الثقة في مستقبل الإنسان هي المحدد الأساسي لمصير الإنسان، وإذا سلمنا بأن الاستقرار يعني الجمود، وأن المكتسب قارا ولا يتوسع، وأن قدسية القيم والمبادئ تعني عدم الاجتهاد فيها ورفض تحولها وتقدمها، وأن المساواة تقصي التفوق والإبداع، وأن الحرية تعني الفوضى والتسيب، فإننا لم نفهم بعد الطبيعة، لأن المادة والعقل يتفاعلان، زمنا ومكانا، في إطار الطبيعة، وليس هناك أي عامل مادي خارج الطبيعة يؤثر في هذا التفاعل، ما يصدر من أخطاء فهو سوء تقدير أو عبث بشريين ليس إلا. . يقول آينشتاين:" لا يوجد إلا شيئان لا متناهيان، الكون والخطأ البشري، لكن بالنسبة للكون ليست لدي حقيقة ثابتة ".
كم من حقائق كانت مؤكدة وعفا عنها الزمن. وكم من أفكار وفلسفات كانت رائدة وأجابت على متطلبات عصرها، فتخلى عنها الإنسان، وكم من ثوابت فقدت تباتها عبر مراحل التاريخ، لكن الطبيعة تستمر ولا تخطيء، بمنطق أن تبقى الحقائق ثابتة إلى أن يثبت العكس. كان الإنسان يعتمد على الحكماء في التنظير لأسس المجتمع المثالي، وكانت الأخطاء متعددة والحقيقة واحدة، هي أنه لم يسبق لأي نموذج أن كان مثاليا على مستوى الأوضاع الاجتماعية، وأن كل النماذج استعصى عليها ذلك في الممارسة، لكن نسبيا، هناك درجات ومستويات متفاوتة بين المجتمعات في تحقيق الأفضل، المناسب والممكن في تنمية الأوضاع الاجتماعية والثقافية لأفرادها، مجتمعات اعتمدت العلم والمعرفة والإبداع، بينما مجتمعات أخرى غاصت في الوهم والجهل والبؤس، وقاومت ولازالت تقاوم تيار الركب الإنساني الكوني الذي يفرض خيارين، إما الانخراط فيه وإما التسكع في هوامشه.
عكس ما حصل في المجتمعات المتقدمة، فالإيديولوجيات التي اعتمدتها التيارات السياسية في المجتمعات المتخلفة، المثالية منها والمادية، كانت تصرف عن طريق العاطفة، دون أن يلتقط العقل مكامن إيجابياتها، ما جعل بعضها يعيش بدون مشاريع واقعية ملموسة، وزعماؤها فقدوا البوصلة بسبب الضغط القوي الناتج عن العجز في توفير المستلزمات والحاجيات اليومية لشعوبهم، وأن ممثلي هذه الشعوب أصبحوا غير قادرين على الاستجابة إلى طموحات شعوبهم، بسبب عدم أو سوء فهم الواقع المكاني وربطه بالمسار الإنساني الكوني، خصوصا، وأن الخطاب لم يعد يغني عن الحاجيات والمتطلبات.
في خضم هذه المتغيرات بدا يتضح أن اعتماد النظريات العلمية له قدرة أكبر على التحكم في الطبيعة وجعلها في خدمة الإنسان، بابتكار كيفيات تحقيق العدالة الاجتماعية، ما جعل التقنوقراط، بقوة الأشياء، هم الوسيلة المثالية الأقرب من معالجة المشاكل المستعجلة التي لا يمكن حلها بالشعارات والخطابات الحماسية.
يقول " كولوش ساخرا " :" التقنوقراط أناس حين تطرح عليهم السؤال، جوابهم يجعلك تفقد حتى معنى السؤال الذي طرحته". مع الأسف لكل حقيقة مرارتها، ألا يحق إدماج بعض نظريات التقنوقراط في الإيديولوجيات، وتدقيق الخطاب السياسي بتأسيسه على القواعد العلمية ليصبح قابل للفهم، وللتنفيذ، و للتأطير. ألا تشكل هذه المظاهر تطورا طبيعيا عجز السياسيون على التحكم فيه، بفعل الإنفصام بين مثالية الخطاب ومادية الواقع، والذي ينتجه الخطاب العاطفي، مما حال دون الانتباه إلى تعبيرات هذا الجيل العاكسة لمعاناته من ظروف تجعله أكثر ميولا و عرضة للسلبيات المترتبة عن القصور في فهم التطور، و في التعاطي مع الحداثة بمفهومها التراكمي. فالحياة كما قال " باولو كويلهو" : " قطار وليست محطة".
هناك متغيرات مذهلة في المفاهيم، وأصبح اللبس يحيط بممارساتها، وعدم فهم هذه المتغيرات أدى إلى خلق انفصام بين الفعل والتعبير عنه، حيث لم تعد الكلمات تستعمل في سياقاتها الفكرية والتواصلية وبالدقة المطلوبة لكي تعطي معناها ، وباتت تأخذ ألوانا متعددة حسب مزاج ونزوة كل فرد ، ولم تعد للمفاهيم قوة الإقناع ولا هبة الاحترام، لأنها لا تواكب التحولات الجيلية. كل هذا حصل في شكل تمرد الأجيال التي عايشت هذه التحولات وكبحت جماحها بجمود ثقافات مجتمعاتها المترددة أمام التطور، ما جعلها الآن لا تتوفر على الشرط الحصري لمسايرة تطور الإنسانية، بعلة اصطدامها بالشعارات و الطروحات المعطلة والمنتهية صلاحيتها، تحت ذريعة الحفاظ على الهوية، وحماية الذات والتشبث بامتلاك الحقيقية، وكأن الطبيعة هي المعيبة، حتى اختلط هذا الإحساس بمراهقة حب الحياة دون الإبداع في اكتشاف معناها، أو ابتكاره وتطويره حسب المتغيرات والتحولات.
وحده هذا الجيل، الذي تعايش مع هذه التحولات ويحمل جيناتها، يكتسب أدوات التناغم مع وتيرة التطور ومواكبته شريطة منحه المشعل، أي الخبرة والتراكم والملازمة اعترافا له بالوجود، فهو لايبحث عن فرض ذاته أكثر مما يطمح إلى الاعتراف له بالذات، ولا يريد أن يقنع أكثر ما يصبو إلى الإنصات إليه ومصاحبته، فالتطور الطبيعي للمجتمعات يمر عبر الأجيال على قاعدة استثمار الماضي بأمثلته وعبره. فالذي ينسى الماضي محكوم عليه بإعادته "جورج سانتيانا".
ما يمكن استخلاصه هو أن مقاومة هذا التطور لا تشكل منافسة بين الأفكار والنماذج، أكثر مما هي وسيلة لإنكار حقائق الآخر، وتحييد دلائله في الحياة، ما أدى إلى الرفض المتبادل في الحق في الحياة. الأمر معقد، والتعبير عنه يبدو هشا وغير مستقر، لكن في العمق، منع أي كان من التعبير، ولو كان هذا التعبير رديئا وتافها، يعني مصادرة حقه في الوجود، خصوصا أن مسؤولية إنتاج عوامل الرداءة تنسب للتربية، التعليم، التأطير والتثقيف. إن لم نطرح المشكل على هذا النحو، فنحن نهمل الشكل الأساسي للشرط الإنساني، لأن الحق في الحياة لم يعد فقط بيولوجيا لدى الإنسان، بل يهم كذلك الفكر والاعتقاد والتعبير والثقافة. يجب طرح الحق في الحياة بهذه الطريقة، لندرك معنى حق الآخر في الوجود، كمدخل للارتقاء بمفهوم الحرية. علما أن الحرية وحش مدمر إن لم يتم إدراك معناها الجوهري كمفهوم، وتقنين ممارستها
قال "اينشتاين"مند قرن من الزمن: "أصبح بديهي أن التكنولوجيا تجاوزت إنسانيتنا"، فعقل الإنسان ما قبل التكنولوجيا الذرية والخلوية كان يشتغل في إطار الطبيعة الملموسة. لكن مع هذا التقدم التكنولوجي، باعتباره منتوجا إنسانيا في إطار الطبيعة، أصبح العقل يشتغل بسرعة أكثر وبدقة أكبر، وبأقصى درجة الانتباه والتركيز، حيث في اليوم الواحد يمر الفرد من عدة وضعيات مختلفة، وكل وضعية تتطلب تدبيرا خاصا بها، وذلك بوعي كامل وبهاجس الخوف من الخطأ تجاه الواجب فعله والممنوع ارتكابه، وكذلك الاجتهاد في هامش التطوع، علما أن هامش التطوع هو الذي يفرز عوامل التطور والتقدم وينتج ثقافة الاجتهاد والإبداع في أنماط وأساليب العيش، وتحديث وسائله تماشيا مع هذا الاجتهاد والإبداع. يبدو طبيعيا أن ينعكس هذا النمط على السلوك البشري في طريقة ووثيرة تفكيره، في تعبيراته الحركية واللفظية والفزيائية وفي عفويته وردود فعله. هذا التحول يستلزم تغيير أساليب التربية والتعليم و التأطير و الترفيه، وهو ما يتطلب نقاشا عاما، يؤطره المفكرون وتسهم فيه كل الفعاليات بمسؤولية ونكران الذوات الفردية والجماعية، لكن حين يزيغ النقاش عن منابع الفكر والعلم والمرجعيات، نصطدم بنقاشات خاطئة، تستهلك طاقات ذهنية معتبرة وتسبب إرهاصات تنهك العقل وتجعله غير قادر على استيعاب الواقع، فعدم ضبط وتوحيد وتحيين التعاريف يفقد الكلمات والمفاهيم مرونة وضعها وتفاعلها في أسئلة صحيحة وخصبة، ما يزيدها تعقيدا وعقما وإفرازا لعوامل الرغبة في رفض الآخر، فتجويد الأساليب وصقل الذات نهج طبيعي، والطبيعة لا تخطيء.