يرى الناقد التونسي أن هذا الكتاب يصدر عن تصورّ يريد التّحرّر من إكراهات البلاغيين واللغويين القُدامى ومن وصفات المناهج الوافدة بمفاهيمها الإجرائيّة الصّارمة. وهي كلّها قد أجهدت نفسها في وصف النّصوص باحثة عن المُشترك بينهما متعقبة للكليات الجامعة لها. لقد فوّتت مثل هذه القراءة الوثوقيّة.الفرصة على القرّاء أن يظفروا بخصوصيّات نصّ مّا مهما كان جنسه،كما لم تتمكّن من الإحاطة النّسبيّة بمواطن الإبداع باِعْتباره إنجازًا فرديّا.

وهم التّجاوُز في الخطاب النّقديّ المُعاصر

اِستعارة الاستعارة لمحمد خريّف أنموذجا

محمّد الشـّـيباني

«أن نقرا لا يعني إطلاق العنان لجموح رغبتنا وهذياننا التأويلي فإذا أمكننا أن نفهم أي شيء في أعطاف أي نص كان فإنّ النّصوص جميعها تصبح حينئذ مترادفة»

 كترين كربرات اوركيوني **

 

يطلع علينا نقادنا العرب المعاصرون بمصنفات تسائل عدّة ظواهر تحفّ بإنتاج نصوص الأدب وقراءته فتزيدنا معرفة وتجدّد فينا رغبة البحث كما يخرج علينا في الآن نفسه بعض النّقاد بإنتاج يساهم على ما فيه من مواقف متسرّعة وآراء تحتاج إلى نظر في كشف أمراض اُبْتُليَ بها الخطاب النّقديّ عندنا في تونس وفي المشرق.

وليس كتاب محمّد خريّف إلاّ عيّنة من الصنف الثاني. لهذا فانّ الغاية ليست منصرفة في هذا المقال إلى العرض النّقديّ التفصيليّ لكتابه.إذ أننا لن نقف على كل المقالات التي تضمنها الكتاب (وهي مقالات حاول فيها خريّف رصد وجوه الطّرافة والإبداع في النّّصوص التي تخيّرها اِنطلاقا من بعض الظواهر التي بدت له مهيمنة ومميّزة).

وإنما نريد من كلمتنا هذه النّظر إلى ما آل إليه الخطاب النقديّ اليوم عندنا من تطوّر وما افرزه من قضايا نجد لها الصّدى في مؤلفات النّقاد. والحقّ أنّ عمل خريّف لا يخلو من مواطن طرافة وفطنة تشهد بها ملاحظاته التي تخللت عمله ووسمت تتبعه أحيانا لخواص بنية النّصوص التي عالجها. كما يمكن العثور أحيانا على بعض الاِستنتاجات التي أوصلته إليها عنايته بما تنفتح عليه بنية النّصوص من دلالة وما تشير إليه من إشكالات هي من صميم الأدب.

ورغم هذا وذلك فان كتاب خريّف يمكن اِعتباره من الأعمال الأنمُوذجيّة التي يحق لنا اعتمادُها لاِستصفاء بعض القضايا التي لا ينفرد بها بالضرورة كتاب "اِستعارة الاِستعارة"..

المنطلقات النظريّة
لا يُصرّح محمّد خريّف بصفة جليّة بمُنطلقاته النّظريّة التي عوّل عليها. ولا يشرّع لعمله تشريعًا واضحًا يُحدّد به اِِختياراته المنهجيّة. بل إنّك لا تظفر بذلك إلاّ في تضاعيف قراءاته. بالأسْلوبيّة. وتارة يعتبر ما هو بصدد القيام به قراءة أولى (ونحن لا نتبيّن في أغلب الأحيان الفُرُوق المنهجيّة بين كلتا القراءتيْن فهو في كلّ الأحوال يخبط على غير منوال (.و أحيانا يُهمل ذلك ليصرّح بنواياه واِخْتياراته أثناء قراءاته. ولعلّ أكثر المواطن وُضُوحًا تبرز في آخر مقاله " المأساة والملهاة في الأدب العربيّ مشروع قراءة أسلوبية " حيث يقول : "إنْ كانت آفة النّقد الحديث التقيّد بالقوالب الجاهزة الموروثة عن ثقافة طغت بحكم ظروف عقائديّة سياسيّة واِِقتصاديّة في حقبة من حقب الحضارة العربيّة الإسلاميّة شانه شان العلوم الأخرى النّاشئة كالنّحو والبلاغة والعَروض وهي علوم قيّدت الإبداع وهْما بل اِعتباطا بمُقتضى ما يُسمّى بالنّمط أو المثال أو النّسق المُتفق عليه فانّ آفة النقد الحديث التقيّد بالقوالب الجاهزة الموروثة عن ثقافة بل ثقافات واردة ".

والحاصل من كلّ هذا أن خريّف يصدر عن تصورّ يريد التّحرّر من اكراهات البلاغيين واللغويين القُدامى ومن وصفات المناهج الوافدة بمفاهيمها الإجرائيّة الصّارمة. وهي كلّها قد أجهدت نفسها في وصف النّصوص باحثة عن المُشترك بينهما متعقبة للكليات الجامعة لها. إذ أنّها تريد من قراءتها إمّا ضمان سيرورة القانون الجماليّ التي تعتبره الأكثر جودة وإمّا اِِختبار نجاعة مفاهيمها وقدرة العلوم التي توسّلت بها على فهم الأدب. والأدب عندها أصبح علمًا يُقرَأ قراءة واحدة بدون تقدير كما يمكن أن يميّز نصا عن آخر في مراتب الجمال والجودة.

 لقد فوّتت مثل هذه القراءة الوثوقيّة كما هو شائع عند النّقّاد أجمعين. الفرصة على القرّاء أن يظفروا بخصوصيّات نصّ مّا مهما كان جنسه.

كما لم تتمكّن من الإحاطة النّسبيّة بمواطن الإبداع باِعْتباره إنجازًا فرديّا يقوم على اِختيارات لغويّة وثقافيّة خاصّة. ولم تلتفت هذه القراءة كذلك إلى ما يتحكّم في هذا الإنتاج من سياق قول وظروف قراءة متغيّرة وكفاءات قراء متباينة (الكفاءة اللغويّة والثقافية من معارف ومُعتقدات ووجوه لتمثل العالم والتّعبير). إن القراءة من هذا المنظور سلوك ثقافيّ تاريخيّ نسبيّ لا يمكن له أن يرقى إلى المطلق الواحد ولا يمكن له أن يزعم الاِنتهاء إلى المعنى الوحيد الذي ينويه المُبدع أو تعكسه أحواله أو أحوال عصره.

ذلك أنّ في النّصوص من وجوه الثّراء والخُصوبة ما لا يمكن للخطاب النّقديّ أن يحاصره ويقول فيه الكلمة الفصل. ولعلّ هذا الموقف الذي يتخذه محمّد خريّف من المناهج الوافدة عائد إلى مفهوم الإسقاط. ففي إسقاط المفاهيم الإجرائيّة الصّارمة عن النّصوص المتباينة ما يخنق اِنفتاحها ويجعل النّاقد مُطبّقا آليّا معارفه عالما بنتائجه مغيّبا لكل ما يشير إلى حضوره ذاتا تقرا الأدب وتلت ذبه فتنتج الأدب على الأدب. غير أن لمثل هذا الرأي من سطوة الإغراء ما عجل ببروز أعمال في النّقد كانت نواياها ابعد من الحاصل و. كتاب "اِستعارة الاستعارة" لا يخرج في تقديرنا عن هذا النّطاق.

التداعي اللغويّ الهذيان النقديّ
لئن اِتّفق لمحمّد خريّف أن يسلك في لغة نقده مسلكا إبداعيّا ينأى به عن جفاف المفاهيم الصّارمة فإنّ حرصه على إنتاج نصّ جميل يفارق في لغته الموجود قد جعله يُهمل غاية عمله وهي لفت النّظر إلى مواطن جمال النّصوص...بل انّه متى سعى إلى ذلك فان الفائدة تضيع وراء لغة ماكرة تستعصي على الفهم وتعسر أمام القارئ مسالك المتابعة. فمنذ فاتحة الكتاب تختلط على المطلع السّبل فيعجز عن فكّ مفاتيح لغة خريّف حتى لكأنّك أمام طلاسم " جمل الفتح والختم ملوحة بوهم البداية والنهاية والسّين والأمام بُويْضات حيّة بمنويّ المضارع تعلق بألياف الرّحم في السّرد فتدنس طهارة البراءة والإيمان بإلوهيّة الرّاوي (....) السّين والواو ألانت والأنا فعل إنشاء لا فعل خبر يضارع الجملة الاِسميّة في العصف بوهم البداية والنّهاية "وأنت وحدك الآن" (من مقدّمة الكتاب).

ولكن إن كان خريّف يريد بفاتحته جمع الظّواهر الّتي عني بها فكثفها تكثيفا عجيبا فإنّ ظاهرة الإغماض تخترق كامل الكتاب ولا تكاد تخلو منه صفحة لتصبح لازمة في لوازم كتابته. إن كتابة خريّف تتأسّس على ضرب من التّداعي اللغويّ الذي يُحاكي الهذيان فلا ضابط له ولا حافز إلا لفظ ما تحدثه به نفسه وما على القارئ إلا الفرز.

وهم التّجاوز وغياب دقة المُصطلح
يقول خريّف في بداية مقاله "أشعة مسرح الذهن العربيّ والأسطورة مسرح العصف والوصف" قراءة في "مريود" الطّيب صالح "اقرأ باسمي لا باسم غيري" "القصّ في لغة الضّاد أدماه السّفر وأضِناه اِقتفاء الأثر في نهج من غرّب فثنى وجادل في كل همّ ولمّ فكان من الحصر العُقْم ومن الاِتكاء الإدغام والإبهام وصار القص في ظل المذهب هجينا أو لا يكون وذلك ما لا تطمئنّ إليه قراءة تسعى إلى فكّ القيْد ونبذ الإتّباع وإن كان السير في نهج من سبق يفتح الأفق فيغري بالتّجاوز فالإبداع في غير اِكتمال".

***

ليست النّيّة عندنا حمل النّاقد على توحيد لغته مع السّائد أو تفقير خطابه النّقديّ من كل نفْحة شعرية تكشف عن اِلتذاذه بما يقرا وتفاعله مع ما يقول. بل إنّنا نرى أنّ فهم الحداثة النقديّة على أنّها التجاوز المُطلق وعلى أنّها صِنْوُ الحرّيّة الّتي لا تسندها رؤية واضحة هو فهم يكشف لنا عن أحد مزالق المحاولات النقديّة التي تطلع علينا باسم التحديث. ثم إن فهم الحداثة بدافع " إغراء التّجاوز فالإبداع على أنّها السّماح لأنفسنا نقدا وإبْداعا أن نقول ما نريد قوله حيثُ لا يجب ذلك ونأتي به كيْفما شئنا حيثُ يمنع المقام ذلك هو فهم لا يفتح إلاّ ابوب وهْم الحداثة والتّحرّر من سُلطة حرّاس الأكاديميّة.بل إنّه فهم لا يمكن إن ينتج معرفة ولا ينمّ عن معرفة.

يكفي أن تستدلّ على ذلك بغياب أي مرجع اتفاقي لبعض المُصطلحات المُستعملة عند خريّف. ففي الكتاب حشد اِصطلاحيّ مستحدث اِستحداثا لم يكن البتّة على سبيل الاِبتداع المؤسّس على تنبّه لقصور الموجود عن أداء ما نريد التعبير عنه.ثم إنّ هذا الحشد الاِصطلاحي لا ينمّ عن رغبة في تأسيس شبكة اِِصطلاحيّة جديدة تثري المعجم النقديّ وتفتح أمام القرّاء سبلا في فهم الأدب جديدة جدة خلاقة مخصبة. انّه استعمال لا يكاد يغادر دفتي الكتاب لِما يعتوره من تشويش وغياب صرامة تجعل المُتابعة يسيرة وتظهر مواطن الطرافة فيما يعالج من نصوص. ولنا أن نذكر بعضها إشارة لا حصرا.

فخريّف عندما يحدّثك عن "الوصف والعصف" يقول "الوصف في فنتستيكية ممتع في الخوارق كما نسجتها جملة الوصف والعصف " ص 95 وتتردّد في تضاعيف كتابه مصطلحات مثل "الفتل والختل" أو "الجملة البيضاء" فيذكر أن" كلمة راسخة هي كلمة أو جملة بيضاء (و لك أيها القارئ أن تدرك مقصد خريّف) لأنّها أفرغت الأبقار من " ترعى" ب" تعكس" وما مضارعة المضارع سوى متاهة الشيء باللاشيء وليس أدلّ على ذلك من خطاب الفاتل الخاتل إلى القارئ" ص126.

وانظر إلى حديثه عن "الخربشة اللغويّة وضديتها" و"المُماثلة فالمساوقة أو التناصّ" ص143 و"الحطام العلمي" و"فتتت شظاياه بنية تحتية وبدّدتها او نثرتها بالتّوسعة بنية فوقيّة" ص 145. إن هذا القليل من الكثير لا يُمكن تعقله إلا عندما صرح في خاتمة كلامه عن المأساة والملهاة ص 77 بانّ الرّغبة في العدول عن الموجود تحرّك كتابته هذه فأعلن صراحة "أن تحكيم النقد الحديث للمصطلح جدير بالمراجعة لينشا نقد لا يأنس بسهولة لمصطلحات موروثة كالنظم والنثر أو الاستعارة والكتابة أو لمصطلحات واردة كالرومنطيقية أو الدرجة الصفر للكتابة أو حتى العدول أو الانزياح وعريان الكلام". ورغبة التّجاوز هذه لا تعرف حدودا وهذا الخبْط لا يتوقف فإذا بخريّف يطنب في الكفر "بمسامير النحو التقليديّ" ص 144 ويدعو إلى خلخلة "أرتدوكسية اللّغة" (ص 125- 145- 146-148- 168).

غير أنّ هذه الحملة سريعا ما تخبو لأنك تجد في ثنايا كلامه عودة ثابتة - وقتما يشاء - إلى المفاهيم التي أجراها النّحاة والبلاغيون القدامى فيعتمدها في تحليله فهو عندئذ ينحو منحاهم في وصف الظواهر.بل انّه يتجاوز ذلك فينسى ما وعد به من قراءة تجاوزيه وما ستقضي إليه من نتائج ليكتفي بمجرّد الشّرح اللغويّ يعتوره كثير من الوهن وتعداد لدلالة صيغ الأفعال على المعاني ومعاني حروف الجرّ التي افتنّ بها أيّ اِفتنان (ص24 -26-27-29-30-31).

قصور في الفهم

ولا يتوانى على عادة الشّراح "الأرتودكسيين" عن التدخّل لاقتراح ما يجب أن يقال واِستبدال ما قيل في صفويّة لا يدرك سرّها إلا هو فيقول ص 25 " ولعله من المفيد أن نورد في هذا المقام ما جاء على لسان الرّاوي في هذه الفقرة بالذات من اِستعمالات مخالفة للمتفق عليه كقوله بين أقدامه عوض قدميه أو إضافة عبارة من فوره إلى بادر ذلك أن بادر ليست في حاجة حسب نظري إلى فوره لتعبر عن السرعة والمفاجأة "(انظر بقية الصفحة وص 31). غير أن الرّغبة في تقليع مسامير اللغة يجب ألا تحجب ما لاحظناه من جهل (الحق أننا لم نجد كلمة (الطف) بالقواعد التي تجاوزها. وحسبنا أن نذكر بعض الأمثلة للاشهاد على خطورة بعض الدّعاوي التي تلوح بالشعار دون معرفة بأصوله ودون تأسيس معرفيّ للبدائل المّقترحة. فالاسم عند خريّف ينقلب بموجب كره القديم حرفا ولعل ذلك على سبيل الاِستعارة ص 29 وللتعبير عن هذا المعنى لا يكتفي بالحرف " سين " وإنما يضيف إليه جارا ومجرورا يفيد المستقبل وذلك في قوله " بعد قليل " فالتقاء حرف الجر " بعد" المتضمن لمعنى الظرفيّة (....) ". (يمكن متابعة مثل هذا في حديثه عن المعاني النّحويّة التي تولدها مادة " وجد " ص 64 و31 وعن الإضافة ص 61 وغيرها).

وبديلا عن المستقر من المفاهيم يستعمل خريّف بعض المسامير الجديدة وينثرها بلا وعي بالفروق الكامنة وراءها فقد ذكر في ص 127 "والجملة في الشحاذ تتقلص وتضمر لتشمل الكلمة او المونيم والمورفيم" فإلى أي شيء يعزى هذا الخلط؟ انه ينمّ عن قصور في فهم النحو في أصوله القديمة واللسانيات بما اصطلحت عليه من ألفاظ. وإنما هي شقشقة لفظيّة ومفرغة من كل محتوى. وفضلا عن هذا وغيره فانّك لا تجد وراء اِختيارات خريّف للظواهر التي يهمّ بدرسها ما يبرّرها في الكثير من الأحيان فأوقع ذلك تحليله في بعض المزالق. ومنها عدم توفقه إلى وضع اليد على الظاهرة أو الظواهر المتحكمة في النص والمولّدة لجماله الخارجة به عن الاستعمال الشائع.

ففي حديثه عن"السّين والأمام" في حكاية بحّار لحنا مينا اِجتهد في رصد مواطن استعمال مثل هذه المواد اللغويّة لكنه عندما أراد بيان وجوه التوظيف بدا متعسّفا مغربا. ونكتفي فقط بإيراد قوله في ص 156.

"فالأمام كالسين يصبح هكذا شفرة إعلامية أو فضاء لغويّا يتعاضد مع بقية الخلايا اللغوية في الرّواية لانجاز خطاب مفارق يستهدف القارئ ويتّهمه وينتظر منه المشاركة في القصّ وهو ما يجعل سعيدا ذاتا منعكسة في أسلوب الخطاب التقليدي". وكثيرا ما اكتفى بإحصاء بعض الاِِستعمالات اللغويّة غافلا عن بيان قيمتها أو دلالتها (ص26 27) بل إن من الظواهر ما أصبح إبرازها ثابتا من ثوابت تحليله يعود إليها ليخرج بنفس النتيجة فيكتفي بمجرّد الحيرة رغم اِختلاف النّصوص المحلّلة.

"والأمر يتعلق باستعمال حرف الجرّ "ب" عوضا عن حرف "في" ولعل في تواتر استعماله شاهدا على أن وروده لم يكن من باب الصدفة على الأقل وإن استعمال حرف الجرّ على غير ما جُعل له يثير قضيّة في هذه الرّواية (...) وإنما نجد حرف الجر "ب" مستعملا في مواضع أخرى عوضا عن الحروف "في" (...) ترى هل في هذا الخروج ما ينبئ بنية كسر المعهود واستبدال وظائف الحروف ام هو مجرد إقرار خطا شائع" (ص 18) "فان حرص الراوي على تكثيف حروف الجر في مراحل القصة يثير السؤال عما إذا كان وراء هذه الظاهرة غاية أسلوبية" (ص 30). يفضي بنا هذا إلى أن خريّف وهو يورد الاِستنتاج نفسه والسّؤال عينه في النصّ وغيره لا يتفطن إلى أنّ ذلك يفقد عمله ما نواه من اِِستقصاء لمواطن الطّرافة ليصبح بحثا في الثوابت المشتركة.

ويقوده عدم التقاطه للظواهر الجديرة بالعناية إلى اِستنتاجات ضعيفة غريبة لا تناسب مجهوده ولا تفصح عما يقوم عليه النصّ المدروس من ظواهر احكم المبدعون توظيفها فوسمت أعمالهم وأخرجتها مخرجا طريفا. فماهو وجه الخلاف حينئذ بين الوصفات الجاهزة التي لا تمكّن إلا من اِكتشاف المُشترك في النصوص وبين ما أتاه خريّف من تهويمات نقديّة لا سنَدَ لها عدا التّداعي الحرّ ما الذي يميّز في العمق مثل هذا الضرب من القراءة مما يتم نقده باِسم إرهاب المناهج وسلطة الأنموذج سوى حرص النّمط على التقنين الواضح الذي يسعى إلى تقديم وصفة منسجمة مع منطلقاتها وفيّة لرؤيتها للأدب والعالم مقابل إلحاح قراءة التجاوز الاستعاري على توهم التّجاوز ووضع نسل مشوّه لا يشهد نظاما فيتغذى من خداع اللّغة وقدرتها على التعمية والتلبيس والتّحايل. إنّ المازق كامن على ما نقدّر في غياب المعرفة بخواصّ الأدب ومختلف التجارب فضلا عن معرفة بخواصّ الأدب ومختلف التّجارب فضلا عن معرفة عميقة بمنطلقات من دعا إلى تجاوز سلطة المناهج وما يراه بديلا عن ذلك.

والمأزق كل المأزق إن إنتاج المعرفة لا يمر عبر نفيها بالهذيان بل بالمعرفة الأصلية كما إنّ التجاوز لا يكون إلاّ تجاوز وهم التّجاوُز.

أستاذ من الجامعة التونسيّة

 

 *محمّد خريّف :اِستعارة الاستعارة- تيبا- تونس 1993

 ** Catherine Kerbrat-Orecchioni, L'énonciation de la subjectivité dans le langage, Paris, Armand

Colin, 1980,p182