قهـوة
قهوته تدوم. لذا يبدأ بها صباحَهُ باكراً، ويُكملُ نصفَها في منتصف النَّهار. تُلازمه. ربما تكونُ رائحةُ طزاجتِها الأولى هي ما يجعلُهُ يستمرُّ في ارتشافِها رغم بُرودتِها، وربَّما هنالك أشياءُ أخرى لا يُفصحُ عنها. ربَّما يشعرُ بالواجبِ والمسؤوليَّةِ تجاهها. قهوته مسكوبة في كوبٍ من ورق؛ يتغيَّرُ لونُهُ وشكلُهُ وحجمُهُ كلَّ يوم بحسب اختلافِ «كشك» الشِّراء. يقضيان معاً نهاراً كاملاً! إلّا أنَّهُ يترُكُها على سطح طاولةٍ، أو عند أوَّلِ حافة متى انتهى النَّهار. يتركها دون رشفةٍ أخيرة أو حتى كلمة وداع. يتركها ليعودَ إلى عالمِهِ؛ واثقاً أنَّ كوباً ورقيّاً آخرَ من القهوة ينتظره في أحد الأكشاك، غداً وبعدَ غدٍ آخر وآخر!
تَعـارُف
لطالما كان لبابِ مكتبها يدٌ تقبض عليها كلما أرادت الدخول أو الخروج. يدٌ كغيرها من أيدي أبوابٍ بالمئات. المفتاحُ أيضاً، لا علامةَ فارقةَ فيه تجعلُ ذاكرتَها تحتفظ بتفاصيله! كان مجرَّدَ مفتاح! اليوم، كلُّ شيءٍ تبدَّل! اعتادت أن تكونَ وحيدة، والآن أصبح لها رفيق. أصبحَتْ يدُ البابِ سحريَّة، وازدادت تفاصيل المفتاح وُضوحاً. يَدُها التي تمسك بالمفتاح، ويَدُهُ التي تشدُّ يد الباب، تآلفتا أخيراً. تآلفتا عند حافة الإغلاقِ والخُروج مرة بعد مرة. هو يُعينُها بيدٍ تُصافحُ يَدَ الباب. ويَدُها تُديرُ المفتاحَ باتجاهِ حركةِ عقاربِ السّاعة. يَدُهُ تجذب البابَ لإحكامِ إغلاقِهِ، ويدُها تتعرَّفُ على المفتاحِ مُتلمِّسَةً خطوطَهُ وتفاصيلَهُ مع كلِّ دورانٍ ودقَّة قلب.
شوق
حين يضعُ نظارتَهُ الطبية، كعادته أثناء القراءة، يُدركُ أنه يرى الحقيقةَ عن كثب، لكنه لا يُلقي لها بالاً. لنظارته عدسات مستطيلة الشكل، وخيطٌ سميكٌ يلتفُّ حول عنقه. خيطٌ يشدُّ نظارَتَهُ من ذراعيها ليُدلِّيها باستنادٍ بسيطٍ على أحدِ أزرارِ قميصهِ الغامق في زرقتِهِ. عندما يتململُ مُستدركاً وضعاً يريحه في المقعد، تتأرجحُ النظارةُ على وقع الحَرَكة، ويحتكُّ إطارُها بزرِّ القميصِ مُصدِراً «تكّاتٍ» تُشبهُ دقّاتِ قلبٍ غير منتظمة. ما يراهُ الآن لا يشبه الحقيقة التي رآها عبر نظارته: انعكاسُ صورتِهِ على شاشة الحاسوب يُنبئ بشوقٍ لا يكادُ ينجلي حتى يبدأ بالتلاشي. يتذكَّرُ محبوبَتَهُ الغائبة لأسبابٍ يعرفُها الكونُ كلُّهُ ويجهلُها هو فقط. يتخلى عن النظارةِ بخيطِها السَّميك، ويضمُّ أجزاءها ليدسَّها في الحافظة الجلدية بنية اللون. يسترجع أناملَ محبوبَتِهِ الرَّفيعة بينما تستجيبُ لإثارة عنقه أثناء جلوسه إلى حاسوبه، فتأتيهِ خلسَةً من وراء ظهره، وتنفخُ في أذنهِ شهوةً طافحة بالدَّلال.
يستذكرُ هذا كلَّه، يُفعِّل حاسوبه، ثم يشرع بالكتابة، مُستهِلّاً إيّاها بـ:
«هل الشوقُ تُهمة؟ أتعرفين؟»
وتتوالى الكلمات...
غيـاب
كانا واقفَيْن لحظة انسكبَتْ القهوةُ على معطفِه الأسود، بينما تعاين خطوطاً عند زاويتي عينيه. فهو عندما يبتسم تبتسم معه تفاصيلُ جسدِهِ كلِّها وتتفتَّح: تزدادُ خطوطُ عينيه اللامعتين وضوحاً، تهتزُّ كتفاهُ، ويرتسمُ على قسماتِهِ ما يشي بحنيـنٍ إلى ضحكةٍ اعتادَ أَنْ تغمُرَهُ منذُ وقتٍ قريب. انسكبَتْ قهوتُهُ مُتَّـخذةً خطّاً مُتذبذباً من قطراتٍ سيتركُ أثرُها رائحةً وبُقَعاً داكنة على معطفِهِ ما لَـمْ يُسارع إلى تنظيفه. بدا منزعجاً، ربما لأن معطفه ما يزال جديداً. راجعت معه تفاصيلَ انسكابِ القهوة. تحدَّثا عن أمرٍ ما لا تذكر منه سوى أنه يتعلق باللون الأزرق. أكانا يتحدثان عن البحر، السماء، أم ملاءات السرير التي ما جرؤت على الحديث عنها!
اهتزَّ ساعِدُهُ فجأة فانسكَبَتْ القهوة.
ربما حدث هذا إثر لمسةٍ طائشة من يدها ليده، حين ناولتْهُ كوب قهوته الكرتوني صباحاً. شردت، لكنه استدرك شُرودَها بتنبيهها إلى التماعِ عينيها. عندها أحسَّت: «شيءٌ ما يُكتَبُ في داخلي الآن»، ثم وجدَتْهُ يخبرها بثقة أنها ستكتبُ عن قهوته. كيف عرف؟ دسَّت يدها في حقيبتها لتُناوِلَهُ منديلاً ورقيّاً اعتذر عن أخذه. التمسَتْ له عذراً: «لا بُدَّ أنه يحتفظ بمنديلٍ ما في جيبه».
هكذا تسلسلت تفاصيلُ لقائهما المقتضب إلى جانب الطريق. حدَّثَتْ نَفْسها بثقة عالية، رغم عدم اكتراثها بصوتها الذي عجز عن الكلام إلا سرّاً. لحظتئذ، جاءها صوته المـُبتسر والعجول: «أراكِ غداً».
سكنَتْ مُحاوِلَةً التشبثَ بالغد القادم.
كان صادقاً بالفعل،
لكنه من فرط صدقه غاب!
عِنـاق
رغم مُواظبته على مُمارسة الرياضة، إلا أنَّ «كرشاً» صغيرة تُعاندُ لتظلَّ ظاهرةً مهما حاول إخفاءها بطريقةِ جُلوسٍ أو وِقفةٍ مُوارِبَة! لا يعلمُ أنَّ «كرشه» تلك هي التي اجترحَتْ في خيالها طريقاً للتفكير في شكلِ حضنه. طلبَتْ منه، في جُرأةٍ غير مسبوقة، أن يُريها يَدَيْه. استجابَ والأسئلة تغمره. دقَّقَتْ النَّظرَ فيهما وشردَتْ، مع يقينِها غير المُعلَن بأنَّ بوابةَ العناقِ كفّان. حاوَرَتْ عيناها أسرابَ الفرحِ الصَّغيرة المرسومة كنُسورٍ بيضاء طائرة على ربطةِ عنقه المُوشّاةِ باللون الكحليّ. شَرَدَتْ مُجدَّداً؛ إذ لَفَحَها هواءُ السَّماءِ السّابعة حين عرفَتْ طريقَها إلى صدره.
وعانقتْهُ، مُذيبَةً بذلك كُلَّ العوائق.
كان ذلك حُلماً.
«نوتيلا»
كَمَنْ يتفقَّد أنفاسَهُ في فِراشِهِ، ليجدَها تاهَتْ وكأنها لم تخرج من صدرِهِ. يُحاولُ لملمةَ أطرافِهِ، فيتحوَّلُ إلى «كُرَةٍ» في ثوانٍ معدودة! يُعاودُ المحاولةَ بِمَدِّ جسدِهِ كاملاً إلى حيثُ تصطدم قدماهُ بحافة السَّرير. سريرُهُ كبيرٌ يتَّسِعُ لاثنين. المِلاءاتُ الزَّرقاءُ المـُتَثنِّيَةُ لا تكفُّ عن تذكيرِهِ برائحتِها حين كانت تغفو إلى جانبه. اعتادَ أن تسلبَهُ ثلاثةَ أرباعِ السَّريرِ الكبير، تارِكةً لهُ ربعَهُ المتبقّيَ لينامَ فيه. ألِفَ الأمرَ إلى الحدِّ الَّذي جعلَه لا يهنأ في نومه إلّا إذا استقرَّ في ربعِ السرير، وترك الباقي لغيابِها. اعتادَ على ذلك حتى في مرضِهِ! هو الآنَ وحيدٌ في فِراشِهِ إلّا مِنْ: علبةِ مناديلٍ ورقية إلى جانبه، عدَّة وسائد انتظمت بشكلٍ طوليٍّ وعرضيٍّ تُغوي النَّفْسَ بالَّذي مضى، وعلبةِ «نوتيلّا» تُذَكِّرُهُ بِفرحِها الطُّفوليِّ كلما أشاحَتْ بوجهِها عنه وغرقَتْ في تناولِ الشوكولا التي يحبّ.
يخفق قلبُهُ بتسارعٍ كلما استعادَ لحظاته معها، خاصة تلك التي نسجاها معاً على السرير. لا شيءَ يُثنيهِ عن وضعِ كفِّهِ أمامَ شفتيه، تماماً كما كانت تفعلُ كلما مرض. كانت تتصور أنها بذلك تقيسُ درجةَ حرارةِ حُبِّهِ لها أثناء مرضه. ثم تعاودُ الحركةَ ذاتها عندما يشفى لتتأكَّد؛ وتُكرِّرُ ذلك كَمَنْ تلتقطُ زفيرَهُ لتفرُكَهُ جيِّداً بين راحَتَيْها، وتَشُمَّهُ بملءِ روحِها.
بهذا يكونُ مرضُهُ فترةً تمارسُ فيها طقساً من الجـنون لا ينافِسُها في حِدَّتِهِ أحد.
يتَّسعُ السَّريرُ كلما غفا فيهِ وتعرَّق، ويتَّسعُ أكثر كلما ازدادَتْ شِدَّةُ مرضِهِ وطالَ غيابُها عنه. يوقنُ أنَّ الأمرَ كلَّهُ مرهونٌ بشيءٍ يجهلهُ الجميعُ ويعرفهُ هو فقط. يُعاودُ البحثَ عن أنفاسِهِ. لكنه، هذه المرَّة، يشعرُ بشيء ما يناديهِ: أهو صوتُها؟ أم رائحتُها؟ أم أنفاسُه؟
يتركُ ربعَ السريرِ الذي اعتادَ المكوثَ فيه، ويزحفُ عبرَ بقيةِ اتِّساعِه، مُعتقِداً أنه يلهثُ خلفَ رائحتِها. يجدُ علبةَ «النوتيلّا» في انتظاره! يفتحُ غطاءَها، يدسُّ إصبَعَهُ، فيخرُجُ مُغَمَّساً بالشّوكولا الذائبة ليضعَهُ كاملاً في فمه مُطبِقاً شفتيه.
ينامُ على هذه الوضعيَّةِ، آملاً أنَّ طيفَها سيزورُهُ حالَ انثيالِ حُلمِه!
هلا عددْتَ الخرافَ معي هذه الليلة؟
الأحد: يقرعُ صوتُهُ أجراسَ الكنائس، مُعلِناً قُدومَهُ إلى العمل، عندما يرسلُ لها «صباح الخير» عبر هاتفه. يقودُ سيارتَهُ بحذر، ويترفَّعُ عن «ألواحٍ» من البشرِ تمرُّ أمامَهُ؛ مُتنبِّهاً إلى ضرورةِ مُراقبةِ الطريق جيداً، كي لا تطأ عجلاتُ سيارتِهِ أقدامَ المارَّة في الطريقِ المُكتظَّة. تمرُّ ساعاتُ العملِ بتعجُّلٍ ملحوظ، ويُسرعُ خارجاً من أسوارِ المكانِ، تاركاً لهفَتَها عليهِ خلفَهُ.
الإثنين: يغيبُ بوعيٍ عن عملِهِ ودون وعيٍ عنها. ينزلُ الدَّرجاتِ المؤدية إلى «السوﭘـرماركت» أسفل منزله بتثاقلٍ واضح لشراء السَّجائر تلبيةً لرغبةٍ مُلِحَّة. يرنُّ هاتفُه. يتعمَّدُ تجاهُلَ الاتصال، إلّا أنَّ تاءَ المتَّصلةِ المربوطة تُجبرُهُ على الرَّدِّ. إنَّها رفيقةٌ تدَّعي صُحبتَهُ، أمّا هو، فلا يزالُ يُمرِّنُ أذنَهُ على صوتِها. «نلتقي»: هكذا يَعِدُها قبلَ أنْ يُغلقَ الخطَّ. يشتري السَّجائر، ثمَّ يصعدُ الدَّرج. المصعدُ مليءٌ بأثاثِ الجيران القديم. سيرحلون قريباً. هكذا عرف من زوجته. أشعلَ سيجارةً في عتمةِ حجرةِ نومِهِ، وفكَّر. فكَّرَ طويلاً. فعَّل حاسوبَهُ وأرسَلَ لها: «لن نلتقي» بتبريرٍ وشرحٍ مُقتضبَيْن. ثمَّ غفا.
الثلاثاء: يصلُ عملَهُ مُتأخراً فلا تلمَحُهُ. ويغادره باكراً فلا تلمَحُهُ، أيضاً.
الأربعاء: يختفي تماماً خلفَ زكامِهِ واحتقانِ حلقِهِ. يُداومُ على شُربِ القهوةِ رغم ذلك. لا ينامُ باكراً لفرط التفكير. تُثيرُهُ نكتةٌ ماكرة بعثها له أحدُ أصدقائِهِ. يُرسلُها لها عبرَ رسالة نصية. يُطفئُ هاتفَهُ موقِناً أنَّها قرأَتْ مُستهلَّها فقط، ولَـمْ تُكملْ لفرطِ الخجل!
الخميس (قبل ساعةٍ من اللقاء): تُباغتُهُ باتصالٍ سرعان ما يُجيبه. يأسِرُهُ صوتُها الدَّفّاق حينَ تقفزُ كُلُّها إلى أذنِهِ عبرَ سمّاعةِ الهاتفِ، مُعلِنَةً بغُنجٍ وصَخَب، أنَّه، وبحسبِ ما تقولُهُ حضارةُ المايا: غداً بدايةُ النهاية! لذا ينبغي أن تلتقيه مرَّة أخيرة قبل بدءِ المرحلةِ الجديدة! يُثيرُهُ ذلك دون أن يُصرِّح.
لقاءُ الخميس: تصلُ قبلَه رغمَ أنَّهُ وَعَدَها بِوُصولٍ مُبكِّر. يلتقيان في المكان نفسه: «كشكُ قهوتِهِ وفطائرِها». الجوُّ عاصف، هكذا يلاحظان لحظة التقيا! ألأنَّها نهايةُ مرحلة؟ فكَّرا دون صوت. أرادَتْ أنْ تخبرَهُ أنَّ غيابَهُ فاقَ كلَّ فجائعِ العالَم! وأنَّ «الفانيلّة الرَّماديَّة» التي يظهرُ طرَفُها، على غيرِ العادة، مِنْ تحتِ «كنزته»، أثارَتْ حفيظَتَها وشهوتَها في الوقتِ نفسه! ولكنه بدلاً مِنْ أنْ يُصغيَ لما تحكيهِ عيناها أسرَّ لها بشيءٍ دافئ لَـمْ يَقُلْهُ صراحةً. أصرَّ على دفعِ الحسابِ هذه المرَّة، تماماً كما في كلِّ مرَّة، وهو لا يدري أنها لو امتلكَتْ قدرةَ تحنيطِ الطعام الذي يشتريهِ لها لفعلَتْ دونَ خجلٍ أو تردُّد! تواعدا على اللقاء مُجدَّداً عندما ينتهي العالمُ ويبدأ آخرُ جديد، ثم افترقا والرّيحُ تعصف.
ليلُ الخميس: ترسلُ لهُ كلمة «:ريحانة:» فيُرسلُ لها أيقونة «:غمزة:». يَمضي وقتٌ طويلٌ على مُكوثها في الفِراش. يَمضي وقتٌ طويلٌ على مكوثه في الفِراش. تتمنّى لو أنَّ جُبنَها يتلاشى قليلاً هذه الليلة فقط، ليطلعَ صوتُها حاملاً شوقَها المُغطَّسَ بالأَرَق. تبدأ بِعَدِّ الخِراف كما العادة، وتودُّ لو تجرؤ على سؤالِهِ: «هلّا عَدَدْتَ الخِرافَ معي هذه الليلة؟».
نهارُ الجمعة: يمرُّ الوقتُ بطيئاً ومُمِلّاً إلّا من صورةِ خيطٍ أسودَ يتدلّى من زِرٍّ يسكنُ الكُمَّ الأيمنَ لمعطفِهِ الأسْوَد. تتذكَّرُ كم اشتهَتْ شمَّهُ؛ لطالما آمنَتْ بوُجوبِ الرّائحةِ للجماداتِ وكلِّ الأحياءِ على حدٍّ سواء، وكيفَ لا يكونُ هذا صحيحاً وهو يرتدي معطفَهُ والخيطُ يتدلّى منهُ بسوادٍ يثيرُ ولا يهدأ! ودَّتْ لو تقصّ لهُ الخيطَ بنفْسِها لتحتفظَ برائحتِهِ الَّتي لا تشكُّ مُطلقاً في أنَّها – إن قُدِّرَ لها – ستكونُ عطراً تتحلّى به بينَ رفيقاتِها. تتوقَّفُ لبُرهة وتُنصتُ لوقعِ الفكرة عليها، ثمَّ تُسائلُ نفسَها: «ألهذا الحدِّ....؟» ولا تُكمل.
ليلُ الجُمعة: غابَ عنها طويلاً هذه المرَّة. وعندما حَلَّ الليل، ولم تتمكَّن من النَّوم، بدأَتْ بِعَدِّ خِرافِها كالعادة، لكنَّها ألبَسَتْ كُلّاً منها معطَفاً بحسبِ تصميم معطِفِه ولونِهِ. تضحكُ في سرِّها، لأنَّها حَرِصَتْ على أن يكونَ هناك خيطٌ يتدلّى من كُلِّ المعاطف التي ألبَسَتْها للخِراف. تُرى، هل يعي أنَّها دلفَتْ للتو، عبرَ خيالِها، خزانةَ ملابِسِهِ وقامَتْ بتفقُّدِ مُحتوياتِها؟ تشكُّ في الأمر؛ فهو يعتقدُ أنَّها أجبنُ مِنْ أَنْ تقومَ بذلك.
السَّبت: يُطيلُ الغيابَ، فيبردُ فِراشُها أكثر. تنامُ فيهِ على وقعِ نقراتِ فرحٍ صغيرةٍ تسمَعُها كلَّما تذكَّرَتْ «فانيلَّتَهُ الرَّماديَّة»، والخيطَ المُتدلِّيَ من معطفه. تنامُ في فِراشِها البارِدِ وَحْدَها دونَ أن تعلمَ أنَّهُ يَعُدُّ خِرافَها واحداً تلوَ الآخر، ويلعبُ معها لعبة الحبل. تنامُ في فِراشِها البارِدِ وحدَها مُردِّدَةً مَعَهُ دونَ أن يدري: شهيقٌ فقط!
هَـوَس
(1)
لكأنَّ شيئاً تغيَّر!
لكأنَّهُ تحوَّلَ إلى آخَرَ لم تَعُدْ تدرك كنهه وماهيَّته. الألقُ في عينيه غاب. وفُسحةُ الوهج فيهما أصبحَتْ أضيق. البؤبؤانِ يصطادانِ ما لا يجدُهُ في عينيها. لكأنَّ حماسَتَهُ للقائها فَتَرَتْ. والخُطوطُ في زاويتَيْ عينيهِ استطالَتْ وصارَتْ أكثر حِدَّة. لكأنَّهُ عَزَلَ نَفْسَهُ بكامل إرادته عنها، وبنى حائطَ صدٍّ أقوى من أن تخترقَهُ سِهامُها النَّفّاذة. أيكونُ السَّببُ في ذلك مواعيدُ عملِهِ الكثيرة؟ أم الطقسُ المتقلب؟ أم محبَّةٌ قديمة تسكُنُ قلبَهُ ولا تُغادره؟ تتساءلُ حائرةً: «لماذا إذاً..؟» ولا تُكمل! ثمَّ تردُّ تفاصيلُ الحِكاياتِ العالقةِ على ربطةِ عنقهِ الخضراء بلون الفستق: «اسألي مقتنياتِكِ منه لتعرفي!»..
(2)
مقتنياتي منه:
قنينةُ ماءٍ بحجمِ 330 مل تُدعى «سَما»، أكوابُ قهوةٍ ورقيَّة، فطيرةُ جبنةٍ مطويَّة، شوكولا «سنيكرز» الَّتي أكرهُها وبتُّ الآن أحبها، سلامان باليد: الأول خاطف.. والثاني متأنٍّ وجارف، لمسةُ ما بعد السَّلامِ الثاني، نظراتٌ مُتبادلة تشقُّ كفَّ القمر! نعم، فللقمر كفٌّ تُشَقُّ عندما يَنْظُرُ إليّ. شَعْرُهُ حين يطول ولا أقولُ له بعد يومين ـ حين نلتقي ـ ويُتِمُّ حلاقته: «نعيماً»..! الخيطُ العالقُ في طرفِ كمِّهِ لا يُغادرهُ إلّا إذا قَصَّهُ، لكنه لن يفعل، هكذا قال لي! رُسْغُ يدِهِ اليُمنى يُمسكني من يدي وقتَ تعثَّرَتْ قدمي على الدَّرجة الثانية. والخطوطُ الصَّغيرةُ الرقيقة في زاويتي عينيه عندما يبتسم. نظارته التي أشتهي ضمَّها، وخيطُها السَّميكُ السَّميك..!
بردي ودفئه: متناقضانِ ينجذبان في حالة هَوَسٍ كاذبةٍ واحدة!
أجساد
تعتقد بأنَّ أجسادَ النساءِ القوياتِ، مثل «ديانا كرال»، تعجبه. أحسَّتْ بذلك منذ أنْ أرسلَتْ لهُ رابط إحدى أغنياتها. منحنياتُها الكثيرة أثارته. هي بيضاء بيضاء! شقراء شقراء! شفتاها مكتنزتان. عيناها خضراوان كربطة عنقه. في صدرِها حَجَلانِ لا يتوقفان عن الغناء. شعرها متهدل وناعم. قوامها ممتلئ. كتفاها منسجمتان مع حجم لهفته لاحتضان امرأةٍ تشبهها. وذراعاها متآلفتان مع ولادةِ الألق في عينيه، حين يستذكر حلاوة أجسادِ نسوةٍ رآهُنَّ في صورةٍ أرسلَتْها له إحدى رفيقاته في «إيميل». كنَّ مجموعة نساءٍ بأجسادٍ عارية إلا من كتابةِ حروفِ كلمةِ «حرية» بالإنجليزية على صُدورهنَّ المكشوفة. تُغويه الكلمة وطريقة كتابتها أكثر من العُريِّ نفسه؛ هذا ما أرادَ أن يقنعها به! حاولَتْ بخبثٍ أن تستدرجه ليصف لها تفاصيلَ ما رأى في الصورة. فضولُها الواضحُ على وجهها فَضَحَها وهي تحاولُ أن تأخذَ منه أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من التوصيفات. تريد أن تعرف شكل الانثناءات التي يحبُّ وتلك التي يكره، لا لشيء، ولكِنْ لأنَّ تعليقه أثار حفيظتها عندما أخبرها بأمر الصورة وإعجابه الشديدِ بالأجساد العارية فيها. طال شُرودُها، إذ تتبَّعَتْ الضوءَ المتلألئ في عينيه كلما قال كلمة «أجساد» وأعادها «أجسااااااد» بتشديدٍ لا يكفُّ عن الإغواء. بالطبع، هو لم يقصد ذلك حرفيّاً، رغم اعترافه بعدم صفاء نيته في كثيرٍ من الأوقات.
لم تستطع، بعد أن عادت إلى منزلها، سوى أن تطير إلى حجرتها، وتغلق الباب بالمفتاح، ثم تفعِّلَ حاسوبَها، وتبحث عن صُوَرٍ لـ «ديانا كرال» في محرِّك البحث «جوجل» بعد إزالة خيار «البحث الآمن» وَجَعْلِهِ شاملاً لكلِّ الاحتمالات. احتفظت بإحدى الصور. وفور تكبيرها أخذَتْ تخلعُ ملابِسَها قطعةً قطعة أمام المرآة، متأمِّلَةً جسدَها الذي لم يسبق لها أن نظرَتْ إليه بهذه الطريقة! لكأنها تراه للمرة الأولى في حياتها! تتأمل زواياهُ ومنحنياته وانثناءاته. لكأنها استحضَرَتْ عينيه لترصدا جسدها وتُمْعِنا النَّظر فيه! أخذَتْ تقارنُ بين الجسدين: جسدها وجسد «ديانا كرال». الفرقُ كبير وجليٌّ بكل تأكيد! وديانا ستكسب حتماً! لكنَّ شيئاً واضحاً وشهيّاً جَعَلَها تدقِّقُ في المِرآة أكثر.
إنها الخاصرة!
تحسَّستها بكفيها، ثمَّ انتقلت إلى الأعلى قليلاً حيث جذعها، وإلى الأسفل قليلاً لتجدَ بأنَّ مُحيطَ جسدِها يضيقُ عند الخاصرة بالضبط، وأن اكتنازاً طريّاً يتدفَّقُ تحت خاصرتها، تماماً كما لو أنها منحوتةٌ أُعِدَّتْ للتو! شَرَدَتْ في تفكيرِها وحَدَّثَتْ نفْسَها والمرآةَ بتردُّد: «إنه قالبٌ قريبٌ من الغِوى أكثرَ من قُربه من الكمال»، إنه تكوين لم تكن واثقة من أنه رآه فيها. أغمضَتْ عينيها على عُريِّها، صمتَتْ طويلاً، ومن جديد تحسَّسَتْ خاصرتَها بخبثٍ مقصودٍ هذه المرَّة، وابتسامةٍ لا تفارقُ شفتيها الورديتين، ثم نامت على وقع صوته مُعيداً ومُكرِّراً: «أجساااد.. أجسااااد»!
* قاصة ومترجمة أردنية