هي ذي القاهرة، مدينة لكل المتناقضات، وجماع لكل الأصناف ولألوان، يتجمع فيها الناس البسطاء والمثقفون، الأغنياء والفقراء، والسياح ولصوص الآثار، والمناضلون ورجال المخابرات الدولية، والعابرون إلى مدن الشمال الأوروبي أو الشام العربي أو الخليج... وكما أن حركتها لا تتوقف، لا تتوقف حركة مهرجاناتها الثقافية والمسرحية والسينمائية. لا بد لمهرجان المسرح التجريبي من أن يشبه القاهرة لأن المثل المغربي يقول: "الشيء الذي لا يشبه صاحبه حرام".
للمسرح إذن ديدنه الخاص، وتجاربه الخاصة، يتفاعل مع العصر بمزاجه الخاص، ولا يتبع الحياة عاكسا إياها في مراياه. وحين انفجرت نظريات المسرح السياسي غداة تحولات القرن العشرين، تحول المسرح الآن إلى ما يشبه مصهرا للخطابات دون أن يعلن ارتهانه بنظرية محددة، فامتزجت الأساليب والجماليات، وتراجعت النظريات الشمولية لتفتح المجال إلى الأساليب المتجددة.
لن أنسى طبعا ليلة اختتام المهرجان، حين كان الممثلون الإيطاليون مكسوري الخاطر، لأنهم لم يتلقوا تتويجا، بعد جهد كبير في تقديم المسرحية ذات الساعتين إلا ربعاً، مرتين متواليتين في نفس الليلة. كانوا يجلسون على درج الأوبرا الصاعد إلى طوابقها العليا، احمرت وجوههم الكالحة، يدخنون السيجارة تلو الأخرى، يكاد يغالب الدمع بعضهم. هي ذي المسابقة، ولكن مسرحيتهم، تنضاف إلى المسرحية المكسيكية والكورية لتصبح جواهر المهرجان ودرره المضيئة...
ولكن في أغلب هذه العروض، تجاورت هذه الدلالات الكثيفة للبناء الدرامي وشخصياته مع بحث إخراجي حقيقي، واشتغال عميق على لغات المسرح من سينوغرافيا وإنارة وملابس وغيرها. ولربما بقي الممثل هو الحلقة التي تحتاج إلى جهد تجريبي أكثر، واهتمام أعمق. ولعل ضعف الممثل في المسرح العربي يبدو أكثر جلاء في بعض المسرحيات التي راهنت على الكوريغرافيا والتشكيلات الجسدية، حيث برز أننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق أفضل تجليات الممثل ولغته الجسدية على الخشبة.
في العرض المصري، تيقنت من أن المسرح، قبل أن يكون متراسا من الأساليب والجماليات، هو إيقاع جذاب، وتيقنت أكثر من أن أعمق موقف نقدي يمكن أن نتبناه هو ذلك الإحساس التام بالمتعة ونحن نشاهد مسرحية ما. لهذا قررت أن أتخلى عن ترسانة المفاهيم النقدية التي تتحول في بعض اللحظات إلى جدران إسمنتية، وأن ألوذ بمتعة مسرحية عرفت كيف تجعلني أنسى الكاميرا التي لا تفارقني.
الثالثة صباحا... أستقل السيارة مع صديقي د. مبارك الكنعاني نحو المطار.. طرقات القاهرة ما تزال تغلي بحركة السيارات... ندخل المطار مرفقين بكلمات الباشا والبيه الأسطوريتين في مصر... وكل منا يلتحق بتسجيل الأمتعة... التي تجاوز طبعا وزنها الحد المسموح بها. تستوقفني شرطة المطار في تحقيق جديد: متى دخلت؟ وكيف؟ هل تملك جواز سفر آخر؟... يبدو أن موظف شرطة المطار عند دخولي إلى مصر قد نسي أن يضع خاتم الدخول على جوازي، ولحسن حظي احتفظت بورقة المعلومات حيث كان الخاتم واضحا. فكرتُ: ما جدوى الأختام، وقد صارت مصر تسكنني...