بدأت مسيرة البحث في مسالك المعرفة تتشكل لدى سعيد العفاسي، منذ كان في الصف الاعدادي، ذلك أن مواظبته على حضور جلسات القراءة، والمناقشة، والمناظرة، بدار المبصرين بفاس، جذبته لقراءة الكتب للطلبة المكفوفين، كتب تتنوع بين الفكر الاسلامي، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأصول، وفقه اللغة، والأدب القديم والحديث، والشعر، والرواية، والدراسات الاسلامية، واللغات الحية، بحيث لم يكتف بالقراءة فقط، بل كان يتساءل بصوت عال، ويقف لمحاولة الفهم، والاستفسار عن ما لم يستطع فهمه، في المقابل كان يجد عقما بليغا في مناهج صفه الدراسي، وهو الذي انفتح على علوم ومعارف بسطت له طرائق الأسئلة، وطرح الاشكاليات الممكنة، واعادة صياغة السؤال الجيد قبل الاضطلاع بمهمة البحث عن الجواب الشافي.
في هذه الأجواء البليغة الحكمة، والمنفتحة على الفكر المجرد، الممهور بالبحث عن اسئلة وجودية، تنعش البصيرة قبل البصر، وتعيد للروح ألقها في استشراف اليقينيات البديلة، بدأ سعيد العفاسي ينبش في اللون والشكل، يشاغب بقلق شفيف تجليات الحرف، والنقطة، والمساحة، والظل والضوء، وهو ما جعله يلتحق بالمدرسة التقنية للفنون التشكيلية بمدينة الدارالبيضاء، لكي يجدد صلته بالرمز والعلامة والحفر في مشارف الفن، من خلال التشكيل، ثلاث سنوات كانت كافية لكي تبرز موهبته في الرسم والتشكيل والبحث في مضامين ما بعد اللوحة، ويحصل خلالها على شهادة التخرج بميزة حسن، بعدها سيلتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، لكي يواصل مسيرة الحرف والشكل، طالبا في شعبة الفلسفة تخصص علم الاجتماع، لم يجد صعوبة في فهم المضامين العلمية والمعرفية التي كانت تقدم من طرف أساتذة يشهد لهم بالكفاءة في مجاورة الأدب والفلسفة والعلوم الانسانية، وهو ما عمق صلته بالحرم الجامعي، مناضلا، مثابرا، في سبيل طرح حقوق الطالب الجامعي بكل ابعادها الوطنية والقومية، وأحقيته في عيش كريم يضمن له فهم المستقبل قبل الحاضر.
في هذه الأجواء المشفوعة بالنضال والمعارف، والفكر الفلسفي الخالص، الذي لا يقر له قرار إلا بالتشكيك في المعطيات، ومقارنتها بالفكر الانساني الذي يصبو إلى الحق والخير والجمال والمعرفة، انصب اهتمامه على اقامة بعض المعارض الفردية في مجال الفنون التشكيلية، غير أن ندرة الأروقة، وقلة الاهتمام بالمواهب الفنية التشكيلية، من طرف الاعلام، جعلته ينكب على كتابة مقالات أدبية ونشرها عبر الجرائد المحلية والوطنية، بحيث سيصبح مراسلا معتمدا من طرف جريدة الصحراء المغربية، الأمر الذي مكنه من كتابة تقارير واستطلاعات الرأي، جعلته محط اهتمام من طرف العديد من الجرائد الوطنية والمجلات العربية، وبعض الاذاعات الجهوية، التي اعتمدته مراسلا، ومحررا، وكاتب رأي، ساعده في ذلك حصيلته العلمية والمعرفية بحصوله على شهادة الإجازة من كلية الآداب والعلوم الانسانية، بميزة حسن جدا.
عندما برز اسمه في مجال الكتابة، عاد لكي يمارسه الفن التشكيلي، والتأمل في صياغة اسلوبه الفني الذي اعتمد فيه على الموروث الثقافي والحضاري لمدينة فاس، والنبش في اسئلتها المعمارية، والعمرانية، وفي صلاتها التي مدت فيه على مدى قرون من الزمن جسور التعايش بين مختلف الديانات، ونثر التسامح، والتنوع الثقافي، حيث غرف من معين جامع القرويين وفقهاء التصوف، أمثال ابن عربي، والششتري، وعلي بن حرزهم، ونال من حياض ابو حيان التوحيدي، وابن خلدون، وابن رشد والامام الغزالي...وعمل على تدبيج لوحات تستقي معارفها ومضامينها من التقنيات والأفكار التي صاغها بأساليب متعددة، هدفه هو ابراز الاحساس، الذي لا يستقيم عمله دون نفس مدركة، والعمل على دمج الواحد في الكل، لأن الكل في أعماله الفنية مترابط الأجزاء باتساق وانتظام، حيث الأجزاء المكونة لها في ترابط دينامي فيما بينها من جهة، ومع الكل ذاته من جهة أخرى. فكل عنصر أو جزء له مكانته ودوره ووظيفته التي تتطلبها طبيعة الكل ، لقد اعتمد على الاحساس والادراك، من خلال اعتماد البنية والاستبصار والتنظيم و إعادة التنظيم و الانتقال و الدافعية.
وفي بعض أعماله تتكون العناصر المرتبطة بقوانين حسية داخلية تحكمها دينامية وظيفية، وكل ما من شأنه اكتساب الفهم من حيث إدراك كل الأبعاد ومعرفة الترابطات بين الأجزاء وضبطها، وتحديد سلوكيات التعلم من المتلاشي الذي فقد الإنوجاد بيننا، ليتم تلاقحه وتشكيله كما هو، ليصبح منسجما وفق منظومة الاحساس التي تقود للإدراك الواعي، وهي عملية إدراك الهيكلة والتنظيم نحو تجاوز الأشكال والغموض والتناقضات ليحل محلها الاستبصار والفهم والإفهام، وبهذا استطاع أن يشكل المواقف المتشابهة في البنية الأصلية والمختلفة في الشكل والمادة والتمظهر، لتعزيز التلقي النابع من الداخل والذي مر عبر الحدس وأفق التوقع، وعند تحقق الفهم الاستبصاري وكشف جميع العلاقات المرتبطة بالموضوع، والانتقال من الغموض إلى الوضوح، من الكل لفهم الجزء، يتشكل المشهد بصيغة الواحد غير قابل للفصل أو التجزئة، لأن الاحساس والإدراك عند الفنان سعيد العفاسي عمليتان في عملة واحدة بحيث تقوم العين – الاحساس- المجردة المتأملة بتدبر الشيء، لتكمله عملية الإدراك بوجود الخطر، وفي ذلك ما يدل على أن الاحساس مقتصر فقط على استقبال الصور البرانية، وأن الإدراك مرهون بتشكيل هذه الصور المستقبلة من طرف الاحساس، ويؤولها إلى لغة مشغوفة بالرمز، إن بحثه الدؤوب في العمل الفني ومزاوجته بين التطبيقي والنظري في مجال الفنون البصرية، جعلته يفوز بجائزة التفكير باليد التي نظمها معهد ( ثيربانتيس ) بإسبانيا.
واصل مشروعه الفني المعتمد على التقنية والفكر، رسما، وكتابة، حيث ستنبري له كتابات نقدية قويمة نشرت في مجلات مشرقية مهتمة بالتشكيل والسيميولوجيا، توجت بإصدار كتاب (إضاءات في الفن التشكيلي)، وكتاب (التفكير بالعين).
لقد جعل من كتاباته نهجا يلفت الأنظار، وربط صلات عديدة مع مختلف المنابر الاعلامية، وانخرط في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وأصبح يشهد له بالكفاءة والتقدير في مختلف المحافل المحلية والوطنية، بحيث نال العديد من الجوائز والاستحقاقات، وانفتح على مجال المسرح والسينما ممثلا وسينوغرافيا، أهلته لكي ينتخب كاتبا عاما للنقابة المغربية لمحترفي المسرح لولايتين، وفيه حقق تراكما لا بأس به، من خلال مشاركاته في المسلسلات والأفلام المغربية والعربية والأجنبية، غير أن الحنين إلى اللون والشكل والبيداغوجيا المعرفية، يجره مرة ثانية إلى أن يصبح استاذا لمادة التربية الفنية، وهو الأمر الذي وجد فيه تقييدا لحريته والتزامه بالحضور اليومي لقاعات درس لا تستجيب لطموحات التلميذ ولا توفر له قناعة تشجعه على الابداع والابتكار، فغادر التدريس ليعود لسلطان صاحبة الجلالة – الصحافة.
وبعد كل هذا المراس، والتجريب، والبحث عن الذات الفنية و الفكرية، لتأكيد حضورها، وضمان فعاليتها، لكي يكون لها إنوجاد تذاوتي، وامق، فاعل، منفعل، متساوق مع حاجيات النفس في سبيل تكريس مسيرة مضيئة، قوامها خدمة الفن والرغبة في الكشف عن جذور معرفية تبسط هوية تتعدى الكائنات الجغرافية التي تغلفها حدود وهمية من صنع قرارات سياسية متداولة، لتتعداها إلى هوية انسانية كونية، وبفضل هذا البحث المقرون بالمزاوجة بين الفن والفكر، وتعدد مواهبه الفنية والأدبية، وانفتاحه على عوالم الابداع والاعلام، استطاع أن يؤسس المرصد الجهوي للمعرفة والتواصل بفاس، رفقة نخبة من المثقفين والفنانين والأدباء، وهي الهيئة التي سيشرف خلالها على تنظيم جلسات الابداع والمؤانسة – 32 جلسة-، وايام التواصل للتكوين المسرحي- 11 دورة-، والملتقى الوطني للشعر – سبع دورات- ، والمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بفاس – 12 دورة-، هذا المهرجان الذي حقق طفرت نوعية بجهة فاس، وتجاوبا رفيع المستوى مع مختلف المدن المغربية والدول العربية والغربية، حتى أصبح موعدا من أهم المواعيد الثقافية والفنية، إلى جانب أهم الأنشطة التي تنظم بولاية فاس، وسوف يتوج المجهود بالاحتفاء به في دولة تركيا، على اعتباره مهرجانا لا يبغي الربح المادي، ويهتم بالفكر الفلسفي التشكيلي إلى جانب التقنيات والمدارس والمواضيع التشكيلية، والعمل على فسح المجال للمواهب الشابة للعرض أمام من لهم تجربة ونبوغ .
وقد كشفت أنشطة المرصد الذي كان يشرف على إدارتها على دربة في التنظيم والتسيير والتنسيق، مع برمجة مبدعة تضفي على الفعل الثقافي جودة في الكم والكيف، حيث كانت كل الأنشطة تجد لها صدى قويا في مختلف المنابر الإعلامية والإذاعات والقنوات المحلية الوطنية والدولية، حيث حققت هذه الأنشطة حضورا فاعلا ومؤثرا، بل أصبحت تعد مشكاة تنير مدينة فاس كلما عن الحديث عن الحراك الثقافي والفني فيها.
لذلك لا نجد صعوبة في تحديد هوية هذا الفنان الأديب والناقد الجمالي- سعيد العفاسي- لأنه متشبع بكل القناعات، ومنفتح على كل المشارب، وبداخله جموح فكري ينساب مع كل حركة فنية لكي يستجيب لطموحاتها، ويحقق بعضا من سمات الفنان المجدد الواع، المثابر، والبحاثة القريب إلى نبض التاريخ وحركية الإنسان المشبع نبلا وعطاء، وهي رغبة اثمرت العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل المغرب وخارجه، وأنبتت تجارب محايثة في الكتابة النقدية الجمالية، والبحث عن مسالك الفكر للارتقاء بالفن التشكيلي إلى معارج الفهم والتجلي.
هذه بعض من ملا مح نهج سيرة سعيد العفاسي. وتستمر التجربة في نحت التشكيل البصري بالوعي بقناعات البحث.