبّاني إلى جماليَّة الإبداع الشعري؟ ما هي المعايير الجماليَّة المعتمدة في تشكيل صوره خاصّة صوره الحسيَّة فيما يتعلق بالأنثى، والحبّ، والجنس؟!

إنَّ الإجابة عن هذا التساؤل الضخم يقودنا إلى تساؤل أضخم، وهو كيف تمثل القبّاني الجمال  كماهيَّة في شعره؟! ما هي معايير الجمال المتبعة - من منظوره- في أثناء عملية التشكيل الشعري؛ خاصَّة فيما يتعلق بالجانب التصويريّ في الشعر الغزلي التأملي المفتوح؛ الذي يغصُّ بإيحاءات متتابعة وأنساق تشكيليَّة مبتكرة؟!؛ إنَّ معايير الجمال كماهيَّة نصيَّة - على مستوى الفضاء الإيحائي التخييلي عند القبّاني- هي خلق رؤية جديدة، ونسق فني متكامل؛ إنَّ القبّاني عدَّ الجمال تناسقاً فنيًّا وتلاحماً دلاليًّا بين الأنساق اللغويَّة؛ إنْ إيقاعاً؛ وإنْ صوتاً؛ وإنْ دلالةً، وتركيباً؛ إذْ ينتقل القبّاني من التناسب، والتنسيق، الجزئي، إلى التناسب، والبناء، والتنظيم الكلي؛ بمعنى أنَّ القبّاني يرى الجمال تناسقاً تاماً؛ إما على مستوى الأبيات والأسطر الجزئية؛ وإنْ على مستوى المقاطع والنص كلية؛ ولو تأملنا هذه القصيدة - بعمق- لتبدَّى لنا ذلك؛ كما في قوله:

"مراهقةَ النهدِ ...لا تربطيهِ

فقد أبدعتْ ريشةُ اللهِ رَسْمَهْ

وخليِّهِ زوبعةً من عبيرٍ

تهلُّ على الأرضِ رزقاً ونِعْمَهْ

هو الدفءُ. لا تُذْعري إنْ رأيتِ

قميصكِ ... يزهو بأروعِ قمَّهْ

فما عدتِ يا طفلتي طفلةً

سيهمي الشتا غيمةً بعد غيمَهْ

ويخرجُ من فجوةِ الثوبِ نهدٌ

ليأكُلَ من مسبحِ الضوء نَجْمَهْ

كَبُرْتِ ... فحوضُ اغتسالكِ جُنَّ

بتلكَ المُجَرَّدةِ المُسْتَحِمَّهْ

وصدرُكِ مزرعةُ الياسمينِ

تَفَتَّقَ عن حلمةٍ .. بَعْدَ حَلْمَهْ...

أشقراءُ يا سحباتِ الحريرِ

زرعتِ الرمالَ ... اشتهاءً وغُلْمَهْ...

تَمُدِّينَ للماءِ إصبعَ طفلٍ

فَيَنْسَحِبُ البحر .. حبًّا ورحمه

تلاشي على مضجعٍ أزرقٍ

وكوني لأمواجِهِ الهوجِ لُقْمَهْ

أخافُ على البحرِ أنْ تحرقيهِ

فلا تجرحي يا جميلةُ حُلْمَهْ

صَبِيَّةُ .. إني احتراقٌ كئيبٌ

فَمُرِّي بدفءِ جروحيَ نسمَهْ

أنا دخنةٌ منكِ لا تطمئنُّ

فلا تطعميني لنهديكِ .. فَحْمَهْ.. ([7]).

قبل أنْ نبدأ في تحليلنا النصّيّ ورؤيتنا الجماليَّة للنصّ؛ نؤكِّد على مسألة بغاية الأهميَّة؛ وهي أنَّ الخيال المبدع ينتج صوراً جماليَّة ذات إيحاء عميق، ممتد؛ فالقصيدة المبدعة هي شكل خياليّ مجسَّد إبداعيًّا؛ بشكل متناغم على مستوى الصور، والدلالات، والإيحاءات؛ وطالما أنَّ القبَّاني مدركٌ لحقيقة جوهريَّة في صياغته الشعريَّة ألا وهي الإمتاع والإدهاش؛ وإثارة المتخيلات النصيَّة لصور حسيَّة تستقطب الذائقة الشعرية، وتثير المشهد الغزلي الحسيّ، فإنَّه أدَّى الدور الفني الجمالي المنوط به في صياغة نصوصه صياغة جماليَّة؛ ليحركنا بالصورة الدهشة الحسيَّة الحركية التي تستقي جُلَّ إثارتها من [المزاوجة بين طابعي الخيال/والمحسوس]؛ لتعميق فاعليَّة الصورة، وتناميها جماليًّا؛ وإنَّ أول ما يلفتنا - في هذه القصيدة- أنَّ الشاعر بناها بناءً جماليًّا؛ منطلقاً من شعرنة الجزئيات، والرؤى البسيطة، إلى شعرنة الرؤية الكليَّة؛ فالشاعر التقط صورة لفتاة تستحم بعدسة عينيه الشعرية، ورسم حيثيات الصورة؛ بتأمل، وانفتاح، وإدراك شاعري عميق؛ بمثيرات الأنساق التصويريَّة؛ لخلق لغة ائتلافية؛ ترتقي حيِّز التجسيد الحسي مركباً فنياً، لتخليق الصورة جماليًّا؛ فبدأ بترسيم أوصاف هذه الفتاة؛ صفة تلوَ أخرى؛ ومظهراً تلوَ آخر؛ ليبدو المشهد مكتملاً فنيًّا؛ والّلافت - أيضاً- أنَّ كل صورة تُكَمِّل مدلول الصورة الأخرى، في خيط نسقي مترابط؛ إذْ إنَّ الصور تتلاحم فيما بينها؛ في حركة نسقيَّة منسجمة؛ تؤكد شاعرية الصورة الجزئية وفاعليتها في تخليق الشعرية على مستوى الرؤية الكلية؛ وهذا ما نلحظه في قوله:

فما عدتِ يا طفلتي طفلةً

سيهمي الشتا غيمةً بعد غيمَهْ

ويخرجُ من فجوةِ الثوبِ نهدٌ

ليأكُلَ من مسبحِ الضوءِ نَجْمَهْ

إنَّ كل صورة من نسق الصور السابقة هي حركة مؤسسة جماليًّا، ونسقيًّا على حركة الأنساق التصويريَّة الأخرى؛ لخلق نسيج تصويري فني، مترابط الأنساق، متلاحم الرؤى على مستوى الجزء، ومُنَسَّق فنياً على المستوى الكلي؛ وهذا ما يجعل القصيدة ذات حيازة جماليَّة، وتفاعل نسقيّ، يُعَزِّز مدار الصورة الجزئية، وإيحاءاتها على المستوى الكلي؛ وهنا، جاءت القفلة النصيّة لتؤكد هذه الحياكة الجماليَّة، والنسج الفني المتلاحم للأنساق التصويريَّة؛ كما في قوله:

صَبِيَّةُ.. إني احتراقٌ كئيبٌ

فَمُرِّي بدفءِ جروحيَ نسمَهْ

أنا دخنةٌ منكِ لا تطمئنُّ

فلا تطعميني لنهديكِ.. فَحْمَهْ..

إنَّ درجة إبداعيَّة الصورة تنشأ من تلاحمها الفني في نسقها الشعريّ؛ لتحقِّق رؤية غزليَّة متكاملة؛ فهو يخاطب فتاته بأنها قد أشعلت كيانه تهياماً، وتدلهاً، وعشقاً؛ لدرجة الصبابة، والوله المطلق، فما عاد باستطاعته أن يتحمل شوقه إليها؛ حتى غدا فحمة من شدَّة الاحتراق، ونيران الوجد؛ وهكذا؛ فإنَّ إدراك القبّاني لفاعليَّة التخييل، وعمق التأمل في جذب المتلقي، لفاعلية الصورة  دفعه إلى هذه المغامرة اللغويَّة، والإثارة التصويريَّة الجذَّابة لحركة القصيدة؛ لتبدو القفلة النصّيّة متكاملة في كل شيء جماليًّا؛ فهي ليست جماليَّة بقفلتها الإيقاعيَّة، وتناغمها التقفوي فحسب؛ وإنما من خلال إحساس الشاعر جماليًّا بالجسد الأنثوي، ومثيراته للنبض الشعوري الداخلي الذي ينفث صبابته الغرامية من أعماق ذاته العاشقة؛ ويترجم نزار شعريًّا هذا الإحساس الجماليّ في قصائد عدة؛ ولعلّ أبرزها قوله في قصيدة (كم الدانتيل) ما يلي:

"يا كُمَّها الثرثارَ... يا مَشْتَلْ

رَفِّهْ عن الدُنْيَا ولا تَبْخَلْ

وَنقِّطِ الثلجَ على جُرْحِنَا

يا رائعَ التطريزِ ... يا أهدلْ

يا شفةً ... تَفْتِيحُهَا مُمْكِنٌ

ويا سؤالاً؛ بَعْدُ، لم يُسْأَلْ

أقْبَلْتَ يا صيفيُّ في جوقةٍ

من السنونو؛ والشذى المُرْسَلْ

يا كُمَّها المنشال عن ثروةٍ

اذْهِلْ.. فإنَّ الخيرَ أن تُذْهَلْ

أليس لي زاويةٌ رطبةٌ

بين حراج الرَنْد والصندلْ.

يا كُمَّها ... أنا الحريقُ الذي

أصبحَ في هنيهةٍ جدولْ

..... ...... .........

يا رَوْعةَ الروعةِ، يا كُمَّها

يا مخملاً صلَّى على مَخْمَلْ"([8]).

إنَّ القيمة الجماليَّة، لأيّ نصّ أدبي أو شعريّ تكمن في مقدار الحساسيَّة التي يملكها، والرؤى التي يضيفها، والمدلولات الجديدة التي يولدها، والمثيرات التخييلية، والصوتية التي يفجِّرها على الصعيدين اللفظي والدلاليّ معاً؛ وما من شكّ في أنَّ طرائقَ الشعريَّة مختلفة متنوعة؛ تبعاً لما تحفزه القصيدة؛ وما تبعثه من إيحاءات بأنساق تشكيليَّة غير معهودة، وطرائق تعبيريَّة عميقة المدلول؛ ثريَّة المعطيات؛ وكأنَّ القصيدة صرخة وجوديَّة في حيِّز الجمال، والخلق، والكون؛ لتكون فلذة من فلذات الشاعر، ونفثة شفيفة من نفثاته، وصبابته الرومانسيَّة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن قبل تحليل القصيدة؛ ما الذي يجعل بعض النصوص شعريَّة؛ تستحوذ على معظم القيم الجماليَّة؛ وبعضها عاجز عن تجاوز ذاته، رؤية، وقولاً مشعرناً؛؟! ما هي الآلية التي تترجم ذلك عملياً في نص شعري كهذا الذي بين أيدينا؟! إنَّ أبرز ما يثيره القول الشعريُّ فضاء التأمل، والتخييل، متبوعاً بحسن الأنساق تشكيليًّا، وانزياحها عن النسق الائتلافي التشكيلي المعتاد إلى النسق الضدي الاختلافي؛ لخلق هزة جماليَّة، أو قشعريرة جماليَّة تستثير الدفقة الشعريَّة؛ وتزيدها دهشة، وإثارة؛ فالشاعر لا يخلق نصًّا شعريًّا خلقاً فحسب؛ وإنما يخلق مدًّا تأمليًّا من الأنساق المتوازنة التي توازن أنساق الصور؛ وتبعث الصورة من رحم الرؤية، إلى فضاء تخييلي عميق؛ يتغوَّر حيِّز الوجود؛ بأوصاف غاية في التجسيد الحسيّ الجمالي؛ التي وصف فيها محبوبته من خلال الثوب الذي لبسته؛ واصفاً كمها وصفاً أنيقاً؛ يرتقي فيه أشدّ مراتب الأناقة، والكثافة الإيحائية، والقولبة النسقية المراوغة والمفاجئة في نسقها الشعريّ؛ كما في قوله:

"يا كُمَّها الثرثارَ... يا مِشْتَلْ

رَفِّهْ عن الدُنْيَا ولا تَبْخَلْ

وَنقِّطِ الثلجَ على جُرْحِنَا

يا رائعَ التطريزِ...يا أهدل

يا شفةً...تَفْتِيحُهَا مُمْكِنٌ

ويا سؤالاً؛ بَعْدُ، لم يُسْأَلْ

إنَّ أبرز ما يثير القارئ - جماليًّا- هذا التطريز التشكيلي على مستوى توازن الأنساق اللغويَّة؛ لخلق حركة نسقيَّة؛ تصويريَّة متوازنة؛ تؤكد جماليَّة التصوير، وحسن رصف الكلمات، إلى جانب بعضها البعض؛ لخلق لوحة تشكيليَّة، توصيفيَّة؛ تؤكد أن الكلمة تأتي في سياقها الملائم لها؛ لا تنافر، أو نشوز في أي صورة من تلكم الصور؛ وهذه الترابطية أو التلاحمية بين حركة الأنساق، هي ما تثير القارئ جماليًّا؛ وتبدو القصيدة - من خلالها- لحمة متكاملة؛ منسقة الخطوط؛ ولعلَّ أبرز ما يؤكد شعريَّة هذه القصيدة، ومقدار بداعتها جماليًّا؛ هذا الإفراز العميق لحيِّز الكلمات الشاعريَّة؛ إذْ تتضافر في سياقها؛ وكأنها خلقت - أصلاً- لهذا الموضع دون سواه؛ فما أجمل هذا النسق الذي يقوم على خلق التوازن، وتكثيف مثيرات الجملة؛ كما في قوله:

يا شفةً...تَفْتِيحُهَا مُمْكِنٌ

ويا سؤالاً؛ بَعْدُ، لم يُسْأَلْ

إنَّ هذا التلاؤم والتوازن في حركة الشطرين؛ يزيدهما تلاحماً، وترابطاً، وانسجاماً نصيًّا؛ ينعكس على القصيدة ومسارها الدلاليّ؛ وقد يعجب القارئ من هذه الجماليَّة الآسرة التي نلحظها في الإفرازات الخياليَّة، للشذرات التصويريَّة المدهشة؛ التي تؤكِّد تمايز القبَّاني عمَّا سواه؛ في طريقة توليد الصورة المفردة الحسيَّة، التي تؤكِّد جدارتها من جهة، واختراقها اللامحدود لحاجز الألفة النصيَّة من جهة ثانية؛ كما في قوله: [يا كُمَّها...أنا الحريقُ الذي/ أصبحَ في هنيهةٍ جدولْ]؛ فهذا التآلف الانسيابي على صعيد التقفيات من جهة، وعلى صعيد ترسيم الصورة العاطفية المؤججة صبابة، وشهوانية، وعشقاً من جهة ثانية، تستثير الذائقة الشعرية، وتحفِّز المتلقي لتتبع جمالياتها؛ وهكذا؛ يبدو لنا أنَّ القبّاني أدرك أنَّ الجمال كماهيَّة نصيَّة فضاءٌ تخيليٌّ تأمليٌّ مفتوح يتلمس حساسية الصورة؛ ويدفع القارئ إلى اللذة في تلقي النصّ والمتعة في تأويله، وتفكيكه؛ ولعلَّ أبرز ما يثير حساسية الجمل - لديه- هذا الاستغراق التأملي، والحس الشعوري المرهف في وصف الأشياء، وترسيمها بدقة؛ كما في قوله:

"لا تَطْلُبي منِّي حسابَ حياتي

إنَّ الحديثَ يطولُ يا مولاتي!

كلُّ العصورِ أنا بها... فكأنَّما

عمري ملايينٌ من السنواتِ

تَعِبَتْ من السفرِ الطويلِ حقائبي

وتعبتُ من خيلي ومن غزواتي

لم يَبْقَ نهدٌ أسودٌ أو أبيضٌ

إلاَّ زرعتُ بأرضِهِ راياتي..

لم تَبْقَ زاويةٌ بجسمِ جميلةٍ

إلاَّ ومرَّت فوقها عرباتي

فَصَّلْتُ من جلدِ النساءِ عباءةً

وبنيتُ أهراماً من الحلماتِ

وكتبتُ شعراً ... لا يشابهُ سحرَهُ

إلاَّ كلامَ اللهِ في التوراة ..

واليومَ أجلسُ فوقَ سطحِ سفينتي

كاللصِّ ... أبحثُ عن طريق نجاةِ

وأديرُ مفتاحَ الحريم فلا أرى

في الظلِّ غيرَ جماجم الأمواتِ

أين السبايا؟ أين ما ملكت يدي؟

أينَ البخورُ يضوعُ من حجراتي؟

اليومَ تنتقمُ النهودُ لنفسها

وتردُّ لي الطعناتِ بالطعناتِ"([9]).

إنَّ لذَّة المغامرة الجماليَّة، أن يفاجئ النصّ قارئه شكله التخييلي الجديد، ومغامرته في تحقيق فاعليَّة قصوى من الاتقاد الشعوريّ في المتلقي من خلال الرؤيا التخييليَّة التي يبثها في تراكيبه الشعريَّة؛ وإنَّ قارئ هذه القصيدة يدهش بمسارها التشكيليّ، الذي يجري سلساً، متدفقا، كماءٍ سلسبيل؛ وإنَّ أبرز خصوصيات الجمال لذَّة الصور الحسيَّة الملتهبة التي، أسماها الناقد علي جعفر العلاَّق بذلك؛ وأكَّدَ قائلاً: "لم يكون شعر نزار، في مرحلته الأولى خاصَّة يكتفي بالمرأة الحلم، أو المرأة العصّيَّة على التحقيق، بل كان هذا الشعر، في معظمه يكتظّ بصور المرأةِ/ الجسد، أو الأنثى المدفوعة بريح الغيرة، وقوة الغواية. لقد كان نزار قبَّاني في تلك المرحلة مهووساً بالجسد وتشهياته، كان يتبع نداءات الحواس حتى ينابيعها القصية دون أن يترك هامشاً، للمرأة في أبعادها الأخرى، وما فيها من تنوّع وخصوبة. ومع أنَّ نزار قبَّاني تجاوز الكثير من ملامح هذه المرحلة الحسيَّة في شعره، إلاَّ أنَّه ظلّ يدفع ثمنها باهظاً حتى سنواته الأخيرة؛ بوصفه شاعر الجسد والغريزة"([10])؛ وهنا؛ يعتمد الشاعر لغة البناء الفني الموحي على صعيد تكثيف الأنساق التصويريَّة، والتقفويَّة التي تثير القارئ من خلال توازي الأنساق اللغويَّة، وتفعيل حيثيات الصورة على مستوى الجزء؛ ومن ثمَّ تفعيلها على مستوى الكل؛ أي على مستوى المقطع الجزئي؛ والنصّ ككل؛ من خلال تكثيف الحيثيات التصويريَّة؛ وتعميق مدلولاتها النصّيّة؛ كما في هذا المقطع:

"واليومَ أجلسُ فوقَ سطحِ سفينتي

كاللصِّ...أبحثُ عن طريق نجاةِ

وأديرُ مفتاحَ الحريم فلا أرى

في الظلِّ غيرَ جماجم الأمواتِ

أين السبايا؟ أين ما ملكت يدي؟

أينَ البخورُ يضوعُ من حجراتي؟

اليومَ تنتقمُ النهودُ لنفسها

وتردُّ لي الطعناتِ بالطعناتِ"

إنَّ قارئ هذه الأسطر يلحظ انبناء كل سطر فنيًّا على الآخر؛ لتبدو الأبيات قطعة نسجيَّة فنية متلاحمة؛ إنْ على صعيد تضافر الأصوات والقوافي؛ وإنْ على صعيد تلاحم الدلالات وانسجامها فنيًّا؛ وهنا؛ تتعدَّد مثيرات القصيدة القبَّانية، بين حسن تمركز الدلالات؛ وحسن تنسيق الصور؛ وبداعة نسجها وإحكامها من جهة؛ وحسن الأصوات والتقفيات التي تخلق رنيناً ساحراً في قفلتها من جهة ثانية؛ وهذا الرنين هو ما يمنحها متعة موسيقيَّة لحظة إلقائها؛ ومتعة تصويريَّة بصورها التشكيليَّة الملتهبة بالغريزة والجنس، وقفلاتها التصويرية المدهشة بتناغمها الصوتي التي يختتم بها قصائده؛ ومن هنا؛ فإنَّ نزاراً ملك مقوِّمات الجمال، والإحساس بالجمال؛ إما عن طريق التلاحم التشكيلي بين الأبيات ، وإن على صعيد تضافر الصور وتلاحمها؛ وإمَّا على صعيد تضافر القوافي والأصوات وتناغمها، ابتداءً من الكلمة الأولى، وانتهاءً بالقصيدة كلها؛ فلا يحس القارئ بأيِّ خلخلة، أو تكلف، أو انهيار في النسق الشعريّ؛ بل الكل في تناسق، وتنظيم بارع الإتقان؛ يرقى فيه القبّاني أعلى مستويات الإثارة، والتحفيز الجمالي؛ ومن هنا؛ فإنَّ الإحساس بالجمال - في شعر القبّاني- يتبدّى في المثيرات التي يحققها التالية:

1-              تركيز الرؤية أو تركيز مدلولها؛ وتوجيه الدلالات جميعها صوب رؤية مركزية تتموضع دائماً في القفلة النصَّيّة؛ وهذا يمنحها دهشة مطلقة في الخواتيم النصيَّة.

2-              حركة القوافي وتواترها، وانسجامها، وتلاحمها؛ لتبدو القصيدة ليست مجموعة أسطر متضافرة فحسب؛ بل هي خلق جديد في الرؤى، والدلالات، والأنساق التشكيليَّة الجماليَّة التي تخلق متعة هائلة على صعيد تموضع القوافي، وتوزيعها في النص.

3-              إنَّ ثمَّة اندماجاً، وتلاحماً عضويًّا بين الأبيات؛ فلا نجد أي تنافر في الأبيات؛ بل تتشابك الجزئيات بالكليات؛ لتخلق نصًّا جماليًّا بأبعاده الشعوريَّة، التي تتنامى أحاسيسه، ودفقاته الشعوريَّة؛ لتصل إلى ذروتها في القفلة النصيَّة؛ ولذلك؛ تبدو قصيدته كتلة شعوريَّة جماليَّة؛ مؤسسة على التلاحم، والتوازن الشعوري الداخلي، من أولها إلى آخرها؛ وهذا ما يحسب لشعريَّة القبّاني؛ أنها متوازنة، تحث خطاها بإحساس داخلي شعوري منظم؛ يتجلى على بيان الصفحة الشعريَّة متوازناً، منظماً، بأنساق تشكيليَّة غاية في التلاحم، والتوازن، ولذة التعبير؛ واستناداً إلى هذا؛ يتبدَّى لنا الجمال - في قصائد القبّاني- من فضاء متخيلاتها الشعريَّة المتوازنة، وقفلاتها التقفوية الملائمة لطبيعة الحدث، وحيِّز الرؤية المجسدة.

3- الجمال كماهيَّة شعور، ونبض ،وإحساس، وطريقة تشكيل:
إنَّ الجمال ليس رؤية وتشكيل فحسب؛ وإنما موقف، واتجاه، وشعور، وحساسيَّة، وطرائق تشكيل مبدعة؛ ولذا؛ فإنَّ مُحَلِّل النصّ جماليًّا يجب أن يضبط هذه الرؤى، ليشكل موقفاً جماليًّا إزاء النصّ المدروس؛ "فالشاعر المبدع يقوم بضبط اهتماماته، والسيطرة على نزعاته غير الجماليَّة، والموقف نفسه مطالبٌ به القارئ الذي ينبغي عليه أن يسيطر على ما هو غير جماليّ أثناء عملية التأمل، والاستمتاع، والتذوق. فحين نقبل على تذوق قصيدة جماليًّا، يكون التحرر من بعض الرؤى، والأحكام المسبقة التي تراكمت من خلال قراءات سابقة لنماذج شعريَّة أخرى، كتلك التي تحمل النظرة الأخلاقية للشعر، والوظيفة الاجتماعيَّة، أو التي ترى فيه وزناً، وقافيةً، أمراً بالغ الأهميَّة من الوجهة الجماليَّة التي تدعو إلى التركيز على القصيدة لذاتها وعلى عناصرها الجماليَّة، وبذلك، يتحقق الاستغراق الذي يلفُّ القصيدة، ويتوغَّل في عمقها الجماليّ؛ ويجعلها تمارسُ على المتلقي نوعاً من الاستحواذ"([11])؛ وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ الموضوع الجماليّ، لا يخلو من دفق شعوري، وإحساس تأملي عميق؛ فالذي يصنع الجمال لا الشكل فحسب؛ وإنما يختزنه الشكل من رؤى، ودلالات، وأحاسيس جماليَّة صاغها الفنان أو الشاعر بطريقة جماليَّة مبتكرة؛ يقول عالم الجمال (دوفرين): "إنَّ الموضوع الجماليّ يتمُّ تخصيبه بمقدار ما يجد العمل الفني من جمهور واسع؛ وتفسيرات عديدة متنوعة" ([12]). وهذه الصفة التي أضافها (دوفرين) تنطبق على نصوص الشاعر نزار قبَّاني؛ فأشعار القبّاني دخلت محراب كل البيوت؛ وسكنت في قلوب الناس عامَّة؛ من مثقفين وغيرهم؛ وهذا دليل على الشريحة الواسعة التي استقطبتها أشعار نزار قبَّاني؛ ولعلَّ أبرز ما دفع شعر نزار قبَّاني إلى استحواذ إعجاب الجمهور؛ هذه الكثافة الانفعالية، وهذا الصدق في التعبير، عما يختزن مشاعره، ومشاعر الناس وأحاسيسهم؛ من رؤى، وتأملات، وأحاسيس عارمة في نفوسهم؛ من خلال جرأته في اجتراح مواضيع محظورة، أو مسكوت عنها، في العرف الاجتماعي؛ كا [المرأة] [والغريزة/ والجنس]؛ يقول القبَّاني: "إنَّ امرأة تُخْرِج من حقيبتها ورقة كلينيكس وتمسح جبيني؛ وأنا أسوق سيارتي تمتلكني ... وإنْ امرأة تتناول رماد سيجارتي براحتها، وأنا أستغرقُ في التدخين ... تذبحني من الوريدِ إلى الوريد ... إنَّ امرأةً تضع يدها على كتفي وأنا أكتب ... تعطيني كنوز الملك سليمان ... حركات الاهتمام الصغيرة هذه تنفضني كعصفورٍ إنني أعتبرها كمداساتِ البيانو تتوقَّف على مهارة العازف ... قليلات ... قليلات من يعرفن العزفَ على أعصابِ الرجال"([13]).

فالقبَّاني عبَّر عن المرأة بطريقة جديدة؛ وشكّل منها موضوعاً جماليًّا جذب من خلالها أحاسيس القرَّاء ومشاعرهم؛ وعبّر- من خلالها- عن مشاعر مكبوتة في داخلها وداخلهم؛ لذلك؛ كانت المرأة عنصراً جماليًّا شائقاً، مستقطباً لأذواق متلقي الشعر؛ خاصة الشعر الحسيّ الذي يرصد شهوة المرأة، وشهوة الرجل؛ وكيفية توظيفها بما يخدم العالم الوجودي، والحركة الوجودية المعيشة، برؤى لا تخلو من جرأة، وتجاوز للعادات والتقاليد بما يُسَمَّى شعرنة الجنس؛ يقول القبَّاني في الموسومة بـ [اسمها] ما يلي:

"اسْمُهَا في فمي ... بكاءُ النوافير

رحيلُ الشذى ... حقولُ الشقيق ِ..

حزمةٌ من تَوَجُّعِ الرصدِ ...رفٌّ

من سنونو يهمُّ بالتحليق ِ

كنهورِ الفيروزِ يهدرُ في روحي

وينسابُ في شعوري العميق ِ

كَلُهَاثِ الكرومِ؛ كالنشوةِ الشقراء

غامتْ على فمِ الإبريقِ

كمرورِ العطورِ مبتلَّةَ الريشِ

على كلِّ مُنْحَنَى ومضيق ِ...

كحريرِ النهدِ المُهَزْهَزِ فيهِ

عَلَّقَ اللهُ قطرةً من عقيق ِ

كقطيعٍ من المواويلِ حَطَّتْ

في ذرى موطني الأنيق ِ الأنيق ِ

اسْمُهَا ركضةُ النبيذِ بأعصابي

وزحف السرورِ طيَّ عروقي

شفتيَّ، كالمزارعِ الخُضْرِ، إنْ مرَّ

كنسيانَ، كالربيعِ الوريق ِ.

أحرفٌ خمسةٌ؛ كأوتارِ عودٍ

كترانيمِ معبدٍ إغريقيّ

أحرفْ خمسةٌ، أشفُّ من الضوءِ

وأشهى من نكهة التطويق ِ

اسمُكِ الحُلْوُ...أيُّ دينا تناغيني

وتهدي إلى النبوغِ طريقي!" ([14]).

إنَّ القيمة الجماليَّة للقصيدة السابقة تتأسّس على ما يسمى [لغة الصورة الحركة]، ونعني بالصورة الحركة الصورة المتحرِّكة بصريًّا من شكل إلى آخر؛ بتلوين ومضي متتابع، ينقلنا من صورة حسيَّة إلى آخرى؛ ومن ترسيمة تصويريَّة رومانسيَّة إلى ترسيمة أكثر دهشة وإثارة وحركة من سابقتها؛ ليحرك المشهد الكلي؛ لتتشكل جزئيات اللوحة المشهديَّة لتستحوذ على كامل الدهشة والروعة؛ فما أجمل هذه التفريعات في تشكيل الصورة اللوحة: "شفتيَّ، كالمزارع الخضرِ، إنْ مرَّ كنسيان، كالربيع الوريق"؛ إنَّ هذه الصورة الحركة تثيرنا فنيًّاً بالانتقال من صورة حسيَّة، إلى أخرى بنسق أكثر تجسيداً وترسيما،ً هو ما يخلق شعريَّة الصورة الحركة؛ وهكذا، تنبني هذه القصيدة - جماليًّا- على مثيرين متوازيين في تشكيل هذه القصيدة؛ المثير الأول: مثير تشكيلي بنائي على مستوى الأنساق التصويريَّة؛ مما يعزِّزها - جماليًّا- بهذه الصور، والتشبيهات المتتابعة التي تزيدها حركة ازدواجية على مستوى الدلالة، وحركة المعنى؛ كما في هذه التشبيهات التالية: "اسْمُهَا في فمي...بكاءُ النوافير...رحيلُ الشذا...حقولُ الشقيق...حزمَةٌ من توجُّعِ الرصدِ..رفٌّ من سنونو يهمُّ بالتحليق...كنهورِ الفيروزِ...كلهاثِ الكروم...كمرورِ العطورِ..كقطيعٍ من المواويل"؛ إنَّ هذه التشبيهات والصور المتتابعة تثير القصيدة عاطفيًّا، وتعزِّزها جماليًّا؛ وتؤكِّد نزوعها الرومانسيّ  التشكيليّ اللوحاتي الدقيق؛ أما المثير الثاني: فهو مثير إيقاعي عاطفي منبعث من نفس عاشقة الإيقاع، والحركة التموجية النفسية حتى النخاع، وتجلَّى ذلك في بث الشعور، ورصد المتخيلات الشعريَّة؛ بألق فني وانفتاح تأملي عميق؛ ورنين إيقاعي منبعث من تجانس الإيقاعات الصوتية، وتجاورها في حركة القوافي مع فضاء المتخيِّلات الشعريَّة عبر التشبيهات المتتابعة؛ كما في قوله: "شفتيَّ، كالمزارعِ الخُضْرِ، إنْ مرَّ... كنسيانَ، كالربيعِ الوريقِ...أحرفْ خمسةٌ؛ كأوتارِ عودٍ..كترانيمِ معبدٍ إغريقيّ.."؛ إنَّ هذه القصيدة تسير مساراً جماليًّا وفق خطين متلازمين: خط الصورة، وما توحيه من دلالات، وخط الإيقاع واللحن الشاعري، وما ينبعث منه من إيقاعات صوتيَّة منسجمة، منبعثةً من أصداء القوافي المتتابعة المتلاحمة: [الشقيق = التحليق- العميق- الإبريق- مضيق- عقيق- الأنيق- اغريقي- التطويق]؛ وإنَّ كل صورة تمثل ترسيمة جمالية إيقاعية في المسار الكلي النصّي الذي تخطه؛ واللافت أنَّ النسق التشكيلي ضمن المسندات [المسند/ والمسند إليه] يأتي متلاحماً فاعلاً؛ كما في قوله: [ركضةِ النبيذ - نكهة التطويق- النشوة الشقراء- الربيع الوريق- حرير الهند]؛ إنَّ هذه التشكيلات تحمل جماليَّة في ذاتها؛ فكيف ضمن سياقها؟! الذي يضجُّ بالتلاحم، والتوازن، والنسج الفني المحكم؛ فما أجمل حركة هذه الصورة جماليَّة: "أحرفْ خمسةٌ..أشفُّ من الضوءِ..وأشهى من نكهة التطويقِ... اسمُكِ الحُلْوُ...أيُّ دينا تناغيني..وتهدي إلى النبوغِ طريقي!"؛ إنَّ هذا التآلف الصوتي يُكسِب القصيدة ترانيمها الجمالية، ويخلق لذتها الإيقاعية؛ فهي أشبه بالعزف المنفرد على سمفونية خصبة بأنغامها، وإيقاعاتها الصوتية؛ وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ الإحساس الجماليّ – عند نزار قبَّاني- يملك مصداقيته من خلال إيقاع تجسيد قصائده؛ إنْ على مستوى الصور وإيحاءاتها من جهة؛ وإنْ على مستوى الإيقاعات الصوتية الداخلية المنبعثة من التراكيب الجزئية، والقوافي الشطرية المتجانسة، والمنسجمة فيما بينها من جهة ثانية؛ لهذا؛ تتجه جماليَّة قصائده اتجاهاً فنيًّا جماليًّا خالصاً من موضوعها الجزئي إلى رؤيتها الكليَّة، وبنائها الكلي النصّي المتلاحم؛ ولعلَّ هذا يؤكِّد لنا الطبيعة الفنيَّة للنصوص الإبداعية الرفيعة المستوى؛ على نحو ما ذهب إلى ذلك دوفرين بقوله: "إنّ العمل الفنّيّ هو موضوع واقعي يكون متجهاً نحو الّلاواقعي؛ والموضوع الجماليّ هو موضوع لا واقعي يكون متأصِّلاً في الواقعي"([15]). ولذا؛ فإنَّ الإحساس الجمالي - في قصائد نزار قبَّاني- تسير من مسارها الواقعي إلى مسارها اللاواقعي؛ بفضاء متخيلاته البعيدة؛ وإن طغى عليها الطابع الحسي أحياناً؛  فإنَّ هذا الطغيان سرعان ما يميل إلى التخييل العميق اللامدرك؛ وإن بدا حسيًّا أو مجسداً بصريًّا؛ فالشعور الجمالي الحسيّ - عند القبّاني- ينطوي على شعور داخلي روحي لا حسيّ مباش،ر أو حسيّ بسيط يطفو إلى السطح مباشرة؛ ولذا؛ فإنَّ  قصائده تنطوي - جماليًّا- على تشعير الأنثى جسداً جماليًّا، أو تمثالاً خصباً للإفرازات الجماليَّة؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قصيدته (مساء)؛ لتبيان مدار الإحساس الجمالي وخصوبته الإبداعية؛ إذْ يقول:

"قِفِي كستنائيَّةَ الخصلاتِ...

معي، في صلاةِ المَسَا التائِبَهْ

نَرَ الليل يرصفُ نجماتِهِ

على كتفِ القريةِ الرَاهِبَهْ

ويرسمُ فوقَ قراميدها

شريطاً من الصورِ الخالبَهْ

قفي وانظري ما أحبَّ ذرانا

وأسخى أناملها الواهبَة

مواويلٌ تلمسُ سقفَ بلادي

وترسو على الأنجمِ الغاربَة

على كرزِ الأُفقِ قامَ المساءُ

يُعَلِّقُ لوحاتِهِ الشاحبَهْ

وتشرينُ شهرُ مواعيدنا

يُلَوِّحُ بالديمِ الساكِبَهْ

بيادرُ كانتْ مع الصيفِ ملأى

تنادي عصافيرها الهارِبَهْ

وفضلاتُ قشٍّ وعطرٌ وجيعٌ

وصوتُ سنونُوَّةٍ ذاهِبَهْ

شحوبٌ...شحوبٌ على مدِّ عيني

وشمسٌ كأمنيةٍ خائبهْ

...... .... .......

أُحبُّكِ حرفاً ببالِ الدواةِ

ووعداً على الشفةِ الكاذبَة

وخصراً يعيشُ بنُعْمَى يدٍ

ويحلمُ بالراحةِ الغاصِبَة

وفي اللونِ .. وفي الصوتِ وفي كلِّ شيءٍ

وفي الله .. في دمعةِ الرَاهِبَة

أُحبُّكِ أوسعَ من كلِّ دنيا

ومن مَدَّعي الريشةِ الكاتِبَة"([16]).

إنَّ الجمال كماهيَّة نصّيّة إبداعيَّة طرائق تشكيليَّة إبداعية مبتكرة، ووحدة عضوية متماسكة تدلّ على تناسق، وتآلف، وشعور؛ وإنَّ مثيرات القصيدة السابقة جماليًّا تكمن في وحدتها وتلاحم شعورها؛ وتناغم إحساساتها؛ وبداعة تشكيل صورها بتضافر نسقي عجيب؛ وائتلاف تصويريّ؛ ينقل الصور من حسيتها وفردانيتها المباشرة إلى تركيبها وإيحائها العميق؛ ولعلَّ أبرز ما يدلنا على ذلك هذه الصورة: [شحوبٌ.. شحوبٌ على مدّ عيني/ وشمسٌ كأمنيةٍ خائبة]، إنَّ إدراك هذه الصورة جماليًّا يعني إدراك عمق هذه الصورة، ومصدر حركتها، وفاعليتها النسقية؛ إن على المستوى الدلاليّ؛ وإن على المستوى الإيقاعي، وهذا يعني أنَّ الصورة تربط عنصريّ التخييل والتجسيد في آنٍ معاً؛ إذْ خلق الشاعر جدليَّة خفية بين لون الشحوب؛ وهو لون يدلُّ على السأم، والمرض، والموت وهو دالّ سلبي قاتم؛ ودالّ الشمس الذي يدلّ على الإشراق، والتفتح، والحياة؛ وهو دالّ إيجابي نقيض لدالّ السأم والموت، ثم أردف نسق الصورة بهذا التشبيه الانزلالقي [أمنية خائبة] الذي ينطوي في دلالته، على جدليَّة كذلك تعكس الجانبين معاً؛ الجانب الإيجابي والسلبي؛ فالأمنية تدلّ على رغبة؛ وتدلّ على إشراق وتفتح، في حين أنَّ صفة [خائبة] تدلّ على النقيض تماماً تدلّ على الضياع، والخسران، والفشل؛ نجمع النقيضين في الصورة الواحدة؛ وهذا الأسلوب هو ما يمنح جمله الشعريَّة طابعاً جماليَّا؛ مبنيًّا على إحساس حقيقي؛ بأنَّ الجمال هو صهر المتناقضات في كينونة نسقية متكاملة متفاعلة تشعُّ بدلالات باطنية؛ إشراقية؛ تحفِّز الرؤية، وتنمي حركتها من الجوهر. وهكذا؛ تبدو القصيدة دفقاً شعوريًّا مُكَثَّفاً من الرؤى، والأحاسيس، والمشاعر الغزليَّة الحسيَّة التي تلتهب في تشكيلها فنيًّا وجماليًّا؛ والّلافت - على المستوى الجمالي- أنَّ جزئيات الصور كلها لم تأتِ عشوائيَّة، أو مشتتة ذهنياً؛ بل جاءت كياناً متماسكاً متضافراً جماليًّا؛ ولو درسنا الخصائص الجماليَّة في المثيرات الصوتيَّة على مستوى التقفيات ومسارها الإيقاعي؛ ومدى تفاعلها مع النسق التصويري المجسد لكينوتها؛ لتبدَّى لنا تمظهر هذه التقفيات؛ لتخدم المعنى المراد؛ وهذا ما سنمثله من خلال التآلف بين الأنساق اللغويَّة وحركة القوافي، وتجانسها، وتآلفها، وانسجامها؛ وأجمل هذه الأنساق قوله: "عطرٌ وجيعٌ"؛ إنَّ  هذا التشكيل لا يقوله إلاَّ شاعر، ولا يقوله إلاَّ متمرس في فضاء الخصوبة الجماليَّة والألق الشعوري؛ والعمق التأملي؛ إذْ إنَّ لفظة عطر تتناسب معها لفظات من حقلها الدلالي؛ كأنْ يقول الشاعر [عطرٌ خصيب/ أو عطرٌ رحيق]؛ أما أن يفاجئ الشاعر القارئ بهذا الأسلوب العميق؛ وهذه الحدّة في الانزياح الدلالّ بين الصفة والموصوف؛ فهذا يخلق قفزة في التلقي، وقفزة في الدلالة؛ وقفزة في الإيحاء الشعري، بين دلالتين متناقضتين، تنتمي إلى حقلين دلاليين متضادين؛ حقل العطر؛ ما يمثله من خصوبة؛ وإيحاء، وفرح؛ وحقل الوجاعة، وما يمثله من سقم، وأسى، وحزن؛ ولهذا، بدت الصور - لديه- تأمليَّة جماليَّة خصبة متنامية في دلالاتها، وإشعاعاتها الجماليَّة وهذا ما نلحظه كذلك في قوله:

"على كرزِ الأُفقِ قامَ المساءُ

يُعَلِّقُ لوحاتِهِ الشاحِبَهْ"

إنَّ من  يتأمَّل جماليًّا- في هذا القول يلحظ حيازته على كم هائل من المثيرات الجماليَّة؛ فهي تتمثل أولاً في التشكيلات المفاجئة [كرز الأفق]، [قام المساء/ يُعَلِّق لوحاته الشاحبة]، من خلال تضافر إيقاع التجسيد في قوله [كرز الأفق]/ وإيقاع التجسيم في قوله: [لوحاته الشاحبة]؛ وإيقاع الأنسنة من خلال قوله: [قام المساء يُعَلِّق لوحاته الشاحبة]؛ إنَّ هذه القدرة على تخليق الشعريَّة - جماليًّا- ضمن النسق الشعريّ هي التي تجعل المتلقي يسبح في فضاء تأملي عميق من الرؤى، والدلالات، والمثيرات التشكيليَّة؛ التي تبعث في نفسه اللذة في التلقي، واللذة في الإحساس الجمالي بهذه المثيرات؛ خاصة عندما ينعكس أثر هذه المثيرات على المستوى الكلي في القفلة النصيَّة؛ كما في قوله:

"أُحبُّكِ حرفاً ببال الدواةِ

ووعداً على الشفةِ الكاذبَهْ

وخصراً يعيشُ بنُعْمَى يدٍ

ويحلمُ بالراحةِ الغاصِبَهْ..

وفي اللونِ...وفي الصوتِ. وفي كل شيء

وفي الله..في دمعةِ الراهبَهْ..

أُحبُّكِ أوسع من كلِّ دنيا

ومِنْ مُدَّعي الريشةِ الكاتِبَهْ".

إنَّ قارئ هذه الأبيات يلحظ تناغمها الإسناديّ وحيازتها على كم هائل من المثيرات الجماليَّة؛ أولاً- المثير الحسيّ الجمالي؛ ويتبدَّى عبر التشكيل الجمالي الشعوري المثير بقوله: [أُحبُّكِ حرفاً ببال الدواة]؛ فالقارئ قد ينتابه المعنى المتداول القريب من القول السابق؛ كأن يقول الشاعر مثلاً: [أُحبُّك حرفاً ببال السؤال أو ببال الكلام]؛ وهذا، قد يبدو أقرب للقارئ؛ لكن الشاعر آثر التخليق الحسي الجمالي بقوله: [ببال الدواة]؛ ليخلق صحبة روحية، وألفة معتادة بينه وبين دواة الحبر التي يسطر بها خارطة أشعاره؛ وهذه الألفة قد نقلت شعوره إلى الخارج؛ وبدت مشاعره متلهفة للمحبوبة؛ كتلهفه لدواة الحبر والكتابة؛  ثم فاجأ القارئ بالنزوع التشكيلي المثير الآخر: [ووعداً على الشفة الكاذبة]؛ فقد يتبادر إلى ذهن القارئ تشكيلاً لغويًّا معتاداً آخر كقوله: [ووعداً على الشفةِ الّلاهبة]؛ إذْ إنِّ الشوق الذي يضطرم في نفس العاشق لرؤية المعشوقة؛ أشبه باللهب الذي ينشبُّ في كيانه ممثلاً بالشهوة الحارقة إلى اللقاء؛ ولهفة الحنين إلى القبلات والعناق؛ لكن الشاعر آثر دهشة القارئ بقوله [الكاذبَهْ]؛ ليؤكد أن حركة الشفاه الكاذبات تثير النفس وتحفز الغريزة؛ وإنَّ لفظة [شفاه] تثير الغريزة؛ بدالها المفرد دون أية صفة أخرى ملازمة لها؛ لكن الشاعر آثر تعزيزها بالصفة الأخرى [الكاذبات] التي تعضد دلالتها الجنسيَّة؛ وتزيد دلالتها على الغريزة والجنس؛ فبث عنصر الإثارة الجنسية الحسيَّة بلفظة [كاذبة]؛ كإثارته للفظة الأخرى الموازية في الذهن [الشفة اللاهبة]؛ وبذلك خلق الشاعر نزار في قصائده انتهاكات تشكيليَّة؛ تثير الغريزة الحسيَّة؛ ولا تصرح بها مباشرة في بعض الأحيان؛ وهذا يعني أن لغة الجنس والغريزة وإن فارقته لفظاً لاتفارقة دلالة، فهي حاضرة بقوة في سياقات قصائده المحمومة؛ فاللفظة - لديه- هي مركب تصويري يقود التراكيب الأخرى؛ ولذلك؛ فإنَّ المثير الحسيّ هو ما يعزز رؤيته الجماليَّة للأشياء؛ أما المثير الثاني، فهو المثير الإيقاعي الذي يتبدَّى في التموج الصوتي باعتماد حركة الكسرِ، والجر، والتنوين أحياناً مصاحباً صوتياً للقوافي في بث حركتها الانسجامية، وخلق ائتلاف نسقي بين ما يحسُّ به، وما يحرك هذه الأحاسيس من إيقاعات داخلية نفسية مصاحبة للقوافي في مسارها النصي؛ كما في قوله: "وفي اللونِ...وفي الصوتِ..وفي كلِّ شيءٍ...وفي اللهِ..في دمعة الراهِبَه"؛ إنَّ هذا الإحساس الجمالي المكتنز الذي تمثله حركة القوافي في مسارها النصيّ، وتآلفها مع قفلة الختام: [أحبُّكِ أوسع من كلِّ دنيا/ ومن مُدَّعي الريشةِ الكاتِبَهْ]؛ يؤدي دورين فنيين؛ أولهما؛ خلق حركة مموسقة على صعيد تواتر القوافي وتلاحمها وانسجامها فنياً؛ وثانيهما؛ خلق مصاحبات لغوية تزيد درجة التناغم، والتآلف الصوتي بين ما تبثه هذه التشكيلات؛ وما يشعر به الشاعر من أحاسيس، ويبثه من رؤى، ودلالات؛ لتبدو القصيدة - لديه- لوحة شعورية جماليَّة مكثفة من الرؤى، والدلالات، والإيحاءات، وبذلك؛ يخلق القبّاني في قصائده حركة مموسقة، تتبدَّى في كثافة الإيقاعات النفسية المصاحبة لها؛ لتخليق الجماليَّة في الحركة الشعريَّة على صعيد القوافي وحركتها المنسجمة؛ وعلى صعيد التنسيقات التشكيليَّة التي تزيد جماليَّة الإيقاعات الصوتية في القصيدة؛ وبذلك يتلاحم جماليًّا؛ جمال المعنى، وجمال المبنى في قصائده؛ وهذه الجماليَّة مصدرها عمق الإحساس ،وحيوية الرؤية، وإدراكها المعرفي الشامل للمثيرات التشكيليَّة، في خلق اللذة الشعريَّة: [لذة في التلقي/ ولذة في الإحساس الشعوري لدى القارئ]؛ من جرَّاء هذه التشكيلات المراوغة التي تُفَتِّح بصيرته، وتدفعه إلى تقبلها جماليًّا؛ إذاً؛ تُعَدُّ المحفزات الجماليَّة - في شعر نزار- متبطنة أَتون أحاسيسه الداخلية، وفاعليَّة أسلوبه الشعريّ في ترجمة هذه الأحاسيس بجماليَّة إيقاعية، وتشكيلات بنائية تثير القارئ من أول بيت شعري في قصائده إلى آخر بيت في تشكيلها النصي؛ وهذا ما يحسب لقصائده وحركتها النصية ومسارها الإبداعي.

4- الجمال كماهيَّة نصّيّة خبرة مكتسبة وتجربة معيشة:
إنَّ جماليَّة النصّ الشعريّ ليست محدّدة بقيمة؛ وإنما بمجموعة قيم جماليَّة، يستقيها كل نصّ من بنيته؛ ومدى إشعاع هذه البنية، ومدى ابتكارها؛ ومدى سوية تلقيها جماليًّا من قِبَلِ المتلقي؛ ومن هنا: "ليست القصيدة جملة من التوترات وحسب؛ تتعاقد فيما بينها في ما يشبه الجملة العصبيَّة التي تتولَّى إدارة الأحاسيس المختلفة في الجسد الحيّ؛ بل القصيدة – إضافة إلى ذلك- حركة لها من الامتداد في الزمان والمكان ما يجعلها تحتل حيِّزاً من الوجود، يتجاوز الإنشاد، ويتجاوز الكتابة، إلى التاريخ، وعندما نستعمل مصطلح التاريخ لا نريد منه الإخبار عن الماضي فقط؛ وإنما نريد منه التشوف إلى المستقبل كذلك؛ لأنَّ الحركة التي تسكن القصيدة الحيَّة لابُدَّ أن تذهب بها من الماضي إلى الحاضر، إلى المستقبل، تكتسب في سيرورتها من المقوِّمات المستجدة ما يخوِّل لها استدامة الفعالية، والتأثير في الأجيال المتعاقبة؛ كذلك صنيع الفن الذي إذا ما انتهى من التعبير عن مقاصد صاحبه أصالة، انفتح على التجارب الإنسانيَّة من غير قيد أو شرط، سوى شرط التفاعل الصادق مع التجربة الأم. "([17]).

إنَّ جماليَّة البناء النصّي تكمن في فاعلية هندسته، ومقدار ما يبثه من ظلال إيحائيَّة جماليَّة تضيف إلى القارئ فعالية في تلقيه وتأويله؛ ومشاركته في عملية البناء النصي له من جدي، برؤى مبتكرة تؤكد فاعلية النص دون أن تلغيه؛ ولو تأملنا في مصطلح الجمال؛ ومفهوم الجمال لقلنا: إنَّ الجمال ومفهوم الجمال مازال غائماً عند الكثير من منظِّري علم الجمال في العالم الغربي والعربي على السواء؛ فالموضوع الجمالي هو موضوع فراغي حرٌّ غير محدَّد بهدف، ورؤية، ومنظور وجودي؛ إنَّه منظور مفتوح مغاير لما هو متوقع أو معتاد؛ ولذا؛ فإنَّ تقييم الجمال يحتاج إلى خبرة معرفية شاملة، وتجربة معيشة حقيقة؛ ليتحقق الإدراك الجمالي؛ وليس فقط الحس الجمالي؛ فالحس الجماليّ عام، والإدراك الجمالي خاص؛ ولذا؛ فإنَّ الإدراك الجمالي يتطلب معرفة واسعة، وخبرة معرفية لا يعيها إلاّ ذوو القدرة، والموهبة على تقييم الجمال، وإدراك كنهه؛ يقول دوفرين: "إننا يجب أنْ نُعَرِّف الخبرة الجماليَّة بالرجوع إلى الموضوع الجمالي؛ وأن نُعَرِّف الموضوع الجماليّ بالرجوع إلى الخبرة الجماليَّة، فالخبرة الجماليَّة هي خبرة بموضوع جماليّ، والموضوع الجمالي هو ما يكون موضوعاً لهذه الخبرة؛ والدور واضح. وهذا الدور نفسه يضعنا في قلب مشكلة علاقة "الذات- الموضوع"..هاهنا نجد - في هذا الدور- مشكلة العلاقة بين الذات والموضوع ماثلة برمتها؛ ونفس هذا الدور نجده في الفينومينولوجيا التي تستخدم هذا الدور في تعريف القصديَّة؛ وفي وصف العلاقة التبادلية بين فعل القصد (Noema) التي يعتمد فيها كل منهما على الآخر"([18]). 

إنَّ الجمال كموضوع هو حيازة لشكل متناسق من جهة، وحيازة لطريقة عمل أو إبداع خاصة؛ لا يملكها إلاّ المبدع ذاته في تشكيل الموضوع الإبداعي؛ من جهة ثانية؛ والسؤال المطروح: هل المعرفة الجماليَّة التي يملكها القبّاني خولّته لأن يكتب نصوصاً شعريَّة جماليَّة بهذا التناسب الرهيب بين الشكل الإيقاعي، والنبض التشكيلي اللغويّ المتضافر لغةً ومعنىً؟! وما مقدار نجاحه في إصابة اللبّ الجمالي في كل قصيدة من قصائده؟ وما سرّ هذا التوفيق إذا كان هذا واقعاً حتماً في الكثير من قصائده؟!

لابُدَّ أن نؤكد - بداية- أن الإدراك الجمالي، والخبرة الجماليَّة، والمعرفة الواعية بالمثيرات اللغويَّة، ومحفزاتها التشكيليَّة خبرة مكتسبة يكتسبها المبدع نتيجة ممارسة ومرانٍ مستمر دائم؛ وليست وليد الإحساس الرهيف أو الشعور الرهيف حصراً؛ ويمكن أن نقول: إنَّ سلسلة ظروف، ومعطيات، ومكتسبات ساعدت نزار قبَّاني على الإبداع؛ وهذه الظروف ولدت - عند القبَّاني- نزوعاً صوب الابتكار، سواء أكان ذلك عن طريق بناء النصّ؛ أم عن طريق توليف لغة شعريّة شائقة تجمع بين جانبين: السهولة، والرشاقة، والخفة من جهة، والرصانة، والعمق، وبعد التخييل من جهة ثانية؛ ومن هنا، حازت قصائد القبّاني على مثيرات الإبداع كفنّ جمالي يرقى فيه أعلى المستويات من العمق، وبداعة التخييل؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

"في مرفأ عينيكِ الأَزرقْ

أمطارٌ من ضوءٍ مسموعْ

وشموسٌ دائخةٌ..وقلوعْ

ترسمُ رحلتها للمطلقْ

         *  *  *

في مرفأ عينكِ الأزرقْ

شُبَّاكٌ بحريُّ مفتوح

وطيورٌ في الأبعادِ تلوح

تبحثُ عن جُزُرٍ لم تُخْلَقْ...

  *  *  *

في مرفأ عينيكِ الأزرقْ

يتساقطُ ثلجٌ في تموزْ

ومراكبُ حُبْلَى بالفيروزْ

أغرقتِ البحرَ ولم تغرقْ

  *  *  *

في مرفأ عينيك الأزرقْ

أركضُ كالطفلِ على الصَخْرِ

استنشقُ رائحةَ البحرِ..

وأعودُ كعصفورٍ مُرْهَقْ

   *  *  *

في مرفأ عينيكِ الأزرقْ

أحلمُ بالبحرِ وبالإبحارْ

وأصيدُ ملايين الأقمارْ

وعقودَ اللؤلؤ والزنبقْ

   *  *  *

في مرفأ عينكِ الأزرقْ

تتكلَّمُ في الليلِ الأحجارْ

في دفترِ عينيكِ المغلقْ

من خَبَّأ آلافَ الأشعار؟.

لو أنِّي..لو أنِّي...بحَّارْ

لو أحدٌ يمنحني زورقْ

أرسيتُ قلوعي كلَّ مساءْ

في مرفأ عينيكِ الأزرق"([19]).

قد يتساءل القائل أين تكمن مثيرات الجمال - في القصيد السابقة- إذا كانت غنائيَّة، ولا تنطوي على أيَّة فكرة رئيسة، أو رؤيا جوهريَّة؟! أين هي الأسس الجماليَّة التي تملكها القصيدة؟! وما هي المثيرات الجماليَّة الواضحة التي تنطوي عليها القصيدة السابقة، لنؤكد أنَّ القبَّاني يعي الجمال حقيقة نتيجة خبرة معرفية، وإحساس جمالي مكتسب؟! ما هي القرائن والدلائل على هذه الجماليَّة المزعومة ؟!

إننا نجيب عن سؤال السائل بقولنا: إنَّ شعريَّة أي نصّ تُقَاسُ بمقدار ما يثيره فينا هذا النص من لذة جماليَّة، وإدراك جمالي، وإحساس جماليّ؛ والنصّ المثير جماليًّا هو النص القادر على جذبنا من الداخل من دائرته الإبداعية؛ والنصّ السابق يملك مقوِّمات الجمال جميعها، وهي، كما يلي:

أ- جماليَّة الاستهلال:
تكمن جماليَّة الاستهلال في أيّ قصيدة بمقدار ما تولده هذه الفاتحة الاستهلاليَّة من إثارة صوتية ودلاليَّة؛ وتفتح محراب القصيدة بتشويق وتحفيز فني يؤكِّد ترابط الرؤى، وانسياب الصور، والأفكار، انسياباً متلاحماً؛ يشي بالإحكام الفني، والإمتاع الشعوري لحظة تلقي القصيدة؛ إذْ إنَّ التلاعب الفني في الفاتحة الاستهلالية بما يتوافق والرؤى المطروحة، ومثيرات المفاجأة النصيَّة التي ولدتها هي ما تجعل المتلقي متحفِّزاً دائماً لاستقطاب النصّ والتفاعل معه؛ وكلما ولّدت –لديه- هذه الفاتحة دهشة واستغراباً كلما دفعته إلى مغامرة القراءة، ومتعة الكشف، والتأويل؛ وإنَّ قارئ القصيدة السابقة يلحظ قدرة القبّاني على استهلال القصيدة بهذا النزق العاطفي الترسيمي الدقيق بالجار والمجرور "في مرفأ عينيك"، وهذا التقديم يدل دلالة على القيمة الجماليَّة للجار والمجرور، بإبرازه بصريّاً في استهلال الجملة، مما يؤكد أهميتها في تحفيز الدلالة من جهة، وخلق إيقاعيَّة لافتة متسارعة من جهة ثانية؛ فالقارئ تستوقفه الاستهلالات الصادمة، أو المفاجئة التي تحرك النسق الشعري؛ وتزيد الحساسية الشعريَّة إزاء الصور، والأنساق اللاحقة؛ وتخلق في الآن ذاته لذة جماليّة، أو لذّة عاطفية استقطابية للمدلولات الصادمة، والمداليل الاستهلالية المفاجئة؛ بمعنى خلق تلاحم بين الاستهلال وما يتلو الاستهلال من مثيرات ودلالات وإيحاءات، وجمل، وصور بعدية؛ لتأتي الاستهلالات دافعة الحركة الفنية الجماليَّة، للتأقلم مع المساق الشعري كله؛ فيما يتلو الاستهلال من مثيرات؛ وهنا؛ خلق لذة الاستهلال بقوله: "أمطارٌ من ضوءٍ مسموعْ"؛ ثم ولَّد جملة أخرى موازية لتلك الجملة؛ وهي [وشموسٌ دائخةٌ وقلوع]؛ التي عضّدت إيقاعية الجملة السابقة بتعادلها فنياً معها، أو توازيها نسقيًّا مع شكلها النسقي المتوازن؛ ثم خلق متعة استثنائية بقوله: "ترسم رحلتها للمطلق"؛ وبعدها خلق المتعة بالالتفاف إلى الجملة الاستهلالية التي ابتدأ بها القصيدة؛ لتكون جملة الاستهلال بمثابة الفاصلة الختامية كذلك؛ كما في قوله: [في مرفأ عينيكِ الأزرقْ]؛ فهي المحفز الجمالي الذي يتكرر في استهلال كل مقطع جزئي أو جملة؛ وبهذا التكرار اللزومي الاستهلالي؛ يخلق دهشة إسنادية من جهة، ويولِّد جذراً لغويًّا دلاليًّا لتدفق الجمل اللاحقة، وخلق توازنها من جهة ثانية؛ إذْ إنّ الجمل عندما ترتكز على جذر لغوي؛ فإنَّ النسق الشعري لا محالة يزداد ترابطاً وتنامياً دلاليًّا، وجماليًّا؛ ووحدة فنية متلاحمة على مستوى الأنساق اللغويَّة جميعها؛ وهذا القول ينطبق على المقطع الثاني:

"في مرفأ عينكِ الأزرقْ/ شُبَّاكٌ بحريُّ مفتوحْ/ وطيورٌ في الأبعادِ تلوحُ/ تبحثُ عن جُزُرٍ لم تُخْلَقْ...؛ فالشاعر خلق هذه الألفة الإسنادية الجماليَّة بقوله: "شبَّاكٌ بحريٌّ مفتوح"؛ ثم فجّر هذا التوازن الدلالي بجملة متوازنة مع ما سبقها، وما يتلوها من جزئيات التركيب بقوله: "وطيورٌ في الأبعاد تلوح"؛ فتنوين الرفع في الجملتين ولَّد حركة مموسقة منسجمة تمدُّ ظلالها جماليًّا، وإيحائيًّا، وإيقاعيُّا على نسق الجملة القفلة، لتشكل إيقاعاً موقظاً للدلالة؛ ومثيراً لحركتها الجماليَّة ؛[تبحثُ عن جُزُرٍ لم تُخْلق]؛ فجاءت عبارت [لم تُخْلَق] لتؤكد هذه القفلة المنسجمة واقعياً مع جملة الاستهلال؛ وبذلك؛ ولّد الشاعر حركة فنية جماليَّة مموسقة؛ مدورسة بعناية لخلق هذا التلاحم، والتكامل، والتضافر الجمالي بين قوله ذاك، والقول الذي يليه؛ وبذلك؛ ولَّد نسقاً شعريًّا مثيراً على صعيد ترابط الأنساق اللغويَّة وتوازنها، وتضافرها فنيًّا من أولها إلى آخرها؛ ولعلَّ هذه الجماليَّة تتبدَّى - للقارئ- بوضوح من خلال ما بينَّاه من تآلف، وانسجام، وترابط بين جملة الاستهلال، وما يتلوها من عناصر التركيب.

ب- جماليَّة الصور المتخيلة:
إنَّ جماليَّة الشعريَّة لا تتأتى بمعزل عن الصور المتخيلة المبتكرة؛ والشاعر الجمالي هو شاعر أخيلة أو مبدع أخيلة؛ وكلما كانت ارتياداته في فضاء الخيال والتخييل جديدة ومفتوحة، أتت صورة مبتكرة؛ ممتدة في نسقها الإبداعي؛ مثيرة للمتلقي؛ وهذا القول يؤكِّد "أنَّ الشعر ليس دعاية، أو خطبة جمهور حاشد، إنَّه التجسيد، الحي، والملموس، والملتهب، والجميل لكلّ ما هو خفيّ، أو ممكن، أو عصي على التحديد من طاقات الإنسان وكوامنه العميقة. إنَّ للشعر دوراً هائلاً دون شكّ، غير أنَّ هذا الدور لا يكمن في المباشرة، أو المنبريَّة، بل في ثنايا العمل الشعريّ المكتمل الذي يندلع في أدغال الحياة ويباسها الموجع، ذلك العمل الذي يعصف بالسكينة والخمول، ويُحَرِّضُنا على الذهاب أبعد من شرطنا اليوميّ القاهر، بعد أنْ يدلنا على جوهرنا الصلب وإرادتنا القاسيَّة؛ لاشكَّ في أنَّ حياتنا الراهنة تكتظ بالخذلان والانهيارات، لكنها تمتلئ أيضاً؛ بشجاعة الروح، والتحديق في وجه الموت بثباتٍ مفزع؛ إننا نواجه الهلاك بحجارةٍ لا تلين؛ والموت بطفولةٍ لا تُقْهَر؛ وبذلك؛ فإنَّ واقعاً كهذا، عامراً بالحياة والموت إلى هذا الحدّ، يمثل تحديًّا لقوى الفناء من جهة؛ وتحريضاً على الشعر العظيم من جهة أخرى"([20])؛ هذا القول يدلّنا على أنَّ الشعر تحدٍّ وجوديّ؛ وجماليته تكمن في مقدار ما يحفِّز من رؤى، ويخلق وجوداً مغايراً؛ عبر فاعليَّة التخييل، وعلى هذا، نخلص إلى القول:  أن الذي يحفِّز اللغة الشعريَّة - عادة- بكارة الصور المتخلية؛ وعمقها تشكيليًّا؛ وما يثير الجماليَّة في صور القصيدة السابقة؛ بكارة الصور، وعمقها التشكيلي، وحيازتها على كم هائل من المثيرات؛ إنْ على صعيد الصور الجزئية؛ وإن على صعيد الرؤية الكلية؛ فتأتي صور المقطع الواحد حيازة متضافرة لما يسمى بشعرنة الجزء، وتكامل النسق الكلي جماليًّا؛ كما في قوله:

"في مرفأ عينيكِ الأزرقْ

يتساقطُ ثلجٌ في تموزْ

ومراكبُ حُبْلَى بالفيروزْ

أغرقتِ البحرَ ولم تغرقْ.."

هنا؛ توالدت الرؤى، والصور جماليًّا؛ بمثيرين: أولاً- مثير تشكيلي نسقي يتبدَّى في تشكيل صور جدليَّة مبتكرة تعتمد إيقاع اللاتجانس أو الاختلاف بين الأنساق بشكل لا يمكن أن تتحقق الصورة حسيًّا على أرض الواقع؛ كأن يتساقط الثلج في صيف تموز؛ وأن تحبل المراكب بالفيروز؛ لأنها خشب وهي جماد؛ والحبل ليس صفة من صفات الجماد؛ وإنما هو صفة من صفات الأنثى؛ وعمق هذه الاستحالة أيضاً بقوله: [أن تحبل المراكب بالفيروز]؛ ثم تابع إيقاع المستحيلات بقوله: [تغرق البحار ولا تغرق]؛ فكيف لمراكب عينيها أن تغرق البحار؛ وهي بهذا الحجم الضئيل؛ إنَّ هذه الصور رغم أنها تسبح في فضاء الَّلاممكن أو اللامستحيل عقلياً، فإنها دخلت محراب اللذة الشعوريَّة والإعجاز الجمالي؛ وهذا الإعجاز الجماليّ أو الإدهاش الجماليّ تولَّد من  مثير تخييلي فني شديد الإغراق والحساسية؛ والتأمل أولاً؛ ومن مثير لغوي نسقي متوازن ثانياً؛ ومن مثير إيقاعي متوازن تولَّد من خلال تناوب قافيتين مزدوجتين متلاحمتين - فنيًّا- على مدار الأبيات جميعها: [الأزرق- لم تغرق] و[تموز- الفيروز]؛ فأدَّى - ذلك- أيضاً إلى توليد مثير رابع هو مثير الرؤية الكلية أو الرؤية التكامليَّة؛ وتبدّت هذه الرؤية في خلق الألفة واللحمة بين المتباعدات؛ لإثارة الحركة الجدلية الدلاليَّة، وتعميقها مدلوليًّا؛ وكأنَّ الشاعر أراد أن يقول: في مرافئ عينيها تجتمع الأضداد؛ وتتآلف المتباعدات، وتتحقق المستحيلات؛ فهي تخلق الفتنة الجماليَّة، وتحقق الإثارة، واللذة الشعورية؛ لدرجة أنَّ عينيها في اتساع بريقهما تغرق بسطوتها الجمالية البحار دون أن تغرق؛ وهكذا؛ بدت الصور المتخيّلة ذات حيازة جماليَّة؛ وكأنها قطعة فنية متكاملة؛ منسقة على صعيد الأنساق الجزئية؛ ومتفاعلة على صعيد الأنساق الكلية؛ خصبة في تشكيل منظور مغاير، لما هو معتاد ومرئي على أرض الواقع.

ولو تأملنا في مقدار شفافية الصور المتخيلة جماليًّا وعمقها - على المستوى الفني- في بعض الأسطر الشعريَّة- لتبدى لنا هذا الاستغراق التأملي واضحاً على مستوى المتخيلات الشعريَّة المبتكرة؛ كما في قوله:

"في مرفأ عينيك الأزرقْ

أركضُ كالطفلِ على الصَخْرِ

استنشقُ رائحةَ البحرِ....

وأعودُ كعصفورٍ مُرْهَقْ"

إنَّ جماليَّة النسق الشعريّ تكمن في مقدار تفاعله، وتلاحم صوره، ودرجة إبداعه، وإثارته للفيوضات الدلاليَّة التي تضفي على النسق الشعريّ طابعاً متناغماً جماليًّا؛ وإنَّ جماليَّة الصور المتخيِّلة عائدة من حيث فضاءاتها الشعورية إلى فطرية الصورة وبساطة مدلولها، وبراءة ما تشير إليه؛ أو ما تنطوي عليه؛ ففي آفاق عينيها يعود إلى حياة البراءة الأولى؛ إلى حياة الطفولة؛ إلى براءة المشاكسات الطفولية؛ إلى مهارة الركض التأملي في حيِّز الوجود؛ فهو من مرافئ عينيها يعود طفلاً يتأمل جمال البحر؛ ويركض مزهواً بالمنظر الجميل الذي يشده؛ فيعود في آخر النهار إلى بيته مرهقاً كعصفور أضناه كثرة التحليق في هذا العالم الروحاني الخصيب؛ لشدة الحركات التي قام بها؛ والمشاهد الحيوية التي ارتسمت أمام عينيه، فالشاعر أراد أن يعكس جماليًّا هذه اللذة التأملية؛ وفق مثير تخييلي عميق، ومثير إيقاعي متماوج نستشفه من خلال المزاوجة بين قافيتين متتاليتين: [الأزرق = مرهف]، و[الفجر = البحر]؛ وتُعَدُّ هذه القفلات بمثابة المنظم للدفقة الشعرية؛ لتحقق شكلها الفني المثير، وتنظيمها الإيقاعي، ونبضها الإيحائي الشاعري المتدفق بعمق التأمل والإدراك؛ وكأنها كتلة شعوريَّة واحدة، أو قطعة واحدة منظمة؛ بإحكام فني عجيب؛ وتكمن فاعلية الصورة المتخيلة - جماليًّا- في مقدرتها على خلق الإدهاش والإثارة من جهة؛ وعلى خلق نسق إيقاعي انسيابي جمالي من جهة ثانية؛ يثير حساسية الصورة؛ ويبعث في نفس القارئ لذة جماليَّة [لذة الإحساس/ ولذة الشعور]؛ من خلال مجموعة مثيرات تتبدَّى في لذة التصوير، أو جمال التعبير، وخصوبة اللغة، وسحر الإيقاع؛ محفِّزةً القارئ إلى التفاعل معها؛ تقوده إلى ذلك تضافر هذه المثيرات التي تخلق لذة التأمل لديه وحب الاكتشاف؛ نظراً إلى مدلولها المغاير لحيّز توقعه، ومنظوره الإدراكي المعتاد.

جـ- جماليَّة التلقي النصّي:
ونعني بـ [جماليَّة التلقي النصي]: جماليَّة ما تثيره النصوص الإبداعية من رؤى، وفاعليَّة هذه الرؤى في استقطاب القارئ للتفاعل معها؛ وتكمن براعة النصّ، وخصوبته الجماليَّة بمقدار ما يثيره النص من حساسية شعوريَّة، ولذّة تأملية يستغرق بها المتلقي؛ محلقاً في فضاء تأملي عجيب؛ أي محلقاً في [مدار النصّ وجاذبيته الفنية]؛ وهنا، يتبادر إلى الذهن سؤال بغاية الأهمية؟! كيف نتلقى النصّ جماليًّا؟! وهل ثمَّة تلقٍّ جماليّ وتلقٍّ غير جماليِّ؟! ما معيار الجماليَّة في تلقي النصوص الإبداعية؟! عامة؟! والنصوص الشعريَّة خاصة؟! وهل ثمَّة علاقة بين جمالية النصّ وجماليَّة التلقي؟! وأيهما يفرض سطوته على الآخر؟!

لاشكَّ في أنَّ جماليَّة التلقي تتعلق بجماليَّة النصّ الأدبي؛ فلا يمكن لهذه الجماليَّة أن تتحقق بمعزل عن جماليَّة النصّ؛ وبمقدار حساسيّة الشاعر وإبداعه في نصه الشعريّ، بمقدار ما يستطيع هذه النصّ أن يثير المتلقي؛ ويحفزه على تلقي النص الشعري الذي بين يديه تلقيًّا جماليًّا... وهنا؛ نخلص إلى نتيجة مهمة وهي: أنَّ مسألة التلقي الجماليّ مسألة على درجة كبيرة من الحساسيَّة؛ فبقدر ما يُوَفَّق الشاعر في عقد ألفة بين نصّه والقارئ، بقدر ما يستجيب نصّه لقراءات عديدة؛ وإفرازات دلاليَّة جديدة، ومن الطبيعي أن تنتج عن هذه الألفة أواصر حميمة تزيد النصّ الشعريّ انفتاحاً ورحابةً ومدًّا في تأويله، وتقبله فنيًّا وتلقيه تلقيًّا جماليًّا؛ وهذا التلقي هو غاية النصّ الشعريّ الإبداعي الأصيل، وبناءً على هذا يمكن القول: "إنَّ الشعر العربيّ الحديث هو أساساً شعرُ قارئٍ لا شعرُ مستمعٍ؛ فسمته التفكُّك والانقطاع في الشعر العربي الحديث؛ وما يرتبط بها من ظواهر لغويَّة تقوم على إلغاء أدوات الربط، والعطف، وإلغاء التسلسل الفكري في القصيدة عند محاولة اكتشاف مبادئ خياليَّة جديدة من شأنها إقامة علاقات غير معهودة بين الأشياء، قد دفعت الشاعر إلى وضع قصيدته بشكلها الكتابيّ بين يديّ القارئ، مبتعداً عن نيَّةِ إلقائها، فتميَّز الشعر العربي الحديث، تبعاً لهذا، بشكل جماليّ، يعتمد منطقاً مكانيًّا، يدفع القارئ باتجاه إعادة تنظيم كاملة لتفكيره في اللغة، ذلك لأنَّ الرابطة بين المعاني في القصيدة الحديثة أصبحت لا تتمُّ إلاَّ بإدراك القارئ للمجموعات الكلاميَّة في آن واحد، من حيث المكان؛ فنحن عندما نقرؤها متتاليَّة من حيث التسلسل الزمني، فإنَّها لا تملك أيَّة علاقة مفهومة بين بعضها والبعض الآخر"([21])؛ وهكذا؛ تبدو القصيدة الحداثيَّة مغامرة في منحاها جماليًّا، وهذا ما نلحظه في نصّ نزار قبّاني السابق؛ الذي حركّه تحريكاً نسقيُّا جماليًّا يستدعي تلقيه تلقيًّا جماليًّا؛ كما في هذه المقطعين من القصيدة السابقة:

 

إنَّ جماليَّة هذين المقطعين فنيًّا يثيران حساسية التلقي النصيّ الجمالي؛ نظراً إلى حيازتهما على مثيرات جماليَّة عدة؛ هي:

1- مثير تشكيلي: يتبدَّى في بداعة التشكيل التصويري؛ وحركة الأنساق، ومجرى الكلمات داخل النسق التصويري الذي ينتهي بقفلات مقطعية مثيرة؛ ومحرِّكة للحسّ الجمالي؛ كما في قوله: "في مرفأ عينيكِ الأزرقْ/ أحلمُ بالبحرِ وبالإبحارْ/ وأصيدُ ملايين الأقمارْ/ وعقودَ اللؤلؤ والزنبقْ"؛ ففي كل كلمة تتبدَّى حركة تفاعلية انسجاميَّة متآلفة مع الكلمة الأخرى؛ لتخلق دهشة إسنادية تشكيليَّة محكمة وفق ما يلي: [الأزرق = الزنبق] [الإبحار = الأقمار]؛  فالشاعر خلق توازناً تشكيليًّا بين الوقع الصوتي الترسيمي للقوافي؛ ووقع الجمل دلاليًّا، ونبضاً عاطفيًّا؛ فبدا النسق الشعريّ نسقاً تحفيزيًّا؛ يخط جماله من خلال هذا التوازن الرهيف بين الشكل النسقي المنسجم على مستوى التشكيل، والبعد الإيحائي للجمل الشعريَّة؛ وهذا، ما يحسب لهذا المقطع.

2- مثير إيقاعي: وهو منبعث - جماليًّا- من هذا التلاحم، والتضافر، والتوازن الذي يحققه الشاعر بين الاستهلال المقطعي، والقفلة المقطعية؛ ليأتي الاستهلال تقفوياً متوازناً مع قفلة الختام التي تواترت بالقافية المتجانسة صوتياً معها؛ كما في قافية: [الأزرق = الزنبق]؛ ثم يخلق حركة متوازنة في الأنساق التقفوية المركزية؛ محدثاً إيقاعاً صوتياً متناغماً على الصعيد الباطني: [الإبحار = الأقمار]؛ وبهذا، التوازن تتحقق شعريَّة النسق من خلال الحس الجمالي، والقدرة التوليفيَّة العالية على خلق النسق الصوتي الملائم للدفقة الشعرية على مستوييها الدلالي، والإيقاعي في آن معاً؛ ومن هنا؛ تكمن الجماليَّة في التشكيل من خلال الحنكة في توليف الكلمات البسيطة؛ إذْ خلق منها مركباً فنيًّا غاية في التنظيم، والإيحاء، والتكثيف، والتنامي الجمالي.

أما المقطع الآخر، فيخلق حركته الجماليَّة، وتلقيه الجمالي من خلال التلاعب النسقي في التشكيل، لبلورة نسق شعريّ متناغم لا يعتمد فقط إيقاع التجانس والانسجام الصوتي، وإنما إيقاع التآلف بين المزاوجات الصوتية؛ فالشاعر اعتاد في المقاطع السابقة نهجاً موحدًّا أن يجعل دفقة الاستهلال متوازنة مع قفلة الختام؛ إذْ زاوج في الحركة الإيقاعية بين القوافي الاستهلالية/ والختامية، لتجيء على شاكلة واحدة؛  بالمجانسة الصوتية نفسها؛ إذ جعل المجانسة تشمل الاستهلال، والقافية الشطريَّة ما قبل الفاصلة الختامية؛ في حين زاوج بين القافية الشطرية الثانية مع القافية الشطرية الختامية؛

تتكلم في الليل الحجار                   من خَبَّأَ آلاف الأشعار"

إنَّ هذا الانزياح -في النسق التشكيلي الإيقاعي مقارنة بالمقاطع السابقة- يولد حركة جماليَّة تزحزح رتابة التواتر المستمر في حركة الأنساق التقفوية؛ ويخلق نوسة إيقاعية؛ سرعان ما تسهم في إضفاء جو من الحميمية، والتناغم، والرنين على الإيقاع؛ مولِّدةً فيه نبضاً شعوريًّا جديداً خاصة بالقفلة النصيَّة؛ التي يقول فيها: "من خَبَّأَ آلاف الأشعار؟!. إنَّ هذا التساؤل يترك الدارة الدلاليَّة مفتوحة، ويشحن الدفقة التأملية بالحماس، والتوق العاطفي، ويدفعها إلى الامتداد في الاستغراق في ماهية هذه الأشعار؟! لقد نظمت حركة عينيها وبريقهما أشعاراً، تلو أشعار؛ مثيرة بجمالها الخصوبة في كل شيء؛ وهنا؛ يخلق الشاعر موازنة نسقية بين الإيقاع الصوتي والتناغم الدلالي؛ مفجِّراً جلّ مثيرات التشكيل؛ وهذا ما يحسب لشعريَّة القبّاني في نصّه السابق؛ ونعود إلى التساؤل مجدّداً؟! هل كان يعي القبّاني أنَّ جماليَّة نصوصه الشعريَّة ستعكس جماليَّة –أيضاً- في تلقيها؛ وما مقدار هذه الجماليَّة في نصه السابق رغم أنه ليس من النصوص الشعريَّة الشهيرة للقباني؟.

إنَّ تلقي أيّ نصٍّ تلقياً جماليًّا؛ ومن ضمنها نصّ القبّاني السابق يتوقّف على أمرين متلازمين:  
أ)   جماليَّة في الإبداع النصّي/ أو مهارة في الصوغ النصي الجمالي.

ب) جماليَّة في التلقي والحس الجمالي في التفاعل والتفكيك النصّي؛ فكما أنَّ المبدع ينبغي أن يملك حساسيَّة جماليَّة في بناء نصّه؛ فكذلك المتلقي ينبغي أن يملك حساسية جماليَّة في تفكيك النصّ وإعادة بنائه من جديد؛ وهذان الأمران ليتحققا لابُدَّ من أمور أخرى مساعدة على بروزهما؛ وهي:

1ً- الخبرة المعرفية: وهي قدرة المؤول على فهم النصّ وتفكيكه؛ واكتشاف مظاهر خصوبته الفنية، وإدراك مواطن سمو التشكيل، ومواطن إجادة الشاعر في خلق الصورة الملائمة التي تُفَعِّل ما سبقها من عناصر التركيب؛ وتثير ما بعدها وتحفزه جماليًّا.

2ً- حراك نفسي شعوري يمكن وصفه بـ (التفاعل النفسي اللحظي): أي تفاعل ما في داخل الشاعر مع ما في داخل النصّ؛ ولذا، ينبغي أن يتعامل الشاعر مع النصّ؛ وكأنه جزء منه انفصل عنه لحظة إبداعه، وتجرّد عنه؛ وهنا، يأتي دور المتلقي، أو المؤوِّل الذي ينبغي أن يتعامل معه، وكأنه مبدع ثانٍ جديد له؛ أي يجب أن ينطق الشاعر بشفتي النصّ مجرداً عن نوازعه الداخلية، وشعوره النفسي، وتوجهاته الإيدلوجية الذي يؤمن بها أو يعتقد في صحتها؛ عليه أن ينظر إلى النصّ الإبداعي، والمبدع من عدسة خلفيَّة تشفُّ دون أنْ تطعن؛ تتلمس الجماليَّات عبر الإيحائيات التكثيفيَّة التي تتركها الجملة الشعريَّة؛ وهذا القول ينطبق على كل من يحاول تلقي النصّ تلقيًّا جماليًّا؛ فالمتلقي الجمالي هو خالق جمالي آخر للنصّ؛ وإعادة خلق النصّ الجديد بمعناه الحقيقي إعادة بناء روح الشاعر من الداخل، أو إحياء روح النصّ؛ فكما أنَّ المبدع قد أبدع النصّ في لحظة شعوريَّة وتجرّد عنها؛ فإنَّ المؤوّل يبدع النصّ في لحظة شعوريَّة توالديَّة جديدة؛ لحظة تلقيه، والإحساس بما في داخله من رؤى ومثيرات؛ وبين مسار هاتين اللحظتين تتمظهر جماليَّات لا غنى لإحداهما عن الأخرى؛ هما: جماليَّة الإبداع النصّي، أو الخلق النصّي؛ وجماليَّة التفكيك النصّي، والبناء النصّي الجديد؛ وبذلك تتحقق – دون أدنى شكّ- جماليَّة الإبداع الشعريّ، وجمالية التلقي النصّيّ.

وهنا؛ نعود للتساؤل: كيف نبني النصّ بناءً فنيًّا؟! ما مدى إدراك القبّاني لهذا البناء؟! بالعودة إلى النصّ السابق؛ سنقف عند المقطع الختامي الذي يقول فيه:

"لو أنّي..لو أنّي...بحَّارْ

لو أحدٌ يمنحني زورقْ

أرسيتُ قلوعي كلَّ مساءْ

في مرفأ عينيكِ الأزرقْ"

إنَّ جماليَّة تلقي المقطع السابق تكمن في أربعة مثيرات، هي:

أ- مثير صوتي:

يتبدَّى من خلال هذا النسق الازدواجي التلاحمي على مستوى القوافي المتجانسة/ أو المتلاحمة إيقاعيًّا: [زورق- الأزرق]، وخلق نسق مفاجئ في القافيتين الأولى والثالثة: [بحَّار = مساءْ]؛ فالقارئ يلحظ هذا الانزياح المراوغ على المستوى الصوتي؛ فلو قال الشاعر بدلاً من قوله: [أرسيت قلوعي كل مساء]؛ بقوله: [أرسيت قلوعي كل نهارْ] بتآلف القافية [نهار = بحار]؛ لما أحدث الشاعر هذه الهزّة الجماليَّة؛ وهذه الإثارة التشكيلية؛ ومن أجل ذلك جاءت هذه النوسة الإيقاعية- التقفوية؛ لتخلق إثارتها في المقطع، وتقود حركة الدلالات إلى التضافر والتفاعل على مستوى الرؤية.

ب- مثير تشكيلي جمالي على مستوى الرؤية:

يتبدَّى هذا المثير الجمالي على مستوى خلق نسق تشكيلي مبتكر انزياحي يتأسس على بثّ الائتلافات التشكيليَّة على مستوى حركة النسق التصويري؛ فهنا، خلق الشاعر جماليَّة خاصة بقوله: [أرسيتُ قلوعي كلّ مساء]؛ فملفوظ [قلوعي] جاء محفزاً جماليًّا؛ ولّد صدمة تشكيليَّة أثارت الحركة الشعريَّة؛ فلو قال الشاعر مثلاً: [أرسيتُ قواربي] لما أحدث هذه الصدمة الجماليَّة؛ لكنه اختار دال [القلوع]؛ ليثير الحركة الجماليَّة؛ ويبث معاناة عشقه، بإحساس جمالي؛ وهذا الإحساس الجمالي هو الذي يمنح النصّ حيويّة مثيرة؛ تكمن في بلورة نسق شعريّ مفاجئ؛ يثير الحركة الجماليَّة؛ ويحدث لذة في التلقي؛ ولذة في التأويل النصي؛ ليخلق مشهداً بانوراميًّا تشكيليًّا يشعّ جماله على النص من خلال هذه القفلة المدروسة نسقياً بعناية فائقة بقوله: [في مرفأ عينيك الأزرق].

جـ- مثير القفلة/ وتوازنها مع الفاتحة الاستهلاليَّة:

إنَّ ما يميِّز هذا النصّ جماليًّا هو توازن دفقة الفاتحة الاستهلاليَّة مع الخاتمة النصيّة؛ مولِّداً حركة جماليَّة تبث إيقاعها الصوتي المتلاحم عبر زعزعة الأنساق الُّلغويَّة، وتحفيزها جماليًّا؛ فقارئ هذه الأسطر الشعريَّة يلحظ تلاحماً جماليًّا بين دفقة الاستهلال/ وقفلة الختام؛ وهذا التلاحم ولّد انسجاماً، وتناسقاً، وتوازناً، وائتلافاً على مستوى تناغم الاستهلالات، وتوازنها مع الخواتيم النصيّة؛ وهذا التوازن تولّد من خلال قوله:

"في مرفأ عينيكِ الأزرقْ

ترسمُ لوحتها للمطلق

.......... ..........

لو أحدٌ يمنحني زورقْ

أرسيتُ قلوعي كلّ مساء

في مرفأ عينيك الأزرقْ.."

إنَّ قارئ هذه الأسطر جماليًّا يلحظ وحدتها النصيّة، وتآلفها على مستوى الاستهلال والختام؛ ولكن قد يسأل القائل: أين تكمن الجماليَّة؟ هل تكمن في هذا التوازن فحسب؛ أم أنها تكمن في الإحكام النصّي؛ ليبدو النصّ كتلة شعوريَّة واحدة، منظمة بأنساق، ورؤى، ودلالات، ومحفزات جماليَّة مثيرة؟!.

* نقول للسائل:
إنَّ أبرز ما يُمَثِّل هذا الأسلوب جماليًّا هو براعة البناء، ومهارة الشاعر في خلق هذه القفلة، والتفكير في تموضعها الفني منذ بدايتها؛ فالشاعر يعي حقيقة الرؤية، ويعي حقيقة النصّ؛ رغم أنَّ الشعور قد يبدو مشتتاً في تشكيل الصور وتنويعها؛ لكن هذا الخيط الشعوري؛ والبث الشاعري للدلالات والأنساق اللُّغويَّة هو ما يحقق درجة تكثيفها وإيحائها؛ فالنصّ القبّاني نصّ جماليّ؛ إنْ شئت بالتنظيم النسقي المتوازن، والتناسب الدلالي، والتلاحم النصّي بين دفقة الاستهلال/ وقفلة الختام؛ وإنْ شئت بالتفاعل المقطعي، وإنْ شئتَ بالتناغم الصوتي عبر تنويع القوافي، وخلق المزاوجات الصوتية؛ التي تسهم في تنظيم الإيقاع، وخلق الدهشة الإسنادية؛ يضاف إليها سلاسة في الإيقاع، وسهولة في تداول المعنى المراد دون تمفصلات إيحائيَّة عصيّة على الفهم والتأويل.

إذاً؛ إنَّ النصّ السابق ولَّد جماليَّة في تشكيله، وجماليَّة أخرى في التمهيد لحسن استقباله، وتلقيه تلقياً جماليًّا؛ فجماليَّة التلقي – من منظورنا- لا تقل أهميَّة عن جماليَّة الخلق الإبداعي النصّي، والمتلقي الجماليّ هو مبدع ثانٍ للنص؛ يحيي النصّ من جديد، ويبث فيه روح الإبداع، ويوقظ شرارته من جديد.

ولا نبالغ إذا قلنا:

إنَّ القبّاني أدرك أنَّ نصوصه خُلِقَتْ لتحقيق هذه الغاية؛ وهي التلقي الجمالي لنصوصه؛ ولذلك كان يشتغل القبّاني على نصوصه طويلاً؛ ويعمل بجدّ بغية تحقيق هذه الغاية؛ وأعتقد أنّه وصل إلى مبتغاه؛ ودليلنا على ذلك أنَّ نصوصه الشعريَّة مازالت إلى الآن محط اهتمام، وعناية الباحثين والدارسين في حقل الشعريّة، والحداثة الشعريَّة؛ وهي إلى الآن تبقى مغرية لكل ناقدٍ أو دارس، للخوض جماليًّا في دراستها، وتأكيد مثيراتها الإبداعية؛ إنْ على المستوى الإيقاعي؛ وإنْ على المستوى التشكيلي؛ وإنْ على مستوى الصورة وبداعتها؛ وبكارة إسناداتها؛ وهذا ما يجعلنا نؤكد أنَّ القبَّاني لم يكن شاعراً غنائياً فحسب؛ وإنما كان فنًّا تشكيليًّا في ترسيم صوره، وإحساسه، وتأملاته الشعريَّة؛ بعين لاقطة؛ يرقى بها أعلى المستويات من الإثارة والتحفيز الجماليّ.

5- الجمال كماهيَّة نصيَّة فضاء تصويريّ خصيب/ وتأويل نصّيّ مفتوح:
إنَّ الجمال والإحساس بالجمال ينطوي على عمليتين متضافرتين؛ لا تقوم إحداهما بمعزل عن الأخرى؛ هما: ماهيَّة الشيء الجميل؛ وحساسيَّة العين الّلاقطة لمثيرات الجمال، والإشعاعات الجماليَّة الملتقطة من ماهيَّة الشيء الجميل؛ وإنَّ الجمال كماهيَّة نصّيّة ينطوي على عمليتين كذلك هما: فضاء تصويري خصيب يمتاز به النصّ؛ يضاف إلى ذلك عين لاقطة تتحسس مثيرات هذه الصور، وبكارتها بتأويل نصّيّ مفتوح وإحساس تأملي عميق؛ وهنا؛ نصل إلى نتيجة مهمة هي: إنَّ مدلول علم الجمال هو إدراك القصد الجماليّ في بنية العمل الفني ككل؛ والجمال كماهيَّة قصد ماورائي غائي لمدلول بعيد أو حرّ؛ يقول إنجاردن: "ليست كل الخصائص المميّزة للعمل الفني تكون متجليِّة ومحدَّدة بشكل تام؛ إنها تكون كامنة فقط في القصد الفني الذي يكمن وراء العمل الفني"([22]). فإنَّ للعمل الفني – ومن ضمنه الشعر- نداءات جماليَّة هي التي تستقطب القارئ؛ وهذه النداءات الجماليَّة تولِّدها الإيحاءات الجماليَّة التي تثيرها بنية الأعمال الأدبية الرفيعة؛ ولذا؛ فإنَّ العمل الفني الجاد يتطلب قارئاً جادًّا، أو مؤولاً جادًّا لملءِ الفراغ، أو الظلال الإيحائية التي يتركها العمل الفني؛ وهذا ما أشار إلى بعض منه إنجاردن بقوله: "عندما يحدث تَعَيُّن العمل الفني من خلال الاتجاه الجمالي أو الخبرة الجماليَّة...عندئذ ينبثق ما أسميه الموضوع الجمالي؛ وهذا الموضوع الجمالي سوف يكون مماثلاً أو مجانساً لما كان ماثلاً في ذهن الفنان أثناء إبداع العمل الفني؛ إذا ما تمَّ إجراء عملية التعيين بذلك الجهد الذي يسعى إلى الامتثال للسمات الخاصَّة الفعَّالة للعمل الفني؛ وإلى مراعاة دلالته التي يقدمها بوصفها حدوداً لعملية الملءِ المسموح بها"([23]).

إنَّ ما أثاره إنجاردن يجعلنا نتساءل: هل حققت قصائد القبّاني، مثيرات الخلق الجمالي، أو التخليق الجمالي على مستوى فضائها التصويري، والمفاتيح النصيّة التي يمكن من خلالها الولوج إلى النص؟! ما هي التعيينات الجماليَّة التي أضفت على قصائد القبّاني هذا الشكل من الانفتاح والخلق الفني؟!... وهل استطاع القبّاني أن يولِّد نصًّا شعريًّا محقِّقاً لصفة الجماليَّة أو الشعريَّة بامتياز؟!

إنَّ هذه التساؤلات ستقترب منها تأملاتنا الجماليَّة، ورؤانا المعرفية في تقصي جماليّات الإبداع الفني في شعر نزار قبّاني من حيث فضاءات صوره، وتمفصلاتها الشعريَّة، ونقول بداية: إنَّ جماليَّة أي عمل أدبي تقاس بحصيلة الظلال الجماليَّة التي يتركها؛ والإيحاءات الدلالية التي يفجرها بين الحين والآخر ضمن العمل الأدبي ذاته؛ ليحقِّق العمل الأدبي إشعاعاته الجماليَّة لابُدَّ من توافر هذه الظلال والنداءات الجماليَّة بكثرة داخل بنية العمل الأدبي، أو الفني ذاته؛ وإنَّ من يتأمل في المفرزات الجماليَّة، والظلال الإيحائية التي تتركها نصوص القبّاني؛ يدرك ذلك، فالقبّاني يملك فضاءً تخييليًّا عميقاً، خصيباً بالرؤى والدلالات، والإيحاءات، والظلال الجماليَّة؛ وهذه النصوص لم تكن ذات إطار دلالي أو نسقي جذّاب فحسب؛ بل كان لها طيفٌ تأمليّ واسع يولِّد الدلالة، إثر الدلالة، والرؤية إثر الرؤية، والصورة إثر الصورة؛ وللتدليل على ذلك  نأخذ قصيدته (تلميذة) لنرى هذا الخلق الجمالي، والتخصيب الإيحائي على صعيد متخيلاتها الشعريَّة، وفضاءاتها التصويريَّة العميقة، كما في قوله:

"قُلْ لي – ولو كَذِباً- كلاماً ناعماً

قد كادَ يقتلني بكَ التمثالُ

مازلتِ في فنِّ المحبَّةِ طفلةً

بيني وبينكِ أبحرٌ وجبالُ

لم تستطيعي – بَعْدُ- أن تَتَفَّهمي

أنَّ الرجالَ جميعَهمْ أطفالُ

إنِّي لأرفضُ أنْ أكونَ مُهَرِّجاً

قَزَمَاً على كلماتهِ يَحْتَالُ

فإذا وَقَفْتُ أمامَ حسنكِ صامتاً

فالصمتُ في حَرَم الجمالِ جمالُ

كَلماتُنَا في الحبِّ تَقْتُلُ حبَّنَا

إنَّ الحروفَ تموتُ حينَ تُقَالُ

                * * *

قَصَصُ الهوى قد أفسدتكِ .. فَكُلَّها

غيبوبةٌ وخرافةٌ ... وخيالُ

الحبُّ ليس روايةً شرقيَّةً

بختامِها يتزوَّجُ الأبطالُ

لكنهُ الإبحارُ دونَ سفينةٍ

وشعورنا أنَّ الوصولَ مُحَالُ

                * * *

هو أنْ تظلَّ على الأصابعِ رعشةٌ

وعلى الشفاهِ المطبقاتِ سؤالُ

هو جدولُ الأحزان في أعماقنا

تنمو كرومٌ حَوْلَهُ، وغلالُ

هو هذِهِ الأزماتُ تسحقُنَا معاً

فنموتُ نحنُ ... وتزهرُ الآمالُ

هو أن نثورَ لأيِّ شيءٍ تافهٍ

هو يأسُنَا .. هو شَكْلُنَا القتَّالُ

هو هذه الكفُّ التي تغتالُنَا

وتُقَبِّلُ الكفَّ التي تغتالُ..

                * * *

لا تجرحي التمثالَ في إحساسِهِ

فَلَكَمْ بَكَى في صمتِهِ تِمْثَالُ

قد يُطْلِعُ الحجرُ الصغير براعماً

وتسيل منهُ جداولٌ وظلالُ

إنّي أحبُّكِ .. من خلالِ كآبتي

وجهاً كوجهِ اللهِ ليسَ يُطَالُ

حسبي وحسبُكِ أن تظلِّي دائماً

سرًّا يُمَزِّقني .. وليس يُقَالُ"([24]).

إنَّ جماليَّة النصّ الشعريّ تكمن في حيويَّة اللغة، ومقدار تفعيلها للصور المبتكرة؛ وهذا ما أشار إليه كاظم حسن: "إنَّ الإبداع يكمن في توظيف اللُّغة توظيفاً جماليًّا يقوم على مهارة الاختيار، وإجادة التأليف، وهي عناصر المدرسة البنيويَّة"([25]).

إنَّ ما يميِّز نصوص القبّاني - على المستوى الجمالي- هو حيازتها على خصوبة جماليَّة على مستوى المقطع الجزئي، وتكامل جمالي على المستوى النصّيّ؛ ولذا؛ فإنَّ إدراك جماليَّة النصوص الشعريَّة - عند القبّاني- يتطلب خبرة معرفيَّة جماليَّة في تقصي المثيرات الجماليَّة الجزئية؛ ومدار تفاعلها على المستوى النصّي؛ ولذا؛ سنقوم بالدرس التفصيلي لهذه المقوِّمات؛ مقطعاً مقطعاً؛ ليتبدّى للقارئ هذه الخصوبة الجماليَّة، والمستوى الراقي الذي وصلت إليه نصوصه.

وهنا؛ قبل أن ندخل في غمار التحليل الجماليّ؛ سنجيب على تساؤلات معرفيَّة؛ لإدراك كنه الإبداع الجمالي في نصه السابق؛ وهي:

* إنَّ لكلِّ عمل شعريّ متميِّز شرارة إبداعية توقظ روح القصيدة، وتبث حيويتها الدلاليّة، وفورانها الجماليّ؟! أين تكمن هذه الشرارة في القصيدة السابقة؟!

* إنَّ ثمَّة مثيرات تصويريَّة تؤكد شاعريَّة الشاعر، ومقدار إصابته الحدث المجسد بفنيَّة عالية، وحسّ جمالي مرهف؟! أين تكمن هذه المثيرات في ثنايا القصيدة السابقة؟! وهل هذا يعني أنَّ هذه المثيرات متوافرة في قصيدة دون سواها، أم في القصائد القبّانية كلها على العموم؟!

* ما هو المعيار الجمالي الذي يمكن أن نقيس من خلاله جماليَّة النص السابق، وجماليَّة النصوص القبّانية؛ إذا أدركنا أنَّ نصوصه متنوعة الطرائق التشكيليَّة، والأساليب التصويريَّة؛ عبر تقنية واحدة فقط هي تقنية الصورة أو فن التصوير؟!

يقول إنجاردن في تعريفه لقصديَّة الموضوع الجمالي، ومدار خلق الجماليَّة المثلى في العمل الفني؛ ما يلي: "إنَّ الموضوع الجماليّ هو ذروة أو تمام وجود العمل الفني كبنية قصديَّة؛ وهو بمثابة النظير الموضوعي الملازم لعملية التعيين التي منها – ومن خلالها- يبلغ الإدراك الجمالي ذروته وتمام تحققه"([26]). إنَّ ما أشار إليه إنجاردن يقودنا إلى القول: إنّ الغاية الجماليَّة هي ذروة ما تسعى إليه النصوص الإبداعية أن تحققها في وجودها وكيانها النصّيّ؛ ولعلّ أبرز ما نقوله في قصائد القبّاني – على الصعيد الجمالي- أنها أحدثت هزة شعوريَّة في تلقيها؛ وترسيم كلماتها؛ وتموضعها في نسق تصويري تشكيلي متناسب، أو لنقل: مهندس جماليًّا بحيازة نسقيَّة تثير القارئ، وكأنَّ الشاعر يخلق الجملة خلقاً جديداً؛ ويخلق النص خلقاً جماليًّا لينبض من الداخل، قبل أن يموج جماليًّا على مستوى التشكيل الخارجي، أو السطح اللفظي الخارجي. وللتدليل على ذلك سنحلل القصيدة جماليًّا؛ تبعاً لمثيرات كل مقطع؛ ومظاهر التمفصلات الجماليَّة أو التمظهرات التشكيليَّة التي أحدثت هذه الهزَّة أو القشعريرة الجماليَّة في تلقيها؟! يقول القبّاني في المقطع الأول:

"قُلْ لي – ولو كَذِباً- كلاماً ناعماً

قد كادَ يقتلني بكَ التمثالُ

مازلتِ في فنِّ المحبَّةِ طفلةً

بيني وبينكِ أبحرٌ وجبالُ

لم تستطيعي – بَعْدُ- أن تَتَفَّهمي

أنَّ الرجالَ جميعَهمْ أطفالُ

إنِّي لأرفضُ أنْ أكونَ مُهَرِّجاً

قَزَمَاً على كلماتهِ يَحْتَالُ

فإذا وَقَفْتُ أمامَ حسنكِ صامتاً

فالصمتُ في حَرَم الجمالِ جمالُ

كَلماتُنَا في الحبِّ تَقْتُلُ حبَّنَا

إنَّ الحروفَ تموتُ حينَ تُقَالُ

تنهض هذه القصيدة جماليًّا على مثيرات فنيَّة عدّة؛ نلخصها فيما يلي:

1ً- بداعة الصوغ الشعريّ/ أو النسج الفني:

إنَّ الجماليَّة الشعريَّة تكمن في بداعة الصوغ الفني؛ أو النسج الفني المحكم؛ وتكمن مقدرة الشاعر من خلالها مهارته في التشكيل، وارتياد عوالم تخييليَّة مبتكرة؛ تُعَضِّد جماليَّة هذه التشكيلات، وإصابتها لمكمن الرؤية الشعريَّة، وجوهرها الفني؛ وبذلك: "فإنَّ الشعريَّة تُمَثِّل القطيعة المعرفيَّة مع التصوُّرات الخارجيَّة للنصّ؛ لهذا، أولت عناية قائقة للإتقان الصناعي؛ توصلاً لبيان جماليَّات النصّ الشعريّ، واكتشاف قوانينه الحقيقيَّة؛ وإنَّ الفهم الدقيق لهذه الكيفيَّة هو عمليّة معقدة تلعب فيه القراءة الفاعلة دوراً أساسيًّا لولوج هذا العالم الكثيف، ولهذا؛ فإنَّ فعل القراءة هو دعامة جوهريَّة لشعريَّة النصّ" ولو تأملنا في مثيرات الصوغ الفني في قصيدة القبَّاني السابقة؛ لأدركنا ذلك دقته في نسج الفكرة؛ وبلورة النسق الشعريّ؛ ونُنَوِّه إلى مسألة بغاية الأهمية وهي: أنَّ عملية الصوغ الشعري الفنية لا تتمثل في نسج المؤتلفات والمتناغمات التشكيليّة؛ وليست الشعريَّة في تحقيق ذلك؛ وإنما تكمن الشعريَّة في لذة التشكيل سواء أكان التشكيل قائماً على الائتلاف؛ أم على الاختلاف؛ ولو ظنّ القارئ أو الشاعر – جدلاً- أنَّ جماليَّة القصيدة تكمن في ذلك لتأكدنا جهل كل واحد منهما بحقيقة الشعر/ والشعريَّة؛ إذْ إنَّ الجماليَّة الشعريَّة ليست في ذلك؛ وإنما الجماليَّة تكمن في خلق نسق جمالي؛ حتى ولو اعتمد الشاعر إيقاع المتضادات والمتنافرات؛ لأنَّ الأعمال الأدبية الراقية فنياً؛ والمثيرة جماليًّا أغلبها كان قائماً على خلق الجدل، والصراع، والتناقض حتى على مستوى الأنساق اللغويَّة؛ وهذا الفهم ينبغي أن تعيه الأذواق المتلقية من قرَّاء ونقّاد؛ لأنَّ الأعمال الأدبيَّة لا تقاس بمقاييس علمية [1 + 1= 2]؛ وإنما تقاس بالروح الإبداعيَّة؛ ومادام الإبداع خلقاً روحيًّا، ونبضاً تأمليًّا؛ وهذا الاختلاف هو الذي يثير بؤرة الشعريَّة؛ للتعبير عن جدليات الوجود، وتناقض الأشياء، وتنافرها؛ يقول إنجاردن: "إنَّ العمل الفني كموضوع قصدي؛ إنما يكون نتاجاً للنشاط القصدي لدى الفنان فحسب، أما الموضوع الجماليّ كموضوع قصدي فيكون نتاجاً للتفاعل بين القصد المُرْسَل عبر العمل الفني (Transmitting intention) (قصد الفنان)؛ والقصد المُسْتَقْبِل (Receiving intention) (قصد المُدْرِك)؛ وهكذا؛ فإنَّ الموضوع الجماليّ يكون بمثابة حلقة الاتصال الفعليَّة بين المُدْكِ والفنان؛ أمَّا العمل الفني فهو أداة هذا الاتصال. وبعبارة أخرى: يمكن القول بأنَّ العمل الفني - عند إنجاردن- هو جسر يقيمه الفنان كي يلتقي عبره بالمتذوِّق؛ ولكن هذا اللقاء لا يمكن أن يتمَّ  فعليًا إلاّ  إذا بادر المتذوِّق بخطوات إيجابية؛ عبر هذا الجسر حتى يبلغ نقطة يلتقي عندها بالفنان؛ هذه النقطة – أو الموضع الذي يلتقي عنده كلاهما هي الموضوع الجمالي، وبعبارة تشبيهيَّة ثالثة يمكن القول: بأنَّ العمل الفني هو أشبه برسالة يوجهها الفنان إلى المتذوق أو المتلقي؛ وعلى المتلقي أن يفهم محتوى ومغزى هذه الرسالة؛ وفقاً لقصد مرسلها. هذا الفهم أو تعيين القصد هو بمثابة الموضوع الجماليّ"([27]).

وتتبدَّى جماليَّة العمل الأدبي بشكله الجماليّ، وصياغته الفنيَّة الجماليَّة؛ ولو تأملنا المقطع السابق جماليًّا؛ لتبدّى لنا أنَّ أبرز ما يثيرنا فيه هو النسج الفني، أو ما يُسَمَّى "براعة الصوغ الشعريّ، أو النسج الفني"؛ كما في البيتين التاليين:

"إنِّي لأرفضُ أنْ أكونَ مُهَرِّجاً

قَزَمَاً على كلماتهِ يَحْتَالُ

فإذا وَقَفْتُ أمامَ حسنكِ صامتاً

فالصمتُ في حَرَم الجمالِ جمالُ"

إنَّ قارئ هذه الأسطر جماليًّا يلحظ براعة نسجها، ودقة تموضع المفردات بمدلولها، ومنطوقها اللفظي المناسب لها؛ ولعلَّ هذا الأسلوب التشكيلي الجمالي هو ما يثير الحركة الشعريَّة؛ ويبعث مدلولها بإيحاء جمالي شفَّاف؛ ولو قال الشاعر مثلاً: "إنّي لأرفضُ أن أكون ساحراً.." بدلاً من "مهرجاً" لما أحدث هذه الفجوة، والدهشة الإسنادية؛ وهنا جاءت لفظة (يحتال) متناسبة داليًّا ومدلوليًّا مع لفظة "مهرِّج"؛ وقد اشتغلت اللفظتان معاً جماليًّا في بلورة نسق شعري متميز فنيًّا؛ منسجم تقنيًّا على مستوى حركة الدلالات وتضافر المعاني؛ كما أحدث قوله في البيت الثاني "فإذا وقفت أمام حسنكِ صامتاً، فالصمتُ في حرم الجمال جمال"؛ صدمة تشكيليّة متناسبة فنيًّا مع ما سبقها من دلالات وإيحاءات؛ فلو قال الشاعر بدلاً من قوله السابق ما يلي: "فإذا وقفت أمام حسنكِ لاهفاً ؛فالصمت في حرم الجمال جلالُ"؛ لما أحدث الشاعر هذه الفجوة من التنامي الجمالي في التشكيل؛ إذْ إنَّ لفظة (حسن) وما تستدعيه من شدة، وتعجب تترك الإنسان صامتاً يعلو وجهه العجب، والتأمل...فيرحل الكلام من بين شفتيه، وينتابه الصمت؛ ثم يتابع الشطر الأخير بقوله: "فالصمت في حرم الجمال جمالُ"؛ فلو قال الشاعر: "فالصمتُ في حرمِ الجمالُ جلالُ"؛ لما أحدث الشاعر هذه الفجوة؛ فعلى الرغم من أنَّ  لفظة "جلالُ" تناسب  داليًّا ومدلوليًّا لفظة "الصمت" أكثر بكثير من لفظة "جمال"؛ إلاَّ أن الشاعر فضَّل استخدام لفظة "جمال" بدلاً من لفظة "جلال"؛ وذلك لإحداث هزة شعوريَّة؛ تتناسب ووقع الشعور التأملي الجماليّ في قوله: "فالصمت في حرمي الجمال جمالُ"؛ وهكذا؛ فإنَّ حسن اختيار اللفظة الملائمة لمضمونها؛ في قصائد القبّاني، هو ما يمنحها دفقها الجمالي، وتناغمها الإيحائي؛ بمعنى: أنَّ القبّاني يختار ملفوظاته اللغويَّة بعناية فائقة، وقدرة على خلق النسق الشعري المثير فنيًّا، والخلاّق جماليًّا لإيحاءات وظلال دلاليّة تثير القارئ؛ وتبعث في نفسه الهدوء، والسكينة، والاطمئنان الشعوريّ الفائق؛ تاركاً في نفسه ظلالاً من الارتياح، والنشوة، والهدهدة الرومانسية الحالمة بمثل هذه الأنساق التشكيليّة المثيرة جماليًّا على المستويات كافة.

والمثير - حقًّا- أنَّ الأسلوب الجماليّ في التشكيل والصياغة الفنّيّة هو ما يهب النصّ الاتقاد الجمالي، وحسن الإبداع النسقي؛ كما في قوله:

"كلماتُنا في الحبِّ تَقْتُلُ حبّنا

إنَّ الحروفَ تموتُ حينَ تُقَالُ"

إنَّ وقع هذه السطرين الشعريين وقع جماليّ؛ أولاً يتبدّى ذلك من حسن تنظيمهما نسقيًّا، وتضافرهما دلاليًّا، ولذتهما المعنويَّة، وإصابتهما الرؤية الشفيفة؛ والمغزى الدلالي المفاجئ في النسق الشعري؛ والملاحظ فنيًّا اعتماد الشاعر التلاعب السحري بالكلمات؛ فالكلمات بسيطة سهلة؛ لكنها في سياقها تؤدي دلالات خصبة؛ تزيد الحراك الدلالي؛ وتبعث سحرها الإيقاعي بتناسب لفظة تقال مع لفظة (كلماتُنا) وتناسب لفظة (تموت) مع لفظة (تقتل) عبر نسق شعري متماوج دلاليًّا؛ وهذا ما يعكسه قوله أيضاً:

قَصَصُ الهوى قد أفسدتكِ..فَكُلَّها

غيبوبةٌ وخرافةٌ...وخيالُ

الحبُّ ليس روايةً شرقيَّةً

بختامِها يتزوَّجُ الأبطالُ

لكنهُ الإبحارُ دونَ سفينةٍ

وشعورنا أنَّ الوصولَ مُحَالُ".

إنَّ قارئ  الأبيات الشعريَّة السابقة يدرك أنها تتمفصل على مثيرات فنّيّة أولها: بداعة النسق التشكيلي: وفيه نلحظ استخدام الشاعر للمترادفات اللغويَّة التي تزيد فاعلية الدلالة تأكيداً، وعمقاً، وتوازناً نسقيًّا؛ كما في قوله: "قَصَصُ الهوى قد أفسدتكِ .. فَكُلَّها ... غيبوبةٌ.. وخرافةٌ ... وخيالُ"؛ وهنا؛ تبدو لفظة [غيبوبة] متوازنة نسقيًّا مع لفظة [خرافة]؛ ولفظة [خرافة] متناسبة نسقيًّا ودلاليًّا مع لفظة [خيال]؛ إنَّ جمع الشاعر لسلسلة المترادفات اللغويَّة السابقة يخلق حركتها الدلاليَّة المتوازنة؛ مما يسهم في تأكيد المعنى، وتكثيف حركة الدلالات؛  لتبدو بغاية الانسجام، والتوازن، والمراوغة النسقيَّة؛ كما في قوله: "الحبُّ ليس روايةٌ شرقيَّة بختامها يتزوَّجُ الأبطالُ"؛ فالنسق الشعري السابق لا يتضمن أية صورة؛ ولا ينطوي على أيّة خلفية تراثية أو ثقافية؛ وتكمن خلفيته الجماليّة في حسن تنظيمه؛ وتضافر مفرداته في تشكيل رؤية جديدة، تتناسب ووقع الكلمات أو الألفاظ، وسيرورة نسقها الجماليّ، كما في قوله: "لكنَّه الإبحارُ دون سفينةٍ.. وشعورنا أنَّ الوصولَ محالُ"؛ فالذي أثار الحساسية الشعريَّة في الأسطر الشعريَّة  السابقة ليس تمفصلها على دينامية الصور، وحركتها المتماوجة دلالةً وإيحاءً؛ وإنَّما الذي ولّد هذه الإيقاعية الجماليَّة هذا الائتلاف بين الكلمات في نسقها الشعري المتوازن الذي يخلق فيه الشاعر الدلالات؛ ويسهم في توطيد مضموناتها؛ وتعزيزها على مستوى الرؤية الجوهرية المجسدة.

2ً- جماليَّة الإيقاع الصوتي المتجانس:
إنَّ المعايير الجماليَّة في الحكم على قيمة الشعريَّة، ومستوى إبداعها؛ تكمن في الإيقاع الصوتي المتجانس؛ وهذا الإيقاع لا يعتمد الرنين والتناغم اللفظي فحسب؛ وإنما التناغم الروحي، والبثّ الداخلي لِمَا تَكُنُّه الذات من أصداء شعوريَّة عميقة؛ فاللفظ الشعريّ وإنْ انطوى على مزاوجات صوتيَّة، أو مجانسات صوتيَّة، ليست هي ما يثير الرؤية، ويعززها جماليًّا بقدر ما يعزّزها صدى الذات الداخليَّة؛ ونفثاتها الشعوريَّة العارمة التي تحرِّك الصورة عاطفيًّا، واللفظ تجانساً وتناغماً نابعاً من باطن الذات وتوترها، وصخبها الوجودي إزاء الحدث الشعريّ أو المشهد الشعريّ المجسد؛ وهنا؛ تكمن الجماليَّة؛ ويتبدَّى هذا الإيقاع الجماليّ من خلال تآلف الأصوات، وتناغمها، وائتلافها تقفويًّا وجماليًّا في النصّ القبّاني السابق؛ وهذا أكثر ما يتبدَّى في هذا التلاحم، والتنسيق، والازدواج الصوتي على مستوى الشطرين؛ كما في قوله:

هو أنْ تظلَّ على الأصابعِ رعشةً

وعلى الشفاهِ المطبقاتِ سؤالُ

هو جدولُ الأحزان في أعماقنا

تنمو كرومٌ حَوْلَهُ، وغلالُ

هو هذِهِ الأزماتُ تسحقُنَا معاً

فنموتُ نحنُ ... وتزهرُ الآمالُ

هو أن نثورَ لأيِّ شيءٍ تافهٍ

هو يأسُنَا .. هو شَكْلُنَا القتَّالُ

هو هذه الكفُّ التي تغتالُنَا

وتُقَبِّلُ الكفَّ التي تغتالُ.."

إنَّ التمظهرات اللغويَّة، والتنظيمات الإيقاعيَّة الصوتيَّة المتجانسة؛ تخلق مثيراتها بتنظيم، وتوازن صوتي؛ يتبدّى في تضافر الأنساق الصوتيَّة وتوازنها: [رعشةٌ = كرومٌ] و[المطبقاتِ = الأحزانِ]؛ والمثير – حقاً- أنَّ توازن الأنساق اللغويَّة فاعلة في تحفيز الرؤية، وإكسابها مدَّاً تأمليًّا مفتوحاً؛ ولابُدَّ من الإشارة إلى أنَّ التضافرات الصوتيَّة، والمزاوجات التقفوية لا تخدم فقط الإيقاع النغمي المتموج للأبيات؛ وإنما تخدم كذلك الإيقاع الصوتي ضمن التشكيل الإضافي على الشكل التالي: [جدولُ الأحزان = الشفاه المطبقات]؛ وتخدم كذلك التشكيل الوصفي؛ وهذا ما ينعكس على حركة القوافي، وتلاحمها، وانسجامها صوتيًّا، كما في قوله: [سؤالُ = غلالُ = الآمالُ = القتالُ – تغتال]؛ والمثير – حقاً- على صعيد التنظيم التقفوي هذا التمظهر المفرداتي المتوازن؛ وهذا الإيقاع المُنَظَّم في الاستهلال الصوتي عبر تكرار [هو] في استهلال كل سطر شعريّ؛ مما ينعكس مدّه الجماليّ على حركة الأنساق الصوتية جميعها؛ مؤكدة تنظيمها النسقي، ونفسها الشعوري الموحّد؛ وهكذا؛ تتضافر الإيقاعات الصوتية مع التشكيلات اللغويَّة، والإيحاءات التي تبثها الأبيات؛ لتسهم في تحقيق جماليتين: الأولى جماليَّة إيقاع: وهذه الجماليَّة نابعة من التآلف النسقي الصوتي، والثانية جماليَّة انسيابيَّة منظمة نابعة من الاستهلالات الشطرية الموحدة؛ وهذا ما يثير النصّ؛ وينظمه إيقاعيًّا، ويمنحه تكاملاً فنيًّا ورؤية موحدة؛ تؤكد انصهار كل بيت في الذي يليه؛ ليخلق تكامله الدلاليّ، ونضجه الفني.

3ً- جماليَّة الحسّ الشعوريّ/ وفاعليَّة المحفِّز الجماليّ:
إنَّ الشعريَّة – بالتأكيد- تحفيز جماليّ؛ ولا يمكن للشعريَّة أنْ تجذَّر وجودها جماليًّا دون المحفِّزات التي تحققها القصيدة؛ أو التي تبثّها في تراكيبها، وأنساقها اللغويَّة المبتكرة؛ فقارئ الشعريَّة؛ لا يستهويه ماهيَّة النصّ الشعريّ بشكله اللغويّ دون أن ينطوي هذا الشكل على محفِّزات جماليَّة؛ وهذه المحفِّزات هي التي تخلق اللذة في النصّ الشعريّ؛ واللذة في التلقي النصّي تلقيًّا جماليًّا؛ وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ لكل عمل إبداعي محفزات، ومثيرات؛ وهذه المحفزات هي المحركات للمجسات الشعوريَّة لدى المتلقي، لتلقي النصّ تلقيًّا جماليًّا؛ أو تلقيًّا تفاعليًّا؛ إذْ يشارك المتلقي المبدع في لحظة الاتقاد الروحي، أو لحظة التوهج الإبداعي؛ وإننا دون أدنى شكَّ نلحظ هذا التوهج في قصائد القبّاني على عمومها؛ وإننا في هذه القصيدة نلحظ سموقها الجمالي عبر فاعليّة الحسّ الشعوري، وفاعليَّة المحفِّز الجماليّ؛ إذْ تملك نصوصه كله تقريباً خصوصية خصبة على مستوى التصوير الفني، والكثافة الشعوريَّة، والإحساس الجماليّ بمثيرات الأشياء؛ إنْ على المستوى الحسيّ الحركي عبر رشاقة اللغة، وسهولة مكاشفة المعاني؛ وإنْ على صعيد التشكيلات المفارقة لأنساقها؛ والمثيرة لإيقاع التناسب الجمالي بين المسندات؛ وكأنَّ القبّاني؛ يؤسِّس نصوصه جماليًّا؛ من خلال وضع الكلمة في موضعها المناسب لها تماماً؛ وخلق اتزان جماليّ رصين بين الكلمة ومثيلتها أو مكملتها في التركيب؛ كما في قوله:

"لا تجرحي التمثالَ في إحساسِهِ

فَلَكَمْ بَكَى في صمتِهِ تِمْثَالُ

قد يُطْلِعُ الحجرُ الصغير براعماً

وتسيل منهُ جداولٌ وظلالُ

إنّي أحبُّكِ..من خلالِ كآبتي

وجهاً كوجهِ اللهِ ليسَ يُطَالُ

حسبي وحسبُكِ أن تظلِّي دائماً

سرًّا يُمَزِّقني..وليس يُقَالُ"

إنَّ شعريَّة النصّ تكمن في فنيته وطريقة تشكيله؛ أي مهارة صنعه؛ وقد ذهب إلى ذلك زكريا إبراهيم معتقداً أنَّ الإبداع صنعته، لا طبعاً ساذجاً، أو صدفةً مواتية؛ وقد استدلّ على ذلك بانَّ أكثر علماء الجمال قد ذهبوا إلى الاعتقاد الموضوعيّ في قراءاتهم؛ فإنَّ فاليري قال إنَّ الآلهة قد تجود علينا ببيتٍ واحدٍ من قصيدة؛ أمَّا البيت الثاني وما يتلوه فإنَّه من صنع الشاعر، وقرَّر (دولاكروا) أنَّ الفن عامَّةً لا يمكن أن يكون إلاَّ نشاطاً صناعيًّا، ونتاجاً لجهدٍ إراديّ؛ وإنَّه ليس إلهاماً؛ أو هبةً تمنحها الآلهة للشاعر كي يتفوَّق؛ ويقرِّر زكريا إبراهيم، أنَّه من الخطأ الاتكاء على مزاج الشاعر وعواطفه وإلهامه وخيالاته لتفسير الشعر، لأنَّه أساساً يقوم على اختيار (صنعة)؛ وأنَّ عامَّة الناس مَنْ يتهيأ على خيالٍ أوسع وعاطفةٍ مفعمة، لكنه لا يملك أدوات الكتابة وصنعتها. إنَّ عقل الشاعر لا يفارقه في أثنا قول الشعر([28])، وهكذا؛ يبدو لنا أنَّ جماليَّة الصوغ الشعريّ هي أبرز ما يحفِّز الشعريَّة؛ ويحقِّق الكلمة الجماليَّة المثلى في النصّ الشعريّ؛ ولو دقّقنا في المقبوس السابق لتأكدنا أنَّ مثيرات هذا المقبوس تنهض جماليًّا على مثيرين متضافرين يسهمان في خلق هذا التلاحم والتكامل الجماليّ؛ الأول- مثير تشكيلي يتمظهر عبر فاعلية النسق التشكيلي الذي يؤدي إلى تكثيف المحفزات الجماليَّة؛ وذلك بوضع التشكيل الجمالي للمعنى الحسّاس الدافق بالعاطفة، والنبض الشعوري الشفيف؛ كما في قوله: "لا تجرحي التمثال في إحساسه/ فَلَكَمْ بَكَى في صمته تمثالُ"؛ إنَّ فاعليَّة التمظهر المفرداتي؛ تتجلى عن طريق وضع الكلمة في نسقه اللغويّ المناسب على نحو تثير النصّ جماليًّا؛ فقوله: "فَلَكَم بكى في صمتهِ تمثالُ"؛ ينمّ على سهولة ورشاقة، وخفة إبداعية، ورشاقة مدلوليَّة واضحة تشي بها الدوال على مستوى تركيبها النصّي؛ ولو تأمّل القارئ قول الشاعر: "قد يَطْلِعُ الحجرُ الصغيرُ براعماً/ وتسيل منه جداولٌ وظلالُ"؛ لتبدَّى له هذا التنامي الجماليّ في بث الصور النسقيَّة المتوازنة التي تدفع الحركة التعبيريَّة، إلى التضافر، والتوازن النسقيّ؛  أمَّا المثير الثاني: فيتمثل في القفلة النصيَّة المحكمة؛ إذْ يقوم الشاعر باختيار القفلة الشاعريَّة  التي تعمِّق الصدى الجماليّ؛ وتثير الحساسيَّة الشعريَّة؛ كما في قوله: "حَسْبِي وحَسْبُكِ...أنْ تظلي دائماً/ سرَّاً يُمَزِّقني...وليس يُقَالُ"؛ إنَّ القيمة الجماليَّة تتمثل في رشاقة الإسناد، وبساطة الاستعارة رغم مفاجأتها للقارئ؛ بمنطوق لفظي انسيابي رشيق أشبه بلغته اليوميَّة؛ مع توافر نسق إيقاعي؛ انسيابي جميل؛ وهذه القفلة حرّكت النسق الشعريّ؛ وولّدت توازناً نسقيًّا على مستوى تآلف الأصوات، وتناميها جماليًّا؛ وما ينبغي الإشارة إليه أنَّ التلقي الجمالي للنصوص الأدبيَّة عامة، والشعريَّة خاصة يتطلب خبرة معرفية، أو خبرة جماليَّة في التقاط المثيرات النصيّة، وكشفها، ورصد تحولاتها ضمن النسق الأدبي؛ وهذا ما أشار إليه إنجاردن؛ إذْ يقول: "إنَّ الخبرة الجماليَّة ليست معقدة فحسب؛ من حيث هيكلها، أو إطارها التخطيطي الذي يكون مؤلفاً من عناصر أو مراحل عديدة متنوِّعة؛ بل هي تكون معقدة أيضاً؛ من حيث التحولات والتنوعات التي تطرأ عليها وعلى مراحلها؛ حينما تختلف موضوعاتها الفنية([29]). وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ الإدراك الجماليّ للمثيرات الفنية، والمفرزات الجماليَّة التي تخلقها نصوص القبّاني تثير القارئ؛ ليس بسيرورتها الانسيابية، ورشاقة ملفوظاتها ومدلولاتها فحسب؛ وإنما من خلال هذه الترسيمات التشكيليَّة التي تعتمد التنظيم المحكم، والتوازن التام بين أنساقها؛ ابتداءً من دفقة الاستهلال، وانتهاءً بقفلة الختام.

6- الجمال كماهيَّة نصّيّة/ تأمل وجودي/ ونسق تشكيلي مراوغ:
إنَّ الكثير من علماء الجمال يعتقدون أنَّ النصّ الأدبيّ الإبداعيّ الذي ينطوي على قيم جماليَّة رفيعة المستوى ما هو إلاَّ مساحة من الرؤية، والتأمل الجديد في ملكوت هذا الكون؛ وكلَّما استغرق الفنان في عالمه الإبداعي التخييلي المفتوح؛ استطاع أن يولِّد لذة نصّيّة؛ تخلق له المتعة والدهشة؛ وتؤكِّد استمراريَّته، وامتلاكه لقيمه الجماليَّة العليا التي تسمو بها الفنون والنصوص الإبداعيَّة المتميِّزة عمَّا سواها؛ ولعلَّ أبرز ما أشار إلى ذلك "غيورغي الجوهري"؛ الذي اعتقد أنَّ ثمَّة إيقاعات تحرِّك ذواتنا الداخليَّة، وتمثل بنض الحياة الجوهري؛ والإحساس بجماليَّة الوجود؛ إنَّ "الإيقاع مبدأ جوهري يسري في كل عصرٍ؛ وفي كلّ إنسان؛ إنَّه قوة موضوعيَّة، هذه القوة وحركتها موجودتان دائماً بصرف النظر عن كوننا نعي ذلك أو لا نعنيه"([30])؛ وبذلك يشير إلى أنَّه ثمَّة إيقاعات في دواخلنا تحركنا؛ وهذه الإيقاعات موجودة في أعماقنا؛ وتدفعنا إلى تقبل الشيء أو رفضه؛ تبعاً لهذه الإيقاعات، أو النقرات الشعوريَّة الداخليَّة التي تنظم مشاعرنا الداخليَّة إزاء مشهد أو عمل فني معين؛ أو قضية ما تشغلنا أو مسألة تؤرقنا؛ ولعلَّ الدافع إلى ذلك دافع تأملي وجوديّ؛ صادر عن إحساسنا إزاء قضيَّة تؤرقنا، أو تشغلنا في لحظة من الحياة؛ وإنَّ الإحساس الجماليّ؛ إحساس وجوديّ؛ وهذا الإحساس نابع من تأمل، واستبطان نفسي شعوريّ عميق؛ ولهذا يمكن القول:

إنَّ التأمّل الجماليّ تأمّل وجودي عميق يتلمس فيه الشاعر عالمه المثاليّ الّلاواقعي؛ ولذا؛ فإنَّ التأمل الجمالي كماهيَّة ليس فقط فضاء تشكيل لغويّ، وإدراك محفزات وجوديَّة مبتكرة؛ وإنما صوغ جديد لعالم وجودي مثاليّ؛ وكُلَّما أدرك الشاعر جماليًّا تناسق الأشياء، وكيفية انبناء الأشياء، وسر البناء الجماليّ لتموضع الأشياء، استطاع أنْ يعبِّر جماليًّا عن رؤاه المثاليَّة، برؤى واقعية؛ يقول دوفرين: لا يمكن أن نصف الموضوع الجماليّ بأنَّه موضوع "واقعي"؛ أو "لا واقعي"؛ فكل من التسميتين غير سديدة؛ لأنَّ الموضوع الجماليّ من حيث هو لا واقعي يكون متأصِّلاً في العمل الفني الواقعي؛ وهذا العنصر الواقعي يكون - بدوره- متجهاً باستمرار نحو الّلاواقعي؛ وقصارى القول: إنني لا أضع الواقعي بوصفه واقعياً؛ لأنَّ هناك – أيضاً- اللاواقعي الذي يشير إليه الواقعي [العمل الفني]؛ وأنا لا أضع الّلاواقعي بوصفه لا واقعيًّا؛ لأنَّ هناك أيضاً الواقعي الذي يُحَفِّز، ويعضِّد هذا اللاواقعي [الموضوع الجمالي]" ([31]).

إنَّ ما أشار إليه دوفرين يؤكد أنَّ الجمال شكل واقعي في الّلاواقعي؛ أو شكل لاواقعي في الواقعي؛ ولا يمكننا أن نقيس الجمال -من منظوره- بوصفه واقعيًّا، أو لاواقعيًّا؛ وإنما نقيس الجمال بمقدار اقترابه من محفّزات الجمال، ومثيراته؛ وهنا نتساءل: ما مقدار إصابة نصوص القبّاني للمحفّزات الجماليَّة؟! على مستوى التشكيل النصي من جهة؟! وعلى مستوى التخييل التأملي المفتوح من جهة ثانية؟!

وإننا للإجابة عن مثل هذا السؤال لابُدَّ لنا من ترجمة عملية تطبيقيَّة تكتشف المحفزات الجماليَّة وتتابع تمفصلاتها ومنحنياتها النصّيّة ضمن السياق النصّي لقصائده المدروسة؛ وإننا سنأخذ قصيدته (اختاري) لنبيّن مقدار حيازة هذه القصيدة على المحفِّزات الجماليَّة؛ وأين تكمن مظاهر الجمال في هذه القصيدة:

"إنِّي خيَّرْتُكِ ... فاختاري

ما بينَ الموتِ على صدري

أو فوقَ  دفاترِ أشعاري

اختاري الحبّ .. أو الّلاحبّ

فجبنٌ أنْ لا تختاري..

لا توجد منطقةٌ وُسْطَى

ما بينَ الجنَّةِ والنارِ

ارمي أوراقَكِ كاملةً...

وسأرضى عن أيِّ قرار

قولي ... انْفَعِلي ... انْفَجرِي

لا تقفي مثلَ المسمارِ

لا يمكن أنْ أبقى أبداً

كالقشَّةِ تحتَ الأمطارِ

اختاري قدراً بين اثنينِ..

وما أعنفها أقداري...

             * * *

مرهقةٌ أنتِ...وخائفةٌ

وطويلٌ جدًّا مشواري

غوصي في البحرِ ... أو ابتعدي

لا بَحْرٌ من غير دُوَارِ..

الحبُّ ... مواجهةٌ كبرى

إبحارٌ ضدَّ التيارِ...

صلبٌ وعذابٌ ودموعٌ

ورحيلٌ بين الأَقمارِ

            * * *

يقتلني جبنُكِ ... يا امرأةً

تَتَسَلَّى من خلفِ ستارِ

إنِّي لا أؤمن في حبٍّ

لا يحمل نزقَ الثوّارِ

لا يَكْسِرُ كُلَّ الأسوارِ

لا يضربُ مثلَ الإعصارِ...

آهٍ... لو حبُّكِ يَبْلَعُني

يقلعني مثلَ الإعصارِ...

            * * *

إنِّي خيَّرْتُكِ...فاختاري

ما بينَ الموتِ على صدري

أو فوقَ  دفاترِ أشعاري

اختاري الحبّ .. أو الّلاحبّ

فجبنٌ أنْ لا تختاري..

لا توجد منطقةٌ وُسْطَى

ما بينَ الجنَّةِ والنارِ"([32]).

إنَّ لكل قصيدة من قصائد القبَّاني خصوصيَّة جماليَّة تميِّزها عن الأخرى؛ وهذه الخصوصيَّة هي الرؤية من جهة؛ واللغة المغايرة في نسقها من جهة ثانية؛ ولهذا؛ فإنَّ وقع الجملة شعريَّا؛ هو ما يثيره فنيًّا من لذَّة لحظة تأملها؛ وهذه اللذة هي ما أطلقنا عليها: [لذة التلقي/ أو متعة التلقي]؛ يقول الناقد علي جعفر العلاّق في هذه المتعة التي تخلقها الجملة الشعريَّة ما يلي: "إنَّ الجملة الشعريَّة حين تخترق حواسنا لأوَّل مرَّة؛ فإنَّ خضَّة من نوع ما تعتري كياننا كلّه، تلاءم لحمه الحيّ، وتهتك جزءاً من ستارة داخليَّة، تحجب بئر الروح ونهرها، تسحبنا من خدرنا اليوميّ، من غطائنا المنطقي، ومن طمأنينتنا اليائسة؛ وكُلَّما كانت تلك الجملة حرَّة من المُتَّكآت والمساند والترميمات؛ كانت أقدر على إنجاز مهمتها بطريقة عميقة؛ تهاجم فينا استسلامنا للعادة؛ وتهيئنا للحظة من الاستجابة، فريدة ومثاليَّة. وهكذا؛ تأخذنا من أنفسنا المكتفية بركودها ووداعتها إلى فضاء آخر، وحين تتوالى الجمل الأخرى، جملةً إثر جملة؛ فإنَّ الطريق يُفْتَحُ بيسرٍ أمامَ الأثر الشعريّ؛ كل جملة جديدة تقطع خيطاً فنيًّا كان يربطنا إلى سلوك يومي مشترك؛ إلى عاداتنا في التلقي؛ أي أنَّ كل جملة تجيء ستحمل في ثناياها جذوة جديدة إلى نار الجملة الأولى"([33])؛ وإنَّ هذه القصيدة للقبَّاني تثيرنا إلى درجة كبيرة؛ إذْ تنهض القصيدة جماليًّا على مثيرات، ومحفِّزات جماليَّة؛ هي:

أ- حسن تموضع الكلمات في النسق:
والمقصود به: أن يُوَفَّق الشاعر في تنظيم الكلمات تنظيماً شعوريًّا؛ تابعاً للإيقاع النفسي العاطفي الداخلي؛ وكأنَّ الشعور هو الذي يصوغ الكلمات، تبعاً للإيقاعات العاطفيَّة؛ ومدار الضغط النفسي لحظة المخاض الشعري؛ وفي هذه القصيدة نلحظ حسن تموضع الكلمات في السياق السابق؛ بتآلف إيقاعي؛ غنائي متتابع سريع؛ كما في قوله:

"اختاري الحبّ .. أو الّلاحبّ

فجبنٌ أنْ لا تختاري..

لا توجد منطقةٌ وُسْطَى

ما بينَ الجنَّةِ والنارِ"

بداية؛ نلحظ أنَّ مدلول الكلمات -في سياق الأبيات السابقة- مدلول بسيط لا تتضمن شذرة تصويريَّة واحدة؛ أو تمظهر تشكيلي مراوغ؛ لكن بماذا حققت هذه القصيدة اللذة الجماليَّة، والخصوبة الإيحائية؟! على الرغم من عدم تضمينها لصورة مبتكرة، وترسيمة تصويريَّة مدهشة غير متوقعة؟! إننا نجيب عن  هذا السؤال بقولنا: إنَّ الأسطر الشعريَّة السابقة حققت اللذة الجماليّة بحسن تموضع الكلمات داخل النسق الشعري؛ فالكلمة بمعزل عن نسقها الشعري السابق الملائم لها تغدو باهتة لا تتضمن أيّ مثير جمالي؛ وتكمن أبرز مظاهر دهشتها وإثارتها جماليًّا، ودلاليًّا من خلال ربط الكلمة بالكلمة؛ والشطر بالشطر؛ ليحقق هذه اللحمة الفنية المنسجمة في الحركة الدلاليّة، والإيقاعيّة، والمدلول الغزلي الشفيف المتضمن فيها؛ ولعلَّ هذا الجمع للصورة الجدليَّة في الختام، أو القفلة النصيّة: [لا توجد منطقةٌ وسطى ما بين الجنة والنار]؛ هو الذي فَعَّلَها دلاليًّا؛ وعمق تأثيرها الجمالي في نفس القارئ؛ فعلى الرغم من بساطة المدلول الملتقط ووضوح المقصود الدلالي غير أنَّ الشاعر أثار القارئ جماليًّا، بهذا التنسيق المحكم على مستوى تموضع الكلمات، وربطها، وقفلها بدلالة جماليَّة؛ تشتق إثارتها من إحكامها من جهة، واكتنازها بمعناها من جهة ثانية.

ولو تابعنا مسار تنظيم الكلمات، وتموضعها الفني في الأبيات الأخرى، لتبدَّى لنا هذا الإدراك الجمالي في تنسيق الكلمات، وتموضعها في نسق شعري جمالي آسر ؛ كما في قوله:

"ارمي أوراقَكِ كاملةً...

وسأرضى عن أيِّ قرار

قولي...انْفَعِلي...انْفَجرِي

لا تقفي مثلَ المسمارِ

لا يمكن أنْ أبقى أبداً

كالقشَّةِ تحتَ الأمطارِ

اختاري قدراً بين اثنينِ..

وما أعنفها أقداري..."

إنَّ حسن تموضع الكلمات في نسقها هو ما أضفى عليها هذه الحساسية الجماليَّة التي أثارتها؛ وولّدت خصوبتها الإيقاعيَّة؛ فالكلمات في دوالها المفردة؛ جاءت بسيطة؛ مستخدمة في التعبير اليومي العادي الشائع؛ فكثير من العوام  في أحاديثهم اليومي يقول لمن يطيل الوقوف دون حراك لا تقف مثل المسمار أمامنا، ولمن يريد أن يهادن [سأرضى عن أيّ قرار تتخذه]؛ فالجمل السابقة نكاد نستخدمها في لغتنا اليومية الشائعة؛ أما ما يزيدها عمقاً جماليًّا ائتلافها ضمن النسق؛ فارتباط الجمل مع بعضها بعضاً بهذه السلاسة، والسهولة، والرشاقة التشكيليَّة، هو ما أضفى عليها طابعاً جماليًّا؛ وإذا ما تأملنا عمليّة تركيب الكلمات، وصوغها بهذا النسج الفني المحكم في الأسطر السابقة؛ لتبدَّى لنا دهشة الحساسية الذهنية، والشعوريَّة في اختيار الكلمات، وتشكيلها فنيًّا؛ فقد اختار القوافي لتنسجم مع حركيَّة الصورة؛ لتهتز بنوسان الصورة وزوغانها؛ فعلى الرغم من أنَّ الصورة قد تبدو بديهيَّة للقارئ [كالقشةِ تحتَ الأمطار- لا تقفي مثل المسمار]؛ لكنها جاءت فنيَّة في نسقها، وتموضعها، تبعاً للإيقاعات الصوتيَّة وانسجامها؛ لكن ما أضعف هذه السيرورة الجماليَّة قفلته المقطعيَّة [وما أعنفها أقداري]؛ فعلى الرغم من انسجامها دلاليًّا مع ما سبقها؛ من دلالات وإيحاءات؛ لكنها لم تنسجم مع الطابع الجماليّ للقفلات السابقة المكتنزة فنيًّا؛ الكاشفة عن أبعاد المعاناة العاطفيَّة بحسن القفلة المراوغة على نحو ما اعتدناه في الكثير من قفلات مقاطعه؛ خاصَّة قفلته النصّيّة [فجبنٌ أنْ لا تختاري لا توجد منطقة وسطى منا بين الجنة والنار]؛ التي جاءت أعمق أثراً وشاعريَّة بكثير من قوله: [وما أعنفها أقداري]؛ إذْ أحسَّ القارئ بثقل في اللفظ؛ وتسرع في قفل المقطع بهذه القفلة التي لم تتوافق فنيًّا وجماليًّا مع المقطع الشعريّ السابق؛ وإن رأى غيرنا العكس؛ ما يهمنا أنَّ الشعريَّة ليست نسق تشكيلي منظم بقدر ما هي توليد لعناصر فنيَّة متجدِّدة على الدوام؛ وبمقدار ما يحسن الشاعر في صوغها، وفي نسجها بمقدار ما يثير الحساسية الشعريَّة، ويخلق المتعة النصّيّة؛ وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ النصّ الشعريّ الجماليّ لا يعيبه إنْ خلا من مثيرات الصور، في حال توفر السلاسة، والرشاقة الإيقاعيَّة، والتفاعل الداخلي بين الجمل ضمن القصيدة؛ الأمر الذي يستعيض بهذه السلاسة، والتفاعل النصيّ عن مثيرات الصور؛ ليخلق إثارته بتكاتف الكلمات، وتآلفها ضمن النسق الشعري؛ وهذا القول ينطبق على النصّ السابق للقبّاني؛ ودليلنا على ذلك  أيضاً قوله:

"مرهقةٌ أنتِ...وخائفةٌ

وطويلٌ جدًّا مشواري

غوصي في البحرِ...أو ابتعدي

لا بَحْرٌ من غير دُوَارِ..

الحبُّ...مواجهةٌ كبرى

إبحارٌ ضدَّ التيارِ...

صلبٌ وعذابٌ ودموعٌ

ورحيلٌ بين الأَقمارِ"

إنَّ ما يُحَفِّز هذه الأسطر جماليًّا حسن تموضع القوافي، وتوزيعها الشطري من جهة، وحسن تموضع الكلمات، وتفاعلها ضمن نسقها الشعريّ الملائم للمدلول أو الرؤية المطروحة من جهة ثانية؛ بمعنى أنَّ كل مفردة تلتحم بالأخرى، وتحفِّزها إنْ على صعيد الرؤية المجسدة؛ وإنْ على صعيد التآلف الإيقاعي، والتوازن النسقي؛ مما يجعل الأنساق الشعريَّة بغاية التلاحم، والائتلاف، والتضافر النسقي؛ ولو تأملنا سيرورة الكلمات، وحسن تموضعها فنيًّا على مستوى قفلات الأسطر الشعريَّة التالية: [طويلٌ جداً مشواري- من غير دوار – إبحارٌ ضدّ التيار- رحيل بين الأقمار] لوجدنا أنَّ أنساقها خاليَّة تماماً من الصور الانزياحيَّة المبتكرة، التي تثير الهيجان الشعوريّ؛  وتؤكد الفخامة الشعريَّة؛ إنَّ نسقها اعتياديّ؛ يجري سلساً بسيطاً؛ متسارعاً بهيجان عاطفته الصاخبة عبر الأصوات الانفجاريَّة التي يمثلها خير تمثيل صوت "الراء"؛ الذي يدلُّ على الرنين، والاهتزاز، والقلقلة الشعوريَّة لحركة الأنساق؛ لتتماشى صوتيًّا مع أصداء ذاته العاطفية، المترجرجة المهتزة بهذه العاطفة الثائرة في كيانه؛ لتؤكِّد هيجان الكلمات مع هيجان عواطفه، واتقاد حبه، وثورته، وعنفه في الحبّ؛ فهو يريد لجميع الأشياء أن تهيج بهذا الحبّ؛ لتكون كالإعصار تقتلع الأشياء أمامها، وتجرفها بعنف إلى مصبها النهائي؛ وهو يريد بهذه الشهوة العارمة أن  تنطفئ بعد هذا السيلان الجارف؛ وهذا الأسلوب التشكيلي؛ جاء دافقاً بالشعريَّة رغم خلوه من الصور التوالديَّة المثيرة التي تؤكِّد فخامته الإبداعيَّة؛ وقامته الشعريَّة العظيمة؛ فالذي أمتع القارئ جماليًّا في هذا النصّ هو سلاسة الجمل، وتسارعها، وهيجانها العاطفي رغم خلوها من كل مغريات اللغة الانزياحيَّة العميقة التي تؤكِّد التجذر الإبداعي الفريد، والإمتاع النصّي الفائق؛ ولذا؛ فإنّ الحسّ الجمالي كامن في لغة القبّاني الشعريَّة ليس فقط على صعيد تنظيم القوافي وحسن توزيعها فحسب؛ وإنما على مستوى تحفيز الأنساق اللغويَّة جميعها؛ مما يجعلها بغاية التلاحم، والانسجام، والمفاعلة النصيَّة؛ وهذا القول ينطبق تماماً على المقطع التالي:

"يقتلني جبنُكِ ... يا امرأةً

تَتَسَلَّى من خلفِ ستارِ

إنِّي لا أؤمن في حبٍّ

لا يحمل نزقَ الثوّارِ

لا يَكْسِرُ كُلَّ الأسوارِ

لا يضربُ مثلَ الإعصارِ...

آهٍ...لو حبُّكِ يبلغني

يقلعني مثلَ الإعصارِ..."

نقول بداية: إنَّ النصّ القبّاني لا يشتغل جماليًّا على الرؤى المعقدة، والتشكيلات اللغويَّة المستعصية؛ إنَّه يؤسِّس جماليَّة أنساقه الشعريَّة على الرشاقة التصويريَّة، والصورة الحسيَّة المفردة غالباً؛ دون أن يتغلغل في أعماق الصور المركبة أو التوالديّة المعقدة؛ وهنا؛ نلحظ أنَّ حيازة القبّاني على هذه الرؤى البسيطة السلسة التي تجري في مجراها الطبيعي السهل من غير تعقيد؛ أضفت على المقبوس السابق جماليَّة في التشكيل، من حيث تموضع المفردات، وتناسبها، وانسجامها من جهة؛ وجماليَّة في تنظيم القوافي، بقفلات شعريَّة متناغمة تجري سلسلة غير متكلفة؛ من جهة ثانية؛ ثم خلق هذا الإيقاع الرومانسي الهادر بالأنساق اللغويَّة المنسجمة والمفردات الفوَّارة بالعاطفة، والشعور الجياش بمعاناة العشق والهيجان اتقاد الغريزة، ولعلَّ أبرز ما يؤكِّد ذلك هذه الدوال اللغويَّة المستخدمة في النسق الشعري: [يقتلني - نزقَ الثوَّار- لا يكسر .. لا يضرب .. يبلعني- يقلعني]؛ إنَّ هذه المفردات الصلبة القوية تؤكِّد على أنَّ نيران حبها قد تملكت جسده؛ وحطمت كيانه كالإعصار؛ إنَّ هذا الحب الهادر، أو الهائج هو ما يسعى القبّاني إلى إظهاره للقارئ في هذه القصيدة؛ وترسيمه بحسّ شعوريّ مرهف، وتمفصل لغوي شاعري؛ يشتق مظاهر إثارته من هذا التآلف الفني؛ المدهش على مستوى القوافي وتوزيعها وتنغيمها فنيًّا، وإيقاعاً تصويريًّا ملائماً لطبيعة الحالة العاطفية المجسدة.

ب- فاعليَّة الخواتيم النصيّة:
سبق وأنْ وقفنا عند هذا المثير طويلاً؛ وقلنا في أكثر من موقع: إنَّ النصّ الشعريّ المتميِّز هو الذي يحقِّق جماليَّاته في الفاتحة الاستهلاليَّة؛  بوصفها مركز النبض الدافق للرؤية الشعريَّة؛ و كذلك في الخاتمة النصّيّة؛ والنص الشعري  المتميز -  هو إنْ شئت كلاًّ متكاملاً لا ينفصل عمَّا سواه من دلالات؛ وهو يستقطب للرؤى الشعريَّة كافة؛ ابتداءً من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة في تشكيله؛ وإن شئت منفصلاً عمَّا سواه لكنه يحقِّق الجماليَّة في كلٍّ على حدة؛ سواء أكانَ ذلك في الفاتحة الاستهلاليَّة أم في المركز النصّيّ؛ أم في الخاتمة النصّيّة؛ وكلما فاجأ الشاعر قارئه في الخاتمة النصّيّة بمركزية رؤيوية جذَّابة  كلما استطاع أن يسمو بنصه فنيًّا من جهة؛ ويترك أثراً جذَّاباً في المتلقي لتلقي النصّ تلقيًّا جماليًّا من جهة ثانية؛ وهذا هو جوهر الإبداع الفني في النصوص الشعريَّة  المتميزة، وهنا نخلص إلى نتيجة مهمة: إنَّ الشاعر عندما يُوَفِّق في اقتناص الخاتمات المثيرة، أو القفلات الشاعريّة العميقة؛ فإنَّ قصيدته تلك  لا محالة- ستترك أثراً دلاليًّا، ونبضاً شعوريًّا دافقاً، وإيقاعاً عذباً في نفس المتلقي؛ وهنا؛ تكمن مسألة الجماليَّة؛ أي: كيف نقول عن خاتمة ما بأنها موفقة جماليًّا، وقصيدة أخرى غير موفقة جماليًّا؛؟! ما هو معيار الجماليَّة في القفلات النصيَّة؟ هل هو معيار ذوقي؟! أم أنه معيار علمي؟ ومتى تكون النصوص ممتعة جماليًّا على صعيد القفلات النصيَّة؟!

إنَّ سلسلة الأسئلة المطروحة؛ سنجيب عليها من خلال تحليلنا لهذه القفلة النصيَّة؟ إذ يقول القبَّاني:

"إنِّي خيَّرْتُكِ...فاختاري

ما بينَ الموتِ على صدري

أو فوقَ دفاترِ أشعاري

لا توجد منطقةٌ وسطى

ما بينَ الجنَّةِ والنارِ".

تنهض هذه القفلة النصّيّة جماليًّا على مثيرين:

1- مثير نسقي انسجامي على مستوى الكلمات: وفيه تتمثل قدرة الشاعر على ربط الكلمة بالكلمة والجملة بالجملة؛ لتؤدي معنًى دلاليًّا مثيراً؛ وإيحاءً شاعريًّا عميقاً؛ والّلافت أنَّ محفِّزات النسق الشعريّ السابق تنبني على الائتلاف النسقي بين الكلمة ومثيلتها في التركيب؛ الأمر الذي يثير الكلمات، ويعزِّز مداليلها الشعريَّة؛ وهنا؛ لا تكمن قيمة الكلمات معزولة عن سياقها؛ وإنما تكمن في هذا الائتلاف العجيب بين الكلمات على مستوى القفلة النصيَّة؛ "إنّي خيَّرْتُكِ فاختاري/ ما بين الموتَ على صدري/ أو فوق دفاترِ أشعاري"؛ إنَّ دلائل انسجام الكلمات مع بعضها بعضاً في النسق الشعريّ السابق؛ تتبدَّى في القفلات الشطريَّة التالية: [ما بين الموت على صدري/ أو فوق دفاتر أشعاري/ ما بين الجنَّةِ والنارِ]؛ إنَّ دلائليًّات الانسجام واضحة جليًّا من خلال رشافة الجمل، وسلاستها، وحسن تنظيمها للنسق الشعريّ؛ فهي لا تتضمن أيَّة صورة خصبة؛ وإنما هي مجرَّد مشاعر حارقة؛ وإيقاعيَّة رشيقة، نشأت من علاقة الإضافة بين الكلمة والأخرى [على صدري- أشعاري- النارِ]؛ وهذه الحركة التي اعتمدها بالكسر ساعدت الكلمات على هذه الرشاقة الإيقاعيّةَ في بثّ مواجيده الغراميَّة بزخم شعوريّ؛ وحدَّة صوتيَّة تمثلت في تكرار الحروف الصائتة الانفجاريَّة التي بدت واضحة في تكرار صوت الراء المكسور الذي أعطى قلقلة للنسق الشعريّ؛ وولَّد إحساساً - لدى المتلقي- بهذا التوتر الذي أحدثه الشاعر؛ للتعبير عن عاطفته الغزليَّة المشبوبة؛ وشوقه الغرامي الانفعالي العارم؛ وقد جاءت القفلة متواشجة فنيًّا مع الفاتحة الاستهلاليَّة؛ محققة أقصى درجات التلاحم والتكامل النصّيّ.

 والمثير - حقاً- أنَّ الشاعر ينسق الكلمات في قوالب تشكيليَّة جماليَّة شفّافة؛ تحلِّق في فضاء الرومانسيَّة، وإيقاعها الانسيابي الشاعري، وكأنَّ الجملة تقود الجملة؛ لتخلق هذه الملحمة الفنّيّة.

2- مثير تقفوي صوتيّ انسيابي: تنهض مثيرات هذا النسق على الانسجام، والتوازن التقفوي [اختاري – أشعاري- النار]؛ إنَّ هذه القوافي المتواترة المنسجمة؛ تعزِّز المسار النصّيّ؛ وتزيد الحساسية الشعريَّة، والنبض الإيقاعي في القفلة النصيّة؛ فالقفلة النصيَّة لم تكن موفَّقة فحسب؛ وإنما جاءت متناسبة مع دفقة الاستهلال؛ مما ولّد تكاملاً نصيًّا في القصيدة، وخلق انسجامها الفني على المستوى الجمالي. وهكذا؛ يبدو لنا –جليًّاً- أنَّ الحساسية الجماليَّة التي يملكها القبّاني ساهمت – بشكل أو بآخر- في بناء نصّ شعريّ محكم؛ حتى وإنْ خلت بعض قصائده من تقنية الصورة؛ فإنّ القبّاني يستعيض عنها بالتآلف الفني العجيب بين نسق الكلمات في الجملة الشعريَّة؛ لتأتي رشيقة متناغمة تشدُّ القارئ إليها بتناغمها الإيقاعي الصوتي الانسيابي؛ محدثة فيه لذة ما، أو نشوة شعوريّة لحظة تلقيها؛ يمكن أن نسمي هذه اللحظة [لحظة التلقي الجمالي، أو لحظة الالتقاء الشعوريّ؛ وهي لحظة التفاعل الخلاّق بين الشاعر والمتلقي]؛ ولا غرو في ذلك؛ لأنَّ القبّاني يملك هذه الحساسية الجمالية أو [الشعور الجمالي]؛ كما يملك حسن نقل هذا الشعور إلى الآخرين؛ بأسلوب جمالي كذلك؛ وهذا ما يحسب للقبّاني جماليًّا في توجيه نصوصه، وتوجيه منطوقها الفني.

7- الجمال كماهيَّة نصّيَّة خلق التوافق الفني بين [الجدليات أو المتناقضات (المتضادات) أو المفارقات الوجوديّة]:
إنّ الجمال كماهيَّة نصّيَّة إثارة التوترات بين الأنساق اللغويَّة ضمن النصّ الشعريّ؛ والنصّ الجماليّ هو النصّ الذي يخلق مثل هذه التوترات؛ لإثارة الانفعالات، والاستجابات الشعوريّة إزاء الحدث الشعريّ المجسد؛ وكما أنَّ الرؤى الشعريَّة هي عمليَّة توليف شعوريَّة للاصطراعات الداخليَّة؛ فإنَّ الإبداع الجماليّ يتمثل في تنظيم مثل هذه المتناقضات في نسق منسجم متآلف فنيًّا؛ "ولا تتحقق إثارة الانفعالات في نفس المتلقي حتى ينسجم العمل الأدبيّ ذاته في بنياته، وشكله، ويحدث المفاجأة في الأحداث؛ وفي النهايات، مما يجعل المتلقي في حالة ترقب وانتظار لما هو غير متوقع"([34])؛ وتنشأ مثل هذه المفاجآت بالأنساق الجدليَّة المتآلفة ضمن نسقها الشعريّ الذي وُضِعَتْ فيه؛ وعلى هذا فإنَّ ما يميِّز النصّ الإبداعي ليس الممازجة اللغويَّة بتآلفها، أو تنافرها؛ وإنما بازدياد درجتها الجماليَّة في خلق المنعكسات الفنية ذات القدرة على إحداث الصدمة، والقشعريرة في النصّ الشعريّ؛ وتخلق لدى المتلقي درجة الاستجابة الشعوريَّة لهذه المفاجأة، أو الصدمة التي أحدثتها الجملة الشعريَّة في نسقها الفني الذي تموضعت فيه؛ وهذا يقودنا إلى القول: إنَّ الجمال خلاصَّة إيحاء الأشياء، كماهيّة حسيّة، وكعلامات دلاليّة إيحائيّة تؤكِّد الموضوع الجمالي، أو القيمة الجماليَّة؛ ولعلّ أبرز قيمة للإيحاء الجمالي هي خلق التوافق الفني بين المنعكسات اللغويَّة، أو المتضادات اللغويَّة في التركيب الشعري؛ وقد أكد سعيد توفيق أنَّ الكلمة في ذاتها لا تحمل معنًى فحسب؛ بل تشير إلى معانٍ وظلال دلاليّة؛ إذْ يقول: "الصورة الصوتيَّة للكلمة لا تحمل معنًى فحسب؛ بل قد تحملُ - أيضاً- دلالة جماليَّة. ولذلك فإنَّنا - غالباً- ما نميِّز بين صوتٍ للكلمة جميل وآخر قبيح؛ جاد أو مرح أو شجوني. وهذه الاختلافات تكمن في صوت الكلمة نفسه؛ أي في الصورة، أو النمط الصوتي للكلمة؛ إلاَّ أنَّ هذه الاختلافات ترتبط ارتباطاً مع المعاني المناظرة، ونبرة التعبير... ورغم كلّ هذا فإنَّ الكلمات هي مجرَّد عنصر لغويّ لا يقوم بذاته مستقلاً عن الجملة؛ فهي لا تظهر أبداً – لا في لغة الحياة اليومية، ولا في لغة الأعمال الأدبية- بمفردها، وحتى عندما تظهر بمفردها؛ وتبدو كما لو كانت مكتفية بذاتها؛ فإنها تكون بمثابة اختصار يُوْضَع محل جملة، أو جمل مركبة؛ ولذلك؛ فإنَّ إنجاردن ينتقل من البنية الصوتية للكلمة إلى الصياغات الصوتية ذات الرتبة الأعلى"([35]).

إنَّ ما أشار إليه سعيد توفيق يؤكِّد أنَّ للكلمة معانٍ في ذاتها، ومعانٍ إيحائية تظهر من خلال تركيبها في السياق؛ ولعلَّ أبرز ما يحيي الكلمات هو (الإيحاء الجديد الذي تكتسبه من سياقها الجديد). وعلى هذا فإنَّ (إنجاردن) "يُظهر لنا الدور الذي تقوم به أصوات الكلمات المتتابعة في تأسيس صياغة صوتيّة خاصّة بالجملة. فإذا كانت الكلمات المتتابعة في سياق ما لها أصوات جميلة رقيقة على سبيل المثال. ثم ظهرت فجأة كلمة لها صوت فظّ غليظ، فلاشكَّ أنَّه سيحدث تعارض في الصياغة العليا. كذلك يبدو تأثير أصوات الكلمات على الصياغات، والظواهر الصوتيَّة العليا في حالات أخرى، من قبيل: الوزن، والإيقاع، والقافية. وخاصيَّة الإيقاع – على وجه الخصوص- تميّز كل نصّ أدبي؛ ولكن ليس من الضروري أن يتميَّز العمل الأدبي، بإيقاع واحد حتى يصبح له خاصيَّة إيقاعيَّة؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنَّ الإيقاعات المتنوِّعة التي ترتبط معاً تنتج خواصًّا إيقاعية ذات رتبة أعلى من الإثارة والتحفيز"([36]).

إنَّ أبرز ما أشار إليه إنجاردن أنَّ تنويع الإيقاع يسهم في تحفيز النصوص الأدبيّة، وتعزيز شعريتها؛ وتكمن البراعة النسقية التشكيليَّة -عند الشاعر- بمقدار ما يؤالف بين المتباعدات والمتضادات اللغويَّة؛ لخلق نسق شعري متفاعل؛ ومن يطلع على قصائد القبّاني يلحظ اعتماد التوافق الفني بين المتضادات؛ لتحفيز رؤيتها، وتعميق مدلولها؛ وتُعَدَّ خصيصة المؤالفة الفنية بين المتضادات من أبرز مثيرات التشكيل الجمالي في لغة الحداثة الشعريَّة؛ إذْ إنَّ اجتماع المتضادات يهب الحركة الدلاليَّة ثبوتا،ً ورسوخاً، وتثبيتاً للدلالة؛ بمعنى أنَّ تعزيز الدلالة بنقيضها هو ما يسهم في تعميق فاعلية الرؤية، وتحفيز مدلولها النصّيّ؛ يقول الناقد علي قاسم محمد الخرابشة: "تُعَدُّ ظاهرة التضاد من أبرز الظواهر الأسلوبيَّة التي تكشف عن نفسيَّة الكاتب أو الشاعر من خلال ما تؤديه الكلمة من دلالات إيحائية ناشئة عن علاقة التضاد الواردة بين الكلمات"([37]). وعلى هذا؛ فإن للتضاد - من منظور الخرابشة-: "دوراً أساسيًّا في تشكيل الصورة الشعريَّة عند الشاعر؛ فالمعاني الشعريّةَ تنجم عن مجموعة العلاقات المتشابكة بين الكلماتِ المختلفة في معانيها؛ كما يضيف عنصراً جماليًّا في النصّ من خلال قضية التأثير بين الشاعر والمتلقي لما فيه من حسٍّ لفظيّ إيحائي؛ وكلمات معبِّرة، واتساع في الأجواء؛ وإثارة في التحليق؛ فإذا بالمتلقي أمام صور شعريَّة نابعة بالكثير من المعاني في أطرافها، ومتعالية في انطلاقها"([38]).

وهنا؛ نتساءل: ما هي المقوِّمات الجماليّة للمتضادات في خلق لغة جماليَّة مثيرة في التحفيز الجماليّ للنصوص الإبداعية عامة؟، والشعريّة على وجه الخصوص؟! وهل للتوليف الجمالي بين المتضادات مقدرة أو جاذبية في إثارة المتلقي وجذبه إلى دائرة النصوص الشعريَّة؟! وهل ثمّة آلية جماليَّة، أو فنيّة نستطيع من خلالها الحكم على المهارة الفنيّة في الصوغ اللغويّ، لإيقاع المتضادات مقدرة أو جاذبية في إثارة المتلقي وجذبه إلى دائرة النصوص الشعريَّة؟!

وهل ثمَّة آلية جماليَّة أو فنية نستطيع من خلالها الحكم على المهارة الفنية في الصوغ اللغوي لإيقاع المتضادات في نصوص القبَّاني الشعريَّة؟!

لاشكَّ في أنَّ الإجابة على مثل هذه التساؤلات يفرض علينا تحليل المقوِّمات الجماليَّة في بنية القصيدة القبَّانية؛ من حيث السمات؛ والخصائص؛ والمؤثرات الأسلوبيَّة؛ وإفرازاتها الجماليَّة؛ على مستوى الثنائيات الضديَّة ومثيراتها الجماليَّة؛ وللتدليل على هذا المؤشر الجمالي سندرس قصيدته (لَحْمُهَا...وأظافري) التي يقول فيها:

"لا تقولي: أرادتِ الأقدارُ...

إنَّكِ اخترتِ. والحياةُ اختيارُ

إذهبي... إذهبي إليه .. فبعدي

لن تعيشَ الدِفلَى ولا الجلَّنارُ...

بعتِ شعري .. بحفنةٍ من حجارٍ

أخبريني. هل أسعدتكِ الحجارُ

وظننتِ السرابَ جنَّةَ عدنٍ

حين لا جنّةٌ ... ولا أنهارُ

لا تقولي: خسرتُ أيَّام عمري

هكذا .. هكذا يكونُ القِمارُ...

كُنْتُ في معصميكِ إسوارَ شعرٍ

وعلى الدربِ ضاعَ منكِ السوارُ

أَوَ هذا الذي انتهيتِ إليهِ؟

مَجْدُكِ الآنَ .. قُنَّبٌ .. وغبارُ

كُنْتِ سلطانةَ النساءِ جميعاً

ولكِ الأرضُ كُلُّها .. والبحارُ

ثمَّ أصبحتِ، يا شقيَّةُ- بعدي

ربوةً لا تزورُهَا الأمطارُ

شامتٌ شامِتٌ أنا بكِ جدّاً

لا يُريحُ المقتولُ إلاَّ الثارُ..

إنّني منكِ لا أريدُ اعتذاراً

ما تفيدُ الدموعُ والأعذارُ؟!

ما بوسعي أنْ أفْعَلَ الآنَ شيئاً

كل ما حولنا دمارٌ .. دمارُ

ما بوسعي إنقاذُ وجهٍ جميلٍ

أكَلَتْهُ من جانبيهِ النارُ

أنتِ.. أنتِ التي هربتِ من الحبّ

وسَهْلٌ على النساءِ الفرارُ"([39]).

قبل أن نبدأ بالتحليل الجماليّ لهذه القصيدة, وفق معطيات ورؤى فنيَّة جديدة؛ لابُدَّ أنْ نؤكِّد على حقيقة مهمة؛ وهي: إنَّ الجماليَّة في الإبداع النصّيّ تكمن في المعايير الأسلوبيَّة في توجيه المنطوق الشعريّ، بما يحرِّك الرؤية الجوهريَّة للقصيدة؛ ويخلق من هذه الرؤية السهم اللاقط للإبداع، والتحفيز، الجماليّ؛ فالمتعة النصّيّة، أو الجماليَّة التي يحققها النصّ الشعريّ ليست بالمنطوق اللغويّ فحسب؛ وإنما في الفراغات اللامنطوقة التي تخفي أشتات من الرؤى، والمشاعر المكبوتة التي لم يُصَرِّح بها الشاعر؛ فخلف الكلمات يكمن الشعر؛ وتكمن حيوات النص الإبداعيَّة؛ وطقوسه الفنية التي لا يعيها إلاَّ الشاعر نفسه؛ ولهذا، لا تكتمل القصيدة فنيًّا إلاَّ باكتمال القارئ؛ ولا يكتمل الإبداع الشعريّ إلاَّ بلمسات المتلقي الواعي لحركة النصّ الداخليَّة؛ وهنا أوافق ناقدنا السوري الكبير خليل موسى فيما ذهب إليه في قوله: "وبعد، فإنَّ مفهوم النصّ في القصيدة المتكاملة يتجاوز حدود الأجناس الشعريَّة والأدبيَّة والفنيَّة، حيث تتضامّ أجناسها تحت عباءة القصيدة المتكاملة، فهي ليست مغلقة على ذاتها، أي ليست مُشَكَّلَة من جنس واحد صافٍ مغلق على نفسه، هي نصّ مفتوح على فضاءات أجناسيَّة مختلفة، فالنص – شعريًّا- مفتوح على الشعر الدرامي والملحمي؛ وهو مفتوح على النثر يستفيد ويتلاقح مع التراث بأشكاله جمعيها، ويتوالد النصّ من بنيات نصوص أخرى في جدلية تتراوح بين هدم وبناء، وتعارض وتداخل، وتوافق، وتخالف إلى أن يتمَّ تشكيل بنية القصيدة العربيَّة المعاصرة المتكاملة"([40]).

إنَّ ما أدلى به الموسى لدليل على أنَّ توالد النصّ الشعريّ الحداثي هو نص توالدي جدلي يقوم على الهدم/ والبناء، والتداخل /والتعارض، والتوافق/ والتخالف؛ وهذا ما يخلق من النصوص الحداثية حركة دائبة في إيقاعها الداخلي على الدوام؛ وإننا في تحليلنا النصّيّ لهذه القصيدة نلحظ أنَّنا أمام جماليَّة لم نعهدها من سابق إلاَّ عند نزار قبَّاني؛ وهي جماليَّة البناء، وحُسْن التنظيم، وخلق المؤالفات النسقيَّة بين المنعكسات اللغويَّة، أو المتضادات اللغويَّة؛ سواء أكان ذلك على صعيد الأنساق اللغويَّة ضمن الجملة الواحدة؛ أم على صعيد المتضَّادات بين الجمل؛ ضمن المقطع الشعريّ الواحد؛ مشكِّلة نسقاً متلاحماً فنيًّا؛ قادراً على المغامرة بشكله الفني، ولعبته التشكيليَّة التي تؤكِّد نجاحها في حسن تموضع الكلمات؛ وتفاعلها إلى آخر كلمة في النصّ الشعريّ؛ كما لو أنَّ النصّ شبكة لغويَّة واحدة متصلة لا انفصام فيما بينها؛ كل جمل تدفع الجملة الأخرى؛ وتلتحم معها في كينونة نسقيَّة متآلفة؛ودليلنا على ذلك قوله:

"لا تقولي: أرادتِ الأقدارُ...

إنَّكِ اخترتِ. والحياةُ اختيارُ

إذهبي... إذهبي إليه.. فبعدي

لن تعيشَ الدِفلَى ولا الجلَّنارُ...

بعتِ شعري..بحفنةٍ من حجارٍ

أخبريني. هل أسعدتكِ الحجارُ"

إنَّ ما أفرزتْهُ الأسطر السابقة جماليًّا؛ لم يكن منتوجه الجماليّ نابعاً من تمفصلات لغويَّة مبتكرة؛ وأنساق تشكيليَّة مراوغة؛ وإنما أفرز هذا المنتوج الجماليّ حسن تموضع الكلمات؛ ورصفها في نسقها؛ وكأنها سبحة لا تنفصل حبَّةٌ عن مثيلتها في التركيب؛ بل تجمع جميعها في بناء الشكل النصّيّ النهائي؛ فقوله في النسق الشعريّ التالي: [لا تقولي: أرادتِ الأقدارُ...إنَّكِ اخترتِ. والحياةُ اختيارُ] ذو مدلول إيحائي بسيط؛ يحيط به القارئ؛ أيًّا كان مستواه؛ ولا يستدعي طول مرانٍ، ودربة في تتبع نسق الكلمات؛ لإدراك معناها؛ ومدلولها في نسقها الشعريّ؛ ثم اتبع حركة النسق الشعريّ بنسق آخر رشيق إيقاعيًّا: [إذهبي... إذهبي إليه.. فبعدي لن تعيشَ الدِفلَى ولا الجلَّنارُ]؛ لقد أضفى الشاعر على النسق السابق مسحة سحريَّة من لمسات الجماليَّة؛ بجمعه بين دالّ [الدفلى]؛ و[الجُلَّنار]؛ وهما دالان متضادان، ولَّف الشاعر حركة المتضادين، لخلق نسق تشكيلي، كثيف الدلالة، دون أيّ تلغيز أو اختراق أسلوبي صادم للقارئ؛ ليتابع سيرورة النسق بكل تآلفه، ورشاقته، وسهولة تداول معناه؛ حرصاً منه على متابعة النسق بهذا البناء، والتناغم، والإحكام في رصف الكلمات؛ لتبثَّ شحناتها العاطفيَّة؛ برشاقة لغويَّة، وتتابع نسقي وسرعة في بثّ الشحنات الانفعاليَّة؛ على نحوٍ تستقطب المشاعر المكبوتة؛ وتبثَّها تباعاً؛ وبدفقات متوالية؛ وهذا ما نلحظه في قوله: [بعتِ شعري..بحفنةٍ من حجارٍ... أخبريني. هل أسعدتكِ الحجارُ]؛ إنَّ تتابع النسق ورشاقته لغويًّا دفع الشاعر إلى اختيار لفظة [حجارٍ] بدلاً من لفظة [الأحجار]؛ لأنَّ منطوق لفظة [حجار] رشيق، وسريع؛ يتناسب وسرعة النفثات المشحونة؛ وهذا الانتهاك اللغويّ؛ لم يكن جارحاً للنسق الشعريّ؛ بل كان مولِّداً لهذه الدهشة؛ والرشاقة؛ لرصد سرعة تتابع الرؤى، والمشاعر، والأحاسيس الغرامية المصطرعة والمبثوثة من أعماق أعماقه؛ وقد خلق الشاعر هذه المزاوجة بين لفظتي [حجارٍ/  والحجار]؛ لتأكيد هذه اللحمة؛ وانسيابها فنيًّا؛ وهذا ما جعل النسق الشعريّ رشيقاً متناميًّا جماليًّا إلى آخر دفقة في القصيدة، وهكذا؛ تنهض القصيدة جماليًّا على مسارات عدّة؛ من أهمها ما يلي

1- مسار نسقي تشكيلي مثير:
ويتبدّى - هذا المسار- في حسن اختيار الجملة؛ وترسيمها بجمال فنيّ، وإدراك تعبيري ترسيمي دقيق للرؤية الشعريَّة أو الحدث الشعريّ؛ فالكلمة - في القصيدة السابقة- ترتسم جماليًّا، وتزداد نبضاً إيقاعيًّا بتضافرها مع الأخرى؛ ففي قوله: "إنّكِ اخترتِ. والحياة اختيارٌ"، إنَّ هذا النسق التشكيلي نسق معتاد في حياتنا اليومية؛ لكنه اكتسب خصوصية جماليَّة في مسار القصيدة؛ فبات عنصراً مثيراً في حركة القصيدة؛ يزيدها إيحاءً، ويلوِّن نسقها، خاصَّة بتضافره مع قوله: "إذهبي... إذهبي إليه.. فبعدي... لن تعيشَ الدِفلَى ولا الجلَّنارُ..."؛ إنَّ الملفوظ الشعريّ يزداد إثارة، وحنكة جماليَّة بهذه الرشاقة التشكيليّة، والحيازة النسقية التفاعلية التي تزيد عمق الإيحاء الشعريّ، وتخلق حيوية النسق الشعري، وخصوبته الجماليَّة.

ولو تأملنا خصوبة النسق الشعري التالي جماليًّا، لتبدّى أنه يقوم على عنصر جدلي متضاد؛ يعزِّز سيرورة الرؤية أو الصورة المجسدة؛ كما في قوله:

أَوَهذا الذي انتهيتِ إليهِ؟

مَجْدُكِ الآنَ.. قُنَّبٌ.. وغبارُ

كُنْتِ سلطانةَ النساءِ جميعاً

ولكِ الأرضُ كُلُّها..والبحارُ

ثمَّ أصبحتِ، يا شقيَّةُ- بعدي

ربوةً لا تزورُهَا الأمطارُ

شامتٌ شامِتٌ أنا بكِ جدّاً

لا يُريحُ المقتولُ إلاَّ الثارُ..

تنهض جماليَّة المقطع السابق على فاعليّة المسار النسقي التشكيلي المباغت؛ فكل جملة ترتكز دلاليًّا على الجملة الأخرى؛ وتعزز السيرورة الجماليَّة للقصيدة؛ وكأنَّ الشاعر بهذا الارتكاز الفنيّ يحوِّل الكلمات من بداهة مدلولها إلى دلالات خصبة عميقة تصيب الرؤية الغزليَّة؛ وتعزِّز مدَّها الجماليّ؛ ففي قوله: "ثمَّ أصبحتِ، يا شقيَّةُ- بعدي، ربوةً لا تزورُهَا الأمطارُ"؛ أدَّت الجملة دورها الفنيّ المنوط بها من جهة، وخلقت تناغماً جماليًّا مع ما يتلوها من عناصر التركيب من جهة ثانية؛ مولِّدة شعوراً جماليًّا، أو لذَّة جماليَّة مثيرة من خلال فاعليَّة الإسناد الّلغويّ/ الجماليّ؛ وربط الكلمات مع بعضها بعضاً في نسق ائتلافي تشكيلي مثير.

والَّلافت أنِّ الشاعر يثيرنا دلاليًّا بهذه القفلة المقطعية:

شامتٌ شامِتٌ أنا بكِ جدّاً

لا يُريحُ المقتولُ إلاَّ الثارُ..

إنَّ الشاعر بهذا التخفيف الذي ولّده في لفظة (الثار) حرَّك النسق الضدي [القاتل/ المقتول]؛ وأضفى جماليَّة إيقاعيّة خصبة على حركة الدوال والمدلولات؛ معمِّقاً مَدَّها التأمليّ الغزلي؛ إذْ إنَّ لفظة "الثار" أصلها "الثأر"؛ فلو قال هذه اللفظة بمنطوقها اللغويّ الصريح لانكسر الوزن، وفقدت الجملة رشاقتها وسرعتها، وقوتها التعبيريَّة؛ وهكذا؛ يبلور القبَّاني جماليّة قصائده على حسن التشكيل اللغويّ، وبداعة ربط الكلمات في نسق شعري متسارع رشيق؛ يبثّ منطوقه بجماليّة ساحرة، وإيقاع خصيب يخلقه حسن تموضع الكلمات في النسق الشعريّ الملائم لها تماماً؛ ولمدها الشعوريّ الانفعالي الصاخب المتسارع في بثّ الزفرات من خلال تراكم الجمل، وتتابع العبارات الشعريَّة؛ فقد يقول القائل أين هذه الجماليَّة إذا كان المعنى سطحيًّا ساذجاً في صريح دلالته [لا يريحُ المقتولُ إلاَّ الثأرُ]؟! نقول له: إنَّ الجماليَّة لا تنشأ دائماً من خلال إثارة الصدمات، والانتهاكات اللغويَّة الإسناديَّة العميقة، فقد يثيرنا القول البسيط والمدلول المباشر أحياناً إذا كان سياق القصيدة يتطلب ذلك؛ ومؤسساً على ذلك؛ صحيح أنَّ المعنى سطحي وبديهي؛ لكنه في سياقه جاء معبِّراً؛ ولو كانت العبارة ككل غير متوافقة فنيًّا؛ التوافق التام؛ وكان من الأجدى لو أنَّ القبَّاني فكّر بقفلة مقطعية أشدُّ حنكة وجماليَّة من هذه القفلة المعتادة لدرجة الألفة والبساطة التام .

2- مسار جماليّة القفلة النصّيّة/ وحسن تمركزها الفني:
ونقصد بـ [جماليَّة القفلة النصّيّة]: أنْ يقفل الشاعر قصيدته بقفلة تشكيليّة مباغتة، تُفَعِّل درجة رؤية القصيدة بالكامل، وتثيرها فنيًّا؛ بأناقة تشكيليَّة، تؤكِّد حسن تمركزها الفني، وصلاحية منطوقها الجمالي؛ لإثارة المتلقي من جهة، وتحقيق درجة من الإثارة، واللذة الجماليَّة في النسق الشعريّ المموسق عبر هذه القفلة من جهة ثانية؛ كما لو أنَّها موقعة دلاليًّا، وإيقاعيًّا وإفرازاً جماليًّا؛ وإنَّ من يتعمق في مثيرات القفلة النصيّة السابقة سيلحظ حسن تموضع هذه القفلة؛ لتعزز جماليَّة القصيدة؛ وتؤكِّد إحكامها الفني؛ كما في قوله:

"إنّني منكِ لا أريدُ اعتذاراً

ما تفيدُ الدموعُ والأعذارُ؟!

ما بوسعي أنْ أفْعَلَ الآنَ شيئاً

كل ما حولنا دمارٌ.. دمارُ

ما بوسعي إنقاذُ وجهٍ جميلٍ

أكَلَتْهُ من جانبيهِ النارُ

أنتِ.. أنتِ التي هربتِ من الحبّ

وسَهْلٌ على النساءِ الفرارُ"

ترتكز جماليَّة القفلة على مثيرين؛ أولهما: مثير نسقي تضافري انسيابي: وفيه يُركِّز الشاعر على الكلمات الرشيقة التي تزيد سرعة النسق تفاعلاً وانسجاماً ومردوداً صوتيّاً فاعلاً في تكثيف الرؤية، ورصد الحالة الجارحة التي يشعر بها الشاعر إزاء ما فعلت به الحبيبة من هجران؛ كما في النسق التالي: "إنّني منكِ لا أريدُ اعتذاراً... ما تفيدُ الدموعُ والأعذارُ؟!؛ إنَّ هذا التشكيل السلس البسيط، ينمّ على حركة شعوريَّة مجروحة أو مكلومة بجرح الأسى، والعتاب الجارح بين الأحبة؛ بلغة تميل إلى بثّ مشاعر الأسى والحزن؛ ثم جاءت القفلة وهي المرتكز الآخر المثير؛ لتعمق هذه الحالة الجارحة، وتزيد بؤرة القصيدة عمقاً وامتداداً جماليًّا، أمَّا ثانيهما فهو: القفلة الشاعريَّة التي عمقت مدلول القصيدة، وأثارت حركتها؛ وهي: "أنتِ.. أنتِ التي هربتِ من الحبّ/ وسَهْلٌ على النساءِ الفرارُ"؛ إنَّ الشاعر بهذه القفلة أكَّد على طبع النساء المراوغ؛ وأنَّ النساء لا تفي بوعودها، وصعب عليها الالتزام والإخلاص بحبها؛ وهي سهلة  الفرار من كل شيء، حتى فرارها من الحب؛ وهكذا؛ قامت الحركة النصيَّة في هذه القصيدة على تفعيل الرؤى الشاعريَّة المتضادة التي تبيِّن  جوّ الأسى، والعتاب الشفيف بين الشاعر، ومحبوبته بإحساس جماليّ تشكيلي مثير؛ مؤكِّداً بذلك قدرته الفاعلة على توليد نصّ شعري مبتكر؛ بسلاسة جماليّة، وانبثاق تأملي شعوري خصيب؛ وهنا؛ قد يتساءل الشاعر: أين مكمن الجماليَّة في القفلة السابقة؛ إذا كان مدلول القول [وسهلٌ على النساء الفرارُ]؛ سطحي، مباشر؛ ويكاد يكون متداولاً عند الكثيرين في أحاديثهم ومصارحاتهم لطبيعة النساء؛ الماكرة، المخادعة التي لا تفي بوعودها؛ وتخنث دائماُ بالعهود والمواثيق؟!؛ نقول: إنَّ الجماليَّة نشأت كبناء؛ وليست ناشئة عن صورة مبتكرة؛ فعَّلت عناصر البناء؛ فالمرتكز الجماليّ في المقبوس السابق؛ لم يكن مرتكزاً تصويريًّا؛ وإنما كان مرتكزاً هندسيًّا متقناً في رصف الكلمات السهلة في نسق شعري شفيف؛ وهذا ما يجعل لغة القبَّاني سهلة؛ طيعة التشكيل، بسيطة في مدلولها؛ يفهمها القاصي والداني؛ والكبير والصغير؛ والمثقف والعاميّ؛ وهذه القدرة هي التي جذبت هذه الشريحة المؤسسة من جمهور القرَّاء إلى أشعاره؛ في مراحله الشعريَّة كلها على الإطلاق.

8- الجمال كماهيَّة نصّيّة تكامل نصّيّ/ أو بناء نصّيّ محكم:
إنَّ الجماليَّة النصّيّة في أيّ نصٍّ إبداعيّ متميِّز لا تبث منتوجها الجماليّ مُجَزَّأً؛ وإنما تبثّه لحمة من خلال هيكلها النصّيّ المتكامل؛ وسموّها الفني الذي يتجلَّى في براعة التشكيل؛ وجماليَّة التعبير؛ فالنصوص الجماليَّة نصوص إبداعيَّة لا متناهيَّة’؛ ولا تحقِّق سموّها الجماليّ إلاَّ بإحداثها للتجاوبات التشكيليَّة مع إيقاعاتها الداخليَّة؛ لتحقِّق استجابتها الفنيَّة الراقية؛ ومنتوجها الإبداعيّ المتجاوب مع محمولها الدلاليّ؛ ولهذا؛ فمبدأ اللّذة الجماليَّة في النصوص الشعريَّة؛ لا يستند إلاَّ لهيكلية منظمة متكاملة؛ متلاحمة من أولها إلى آخرها؛ وعلى هذا، فالبنية الشعريَّة ذات الخصوبة الجماليَّة، أو الإفرازات الجماليَّة ليست بنية متصدعة؛ مجزَّأَة؛ وإنما بنية متكاملة؛ تحقِّق لذّتها وحلاوتها النصّيّة من انسجام هذه البنية؛ وجوهر الرؤية المطروحة، ومدى فاعليتها في تحقيق الاستجابة المثلى في نفسيَّة المتلقي، لهذا؛ فإنَّ الشاعر المبدع هو يخلق هذه الجماليَّة من تشكيله النصّيّ المتكامل؛ ومهارته في هذا التشكيل؛ يقول أُدونيس: "الشاعر الجديد فارسٌ ينتشل الكلمات، ينسلها كلمة كلمة من نسيجها القديم، يخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد. إذْ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة من دلالاتها، وإبداعاتها. يملؤها بشحنة جديدة. تصبح لغة ثانية لا عهد لنا بها؛ لذلك؛ لابُدَّ، لتفهمها وتذوقها؛ من الخبرة والممارسة؛ وما لم نفهمها ونتذوقها لا نستطيع أن نكشف ما وراءها؛ إنها مفاتيحنا إلى عالم الشاعر؛... .. إذاً الشعر الجديد تغيّر في طريقة التعبير؛ وهذا التغيّر بالضرورة يقود إلى تغيّر في طريقة التقويم"([41]).

من هنا يمكننا أن نقرِّر أنَّ فاعليّة النصّ الشعريّ جماليًّا تكمن في طريقة تشكيله، ودرجة تكامله فنيًّا في بناء نصّيّ متكامل، أو محكم؛ يقول "لونجيوس": "اللغة الرفيعة لا تُقْنِع المستمعين؛ ولكنها تُدْخِلُ الطربَ إلى نفوسهم، وفي كل وقت، وعلى كلِّ حال يتغلَّب الكلام المؤثِّر بسحره الذي يغمرنا به على غيره من الكلام الذي يهدف إلى الإقناع والإرضاء. إنَّ السيطرة على قناعاتنا أمرٌ ممكنٌ عادة؛ أمَّا ما هو سامٍ في بلاغته، فأثره لا يقاوم، وقوته عنيفة تسيطر على أفئدة المستمعين"([42]).

وهكذا؛ فإنَّ  الجمال كماهيَّة نصّيّة هو تكامل، وإمتاع جماليّ، من خلال فاعليَّة النصّ بهيكله الكليّ؛ وإمتاعه الجماليّ؛ ومما لاشكَّ أنَّ خاصيَّة الجمال خاصيَّة تكامليَّة، بمعنى أنَّ الجمال تكامل، وتوازن، وإبداع فني محكم؛ وما هو جميل حصراً هو متكامل فنيًّا لامحالة، وفق خطوط، وأحجام، وأبعاد حسيَّة متناسقة؛ وما هو جميل بالطبع هو شكل فني مُنَسَّق أو متقن؛ يقول إنجاردن في تعريفه للجمال الأدبيّ بوصفه ماهيَّة نصّيّة متكاملة؛ ما يلي: "إنَّ الاتجاه الجمالي إزاء العمل الفني الأدبي لا يمكن تحقيقه من مجرد سلسلة العمليات المعرفية التي تدخل في تعيين العمل؛ وإنما لابُدَّ من أن يصاحب هذه العمليات خبرات أخرى من انفعالات، وأساليب من الأنشطة التي تهدف إلى تأسيس الموضوع الجماليّ؛ وهي انفعالات وأنشطة لا يكون لها وجود في حالة قراءة العمل الأدبي خارج اتجاه جمالي معين؛ ولكي ننتقل إلى حالة الاتجاه الجمالي إزاء العمل الأدبيّ، فلابُدَّ من حدوث "الانفعال الجمالي الأولي" الذي يكون ناتجاً عن عنصر، أو كيفيات جماليَّة متضمنة في العمل. حقًّا إنَّ القارئ يمكن أن يتخذ اتجاهاً جماليًّا إزاء العمل؛ منذ البداية وقبل القراءة؛ حينما يهيئ نفسه بشكل مصطنع لأنْ يتخذ اتجاهاً جماليًّا إزاء العمل قد يثيره، أو يُحَفِّزه عنوان العمل على سبيل المثال. إلاَّ أنَّ الاتجاه الجمالي لن يتحقق إذا لم يُعَضِّده العمل ذاته؛ أي إذا لم يكن قادراً على إثارة الانفعال الجمالي الأولي الناتج عن كيفيَّة أو كيفيات جماليَّة معينة في العمل؛ وعندما يحدث الاتجاه الجمالي بشكل طبيعيّ أثناء القراءة؛ فإنَّ الانفعال الجماليّ الذي يثيره العمل الأدبي يتفاوت من عمل إلى آخر، من حيث الطبقة التي يحدث فيها، والمرحلة التي يمكن أن ينشأ فيها. وحدوث الانفعال الأولي يكون ضروريًّا لإثارة سلسلة من العمليات التي تهدف إلى تعيين العمل؛ وإعادة تأسيسه كموضوع جمالي"([43]).

إنَّ ما أشار إليه إنجاردن يتعلَّق بالتلقي الجماليّ للنصّ الأدبيّ؛ فإذا كان المُسْتَقبل بوصفه: متلقياً محبًّا للعمل الأدبيّ المخصوص؛ فإنه – دون أدنى شكّ- سيعمد إلى تحريك عاطفته؛ للحكم على جماليّة العمل الأدبيّ؛ بوصفه جميلاً - من منظوره- قبل أن يخوض في غماره؛ سواء أكان حقيقة ينطوي العمل على هذه الجماليّة، أم أنَّه خالٍ منها تماماً؛ إذْ إنَّ القارئ قد يلفته العنوان أحياناً؛ مثيراً حساسيته الجماليّة؛ للحكم المسبق على العمل الأدبيّ؛ لكن هذا لا يكفي من وجهة نظر إنجاردن؛ إذْ إنّ العمل الأدبيّ المبدع - ليحقق سمة الجماليَّة- لابُدَّ من أن يكون مضمونه وشكله جميلاً؛ بمعنى أن يكون هناك ثمَّة تآلف بين مضمون العمل الأدبي وشكله؛ ليحقق عنصر الإثارة الشعريَّة أو الإثارة الأدبية؛ وهنا نتساءل: ما هو سرّ تحقيق اللذة الجماليَّة في نصوص القبَّاني الشعريَّة على مستوى بنائها النصّيّ؟! ما هو سبب كثرة الإفرازات الجماليَّة في قصائده، سواء أكان ذلك على مستوى الجملة، أم على مستوى المقطع ،أم على مستوى النصّ كله بوصفه جملة كبرى؟!

إنَّ الإجابة على مثل هذه التساؤلات المهمة التي يفرضها علينا البحث؛ ستضعنا أمام قصيدة كاملة للقبَّاني؛ لنحلل مثيرات تكاملها الفنيّ، منطلقين من الجزء إلى الكل؛ أي من الإطار النصّيّ؛ وليس المقطعي الجزئي؛ وهذا ما سنعمد إليه في تحليلنا لقصيدته الموسومة بـ [القصيدة المتوحّشة] التي يقول فيها:

"أَحِبِّيْني .. بلا عُقْدٍ

وضيعي في خطُوطِ يدي

أَحِبِّيْني ... لأسبوعٍ .. لأيَّامٍ.. لساعاتٍ

فلستُ أنا الذي يهتمُ بالأبدِ..

أنا تشرينُ .. شهرُ الريحِ؛

والأمطارِ والبردِ....

أنا تشرينُ .. فانسحقي

كصاعقةٍ على جسدي

أَحِبِّيْني...

بِكلِّ توحُّشِ التترِ..

بكلِّ حرارةِ الأدغالِ

كلِّ شراسةِ المطرِ..

ولا تُبْقِي .. ولا تذري...

ولا تتحضَّري أبداً...

فقد سقطتْ على شفتيكِ..

كُلَّ حضارةِ الَحضَرِ

أَحِبِّيْني..

كزلزالٍ .. كموتٍ غير مُنْتَظَرِ

وخلِّي نَهْدَكِ المعجونَ..

بالكبريتِ والشررِ..

يهاجمني.. كذئبٍ جائعٍ خطِرِ..

وينهشني ويضربني..

كما الأمطارُ تضربُ ساحلَ الجُزُرِ

أنا رجلٌ بلا قدرٍ

فكوني أنتِ لي قدري

وأبقيني ... على نهديكِ..

مثلَ النقشِ في الحجرِ.." ([44]).

قبل أن ندخل محراب هذا المقبوس جماليًّا لابُدّ،َ وأنْ نؤكِّد على أنَّ مسألة الجماليَّة ليست نابعة من العمل الإبداعي نفسه، بقدر ما هي نابعة من خارجه؛ وما أعنيه بخارجه  ليست الظروف المحيطة بالنصّ التي تخصّ المبدع؛ وإنما الظروف التي تخصّ القارئ أو المتلقي؛ فكما أنَّ للمتلقي ظروفاً تتحكم في منتوجه الإبداعيّ؛ فإنَّ للمتلقي ظروفاً خاصّةً به تتحكم في سيرورة تلقيه للنصّ تلقيًّا جماليًّا؛ إنْ لم يكن تلقيًّا إبداعيًّا؛ فـ "المبدع - ولاسيَّما  الشاعر- محكوم بمدى ما يعيه من مدخلات ذهنية؛ وبمدى قدرته على صياغة تأثراته بأسلوب موحٍ ومؤثِّر؛ بل ممتع ومثير... وإنْ فقدت صورته الفنيَّة هذه الملامح فقدت المتعة؛ وضاع تأثيرها كُلَّما مرَّ الوقت عليها؛ وصارت مجرَّد شكل فني ينتمي إلى عصر ما؛ ولم يعد صالحاً إلاَّ لاستدعائه إلى شهادة تاريخيَّة ليس غير؛ وهذا ما لا يجوز في الإبداع الأدبي ولم يكن تراثنا الأدبي يحمل هذه الطبيعة الأحاديَّة؛ لذا على الناقد الذي يتصدَّى لقراءة نصّ من النصوص أنْ يخالطه مخالطة روحيَّة وعقليَّة، ومن ثمَّ فنيَّة كصاحبه تماماً؛ وأنْ يدرك أبعاد التجربة الذاتيَّة والفنيَّة، ليصل إلى استكناه جوهره الحقيقي بما يحمله من قيم تاريخيَّة، واجتماعيَّة، وفكريَّة ونفسيَّة. والناقد الحقيقي حين يتدخل في إعادة تشكيل النصّ تفكيكاً وتركيباً لا ينظر إليه دائماً من وجهة نظره الشخصيَّة وتجربته الذاتيَّة والنقديَّة المعاصرة... فكل نصّ له شكل، ودلالة يحكمها المعيار الفني الذي ساد في عصرهما وبيئتهما .... ولهذا كله؛ نرى أنَّ الناقد الحقّ هو مَنْ يكشف عن دلالة النصّ الشعريّ في سياقه الفنّيّ العام، ويثريه برؤاه التي لا تتناقض مع معطيات النصّ والذات الشاعريَّة، وزمانه، ومكانه، ومجتمعه"([45]).

وهنا أقول: إنَّ النصّ الشعريّ مهما كان متفاعلاً على مستوى مقاطعه وجمله؛ لا يحقّق أي جماليَّة بمعزل عن تكامله النصّيّ؛ إذْ إنَّ التكامل النصّيّ يفرز رؤية شموليَّة؛ وهذه الرؤية تقدم النصّ كأنموذج فني متكامل جماليًّا؛ لا يطاله التشذيب أو الابتسار؛ وإنْ حاول القارئ –ذلك- سيفقد النصّ مكمن دهشته ولذته الجماليَّة؛ وتكامله النصّيّ الذي هو أصدق تعبيريًّا، عن إفرازاته الجماليَّة؛ وحيويته الإبداعيَّة، وفي عودتنا للمقطع الذي بين أيدينا يمكن القول: أنَّ بنيته تتأسّس جماليًّا على أربعة مثيرات؛ هي:

1- بنية الاستهلال الجمالي:
تشكل تقنية الاستهلال؛ بالفعل المكرَّر كلازمة تعبيريَّة (أَحبِّيني) منطلق الحركة النصيَّة الفاعلة في تكثيف الانفعال الغزلي؛ والاستهلال بالتوجه إلى الآخر؛ لخلق حركة تفاعليَّة بين ذات الشاعر؛ وذات المحبوبة؛ وعبر هذه الحركة التفاعليَّة تتنامى جزئيات الصور؛ وتزداد الفاعلية النصّيَّة؛ إذْ إنَّ الشاعر بالاستهلال الخطابي المباشر يكثِّف الحركة النصّيَّة؛ ويدخل الغمار النصّيّ بقوة؛ كما في قوله: "أَحِبِّيْني... بِكلِّ توحُّشِ التترِ.. بكلِّ حرارةِ الأدغالِ كلِّ شراسةِ المطرِ.."؛ إنَّ الشاعر بهذا الالتفات الجماليّ يثير الحركة التعبيريَّة؛ ويعمِّق فاعلية الأنساق التشكيليَّة الأخرى؛ لتحمل في طياتها التوق والاحتراق، والشبق العاطفي؛ وهنا؛ يُكَثِّف الشاعر المثيرات الأخرى التي تساعد على إحداث التأثير في المتلقي؛ ومن ضمنها المثير الثاني.

2- التناغم الصوتي/ والرشاقة الإيقاعيَّة:
تشكِّل تقنية التناغم الصوتيّ المحفِّز الجماليّ الأبرز في تحقيق وحدة إيقاعيَّة انسجاميَّة، تعزِّز سيرورة النسق الغزلي، وتدفع الحركة التعبيريَّة إلى التنامي التصويري، عبر سلاسة الإيقاع، وتتابع الحركة النسقيَّة، بصور متضافرة نسقيًّا؛ تستلهم الرؤية الشعريَّة، وتزيد حركة التنغيمات الصوتيَّة بالتقفيات المتواترة التي تسرِّع الجمل؛ وتبثّ بها رشاقة إيقاعيَّة؛ وسرعة في تتابع الجمل، والصور بكثافة، وتنغيم صوتي جذَّاب، كما في قوله:

"أَحِبِّيْني..

كزلزالٍ.. كموتٍ غير مُنْتَظَرِ

وخلِّي نَهْدَكِ المعجونَ..

بالكبريتِ والشررِ..

يهاجمني.. كذئبٍ جائعٍ خطِرِ..

وينهشني ويضربني..

كما الأمطارُ تضربُ ساحلَ الجُزُرِ"

ينهض هذا المقطع جماليًّا على الرشاقة الإيقاعيَّة من خلال حركة التناغم الصوتي؛ عبر تكرار القوافي، وتتابعها برشاقة؛ كما في التقفيات التالية: "الشرر- خطر- جزر- منتظر"؛ ناهيك عن سرعة تتابع الصور عبر تكرار صوت الكاف في قوله: "كزلزالٍ- كموتٍ- كذئبٍ- كما الأمطار"؛ والمثير جماليًّا؛ هذه الصورة التمثيليَّة التي جاءت متضافرة مع قوله: "يهاجمني.. كذئبٍ جائعٍ خطِرِ.. وينهشني ويضربني.. كما الأمطارُ تضربُ ساحلَ الجُزُرِ"؛ إنَّ من يتابع الحركة التصويريَّة، وهذه التشبيهات المتتابعة يدرك فاعليَّة النسق الشعريّ، الذي يعتمد توالي الحركات التشبيهية، وتوالي الحركات الإيقاعية التي توازي هذا التسارع التصويريّ؛ بتكثيف حركة القوافي؛ لخلق تسارع صوتي يلائم التسارع التصويريّ في الصور والجمل اللاحقة؛ وعلى هذا؛ تتنامى القوافي، وتتسارع لتوازي تسارع الصور، وحركة التشبيهات المتتابعة، بكثافة شعوريَّة، وتوهّج عاطفي إزاء حالة الشبقية التي تعتري ذاته، في غزله المتوهِّج عاطفة، وألقاً تصويريًّا يتنامى إيقاعيًّا كلما تغوَّر الشاعر في رصد هذه الحالة وتصويرها بدقة. وقد يقول القائل: أين تكمن الرشاقة الإيقاعيَّة في المقبوس السابق إذا كانت كاف التشبيه قد أثقلت كاهل الصور خاصَّة في قوله: [كما الأمطار تضرب ساحل الجزر]؟!؛ إننا نقول له: إنَّ ملاحظتك دقيقة؛ إنَّ كاف التشبيه تثقل الإيقاع؛ وتخفِّف سلاسة ورشاقة الجمل؛ إذا كانت مسندة إلى أل التعريف؛ كأن يقول الشاعر بدلاً عن قوله: [يهاجمني كذئب جائعٍ خطر]، [يهاجمني كالذئب الجائعِ الخطر]؛ لكن الشاعر- بتخفيف أل التعريف- جعل الإيقاع رشيقاً متتابعاً؛ بيد أنَّه جاء بطيئاً في قوله: [وينهشني ويضربني- كما الأمطارُ تضرب ساحلَ الجُزر]؛ وهذا التباطؤ الإيقاعي جاء نتيجة حتمية لرداءة في هذا التشبيه؛ ولم يُوَفَّق الشاعر في هذه القفلة؛ نتيجة التمطيط، والإطناب في تقصي جزئيات الصورة بتفاصيلها. والحق يقال إنَّ نزاراً قد تعتصره الحالة الشعوريَّة؛ و وفي زخم هذا الاعتصار قد لا تسعفه اللُّغة في لحظة التوهج العاطفي القصوى في إفرازه، وبثِّه فنيًّا؛ فيلجأ إلى المقاربة الشعوريَّة، في تحمل الكلمات أنساقاً ممطوطة، تضعف حدَّة الصور جماليًّا؛ وتقلل من خصوبة الكلمات، وسلاستها الإيقاعيَّة، ورشاقتها اللغويَّة، وما التمطيط المتبع في قوله: [كما الأمطار تضرب ساحل الجزر] إلاَّ إفرازاً طبيعيًّا لهذا العجز الذي لازَمَ الحالة الشعوريَّة؛ فولّد هذا الخزلان في الصورة السابقة؛ أي خزلان اللغة عن تقصي لذة الحالة العاطفيَّة المجسدة وسلاستها كما الأنساق السابقة.

3- جماليَّة الخاتمة النصيَّة
إنَّ القبَّاني مولع بالقفلات الشاعريَّة المحكمة؛ إنْ على صعيد القفلات المقطعية الجزئية، وإن على صعيد القفلات النصّيّة التي تحكم إيقاع القصيدة بتمامه؛ ويُعَدُّ نزار قبَّاني من أكثر شعراء الحداثة توظيفاً فنيًّا للقفلات المقطعية، أو النصيّة التي تزيد درجة إحكام القصيدة، وخلق توازنها؛ وهذا ما نلحظه في هذه القفلة المقطعية:

"أنا رجلٌ بلا قدرٍ

فكوني أنتِ لي قدري

وأبقيني... على نهديكِ..

مثلَ النقشِ في الحجرِ.."

إنَّ قارئ هذه الخاتمة النصّيّة يدرك إحكامها الفني؛ عبر هذه الحركة التصويريَّة التي تبيِّن شعرية القفلة، وتناغمها مع ما سبقها من عناصر التركيب، وما يجب الإشارة إليه؛ أنَّ القفلة النصّيّة الناجحة - فنيًّا- هي التي تتضافر دائماً في نسقها مع ما يسبقها من عناصر التركيب؛ وتكون هي الشاحن الدافق لشتى الصور الأخرى؛ وكلَّما تعمَّق الشاعر في إيصال رؤيته بشفافية نصيَّة، وإحكام لغويّ،وإيقاعي، وتصويري مكثَّف، في القفلة النصيَّة؛ كلَّما ازدادت درجة شعريَّة القصيدة، وخلقت تناميها الجماليّ؛ وهذا ما نلحظه في الصورة الجماليَّة التي حرَّكت النسق الشعريّ؛ وأمدته بطاقة إيحائية عالية "وأبقيني على نهديكِ مثل النقشِ في الحجرِ"؛ فقارئ هذه القفلة يدرك أنَّ جمالها يتبدَّى في هذه الدهشة؛ فعلى الرغم من أنَّ هذه الصورة مألوفة- لدى القارئ- من خلال تكرار عبارة (النقش في الحجر)، لكن الشاعر وظفها في سياقها الفني الجمالي المخصوص لها؛ مما عزز درجة إيحائها وتناميها الشعوري والشعري في آن؛ وهذا ما يحسب لقصائده أنها متفاعلة الإيحاءات، غنية بالمثيرات التشكيليَّة، والفنيَّة، والدلاليَّة؛ فهو وإنْ اتبع الأسلوب التقليدي في توظيف الصور؛ فإنَّه يضفي عليها خصوصيَّة جماليَّة في التعبير، تجعله يُحَلِّق بنسقه الشعريّ؛ إلى آفاق رحبة من الإثارة، والإحكام اللغويّ، والبثّ التصويري الفني الذي يرتقي به أعلى مراتب الإثارة، والتحفيز الجماليّ؛ لكن هذا لا يعني أننا لا نجد في قفلاته بعض الهنات التي تضعفها أحياناً، وتقلل من شعريتها؛ في بعض الأحيان، خاصة إذا كانت متكلفة؛ فالقبَّاني؛ وإن كان شاعراً فحلاً في سماء الشعريَّة العربيَّة؛ فإننا نجد الكثير من قوافيه متكلِّفة؛ أو ناشزة عن مثيلاتها في التركيب؛ وهذا تابع من منظورنا لسيطرة الحالة الشعوريّة على الشاعر، فتفقده السيطرة على لغته؛ وتجعله ينزلق في بعض القوافي والصور إلى درجة الهشاشة والاتضاع الفني؛ فبقدر ما في قصائده من صور إبداعيَّة، بقدر ما فيها من صور تقليديَّة مكرورة؛ ينميها القبَّاني ببداعة السبك، وإحكامه فنيًّا للخروج من هذا المطبّ أو المأزق الشعوريّ الذي لم يتسطع السيطرة عليه.

4- التوازن الفني بين فاصلتيّ الاستهلال/ والختام:
إنَّ من أبرز مثيرات التوازن والتلاؤم بين استهلال المقطع وخاتمته؛ أو استهلال القصيدة وخاتمتها إحكامها الفني؛ بمعنى أنْ يختتم الشاعر القصيدة بالفاتحة نفسها التي استهلها بها؛ وبذلك تكون القصيدة لحمة واحدة؛ أو شبكة ملتحمة برؤاها، ومداليلها، ومكنوناتها النفسيَّة؛ ويُعَدُّ التوازن الفني بين فاصلتيّ الاستهلال والختام من محفِّزات القصائد الشعريَّة المحكمة فنيًّا؛... فالشاعر يرتقي بأنساق صوره الفنيَّة من حيِّز نسقي عبر الاستهلال، إلى حيِّز تفاعلي مثير عبر قفلة الختام؛ وتُعَدُّ القفلة النصّيّة المتوازنة مع فاتحة الاستهلال من أبرز مثيرات التوازن أو التفاعل المقطعي؛ كما في قوله:

"أنا رجلٌ بلا قدرٍ

فكوني أنتِ لي قدري

وأبقيني... على نهديكِ..

مثلَ النقشِ في الحجرِ.."

هنا؛ ترتكز جماليَّة المقطع السابق على خلق هذا التوازن الفني بين دفقة الاستهلال، وقفلة الختام؛ وهذا التضافر الفني؛ تبدّى في خلق التلاحم بين دلالات الاستهلال/ وقفلة الختام؛ مما أضفى على الحركة التعبيريَّة نبضاً إيقاعيًّا محكماً؛ توازى فنيًّا مع فاصلة الختام؛ وهكذا؛ استطاع الشاعر نزار قبَّاني أن يولِّد نصًّا شعريًّا متوازناً؛ يثير الحركة الشعريَّة، ويعمِّق فاعلية المداليل الشعريَّة التي تبثّ جمالها بألق تصويريّ، وعمق تأملي استبطاني بالمثيرات النصّيّة؛ فالقبَّاني يدرك أنَّ الحنكة الشعريَّة تتمثل في خلق نصّ انسيابي متدفق؛ سلس الانقياد النصي؛ اعتباراً من دفقة الاستهلال؛ وصولاً إلى قفلة الختام؛ مولِّداً لذة في بنائه؛ ليخلق لذة إضافية في استقباله؛ وهذا ما يحسب له في الكثير من الأحيان. ومن يتأمَّل المقطع الثاني -بعمق- يدرك - أيضاً- تضافر جمله؛ وتوازي دلالاته؛ لخلق نسق شعريّ مكتنز فنيًّا؛ يتلاءم فيه المقطع الثاني مع الأول، مع الثالث في خلق نص شعري محكم، أو متوازن فنيًّا؛ كما في قوله:

"أَحِبِّيني.. ولا تتساءلي كيفا..

ولا تتلعثمي خَجَلاً...

ولا تتساقطي خوفْا

أحِبِّيني ... بلا شكوى

أَيَشْكُو الغِمْدُ ... إذْ يَسْتَقْبِلُ السَيْفَا؟

وكوني البحرَ والميناءَ..

كوني الأرضَ والمَنْفَى

وكوني الصحوَ والإعصارَ

كوني اللينَ والعُنْفَا

أحِبِّيني .. بألفِ وألفِ أسلوبٍ

ولا تتكرّري كالصيفِ..

إنّي أكْرَهُ الصيفا.." ([46]).

إننا – في هذا المقبوس- أمام  لحمة شعريَّة تشكل أنموذجاً للتكامل الجماليّ؛ وقد ولَّد هذا التكامل بهذه الإفرازات الجماليَّة عبر لغة المزاوجات الثنائيَّة؛ بين النقيضين أو المتضادين؛ فالمتضادات عندما تلتحم في نسق واحد أو استعارة فنيَّة موحية تمد بظلالها، وإشراقها الفني على النسق الشعريّ بكامله؛ وهذا الحراك الفني المنبعث في هذه الحركة الجدليَّة بين المتضادات، يخلق متعة تقابليَّة؛ لدى القارئ صوب النسق الشعريّ؛ أو الصورة الملتحمة بنسقين متضادين أو معكوسين؛ إذْ "بموجوبها تنفتح البنية اللغويَّة في تحولاتها الداخليَّة على إحداث توازنات دلاليَّة، تقود إلى توازنات إيقاعيَّة.... فتتجاذب المتضادات أو تتنافر، تبعاً لإحداث رؤية الذات فيها؛ وامتداد هذه الرؤية شعوريًّا ونفسيًّا في الفضاء التعبيري للغة واستخلاصها بوصفها وليدة تفاعلات الذات، واللغة في منصهر الإبداع"([47]). واستناداً إلى ذلك، فإنَّ المتضادات التي تولِّدها الأنساق اللغويَّة تفرز محفِّزاتها الجماليَّة عبر الحركة الدلاليَّة المعكوسة بين المتنافرين أو المتناقضين؛ لخلق لذة تقابليَّة لدى القارئ؛ وهذا ما نلحظة في تحليلنا لهذا المقطع؛ إذْ يؤسِّس الشاعر هذا المقطع فنيًّا وجماليًّا على نسقين مثيرين:

أ- نسق التآلف الضدي:
إنَّ مثيرات التضاد من المثيرات الجماليَّة التي تعزز فاعليّة النصوص الإبداعيَّة؛ بحيازتها على رؤى متضاربة تعزز الدلالة بنقيضها؛ وعلى هذا: "فالتضاد ليس مجرَّد تقابل في المعاني، بل هو طريقة في التعبير عن العلاقات التي تحكم الوجود؛ فالعالم مردود إلى علاقات قوامها التماثل والتشابه؛ وأخرى قوامها التباين، والاختلاف؛ فالعلاقات الضديَّة تُهَيِّئ معرفة ببواطن وظواهر الأشياء في وقت واحد؛ أمَّا العلاقات القائمة على التشابه والاختلاف فَتُهَيِّئُ لمعرفة الظاهر؛ وما ينجم عنه في العقل"([48])؛ أمَّا فاعلية الشعريَّة فتتبدّى - من وجهة نظر نور الجيزاوي- في إضفاء طابع جمالي على التراكيب الشعريَّة؛ إذْ تقول: "فللتضاد وظيفته الشعريَّة المهمة؛ فهو منبع ثر من منابع شعريَّة النصّ، وتواترها في نصّ من النصوص، يُعَمِّق الدلالات؛ ويثيرها؛ ويضفى على النص شعريَّة خالصة"([49]).

وعلى هذا؛ يُعَدُّ التضاد/ أو التآلف الضدي في الأنساق الشعريَّة من مولِّدات إثارتها وتحفيز رؤيتها، كما في النسق الضدي التالي:

"أحِبِّيني... بلا شكوى

أَيَشْكُو الغِمْدُ... إذْ يَسْتَقْبِلُ السَيْفَا؟

وكوني البحرَ والميناءَ..

كوني الأرضَ والمَنْفَى

وكوني الصحوَ والإعصارَ

كوني اللينَ والعُنْفَا"

تنهض شعريَّة هذا المقطع جماليًّا على توليف المتضادات بنسق شعري مكتنز بالترسيم الجماليّ؛ وما يثير جماليَّة هذا النسق أكثر هذا التراكم المثير للمتضادات اللغويَّة؛ التي تسهم في تعميق الدلالة بنقيضها؛ كما في الثنائيات التالية: (الغمد/ والسيف) و(البحر/و الميناء) و(الأرض/ والمنفى) و(الصحوَ/ والإعصار)؛ و(اللين/و العنفا)؛ إنَّ قدرة الشاعر على جمع هذه الأنساق الضدية، والتوليف فيما بينها؛ بهذه الإثارة؛ يؤكِّد لنا أنَّ شعريَّة القبَّاني مهندسة دلاليًّا، وبناءً تشكيليًّا محكماً؛ فالقوافي تأتي منسجمة إنْ على صعيد الجزء؛ وإنْ على صعيد التآلفات النسقيَّة؛ محقِّقاً في قصائده أعلى درجات الإثارة الشعريَّة؛ وقد جاءت المتضادات كاشفة عن عمق هذا الحبّ، وعن صداه العاطفي المتوتر الذي يصل به الشاعر إلى مرتبة عليا من الاحتراق، والاصطهاج الغرامي؛ بمعنى أنَّ نسق المتضادات عبَّرَ عن هذا التوتر الغراميّ الذي بثَّ نفثاته الشعوريَّة؛ وأصداء ذاته المتصارعة؛ فهو يريدها في كليتها في إحساساتها ومنعكساتها الشعوريَّة ؛ لتعكس حالته الهيجانيَّة بحبها وعشقها من جهة؛ وحبها له وعشقها المتوتر كذلك من جهة ثانية؛ إذاً يريد الشاعر عاطفة جيَّاشة كعاطفته، ورغبةً عارمة كرغبته  في عقد قران المحبة، والألفة والعشق بينهما؛ بكل توتر الحالة، وصخبها الغرامي؛ لهذا؛ كثَّف من نسق المتضادات ليرصد الحالة الغراميَّة بكل توترها، واصطهاجها الشعوريّ العاطفي المكثف.

ب- مثير التكرار وخصوبته الجماليَّة:
يؤدي التكرار دوراً مهماً في تلاحم النصّ، وتكامل دلالاته؛ وتعزيز رؤيته؛ فهو وسيلة لا غنى عنها من وسائل شعريّته في كثير من الأحيان؛ والمثير أنَّ الشاعر - أحياناً- يعتمده ركيزة أساسية في المضي قدماً في رحاب النصّ؛ إذْ إنَّ "الشاعر من خلال تكرار بعض الكلمات، والحروف، والمقاطع، والجمل، يمدُّ روابطه الأسلوبيَّة لتضمَّ جميع عناصر العمل الأدبي الذي يقدمه؛ ليصل ذروته في ذلك إلى ربط المتضادات فيه ربطاً موحياً منطلقاً من الجانب الشعوري؛ ومجسِّداً - في الوقت نفسه- الحالة النفسية التي هو عليها. والتكرار يحقِّق للنصّ جانبين الأول: ويتمثل في الحالة الشعوريَّة النفسية التي يضع من خلالها الشاعر نفسه المتلقي في جوٍّ مماثل لما هو عليه، والثاني: الفائدة الموسيقيَّة، بحيث يحقِّق التكرار إيقاعاً موسيقيًّا جميلاً؛ ويجعل العبارة قابلة للنمو والتطبيق؛ وبهذا، يحقق التكرار وظيفته كإحدى الأدوات الجماليَّة التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره؛ لأنَّ الصورة الشعريَّة، على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل"([50]).

والتكرار - فضلاً عن دوره في تعزيز رؤية النصّ وتوجيه مساراته الإيقاعية أحياناً- فإنَّه يلعب دورَ المنظِّم الإيقاعي لحركة الدلالات؛ وهو بهذا الشكل يسهم في توازن النصّ، وتحقيق تضافره، وانسجامه؛ كما في قوله:

"أحبِّيني... ولا تتساءلي كيفا..

..... ...

أحبِّيني... بلا شكوى

أحبِّيني.. بألف وألفِ أسلوبٍ

ولا تتكرري في الصيفِ

إني أكره الصيفا".

ينهض هذا المقطع جماليًّا على التكرار اللُّزومي الذي يؤدي دور الرابط الفني لزمام الإيقاع من جهة، ولزمام الحركة الدلالية وتمفصلها الفني من جهة ثانية؛ بمعنى أنَّ ثمَّة حركتين يولدهما التكرار: حركة منسجمة في الإيقاع النصّيّ؛ مبرزاً العاطفة الحارقة التي تصطلي في أعماق الشاعر؛ معبِّراً من خلالها عن اصطهاج حبِّه وفورانه في داخله؛ بتكثيف إيحائي"ن وعمق تأملي، مثير للعواطف، وكاشف لكينونتها النصّيّة؛ وهنا؛ يلعب التكرار دوراً موحياً في تحفيز الدلالات؛ وتعميق الرؤى؛ بوصفه أداة فنيَّة جماليَّة كاشفة عن العمق الشعوري لهذه الرؤى، وتنظيم الإيقاع الصوتي التضافري للقصيدة.

ويأتي المقطع الثالث مؤكِّداً تلاحمه، وتفاعله، وتضافره مع المقاطع السابقة؛ والمقطع الذي يليه؛ مبرهناً على شعريته، بألق جماليّ، وحسّ عاطفي مرهف؛ كما في قوله:

"أحِبِّيني ... وقوليها...

لأرفض أنْ تُحِبِّيني بلا صوتِ..

وأرفضُ أنْ أواري الحُبَّ

في قبرٍ من الصمتِ

أحِبِّيني .. بعيداً عن بلاد القهرِ والكبتِ

بعيداً عن مدينتنا التي شَبِعَتْ من الموتِ...

بعيداً عن تَعَصُّبِهَا...

بعيداً عن تخشبها...

أحِبِّيني ... بعيداً عن مدينتنا

التي من يوم أن كانتْ

إليها الحبُّ لا يأتي.."

ينهض هذا المقطع جماليًّا على مثيرين بارزين هما:

أ) مثير نسقي توازني صوتي:
يؤدي هذا المقطع فاعليته الشعريَّة عبر هذا التآلف الصوتي الرهيف بين حركة القوافي، معزِّزاً دلالاتها؛ وكاشفاً عن أبعادها؛ من خلال التنظيم التقفوي، والتمازج الرهيف بين خاصيَّة التكرار بوصفها خاصيَّة ارتكازيَّة؛ تحقِّق تنامياً جوهرياً لحركة النسق الشعري؛ وتؤدي دوراً مهماً في تحقيق اِتِّساق النصّ واتزان النغم، كما في هذه التقفيات المتواترة المنسجمة التالية: [صوتِ = الصمتِ = الكبتِ = الموت]؛ ناهيك عن التكرار الاستهلالي اللزومي الموحي الذي يساعد الإيقاع على التنظيم، والاتزان عبر الوقوف على الجملة الارتكازية نفسها في كل انطلاقة نصّيّة، أو انطلاقة صوتيَّة؛ كما في التكرارات النصّيّة التالية: [أحِبِّيني وقوليها... أحِبِّيني.. بعيداً عن بلاد القهرِ والكبت.. أحِبِّيني بعيداً عن مدينتنا]، إذْ إنَّ هذه الأنساق المكررة؛ تلعب دوراً فنيًّا إيقاعيًّا خصيباً في بث النغم الإيقاعي المتوازن؛ مؤكِّداً أنَّ حركة النسق الشعري متوازنة؛ تخلق تضافرها من تناميها الجماليّ، وحركة النسق الإيقاعي الموقّعة صوتياً، وكأنَّها سمفونية إيقاعيَّة عذبة؛ تخطّ ألقها الصوتي بحيويَّة، وتناسق، وتفاعل، وانسجام على مستوى الأصوات وتناغمها في الأشطر إلى نهاية المقطع.

ب) حيويَّة الأنساق المتوازنة (دلاليًّا):
تنبني عناصر إثارة هذا المقطع على خصوبة الأنساق الصوتية المنسجمة عبر تقنيَّة الجناس الصوتي حيناً؛ وعبر فاعلية المتضافرات، أو الكلمات ذات المشترك اللفظي، أو المترادفات؛ كما في الأنساق المتوازنة التالية: [تَقَصُّبَها = تخشبها] [القهر = الكبتِ] و[الصمت = القبر]؛ وهذا الأسلوب في تكثيف الأنساق اللغويَّة المترادفة؛ أو المنتمية إلى حقل دلالي واحد يؤكِّد أنَّ الشعريَّة -عند القبّاني- منظمة إن دلاليًّا؛ وإنْ إيقاعيًّا؛ وعلى هذا؛ فإنَّ مثيرات قصائده الجماليَّة تتنوع من مقطع إلى آخر؛ ومن جملة إلى أخرى، تبعاً لسيرورة النسق الشعري؛ وإمكانية تشعيره بما يوافق الرؤية الشعوريَّة، والمنظور النفسي الداخلي للذات الشاعرة؛ لكن ما تجدر الإشارة إليه - في هذا المقطع- توازن الاستهلال مع قفلة الختام؛ معمِّقاً صداها الإيقاعي، وتوازنها الفنّي، أمَّا المقطع الأخير فيأتي شعلة في الاتقاد الجمالي، والتنسيق الدلالي، والتوازن الصوتي المحكم؛ كما في قوله:

"أحِبِّيني... ولا تخشيّْ على قدميكِ..

- سيِّدتي- من الماءِ...

فلن تتعمدي امرأةً

وجِسْمُكِ خارجَ الماءِ

وشعْرُكِ خارجَ الماءِ

فَنِهْدُكِ ... بَطَّةٌ بيضاءُ...

لا تحيا بلا ماءِ ...

أحِبِّيني .. بِطُهْرِي.. أو بأخطائي

بِصَحْوِي .. أو بأنوائي...

وَغَطِّيْنِي...

أيا سقفاً من الأزهارِ...

يا غاباتِ حنَّاءِ

تَعَرِّي واسقطي مطراً..

على عطشي وصحرائي...

وذوبي في فمي كالشمعِ..

وانْعَجِني بأجزائي..

تَعَرِّي... واشْطُرِي شفتي ..

إلى نصفينِ.. يا موسى بسيناءِ"([51]).

ينبني هذا المقطع جماليًّا على ثلاثة مثيرات فنيَّة تزيد درجة تناغمه، وبروز شعريَّته؛ وهي:

1- بداعة الاستهلال المقطعي:
يعمد الشاعر في هذا المقطع إلى الإطناب الاستهلالي؛ لخلق لوحة استهلاليَّة فنيَّة متكاملة؛ لتشي بمهارة فنيَّة، وقدرة على التلاعب بالنسق الشعري؛ ليخدم رؤية الشاعر، وإحساسه التأملي، وشعوره الغزلي المصطهج عشقاً، وتوقاً، وترسيماً جماليًّا لهذه اللوحة الاستهلاليَّة التالية:

"أحِبِّيني... ولا تخشيّْ على قدميكِ..

- سيِّدتي- من الماءِ...

فلن تتعمدي امرأةً

وجِسْمُكِ خارجَ الماءِ

وشعْرُكِ خارجَ الماءِ

فَنِهْدُكِ... بَطَّةٌ بيضاءُ...

لا تحيا بلا ماءِ...".

إنَّ هذه الرهافة الإسناديَّة في خلق هذه اللوحة الفنيَّة الاستهلالية؛ تؤكِّد - بالدليل القاطع- أنَّ شعريَّة القبَّاني تتمثَّل في أبرز مثيرين: المثير الأول؛ الاستهلال المقطعي الفني البارع، والمثير الآخر؛ التناسب الإيقاعي الرهيف بين المتضادات، أو المتناقضات؛ لخلق نسق شاعري يزيد ألق اللوحة الاستهلالية، ويعمِّق فاعلية النسق التصويريّ؛ وهكذا؛ تبدو استهلالات القبَّاني المقطعيَّة شاعريَّة منظمة للدفقة الشعريَّة، وشاحنة للموقف الجماليّ إزاء الصور المجسدة.

2- بداعة التشكيل الأسلوبي:
تنبني جماليّة المقطع السابق على بداعة الأنساق اللغويَّة ،أو التشكيلات الّلغويَّة التي تُنَظِّم حيوية النسق الشعريّ السابق؛ من خلال جمع الشاعر المتضادات، وخلق اتزانها؛ الجمالي بنسق تشكيلي يخطّ جماله؛ بحسن تموضع الكلمات، وتوازنها ضمن النسق الشعريّ؛ كما في الأنساق المتضادة التالية: [طهري= أخطائي] و[صحوي = أنوائي] و[غاباتِ = حنَّاء]؛ إنَّ بداعة التشكيلات التي يقتنصها القبَّاني تثير حساسية الجملة، وتعزِّز مدلولها الفنّي؛ وهذا الأسلوب الجماليّ في التشكيل يُنَمِّي فاعليَّة النسق التصويريّ؛ ويزيد ألق الدفقة الشعريَّة نضجا،ً وخصوبة جماليَّة بكاملها.

3- بداعة القفلة النصّيّة:
إنَّ هذه الخاصيَّة تكاد تكون خاصيَّة مشتركة في نصوص القبَّاني كلها تقريباً؛ لا نكاد نجد قفلة نصّيّة ضعيفة، أو مهلهلة فنيًّا؛ إلاَّ ما ندر؛ وسبق أن أشرنا إلى بضعها، وذلك يعود - من وجهة نظرنا- إلى عناية القبَّاني الفائقة بمثيرين جماليين؛ الأول: مثير الاستهلال الفني الجمالي الموحي الذي يحفِّز القارئ لمتابعة نسق القصيدة؛ ويشدُّه إلى الدخول في فضاءاتها مجبراً بدافع المتعة، واللذة الجماليَّة؛ ويحاول كذلك جذب القارئ من خلال القفلة النصّيَّة التي يتركها بغاية الامتداد، والحنكة الجماليَّة في ترسيمها ترسيماً فنيًّا؛ لأنها آخر الأثر الذي يتركه القبَّاني في نصِّه؛ ليؤكِّد بصمته الإبداعيَّة؛ كما في قوله:

"تَعَرِّي واسقطي مطراً..

على عطشي وصحرائي...

وذوبي في فمي كالشمعِ..

وانْعَجِني بأجزائي..

تَعَرِّي... واشْطُرِي شفتي..

إلى نصفينِ.. يا موسى بسيناءِ"

إنَّ بداعة القفلة النصّيّة السابقة؛ أولاً بإحكام القفلة؛ ومن ثمَّ تعزيز مدلولها؛ وإكسابها رمزاً  شفيفاً هو "موسى" في طور سيناء؛ يدلُّ على أنَّ الشاعر يعي أهميَّة المنطوق المثير في قفلة الختام؛ ليأتي النسق الشعريّ متوازناً؛ ابتداءً من أدنى درجاته الشعريَّة، ممثلاً بالكلمة، وتموضعها الفني، وانتهاءً بأعلى مستوياته، وهو التألّق النصيّ على مستوى دفقات الاستهلال/ وقفلة الختام؛ وهكذا؛ فإنَّ ماهية الجمال كبنية نصّيّة تكمن عند القبَّاني بوصفه بناءً فنيًّا محكماً؛ ولذا؛ فإنَّ النصّ - من وجهة نظره- هو خلية متكاملة، منظمة؛ حيَّة، تنبض بروح الحياة؛ فكل خلية فاعلة في تشكيل الخلية الأكبر، ومن ثم الأكبر إلى نهاية القصيدة، واكتمال رؤيتها؛ وهكذا؛ يثيرنا القبَّاني بأنساقه الّلغويَّة المتوازنة، محقِّقاً في قصائده تلاحماً فنيًّا ظاهراً للعيان، كلَّما أمعن القارئ في كشف سيرورة الدلالات، والأنساق اللغويَّة ضمن مسار القصيدة على مستواها النصّي ككل.

*  نتائج واستدلالات:

1-              تتمثل القيم الجماليَّة – في قصائد القبَّاني- في طرائق متعدِّدة؛ منها ما يبدو بالإيقاع الصوتي؛ ومنها ما يبدو بتنسيق الكلمات، وخلق توازنها الإيقاعي؛ ومنها ما يبدو عن طريق رشاقة الصور، وسرعة تتابعها؛ ومنها ما يبدو بالمتجانسات الصوتيَّة التي تخلقها بين الأنساق الّلغويَّة؛ محفِّزة القارئ إلى سيرورتها الجماليَّة، واكتمالها النصّيّ، وتضافرها على مستوى الاستهلالات والخواتيم النصّيّة.

2-              تكتنز قصائد القبَّاني بالمثيرات التشكيليَّة البنائيَّة؛ محقِّقة توازنها النصّي؛ عبر كثافة الأنساق التصويريَّة، وتعزيز مدها الجمالي، لهذا؛ تتضمن قصائده على شعريَّة عالية متنامية جماليًّا عبر فاعليَّة الإيقاع من جهة، وعبر حركة المؤالفة بين الأنساق المتضادة من جهة ثانية؛ محقِّقة سموّاً فنيًّا من خلال تعزيز الدلالة بنقيضها، لإثباتها، وتعميق مغزاها، إنْ صوتاً إيقاعيًّا، وإنْ مدًّا دلاليًّا مفتوحاً.

3-              تمتاز لغة القبَّاني برشاقتها، وتناميها الجماليّ؛ خاصَّة من خلال المجانسة الصوتيَّة وحسن تموضع الكلمات في النسق الشعري المجسَّد، فقد تخلو بعض مقاطعه من الصور الشعريَّة؛ لكنها تنطوي على أعلى مستويات الشعريَّة؛ وذلك بتألق كلماتها، وانسجام موازينها في النسق الشعريّ؛ رافعة سويته الجماليّة إلى مرتبة سامقة من الإثارة، والتحفيز الجمالي؛ وهذا ما يحسب لقصائده ولرشاقة لغته الشعريَّة؛ خاصَّة في قصائده الغزليَّة التي يطغى فيها جانب الحبّ/ ومثيراته النفسية الشعوريَّة لدى الشاعر والمتلقي في آن.

4-              إنَّ لغة القبَّاني الرشيقة السلسة السهلة جذبت الجمهور؛ نظراً إلى عدم تكلفه في اقتناص الصور المعقدة المتراكبة التي تتضمن مفردات قديمة معقدة؛ تشي بالتعقيد أو الغموض أحياناً في كثير من النصوص الحداثية؛ لكنَّ شاعرنا أضفى على لغته الشعريَّة حركة تصويريَّة مموسقة إيقاعيًّا ومنسجمة دلاليًّا؛ محققة أعلى مراتب الإثارة والتحفيز الشعريّ.

5-              إنَّ التكرار في قصائد القبَّاني كان موحياً، فاعلاً في تنظيم النسق الشعريّ، وإبراز مفاصل مهمة في القصيدة؛ فهو لم يأتِ عن عبث، وإنما جاء منظماً مدروساً بعناية فائقة لأداء دوره في تنظيم النسق الشعريّ؛ وتحقيق توازن النصّ؛ وانسيابه فنيًّا بإيقاع المؤالفة والمجاذبة الفنيَّة بين الأصوات المتجانسة؛ لخلق توازن القصيدة على مستوى تآلف الأصوات، وتناغمها، واتزانها وتدفقها الشاعري الجميل.



 ([1])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)؛ المؤسسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع؛ بيروت، ط 1، ص 219.

 ([2])  قبَّاني، نزار،- الأعمال الشعريَّة الكاملة؛ ج1، ديوان (قالت لي السمراء)، ص 58- 59.

 ([3])  المصدر نفسه؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 65- 66.

 ([4])  المصدر نفسه؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 66- 68.

 ([5])  المصدر نفسه؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 69- 71.

 ([6])  رماني، إبراهيم، 1991- الغموض في الشعري العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص 330.

 ([7])  قبَّاني، نزار؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 167- 168.

 ([8])  المصدر نفسه؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 280- 281.

 ([9])  المصدر نفسه؛ ج1، من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 464- 465.

 ([10])  العلاَّق، علي جعفر، 2007- قبيلة من الأنهار، ص 84.

 ([11])  عبو، عبد القادر، 2007- فلسفة الجمال في فضاء الشعريَّة العربيَّة المعاصرة؛ (بحث في آليات تلقي الشعر الحداثي)، اتحاد الكتَّاب العرب، دمشق، ص 113- 114.

 ([12])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 262.

 ([13])  انظر: الحاوي، إيليا، نزار قبَّاني شاعر المرأة، ص 50.

 ([14])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة الكاملة، ج1 من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 38- 39.

 ([15])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 262.

 ([16])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة الكاملة، ج1 من ديوان (قالت لي السمراء)، ص 48- 50.

 ([17])  مؤنسي،حبيب،2009- توترات الإبداع الشعري، اتحاد الكتَّاب العرب، دمشق، ص 112.

 ([18])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 253.

 ([19])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة الكاملة، ج1 من ديوان (الرسم بالكلمات)، ص 477- 479.

 ([20])  العلاَّق، علي جعفر، 2007- قبيلة من الأنهار، ص 17- 18.

 ([21])  عبد الله، ستار، 2010- إشكاليةالحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار رند، دمشق، ط 1، ص 133.

 ([22])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 342.

 ([23])  المرجع نفسه، ص 342- 343.

 ([24])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (الرسم بالكلمات)، ص 477- 479.

 ([25])  كاظم، حسن، 1994- مفاهيم الشعريَّة، المركز الثقافي العربي، ط 10، الدار البيضاء، ص 1

 ([26])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 343.

 ([27])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (الرسم بالكلمات)، ص 477- 479.

 ([28])  انظر: إبراهيم، زكريا، 1976- مشكلة الفن، دار مصر للطباعة، القاهرة؛ ص 20- 21. وانظر: دراوش، مصطفى، 2005- خطاب الطبع والرون، ص 137.

 ([29])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة، ص 343- 344.

 ([30])  غاتشف، غيورغي، 1990- الوعي والفن؛ سلسلة عالم المعرفة؛ الكويت، ص 75.

 ([31])  المرجع نفسه، ص 262.

 ([32])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (قصائد متوحشة)، ص 645- 646.

 ([33])  العلاَّق، علي جعفر، 2007- قبيلة من الأنهار، ص 64.

 ([34])  عبو، عبد القادر، 2007- فلسفة الجمال في فضاء الشعريَّة العربية المعاصرة، ص 61.

 ([35])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)، ص 413.

 ([36])  المرجع نفسه، ص 413.

 ([37])  الخرابشة، علي قاسم محمد، 2008- الإبداع وبنية القصيدة في شعر عبد الله البردوني؛ مجلة عالم الفكر، مج 37، ع1، ص 235.

 ([38])  المرجع نفسه، ص 335- 336.

 ([39])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (قصائد متوحشة)، ص 730- 731.

 ([40])  الموسى، خليل، 2003- بنية القصيدة العربية المعاصرة، اتحاد الكتَّاب العرب، دمشق، ص 328.

 ([41])  أُدونيس، 2005- زمن الشعر، دار الساقي، بيروت، ط 6، ص 97- 98.

 ([42])  نقلاً من عبو، عبد القادر، 2007- فلسفة الجمال في فضاء الشعريَّة المعاصرة، ص 61. وانظر، ناظم، عودة خضر؛ الأصول المعرفيَّة لنظريَّة التلقي، 1997، دار الشروق، الأردن، ص 25.

 ([43])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجماليَّة (دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية)؛ المؤسسة الجامعية للدراسات، والنشر، والتوزيع، ص 465.

 ([44])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (قصائد متوحشة)، ص 652- 654.

 ([45])  جمعة، حسين، 2011- المسبار في النقد الأدبي؛ دار رسلان، دمشق، ط 2، ص 97- 98.

 ([46])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج 1، من ديوان (قصائد متوحشة)، ص 655- 656.

 ([47])  الشيباني، محمد حمزة، 2011- البنيات الدالة في شعر شوقي بغدادي، دار الرائي، دمشق، ط 1، ص 144.

 ([48])  ينظر محمد، أحمد علي، 2005- جماليَّات الأسلوب في رسائل الصابئ؛ جذور، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ع 19، ص 175. وينظر: جيزاوي، نورا؛ التضاد والمجرَّد والتعبير عن الكليات؛ 2011، الموقف الأدبي، ص 30.

 ([49])  المرجع نفسه، جيزاوي، نورا- التضاد والمجرد/ والتعبير عن الكليات، ص 31.

 ([50])  ينظر  الخرابشة، علي قاسم، محمد، 2008- الإبداع وبنية القصيدة في شعر عبد الله البردوني؛ ص 241- 242. وانظر الجيَّار، مدحت، 1995- الصورة الشعريَّة عند أبي قاسم الشاي، ص 47.

 ([51])  قبَّاني، نزار- الأعمال الشعريَّة، ج1، من ديوان (قصائد متوحشة)، ص 655- 656.