تتعدد مستويات الدلالة المتعلقة بالوجود الفني، أو الافتراضي في هذه المجموعة القصصية، فقد يمتزج العالم الافتراضي بالواقع في وعي الشخصية، أو نعاين الحضور الفني بوصفه وجودا حقيقيا يقاوم سلطة الزمن، ويختلط الحضور الفني – في وعي الساردة – بأخيلة الماء، وما تحمله من تجدد مستمر لشخصيات الماضي.

عدوى المرح (مجموعة قصصية)

هدى توفيق

الإهداء :

إلى شارلي الذي أحبته البشرية :

"نحن بحاجة إلى الطيبة والأخلاق أكثر من العبقرية والذكاء "

                                                فيلم الديكتاتور

الغازيه لازم تنزل
أسرة محمد طلعت البرنس وأبناؤه الأربعة من مساكن حي الظاهر الشهير بعراقته وأصالته.. بمبانيه القديمة ذات الأسقف العالية، والشبابيك الطويلة. هذا الحي رغم الحداثة التي إنتشرت فيه من عمارات حديثة «أبراج» مرتفعة الثمن، مَنْ يملك فيها شقة هو ملك، مازال يحتفظ بالبيوت ذات الطراز القديم، والعائلات التي تتوارث عراقة البيوت التي سكن فيها أصحابها بإيجار زهيد للغاية؛ فمثلا شقة البرنس، كانت ميراث أبيه وأمه اللذين توفيا وإمتلك الشقة وتزوج فيها .. وأنجب أبناءه الأربعة، رغم أنها إيجار قديم الذي كان 160قرشـًا، وإرتفع بعد مفاوضات عديدة مع صاحبة البيت (إنجى العجوز) إلى ثلاثين جنيهًا.. إنجى العجوز التي تمتلك منزلا مكونـًا من أربعة طوابق ؛ كل طابق به شقتان : الشقة على مساحة 120مترًا، لا تحصل منه ما لا يتعدي 220جنيهـًا، والسيدة العجوز المسكينة تصرخ بحسرة وقهر لا مثيل له «يا ناس حرام عليكو  دا عدل يا مسلمين يا ولاد الكلب 6شقق يجبو لي 220جنيه في عمارة ثمنها ما يقلش عن 4 مليون جنيه ربنا ياخدوكم  يا ظلمة يا ولاد الكلب ربنا ياخدوكم»

وتجلس على بسطة السلم الأولي تبكي وتتأوه كخروف مذبوح ينتظر حتفه في العيد الأضحى الكبير..، ولما إعتاد السكان هذه الوصلة المأسوية كل شهر، لم يعودوا يبالون بها، بل يتفننون في إهانتها بعدم إعطاء هذا الإيجار الزهيد، ولا يفتحون لها الباب بينما الأسرة الوحيدة التي تستقبلها، هى عائلة البرنس، الذى يجعل أحد أبنائه.. ودائمًا يكون طلعت الابن الثاني بعد الابن الأول أمير الطالب بكلية الهندسة.. يذهب إليها طلعت ويلح عليها، أنْ تصعد معه إلي الدور الثاني، حتى تهدأ وتشرب مع أمه الفاتنة منى التي هي من جميلات باب الشعرية، بخفة دمها وجمالها الأشبه بجمال الأوروبيين؛ بعينيها الخضراوين وشعرها المائل إلى الصفرة، وبياضها الخمري، المغمس بنمش قليل على الأنف، والخدين المتورديْن فيضفي على وجهها جمالا خاصًا، وجاذبية هائلة مع قوام رشيق وأبهة الأزياء والإكسسوارات؛ فأناقتها هي الشيء الأول في حياتها حتى بعد إنجابها الأبناء الأربعة ؛ ولدان وبنتان يتفوقان في الجينات الوراثية، التي نالت منها الأبناء، ماعدا الابن الأكبر أمير والبنت الصغيرة أميرة، ووسطهما طلعت وزينب (زوزو) يتفوقان على جمال أمهما الأخاذ حتى أصبحوا حديث الشارع كله، وهم يسخرون من أمير وأميرة.. اسم ليس علي مسمي إطلاقًا، كان طلعت وزوز أحق بتلك الأسماء .

كان البرنس بعد إعتياد حياة زوجية استمرت لأكثر من عشرين عامًا، كبرت تجارته، من مجرد مساعد في محل نظارات إلي افتتاح ثلاثة محلات مشهورة فى صناعة وبيع النظارات، في أماكن مختلفة في محافظة القاهرة، انشغل عن الزوجة والأبناء الثلاثة طلعت وزوزو وأميرة، وقد إستحوذ علي الإبن الكبير المجد والمجتهد في دراسته، والعمل والمسئول الأول عن المحلات الثلاثة بكل دأب وإخلاص، جعله في قلب أبيه وعقله، حتى أصبح كالظل له لا يتركان بعضهما إلا عند النوم، ومقولة الوقاية خير من العلاج مقولة لها مدلول هام في حياتنا، وتسرب إلى الزوجة والأبناء الثلاثة روح الاستهتار والانحلال إلي أرواحهم، طلعت بدأت شلة السوء تستقطبه إلى أفعال ليست جيدة، وزوزو أهملت المذاكرة في المرحلة الثانوية، أهم مرحلة للخروج من عنق الزجاجة، وانشغلت باللهو والضحك، والاقتران بالشباب، وقصص الحب الفاشلة في تلك السن المليئة بالخيالات والمثالية غير الواعية، وإنْ كانت حريصة على أعز ما تملك البنت وهو عذريتها، تخرج معهم وتحادثهم في التليفون وتتنزه هنا وهناك، ولا يتركون بعضهم على الفيس بوك، والشات الذي يستمر لساعات طويلة، وتعرف هذا وذاك وتتبادلهم كالأحذية والملابس التي ترتديها باستهتار تام. بينما الصغيرة المسكينة التي أصبحت وحيدة للغاية وسط عائلة لا ترى فيها الأب إلا أيامًا ؛ لأنها تخرج في الصباح قبل أن يستيقظ ويأتي في ميعاد متأخر من الليل، وتكون قد نامت، وأم بين النادي وجلسات السيدات البرجوازيين المُـغرمين بآخر صيحات الموضة، وحضور الحفلات واستكمال الدور التمثيلي، الذي يلبسونه ببراعة، بالمشاركة في الجمعيات الخيرية حتى يطلق عليهم أهل الخير وأصحاب العطايا الطيبين، وكل ذلك ما هو إلا ادعاءات لتمضية وقتهم وممارسة متعة الشعور بالأنانية المفرطة داخلهم، وهم يرون أنفسهم المانحين، وأصحاب العطايا والتصفيق الحاد، والتقاط الصور التي تـُذكرهم بمجدهم الزائف، والملوث بقانون المصالح والمنفعة، والانتهازية لتحقيق مآربهم الخاصة بهم فقط، لا يرون إلا ذواتهم المتضخمة كبالونة يملأها هواء وفراغ وتفاهة لا حدود لها  .

وجميلة الجميلات باب الشعرية، وقعت في براثن الخطيئة، وخانت زوجها مع رجل قزم وفاسق ومختص بصيد النساء الفارغات  بديكور الجمال والرونق الرخيص، وببالغ الأسف رأته زوزو وهو نائم عليها في غرفة نوم الأب البرنس، وعلم الأب، وكانت فضيحة وجرسة في العائلتين، وتم الطلاق، وتزوجت جميلة جميلات باب الشعرية هذا الرجل الثاني القبيح بكل المقاييس شكلاً وموضوعًا، فهو في أصله حرفي ميكانيكي، وأتسع في عمله وأصبح لديه ورشة كبيرة، ومعرض سيارات، وتزوج الأب البرنس انتقاما وحقدًا ملأه من حبيبة قلبه منى بأخرى، بإمرأة ثرية مطلقة ولا تنجب، وهذا سبب طلاقها، والأبناء مصدومون من هول ما يحدث، رغم علمهم حقيقة ما فعلته الأم من فعلة لا تُغتفر، يكرهون الأخرى ويعاملونها بقدر عالٍ من الاستخفاف، ويأخذون منها مالاً بحق وبغير وجه حق ؛ حيث تقوم هي برعاية البيت بأكمله؛ لتستجدي رضاهم والقبول، فهى امرأة مسكينة عاقر ثرية من أكبر عائلات محافظة الفيوم، وتقطن في محافظة القاهرة منذ زواجها السابق من خمسة عشر عامًا، حتى طُلقت وطُردت من جنة الاستقرار والدفء والحب والعشرة الطيبة، التي كانت رابطها مع زوجها الأول إبن عمها.. فهو بمثابة الأب والأخ والصديق والحبيب والزوج، الذي تمنته من طفولتها، إنه رجلها الوحيد في العالم : نعيمة لحسن وحسن لنعيمة، وكأن القدر شاء أن يحقق أسطورة الحب التي تسمع عنها حسن ونعيمة، إلا أنها ارتضت بالنصيب والقدر، وتزوجت بهذا الآخر بأبنائه الشياطين . وبعد عدة شهور فاقت جميلة جميلات باب الشعرية منى، وقررت أن تطلق من هذا البغل، الذي أدركت حقيقته من شهور قليلة بعد الزواج، واكتشفت أنه متزوج عدة زوجات قبلها عُرفيًا، ومازالت واحدة باقية معه وعندما اعترضت، شتمها وسبها سبًا مؤلمًا وتجرأ بضربها ضربًا مبرحًا، هربت على أثره من منزله بجلباب البيت، وشعرها مهوش، والدم يتساقط من جبينها، وذلك بعد أن جرها من شعرها إلى السرير ليضاجعها عنوة بعد تمردها ورفضها له بكل الأشكال، وطلب الطلاق، وأثناء اندفاعه لجذبها بكل حيوانية لتمارس الجنس معه، ظلت تدفعه بكل قوتها، وعضته في إحدى كفي يديه، فما كان منه أن قام بخبط رأسها في سن السرير المدبب، فسال الدم، وصرخت من نافورة الدماء التي سالت بغزارة وهجم عليه الجيران بعد سماع الصراخ والعراك الشديد، وذهبوا أولاً وسريعًا إلى القسم لتحرير محضر، ثم إلى المستشفى؛ لتضميد الجرح، وعمل غرز، والعلاج الضروري، وعادت إلى منزل أختها ثناء، فلم يعد لها مكان؛ فوالداها متوفيان، والأخ الأصغر استولى على شقة العائلة ليتزوج بها، وامتلكها بوضع اليد، وطُلقت منى، صفر اليدين، بعد أن طردها هذا الزوج الحقير وألقى في وجه أختها حقيبة ملابسها لا غير، وقد استولى على ذهبها وكل محتويات الشقة، وأموال كانت وضعتها في حسابها من خلال توكيل حررته له بعد الزواج.

مرت الليالي والشهور دهرًا على جميلة الجميلات، وقد اشتاقت لممتلكاتها ورفيق صباها وشبابها الذي هام بها، وفعل كل شيء من أجل أن يتزوجها ويسعدها، وتوطدت المحبة والعشرة الطيبة بالأبناء الأربعة، حتى هداها تفكيرها الشيطاني، مع أختها ثناء، التي أذاعت عن أختها حكاية عجيبة، بأن هذا الزوج الماكر صنع لها (عملا) لتتزوجه، ووضع العمل في جمجمة رجل مسيحي، في مقابر بلدة في محافظة الإسماعيلية، وأنهم ذهبوا إلى الشيخ، وأخبرهم أنه حتى تفوق وتعود لطبيعتها، يجب إخراج هذا العمل حتى تم إخراجه، وطلقت من هذا الرجل الحقير، الذي لم يكن يناسبها في أي شيء، وخرب بيتها مع الزوج الأول، وظلت ثناء وجميلة جميلات باب الشعرية، تذهب إلى الأولاد سرًا وتتصل بهم هاتفيًا تقنعهم بما حدث بأمهم، التي أصبحت مسكينة للغاية، وقد طًلقت وتعذبت بفعل العمل والسحر، للغرابة أن الأولاد اقتنعوا بحكاية خالتهم العجيبة، بل أصروا أن يحكوها لوالدهم، والأغرب أنه صدقها وظل يبكي، وعندما حضر إخواته واستهزءوا بحواره غير المنطقي، الذي وصل لحد المشاجرة مع أخيه الأكبر عباس، أغمى عليه، فما كان من أبنائه الأربعة غير الضحك بشدة وهم يقولون لأعمامهم بكل سخرية وضحك: "ماتخافوش- دا كويس والله- هاتوله بس سيجارة حشيش وهو يفوق دا بيمثل عليكم دا كويس- هو عايز يرجع لمنى أفيونته بأي شكل ويطلق التانية ".

وبدأ الأبناء في تنفيذ وحبك المؤامرة على الزوجة الثانية، التي ليس لديها علم بشيء  وتتعامل بالحسنة، وطيبة وحنو من تبحث عن الفوز بدور الأم البديلة، والزوجة الوفية ولا تعرف ما ينتظرها، وتغير الأبناء وتبدلت أحوالهم، طلعت بدأ يدخن ويفعل هذا أمامها وهى تنصحه ولا تخبر الوالد حتى تكسب صداقته وثقته، دون رد من طلعت أو إنصات لأية نصيحة وحوارها، وزوزو تفننت فى تقاليع الموضة، والسفه في شراء الملابس، وآخر تقليعة أذهلت الزوجة الثانية أن وضعت فردة حلق ذهب في أنفها، ورسمت التتو (الوشم) في أعلى كتفها الذي يظهر بإرتداء ملابس خليعة إلى حد ما مقارنة بملابس الأخريات المحتشمة، أما الصغيرة أميرة تأخذ منها النقود أي فئة ورقية حتى لو كانت مائة جنيه، ولا تعيد إليها الباقي، وتطلب منها النقود بإلحاح، التي يأخذها طلعت منها، حتى سرقوا ذهبها من الشكمجية المحتفظة بها من جدتها التي أهدتها لأمها.. وأمها أهدتها لها؛ فهى الابنة الوحيدة علي ثلاثة أولاد، كلهم متزوجون ولديهم ذرية وأحفاد، ماعدا هى المسكينة، بل تمادى الإخوة الثلاثة الشياطين بأفعالهم المتهورة، الطائشة، وكسروا لها ركنة الأنتريه الكبيرة الفخمة في الصالة، التي أشترتها بمالها، وشوهوا الحائط بعبارة واحدة : «الغازية لازم تنزل، الغازية لازم تنزل، الغازية لازم تنزل» وتطور الموقف وأداروا الأغاني الصاخبة، وصفقوا لها بدائرة يدورون حولها مرددين مع صخب الأغاني التي أداروها الغازية لازم تنزل .. الغازية لازم تنزل.. وهى تقف مندهشة ومباغتة ومفاجأة حطت عليها لا تنطق بتاتًا.

وفاقت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة قائلة بهلع :

ـ أنا غازيه يا ولاد الكلب.. أنا غازيه يا ولاد الكلب.. وهرعت إلى غرفتها وقفلت على نفسها خوفًا وهلعًا، وهم خلفها يطرقون على باب حجرتها مرددين بهوس، وهتاف صارخ «الغازيه لازم تنزل... الغازيه لازم تنزل.. الغازيه لازم تنزل».

***

الشيخ بسمي
محمد مدرس أول مادة الرياضيات في المدرسة التجريبية، أشهر من النار على علم، يحمل مؤهلات أخرى غير الكفاءة العلمية لتوصيل الرياضيات باللغة الإنجليزية. هو مرح للغاية وحكاء من الدرجة الأولى، وعندما ينتهي من حصته الدراسية التى يُدرّسها لابني، يطلب فنجان القهوة الثاني، ويبدأ في التحاكي معي بحميمية باعتباري زميلته في العمل، ويدرس لإبني المتفوق، المعجب به، ويشيد بمستقبله إذا استمر على جهده الدراسي وذكائه الواضح- وهو يعرض علىّ العمل فى سنتر الطلبة.. وكيفية الاستحواذ على الطلبة، وتكثيف المنافسة مع المدرسين الآخرين الوحوش، الذين لا يشبعون ولا يكتفون، وعندما أخبرته أنني لا أميل لإعطاء الدروس الخصوصية وأكتفي بإعطائه لابني فقط، حتى يتفوق في مادتي التي هى مادة اللغة العربية.

    استغرب بشدة، وقال بتفكه :

- يبقي إنتي  بتاعه حكايات وسهاري

- قلت باستغراب

- يعني إيه يا مستر محمد..

تغاضى عن استغرابي وشرع في حكي قصته بكل أريحية، وتغاضى عن الوقت، الذي سيضيع دون فائدة مادية دون إعطاء درس، أو حصة في السنتر، كان متمردًا على وضعه، وقد ملّ دور المنطاد بسيارته، من سنتر إلى بيت إلى المدرسة لإعطاء دروس ـ     خصوصية، وطلب بأدب شديد وتكلف

ـ ممكن حضرتك تعمليلي كباية قرفة بالجنزبيل

إندهشت وشعرت ببعض الحرج وقلت بلباقة:

- مش ها تتأخر عن ميعاد الدرس اللي رايحه.

فقال بزهق وفتور:

- مش ح أروح الواد عيان وأمه اعتذرت لي من ساعة، ممكن معلش تسمعيني شوية – أنا آسف، إنتي زميلتي في الشغل، وبحسك إنسانة قوي.

قلت بشفقة لم أخفها :

-                       قول يا مستر محمد مالك.. بس في إيه واستطرد في الحكي بروح متعطشة لرمق الماء والاستنهاض من العمل الذي يغوص فيه دون توقف أو راحة.

كنت من عائلة فقيرة في محافظة المنيا.. أبي كان يعمل موظفـًا بسيطــًا في الأدلة الجنائية، المادة الوحيدة وأنا في المرحلة الثانوية، التي أخذت فيها درسًا خصوصيًا هي مادة الرياضيات.. ويستطرد ضاحكــًا عند مدرس مسيحي كنت أحبه وأحترمه للغاية، كان رجلاً بمعنى الكلمة شخصًا ومدرسًا محترمًا. هؤلاء المدرسون العظام الذين أعتقد أنهم اختفوا بعد أن أصبحت مهنة التدريس، مهنة تجارية ومبتذلة بفعل انتشار الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة-اللغات، والأمريكية والإنجليزية، والجامعات الخاصة المرتفعة التكاليف التي انتشرت الآن.

مَنْ معه يتعلم ويشتري أعلي المؤهلات بماله ونفوذه.. وفساد المنظومة بكاملها، وإنهيار دور المدارس الحكومية التي أصبحت أشبه بمقلب زبالة على كل المستويات ؛ التعليمية، المهنية، الأخلاقية، سواء المعلم أو التلميذ الذي فقد القدوة والنموذج المقدس للمعلم، والمدرسة، والجميع. رغم تفوقي في كل المواد وخاصة الرياضيات، ألححت على والدي، رغم اعتراضه بحجة أنه إهدار للمال ولديه إخوة في حاجة إلى هذا المال، مادمت متفوقا، وذكيًا بالحد الكاف الذي يؤهلني للنجاح والإلتحاق بالجامعات الحكومية، دون درس خصوصي، لكني كنت أقدّر هذا المدرس الذي شاء القدر أن يكون مدرس مادة الرياضيات لى فى المدرسة من الصف الأول ثانوي إلى الصف الثالث ثانوي، إلتحقتُ بمجموعة (للدرس الخصوصى) بها سبعة طلاب بهما إثنان من الجماعات الإسلامية وإن كانا لا يُظهران  ذلك، خوفًا من الإضطهاد، الذي كان منتشرًا في فترة التسعينيات أثناء حكم الرئيس حسني مبارك، كانا يذهبان إلى الصلاة وسط الحصة، وهو بالطبع المدرس المسيحي لا يتفوّه بأى إعتراض .

وقد حاولوا أكثر من مرة إستقطابي  نحوهم فرفضت بشدة، لكني إضطررت أن أبقى في المجموعة، حتى لا أحرم من التعلم على يد أستاذي المسيحي، الذي أحبه  وأحترمه؛ فهو النموذج لي في أخلاقه وكفاءته العلمية الزائدة عن الحد، وكان نبراسي الآن في تمثيل كل أساليب الشرح والتميز التي، إشتهر بها كمدرس شاطر ومميز لا يقف أمامه أية معضلة نفسية أو علمية مع أي طالب، مهما كان مستواه العلمي ومقاييس ذكائه؛ وهذا سر نجاحي وشهرتي، وكلما زادت أموالي وشهرتي أتذكر المدرس المسيحي بكل خير، وقد علمت من شهور أنه هاجر هو وأسرته إلي كندا بعد إنتشار الإرهاب والعنف من قبل الجماعات الإسلامية، ضاعت مني كلية الهندسة حلم حياتي على نصف درجة في المائة، ويومها كانت أول مرة أبكي في حياتي ؛ لأنني خذلت أستاذي المبجل أولا وخذلت أبي ثم نفسي واستسلمت بحزن لقانون التنسيق الظالم، القاسي والتحقت بكلية التجارة في محافظة بني سويف، ثم حولت إلي كلية التربية بجامعة المنيا قسم رياضيات، وكان عقاب أبي أنه سيتكفل فقط بمصاريف الجامعة، أما كل ما يخص مظهري من ملابس وأحذية أو أي متعلقات شخصية ليس له بها أية علاقة، بعد أن خذلته ولم أدخل كلية الهندسة، ذهبت إلى كلية التربية جامعة المنيا، وبالصدفة رأيت أصدقائي القدامي في المرحلة الثانوية التابعين للجماعات الإسلامية هناك، فأخذت الأمر ببساطة وداومت على لقائهم والتحدث معي، وكنت متدينـًا فقط، أحب الصلاة في الجامعة والاستماع إلى الدروس الدينية في مسجد قريب من منزلنا، وحينئذ وجدتهم يتقصون عني المعلومات، ورأيتهم في نفس المسجد الذي أذهب إليه رغم أنه ليس المسجد الذي يذهبون إليه من قبل، وحاولوا استقطابي مرة أخرى، وأنا أرفض وأخبرهم أني متدين لا أكثر ولا أقل، وأني مسلم مؤمن وموحد بالله وأحاول فقط فهم ومعرفة تعاليم الدين الإسلامي السمحة دون عنف أو الدخول في أية جماعة دعوة إسلامية، التي تعددت مسمياتها في ذلك الوقت، جماعة الإيمان، جماعة التكفير والهجرة، جماعة الجهاد، جماعة الدعوة الإسلامية، وغيرها، حتى قبض عليّ أمن الدولة، بعد أن  وضعوا كمامة سوداء على كامل وجهي ورأسي إلي مكان غريب ومخيف، رأيته بعد نزع الكمامة السوداء من رأسي، وكانوا ثلاثة رجال يرتدون بدلاً أنيقة بكرافت رائع وجميل لفت انتباهي خاصة أوسطهم؛ لأني كنت أميل وأحب كثيرًا ارتداء البدل بالكرافت هذه الأمنية، التي لم تتحقق إلا بعد مضي أكثر من عشرين عامًا من عمري عندما تزوجت في سن الأربعين، ليلة الزفاف، ثم مات الحلم، وقد اعتدت ارتداء الملابس الكاجوال لوقتي الضيق، والعجلة التي تفني يومي بين الذهاب إلى المدرسة في الصباح وإعطاء الدروس الخصوصية، التي تستمر إلى منتصف الليل في أوقات كثيرة من تعدد المجموعات والطلاب الراغبين في تدريسهم بمفردهم، المهم تحدثوا بخفة ورشاقة وابتسامة، لا تفارق وجوههم ذات البشرة الصافية والمنتوفة بيد حلاق حاذق جعلهم كوجوه النساء بعد شد الفتلة والملقاط والكريمات، التي تجعل الوجوه نضرة لامعة بفعل النظافة والاهتمام، عرضوا عليَّ النجاح بتفوق، ومصاريف الجامعة ومصاريف شخصية ضرورة التأنق والمباهاة بالملابس وما يلزمه، وبونات طعام من مدينة الطلبة حتي لو لم أقم بها في مقابل أن أدخل مع الصديقين الإسلاميين اللذين يلاحقانني وأخبر أمن الدولة بكل شيء وعندما صمت فترة من الوقت، دون أي تمهيد وضعوا الكمامة وحذروني ألا أخبر أحدًا عن أي شيء، وبعد يومين سيرسلون مَنْ يعرف ردي النهائي سواء بالرفض أو القبول، وتركوني أذهب، بعد أن أخذوني بنفس السيارة إلى ذات المكان، الذي أخذوني منه وهو قهوة بجانب الجامعة كنت أجلس فيها انتظارا في فترات الراحة بين المحاضرات.

وعندما أصبحت بمفردي، أسير للعودة إلى منزلي، همست لنفسي جاسوس أنا جاسوس علي أصدقائي حتى لو كانوا من الجماعات الإسلامية، وهتف الهاجس الداخلى رافعًا صوته دون وعي

ـ والله أبدًا أبدًا.. لن أكون أبدًا جاسوسًا على أبناء بلدي أبدًا لن يحدث ولو قتلوني.

في تلك اللحظة المهمة وأعتبرها النقطة على باب الرجولة الحقيقية، التي بثها فيّ أبي منذ صغري بجملته المتكررة (عايزك راجل يا محمد، الحياة ماهياش طيبه مع حد عايزك راجل.. راجل في المواقف الصعبة رجل المهام الصعبه  يا ابني) ويضحك ضحكته الخاصة بقهقهة يطول حدتها بحدة المرارة التي عاشها ومازال يتجرعها في كفاح دائم مع الحياة، وجاء المرسال بعد يومين بالضبط، شاب ضخم الجثة، عريض المنكبين أشبه بلاعبي الملاكمة، ربما أرسلوه كمؤشر لمدى قوتهم على فعل أي شيء لي، لكنى شعرت أني رجل وقادر على الرفض  ومواجهة أي مصير سأؤول إليه ورفضت، وأخبرته أن يتركوني في حالي من أجل أسرتي الفقيرة، وأخوتي الذين أرعاهم مع أبي فليس لهم من سند غيري فأنا كبيرهم والمسئول عنهم مع أبي الموظف الغلبان- وحسمت أمري واتخذت قراري، ولم أخبر أي أحد حتى أبي أعز مثال وقدوة وصديق لي بعد أستاذي المسيحي سبب شهرتي وثرائي الآن، والحمد لله انتهى الأمر فعلا من جهتهم، لكن ظل هؤلاء الإسلاميون كمسمار النعش، لا يتركونني في حالي أبدًا، وتخرجت في الجامعة، وهم يظهرون لي كالعفاريت بين حين وآخر، وعملت مدرس رياضيات في محافظة المنيا ثم قررت قرارًا آخر مهمًا ومصيريـًا، حيث قمت بالنقل للعمل إلي مدينة حلوان في محافظة القاهرة لأبتعد عنهم تمامًا، وأرتاح من ملاحقتهم لي المتكررة، إلا أن النقل كان إلى منطقة التبين، وعشت في حلوان، ووجدت سكنـًا في بيت يقطنه موظفون من محافظات أخرى في شقة بها سبعة موظفين، وفي إحدى المرات دخلت المطبخ، فوجدت أرزًا مطهيًا فالتقطت منه ملعقة، وشعرت بشيء كالحائط يقف خلفي رجل ضخم الجثة يرتدي الفانلة الداخلية، وسروالا أبيض قصيرًا، وجسمه كله مشرح من تعذيب شديد تعرض له، فعلمت أنه الشيخ بسمي ربيب المعتقلات فإذا قامت حملة ضد الإرهاب والإخوان، يأخذونه ويعذبونه، ويخرجونه، حسب مزاجهم ورفقهم به، وعلمت أن الموظفين السبعة ما هم إلا أعضاء جماعة إسلامية متطرفة يقودها الشيخ بسمي، فبكيتُ على هذا الحظ العاثر، وأنا أضرب كفًا على كف يا ربي أتركهم في المنيا، وأهرب إلي مكان بعيد، ويطلعوا لي كعفريت العلبة، يا ربي إرحمني لقد تعبت، والله هل هم قدري المشئوم، وكنت غريبًا، جديدًا على القاهرة لا أعرف أحدًا لأستجير منهم، وأذهب إلى مكان آخر، فعقدنا اتفاق صلح ومهادنة على أن يقوموا هم بأعمال الطهي، وشراء الطعام، وأنا أقوم بغسل الأواني وتنظيف الشقة، وظلوا يحاولون أيضًا استقطابي، فكرهتهم وكرهت السياسة، وبعدت عنها تمامًا، لا أطيق حتي لمجرد سماع  الأخبار، وأخلص في عملي كمدرس رياضيات، أعمل من الصباح إلى المساء، دون راحة، وأتحاشى مقابلتهم إلا بالصدفة، وأحضر في نهاية اليوم؟، آكل ما تركوه لي، وأغسل الأواني، ويوم الإجازة أنظف الشقة وأخرج مباشرة، لأعطي دروسًا خصوصية في البيوت؛ حيث إنّ هذه المراكز التعليمية لم تكن قد إنتشرت بعد. حتى في يوم جاءني أخي مهرولاً يحذرني من الشيخ بسمي وأصدقائه؛ أنه شخص خطير، وله اتصالات خارج مصر مع زعماء الإرهاب والتطرف الإسلامي، ولا بد أن أترك المكان فورًا.

وفي يوم كانت الشقة خالية إلاّ مني، حزمتُ شنطتي مع أخي الذي ظل معي، حتى نتحين الفرصة المناسبة للهروب، وهربنا من المكان، وبحثنا معًا عن مكان آخر لي في الصف بمحافظة الجيزة، ونقلتُ عملي أيضًا حتي قررتُ أن ألتحق بمعهد لتعليم اللغة الإنجليزية في القوات المسلحة؛ لأدرس الرياضيات باللغة الإنجليزية، ثم قدمت في البعثة البريطانية التي تمنح كل عام لراغبى الإلتحاق بها، وكان أهم وأصعب شرط الحصول علي شهادة Toefl ودرسته، وحصلت عليها، وقدمت في البعثة، واجتزت الاختبارات وسافرت إلي اسكتلندا، وعدت بدرجة إمتياز لتدريس مادة الرياضيات باللغة الإنجليزية، فنقلوني إلي مدينة 6 أكتوبر لأعمل في أول مدرسة تجريبية فتحت بها مدرسة مبارك التي أصبح اسمها الآن مدرسة الشهداء وظللت بها إلي أن أصبحت معلمًا أول للمرحلة الثانوية بجدارة، وتزوجت وأنجبت وعشت فيها استقرارًا وعملاً وإقامة ومازلت.. وتوتة توتة خلصت الحدوتة يا مس رندا ..

فابتسمت وقلت بفخر:

- إنت شخص مكافح فعلاً يا مستر محمد وفخورة جدا إنك مدرس ابنى وياريتك تكون القدوة زي ما كان أستاذك المسيحي ليك.

***

النداء
قطع (1)
- يا حُـسن.. يا حُـسن

فتحتْ عينيها علي صوت عمتها «نجلاء» ينادي ما كان.. وكالمعتاد حملت رغيفًا وطبقًا به بضع فولات متناثرات في أرجائه، وأدارت المفتاح في باب سجن العتمة.. حين كانت العمة تمشط شعرها الأصفر المنثور على صدرها بمشط قديم على أول شعاع شمس.. يفوز بالمرور من أحد ثقوب الشباك الموصود الجالسة على حافته، فدخلت ووضعت «حسناء» ما بيدها على أرض الحجرة الجرداء، التي تفوح بها رائحة النوشادر.. وفرت موصدة الباب.

سنوات وأنا أستقبل هذا كل صباح.. أتساءل كيف تملك عمتي هذا الشعر الأصفر والعينين الزرقاوين الجميلتين، وذاك الوجه المشرق.. وذلك القوام.. وتصير مجنونة!! ولم يحبسها أبي هكذا؟! فلا هو أطلقها للعلاج ولا هو وفر لها حياة كريمة!! إن ما يحكيه عن التباسها بالجن أظنه محض خرافة.. فأين ذلك الجني الذي يفسد هذا الجمال؟ بل إن أبي نفسه لا يؤمن بهم، والأعجب نداؤها..

- يا حـُسن.. يا حـُسن

ليتني لا أصل لحالها أبدًا.. فما هي إلا ساعة أو يزيد، ويمتطيني بغلاً لا أعرفه، ويلثم وجهي برائحة قذرة تفوح من فمه العفن، يعبث في كل تفاصيلي، وسأبتسم وأنا أتملل ألمًا من ذلك، ثم يدس في حقيبتي ورقة أو ورقتي عملة عليها أحد جوامع القاهرة الشامخة وفي وجهها الآخر العربة الحربية، التي حررت مصر من الهكسوس ثم أعيد هذا مرة أو مرتين حتى أعود إلى هنا قبل غروب الشمس، لأرتمي على هذا الفراش متعبة، فيظن أبي أنها الدراسة بالجامعة فيقول بطيبة تمزقني :

- كان الله في عونك يا بنتي.

وتفر دمعة من عيني بعد خروجه.. ثم أنقض على وريقات المال أحصيها.

 قطع (2)
قطاره تعب من التنقل بين المحطات المزدحمة بالركاب .. من أمل ويأس وإستعجال، ورب قاهر فوق عباده.. ونبي كافر برسالته.. فتناثرتْ الأحلام.. وعربد كل شيء داخله.. يمد يديه يفتش عن تذكرة للوطن الغائب، حين كان تلاقيهما بلا موعد.. ثم كانت مواعيدهما بلا لقاء (حسناء) الحسناء الممصوصة القوام، وهو الثور الهائج الباحث عمنْ كان أو سيكون.

    الموت (طلال) الطلل الباقي لعربدة الأشياء القدرية.. تتحرى أن تبدو جميلة في عينيه المائلتين للون شعيراتها الساقطات على إحدي العينين، فترفعها بأصابعها، وهو يرفع بعض الشعيرات المتحركات على جبهته السمراء.. تتمنى أن تصبح بطلة فيلم كتب لها السيناريو وهو يسمعها حوار النهاية :

- جلال لا يموت..

- الموت مات يا جاهلة

فتقول له، هل أصلح أن أصبح بطلة ؟! هذا رأي المخرج، هكذا كان رده لسؤالها وهو يفتح لها باب الشقة الفاخرة.

قطع (3)
يا حـُسن.. يا حـُسن

مَنْ يملك حـُسني أنا «نجلاء» ذات العينين النجلاوين، والشعر الأصفر المنثور على ظهري.. كعباءة ملك أو هالة قداسة.. والجسد الملفوف على ساقين من المرمر الأبيض وهو فارس ممشوق القوام يقدم بين يدي قرابين الرضا .. فيرفعني على جواد ذي غرة بيضاء ويطير بي..

- يا حـُسن.. يا حـُسن

أنت عرشي بين البنات اللاتي يُحنينَ ظهورهنّ على الواجبات قبل الغروب واللاتي تترف عيونهن دمعًا على النصوص بجوار مصابيح الكيروسين أما أنا يا حـُسن ففارسي الممشوق القوام.. سيقدم بين يدي قرابين الرضا لأرضى .. وقد يصارع الفرسان من أجلي.

- يا حـُسن .. يا حـُسن

قطع (4)
ما بال الزمان يذهب ولا يأتي فارسي الممشوق القوام، ليتقدم بين يدي وليقدم بين يدي قرابين الرضا لأرضى، والبنات اللاتي يصغرنني وقد ذبلت عيونهنّ من الندب على النصوص بجوار مصابيح الكيروسين يتخطفهن فرسان ليسوا كفارسي الممشوق القوام في شيء، ولا يقدمون بين أياديهن قرابين الرضا ليرضينَ .

- يا حـُسن .. يا حـُسن

الدار خلت ولم يأتِ فارسي الممشوق القوام ليقدم بين يدي الرضا لأرضى . ولم يأتِ أحد قط ..

- يا حـُسن .. يا حـُسن

الست عريسي؟! أنا «نجلاء» ذات العينين النجلاوين، والشعر الأصفر المنثور على ظهري كأنه عباءة ملك زال أو هالة قداسة فضت بكارتها.

- يا حـُسن.. يا حـُسن

 قطع (5)
ليتك تغفري لأبيك يا «نجلاء» فما حبستك عن العلاج إلا لأنهم سيقولون جـُنـّتْ البنت لأنها عانس، وأنت ست البنات بحسنك الذي تنادينه كل صباح.

- يا حـُسن.. يا حـُسن

وأظنك دائمًا تناديني .. يا«نجلاء» لي من الزمان «حسناء» الحسناء في نصف جمالك.. وأنا فقير، والغني لن يأخذ البنت ذات العلام ؛ لأنها ستعمل وتقول خذ يا حلالي؛ فالحياة قفة بين روحين .. ف‍ " حسناء "  بالجامعة وأنا لا مال لي.. وها هي السنين تفتح لنا ثغرها «وحسناء» ستقف في بلاتوهات السينما.. ومن فيلم لفيلم ستصبح بطلة.. ويأتي حلالها.. فتقول تقدمي برجلك اليمنى .. حلالاً ؛ فالحياة قفة بين روحين.. عندئذ سأطلقك للعلاج يا ست البنات فلا تنادي كل صباح..

- يا حـُسن.. يا حـُسن

قطع (6)
حين قالها (طلال)

كم جميلاً لو بقينا عاشقيْن؛ فكل شاعر يحتاج لامرأة تـُلهمة الأشعار، توقد النار في صدره وتطلق عصافير الخيال، تفجر آبار العشق.. تولد طاقات الإبداع.

 كانت حسناء تـُمشط شعرها وتلوي شفتيها في إمتعاض، وتضع العطر وهي تقول :

-                       إني أبغي أن أصبح بطلة لا زوجة...

ثم  وهى تخطف حقيبتها:

- العشق جميل لو يبقى، والشعر لا يملأ بطن الجائع.. لا يصلح أن يبقى غطاء للبردان ومع ارتجاج الباب خلفها :

- أنتظرك غدًا يا حسناء..

    سينتظر طويلاً.. فطريقهما يتقاطعان أحيانًا.. ف‍ "طلال" الطلل الباقي لعربدة الأشياء القدرية لم يعرف ما معنى الأشياء الملموسة «وحسناء» الحسناء الممصوصة القوام تبغي «الدرابزين» لحياتها الصاعدة.

 قطع (7)
زوجة أم بطلة ؟! الشعر لا يطعم جائعًا وأنا لا أريد الجوع مع «طلال» الذي حين أعطوه الفرصة كتب لهم سيناريو لصاحب الجلالة، الموت.. وهم يبغون الحياة مثلي.. أبي يدور بساقيته طوال النهار معلقًا روحه في كفه، وشارة على كتفه من أجل وضع وريقات مالية.. يجمعها في نهاره.. وزميلاتي يتقلبن كل يوم في ثوب جديد.. وأنا لا أكاد أغير ثوبي في الأسبوع مرتين.. وعمتي في غرفتها الجرداء النوشادرية الرائحة تنادي..

- يا حـُسن .. يا حـُسن

    وأنا «حسناء» ممصوصة القوام أنادي على المال.. فيقول أنا معهم.. فادخلي وإكشفي عن جواهرك.. فأنا بجودهم شط وأنت عروستي.. واغرفي مني في حقائبك.. ودعيهم يعبثون بجواهرك.. فتمللتُ لعبتهم.. وحسبته شطــًا لبحر أعظم.. فكشفتُ عن جواهري.. فما أعظمها.. وقال أنا شط لبحر من الشعر ولما الشعر ملأ حقائبي نبذته..

 قطع (8)
سأنتظر لكنني لا أعرف من أنتظر.. هل أنتظر «حسناء»؟! أم أنتظر «جودو»؟! أم أنتظر الموت؟! أم أنتظر ماذا؟!

سبعة عشر موعدًا و«حسناء» لا تأتي.. تقول :

- الشعر لا يملأ بطن الجائع.

فماذا يملأ بطنه؟! ثلاثون عامًا أنتظر «جودو» ولا يأتي ورغم قول جميع الملل والنحل أنه قادم لكنه لا يأتي.

أنتظر الموت لكنه لا يأتي.. يبدو أنه أصبح كما يقول جلال «الموت قد مات ([1])».. أو «أننا نعيش ونموت بإرادتنا ([2])» أم أنني أنتظرهم جميعًا كالطلل ينتظر المحبين أن يعودوا..

قطع (9)
- يا ساتر.. يا ساتر

    قالها (حسن) ل‍ (حسناء) حين قالت :

    أنهيتُ دراسة الجامعة..

    فقال :

-                       هل أدخل؟   

وقالت :

- يا أبتي إني أنادي على الملأ فدعني أناجيه

- يا ساتر.. يا ساتر

قالها

- قولي تقدم بيمينك يا حلالي و....

    فكسر سكون الليل صوت طلق ناري من مسدسه – وحين فتح الباب كانت «حسناء» راقدة على ظهرها، يفور الدم من ثقب بجبهتها الشاحبة.. و«نجلاء» تلون وجنتيها من الدماء النافرة وتصيح :

- يا حـُسن.. يا حـُسن

***

أبطال قصصي العظماء
قف بنا هنا، من سكونك؛ لنرى تلك التماثيل الشمعية الذائبة من وجدها، وزوربا يدق النواقيس على تمهل لا أعرف من أين يأتى ؟.. هل من إيقاعنا الماضوي أم منك ؟ لن نبكي حين يتسارع الإيقاع؛ فهذا لا يخصك؛ فما يخصك هو مكافحة الضعف الإنساني، لماذا لا تربح مقامرتك في هدوء، وتصعد مثلنا سلم الحياة؛ لنرى تلك البحار التي نخوض فيها، وتعبرنا بلا شوق أو أمل. لن تـُحشرني فى الدرجة الثالثة، بل سيصعد بك الربان إلي مقصورته الفاخرة تقديرًا لعزفك وفنك، فسنبحث عن عطورنا المسكوبة بلا هوادة في تلك البحار.

 يعبر بطل القصص بين الأنواع دونما خوف، كأنما الليث قد بادله الفؤاد، له من الظباء أربع لو لم يُفارقنه وغار منه الخليفة، وأمر بتعليقه إالى جوار الحلاج، وكيف الأمور ساءت لا يسوؤه منها غير فقده للرفاق . فشبّ الولدان يحتذيان الخطو، غير أن الدمع يفقدهما المسار.

بكت ظباؤه تحت أقدامه، وتنهنهنَ على صدره كما تنهنهنَ على أنغام الشرفاء، ونشجن من خلفه، كما نشجت نعاج داود. أما أمامه، فتمسكن بطوق الصمت، وأطراف الحياة.

إني أموت فأقبر، أما أبطال القصص، فيظلون يعبثون في البحار، تـُسيرهم الأشواق، ويُسرونها، ويتجاذبهم الأمل، ويتجاذبونه، يُصارعون، ويصرعون، لا يُصبحون تماثيل من شمع أبدًا، ولا تسجنهم القوالب، بل يسجنونها.

قوة مكافحة الضعف الإنساني التي أنشأتها وتزعمتها.. أبيدت قبل أن أصعد السفينة.. لم يبق منها أحد.. والربان قيل أنه قد غادر، أو مات، أو قتل، ولا يعرف أحد أنه مازال هناك يهدي أحبابه، كما يُهدون إليه. فكن بطل تايتنك، أو ارحل عنها إلى حيث تشاء.

***

عزبة التحرير
بعد الثورة العظيمة التي حدثت في 25يناير 2011، في بلدنا الأم الحبيبة مصر في أواخر عام 2012 تقريبًا، في محافظتي النائية، والتي دائمًا يتجاهلونها على الخريطة ذاكرين محافظة المنيا، ويلحقونها بمحافظة  الفيوم، وتسقط محافظتي بني سويف من أي تنويه عنها، حتي في جولة الأرصاد الجوية ينسونها، وكأن لا وجود لها.. رغم ذكر أسماء محافظات الصعيد إلى نهاية شريط وادى النيل، بينما هى مدينة كبيرة، ومعقل الآن لقانون البلطجة الجديد برئاسة زعيم البلطجية (أحمد يوسف) الذى يرتدي الجلابية الصعيدي، ولاسة على رأسه كالعرب، ويحمل فرد سلاح صناعة محلي في جيب سرواله الأيمن وفي الأيسر مسدس صغير كاتم صوت صناعة ألماني مميز، أما المطواة فهى في يده على الدوام، أو يضعها فى إحدى رسغي اليدين بين ثنايا أسورة جلدية يلبسها دائما، ولا ينزعها أبدًا من رسخ يديه اليسرى، له منزل كبير في حي المرماح الشهير في محافظة بني سويف، الطابق الأول يستقبل فيه الجمهور وصبيانه وأصدقاءه، ويتم عقد الإتفاقات وجلسات الصلح والقتل وكل ما يلزم من أمور البلطجة، التي يضع قانونها الكفء أحمد يوسف وشارع المرماح والمدارس والرمد وكل الأزقة والحواري، التي تتبع هذه الشوارع الرئيسة، تضرب تعظيم سلام للكفء أحمد يوسف سيد البلطجية.

في إحدى المرات، جاءت للكفء أحمد يوسف، فتاة في سن العشرينات، فتاة من حي شعبي، جميلة، وقوية، تشكو له، وهى تبكي أن أحد بلطجية من مركز الفشن التابع لمحافظة بني سويف، قد اعتدي عليها وسلبها شرفها، وذهبت إلى القسم ولم يفعلوا لها شيئًـا، وهرب البلطجي، وضاع كل شيء منها. على الفور يبحث عنه صبيان الكفء وأخذوه إلي القسم فأنكر، والفتاة المسكينة لم تستطع أن تثبت شيئًا بالدليل القاطع؛ فقد مر وقت على الحادثة، فاستسلمت الفتاة لقدرها، إلا أن هذا البلطجي الوقح، أعاد الكرة، واعتدي عليها مرة أخرى فذهبت إلى الكفء شاكية باكية من هذا البلطجي الملعون، الذي يلاحقها وهي فتاة فقيرة من أحد أحياء شارع الخضار تعمل مع أمها فى بيع الخضار علي فرشة على الأرض، وليس لها من سند أو رجل يحميها، يعيشان على قوت يومهما من بيع أكوام الخضار التي أمامها، فما كان من الكفء أن أحضره مرة أخرى وبكل عنجهية وجراءة ذهب به إلي القسم، وقال للمأمور شخصيًا بكل سخط وغضب:

- لو طلعته من السجن.. اقتله.. هاتاخده ولا أقتله..

وفرّ المأمور ذات نفسه من أمامه، وأمر بسجن البلطجي وترحيله لعرضه على النيابة وإثبات الواقعة حتى يأخذ حكمًا على قدر جريمته في حق هذه الفتاة الصغيرة الغلبانة، فما كان من البلطجي أن طلب الزواج منها، مدعيًا أن فرجها أمتعه، وهو الفاتح المقدام لعروسته وهو أولى بها، وافق الكفء الكبير مباشرة وأحضر المأذون في القسم وكتب الكتاب، وأقام لهما فرحًا، كان على مسمع وحديث كل أهالي شارع المرماح والشوارع المجاورة، وانضم إلى صبيان الكفء الكبير تحت إمرته وسلطته، أما الفتاة فكادت أن تموت من الفرح، وقد أصبحت تحت حماية البطل أحمد يوسف، فقانون البلطجة في رأي الكفء الكبير شرف ونزاهة، وهى الصح.. وهانفضل صح الصح..

عزبة الصفيح بعد الثورة تبدل اسمها إلى عزبة التحرير، حدث بها مشكلة هائلة، استدعت تدخل سريع من الكفء، بعد أن جاءته الأخبار من البلطجية العصافير، ويطلق عليهم ذلك ؛ لأنهم حديثو السن .. وأعمارهم لا تتعدى خمسة عشر عامًا..  يختصون ببيع المخدرات ونقل أخبار البلطجية الآخرين لسيد المنطقة الكفء وبيع الأسلحة البيضاء، بدأت المشكلة على خمسة آلاف جنيه، أخذوها ثلاثة بلطجية من رجل ما استأجرهم لقتل شخص ما، خمسة آلاف جنيه. فقط لإزهاق روح.. اختلف الثلاثة في اقتسام المال، بعد أن أتموا فعلتهم، اثنان منهم كان من حي الغمراوي، وواحد من عزبة التحرير، تقابلوا عند عمارات الأوقاف بجانب حى الزهور.. قرابة الساعة التاسعة مساء إلى الواحدة ليلا، وقد أحضر كل منهم بلطجية الغمراوي وبلطجية عزبة التحرير. وكانت عركة كبيرة بالأسلحة البيضاء، والعصي وزجاجات المولوتوف، وهاجت المدينة، وهرب الناس جميعًا إلى البيوت، وأغلقت الأبواب والشبابيك وكل المنافذ، خشية وهلعًا أصاب حي الأوقاف والزهور بل ارتعبت المدينة بكاملها، من جنون هؤلاء البلطجية، إلى أن جاءت الشرطة آخر من تعلم دائمًا، وكانت عربة الشرطة الزرقاء الوحيدة التي أتت، بها سائق ورائد شرطة، كان يعمل في أمن الجامعة (جامعة بني سويف)، ومن يومين فقط نـُقل إلى مباحث بني سويف، وأصابه طلق ناري خطأ في فخذه اليمنى ونقل إلى مستشفي الزهراء، ثم المستشفي العام، وكان تقرير الطبيب به خطأ طبي، لم يتوقف النزيف الداخلي ؛ حيث جاءت الطلقة في شريان دقيق في الفخذ موصل إلى القلب، فمات الضابط الشاب، أما من أطلق النار الذي كان من عزبة التحرير، فهرب على الفور، رغم أنه يتبع رئيس المباحث زكريا عزيز، فهو يرأس كل بلطجية عزبة التحرير، ويعرف عنهم كل شيء، ويدير كل شيء معهم وتحت إمرته، إلا أن الولد ارتعب؛ فقد مات ضابط من الشرطة، ولن يقف معه أحد منهم حتى لو كان المأمور نفسه.

هرب إلي مدينة الشرق الجديدة التابعة لمحافظة بنى سويف، حيث تقطن خليلته وعشيقته صاحبة بيت دعارة شهير في مدينة الشرق، وبات ليلته، يشرب المخدرات ويضاجعها، وانقلب واهتاج كل ضباط الشرطة، وقلبوا المدينة رأسًا على عقب ولجئوا طبعًا إلى الكفء أحمد يوسف، أن يحضر هذا الولد بأية طريقة، واستجاب الكفء بعد أن هددوه بسجنه ومحو كل ما يخصه من على الوجود.. وأرغم الكفء أصحاب هذا الولد على الاعتراف بمكانه.

وتم فعلا القبض عليهم من قبل الشرطة، التي صممت على تولي الأمر، وما كان من الشرطة أن فعلت منه أمثولة للمدينة في مشهد لا يصدق، ولا يحدث إلا في أفلام الرعب.. وأحضر الولد وفتاته وجردوهما من ملابسهما ماعدا السروال عنده، وهى بقميص نوم شفاف قصير لونه أسود بحمالات رفيعة، لا ترتدي غيره ووضعوهما على عربة نصف نقل وأخذوهم إلى جامع عمر بن عبد العزيز في شارع المديرية ؛ حيث يصلون علي صديقهم الضابط، وظلوا يضربونهما بالأحزمة الجلدية التي خلعوها من بناطيلهم.. والبلطجية والناس أجمعون أمام أمناء الشرطة، والأهالي؛ لإعطائهم درسًا قاسيًا لمَنْ يتجرأ أو يفكر ويقتل ضابط شرطة ولو كان قتل خطأ، وأرغموا بعضًا من الناس في قسم الشرطة بالإعتراف فى محضر رسمى، أنهم ضربوا من الأهالي، دفاعًا عن شرفهم ؛ لأنه يعاشر المومس التي تدير بيت دعارة في مدينة الشرق، ونـُقل الولد والفتاة إلى المستشفي حتى جاء أهل الولد وضربوا الدكتور المختص والممرضة وأفقدوهما الوعي، وأخرجوا الولد بينما فتاته كانت بين الحياة والموت في العناية المركزة، وهرب الولد إلى قرية الحلبية بمحافظة بين سويف بمساعدة رئيس المباحث زكريا عزيز، إلا أنه بعد الضغط عليه من جميع مسئولى الشرطة الكبار أخبرهم بمكانه، إلا أن الولد استطاع أن يهرب منهم إلى عزبة في عين شمس في محافظة القاهرة.. لكن تم القبض عليه أيضًا وقُدم للمحاكمة، التي أثبت فيها المحامي المغوار أنه قتل خطأ وعقوبة هذا أمام القانون من سبعة إلى خمسة عشر عامًا، وبعيدة تمامًا عن حكم الإعدام، وغرابة الأقدار كان معه في عنبر السجن عصابة المجرمين الأربعة الشهيرة بأولاد الشوارع التى كان زعيمهم يسرق الأطفال، ويفعل لهم عاهة، ثم يعلمهم بعلامة في الجسم أو الوجه.. حتي يفرق بين هذا الطفل وذلك الطفل ليصبحوا أطفال شوارع.

الرجل زعيمهم عندما تحدث مع وكيل النيابة للإدلاء بآرائه، كان يتحدث بكل برود وكأنه لم يفعل شيئًا، ويعترف بكل مباهاة وعظمة أن هذه مهنتي، وأحبها وأنا من المعدمين، وأعشق القذارة والنوم في الخرابات، والزبالة، وممارسة الجنس مع الصنفين، ولي خمس زوجات يعشن تحت سيطرتي، طوال النهار يسرحن بالمخدرات لبيعها، ويأتين آخر النهار يعطين لي ما كسبنه من بيع المخدرات، وأنا آويهن وأطعمهن وأشربهن وأسهر الليل بطوله مع نسائي الخمس نشرب المخدرات ونمارس الجنس إلى أذان الفجر، وأنام النهار كله، وفي نهاية الحديث، الذي ملأ حلق وكيل النيابة بالاشمئزاز والقرف، وكاد أن يبصق عليه لولا ضبط النفس، الذي اعتاد عليه من كثرة ما سمع ورأى في مهنته، ووكيل النيابة يُخبره أيضًا بكل برود وقسوة، أنه إن شاء الله سيعدم.. فردّ الرجل ضاحكــًا ضحكة فاغرًا فيها فاه بأكمله فأوضحت عن أسنان وحش مفترس باصفرارها لحد السواد فى بعض الأسنان وإعوجاجها المقزز فى البعض الآخر. قائلا بغطرسة تامة وكبرياء:

ما فيها شيء نحن أتينا من العدم، نحن دود الأرض وقذارته وزبالته ولا نستحق إلا العودة إليه، وأنا أستحقها بكل جدارة، ولا أحب غير العيش والموت فهيا أعدموني وأريحوني من هذه الدنيا القذرة والحياة الملعونة.. هيا أعدموني.. لترتاح الحياة من قذارتي.. وأرتاح من قذارتها.. تلك الحياة الملعونة.. الملعونة اقسم بالله إنها ملعونة.

***

فؤاد إسرائيل
فؤاد إسرائيل أمين عام حزب التجمع الوحدوي بمحافظة بني سويف من عام 1995إلى الآن.. وهذه طريقته للتحدث مع مَنْ أحبهم فقط دون زواج أو حتى ارتباط عاطفي قائلاً برعونة تثير الضحك غالبًا :

- أظن أنه من خلال تقييمي للمرحلة السابقة، والآتية في علاقتنا، استطعت أن أتوصل إلى نتائج من خلال تحليلي.. وعلي استعراض النتائج غير المطلقة، والتي هي قابلة للخلاف، والتعديل يكون له أثر إيجابي.. حتي الآن وأنتِ لم تصلِ  بعدإلي سمات أو قسمات .. أو إنْ شئتِ الدقة خصوصية واضحة السمات في تركيبك العقلي والمعرفي..

كان يرتدي في عنقه سلسلة من الفضة الخالصة بها صورة جيفارا، ودبلة مكتوبًا عليها لا إله إلا الله، ونصفها الآخر مع صديق مسلم عزيز عليه مكتوب عليها محمد رسول الله واسمه، وقد استعادها منه قبل موته ليحتفظ بها في يده الأخرى، كان لديه أختان متخلفتان حورية وجنات، يرعاهما بإخلاص وتفانٍ، ويدعو العدرا نهارًا وليلاً أن تموتا ليرتاح من المصاريف أهم شيء فقد كان غنيًا جدًا وبخيلا جدًا، ومهذبًا جدًا، وكان عندما يحتد النقاش مع أحد أصدقاء الحزب أو أثناء الإجتماعات يقف غاضبًا رافعًا صوته على غير العادة قائلاً بخجل شديد‍:

«اسمح لي سيدي، عندما أستمع إلى هذه الأقوال منك، لا يسعني غير أن أسبك بكلمة تخص الأم.. ما هذا الكلام المثالي، المزيف، نحن في عام 2010 أفق يا سيدي "

فلا يكون من الآخر الذي يمعن في إيذائه نفسيًا أن يشخر له قائلاً :

«لا يا روح أمك.. أنا الذي سأقولها لك يا سيدي وباللغة الفصحي مثل التي تحدثني بها ... يا ابن القحبة.. فرج أمك..

-                       يا مريم يا عدرا.. يا أبونا يسوع ارحمني من هؤلاء الأوساخ، المدعين، المزيفين فاقدي الأخلاق، والضمير. أنتم حيوانات بشرية، ويفر هاربًا قبل أن تخونه دموعه التي ملأت جفونه، وتكاد تنزل أمامهم.

كان فؤاد إسرائيل غريب الأطوار، وغرابته لا تأتي فقط من طوله الفاره زيادة عن المتعارف عليه وإنما أيضًا فمه كبير وواسع كفم الحيوانات المتوحشة، كالحوت والأسد بالنسبة إلى الإنسان العادي وشفتاه غليظتان، وسبحان الله فيما أبدع، تجد عينيه ضيقتين للغاية وفي واحدة منهما بعض الحول، والنظارة المقعرة، السميكة الزجاج التي يضعها على وجهه من سنوات، لا يغيرها من بخله الشديد، رغم أنهم فقدوا أية صلاحية طبية وآخر طبيب أخبره لابد من استبدالها بكشف نظر جديد، حتى لا يضعف نظره، وهو لا ينصت لأحد.. وأذن من طين وأخرى من عجين وكأنهما عينان شخص آخر، وبالتالي هذه النظارة القبيحة شكلاً وموضوعًا، تزيدهما عدم تناغم أو انسجام مع وجهه ؛ فهو يأخذ شكل المستطيل بالضبط، لا أعرف كيف كان لإلهي أن يبدع مثل هذه الخلقة بالمرة، لكن يبدو أن غرابة الأطوار كان لها ميزة كبري انتفع بها فؤاد إسرائيل بهذا الطول الفاره، استطاع أن يطول أغلب رفوف مكتبته الضخمة بطول حوائط الصالة وغرفته.

وبارتفاع يناسب طوله الفاره لترتيبها وتنسيقها كلما رغب، وهذا ما يفعله من حين لآخر، وكان دائمًا يضع الروايات الروسية عشقه الأول في الرف الأخير أو قبل الأخير، حتى لا تكن في متناول أحد من أصدقائه في الزيارات.. والإنبهار والإنجذاب لهذه المكتبة الضخمة، المنمقة بذوق عالٍ ولافت للنظر ولأنه غني جدًا، لا يعمل ويقضي وقته بين التأمل على كرسيه الملكي المذهب بقشرة من الذهب ورثه عن جده الباشا.. ويأخذه شروده إلى التوهان أحيانًا ؛ فمثلا في إحدى المرات كان ينفض البطانية، ثم يذهب بها إلى المطبخ بدل حجرة النوم، وفي إحدى المرات استعدادًا للذهاب إلى الكنيسة كالمعتاد والدائم في حياته اليومية، وضع المفتاح في الباب الحديد لشقته من الخارج ثم دخل وتركه، وظل واقفـًا بين الشباك والبلكونة  أكثر من ساعة، ينتظر أي أحد، حتى يفتح له الباب، وهو متوتر لتأخره عن الذهاب إلى الكنيسة حتى جاء جاره صدفة وفتح له الباب فضحك بشدة أمام صورة صديقه المسلم العزيز ويقول له بخفة دم :

ـ كان لازم يا صديقي يحصل الموقف ده علشان أحكيه ليك فهو يحكي له كل شيء ما يأتي على خاطره أو حتى أحلامه التي يتذكرها جيدًا، ويرويها له في الصباح حسب المقولة الشائعة بالتفاصيل المملة ولهذا حديث آخر.

وعندما يمل التأمل، يمارس هوايته المفضلة وهو رسم البورتريه بالأقلام الرصاص، لأنها رخيصة رغم أن ثمن الورق الكبير المختص برسم البورتريهات غال بعض الشيء، لكنه يحاول تناسي هذا أمام متعة الرسم.. وخاصة مَنْ يحبهم. لديه بورتريه لجيفارا وكارل ماركس ولينين وأم كلثوم وعبد الوهاب، وأمه، وأبيه وحورية وجنات والعديد من الأصدقاء يعلقهم على حائط مرسمه الخاص به، ويغلق عليهم بمفتاح وقفل غليظ، لشدة الحرص والحفاظ عليهم فهذا فنه وخلوده الشخصي له.

أعود إلي حديثي السابق، عن سرد أحلام فؤاد إسرائيل لصورة صديقه المسلم العزيز المتوفى، التي يضعها على الكوميدينو بجانبه..  يتذكرها وهذا شيء غريب، فقليلا نحن البشر العاديين ما نتذكر أحلامنا إلا مع أشخاص قليلة ومميزة مثل فؤاد إسرائيل.

-                       يا صديقي الغالي، الحاضر رغم أنف الموت اللعين، كانت ليلة غريبة، الأرق لا يتركني، والقلق يملؤني، ويعصرني الضيق، حتى أذان الفجر ونمت وحلمت أنني في مكان ما كالجنة واسع، ساحر.. جمال خرافي يا صديقي لم أره من قبل في حياتي، أو حتى بعد موتي، أعتقد ذلك صديقي، وجميلة الجميلات نفرتاري الفرعونية ترتدي فستان شيفون محبوكًا بغرز البليسيه عند الصدر والردفين بشكل بديع، ونجري خلف بعض كلانا يغوي الآخر، ويعتدل كمَنْ تذكر شيئًا، مشيرًا بسبابته لصديقه كمَنْ يحذره وافقًا قائلاً : تعرف يا صديقي أن الأوروبيين أخذوا هذه الموديلات الفاتنة من ملابس الفراعنة العظام في القرنين 17،18 حتى الموبيليات تصمم على نفس الأشكال المصرية الفرعونية بالضبط يسكت برهة ثم يعود جالسًا على الكرسي أمام الكومودينو التي عليه صورة صديقه الغالي المتوفى قائلاً بتنهد وحسرة بس إحنا شعبنا متخلف جدًا أنا أشعر أني لستُ من مصر هذه لا أعرف هل يعقل أن هذه مصر بلد الفراعنة العظام، أهذا حق يا يسوع صحيح (العرب جرب) كما قال شعبنا فى أمثاله الشعبية  وظلم الأتراك ولا عدل العرب، وصدق المثل الشعبي الأصيل ثم يتوقف فجأة عن التحدث تمامًا، ويستودعه إلى النوم قائلاً بحزن: إلي اللقاء صديقي في حلم جديد.

وفي إحدى المرات النادرة الأحلام، قام قبل أذان الفجر مباشرة فزع من نومه، يصرخ قائلاً بعصبية لا .. لا أنا أسف يا عدرا يا مريم.. أنا آسف أنا آسف.. أنا مخطئ.. لا أقصد ويسوع ما حدث، وذهب إلى الكنيسة بعد أن أدى الصلاة، يقف أمام صورة العدرا مريم يبكي ويعتذر لها، ويضيء الشموع وينكت الشموع الصغيرة في رمل الصحن المبارك الذي أمامها، ويبتهل ويتضرع خشوعًا أن تغفر له حلمه اللاإرادي الماجن بأنه ضاجعها في منامه، هذه القديسة الطاهرة من دنس البشر العاديين الملوثين بأغراضهم الدنيوية الرخيصة تجاه الملاك الطاهر، والروح العفيفة، وسيدة السماء مريم العذراء المبجلة، وظل أيامًا فريسة لحالة اكتئاب، وضيق شديد لا يخرج من منزله، لا يرسم، لا يقابل أحدًا من أصدقائه، لا يذهب إلى الحزب، جالسًا على كرسيه الملكي أمام البورتريه الصغير لصديقه المسلم المتوفى، يتحدث له، عن كل ما مر من حياته، وعاشه، من وحدة ومرارة وقسوة من تلك الحياة القصيرة، حتى فاجأ صديقه المتوفى بعدة أسئلة، متخيلا الإجابة منه، وقد نطقت الصورة وجالت معه في عالم التخيل تجيبه عن أسئلته بكل طلاقة وفصاحة متسائلاً صديقه بحيرة وألم :

كيف حال مصر صديقى العزيز؟ أتحبها مازلت؟

- ما هذا السؤال صديقي؟

- أولم تضق منها مثلما ضاقت فلورنسا بدانتي؟ - إني لأعجب كيف يعطي المرء حبه حتى لمَنْ دهس قلبه، وأماته احتراقًا.

- صديقي العزيز لو أن أم المرء ذئبه، هل يستطيع المرء أن يكره أمه. كل أمور الحب تتلون، إلاّ حب أمك..

وقد ورد في حكاية يونانية قديمة «إن ثعلبًا اعتاد في شبابه وصباه، أن يذهب إلى بستان عنب، له أسوار عالية، كان يقتحمها الثعلب الفطن؛ ليحصل علي ما شاء وطاب ولذ له من العنب شهور وسنوات حتى شبع وامتلأ، لكن الثعلب عندما كبر في السن، لم يستطع اقتحام الأسوار العالية، فانصرف عنه، وأخذ ينظر إلى العنب بحسرة، وهو يبتعد عنه ويردد بحسرة شديدة: "يظهر أنك حصرم مر المذاق».

***

أكره الثقافة
جاء تعييني في بدء حياتي العملية إلى زاوية "أبو مسلم" التابعة لإدارة "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة.. لأعمل أخصائيًا اجتماعيًا، في مدرسة ابتدائي بينما أنا أعيش في شارع الهرم، بعد تجربة الانتقال القاسية إلي تلك القرية، علمت ممَنْ يمرون عليها بالجاموس والحمير فتيات أو صبيان أنه لا توجد مواصلة تدخلك إلى داخل القرية، حيث المدرسة.. لابد أن أسير مشيًا على الأقدام .

تضايقت، وعزمت على السير، الذي استمر لأكثر من ثلث ساعة في طريق أغلبه ترابي فهو ممتد لقرابة أكثر من كيلو ونصف، ومرت صعوبة التجربة إلى أن أصبحت لى تمرينًا رياضيًا مفيدًا لشبابى وصحتي، لم يكن هناك أي عمل غير عمل البحوث الاجتماعية؛ لمنع دفع المصاريف، أولاد وبنات المدرسة جميعًا من القرية، يخشون الأستاذ مصطفى آياتي. وكيل المدرسة أكثر من المدير نفسه القادم أيضًا من الهرم ؛ لأنه ببساطة هو كشيخ البلد، يعرف كل كبار العائلات، والعمدة، وضابط النقطة الشرطية.

إذا أخطأ أو تجاوز أي تلميذ يأتيه مصطفي آياتي محذرًا إياه، وإذا لم يتعظ يحضر الفلكة ويعبطه على قدميه. هذه الأمور بالطبع، حتى لا نستخف بعقل القارئ، كانت في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات قبل حضور الألفية الثالثة تمامًا، أعتقد الآن، وبعد مرور سنوات العمل والجد رغم أنني تركته من فترة طويلة، لم يعد هناك فى ذاكرتى سوى مصطفى آياتي والفلكة، تبدلت الأحوال وجيل الألفية الجديدة، وجيل ثورة 25يناير2011 أصبح مختلفًا تمامًا، لكني كنت للحق معجبًا جدًا بشخصية هذا الرجل مصطفى آياتي، ولا أعارضه في أي شيء يأمر به رغم أنه لغى وجودي تمامًا، الذي اقتصر علي ملء أوراق روتينية كعادة كل المؤسسات الحكومية في مصر؛ فمصر بلد الأوراق. كانت القراءة شاغلي الوحيد، لم أكن قد تزوجت بعد .

وفي إحدى مرات السير سيرًا على الأقدام، للذهاب إلى عملي، رأيت فتاة فلاحة فاتنة شعرها المتبقي من طرحة حمراء أصفر ذهبي وعينيها خضراوين خضارًا باهرًا، وخمرية اللون، أشبه بالجمال المكسيكي أو البرازيلي لا أعرف، تدفع بقدميها الأنبوبة جرًا، لتستبدلها من المستودع الذي لا يبعد عن المدرسة كثيرًا والذي نقل بعد ذلك بعيدًا جدًا بعد أن انفجرت إحدى الأنابيب وكاد أن يحرق القرية بأكملها، قفز قلبي وتمنيت أن أقترب ولو للحظات لأتأمل هذا الجمال، الذي يقطن وسط الأحراش والتراب، والعفن، والغبار، والقذارة البادية في جلبابها المنقرش بألوان بُهتتْ من كثرة الإستعمال وغسيله، مر الأمر بسلام واستعدت توازني، وحاولت أن أنسي أمرها، واكتفيت أن أصرح لنفسي على الأوراق كمَنْ يصرخ داخليًا دون صوت.

في بداية الأمر نصرخ بكل حماس، بأن الأمر يعنينا وبعد مرور الوقت العصيب، أفقد حماسي بشدة، وأشعر بإهانة كبيرة داخلي تجاه هذا الجمال الطاغي، المقهور في براثن التخلف والقهر والجهل. وثمة إحساس داخلي جدًا، يؤرقني، ويعذبني للغاية، وأشعر بالإثم الذي لا صوت له، ولا مدلول،غير أنين مكتوم يعم قلبي، ويخترق عقلي بذكريات مشاهد مؤثرة، لا تفارق مخيلتي، تنغص عليَّ في لحظات التأمل، الاختلاء مع نفسي، ويتحول الأمر إلى ما هو أشبه بموقف هستيري، وأنه حدث لي كذا في يوم كذا، ربما تسقط تحديد الأيام من حساباتي، لكن الوجوه، والنظرات تظل جاثمة في أفق الذكريات كخفافيش الظلام، فتضلل أداءات عقلي، وتتشابك التفسيرات والتأويلات، ويثير حنقي لكل ما يحدث في العالم، من بؤس، وشقاء وعنف لا حدود له، ولا يفنى أبدًا، وأبدو رخيصًا جدًا أمام نفسي التي تكتفي بالمشاهدة، والإبتسام.. ابتسامة صفراء باهتة، ولا تتجاوز أي معنى من المعاني الكبيرة والمجدية والحاسمة.. لأي أفق آخر غير حالة اللاجدوى، اللامبالاة (مفيش فايدة) .

أهذه هى المعرفة، والثقافة، أن تجرحني هكذا، بإشعال نيران الحيرة، وحسابات النفس العسيرة، والتساؤلات المروعة، والأجوبة غير المرضية بالمرة ينساب في قلبي جرح غائر وعميق، ويأتيني وجهها المشع بصهد الشمس الواضحة، التي زادته وهجًا وجمالاً وهو يضخ بدماء العافية، وهى تدفع أنبوبة البوتاجاز بقدميها.. والعزيمة والبقاء وعندما أرنو متخيلاً مدى حضنها الدافئ، وبساطتها السالمة والآمنة والوديعة، أهدأ إلى حد كبير وأرد بسلام وحب لا يأتيني كثيرًا فى شذى عطره مع فتاة الأنبوبة الفاتنة .

يالا هم الثقافة.

يالا هم الآخرين

يالا روعتك يا فتاة الأنبوبة.

***

وجوه تبحث عن مؤلف
عالم الفلاحين، عالم بغيض لمَنْ لم يعهده أو يعش فيه من قريب أو بعيد. وإذا عشتُ فيه عنوة، يصبح بالنسبة إليك عالمًا صعبَ التعايش فيه بأي سبيل، كل شيء غريب، وصعب التكيف معه، حتى رؤية الخضرة، واستنشاق هواء الأرض النقي، والراحة، وجلسات النميمة على المصاطب المثيرة وغير المثيرة، لم تعزز وحدة وحزن نبوية الشابة الجميلة جمال الفنانة برلنتي عبد الحميد بالضبط، التي غضب عليها أبوها الصعيدي الأصل بالزواج من جاد ابن خالها الفلاح.. الذي يعيش في قرية كحك التابعة لمركز إبشواي، محافظة الفيوم فراش في مدرسة حكومية، وإن كان أهلها قد انتقلوا للعيش في فيصل بمحافظة الجيزة منذ كان سنها عشر سنوات وأبوها  كان يعمل بواب لإحدي العمارات، حتى انتقل بالعمل كبواب خاص لإحدى فيلل أحد الأثرياء فى مريوطية الهرم، حاولت الهرب والتملص من الزيجة ؛ حيث كان قلبها مع حليم البقال، الذى كان يفتح (كشكًا) صغيرًا أمام عمارة أبيها ؛ حيث عمل الأب وسكنهم، وقد اتفقا على الزواج، لكن الأب ذا الجذور الصعيدية، عادت إليه عصبية الصعايدة، التي لا تتغير حتى لو عاشوا في أمريكا قائلاً بحدة :

ـإحنا صعايدة وأهلنا فلاحين وكل طور أولي بلحمه.

جاد الفلاح ذو البنية الجسدية القوية، وعقل من ذهب، هو يعمل فراش المدرسة لكنه يدير المدرسة وكأنه صاحب المدرسة، في الصباح يفتح المدرسة، وينظف حجرة المدير والمدرسين، وأختاه تـُنظفان المدرسة، ويدير للمدرسين حلبة الدروس الخصوصية بكل نظام ودقة برتيب مواعيد المدرسين والطلاب حتى لا تتضارب مع بعضها، فهو متعلم معه دبلوم تجارة، استغله جيدًا في عمله، ويتقاضى على كل نفر خمسة جنيهات في مقابل توفير المكان وهو المدرسة، التي تبدأ العمل بها بعد انتهاء اليوم الدراسي بساعتين ؛ حيث يذهب الجميع للغذاء.. ويستمر إعطاء الدروس الخصوصية إلى الوقت الذي يريده المدرسون والمدرسات كل على حسب ظروفه، ولا يتغاضى عن فعل أي شيء للمدير والناظر والمدرسين والمدرسات وأهالي البلدة في مقابل المال، وكان شريك محمد علي ناظر المدرسة في إنجاح الطلاب دون وجه حق في مقابل النقود، التي يتولى أمرها جاد، ويتقاسمها مع الناظر محمد علي، بينما المدير القادم من محافظة الفيوم، لا يعلم وليس له أي دور فهو مجرد ديكور.. يكمل بها هيئة التدريس.. فالمفاتيح والأوراق وكل شيء في يد جاد والناظر محمد علي .

ونبوية الشابة الجميلة، التي كانت تحلم طول عمرها بالحياة في المدينة، التي تعودت عليها وتعلمت بها، وحصلت على دبلوم الفنية قسم تطريز، والتقتْ بحليم البقال وأحبته وتمنـّنته زوجًا لها، لم تستطع أنْ تتحمّـل جاد الجلف، الذي لا يعرف أي شيء عن الحب والجنس رغم عقله التجاري النشيط، يضاجعها في دقائق، وعندما ينتهي ويحصل علي شهوته القصيرة يتركها كالخرقة المبتلة، دون أي حساب لمشاعرها أو إرضاء شهوتها هي أيضًا، تكرهه وتكره نفسها وفي لحظات اليأس، تدعو عليه بالموت، حتى تعود إلى مصر مرة أخرى عند أهلها، فالمصريون يطلقون بعفوية على القاهرة والجيزة مصر ماداموا يعيشون في المحافظات الأخرى وخاصة في قري الفلاحين ولأن جاد لن يتغير، ولا تعرف متى سيموت؟ ولا طلاق ولا عودة إلى مصر، بدأت تفكر في الحيل الحياتية للبقاء والإستمرار حاولت الخروج من المنزل والتحاور مع الجيران من النساء، لكنهم كانوا غرباء ومختلفين حتي في اللهجة، بل أحيانًا يتشدقون سخرية وتقليدًا مضحكًا أكثره إهانة من لهجتها المصراوية كما يُطلقون عليها.

تأخر الإنجاب، لكن جاد رحمة من عند الله بحالها، لا يهتم إلا بجمع المال، والعمل ليل نهار في المدرسة ليملأ جوف الطمع والجشع، الذي غشى بصره وبصيرته وقد اشترى قطعة أرض على مساحة 100متر في محافظة الفيوم بالقسط وينوي بناءها؛ ليصبح من أعيان البلد، بيت في البلد، وبيت في الفيوم وهذا ليس بالشيء السهل الحصول عليه؛ فبيوت المدينة غالية جدًا جدًا.

تذكرت نبوية جارتها السودانية من أب مصري- وأم سودانية وتعيش في مصر من 30عامًا المتزوجة من مصري، ما كانت تفعله حتى تؤنس وحدتها، وفراغها، كانت تربي في منزلها على سطوح الطابق الثالث تقريبًا كل أنواع الطيور فراخ، بط ووز وكتاكيت، وديك رومي، وأرانب ماعدا الحمام ؛ لأن غية الحمام تحضر الثعابين غالبًا، كانت بعد أن تضع لهم الطعام والشراب، وتنظف العشش تجلس على كليم الكنب البلدي القديم تختار كل يوم عشه وتحاور مَنْ بداخلها فراخ أو بط أو غيرهم وتقول بعتاب :

- انت ليه ضربت أخوك الديك النهارده مش حرام

ولا انت فاكر نفسك علشان ما انت الديك الكبير اللي فيهم تضربهم لو عملت كده تاني ادبحك وأكلك وأريحهم منك.

كنت ما أزال صغيرة، وأذهب إليها للحديث والمذاكرة، والملابس التي تطرزها لي كانت تحبني كابنتها وأكثر، فقد حـُرمتْ لفترة طويلة قرابة ثماني سنوات من الإنجاب حتى منَّ الله عليها بثلاثة أولاد، كنت أجلس بجانبها على السطح وتظل تخاطب وتتحدث مع الطيور:

إنت ليه يا بطة كلتي أكل الفراخ يا حبيبتي.. دول بلينات غلابة مالكيش دعوة بيهم

اسألها والاستغراب يملؤني :

- إنت ليه بتعملي كدا ليه يا أبله موده :

تطبطب على كتفي بحنو وتقبلني قائلة بابتسامة واسعة:

- تعالي يا حبيبتي أوريكى الجيبة الجديدة وأقولك ليه .. عايزة أشوف مقاسك ولا لأ..

حتى قالت لي بحزم وتباه :

- أنا يا حبيبتي بكل بساطة بحمي نفسي من الغيبة والنميمية مع الجيران، مش أحسن أتكلم مع الطيور الغلبانة الطيبة دي، ولا أتكلم مع الناس عن الناس وآذيهم بلساني وقلبي وعقلي.

طالت أيضًا فترة عدم الإنجاب لنبوية، كما حدث لمودة، وقررت أن تشغل وقتها أكثر بالخياطة لكنها اختارت تطريز الملايات، والمفارش، التي أبدعت بها وبدأت تذهب لإحضار كتالوجات من محافظة الفيوم لصنع مثيلاتها، وتوسعت وأحضرت ماكينتي خياطة  واثنان يساعدانها في الطابق الأول الذي أفرغته تمامًا لصنع الملاءات والمفارش وكان جاد سعيدًا سعادة لا يُحسد عليها من زوجته الذكية والتجارية مثله، وانشغل هو أيضًا ببناء منزله في الفيوم، حتى جاءته البلهارسيا، فصُدم واكتئب بينما نبوية تضحك وتقول قولاً لا يتوقعه أحد :

ـ يا أخويا ح تاخد البرشام وتبقي كويس، وتضحك أكثر بسخرية.. أهى البلهارسيا دي اللي ـ موتت حبيبنا وأستاذنا عبد الحليم حافظ الله يرحمه ويحسن إليه .. سبحانك يارب دلوقتي مع جاد بتتعالج ببرشام .

***

أين هي السعادة ؟
لا أعرف كثيرًا عن معني السعادة الحقيقية، لكني أدعي أن معني السعادة هو مناطق الفرح في حياتي التي مرت والتي ستمر مادمت أتنفس زفيرًا وشهيقًا بأنفاسي المعدودة في نهاية الأمر إلى أن تلاقي ربها، وحين أتحدث عن السعادة التي تخصني هى بالتالي ترتبط بأشخاص آخرين، كانوا طرفًا فيها، فغاية السعادة التي تتحقق أمنياته من خلال آخرين ساعدونا على صنع السعادة أي الفرحة الغامرة، والبهجة التي تخرج من القلوب، وتجعل ملامح وجوهنا تشرق بالإبتسامات البراقة وبطول بريقها لضحك يملأ الروح بمدى السعادة وجمال تلك اللحظات التي لا تنسى من ذاكرة المرء.

أعترف أنني أكون سعيدة جدًا جدًا وأنا أحتضن ابني الوحيد كمال، وأنا أشاركه الطعام وتذوق ما يعجبه ويمدحني ويشكرني ويهتف أنا بحبك قوي يا ماما، وكل أداءاته وأفعاله هي الشاهد الوحيد علي وجودي في هذه الحياة العبثية في أكثرها، والقدرية في الباقي منها، وأكون سعيدة للغاية، وأنا أمارس ملكة الحكي والثرثرة عن ذكريات وتجارب مؤلمة عشتها ومرت وتعلمت منها وأحكيها نموذجًا أمام آيه صاحبة برج القوس، ونوره صاحبة برج الدلو بنات أختي اللتين كلما رأيتهما، تمنيت الطفلة الصغيرة التي لم تأت لي ولا أظنها ستأتى، وتكتمل الأمنية التي تتحقق في بنت تجتمع فيها كل خصال الاثنتين بقوة وجمال وجرأة آيه، وهدوء وبرود وقوة شخصية نوره، وسعادتي الماضية الوهمية، وأنا أتعاطي drugs مع صديقات السوء، اللاتي رحلن جميعهن، كل منهنّ شقتْ طريقها في حياتها بما قدره لهنّ النصيب والقدر، وكيف كنت أذهب بخيالي إلى عوالم غريبة وعجيبة جدا وروح الخيالات ترفعني إلى سابع سماء وتأخذني إلي سابع أرض بمشاعر متناقضة ومليئة بفعل سحر المخدر القوي على خلايا أعصابي، ودقات قلبي في لحظات ما ترتفع حتي أكاد أسمع صوتها، وأنني سأقابل الموت وأنا أبتسم، أجمل شعور أتمني حدوثه في فراقي عن الحياة، وأنا أتلاقى بكل راحة وسلام مع الموت، بل أبتسم كلما تذكرت تلك السنوات البعيدة التي عشتها في أيام الشباب الأولي. ضحكت بسخرية من نفسي بشدة كيف فعلت هذه التصرفات الطائشة ومتى حدثت وأين تمت تلك الأفعال المتهورة، ومرت هكذا دون أن أشعر كسريان مياه جداول وأنهار تبتلع كل ماضٍ وآتٍ بهدوء.. ومرور ليال الزمن الغادرة بنا على الدوام .

السعادة، في لحظات انتشاءات الجنس العالية، وعوالمها السحرية، التي عشتها مع عشيقي الوحيد بإمتنان ورضا وأنا في كل مرة نتلاقى فيها، حتى دون أن يضاجعني أقول له بابتهاج حبيبي أنا سعيدة، أنا سعيدة معك، أنا أحبك، أنا أحبك فعلا لا أنا أعشقك، وعندما هجرني، وافتقدت هذه الليالي الحميمية، أدركت فعلا أنني غير سعيدة بالمرة، وأشتاق لدفئه ومضاجعته .

بينما كانت أخطر لحظات السعادة التي ليس لها حدود، وأنا أهاتف أمي الحبيبة

-عاملة إيه يا ماما...

- والنبي ضهري واجعني.. كان في شوية رملة قدام باب البيت، شلتهم لبعيد.. ضهري واجعني.

- ليه بس كدا احنا الصغيرين مش قادرين نشيل نفسنا.. إنت تشيلي دا كلام بس

- يلا اللي حصل يا بنتي.

- ادهنيه بالمرهم المستورد اللي عندك..

- دهنته ولسه واجعني..

- يعني مش بتتصلى من فترة

- معلش مشغولة في الكتابة

- صحيح.. ربنا يوفقك يا رب وطلع ولا لسة؟

- بقولك يا أمي لسة بكتب فيه.. اسمعي كويس.. ادعيلي

- طيب.. إن شاء الله يكون فتحة خير عليكي

- طيب كفاية كدا ح تخلصي ليا الرصيد.

- أنا اللي متصلة يا ماما مالك..

- والله طيب امتحانات ابنك امتى؟

- الأسبوع الجاي

- والله ربنا معاه..

- ماشفتيش المحامي.. بعت لي رسالة على الفيس إن الجلسة 20يناير.

- والله 2يناير قوام كده.

- 20 يا ماما في إيه؟

- هالة أختي جاية ولا لأ.

- لسه ما اتصلتش

- آلو ماما ... اضحك الرصيد خلص فعلا يا ماما.

تاريخ سعادتي مع كوب النسكافيه، والقهوة المضبوط .. المشروبات المفضلة لدي وتستهلك وقتي وأنا أندفع دفعًا في ليال البرد القارسة، إلى المطبخ لغلي المياه وأفرك يدي الإثنتين فوق النار؛ لأتدفأ حتي تغلي المياه، ونفسى تتوق ألاّ تغلي أبدًا حتى تلتهب النار الموقدة لهذه الأطراف المجمدة بفعل البرد، وعندما تأتيني صديقتي المفضلة أسألها بلهفة :

- إيه رأيك في كوب نسكافيه.. حبيبتي.

- تعلق بغطرسة مفتعلة وترد بكبرياء:

- أنا إنسانة لا تشرب أي منبهات.. آسفة.

- غريبة والله إنتِ .. ألا زال يوجد إنسان يحافظ على صحته أمام هذا الصخب يا صديقتي الغبية ولست المفضلة.

وفي زمن طفولتي مع جدتي، التي لازمتني طفولتي وصباي حتى توفت وقميص السعادة في ذاكرتي.. تحكيها لي كلما كنت غاضبة أو متضايقة من أمر ما عن ملك من ملوك الزمن الأول العظام لديه كل شيء من : المال والسلطة والأبهة ونساء جميلات وأولاد صالحين وشعبه يحبه ويعظمه ومع كل هذا، كان يشعر باكتئاب حاد، فجاء بكبير الحكماء وقال له ألا تعرف أن تبحث لي عن قميص السعادة وألبسه، وأحيكه لكل أبناء مدينتي.. فهم أيضًا يشعرون بالتعاسة، رغم ما ينعمون به من رخاء ووفرة فأجابه كبير الحكماء، ليس للسعادة قميص إنها منحة من الله يا سيدي الملك، فاهتاج الملك وثار، وغضب قائلا: بل هو موجود وسأخرج بنفسي إلي الجبال والوديان لأبحث عنه.. فخرج الملك باحثًا بدأب حتى وجد حطابًا سعيدًا، يشتري الحطب، يبيع نصفه ويتدفأ بنصفه الآخر مع عائلته الفقيرة، فسأله الملك: أعطني قميصك أرتديه حتى أكون سعيدًا فقال له الحطاب الفقير: ليس عندي قميص للسعادة سيدي أرتديه لأكون سعيدًا فقال له الملك: وكيف أنت سعيد هكذا..؟

فقال له الحطاب: إنها هبة من عند الله منحها لي يا سيدي.

إن ذكرياتنا السعيدة هى السعادة نفسها، سنظل نحتفظ بها، ومع مرور الأيام تتراكم الذكريات السعيدة، حتى تموت الذكريات القديمة بحكم الزمن؛ لتنشأ ذكريات جديدة سعيدة، نعيش بها إلى أن نعيش عليها ويأتي جديد، وهكذا...

***

الشيخوخة
أبي منذ خمس سنوات تقريبًا، بعد الخروج على المعاش المعهود عند سن الستين والخمس سنوات هذه بعد السبعين من عمره الآن.. خرج على درجة مدير عام إدارة بني سويف التعليمية، أصبح تقريبًا لا يتحدث معي إلا نادرًا، وإذا تحدث لا يكون إلا سعيًا لاختلاق المشكلات على أشياء تافهة، لا تستحق كل هذه العصبية الزائدة التي ما تلبث أن تقلب المكان ويتجه إلىّ باتهامات بالإهمال، والتكاسل، وعدم الإهتمام وهذا دون الحقيقة بتاتًا؛ فهو ما بقي لي من الدنيا بعد وفاة زوجي في حادث عابر، والذي نسمع عنه كل يوم وابنتي كبرت وتزوجت، وأصبح لديها طفلة،  وأسرة تشغل أوقاتها عني وعن جدها العزيز، وما كان مني غير التحمل والصبر من أجل أبى الذى أحبه، وأسامحه مهما قال وفعل، لكن أسوأ ما في الموضوع أنه أصبح لا يتحدث معي.. مثل الأوقات الماضية بل أحيانًا يستخدم الإشارات؛ لأضع له الطعام أو طلب الاستحمام، الذي بدأت أقوم به بعد أن وقع أكثر من مرة وهو يستحم بمفرده، وتعرض لكسور لا تلتئم لمَنْ في عمره كثيرًا، وأشد ما يؤلمني غير هذا الصمت المطبق الذي فرضه أبي العزيز، ذراعه اليسرى التى بها كثير من البقع الزرقاء من حقن الأنسولين لضبط السكر الذي لا ينزل عن 280.

أول شيء أفعله في الصباح كالعادة قبل حتى أن أحضر له الإفطار أذهب لإحضار جورنال المصري اليوم، الذي لا يقرأ غيره، قائلا عنه إنه جورنال صغير الحجم صحيح لكنه محترم.. الذي اضطر من أجله الذهاب إلى كشك الصحافة اليوم الشهير عند ميدان المديرية، بدل من الشراء من عم صبحي القريب من منزلنا الذي لا يبيع إلا الأخبار والأهرام والجمهورية الجرائد الحكومية فقط، ساخرًا لمَنْ يطلب أي جورنال آخر.

- يا بنتي مفيش أحسن من جرايد الحكومه..

وفي إحدى المرات كالعادة، غافلني أبي وخرج من المنزل، دون علمي، هرعت أصرخ بابا بابا إنت فين رد علىّ يا بابا.. هرعت أستنجد بجارتي أم حميدة وأنا أبكي .

- ماشفتيش بابا يا طنط.. معرفش راح فين؟

- لأ يا بنتي.. استني ننادي عم نادر يدور عليه.. هوّ دايما بيقعد معاه في دكانه..

لم أنتظر أحدًا، وهرولت على السلالم حتى كدت أسقط، والدموع تغمرني، والخوف من المجهول يقتلني قلقًا، وألمًا، ينهش عظامي التي أصابها وعكة مفاجئة، وعقلي عاجز عن التفكير من التوتر الذي ملأ روحي، ثم توقفت في شارع الأباصيري القريب من شارعنا. وجلست على الرصيف أخذ أنفاسي من الهرولة، والبحث هنا وهناك، وسألت نفسي أين ممكن أن يذهب أبي في هذا الوقت المبكر؟ وظللت أسأل نفسي هذا السؤال مائة مرة، والإجابة لا تأتي أبدًا وفكرت ربما ذهب إلى كشك الصحافة؟ ولمَ ؟ بينما كان أبي العزيز، جالسًا على الرصيف في شارع الرياضي يبكي بشدة وينادي ويزعق بحزن شديد :

- عايز أروح بيتي.. روحوني بيتي.

كان معه بمبة غاز بوتاجاز فارغة، وفجأة جاءه الزهايمر، وعندما ملأ البمبة من دكان معروف في شارع الرياضى، نسى كل شيء، وجلس على الرصيف يبكي، حتى لفت انتباه السائرين في الشارع، فتجمعوا حوله، ويئسوا بعد محاولات عديدة من معرفة أي شيء عنه؛ فلم يكن معه بطاقة الهوية، فقط البمبا ونقود؛ فقرروا جميعًا أن يذهبوا به إلى المسجد المجاور لبنك مصر؛ ربما يستدل أحد من أهله أو أقاربه عليه، وإذا لم يحدث فالجلوس في بيت الله أفضل شيء لحمايته من أي سوء.

وعندما لم أجد إجابة لسؤالي الوحيد أين ممكن أن يذهب أبي في هذا الوقت المبكر؟ نهضت وقررت السير في شوارع المدينة الرئيسة وأذهب إلي قسم الشرطة ؛ للإبلاغ والبحث عنه، ورغم عظامي المتهالكة من القلق والخوف، كنت أسير دون إرادة، فرّتْ دمائي من كل جسدي، وشعرت بأطرافي تجمدت من صقيع دخل جسدي، رغم أننا كنا في بداية الربيع في شهر إبريل، وسيرًا على الأقدام مشيت من الأباصيري إلي شارع البحر ومنه إلى شارع المديرية ثم الرياضي.. وكنت قد أنهكت بتاتًا، وكادت روحي تخرج من جسدي فجلست على الرصيف أبكي بكاءً حارًا وهستيريًا، وجسدي يرتعش، وأنا أدعو الله قائلة بتشنج كلمات غير واضحة :

- يارب آلاقيك يا بابا.. يارب ألاقيك يا بابا

فتجمع الناس وأطلق واحد منهم قوله بسخرية شديدة قائلا :

ـ هو فيه إيه النهارده أنت كمان جالك الزهايمر ولا إيه وضحك بشدة

فردت أخري سيدة كبيرة في العمر وإن كانت لا تتجاوز الخمسين تقريبًا

- يابني حرام عليك.. دي باين عليها غلبانه

واقتربت مني، وكنت توقفت عن البكاء وقلت على الفور:

- أبويا يا حاجة مش لقياه.. خرج ومش لقياه.

فهرع أحد الواقفين في المحلات المقابلة للرصيف، الذي من قبل جلس عليه أبى ينفذ ذات الموقف المأسوي :

- أيوه أيوه يا بنتي – دا أبوكي في الجامع – جاله الزهايمر، وهرع دون أن يستكمل وأخذني من يدي بعنف غير مقصود.

- تعالي .. تعالى..

والناس تبتسم وتقول بتأوه وحكمة المؤمن بقدرة الله:

- سبحان الله بنته تقعد على نفس الرصيف!.

- سبحان الله قادر على كل شيء وعالم بالنفوس!.

***

إمبراطورية الشمس
ظلّ الطفل يوسف ذو العشر سنوات حزينًا وصامتًا؛ لسفر والده، الذي يعمل في الإمارات، لا يخرج من حجرته، بين اللعب على التابلت، أو مشاهدة أفلام أو ممارسة ألعاب
games على اللاب توب، وإذا حضر أصدقاء الجيران لطلب اللعب معه أو يرافقهم للعب ماتش كورة، فهو يعشق الكوره، ولها ملابس رياضية  وحذاء رياضي شهير Star يضعه في أحد رفوف الدولاب؛ لإرتدائها فقط في لعب الكرة أثناء الذهاب إلي النادي.

جاءني على غفلة في غرفتي، بنداء ملح.. ماما.. ماما.

قلت بلهفة.. نعم حبيبي..

احتضنني بعد أن قبلني، فاحتويته سريعًا، وظل قابعًا في أحضاني حتى قال بحزن: نفسي أكون عصفور، وأطير لأي مكان بسهولة، وأموت بسهولة كمان، رفعته من أحضاني، وأمسكت ذراعيه بيديّ بقوة، وعينايّ تواجهان عينيه، وقلت بحنق وغضب :

- اوعى تقول كده تاني.. بعد الشر عليك.. إنت حياتي يا يوسف، ازاي أعيش من غيرك وهززت جسده بكلتا يديّ بعنف قصدته قائلة :

- فاهم.. أنت قلبي وروحي وعقلي.. اوعى تقول كده تاني.. أزعل منك

ترك يدي وجلس بجانبي هادئًا وديعًا قائلا برجاء :

- ماما ممكن نلعب كوتشينه ؟

- طبعًا.

وتابع قائلا ببراءة:

- ماما ممكن نخرج نتفسح.

وقلت بعجلة..

- طبعًا.

ولم يكن لدي فكرة عن أين نذهب، أو ماذا أفعل بالضبط؛ لأواجه ضيقه وحزنه؛ لسفر أبيه وشعوره بالافتقاد حتى قفزت فكرة دون مدلول لها في الواقع، أن أستطيع تمامًا إنجازها على نحو صحيح، وقلت بحماسة مفتعلة :

- أيوا ح نروح عند خالتك في البشاير.. نتغدى ونلعب مع معاذ وخالد براحتك وبعدين نروح بعربيتها لهايبر أو المرشدي أو سيتي اسكيب.

قفز هو الآخر بفرحة غامرة، وقال مبتهجًا:

- صحيح أنا بحبهم قوي، وعندهم ألعاب جميلة قوي..

كانت أختي الصغيرة تقطن مثلي في مدينة 6 أكتوبر في حي البشاير المميز بالحي الهادئ والمنظم، والمورق بالخضرة والأشجار العالية، كأنك تهم أن تدخل منتزهًا جميلاً بانتشار الأخضر على الجانبين ووسط العمارات الجميلة الطراز، كل عمارة إما لديها بواب، أو كونتر، ممنوع دخول أي أحد غريب، وانتشار الأمن بها، والمحلات الكبيرة الراقية، وبارك للسيارات، ومساحات واسعة من النخيل والحشائش للعب الأطفال.

شعرتُ بتأنيب ضمير، لما قررته، دون أن آخذ رأي أختي، التي ربما تعتذر أو لا تكون موجودة غداً أو لأيام؛ فلها شقة أخرى في محافظة القاهرة عند أهل زوجها في حدائق القبة، وكثيرًا ما تذهب إليها للزيارة  أو للاستجمام وتغيير الجو، وشراء ما تريده من محلات تفضل الذهاب إليها، لتنوع المعروضات والموديلات، وأسعار معقولة عما توجد في مدينة أكتوبر كما تدعي قائلة بحزم:

- مافيش أحلى من حاجات تحت في السعر والجودة.

وتحت أي محافظة القاهرة ومناطقها المتعددة، باعتبار أن مدينة 6أكتوبر بعيدة نسبيًا عن محافظة الجيزة، والقاهرة فيطلقون تعبير تحت أي محافظة الجيزة والقاهرة.

كان لابد أن أواجه الموقف بأي شكل، وهاتفتها مباشرة، استحلفها بالله أننى وعدتُ ولدى بتلك الزيارة، ولا يصلح إطلاقًا أن ترفض أو تعتذر بأي أعذار حتى لو كانت ضرورية. لكنها بكل سعة صدر، وحنو بالغ قالت برفق وهدوء:

- لا يا حبيبتي تنوري إنت وحبيب قلبي وابني التالت.

أخذنا التكتك إلى منزل أختي في الحي الراقي في الموعد المحدد للقاء وصعدنا السلالم الرخامية وضغطنا على الكونتر رقم 504، وجاء الرد على الفور بفتح البوابة الحديدية الضخمة، الفخمة، عند دخولنا البهو الواسع الرخامي المؤدي إلى السلالم ؛ حيث تقطن أختي في الدور الرابع؛ كل دور به أربع شقق، وأول ما دخلت، ضغطت على «كبس» لإضاءة النور؛ فرغم أننا كنا ما نزال في الرابعة عصرًا، إلا أنّ المكان كان معتمًا بعض الشيء، وفجأة نظر يوسف إلى اللمبات المنتشرة في السقف المزخرف والمضاءة، وأوقفني يسألني باستفهام واستفسار:

- ماما هي اللمض دي بتتحرق إزاي.. اللي بتولع بكبس واحد شعرت بالمباغتة، وتوقفت فعلا عن صعود السلالم، وسكت ثم قلت بنصف ضحكة تعجبًا للسؤال.

وأسرعت ببديهية أجيب بفذلكة :

- أول مرة حد يسألني السؤال ده.. يعني..

فأسرع يوسف يقول :

- يعني اللمبة المحروقة هنا، يغيروها كدا زي اللمض العادية بتاعتنا..

واستعدت توازني، وسرحت بخيالي، الذي يلهمني إياه خيال يوسف فقط

- لا يا حبيبي أبدًا، اللمبة المحروقة بتنزل لوحدها.

- ومين بيفتح لها الباب يا ماما..

- بتستنى لما حد يفتح الباب، وتخرج يا يوسف، وتروح الجنينة، اللي جنب البيت وتقعد في الجنينة.. ويجي الجنايني يرش عليهم ماية.. والجنايني يشتمهم يا ولاد الكلب، قاعدين في الجنينة ليه.. قوموا روحوا البيت.

- بس دي قصة للأطفال يا ماما.. ما ينفعش نشتم كده.

أضحك عاليًا، وقد بدأنا نصعد ببطء، وقد انشغل تمامًا بإتمام الحكاية :

- لأ يا يوسف ماهم أطفال ناضجين وأذكياء زيك.

- طيب والجنايني ح يعمل إيه معاهم؟

- يرش عليهم الجنايني ماية تاني ويقولهم

- يالا اجمدوا علشان تنوروا.

- بس الشمس العظيمة تيجي وتقولهم.. ماتزعلوش، ما تزعلوش أنا أنشفكم وتديهم شوية نور علشان ينوروا.. وما يبقوش محروقين، ويرجعوا ينوروا.

ويضحك يوسف، ضحكاته المتكررة، طويلا، طويلا، قائلا بفرح غامر:

- دي قصة جميلة قوي ياماما لما أروح أرسمها في الاسكتش بتاعي.

***

قيمة العمل
خرجتُ في الصباح المبكر قرابة الساعة السابعة صباحًا، للذهاب إلى العمل، الذي يأخذ مالا يقل عن ساعة إلا ثلث وقبل أن تغلق أبلة سميه الكشريه التي يبدو أنها لا تكره الآخرين فقط، بل تكره نفسها، لا تبتسم حتى للرغيف الساخن (السخن) على رأي المصريين، تقفل دفتر الحضور والإنصراف في الساعة الثامنة إلا الربع بالضبط، وتبدأ فى فتح دفتر التأخيرات إلى الثامنة والربع، وبعد ذلك، دون جدال أو مناقشة، أعود إلى المنزل، ويصبح يوم عارضة، وإذا لم يكن لديك عارضة تحول إلى التحقيق، ويحسب من رصيد الإجازات الإعتيادي.

لكن أكل العيش، جعلني أتآلف مع أبلة سميه الكشريه، وقانون العمل، فأيضًا يقول المصريين أكل العيش مر، وخِفْ تعوم، والرزق يحب الخفية، كنت أتفادى الشوارع المزدحمة، بعد أن استقل السيارة السوزوكي البيضاء إلى شارع زغلول في مشعل في آخر شارع الهرم  وأرتاد الأزقة والشوارع الجانبية للوصول إلي مقر عملي.

ومررتُ كالعادة بجانب صندوق الزبالة الضخم الأصفر اللون الباهت والشديد السواد والقذارة والرائحة الكريهة من الداخل.. من جراء إلقاء القمامة لعدة أيام دون تفريغه في عربة الزبالة الرئيسة التي من واجبها إفراغ مقلب الزبالة أول بأول حتي لا تتعفن بفعل التخمر البكتيري .. وتعودت على رائحته كلما مررت بجانبه كما تعودت على سميه الكشريه، وأصبح مقلب الزبالة وسميه الكشريه من نصيبي في الحياة.

فقلت الحمد لله قدر ولطف، وأثناء اقترابي من مقلب الزبالة جواز مروري إلى الشارع التالي حيث مقر عملي، اشرأبتْ برأسها من صندوق الزبالة، ارتعبتُ وصرختُ، كانت طفلة عمرها قرابة خمس سنوات أو أقل، سمراء سمرة فاتحة شهية، وعينيها زرقاوين وشعرها المعفر لكنه ناعم للغاية في جدائل بلون بني فاتح أقرب إلى الأشقر، واقتربت منها بانزعاج:

- إنتي بتعملي إيه؟

- إيه يا أبله.. بلم القزايز الفاضيه

- ليه علشان الشغل، بنجمعها أنا وأخويا وأمي علشان نبيعها.

نهرتها قائلة :

- اطلعي من صندوق الزباله

ردت بعدم مبالاة مستمرة في العمل بنشاط وجد قائلة :

- لسه ح ألم العيش، علشان اللي ينفع ناكله والباقي نحطه للفراخ

نهرتها مرة أخرى بحدة أقل :

- بقولك.. اطلعي يا ماما من صندوق الزباله.

- يا أبله قلتلك سيبني أشوف شغلي.

شعرت باليأس التام من لا جدوى الحوار والنصيحة مع هذه الطفلة التي تعرف وتدرك مدى قيمة العمل.. حتى لو كان في صندوق الزبالة ونظرت إلى الساعة، وجدتني تأخرت عن قدري البائس سميه الكشريه، وذهبت سريعًا، ألحق دفتر التأخيرات.

***

ريموت أم إنصاف
إن إنصاف صديقتي وجارتي، وزميلة دراستي إلى الثانوية العامة، حتى دخلنا الجامعة وكل منا ذهب إلى كلية بمجموع يناسب مكتب التنسيق، رغم أننا حتى ولو كنا نميل إلى الإلتحاق بهذه الكلية وليس غيرها، فأنا التحقت بكلية التجارة وهى كلية الحقوق التي تبغضها ولا تطيق دراستها الصعبة، والبعيدة كل البعد عن ميول إنصاف، التي تتقن الرسم وحلم حياتها دخول فنون جميلة، فهزمها المجموع من ناحية، وقدوم العريس المفاجئ الذي أصرت الأم على الموافقة عليه، فدخلت إنصاف كلية الحقوق عنوة، وتزوجت أيضًا رغمًا عنها، وعاشت وأنجبت كأي مصير فتاة طوع أهلها، وخاصة من لديها أم مثل أم إنصاف القوية الشخصية، وتحمل صفات وخصالاً تميزها عن أية أم أخرى، فقد كانت أم إنصاف، مغرمة بتخزين الخضراوات واللحوم وكل شيء في فريزر الثلاجة .. هذا غير الديب فريزر الذي يعج بكل الخيرات من كل أنواع الغذاء أسماك، لحوم، خضراوات، عصائر، حتى الثوم تأتي به وتفصصه وتقشره وتطحنه، وتحتفظ به في علب بلاستيكية وهلم جرا مع كل شيء متاح للخزين، والإحتفاظ به في الديب فريزر وفريزر ثلاجتين أخريين لديها، واحدة تضعها في غرفة نومها وثلاجة والديب فريزر في الصالة الطويلة المربعة مع الأنتريه وتسريحة بمرآة طويلة مصنوعة بنمنمات الأرابيسك العربي، بديعة الشكل ويجاورها بمسافة قليلة جزامة، وصندوق خشبي لونه بني تحتفظ به من عهد الجدة المتوفاة من زمن، تضع فيه الفوط الصغيرة والجوارب، متراصة في لكاليك حتي لا يختلطا مع بعضهما ونفتالين وبعض الرابسو رائحته زكية برائحة الفاكهة حتى لا يحدث عطن أو أي رائحة كريهة أو تلف من عتة الملابس.

كانت أم إنصاف القوية العزيمة، والمختصة بجدارة في كل أمور المنزل، تضع تلك المواد الغذائية، واستمرت حتى لو لديها الوفير منها، أحيانًا تفسد من طول التعليب والتبريد الزائد عن الحد وتلقيها ولا هى تطهيها أو تعطيها حتى للمحتاجين، حتى لأبنائها وبناتها فقد كان لديها ستة أولاد ثلاث بنات أكبرهن إنصاف صديقة الدراسة والجيرة، وثلاثة صبيان أكبرهم محمد الذي يعمل الآن في السعودية، وأم إنصاف لا تذهب أبدًا لو أعدموها إلاّ إلى أبعد سوق، سوق الكوبري في آخر المدينة أو سوق الإسكان الكبير الذي هو في وسط المدينة رغم أنها قريبة جدا من سوق (زنبو) علي بعد 50 مترًا من منزلها في شارع إسلام باشا الذي يتفرغ من شارع الجيار في مدينة بني سويف، وكواجب لابد منه حتى لو كانت الأم مثل أم إنصاف، تذهب إليها إنصاف يومين في الأسبوع وهكذا الآخريان، أم الصبيان كلما سنحت الظروف لزيارتها ؛ حيث الكبير في السعودية، كما ذكرنا، والآخران واحد يعمل ويعيش في مركز بوش الذى يتبع مدينة (بني سويف) والثالث يعيش في محافظة الإسكندرية.. ولا ترى إلاّ الابن الأوسط مرة كل أسبوع يوم الخميس دائمًا ؛ حيث يجتمع الثلاث بنات، اللائي جميعهن يقطن في محافظة بني سويف كل في حي ما فيها، مع الأخ الأوسط، لرؤيته على الأرجح، فمشاغل الحياة تفرض حالة من الحصار على الجميع، فيكون يوم الخميس فرصة للسمر والتندر والتفكه عن أمور الحياة، التي تحدث لهم جميعًا. بجو من السخرية، والمرح والإستغراب أحيانًا الذي يمتد في ليالي الصيف إلى بعد الواحدة صباحًا وليالي الشتاء إلى العاشرة مساءً .

ولأن إنصاف الكبيرة، الأم لا تخفي عنها شيئًا فمثلا تتحدث لها عن زوجة عبد التواب الصعيدي، وهذا  لقبه جارتها مني المفترية، أنها أحضرت لها فراخًا وماتوا وكلما أحضرت لها فراخًا تربيها تموت، وتندد بضيق بأن عينيها مدورتان وحسودة وربنا هاينتقم من نيتها السيئة إن شاء الله، وكيف أنها سألت محمد ابنها كم يتقاضى راتبًا في السعودية، ولم يقل لها وكم هى (الجارة منى) وقحة تأتي بعد يومين وتعطيها جبنة قريش وبتاو، وكأنها لم تتسبب فى موت الفراخ بعينها الحسودة وقلبها الأسود.

    أم إنصاف أيضًا، تحرص جدًا على شراء الجرائد، رغم أنها لا تقرؤها جميعًا، وتطلب من إنصاف، أن تحضر لها جورنال التحرير؛ لأنها لم تقرأه من قبل، وغالبًا ما تختار جريدة الجمهورية بالذات، وتضعها تحت الوسادة فتسألها إنصاف عن سبب هذا وهى تضع دائمًا المصحف، فتزغر لها الأم بعينها الذابلتين بفعل كبر سنها أنها تضع المصحف لتقرأ فيه، بعد صلاة الفجر، وبعد ذلك جورنال الجمهورية وتلكزها في فخذها ألا تنسى، أنها حصلت علي دبلوم معلومات وناظرة مدرسة الدواوين الابتدائية سابقا أي قبل خروجها على المعاش.

وفي إحدى الجلسات، التي لا تنساها إنصاف ؛ لأنها كادت أن تفقد عقلها مع أمها مما تم في هذه الجلسة كانت أم إنصاف تفتح التليفزيون، الذي لا يغلق إلا عند نومها في فترة القيلولة، أو في الليل وتدوس على أزرار الريموت التى لا تعمل، فعلت هذا أكثر من مرة، خبطته على خشب الكومودينو الموجود بجانب سريرها، فهى لا تفارق السرير سواء في مشاهدة التليفزيون، أو الطعام أو النوم، وأحيانًا تحضر صينية كبيرة وتقوم بتشذيب الخضار عليه.

لكن الريموت لا يعمل، سألتها إنصاف بعفوية سأذهب أحضر لك غيره من عند خالد البقال في أسفل المنزل، ورفضت أم إنصاف، وتهيأ لإنصاف أنها تخجل من تعبها للذهاب والمجيء، لكن المغزى كان مختلفًا وعميقًا للغاية، أخبرتها أنها لابد أن تأخذه معها إلى سوق الخضار عند عم فاروق البقال، ويركب لها حجارة الريموت بنفسه حتى يعمل، اشتعلت إنصاف غيظًا أكثر منه.. أداء المعروف راحة لأمها من هذا التصرف غير المنطقي بالمرة مع مجرد ريموت، له حجارة تُباع في أي مكان، بل هو عند البقال الذي في أسفل البيت، كيف نذهب به إلى سوق الخضار كيف ؟ أعادت الكرة مع أمها.. أن نذهب ونشتري حجارة وهمت بالوقوف للذهاب.. هاجت أم إنصاف، وارتفع صوتها تأمرها أن تجلس وتحضر لها قناة الحياة الحمراء من زر الريسيفر تشاهدها حتى تذهب غدًا إلى سوق الخضار.

هدأت إنصاف وخافت من أمها، التي مازالت لها هيبتها وقوتها مهما أخذ من عمرها، وفعلت ما أمرت به التزمتْ بإذعان واستسلام لابد منه، وبعد لحظات من الصمت، تحاول به إنصاف أن تستجمع أعصابها واتزانها مرة أخرى، حتى لا تغضب أمها، فهى أمها مهما قالت وفعلت وأمرت.. وقطعت الأم هذا الصمت الملتبس في عقل كلتيهما، وأخبرنها أن تذهب إلى المطبخ، وتحضر كوبين من النسكافيه البلاك، الذي أحضرته من أجل إنصاف ؛ لأنها تحب مذاقه جدًا، قامت إنصاف على الفورلتخرج  من حالة الصمت الذي أصابها بالخنق، والتوتر، وأثناء رشف النسكافيه البلاك، قالت الأم بكل برود لإنصاف التي أصبحت في موقف لا تُحسد عليه، إنها ستقوم بارتداء ملابسها لتذهب إنصاف معها إلى سوق الخضار لتشتري حجارة الريموت، ودون أن تتلقى أية إجابة من إنصاف، ارتدت العباءة والطرحة، وأمرت أن تهم وتنهي كوب النسكافيه، بُغتتْ إنصاف من المباغتة، ولعنت حجارة الريموت داخل نفسها سرًا، وكادت أن تصاب بشلل مفاجئ، وعادت ذاكرة أم إنصاف لمنى زوجة عبد التواب الصعيدي، وأشارت بيدها وملامح وجهها تتشدق وتـُمصمص بفمها وجسدها قائلة بسخرية شديدة :

الست مني راحت، الست مني جاءت حمدًا لله على السلامه ، وعلى دخلتها النحس الله يرحم الجلابية المقطعه والشعر الأكرت المنكوش وأبوها الأجري في أرض توفيق أبويا، وأمها الكلافة في بيت مرعي ابن عمي الكبير.. الله يرحم.. الله يرحم.

مهما مرت الأيام لا أظن، أن إنصاف صديقتي ستنسي هذا اليوم مطلقًا، وقد عادت إلى منزلها بعد أذان العصر بقليل.. ولم تفعل أي شيء من واجبات منزلها، دخلت منزلها بصمت طاغ، وهرعت إلى غرفتها، وأغلقت عليها بالمفتاح حتى لا تسمح لأي أحد بالحديث معها ولو بنصف كلمة وخلعت ملابسها، ونامت إلى أذان المغرب وهى تسب وتلعن حجارة ريموت أم أنصاف الفاجرة.

***

على الحدود
شيري العانس، بعد أنْ تجاوزتْ الثمانية والأربعين عامًا الآن، فأخذتْ هذا اللقب والصفة على الفور، تعارفنا على بعض في الجامعة، جامعة القاهرة، كلانا كان في كلية الآداب لكن هى كانت في قسم اللغة العربية، وأنا في قسم اللغة الإنجليزية، أحبت شخصًا معتوهًا من وجهة نظري لمدة تسع سنوات، وفي النهاية لا هو تزوج ولا هى تزوجت.

تزوجت أنا لمدة خمسة عشر عامًا، وأنجبت طفلتين، وطلقت، وعمري خمسة وأربعون عامًا، وأخذت مثل شيري لقبًا، ولكن بمسمى آخر، مطلقة، وظللنا أصدقاء العمر مهما حدث لنا من مصائب وأهوال، بعد أن حصلنا على تلك الألقاب، قررنا بالميثاق والعهد الذي لا يسقطه إلا الموت، ألا نتزوج أبدًا، هى تكتفي بعملها في وزارة التربية والتعليم التي تدر عليها دخلا ثابتــًا ومستقرًا تأمن به الحاجة لأحد، وبعد يأس الأم من زواج ابنتها شيري، أهدتها شقة مكونة من ثلاث حجرات ومطبخ وحمام سوبر لوكس في الدور الثالث من منزلها.. المكون من خمسة طوابق، حتي تأمن حياتها، ولا تتعرض لعراك الميراث بعد موتها، فتصبح شيري في مأمن من أي طامعين بحكم أنها بنت وحيدة مع أربعة صبيان، وخاصة أن الأب تُوفى من فترة ولابد أن الأم أيضًا ستموت، سُـنة الحياة..

كلانا من محافظة الفيوم ذات نفسها أي المدينة، لم نعش في قرى الفلاحين مطلقًا، منذ أن ولدنا بعد أن تزوجت عشت في القاهرة ؛ حيث عمل زوجي السابق، بعد الطلاق عدت إلى منزل أمي، وفعلت أمى فعلة أم شيري، أعطتني أيضًا شقة مستقلة مكونة من حجرتين ومطبخ وحمام سوبر لوكس ؛ لأعيش بها مع طفلتيّ، وأيضًا وظيفتي في وزارة التربية والتعليم تحقق لي ثبات مادي مستقر، بعد أن حصلنا كلانا علي الحرية الثمينة وقرار عدم الزواج، بدأنا نعيد أيام الصداقة القوية القديمة التي فترت في بعض الأوقات لظروف الحياة، وقهر الأيام، والحب والألم والفراق وللزواج والطلاق، والإنتقال من مكان إلى آخر حتى العودة إلى نقطة البداية وكأن كل ما حدث، ومر علينا ما هو إلا مجرد غبار ريح عاتية غمرتنا.. ثم أفقنا ورفعنا كل الأتربة العالقة فبانت الرؤية، وكشفت الحقيقة المرة وعدنا إلى أمهاتنا، كما ولدتنا نطفة بريئة.

شيري ليس هذا اسمها الحقيقي.. وإنما اسمها هناء كما صمّم الوالد أن يكتبه في شهادة الميلاد، أما الأم فكانت تريد أن تسميها شيرين، فأطلقت عليها عنادًا ومكرًا في تسمية الأب هناء، شيري، وانتشر وجال وصال بين العائلتين والشارع، والمدرسة حتي أحيانًا عندما نقل هناء، يستغرب الآخرون، من هناء هذه؟ آه تقصد شيري وبإضافة أخرى ابتدعها معدومو الذوق، الإحساس آه شيري العانس، شيرى مغرمة بمشاهدة الأفلام الهندية والجنسية واحتساء البيرة استيلا، التي تبدل فوارغها من عم رجب الشهير بالخمرة المضروبة واحتساء زجاجات البيرة استيلا الخضراء دون الكانز في اللقاء الأسبوعي فقط بيننا فى شقتها، وليس مع أي أحد آخر بتاتًا يتبعه بعض التدخين.. ولا أحد من أسرتها يعلم كما تظن هى بينما الأم والإخوة الأربعة يعلمون ولا يبالون.. ويقولون بحزن مسكينة أهه بتحط همها في أي حاجه ولا عيل ولا تيل هاتعمل إيه يا ناس، وتتمني شيرى أمنيات غريبة بعض الشيء، فأخبرتني مرة أنها تحلم أن تكون زعيمة ثوره، ويرفعوها على أكتافهم مثل الزعماء البارزين، وتظل تصرخ وتزعق في الشوارع والميادين، وتشتم في الحكومة، ومرة أخرى متناقضة تمامًا للأولى أنها ترقص رقصات الفالس الشهيرة وتدور في حنايا الأروقة وهى تراقص فارسها بكل حب ورومانسية، وتستمع إلى موسيقى باخ. وتغوص في عوالم سحرية أخرى .

كان بيننا لقاء أسبوعي لا يتغير موعده يوم الخميس، إلا حسب الظروف الطارئة أما المعتاد هو لقاء الخميس بيننا إما أن تأتي وتبيت عندي أو العكس.. فالأمهات يعلمن بمدى العلاقة القوية التي بيننا ولا يعترضن.. بالعكس يتألمن لحالنا، ويقلن بحزن أيضًا :

ـ مساكين آهم بيسلوا بعض يبقي لا راجل ولا ضل حيطة يتاويهم.

وقبل الذهاب إلى شقة شيري لنقضي وقتنا بين التسامر والحديث واحتساء البيرة الاستيلا الباردة بأكواب مشبرة بفعل البرودة، التي تضعها شيري في الثلاجة لتزيد مذاقها لذة ومتعة البرودة دون مكعبات الثلج، أمر على الأم التي تودني وتحبني كشيري بالضبط، وتقابلني بالترحاب والأحضان والقبلات، وتبدأ الحديث وتنهيه كما تريد، أخبرتني في مرة من المرات عن أزمة تؤرقها مع الفراخ التي تربيها أنه أصابتهم خرخريرة أي يعني صوتهم مخرخر، ويعطسوا ولا يشتهون الغذاء، أحضرت لهم دواء من الطبيب البيطري، بعشرين جنيهًا ولا فائدة، والسقف يقطر ماء عليهم، لا يرون الشمس العفية، زهقت وتأثرت لحالهم وتعبهم.. فوضعت لهم ماء بفنيك حتى يموتوا ويرتاحوا. وتصعبت من فراقهم وكادت أن تبكي، وواسيتها برفق وعللت أنها أنفلونزا الطيور المنتشرة الآن، وما عليها إلاّ أن تنتظر بعض الوقت، وتشتري غيرهم وتربيهم وإن شاء الله لن يموتوا.

وعادت على الفور لروحها الطيبة والمرحة وقالت ببهجة :

- يا ختي دا إنتي دخلتك حلوه- أميرة ومحترمة عمرك ما غلطتي في حد وكلامك كله شهد مكرر- ربنا يحميك ويكملك بعقلك اللي يوزن دهب..

شيري تحاول في بعض الأحيان، أن تتقمص دور التاجرة الشاطرة، عرضت علي بيع تليفزيون 14بوصة، وموبايل، وصلنا بعد الفصال الطويل إلي 650جنيهًا ثم تذكرتُ أنني لا حاجة لي للاثنين، وتركنا الموضوع رغم المعاناة التي بذلتها معي لإقناعي بالشراء، وضحكت وسبتني وذهبت إلى المطبخ لتعمل لي قهوتي المظبوطة من بن تركي، تشتريه مخصوصًا من القاهرة، عن طريق أخيها الذي يدرس هناك، وجلسنا على السرير نحتسي القهوة التركية اللذيذة، وفجأة قالت بمزاح أكثره جد : تعرفي نفسي في سرير مراتبه كاوتش جواها ميه وفيها مبرد، سخان للميه  قلت وأنا أضحك سخرية على تصورها الخيالى للسرير :

- ويا ريت واحد راجل معاه بالمرة وضحكنا وطرقنا علي أيدينا ثم قالت متأوهة:

- الحكومة وخدانا لفين.

- ايوه شفتي الأسعار غليت قوي.. دا جنان رسمي.

- يلا.. مش الناس ساكتة.. خليها تاخد فوق راسها.

- بس بردو .. الحكومة واخدانا لفين؟

    وقامت بإحضار مروحة صغيرة لونها لبني فاتح جميل غريبة الشكل واللون، ووضعتها بجانب ترابيزة التليفزيون المواجهة للسرير، وسلطت المروحة في وضع قائم على جلستنا على السرير.

- مروحة شكلها ظريق قوي بس مش بتلف دي ثابتة.

- لأ.

- طيب ما تصلحيها.

- صلحتها ب‍70جنيه ومفيش فايدة .. واستطردت إذا كان عاجبك أقفلها ونقعد في الحر يعني.

- لأ مش عاجبني، كنت اشتريتي مروحة جديدة أحسن

- تعرفي إمبارح كان يوم ايه 7/7/2010

- أيوه امبارح كان عيد ميلادي، إحنا من أكتر من عشرين سنة أصحاب وكل شهر تسأليني إنتي عيد ميلادك امتي، ويوم ما ييجي عيد ميلادي تقولي والله كان امبارح .. ولكزتني بالوسادة مشيرة بسخرية:

- وهيّ دي طقم الملاية الوحيدة، اللي باقية من ريحة الهدية اللي جبتيها يجي من عشر سنين.. ممكن تخرسي خالص.. إنت آخرك لمبة تنور بالجاز.. إنت إيه عرفك بأي حاجه

- طيب . شكرًا صديقتي الغالية.. إيه رأيك في الوحدة قصدي الفراغ.

قالت بكبرياء وشموخ :

- ماعنديش فراغ خالص بخرج، براعي أمي، بدي دروس خصوصية على بسيط، ودلوقتي بتعلم تفصيل علشان أخيط هدومي بنفسي.

- ماتتجوزي عصام.

- ما تتجوزيه إنت وتحولت إلى نمرة تنقض عليَّ.. ولا بتديني فضلتك علشان عارفة إنــه ح يموت عليكي إنت.

- اخص عليكي.. ليه بتقولي كدا..

- أمال قصدك إيه علشان بقيت عانس، ومش لاقية فرصة كويسة وإنت مطلقة، وحلوة وخلفتي.. ومدرسة E قد الدنيا.

- تفتكري دا بتسميه إيه شيري..

- قالت بفذلكة:

- دا بقي يا حبيبتي اللي بيسموه المحك، كلنا قبل المحك كنا حاجة، وبعد المحك بقينا حاجات كتير متلخبطة وصعبة علينا قوي إن إحنا نفهمها.

- ما سألتنيش عن هدية عيد ميلادك.

- انت لسة فاكرة يا مجنونة..

وبسرعة أخرجتُ إسطوانتين وأشرتُ لها بالأولي تحتفظ بها لتشاهدها مع نفسها براحتها إسطوانة الحصان الأسود مجازًا لأفلام السكس المشهورة والذائعة الصيت. والثانية وضعتها في اللاب توب حتى نستمع إليها.. أغنيتها المفضلة كانت تبحث عنها للاحتفاظ بها أغنية على الحدود لفرقة الأصدقاء بقيادة الملحن العظيم عمار الشريعي، وغناء حنان ماضي، علاء عبد الخالق، مني عبد الغني قامت تقفز على السرير وتصرخ من الفرحة قائلة :

علي الحدود .. ياربي بحبها جدا جدا..

وذهبتْ تحيي سهرتها بأكواب البيرة الفارغة المشبرة، استعدادًا للاحتفال بعيد ميلادها الذي لا يتذكره أحد غير أمها، وتكتفي بالتهنئة اللفظية وفي ثناياها حسرة على عمرها الذي انقضي دون معنى أو جدوى من غير زواج أو طفل أوطفلة تخلد وتحيي سيرتها الزائلة لابد، وأن هذه المرة من المرات النادرة.. لمرات عديدة  لم أحضر لها شيئـًا كما ذكرت شيري.. من قبل ما يقرب من عشر سنين لا أذكر عيد ميلادها إلا بعد فوات الأوان.

وأنصتنا إلى الأغنية، بإستمتاع وتفاعلنا معها وتقمصنا دور الكورال (الغناء الجماعي)

واحنا ما شيين على الحدود

مستمرين في الصعود

ابتدي النيل والريح وأول عمرنا

وابتدي شيء ينجرح جوه الوجود

وابتدينا أسئلة مالهاش حدود

نمنا على الشباك ؟؟ نخبى دمعة فرت مننا

...... ...... ...... ....

شيري الفاتنة تـُحركين داخلي مفردات كثيرة، وأنا أختبر مشاعرك المتناقضة بين السخط والفرح، التي هى في أصلها داخل كل واحد منا وأنا وإنت نتغافل عنها أغلب الوقت من أجل أن تستمر الحياة بكل ما فيها من ابتذال ومهانة.. لكني أعشق صدقك، وصراحتك وحالتك كلها أمامي حقيقية.. وأنا أعرف ذلك جيدًا يا صديقة عمري، كيف تحبين، وكيف تشعرين بي وبغيري.. والأهم كيف تشعرين بنفسك.. أنا والله لفخورة وممتنة بك.. إنتِ يا من تخطئين في الحديث، ولا تعرفي ما هو المخ، ولم تسمعي عن النظام العالمي الجديد، وتسمي الراديو رادوي وتلبسين أحيانًا ملابس غريبة، وتجرين في الشوارع ولا ترين الناس إلا بالنظارة ؛ لأنهم أقزام.. يا من تنسين قفل سوستة الجيب ولا تعرفين أسماء الشوارع، وتحتفظين بأعقاب السجائر.. وتموتين من السكر.. وتقولي لم يحدث شيء.. أنت غنية.. أنت غنية..

شيري معك عشت أجمل لحظات حياتي وأتعسها، أحبك حتى بعد أن أموت.

***

عدوى المرح
من أقوال السير تشارلز سبنسر تشابلن  الفنان  شارلى شابلن الممثل الكوميدى الإنجليزى ومخرج الأفلام الصامتة الشهير بدور} الصعلوك{ و}عشرين دقيقة من الحب قائلا { قبل وفاته :

      ـ يوم  بدون سخرية هو يوم ضائع

       بعد أن قام بتمثيل دور هتلر قال :

       ـ مستعد أن أفعل أى شيء لأعرف رأى هتلر فى هذا

    يكتب سومرست موم عن الأسطورة شارلي شابلن :

    شارل شابلن:

 فكاهة بسيطة، حلوة، غير مفتعلة، ومع ذلك يراودك الإحساس طوال الوقت بأن وراءها حزنًا عميقًا. وأن فكاهته مغلفة بالحزن.

وكما كان يوجد شارلي شابلن، الذي لن يتكرر مرة ثانية في التاريخ كان يوجد أيضًا رابطة عدوى المرح الثلاثي الشهير في قصر ثقافة مسرح  محافظة  بني سويف للهواة. كفاح ومواهب وميلاد، أصدقاء جامعة واحدة، وكلية واحدة، كلية التجارة، وعاشقين المرح الفكاهي وقدوتهم فى المرح شارلي شابلن.. وكانت كل آمانيهم أن يمثلوا ويعبروا عن المرح والفكاهة من خلال المسرح، يمثلون في أي مكان، وبدون نقود في أحيان كثيرة مثل  التمثيل فى  مسرح الجامعة،أو في مسرح قصر ثقافة بني سويف، ببا، أهناسيا، الفيوم .. هم يعشقون المسرح من أجل المسرح فقط لا غير، ولديهم إيمان برسالة المسرح الفكاهي لابد  أن يؤدوها مهما حدث. حتى جاءتهم الفكرة الذهبية بتمثيل حياة من خلق مرح العالم كله بمرحه وفكاهته التي لا تنافس حياة شارل شابلن كما فعل فى أفلامه الشهيرة عندما جعل  من هتلر الزعيم الألمانى  سخرية للعالم بفيلمه (الديكتاتور العظيم)،وتعهد الثلاثة أن يقوموا بعمل المسرحية، كالفيلم الصامت إلى حد ما، الذي صنعه معجزة القرن شارل شابن،مع الإستعانة بالديكور والموسيقى والإضاءة والماكياج اللازمة كأدوات مسرحية تتمم العمل.

وفعلا  كتب كفاح حوار المسرحية  الذي أغلبه استقاه، من مقولات لشارل شابلن، على لسانه بعد أن استعانوا بقراءة كتاب الراحل الجليل صلاح حافظ، في ترجمته لمذكرات شابلن (كتاب الهلال-سبتمبر 1965)،مع استخدام الديكورالمتنقل، بموتيفات  خشبية بسيطة خفيفة للإنتقال من فصل  مسرحي إلى آخر ؛ حيث تجسيد بسيط ومرح، لحياة شارل شابلن الفكاهة الكبرى ومواهب قامت بعمل الموسيقى التي تناسب كل موقف مصيري،عن حياة شارل شابلن، أما ميلاد سيقوم بأصعب مهمة، وهى تمثيل دور شارل شابلن ويضع مثل شارل المكياج  اللازم ليشبهه إلى حد كبير، ويرتدى البدلة والقبعة اللاتي اشتهرا بهما شابلن، ويخطو مثل خطواته وحركاته المميزة المعروف  بها شابلن أثناء التمثيل، بعصاه الشهيرة  وأيضًا كفاح ومواهب يعاونوه في تمثيل الأدوار الثانوية  كدور الأم، الأب، الأصدقاء، وهكذا.

وكانت المسرحية مكونة من ثلاثة فصول مسرحية قصيرة : الأول يحكي عن أبيه السكير وأمه الممثلة والمغنية (هانا تشابلن) التي فقدت صوتها وأصابها خلل عقلي، وعاش شابلن وأخوه مع أمهم في ملجأ (لامبلث) وعمل  ممثلا، في فرقة مسرحية هزلية للأطفال، حتي سافر أمريكا 1918 وأنتج فيلمه الأول (حياة كلب)، وفعل كل هذا، رغم قمة الفقر والمأساة، التى عاشها الأخان ومأساة الأم، ونفذها الأبطال الثلاثة، بشكل مسرحي فكاهي لشارل شابلن الممثل وهو يتفوه بحوارات قليلة  وأغلبها يعتمد على تقليد حركات شابلن بعصاه المعروفة، ومعاونيه كفاح ومواهب يشاركونه الحوار القليل الذى أكثره  تعبيرًا بالحركات والإشارات مثلما كان  يفعل شارل شابلن .

ثم فيلم (كتفا سلاح) الذي سخر فيه من الحرب، ثم فيلمه الشديد الأهمية (أضواء المدينة) وهنا ينتهي الفصل الأول، ويبدأ الفصل الثاني، بالإعلان عن فيلمه الشهير (الديكتاتور العظيم) عن الزعيم النازي هتلر، الذي واجه فيه صعوبات جمة سواء لعرضه في أمريكا أو إنجلترا، ولكن شارل كان مصممًا على أن يواصل طريقه، فهتلر يجب أن يكون مادة للضحك ؛ حيث كان شابلن مصرًا علي السخرية من خرافاتهم الغبية عن وجود عنصر ذي دم نقي، كأنما يمكن حقًا أن يوجد في العالم مثل هذا العنصر».

ثم دعوته لحضور مؤتمر لدعم روسيا في حربها ضد الألمان ثم زيارته للندن ومقابلته مع رئيس الوزراء تشرشل والزعيم الروحي للشعب الهندي (المهاتما غاندي) الذي قال له شابلن :

ـ إنني أقف بعواطفي مع آمال الهند ونضالها من أجل الحرية، ولكنني برغم ذلك أشعر بشيء من الحيرة بسبب نفوركم من الآلات.

فقال غاندي :

ـ «أفهم أهمية الآلات، ولكن على الهند قبل أن تحقق هذه الأهداف أن تخلص نفسها أولا من الحكم البريطاني، وهذا هو السبب في أننا جعلنا الواجب الوطني على كل هندي أن يغزل قطنه وينسج ثوبه بنفسه حتى نتخلص من التبعية البريطانية لقد جعلتنا الآلة تابعين لإنجلترا، والطريق الوحيد لتحرير أنفسنا من هذه التبعية هو أن نقاطع السلع المصنوعة آليا».

وهنا ينتهي الفصل الثاني، من مسرحية عدوى المرح، عن روح الفكاهة الشهير، شارلي شابلن.

ويبدأ الفصل الثالث، بدخول والدته إلى المستشفي، وتحسن حالتها الصحية، والذهاب إلى نيويورك، لتعيش مع ولدها الفنان،الذى أصبح معجزة القرن العشرين .. والبقاء بها إلى أن ماتت بعد عامين، من حضورها أثناء انشغال شابلن بإعداد فيلم (السيرك)،حيث تلقي خبر وفاتها.. فأزال آثار الماكياج وذهب إلى المستشفي فكتب وهو يتذكر هذه اللحظات {حتى بعد الموت كان تعبير وجهها يبدو مهمومًا،كما لو كانت تتوقع المزيد من الآلالم،  وكم كان غريبًا أن تنتهى حياتها هنا على مقربة من هوليود،بكل قيمها الخرقاء،وعلى مسافة سبعة آلاف ميل من {لاملث}موطن تعاستها ؛ حيث الملجأ الذى عاشت فيه، وبدأ يداهمنى  فيض  من الذكريات عن كفاحها طول الحياة،ومعاناتها وشجاعتها، ومحنة عمرها الضائع فبكيت، فبالرغم  من تدينها كانت تحب الخاطئين، وترى نفسها فيهم ولم يكن من طبيعتها، ذرة من الفظاظة،وما من تعبير لاذع جرى على لسانها، إلا وكان بليغًا لمقتضى الحال، وعلى الرغم من حياة الفقر فإنها حمتنى وأخى سيدنى من الشارع،وجعلتنا نشعر بأننا لسنا نتاجًا عاديًا للفقر، بل أشخاصًا متفردين وممتازين، ثم استدعته أكثر من مرة (لجنة النشاط غير الأمريكي) يتهمونه بالشيوعية والتآمر على أمريكا، التي عاش بها شابلن أكثر من أربعين عامًا. حتى قرر ترك أمريكا نهائيًا قائلا: (لن أعود لأمريكا ولو ظهر فيها المسيح).

وهنا يقفل الستار وتنتهى المسرحية  فعليًا، ويُفتح  الستار مرة أخرى وميلاد ما  زال يمثل دور معجزة القرن العشرين  شابلن، ويتحرك علي المسرح مقلدًا شابلن، ويشاركهما مواهب وكفاح الذين قاموا بكل  الأدوار الثانوية من الأم، الصديق، غاندي، والمحقق، ويباغتهم ميلاد وهو ما زال يمثل شابلن بسؤال،عمَنْ يستطيع فيكما، أن يقول كلمة من خمس كلمات بها شارل شابلن، فتجيب  كفاح بحدة:

 هذه جملة صعبة للغاية قلها أنت :

 فيرد ميلاد بحذق:

ـ على شرط.. إذا قلتها مَنْ يستطيع أن يكررها قولاً عشرين مرة دون أن يخط‍ئ

 فقالت مواهب بسرعة :

ـ أنا صديقي شابلن العظيم

 فيقول ميلاد علي الفور :

- إذا هى شادى شايل  شنطة شارل شابلن ثم وجه حديثه لجمهور الصالة الذي هاج وماج   بالضحك من إتقانه تمثيل روح شابلن في الحركات والتحدث قائلا بخفة ورشاقة :

- هل لدي أحد القدرة أن يشارك المرح مع شابلن حتى يصبح عدوى بين الجميع.

وهاجت وماجت الصالة من ضحك الجمهور ،وبعضهم يحاولون أن يقول الجملة  المكونة من خمس كلمات عشرين مرة شادى شايل شنطة شارل شابلن.

وقد تحولت أعظم مأساة إلى أعظم فكاهة بفضل صاحب الأسطورة شارلي شابلن الفنان والإنسان جدًا جدًا في  مسرحية عدوى  المرح.

ملحوظة:

هذه المعلومات المضافة إلى القصة من مقال للكاتب الكبير طلعت رضوان بعنوان شارلي شابلن.. الإنسان والفنان في جريدة مسرحنا الموافق الإثنين 10/11/ 2014العدد(24) الفنان شارلى شابلن وُلد فى 16أبريل عام 1889وتُوفى يوم 25ديسمبر 1977بعد أن بلغ من العمر ما يقرب من ثمانية وثمانين عامًا ولاقى شابلن نجاحًا منقطع النظير.

 



[1] ) مقاطع من الحكاية السابقة من ملحمة الحرافيش ل‍ »نجيب محفوظ».

[2] ) نفس المرجع السابق.