نرصد مع الكاتب والناشط الحقوقي الفلسطيني ما يقع في الأراضي المحتلة بعد انفجار الغطرسة الصهيونية بآلياتها وترسانتها العسكرية والقتل العمد ضد الفلسطينيين العزل، وفي الوقت الذي يخلد فيه العالم ذكرى الانتفاضة المجيدة، انطلقت الشرارة اليوم خصوصا بعد سقوط العديد من الشهداء في معركة الكرامة وفي هذا التقرير المركب نقترب مما يحدث اليوم في فلسطين والانتفاضة والانقسام الفلسطيني.

وقائع فلسطينية

مصطفى ابراهيم

خمسة عشر عاماً على الإنتفاضة الفلسطينية الثانية

في الذكرى السنوية الخامسة عشر للإنتفاضة والتي لم تحقق أهداف الشعب الفلسطيني بالإنعتاق من الاحتلال و الإستقلال، إستشهد خلالها نحو خمسة ألاف فلسطيني، وسقط نحو ألف قتيل إسرائيلي، و ما ميزها أنها في بداياتها كانت هبات شعبية، إلا انه تم حرفها عن مسارها الشعبي، و إمتدت إلى الداخل الفلسطيني  لتشمل معظم فلسطين التاريخية، حيث إندلعت هبة شعبية كبيرة في النقب والجليل والمثلث وإستشهد 13 فلسطينياً من فلسطين الداخل الـ 48.

القدس مشتعلة وهي الشرارة التي إندلعت منها الإنتفاضة، و إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة تمارس ذات الإجراءات مرات بهدوء وصمت، ومرات بعنف وقمع من أجل السيطرة على ما تبقى من فلسطين و المقدسات.

وبرغم ذلك لم يعد للحكومة الإسرائيلية ورئيسها هامش للمناورة أكثر لمنع الفلسطينيين التصدي للإجراءات في القدس والمسجد الأقصى، و ما تقوم به من فرض عقوبات جماعية وقمع وقتل الفلسطينيين وإرهابهم في القدس، و كما ذكر نتانياهو أن الهدف هو القمع و فرض عقوبات قاسية وإطلاق النار الحي تجاه المتظاهرين وتعديل قوانين وسن أخرى، و تطبيق ما يسمى العقوبة الدنيا ضد راشقي الحجارة، الذين يتصدون بشجاعة وإرادة جبارة بصدورهم العارية لقمع قوات الإحتلال.

لم تستمر الإنتفاضة بمسارها الشعبي على غرار الإنتفاضة الأولى لمواجهة الإحتلال، الذي واجهها بإرهاب و عنف بعد أن إختار الفلسطينيين إستخدام الكفاح المسلح في مواجهة الإحتلال، الذي وجد في ذلك فرصة لإرهاب الفلسطينيين بقتلهم بالصواريخ والعقاب الجماعي، واقتحام مدن الضفة الغربية و إعادة احتلالها.

وما تلا ذلك من فرض شروط و إملاءات وتأمر و تواطئ وخذلان عربي ودولي، وما صاحب تلك المرحلة من خيبات وانكسارات فلسطينية، برغم استمرار مقاومتهم المسلحة في قطاع غزة، وما ارتكبته إسرائيل في القطاع من جرائم وما زالت لقمع أي مقاومة فلسطينية.

وما وصل إليه حال الفلسطينيين من إنقسام وشرذمة وفقدان الثقة واليقين بكل القيادات والفصائل التي لم تفكر بتعديل المسار، والقيام بمراجعات وطنية حقيقية لمسيرة النضال الفلسطيني ووسائله، وعثراته والعقبات والتحديات التي تواجه الفلسطينيين و مشروعهم الوطني من تراجع.

الحال يزداد سوء، وما هو مطلوب من القيادة والفصائل لم يتم القيام به، فالحفاظ على صيرورة و جذوة النضال الفلسطيني لمواجهة احتلال استعماري عنصري، يحتاج إلى إعادة مراجعة و إستنهاض وتعريف المشروع الوطني والقضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية التاريخية، انطلاقا من أنهم حركة تحرر وطني تكافح من أجل الحرية والاستقلال، و عليهم البدء بإعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها كهيئة معنوية جامعة لكل الفلسطينيين وعلى أسس وحدوية.

سنوات الإنقسام سنوات هزيمة، سهلت على إسرائيل الاستفراد بالفلسطينيين، فإنهاء الانقسام مهمة وطنية للحفاظ على الهوية الفلسطينية من الضياع، وإسرائيل تحاول طمسها، و فصل غزة عن الضفة وعن باقي مكونات الشعب الفلسطيني.

ما يعيشه الفلسطينيين من تشرد ولجوء و إنقسام كارثي أثر في فهم الثقافة والتربية الوطنية الجامعة، وتمسك كل طرف بروايته وسيطرته على منطقة حكمه، و شوهت و شتت الرواية التاريخية في عقول الأجيال الصاعدة، و التي تؤرخ لنكبة ومعاناة الفلسطينيين والحق التاريخي في وطنهم بعد أن تعرضوا للطرد والقتل و التشرد من إحتلال عنصري مجرم ولا يزال يرتكب جرائمه ومستمر فيها. و أصبحت بحاجة إلى إعادة تعريف، ونشرها والبدء بتوعية وتربية وطنية حقيقية إنطلاقاً من أن هناك رواية تاريخية واحدة بإستهداف الأجيال الشابة، وما يسمون جيل الإنقسام التائه وغيب عن واقعه النضالي و الإشتباك اليومي مع الإحتلال، وترك وحيدا يبحث عن ذاته وهموم يومية بحلول فردية، وأن كل فرد في المجتمع له دوره في مقاومة الإحتلال وبناء المجتمع الفلسطيني الحر.

إسرائيل تبحث عن ذرائع في غزة

المتابع لما جرى حلال التظاهرات الشبابية إسناداً للقدس والضفة الغربية في قطاع غزة، يلاحظ القتل بدم بارد و البطش والقمع المفرط و التمييز المتعمد في تعامل قوات الجيش الإسرائيلي مع المتظاهرين في الضفة والقطاع.

في قطاع غزة سقط في أقل من ساعتين ستة شهداء و أكثر من 70 إصابة، وتركز إطلاق النار في المنطقة العليا من الجسم الصدر والرأس، برغم علم قوات الجيش عدم وجود إشتباك و تهديد حقيقي على جنودها، وهناك مسافة كبيرة وجدار حديدي مرتفع و شائك بين الجنود و الشبان المتظاهرين الذين يرشقون الحجارة.

منذ أن أعلنت إسرائيل عن قطاع غزة كياناً معادياَ في شهر سبتمبر/ أيلول 2007، على إثر سيطرة حركة حماس على القطاع، وفرضت حصار خانق، و بدأت تتعامل معه بطريقة و شكل مختلف وشنت ثلاث حروب قاسية وفشلت في تحقيق الردع وكي الوعي رغم إدعائها أنها حققته في حرب العام الماضي، لذا فهي تعمدت القتل في القطاع، و تريد الإستمرار في كي الوعي كما تدعي و إرسال رسائل لإعادة الردع و إرهاب الفلسطينيين في القطاع  وتذكيرهم بما جرى خلال العدوان العام الماضي، و كي لا يفكروا مرة أخرى في العودة إلى التظاهر هناك، وهي تبحث عن ذرائع لصرف الأنظار عن ما يجري في القدس و الضفة، و جر المقاومة إلى معركة جديدة محسوبة لتدفع غزة ثمن جديد.

إسرائيل تريد التأكيد على أن غزة ليست جزءً من ما يجري في القدس أو الضفة، و برغم القمع والعقوبات الجماعية في القدس، تحاول إسرائيل تحقيق تهدئة الأوضاع و الردع في آن معاً، وتشدد على التمييز بين المتظاهرين في الضفة والسكان الذين لا يشاركون في التظاهرات، بل تؤكد على القول بناء على تحليل الجيش و الشاباك أن الفلسطينيين في الضفة لا يرغبون في التصعيد، وهم يعلمون ثمن ذلك إذ أنهم دفعوا ثمنا قاسياً في الانتفاضة الثانية.

 ومن أجل ذلك لم يتخذ الجيش الإسرائيلي إجراءات كبيرة بحق المتظاهرين وإطلاق النار الحي إلا في حالات قليلة مع أنه ينفذ إعتقالات لكنه لم يتخذ حتى الآن فرض عقوبات جماعية أو حتى فرض الإغلاق الشامل أو منع عشرات ألاف العمال من الضفة الدخول إلى إسرائيل، أو اتخاذ إجراءات مشددة.

إسرائيل فقدت السيطرة في القدس وباقي المدن الفلسطينية خاصة في الداخل وعمليات طعن السكاكين وصلت مدينة تل أبيب وغيرها من المدن، وهي تدرك خطورة ذلك وصعوبة القضاء على هكذا عمليات فردية.

الحكومة الإسرائيلية تشعر بالقلق و تدرك خطورة ما يجري، وظهر ذلك واضحا في خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو ووزير الأمن موشي يعلون ورئس هيئة الأركان ووزير الأمن الداخلي ومفتش الشرطة الذين عبروا عن خشيتهم من ما يجري، لكنهم أبدوا حرص على إستغلال ما يجري خدمة لمصالحهم ووضع جميع الاحتمالات و السيناريوهات للمواجهة بدون خوف لإعادة السيطرة لأنهم يدركون حالنا البائس و الإنقسام وخوفنا من ما يجري.

فنحن يسيطر علينا الإرتباك والقلق والخوف من ذواتنا قبل الخوف من الإحتلال وبطشه، وبيتنا منقسم وتغيب الحكمة عن القيادة والفصائل في إستغلال الفرصة و حالة الغضب الثورية السائدة لمواجهة جرائم الإحتلال بالتوحد وإنهاء الانقسام، و إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، والتصرف على أننا حركة تحرر وطني تقاوم الإحتلال وتتحمل مسؤوليتها في النضال ودفع الثمن، وحقنا في تقرير المصير و الحرية.

الإحتلال من يسمي الإنتفاضة ويدير المعركة 

بنيامين نتانياهو أبلغ المستشارة الألمانية تأجيل زيارته التي كانت مقررة هذا الأسبوع  لألمانيا لتدهور الأوضاع الأمنية في القدس والضفة المحتلتين، الأحداث تسير بخطوات متسارعة، ويبدوا واضحاُ أن دولة الإحتلال إتخذت قراراً مسبقاً بالقمع والعقوبات الجماعية لمواجهة الشبان الغاضبين وفاقدي الأمل الذين يتصدون لقوات الاحتلال. والمقاربة غير العادلة التي يتم تداولها وقول دولة الاحتلال بأنها لا تريد التصعيد، لكنها ستضرب بيد من حديد كل من يقوم بأعمال العنف والفوضى، وتصريحات الرئيس محمود عباس، نحن لا نريد تصعيدا عسكريا وأمنيا بيننا وبينها، لا نريد هذا، وكل تعليماتنا إلى أجهزتنا وتنظيمنا وشبابنا وجماهيرنا، بأننا لا نريد التصعيد لكن نريد أن نحمي أنفسنا.

حديث الرئيس يبدوا وكأنه لم يشاهد القمع والبطش، ولم يسمع ما أدلى به نتانياهو وعدد من وزرائه في الآونة الأخيرة، و الذين اعتصموا في القدس لتدهور الأوضاع الأمنية وفقدان السيطرة، وهم الذين اتهموه بالتحريض على العنف ضد الإسرائيليين ودعم ما أسموه بالـ"إرهاب"، في محاولة منهم لكسب الرأي العام العالمي واستباق أي مبادرة أو خطوة قد تتخذها السلطة الفلسطينية في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة.

و يبدوا أيضاً أن هناك شبه إجماع، حكومة الإحتلال ورئيسها ومعه المحللين والصحافيين الذين يصرون على تسمية الأحداث الجارية بالإنتفاضة الثالثة، ويتسابقون في التحريض على إستباحة الدم الفلسطيني، في محاولة منهم التأكيد  على صبغ النضال الفلسطيني بـ "الإرهاب"، ومقاربة ما يجري بالإنتفاضة الثانية التي إستخدم الفلسطينيون فيها السلاح ونفذوا عمليات فدائية وتفجير حافلات، و يحددوا الهدف لمواجهة دامية و خاسرة وغير متكافئة.

وفي تناقض واضح وتضارب التصريحات الإسرائيلية وعكس ما يقوله نتانياهو ووزرائه، قال الجيش الإسرائيلي بعد اجتماع عقدته الاستخبارات العسكرية، إن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، لا يحرض على إيذاء الإسرائيليين، بل يصدر الأوامر لأجهزة الأمن الفلسطينية لردع المتظاهرين في الضفة الغربية، و إن عباس وأجهزته الأمنية شنوا عدة حملات لردع عمليات ضد إسرائيل وهم الجسم الوحيد المانع لاندلاع انتفاضة ثالثة، وقاموا باعتقال العديد من المخططين للعمليات أو من ينوون تنفيذها وسلموهم لإسرائيل، وأكبر عملياته كانت يوم حرق عائلة الدوابشة في دوما حين استطاعت الأجهزة الأمنية الفلسطينية صد المتظاهرين.

هذا بالإضافة إلى ما صرح به العديد من ضباط الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة إن الرئيس عباس، بالإضافة إلى مسؤولين كبار في السلطة، يعتبر عاملًا أساسيًا لردع المتظاهرين في الضفة الغربية ومنعهم من المواجهة مع المستوطنين والجنود، ويواصلون التنسيق الأمني مع إسرائيل لتهدئة الأوضاع.

الرئيس عباس القادم من نيويورك بخطاب الإعلان المرتبك الغامض بعدم الالتزام بالاتفاقات، قوبل بمفاجأة عملية نابلس، و إستمرار المواجهات في القدس وتمددها في مدن الضفة،  وهو في حيرة، وتحت اختبار و ضغط لتنفيذ ما أعلنه، وبين إستراتيجيته السلامية و التزاماته الأمنية الموقعة مع الاحتلال وبطشه وما يقوم به المستوطنين، ولم يجرؤ بعد على إعلان فكاكه منها، بل إستمر بالتعاون والتنسيق الأمني وقيام الأجهزة الأمنية بتنفيذ إعتقالات وقمع مسيرات شعبية احتجاجية تضامناً مع الأقصى، وهو يعلم أن لا حل سياسيًا يلوح في الأفق مع وجود الائتلاف الحكومي الحالي والبطش والقمع و قيادة منطقة القدس السياسية والعسكرية.

 وعلى الرغم من كل ما يجري، لم يحدد الرئيس إجراءات  واضحة بعد إعلان عدم الالتزام بالاتفاقات، كما أن الفصائل موقفها ليس واضحاً من المواجهات وتصاعدها، ومختلفين على تسميتها هل هي انتفاضة أو هبة شعبية؟ ولم يقرروا بعد الانخراط فيها، و في غياب القائد والفصائل والبرنامج و الأمل واليقين وفقدان الثقة يعيش الفلسطينيين حيرة وتيه، يبحثون ويحللون، هل هي انتفاضة أو هبة شعبية أم مقاومة فردية و ردود فعل ثأرية انتقامية؟

بالإضافة إلى ما يسود الساحة من اتهامات، و الدماء تسيل والجميع يطعن في الجميع ويتهم الآخر بالخيانة والتخاذل والهروب، والحال هو الحال من الارتباك والخوف والمزايدات وعدم الاتفاق احتراما للشهداء وإعادة الاعتبار للقضية، و تغول الإحتلال و إرهاب المستوطنين.

و في ظل الصمت الدولي على ما تقوم به دولة الإحتلال والمستوطنين، وكذب نتانياهو على العالم وتأجيله زيارته لألمانيا كي يوصل رسائل للمجتمع الدولي بما تتعرض له إسرائيل من "إرهاب"، في حين أن من يرتكب الجرائم جيشه والمستوطنين، وهو من يقوم بسياسة التضليل والكذب على الإسرائيليين لإخافتهم، حتى يدفعهم خوفهم إلى التمسك به على أنه سيد أمن، و الرجل المنقذ وحامي إسرائيل.

دولة الإحتلال هي من تسمي الإنتفاضة وتضع محدداتها وتفرض المعركة علينا وتديرنا، في غياب خطاب سياسي ومحددات وطنية واضحة وشفافة من الرئيس والقيادة الفلسطينية وحركة  فتح والإفصاح عن توجهاتها، ومصير الخطاب والأمل الذي بثه في صفوف الشبان الذين صدقوا ما قاله، والموقف من التنسيق الأمني واستمراره. و في غياب إستراتيجية وطنية موحدة والعمل الوطني المشترك، وغياب التوافق الوطني بين الفصائل الفاعلة خاصة حركتي فتح وحماس وتحديد المسؤوليات الوطنية، سيستمر الحال، وتكسب دولة الاحتلال معاركها التي لا نخوضها و يخوضها شبان غاضبون بردود فعل من دون خبرة ودراية، ويدفعنا قصورنا وقصور القيادة والفصائل إلى مزيد من الكوارث الوطنية.