في رحلة هي أقرب للشهادة يرافق الكاتب قارئ باب علامات، ليقلب معه صفحات من سيرة ومنجز المسرحي الفكي عبد الرحمن، أبو المسرح السوداني، الذي أطلق الشرارة الأولى في المسرح القومي بأم درمان عام 1967، وجهزه ليصبح صالحا للعروض المسرحية.

الفكي عبد الرحمن أبو المسرح السوداني الحديث

بدر الدين حسن علي

الفكي عبدالرحمن (رحمه الله) فنان سوداني أصيل يندر أن يجود الزمان بمثله والذي استحق أن يقال عنه بكل فخر وافتخار أبو المسرح السوداني الحديث، كان الفكي فناناّ موهوباّ رضع وشرب المسرح من جميع مصادره وتسلح في وقت مبكر جدا بأصول المسرح عندما كان ترفاّ لدى البعض، كيف لا وهو تلميذ القامة المهيبة د. أحمد الطيب "معهد بخت الرضا"، وقد سرد لي قصة حياته، وكان دائما يذكرني بالمقولة الشهيرة لنجيب سرور "أرني المسرح في أي بلد أقل لك نوع النظام الذي يحكمه"، بل كان على إيمان عميق برسالة المسرح السياسية والاجتماعية والتربوية والفنية، ومن هنا فقد كانت كل سنوات عمره تضحيات متواصلة من أجل مسرح سوداني أصيل واختار معركته الأولى في المسرح القومي بأم درمان، ذلك البناء الكبير الذي بنته حكومة الفريق إبراهيم عبود والمطل على نهر النيل الخالد وواجهة لمركزين إعلاميين كبيرين هما الإذاعة والتلفزيون، وفيما بعد الإنتاج السينمائي، وعلى مقربة من ذلك الفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية، وحملت جميع هذه المراكز بصماته الواضحة إما تأسيساّ أو تغييراّ في النهج والأسلوب وتطويرا في الشكل والمحتوى، فكانت دروسه العظيمة تلك دافعاّ للمئات من الفنانين السودانيين من الشباب والشيوخ للتوجه نحو المسرح أو تلك المراكز لتقديم إبداعاتهم وفنونهم.

أطلق الفكي عبدالرحمن كما قلنا الشرارة الأولى في المسرح القومي بأم درمان عام 1967، كان المسرح القومي يومها وكراّ للبوم والخفافيش ومرتعاّ خصباّ للنفايات والأوساخ، فشمر عن ساعده وحمل أول "كوريك" لإعادة بناء المسرح وتجهيزه كي يكون صالحاّ للعروض المسرحية رغم مساحته الكبيرة، ووقف إلى جواره شباب ورجال آمنوا بالرسالة وقدموا الكثير من التضحيات يضيق المجال هنا لذكر أسمائهم، وبعد فترة وجيزة أعلن بدأ المواسم المسرحية في المسرح القومي والتي أصبحت تقليداّ سائداّ إلى يومنا هذا رغم ما إ عترضت مسيرة المسرح من عقبات وتداخلات بسبب الأنظمة السياسية التي حكمت السودان بعد الإستقلال.

الفكي وشباب المسرح
درس المسرح في بريطانيا وعاد إلى السودان متأبطا شكسبير وأرسطو وراسين ومولير وكوردن كريج وستانسلافسكي وهنريك إبسن وتشيخوف وبرتولد بريخت وفيشر وأونيل وآرثر ميللر والبير كامو وتينيسي وليامز وجان جينيه ولوركا وكاسونا وبسكاتور وبيرانديللو وبيتر فايس وشنوا أتشيبي وولي شوينكا وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ومحمود دياب وتفاعل بوعي شديد مع إبراهيم العبادي وخالد أبو الروس والطاهر شبيكة والفاضل سعيد وحمدنالله عبدالقادر وغيرهم، وسرت على خطاه، قرأت لجميع هؤلاء، و أتذكر مقولته لي: إن كنت تريد الدخول إلى عالم المسرح فأبدأ بشكسبير، وهذا سر قراءتي لـ37 مسرحية لشكسبير، وسر الصداع الذي سببته –لوالدتي رحمها الله– عندما كنت أنزوي في غرفتي وأصرخ كما صرخ هاملت "نكون أو لا نكون تلك هي المسألة!"

وجاء بفنانين من الجامعات والمعاهد العليا وحتى من الثانويات والوسطى ومحو الأمية ليشاركوا في تلك القافلة الفنية الرائعة: مكي سنادة، الفاضل سعيد، أبو الروس، شبيكة، يحي الحاج، أبو قبورة، اسماعيل خورشيد، أبودليبة،الجعفري، عثمان قمر الأنبياء، عثمان جعفر النصيري، خالد المبارك، علي عبد القيوم، عبد الرحيم الشبلي، عمر براق، محمد رضا حسين، أبو العباس محمد طاهر، صلاح تركاب، يوسف عايدابي، هاشم صديق، فتح الرحمن عبد العزيز، محجوب عباس، يوسف خليل، صلاح قولة، السر قدور، إبراهيم حجازي، محمد عثمان المصري، محمد خلف الله، فتحي بركيه، عوض محمد عوض، إسماعيل طه، عوض صديق، أبراهيم شداد، علي مهدي، آسيا عبد الماجد، تحية زروق، فتحية محمداحمد، فايزة عمسيب، بلقيس عوض، سميه عبد اللطيف، منى عبد الرحيم، نعمات صبحي، سلمى الشيخ سلامة، نادية بابكر، حسن عبدالمجيد، حسبو، عثمان علي الفكي عبد الواحد عبد الله، محمد شريف علي، هاشم محجوب، الريح عبدالقادر، عبد المطلب الفحل، عمر الحميدي، عمر الخضر، عز الدين هلالي، الطيب مهدي وذلك الجيل من الشباب الواعد، واعتذر لمن فاتني ذكره، فجميعهم في رموش العين لمساهماتهم العظيمة في تطوير المسرح السوداني مع قائده الفذ الفكي عبد الرحمن، ولا يمكن لأي واحد من هؤلاء أن ينكر الفضل الذي قدمه له الفكي عبد الرحمن، ويكفي أن مكتبته العامرة كانت مفتوحة لهم جميعاّ بل أن نصفها موجود لديهم حتى اليوم ولم يسأل مطلقاّ بإعادة كتاب إليه، كان فقط يقول للمستعير "أقرأ ودع غيرك يقرأ".

تعدت إنجازات الفكي عبدالرحمن المسرح القومي لينشئ مسارح الأقاليم لتصبح رافدا هاما في مسيرة المسرح السوداني، وأفكاره النيرة التي أوجدت معهد الموسيقى والمسرح وفرقة الفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية والفرق المسرحية الكثيرة التي نشأت تباعاّ وقدمت إنتاجاّ مسرحياّ يتسم بالجدية والتنوع والإبداع، ألا يستحق بعد ذلك أن نقول عنه "أبو المسرح السوداني الحديث"؟

إنجازاته

الفكي عبدالرحمن من بعد هذا وذاك صاحب برنامج الأطفال بالإذاعة السودانية لسنين طويلة حفر اسمه في ذاكرة أطفال السودان رجال اليوم ومستقبل السودان، كنت من أقرب المقربين للفكي عبد الرحمن فهو " الخال " وهو الأستاذ وكان الصديق أيضاّ، فقد كان على درجة عالية من الفهم والثقافة والتجارب ويعرف كيف يعامل جميع الناس ولذا أحبه كل الناس وفي يوم رحيله عم الحزن ليس السودان فحسب بل كل المدن والعواصم العربية نعته بحزن عميق لمآثره الكثيرة، وأصدقكم القول أني مازلت حزينا لفراقه قبل أن ألتقيه بعد غربة طالت وطوت معها صفحات من أروع الصفحات التي عشناها مع أمثال الفكي عبد الرحمن والذي يستحق أن يخلد اسمه في ذاكرة الشعب السوداني مثله مثل أولائك العباقرة الذين بنوا سودان الأمس وسودان اليوم وسودان الغد.

كان يا ما كان
أخي وصديقي د. محمد المهدي بشرى نشر مقالا هاما بصحيفة البيان الإماراتية التي كنت أراسلها من الكويت، وكان تلخيصا رائعا لكتاب "كان يا ما كان" لمؤلفه الفكي عبدالرحمن يقول فيه: "كتاب كان يا ما كان" لمؤلفه الراحل الفكي عبد الرحمن عبارة عن سرد مطول لحياة المبدع السوداني الراحل الفكي عبد الرحمن يرويها بلسانه، لقد أملى هذا السرد على عدد من الكتاب والصحفيين آخرهم دكتور أمين محمد أحمد الذي أجرى مع الفكي عدة حوارات نشرت جميعها في صحيفة الصحافة قبل أعوام خلت.

الفكي عبد الرحمن معلم ومسرحي ينتمي إلى جيل نال تعليما رفيعا قبل الإستقلال، حيث تخرج في معهد بخت الرضا وابتعث للملكة المتحدة، وهو واحد من الطلائع التي تسلمت مقاليد السلطة من الإنكليز بعد خروجهم إثر نيل السودان إستقلاله في 1956، ولا شك أن هذا الجيل لعب دورا مفصليا ومفتاحيا في مصير البلاد سلبا وإيجابا، كان الفكي عبد الرحمن مرآة صادقة للمجتمع السوداني كما رآه وعايشه في وسط السودان، وللدقة يحكي الفكي عبد الرحمن بأسلوبه الشيق عن المجتمع العروبي الإسلامي الذي نشأ وترعرع فيه.

بديري دهشمي "تشيقن"
"يقول الفكي عن نفسه أنه بديري دهشمي "تشيقن" صار شايقيا شكلا ومضمونا، ثم يبدأ سرد مرحلة الطفولة منذ سنواته الأولى في بيت جده في تنقاسي، ثم هو يتعلم في الخلوة، يحكي كل ذلك بصدق وبراعة، فنعرف كيف جلده الشيخ وهو طفل صغير، يقول: وبسوط له لسانان ألهب قفاي –يضرب ويلعن– فأصرخ وأتلوى وأتوسل واستنجد، فيهيج الشيخ ويزيد سبا وضربا.

ولم يكن أمام ذلك الطفل الغرير وهو بين يدي شيخه وجلاده سوى أن يتبول في يدي الشيخ، يصف الفكي هذه اللحظة قائلا: استجاب جسدي للألم، وشعر الشيخ ببلل على يده التي تمسك بقميصي فدفع بي بعيدا وهو يردد "نجس".

ويكبر ذلك الطفل فيصير صبيا ويذهب إلى سوق تنقاسي في معية أقرانه كبار السن، ويستطرد الفكي في سرد عالم الطفولة البكر، ويحكي لنا حضور علي الميرغني في زيارة له إلى تنقاسي، وهنا نحس ببذور المسرحي والقاص الذي يكمن في داخل هذا الطفل ونقرأ: الرجال والنساء والأطفال، يبكون يضحكون ويجرون، العميان يشيل المكسر، وتجري عائشة مع الجارين تجرني تدفعني، ترفعني، تهددني، تهدهدني.

وحين وصلنا مكان الاحتفال كنت كما ولدتني أمي، ولولا حرصها وحرص الاخريات على فلذات اكبادهن لدهستنا ارجل القوم وهم لا يعون. ويكبر الفتى وينتقل الى مرحلة دراسية اخرى هي المدرسة ويخرج من فضاء البيت الى فضاء القرية، حيث يسيطر عالم السوق والتجارة والزراعة. وهنا يسرد لنا الفكي عالم السوق وكأنه يحمل آلة تصوير تصور دقائق الموقف فيصور الانسان والحيوان والمكان بكل ضجيجه وحيويته ويقف أمام بعض الشخصيات النمطية التي عادة ما تكون معروفة في مثل هذه الفضاءات، منها ود الاوسطى «ربعة " قمحي اللون، نظيف جداً جسماً وزياً، بالحناء يصبغ لحيته وبالاثمد يكحل عينيه ويتعطر بماء الصندل. ويحكي عن زكي وزكية من الغجر وعن ابوشبال وغيرهم. وهكذا نمضي مع الفكي وننتقل الى مدينة عطبرة او اتبرة كما يسميها الفكي ويحكي عن بيت الشبلاب الذي ينتمي اليه وعن الليلية والختمية يختمون الالواح في المولد:
يا رب بهم وبآلهم
عجل بالنصر وبالفرج
واشغل اعدائي بأنفسهم
وابليهم ربي بالمرج

ويشرح الفكي باسلوبه الفكه كلمة المرج قائلا انها «حكة تصيب المنكر في مكان يتحرج ان يهرشه امام الناس» ومن اتبرة ينتقل الفكي الى بخت الرضا ويحكي ذكرياته في هذا العالم الغني المدهش، ويصف لنا الاسباب التي دعت الانجليز لاختيار بخت الرضا لانشاء اول معهد لتدريب المعلمين "بالمناسبة بخت الرضا إسم لمرأة سودانية" ولماذا فضلت على الهلالية والدويم وهنا يشير الكاتب الى دأب الانجليز ودقتهم في اطار القرار فقد شهدت هذه القرية التي دخلت تاريخ السودان من أوسع أبوابه نضوج واكتمال شخصية الكاتب، كما ان القرية كانت البوتقة التي انصهرت فيها ثقافات السودان المتنوعة والمتعددة.

تخرج الطالب الفكي عبدالرحمن ليصير معلماً للكتاب وهي أول المراحل الدراسية، بعد تدريب ممتاز وصقل للخبرات والمهارات، ليس اقلها النشاط المسرحي وتمثيل روايات من الادب العالمي مثل مسرحيات شكسبير، يقول الفكي عبدالرحمن "في مارس 1945 مثلنا مسرحية هاملت وقمت بدور حفار القبور. حفرت وشربت وغنيت وعبثت بجماجم الموتى"، لاشك ان تجربة بخت الرضا ودور خريجيها مما يحتاج للتوثيق والدراسة، وتبقى مساهمة الفكي عبدالرحمن رائدة في هذا الصدد ويضيف في ثراء هذه الشهادة كونها شهادة من الداخل ومن شخص حظي بذاكرة فتوغرافية اضافة الى اسلوبه القصصي البارع في سرد ذكرياته.

تنتنهي ايام بخت الرضا ويأخذنا الكاتب في أول رحلاته خارج السودان، حيث ابتعث الى مصر لدراسة المسرح عام 1953 ثم الى المملكة المتحدة بعد ذلك، ويتوقف الكاتب طويلاً في تجربته في المملكة المتحدة وليس هذا بغريب فالكاتب ينتمي لطلائع السودانيين الذين ابتعثوا الى هناك وكانت لهم تجربة ثرة وعمل الكثيرون من هذه الطلائع على تسجيل التجربة، كل بأسلوبه.

ثم يحكي الفكي عن انشاء اول اتحاد للطلبة السودانيين في المملكة في عام 1956م ويشير الى ان هذا الاتحاد كان الأول من نوعه بالمملكة المتحدة. ونمضي مع الكاتب في سرد ذكرياته في لندن حيث عمل في هيئة الاذاعة البريطانية يقول «فقد اختارني المخرج الطيب صالح متعاونا مع الاذاعة، شرفني الطيب صالح بالاشتراك مع يوسف بك وهبي فسجلنا بعض اعمال وليام شكسبير باللغة العربية، اخراج الطيب صالح. وينتهي هذا الجزء باشارة خاصة لاسلوب التدريس ببخت الرضا وذلك بعد ان التحق الكاتب معلماً بالمعهد.

الفكي عبد الرحمن لم يكن عاشقا للكتابة بل عاشقا للمسرح ذات نفسه مهتما بتطويره وتخليصه من مشاكله الكثيرة خاصة مع المسؤولين في وزارة الإعلام والذين خاض معهم معارك طاحنة انتصر في بعضها وانهزم في البعض الآخر، ولكنه وضع اللبنات الأساسية لازدهار المسرح.

اهدى الفكي عبد الرحمن كتابه إلى د.أحمد الطيب –طيب الله ثراه– الذي كان فنانا مسرحيا تابغا وأنا أسميه "أبو معهد بخت الرضا"، كما أهداه للأستاذ أحمد الطيب زين العابدين، ويقول أنه كان من المفترض أن يكون الكتاب من خمسة أجزاء، في الجزء الأول يتناول الفترة من 1933 إلى 1960 وهي الفترة التي يسهب فيها الحديث عن تنقاسي وعطبرة وبخت الرضا، وفي الجزء الثاني يتناول الفترة من 1963 إلى 1975 وهي عن الخرطوم والمسرح القومي وأماكن أخرى، ثم فترة إدارته للمسرح القومي بأم درمان للفترة من عام 1967 وحتى عام 1975 عندما أصبح مدير إدارة الفنون المسرحية والإستعراضية، وفي العام 1975 وتحديدا في 5مايو تم فصلي بخطاب من صفحتين من الخدمة وعدم تعاوني مع الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمسرح، وبسرعة هائلة استخرجوا مستحقاتي في إشارة واضحة لطوي صفحتي مع وزارة الإعلام، ولكن ذلك الفصل التعسفي أتى بنتائج إيجابية كثيرة ضد قرار الفصل، في مقدمتها رفض الكاتب المسرحي الشاعر هاشم صديق لمنحة الحكومة عندما كان يدرس المسرح في المملكة المتحدة ووقوف أهل المسرح إلى جانب قضيتي العادلة وفي مقدمتهم الكاتب المسرحي الفنان د. يوسف عايدابي.

فكرة الكتاب تعود لسنوات طويلة سبقت التنفيذ حدثني عنها الفكي عدة مرات، واطلعت على الصفحات الأولى من الكتاب وشجعته على إكمال مشروعه خاصة وأن التوثيق للمسرح كان شحيحا جدا في تلك الفترة، وصدر كتابه عام 2003 عن دار نشر سولو للطباعة والنشر من 112 صفحة ولعل المساهمة البارزة كانت كتاب عثمان جعفر النصيري "المسرح في السودان من 1905 إلى 1915"، ثم قمت بتأليف كتابي الأول عن المسرح السوداني وأنا في الخارج وضاعت مسودته خلال اجتياح العراق لدولة الكويت، ومن ضمن ذلك الخراب الذي لحق مطبعة الطليعة الكويتية والخراب الآخر الذي لحق شقتي في حي السالمية بالكويت ولذا كنت من أكثر المتضررين من الغزو العراقي للكويت.