يكشف الناقد الفلسطيني الكبير في رصده لسلبيات رواية ربعي المدهون عن كيف يتحالف التثاقف وادعاء المعرفة والقصدية المسبقة التي ترغم السرد على تشويه الوعي وتزييف التاريخ، على انتاج سرد ركيك يتسم بالافتعال ولا يستطيع أقناع القارئ أو خلق عالم سردي قادر على امتاعه أو إثراء معرفته بموضوع النص.

ظاهرة التثاقف وآثارها المدمرة على السرد

«مصائر ـ كونشرتو» ربعي المدهون نموذجا

وليد أبوبكر

 

1. في معنى التثاقف
تحمل مفردة "التثاقف" معاني عدة في القاموس، كثير منها إيجابي، يحيل إلى معنى التبادل الثقافي، وهو ما يكون مجديا في لقاء الثقافات المختلفة، وفي أخذ بعضها من بعض، بما يفيد الأطراف جميعا. وهذا التوجه اجتماعيّ في مجمله، وحضاريّ، لأنه يصدر عن حراك طبيعي عام، عرفته كلّ اللغات، وساهم في تطوير كثير منها، كما ساهم في بقاء بعضها حيا على مدى أزمان طويلة، بينما باد بعضها الآخر، الذي فشل في مثل هذا التكيف.

أما حين يتعلق الأمر بالسلوك الفرديّ، فسوف ينتقل إلى توجه سلبي، يحيل إلى المعنى القاموسيّ لعبارة "تثاقف الشَّخصُ" بمعنى أنه "ادعى الثقافة، وأخذ يتعالى على الناس بما يستعرضه" منها، سواء أكان ما يملكه من الثقافة حقيقيا أو من باب التظاهر بأنه يملكه.

بهذا المعنى السلبيّ، حين يلتحق "التثاقف" بالسرد، فإنه يتحوّل إلى مصطلح نقديّ، يحمل معنى التعالُم، أو استعراض الثقافة في سياق غير ضروري، أو هو استعراض المعرفة عموما، من باب الإشعار بأن الكاتب يمتلكها؛ لا لكونها تشكل جزءا لا يستغنى عنه في ما يكتبه، وإنما بهدف إشعار القارئ ـ بوعي منه أو دون وعي ـ بأنه "يعرف" أكثر.

في هذا الإطار، يعمد الكاتب إلى إقحام ما يعرفه، وربما ما لا يعرفه، في مواضع لا تتسع لها، أو لا تكون لازمة فيها، وبذلك يكون معنيا بوجودها لذاته، لا لموضعها الضروريّ في السرد، وهي غالبا ما تخرج عن السياق، لأن غرضها الذاتي البحت، لا يخرج عن محاولة ترويج الكاتب لثقافته، حقيقية كانت أو مدّعاة، وبالتالي إقناع المتلقي بأنه يملك من الأهمية ما يستحق معه أن يحظى بالاهتمام.

مثل هذا الغرض يوحي على الفور بسمتين يصعب الفصل بينهما: الأولى هي النرجسية التي تقود صاحب النص، وتجعله "يميّز" نفسه بعبارات صريحة، يلحّ عليها كثيرا، إلى الدرجة التي قد تتسبب في نفور القارئ. وتتخذ هذه النرجسية مظاهر عديدة، بعضها صريح، وبعضها الآخر خفي، أو موحٍ، لكن أهدافه لا تستطيع أن تتخفى.

أما السمة الثانية، فهي القصدية التي تسبق كتابة النص، فتؤدي به إلى الافتعال، وما ينتج عن ذلك من انتقائية. القصدية تعني أن النصّ يخضع للتوجيه المسبق، أو لطرح فكرة مسبقة، أكثر مما يصدر عن الموهبة، ما يجعله نوعا من النصّ "المصنوع" من أجل أن يطرح أفكارا جاهزة، تفصّل الكتابة على مقاسها، وذلك يتعارض مع صدق الكتابة وتلقائيتها منذ البداية، خصوصا حين تكون هذه الأفكار غير ناضجة، ولا تحظى بالقدرة على الإقناع، وكثيرا ما تخرج على الإجماع الوطني في قضية أساسية، ولا يكون هدفها تطويرا في الثقافة أو المجتمع من أي نوع، كما يفترض الأدب الصادق، وإنما تكون لها أهداف أخرى، غالبا ما تكون ذاتية أيضا، مثل السعي إلى نيل القبول، من بعض الأطراف النقيضة، بنيّة الكسب المحتمل، بطريقة ما، من خلالها، عبر التقدم للجوائز المشكوك في صدقية تحكيمها (مثل الجائزة العالمية للرواية العربية ـ المعروفة باسم بوكر العربية) التي أخذت تعطي بعض الكتاب زخما نرجسيا حين يرشحون لها)، أو الإغراء بالترجمة، التي لا يحتمل أن تتحقق، خصوصا في فن الرواية، التي لا تستطيع أن تكون خادعة مثل الشعر الذي يفقد خواصه عند الترجمة، لأن الرواية سرد يستند إلى مجموعة متناسقة من الأحداث، يتمسك الغرب بأصوله، ويرفض الافتعال، مهما حمّل من أفكار تحاول أن تجعله قريبا مما يميلون إليه، حول هذه المنطقة، وخصوصا حول الصراع العميق والممتدّ فيها، بين الاحتلال ومقاومته، ما لا يسمح للعالم بأن يحظى ببعض الهدوء الذي ينشده، منذ عشرات السنين.

1 ـ 1 كونشرتو الهولوكوست
في رواية ربعي المدهون "مصائر ـ كونشرتو الهولوكوست والنكبة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت: 2015) يبدأ التثاقف من العنوان ذاته، ثم يمتدّ إلى بقية النص، ولا ينتهي إلا عند السيرة المختصرة للكاتب، قبل الغلاف الأخير، حين يظنّ أنه يخلق لنفسه هيبة من نوع ما، وهو يسجل أنه "يحمل الجنسية البريطانية"!

إن في إضافة عنوان فرعي يحمل صفة "كونشرتو" محاولة ساذجة للإيحاء بأن الكاتب ضليع بالموسيقى، وكأن ذلك يميزه كاتبا. وعند قراءة الرواية، فإن القارئ لا يشعر بأية علاقة بين "الشكل" الذي يتخذه النص، والنوع الموسيقيّ الذي حمّل في العنوان. لكن الكاتب لا يكتفي بأن يختلق لعنوانه جوّا غريبا عنه، وإنما يعيد بعد ذلك تنويع تثاقفه من خلال "توجيه" القارئ إلى طريقة محدّدة في التعامل مع الرواية، وذلك عن طريق مقدمة لا لزوم لها، تتكرّم على القارئ بأن تعلّمه كيف يقرأ، وكأن صاحبها يقول إن الرواية فوق مستوى الآخرين، وإن من واجبه أن يقرّبها من فهمهم بأن "يشرح" لهم طريقة التواصل معها، حتى يوهم من له علاقة بأنه يقدّم نصا استثنائيا، قراءته ليست في متناول اليد، وفي ذلك حيلة غير ذكية على الإطلاق.

والنص ليس استثنائيا بالطبع، فهو مجرّد رحلة سياحية معادة، لا تختلف في أسلوبها ولا في مضمونها عن الرحلة السابقة للكاتب ذاته، في روايته السابقة اليتيمة، "السيدة من تل أبيب"، التي افتتحت مشروعه الروائي (بعد سنّ السبعين، كما تشير السيرة)، إلا بتوسيع أماكن الزيارة، فبدلا من غزّة، تسير الرحلة السياحية هذه المرة إلى عدد من مدن فلسطين (عكا، يافا، القدس، حيفا، اللد، الرملة)، لتكرر التأكيد على "أهدافها" التي كانت في العمل السابق مشبوهة، وسوف تزداد سوءا في هذا العمل.

ولعل من اللحظات الصادقة القليلة، غير المتكلفة، في العمل، أن الكاتب يعترف منذ البداية بأن "الصنعة" هي التي قادت عمله؛ فهو في مقدمته الزائدة عن الحاجة تماما، يعترف بأن العمل على النصّ كان صعبا لأن الأحداث "تجري في ستّ مدن فلسطينية لم أُقِمْ في أيّ منها" (ص 8)، ما يتناقض مع "المكان الحميم" الذي يستطيع الكاتب أن يستثمر شعريته حين يكتب، بسبب معرفته الدقيقة به، وارتباطه الوجداني، لا السياحيّ، وهو ما لا يستطيع جهد الآخرين الذين تتمّ الاستعانة بهم أن يجعله ممكنا.

ويعلن الكاتب صراحة قبل ذلك عن أنه أقدم على "توليف" النصّ في "قالب" الكونشرتو الموسيقي (ص 7)، أما عند الكتابة، فهناك وضوح في ما يرد على لسان وليد دهمان، الشخصية الرئيسية في روايتي المدهون الوحيدتين، حين يتساءل، في دعاية صريحة ـ تثاقفية نرجسية غريبة وصادمة ـ للكاتب داخل نصه: "هل أساله (أي الكاتب المدهون) عن مصيري في روايته "السيدة من تل أبيب" التي جعلني بطلا لها، وكتّبني رواية أخرى خلقت أنا أبطالها وصنعت أحداثها؟" (ص 167). إن كل ما في معاني "توليف" وقالب"، و"صنعت" يوحي تماما بمعنى القصدية المسبقة التي تناقض التلقائية في كتابة السرد، وهي تقود إلى تجلّي "التثاقف" بكلّ أشكاله بعد ذلك دون حدود.

في هذا التثاقف، أو التعالُم، استعلاء يبرز كلّ الوقت من خلال استعراض معارف أو "معلومات" يظنّ الكاتب أنه وحده يعرفها، وأن طرحها يوحي بالمصداقية، بينما هي في الواقع تفيض نرجسية عالية، تعلن عن نفسها باستمرار عبر الرواية، خصوصا وأن معظم هذه المعلومات معروف، أو موجود في كتب التاريخ، كما في أحداث كفر قاسم؛ أو الاحتلال الأول، أو الثاني لفلسطين، أو جائزة الدولة الإسرائيلية لإميل حبيبي؛ أو موجود في الجغرافيا، كما في أبعاد قبة الصخرة، وفي "التلة الفرنسية" التي تمّ التوصل إلى ارتفاعها ـ كما تشير الرواية ـ عن طريق البحث في غوغل (ص 96)، المتاح لكل قارئ؛ أو في كتب "فن الإتيكيت"، كما يحدث وهو يعلّم القارئ كيف يأكل بالشوكة والسكين! (ص105)؛ أو في كتب "فن الطبخ" في بعض الأحيان، كما في الحديث عن صناعة الكنافة النابلسية، أو عن المقلوبة، التي يعتبرها (كشخص كلّيّ المعرفة) غزّاوية بشكل حصريّ، وكأن بقية محافظات الوطن لا تعرفها! وغير ذلك كثير جدا لدرجة أنه لا يتوقف عن محاولته الحثيثة في تعليم القارئ اللغة العبرية، التي تبدو أثيرة لديه، من خلال الاستمتاع بترديدها (ص 108).

هذا "التثاقف" لا يعلن عن نفسه عند التعبيرات السانحة فقط، ولكنه ينسحب على كل شيء في الرواية، بتصميم شامل، ويبرز في تفاصيل فقراتها، بإصرار شديد، ما يجعل من الممكن أن يصنف على شكل "فئات" تثاقفية، لكلّ منها حضورها الأساسيّ، وتفرّعاتها العامة، وانعكاساتها على الفكر الذي تروّج له الرواية، بافتعال تثاقفي أيضا، وهو الفكر الذي يدور حول "التعايش" الذي لا مفرّ منه، مع المحتلّ، واعتباره ممكنا، بالشكل الذي اقترحته طفولة يسارية فلسطينية قبل عدة عقود، قبل أن تحتكّ منظمة التحرير الفلسطينية، والواقع الفلسطيني، خصوصا بعد أوسلو، بهذا الاحتلال بشكل مباشر، وتتعرّف على طبيعته الاستيطانية، التي تصرّ على امتلاك الأرض دون سكانها؛ وقبل أن يدرك الفلسطيني جيدا أن التعايش المطروح، من وجهة نظر الاحتلال، حتى في أوساط من يظن بهم التفاؤل داخله، لا يعني أي شيء يختلف عن التمييز العنصري، الذي يتمّ تطبيقه عن طريق استعباد شعب آخر.

"التوجه التعايشي"، أو التطبيعي الصريح، سبق للكاتب أن طرحه في روايته السابقة، وهو لم يأت في روايته الحالية بجديد، إلا محاولة أن يقول ما هو مباشر في وصف ممارسات الاحتلال، دون أن يقول السياق العام لروايته ما يوازي ذلك. ويبدو أن الكاتب لم "يتعلّم" من تجربته خلال الزيارات التي قام بها، ولا خلال الدعوات التي لبّاها، واعتبرها تكريما لذاته المبدعة، مع أنها جاءته من جهات يثور كثير من الأسئلة حول ارتباطها بذلك التوجه القديم، الذي ثبت فشله، ولم يعد مطروحا إلا بحجم الفائدة الذاتية لمن يتبنونه.

إن التعايش المقترح في الرواية لا ينتهي إلا عند أبواب التطبيع، حتى وإن تصور الكاتب أنه قد يفيده في ترويج ما يكتب، وظنّ أنه يطرح نفسه ـ للغرب على وجه التحديد ـ مؤمنا بذلك، ربما بافتعال سوف يشعر به الغربيّ دون عوائق، إذا أتيح له أن يقرأ.

2. في أشكال التثاقف
كثيرة هي الأشكال التي يتجسد فيها التثاقف في رواية "مصائر ـ كونشرتو"، حتى بين ما هو عابر من تفاصيلها، فالكاتب مثلا لا يعفي أسماء بعض شخصياته من ذلك: باق هناك (في تقليد لشخصية باقية في "متشائل" إميل حبيبي، وهو التقليد الذي ستكون له امتداداته)، وجنين وغزة وبيسان وفلسطين، مع ما يميز هذا النوع المستهلك من "الترميز" من سذاجة خالصة لا تستطيع أن تخفي أو تخدع.

كما أن هذا الافتعال يبرز في إقحام شخصيات يهودية دون مبرر؛ فليس هناك ما يدعو إلى التصريح بأن لودي الروسية، التي تنافست على حبها شخصيتان أساسيتان في الرواية، يهودية، مع أن نفي ذلك يأتي على لسانها منذ بداية التعارف، لأنها تعتبر نفسها شيوعية. وكثيرا ما يشعر القارئ بوصف زائد يهدف إلى طرح اسم يهوديّ يصرّ الكاتب على أنه "يُشعِر بالراحة"، كما في الطرح التثاقفي المقحم للشاعرة اليهودية ليا بورتمان، صديقة الأم الأرمنية العكاوية التي تفتتح الرواية بحضورها جلسة وصيتها، وبحكاية هروبها مع ضابط إنجليزي في فترة الانتداب (ص 23).

ثم يضاف إلى ذلك اهتمام خاص بشرح الطقوس اليهودية في بعض المناسبات، مثل أن "دفع النقود أو تلقيها في عطلة السبت، يعدان خطيئة عند المتدينين اليهود" (ص 63)، ولا يستثنى من هذه الطقوس، لدى الكاتب، ما يشكل دعما لحقّ اليهود الإلهي الذي يدّعونه في أرض فلسطين: إن وليد دهمان ـ مثلا ـ يمازح حماته العكاوية البريطانية، بما هو خارج عن سياق الأحداث، بعد أن تنتهي من توضيح وصيتها، فيقول، "بينما كؤوس الجميع معلقة في الهواء: أتعرفين أن اليهود يعتقدون بأن من تدفن جثته في تلك البلاد، يكون أول من يبعث حيا ويكون في مقدمة طابور المنتظرين على باب الجنة يوم القيامة." (ص 35)، دون أن يكون في هذا "المزاح" شيء من المزاح، أو ما يبرر أن يقال أصلا. وفي مثل هذا القول نفاق هدفه أن يرضي الغرب بمثل هذا الطرح الذي لا مناسبة لوروده، كما أن فيه ادعاء من الكاتب بأنه يملك ثقافة حول هذا الموضوع، فهو يعرف "طقوس اليهود"، حتى وإن لم تكن لسرد هذه المعرفة صلة بسيرورة الرواية.

ويمكن القول إن التثاقف الذي تزدحم به الرواية ينسحب على محاولات كثيرة للتنبؤ بما سيأتي من أحداث، وعلى تخيل ما يفكر فيه الآخرون، ثم على مراكمة أسماء المطربين الأجانب، وأغانيهم، والكتّاب، وكتبهم، إلى الحدّ الذي يجري فيه ما يشبه التلخيص لإحدى روايات أهداف سويف، وإلى حد ما لرواية المتشائل.

كل هذا التثاقف يوقع الرواية في أخطاء فنية وفكرية، تكاد تجرّدها من الالتزام بفن الرواية، والاكتفاء بسرد الرحلة السياحية المبسطة في بعض المدن الفلسطينية المستباحة، مع الترويج السياحيّ الذي لا منطق فيه، للأفكار المسبقة.

2 ـ 1: في باب اللغة:
مع أن الرواية مكتوبة باللغة العربية، إلا أن هذه اللغة ذاتها متلوّنة ويجري تطويعها لتناسب ما يطرحه الكاتب من أفكار، أو لتشكل أداة لهذه الأفكار بشكل ما. لذلك تبدو لغة الرواية بكاملها مفتعلة تماما، ما يمكن أن يلاحظ في معظم الاقتباسات التي سترد لاحقا.

وتكون هذه اللغة مرة فصيحة (مع حضور كمّ لا يستهان به من الأخطاء)؛ ثم تكون مرّة أخرى عامية، وغير متقنة، لأنها تخلط اللهجات، فتجعل لهجة يافا غزاوية على سبيل المثال؛ وفي مرة ثالثة تتحوّل إلى لغة "مكسّرة"، كما يحلو للكاتب أن يتصور أن الأجانب يلفظونها. وإذا كان من المقبول أن تستخدم العامية في الحوار، رغم أن الكاتب لا يلتزم بذلك، إلا أن استخدامها في السرد يبدو غريبا في بعض الأحيان، كما أن استخدام "اللغة المكسّرة" يثير السخرية وهو يذكر بالطريقة الساذجة في بعض الأفلام العربية القديمة، التي غالبا ما تميل إلى الكوميديا، حين كانت تقدم شخصية من "الخواجات"، مع أن "التكسير" هناك يمكن أن يكون مقبولا، لأنه يقدم صوتيا، ما يفتح مجالا للضحك، بينما يقدم في الرواية مكتوبا، ليفتح مجالا للسخرية من الأسلوب، خصوصا وأن تثاقف الكاتب يتدخل بين حين وآخر، ليضع بن قوسين ما تعنيه اللفظة التي تنطق بها شخصية من أصل أجنبي، باعتباره خبيرا في كل شيء.

والأصل الأجنبي لبعض الشخصيات، الذي هو جزء من التركيبة المصنوعة للرواية، ربما كان وراءه هدفان: الأول هو التثاقف عن طريق اللغات، والثاني هو طرح الأفكار، التي توحي بأنها أممية. وفي مجال اللغات، يستخدم الكاتب أربع لغات أخرى (غير العربية وتفرّعاتها) داخل الرواية، ليوحي للقارئ بأنه يتقن هذه اللغات جميعا، وكأن ذلك ـ حتى لو كان حقيقيا ـ يزكّي كتابته، مع أن بعض مشاهد هذه الكتابة كانت تفتعل، بهدف ظاهر، هو التحدث بواحدة من هذه اللغات الخمس.

من هذه اللغات، الإنجليزية، وهي لغة جولي، زوجة وليد دهمان، السارد البطل في الرواية، والتي تزور البلاد معه، وتعشق عكا، مسقط رأس والدتها، وتفكر بأن تعود لتعيش فيها، بينما لا يبدي الزوج الفلسطينيّ المهجَّر أي اهتمام بمقترح العودة، بل ويوحي بأن زوجته نسيته بمجرد وصولها المطار، منهية رحلتها السياحية.

وقد استخدم الكاتب الإنجليزية كثيرا، بحروفها الأصلية حينا، ومكتوبة بالحرف العربي حينا آخر، وحين فعل، لم يتأخر في شرح المعنى، مثل المعلّم الشاطر، وهو ما فعله في اللغات الأخرى التي يتثاقف بها داخل الرواية، دون أن تضيف إليها شيئا من التميز، مثل اللغة الروسية، لغة المرأة التي أحبّها الصديقان (وليد وجميل)، فشكلوا معا "ترويكا" أهم من تلك التي كانت تتسيد الكرملين باسم دكتاتورية البروليتاريا" (ص 186)، وتزوّجها جميل، لتكون معه في استقبال صديقه، حتى تتمّ زيارة حيفا، ويدور الحديث بالروسية وحسب.

وكان على الكاتب ـ بالطبع ـ أن يبرّر وجود هذه المرأة في الرواية، وأسباب استخدام الأصدقاء الثلاثة لغتها، فافتعل أحداثا تخصّ دورة في موسكو (لمدة عام، في الكوادر الحزبية، كانت كافية للحبّ، والتنافس، والزواج، وتعلّم اللغة إلى درجة استخدامها في الكتابة الأدبية). ووردت هذه الأحداث مقحمة في وقت مستقطع خلال رحلة الأصدقاء إلى حيفا، عروس الكرمل، بالطبع.

أما الفرنسية، فقد جاءت لغة عابرة في بعض الأوقات، واستخدمت من باب تقليد بعض كبار الكتاب الذين يمرون بها في كلمات متداولة، تشكل جزءا من ثقافة إحدى طبقات مجتمعهم في العصر الذي يعيشون فيه، كما يفعل تولستوي مثلا في روايته الشهيرة "أنّا كارينينا".

لكن اللغة الثانية، من ناحية حجم الاستخدام في الرواية، ومن حيث الاهتمام الشديد بتقديمها، هي اللغة العبرية، التي يجري الكاتب بعض المقارنة بينها وبين العربية، ليشير إلى التشابه الذي يعني بكل بساطة أنهما لغتان شقيقتان، تنتميان بالتالي إلى شعبين شقيقين، يمكنهما أن يتعايشا معا، وهو الطرح "السياسي" الذي تحاول الرواية بمجملها أن تتقدم به.

ومن الواضح أن استخدام هذه اللغات لا يفيد الفنّ الروائي في شيء، سوى المزيد من التطويل، وإذا تجاوزنا التثاقف عن طريق إيراد بعض الأغاني بلغتها الإنجليزية، فإن كلّ كلمة وردت بلغة غير العربية، جرت ترجمتها، ما يعني أن وجود اللغة الأخرى لم يكن ضروريا، لا في الفن ولا في المعنى، إلا بقدر ما يقتضيه التثاقف الذي يسود الرواية كلها، ويجعل كل ما فيها متكلفا.

والتكلف انعكس على الصياغة اللغوية في الرواية أيضا، حتى إنه يمكن القول إن لغتها تفتقر إلى الحساسية التي يحتاج إليها السرد الروائي. ولعل الأوصاف والشروح والتركيبات الغريبة التي ترد في الرواية تعطي فكرة عن هذا التكلف، وهي مما يصعب حصره بسبب كثرتها، وكأن الكاتب يتصوّر فيها نوعا من البلاغة، مع أنها تتسم بنشوز لا يليق بالسرد، لأنها تبتذله: فحين يصف الكاتب اليوم الصيفي بأنه "دافئ استوردت بريطانيا شمسه من الهند" (ص 36)، فإن الاستغراب لا بدّ وأن يصيب القارئ الواعي وهو يتساءل: ما الذي أدخل هذا في ذلك، سوى التثاقف؟

مثل هذا النوع من التعبير يتكرر كثيرا، ليوحي بأن الكاتب يتقصده؛ فحين تتحدث الأم ـ في الهاتف ـ عن دهون أبو فاس، تعلّق: مش الفاس اللي بنكشو فيها الأرظ، لأ يمه.. أبو فاس اللي بيدهنو فيه رجليهم عشان الروماتيزم" ( 62)، ومن الغريب أن الأم التي تتحدث بلهجة عامية خالصة، تستطيع أن تلفظ الاسم الصعب للمرض، دون خلل.

لقد ألحّت جولي على أن الوقت قد حان "ليستعيد رأسها مسقطه. مع أن رأسها "سقط" في قاعدة عسكرية بريطانية، ولم تهبط من رحم أمها في ساحة عبود" (ص 48)؛ والباب القديم "توزّعته ثقوب كما تتوزع المستوطنات اليهودية جغرافيا فلسطين (ص 78)؛ كما أن باسم يعود "من جولته في اللد بينما الليل يستعد للسهر مع جنين (81)؛ أما أنفاس الزوج فهي تتردد من حول زوجته "هادئة مثل موج أتعبه صخب النهار" (ص 83)؛ ويبدو تفصيلا مضحكا أن تتمّ المفاجأة أن "باق هناك" عاد ـ إلى الوطن بعد هجرة شهرين ـ "ليتزوج أم جنين، التي لم تكن قد أصبحت أمّها بعد، ولا أُمّاً لأيّ من أخواتها الذين يكبرونها"! (109).

ومن السهل الإشارة إلى بعض النماذج السريعة الأخرى، لمثل هذه التراكيب الغريبة: بيت (عربي طبعا) تشبه واجهته الملتصقة به على الرغم منه، نصف نعل مهترئ (56)، ورجل نحيف إلى حافة السمنة (126)، وجنين وضعت كأسها على طاولة تلامس حافتها مؤخرتها (128)؛ ورشفت ما تبقى من فنجان قهوتها ولم تبقِ شيئا لقراءته (مع عدم وجود من يفكر أصلا بقراءة الفنجان، فهو كلام مجاني) (129)؛ حتى إنه لم يتثاءب، ظنا منه أنه قد يدفع ثمن ذلك (141)؛ رمى نفسه على المقعد المقابل لنا بطريقة ستعاتبه مؤخرته عليها (163)؛ بدا معها جدلهم مثل سلطة كلام بألفاظ حارقة (237). وإذا كان بعض هذه النماذج قد يبدو مقبولا، فإن وقعه في سياقة لا يحتمل.

وهذا التكلف يهيئ لبعض السقطات اللغوية التي تفلت من "الصنعة" مهما كانت محكمة، ولذلك فإن جنين مثلا قرأت رسالة من مجهول "قفزًا بين سطورها، تلمّ منها المعاني على عجل، ثم أعادت قراءتها، مفصلة، عشرات المرات حتى حفظتها"، وكل ذلك يوحي بأن الرسالة تتسم بكثير من الإطالة، ليفاجأ القارئ بأنها "لا تزيد على ثلاثة سطور"! (ص 102).

كما أن القارئ لا يستطيع إلا أن يقف مستغربا أمام بعض الاشتقاقات اللغوية الغريبة التي يستخدمها الكاتب، وفي ظنه أنه "يخترع" جديدا في اللغة، دون أن يدرك أن الجديد في اللغة لا تقبله الذائقة حين يكون منفرا، أو غير فصيح، لأن التنافر يقع بين حروفه، مثل كثير مما استخدم، على طريقته في "الأَمْأَمَة" أو "الأوأوة" وما يجري مجراهما.

2ـ2: باب المعرفة:
عندما يرغب الكاتب في أن يزجّ بكل هذا الزخم من المعلومات غير الضرورية في عمل واحد، فإن الوقوع في الخطأ لا يكون أمرا طارئا. وفي الكونشرتو مجموعة من الأخطاء التي تؤكد أن كثيرا مما قيل عن الابحاث والاستشارات لم يكن إلا من باب التثاقف، أو بثّ الثقة في نصّ يفتقر إلى الثقة، لأنه يفتقر إلى البحث الجاد، وتغيب عنه الاستشارة والتدقيق، في أمور تكاد تنسب إلى المعرفة الأولية العامة.

إن القارئ يستطيع أن يشكك تماما في أن الأسماء الكثيرة التي قدم لها الشكر في مقدمته التوجيهية "قبل القراءة"، لا يعرف أحد منها أن الشهيد مصطفى علي الزبري هو نفسه أبو علي مصطفى، قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي اغتاله الاحتلال بصاروخ داخل مكتبه (ولا داع هنا للتفصيل التثاقفي، فالحادثة مشهورة). وإذا كانت هذه المعلومة الحديثة والمهمة، والتي كان لها صدى كبير، وردود فعل واسعة، تغيب عن الكاتب وشهوده الذين شكرهم، فإن المنطق الفلسطيني في التسميات يشير إلى ذلك: فأبو علي يعني في الغالب أن اسم والده هو علي، كما هي العادة في التسمية، ومصطفى هو الاسم الصريح للشهيد، ليكون مصطفى علي، أما الزبري فهي عائلته (وللتثاقف يقال إنها معروفة في بلدة عرّابة القريبة من جنين، التي حملت إحدى شخصيات الرواية اسمها). لكن الكاتب، مع شهوده الكثيرين، ومستشاريه، وبحوثه، استطاع أن يحول الشهيد الواحد إلى اثنين في نهاية قائمة شهداء (تثاقفية) يقدمها: "... أيمن حلاوة، مصطفى علي الزبري، أبو علي مصطفى..." (ص246).

وليس هذا هو الخطأ الوحيد الذي يقع فيه الكاتب نتيجة عملية التثاقف التي تسود روايته، فلعل من السهل مثلا مناقشة موضوع السفر المنفرد للزوجين اللذين يحملان الجنسية الأمريكية (باسم وجنين)، كل في طريق، لأن مثل هذا التفريق مفتعل، ما داما قادرين على الوصول من أي مطار يشاءان، بقدرة الجنسية التي يحملانها. والكاتب نفسه، ممثلا ببطل روايتيه اليتيمتين، دخل ما يسميها "البلاد" ـ ويعني فلسطين ـ غير مرة من المطار الذي نسميه نحن مطار اللد، ويسميه الكاتب مطار "بن غوريون" في اللد (ص 48 مثلا)، ربما تيمنا بالمؤسس، أو لدمج الاسمين معا (كاسم واحد لشعب واحد مثلا). لماذا تعود الزوجة ـ كالعادة ـ عبر مطار بن غوريون في اللد، ويعود الزوج من مطار عمان، ليحكم عليهما بالسفر منفصلين في كل مرة يغادران فيها البلاد، والعودة إليها منفردين كأنهما "زوجان تراجعا عن طلاق مؤقّت أجبرا عليه"؟ إن الجملة الوصفية التثاقفية الزائدة في النهاية هي الهدف، من أجل خلق شيء من التراجيديا الساذجة وحسب، وهي بالضبط ذات التراجيديا المتكلفة التي لا تسمح للأمريكي بأن يعمل في إسرائيل.

قد يكون التحفظ الوحيد الذي يمكن أن يواجه الزوج في موضوع المطار هو أن يكون حاملا للهوية الفلسطينية، وهو أمر غير واضح في الرواية، كما أنه لا يمنع الزوجة ـ منطقيا ـ من أن تتلافى الانفصال السفريّ المأساوي، وتعود مع زوجها عبر مطار عمان، إلا إذا كانت ترى أن توحيد السفر مع الزوج لا يستحق عناء الجسر، وهو عناء لا يعرفه الكاتب البريطاني الجنسية بالطبع، فلا يرد في ذهنه.

ورغم منطقية هذه المعادلة، إلا أنها قد تكون خادعة، وتغيب عن القراءة العابرة، كما قد يغيب ربط إميل حبيبي ببيت الكرمة (ص 202)، رغم ما بينهما من تناقض فكريّ حادّ، يعرفه من يعرفهما دون ادعاء تثاقفي، لأن حبيبي مقاوم شرس، وبيت الكرمة جزء من المؤسسة الرسمية. وقد يغيب عن القارئ أيضا أن يفطن إلى أن 5ا سنة زواج مرّت على الفلسطيني (الذي يتمتع بصحة جيدة) ومع ذلك فإن ابنه الأكبر في الرابعة من عمره (ص 210)، كما قد يمرّ عليه أن الدرجات الكثيرة التي توصل ـ من شارع سليمان القانوني ـ إلى باب العامود "قليلة"، كما تصفها الرواية (ص 215)، رغم أنها ليست كذلك، بالإضافة إلى اتساعها الكبير، الذي يشعر من يجتازها صاعدا أو نازلا بهيبتها الفائضة التي توحي بالكثرة. وقد لا يفطن لحساب السنين في حياة زكريا، الذي قضى 30 سنة من العمل كمعلم في الكويت، وهو يعيش في كندا منذ سنوات يمكن حسابها ببساطة منذ حرب الخليج الأولى (التي هجّرته إلى كندا) حتى الزيارة الميمونة لبطل الرواية وليد دهمان، قبل سنوات قليلة، يمكن حسابها أيضا، ومع ذلك فهو ما يزال "في بداية العقد السادس من عمره" (ص 126)، كما تؤكد الرواية، ورغم مأساة النزوح المتكرر، ما يزال يتمتع بحيوية شاب في الثلاثين! لكن هناك أمورا أخرى لا يمكن التجاوز عنها، ولا يمكن أن تفوت على القارئ، لأنها تقلب الجغرافيا حينا، وتغير التاريخ الحقيقيّ المعروف جيدا، حينا آخر.

في الجغرافيا، أبواب القدس معروفة لمن يرغب في المعرفة (ولا ضرورة لتعدادها تثاقفيا، لأن الوصول إليها سهل)، فهل يوجد بين هذه الأبواب ما يسمى "باب الواد"، (لا شارع باب الواد، أو طريق باب الواد)، حتى يقول الكاتب: "تابعت طريقي في الجهة الأخرى عبر باب الواد وغادرت المنطقة من باب العامود إلى موقف السيارات؟" (ص 229). إن باب الواد، دون تحديد اسمه كشارع أو طريق، في الجغرافيا المعروفة للجميع، منطقة لا تتبع القدس ـ المدينة، وهي بعيدة عنها، فهي المكان الذي يبدأ الطريق إلى الساحل الفلسطيني، بعد الخروج من المدينة وما حولها، والهبوط من الهضاب التي تشكلها، إلى واد يحمل هذا الاسم. كما أنها منطقة معروفة أيضا، لأنها في التاريخ شهدت أهمّ معركة دارت حول القدس زمن النكبة، بين الجيش الأردني والإسرائيليين، وما زالت بعض الدبابات التي أعطبت خلالها موجودة في مكانها، يراها كل من يتوجه لزيارة القدس، عبر ذلك الاتجاه، الذي سارت فيه الرحلة الميمونة للرواية، ويلاحظ أنه تتمّ العناية بها باستمرار، كما ينتصب فيها قبر أحد شهداء المعركة.

لكن أغرب ما يمكن أن يقع فيه كاتب فلسطيني، وتقع فيها معرفته، وأبحاثه، وجهود من استشارهم، هو ما رواه عن عزّ الدين القسام، قائد الثورة الريفية في فلسطين (للتثاقف: أواخر 1935)، لأن كثرة الكتابات عن ثورة القسام لا تترك مجالا للخطأ في أساسياتها: لقد قامت الثورة في أحراش بلدة يعبد، واستشهد القسام وبعض رفاقه هناك، ثم أجريت جنازته في حيفا، حيث دفن في مقبرة تحمل اسمه حتى الآن، تقع في "بلد الشيخ" المهجّرة، الملاصقة لحيفا، والتي كانت سكنا مفضلا لريفيي فلسطين الذين كانوا يعملون في حيفا، قبل النكبة.

رواية الكونشرتو ـ الدقيقة في معلوماتها ـ تحيل هذه الوقائع إلى نقيضها تماما، ففيها تكمل أم جميل حكايتها، بعد أن تتحدث عن ابنة القسام، قائلة عن الشيخ الشهيد، بكل ثقة تنطلق من تثاقف الكاتب: "يا حرام قتلوه وجابوه بالكارّة، العربانة اللي بجرها حمار ابعيد عن السامعين، وأخذوه ع يعبد، وهناك قبروه. قتلوه للقسام بحيفا وشفت بعينيّ جثته امّددة على الكارة، وقتها كل حيفا سكّرت" (ص 206).

ولأن الكاتب بعيد عن فلسطين ـ إلا فيما يخصه ـ متخفّ خلف بريطانيته، فهو لم يسمع قط بما أصاب المقبرة من انتهاك أقدم عليه الاحتلال غير مرة، بالتجريف، ولم يعرف أن مجرد وجود قبر القسام ذاته يقلق الاحتلال، ولم يسمع بردود الفعل التي حدثت تجاه ذلك، لأنه مكتف بما يعرف، مع أن كل هذه المعلومات متوفرة عبر صديقه "غوغل"، وتستحقّ البحث والتدقيق أكثر بكثير من البحث غير الضروري عن الارتفاعات في التلة الفرنسية.

3ـ في ما لا يلزم
استخدم الكاتب مثل هذا التعبير في الوصف عدة مرات، لكنه لم يلتزم به في كتابته، فالحرص، المرضيّ إلى حدّ كبير، على ضخّ المعلومات التثاقفية في العمل الروائي، لا يشقّ طريقه دون أن يمرّ بمجموعة من العثرات، غير تلك التي سبقت الإشارة إليها. هذا الحرص ـ إذا استعرنا طريقة الكاتب في الوصف التهكميّ ـ يبدو مثل تكرار البخيل عدّ ما يملك من مال، تعبيرا عن الإحساس الذاتي بالملكية الخاصة، تستدعيه النرجسية كثيرا، حتى تستعرض ما لديها. لذلك فإن هذه كمية الكلام، الزائدة عن الحاجة، التي تبث عبر الرواية، تكاد تستغرق معظم نصها، وهي تشكل جزءا من سماتها الأساسية، سواء أجاءت على شكل تكرار للمعلومات أو المشاهد، يتسم بالملل الذي لا يضيف شيئا، أو على شكل لا مبرّر لوجوده من الأساس، لأنه لا يخرج عن كونه مجرّد ثرثرة لفظية، غالبا ما تجيء لأن خاطرة تستدعي خاطرة، فيحلو الحديث عنها. ولأن السمتين تغطيان النص بكامله، سيكون من الصعب حصرهما، ولذلك سيتم الاكتفاء ببعض ما ورد منهما.

3 ـ 1: باب الزيادة
وهو ما يعني أن ما يمكن اختصاره من النص يشكل نسبة عالية جدا، دون أن يتأثر ما يريد النص أن يوصله، لا من ناحية الأحداث التي يرويها، ولا من ناحية الأفكار التي يحملها، وهو يعني على وجه الدقة تحميل النص فوق طاقته، من خلال بعض التحايلات السردية التي تلوي عنقه حتى يستجيب لتفصيل غير ضروري، وليس من شأنه أيضا.

إن وضع أنواع السيارات التي تركبها الشخصيات، وسرد أسماء الفنادق والمقاهي التي ترتادها، دون أن يكون لذلك ما يبرره على المستوى الدرامي، شكل من الزيادات، ولكنه في الواقع أخفّها، وأقلها استعراضا؛ فهذا النوع من التفصيل يتحول إلى هاجس أمام كلّ مكان، وأمام كل حدث أيا كانت طبيعته، يجعل الكاتب يشرح منه ما هو معروف تماما، أو متاح للمعرفة، بما لا يشكل إضافة لقارئه، إلا في عدد الصفحات.

إن الزوجة تحمل الوعاء الخزفي الذي يحمل نصف رماد جثة والدتها لتلقيه في نهر التايمز، حسب وصيتها. وكان من الممكن وصف عملية إلقاء الرماد بشكل فني لا يضيق به القارئ. لكن الكاتب ـ كما هي عادته ـ وبعد أن تحدث عن الشركات التي تصنع الخزف الخاص برماد الموتى الخاصين، وسجل أسماءها وعناوينها، عمد إلى الوصف الاستعراضيّ الخارجي الذي لا علاقة له بحالة الشخصية، ولا بالقارئ بعد ذلك. لقد ذهبت جولي بصحبة زوجها إلى "ووترلو بريدج" وسط لندن. "وهناك توقفا قبل بلوغ وسط الجسر بأمتار قليلة، أقرب إلى الجهة المطلة على مبنى "رويال ناشيونال تياتر". كان المساء يقترب من ليله هادئا كسولا مثل نهر التايمز، لم يضايقه مطر ولم تغضبه رياح، وقد نعست على جانبيه زوارق كثيرة وغفت. وكانت منطقة "ساوث بانك"، أسفل الجسر، وعلى امتداد النهر حتى "ويستمنستر بريدج" خلفهما، مشغولة بتجوال كثيف متخالط، لرجال ونساء من جنسيات وأعمار مختلفة، يتبادلون سعادتهم أو أحزانهم الخاصة على ضفة النهر العريضة. بعضهم منفعل، وآخرون يطلقون ضحكا قصيرا خفيفا يشبه أزياءهم وله ألوان رغباتهم، بينما يمضون إلى سهرة تظللها مشاعر هادئة، ويمضي غيرهم نحو أوقات عارية من تحفظاتها، يستيقظون منها صباحا مندهشين من وجودهم في أسرّة غيرهم" (ص 39).

ومع ما لا يمكن القفز عنه من معرفة الكاتب لمشاعر الناس ونزواتهم، وما سيفعلونه خلال عريهم، يمكن القول إن مثل هذا التفصيل، في الموقع وما يدور حوله، لا علاقة له بالحدث الحقيقيّ في النص، وهو إلقاء الرماد فوق الماء. وهو بالتالي غير مرتبط بأي شيء يخصّ جولي وزوجها وأمها، وإنما هو من "فعل" الكاتب حتى يقول إنه يعرف المنطقة، وكأنه وحده يعرفها، وحتى يفتعل بعد ذلك موضوع وجود "فرقة موسيقية تعزف كونشرتو "دي أرانخويز" للإسباني خواكَن رودريغو" ـ يا للصدفة! ـ لتلقي الزوجة رماد أمها مع الحركة الثانية من الكونشرتو، تطويعا للعنوان المفتعل أساسا، وهو تطويع لا يفطن إليه الكاتب بعد ذلك، إلا في تحويل صفات فصول الرواية الأربعة إلى حركات.

إن "الفعل" الروائي الناجح لا يحاول أن يهرب من متابعة انفعالات الشخصيات الروائية بالحدث، ولا حتى بما حولها، مما يكون له تأثير على الحدث، ليتوجه إلى وصف ما هو خارج ذلك تماما؛ فما هو المنطق الذي يجعل القارئ يصدّق أن الكاتب ـ على لسان شخصية في روايته ـ عليم بأسرار الناس، وبما يفكرون به، وبما سيفعلونه بعد ذلك، مما سيدهشهم أنفسهم؟ وما علاقة كل هذا "الخروج" التثاقفي بالحدث الروائي وشخصياته؟

هناك كثير من المشاهد التي يضيفها الكاتب زائدة، من أجل ذاتها فقط، حتى من باب "الاستعادة". ومن ذلك مثلا وصفه للحمّام الذي استوقفه "وأوّهه فتأوه ... واستعاد وليد تلك الزيارة المدهشة التي وقعت في أول يوم لهما في عكا، حين تركت جولي عمرها على الباب الإلكتروني بعد أن اجتازته إلى الداخل، وخلعت ملابسها في الغرفة الصيفية، كوّمتها على الأرض، وراحت تتأمل جسدها كما كانت تفعل في سنوات مراهقتها. وراح وليد يتأملها تلفّ منشفة قطنية حول جسدها، تطوي طرفيها العلويين وتشدّهما تحت إبطها. انتعلت قبقابا خشبيا، ومشت تلحق بها "طرقعات" القبقاب كأنها غوار الطوشة الذي لم تشاهده ولم تتعرّف عليه. تردد صدى صوت القبقاب في الغرفة ذات السقف العالي. خلعته من قدميها، وما زال صدى "طرقعته" يتردد في المكان. تمددت على وجهها على البلاط المبلل في "الغرفة الساخنة" واختفت في البخار، تاركة خلفها صرخة ناعمة لم يسمعها وليد: "دلّك لي جسمي كله يا وليد". كان غارقا في متابعة فيديو يعرض مشاهد تمثيلية مصورة لما كان عليه الحمام وطقوسه حتى وقوع النكبة" (ص 50ـ51).

إن ما يحدث داخل الحمام في العادة لا يرى، من وجهة نظر الراوي، حتى يقوم بوصفه، فالحمامات الشعبية لا تكون مختلطة، والنص لم يبرّر وجود الزوج في البداية كي يرى كيف تخلع زوجته ملابسها، ثم تلفّ المنشفة، كصورة من الأفلام القديمة أيضا، التي يبدو الكاتب متأثرا بها إلى درجة النقل، وهو ما يوحي به التشبيه بغوّار الطوشة، الذي لم تشاهده الزوجة ولم تتعرف عليه (فلا داعي لذكره إذن)، ما يعني أن المشهد كتب، من أجل المشهد ذاته، لا من أجل النص ككل.

وكثيرا ما يكون المشهد الذي تقدمه الرواية خارج سياقها تماما: فما هي وظيفة "الطهور" التي ترد داخل النص (ص 118ـ119) سوى التحدث عن "عادة" لا علاقة لها بالرواية؟ وما هي وظيفة توارد الخواطر في النص وهو ينتقل من وصف بيت الشرق في القدس إلى ذكريات عن المجنونة في بيت الراوي في غزة؟ وما علاقة القطار الذي ركبه الزوجان في باريس (ص 230) بالرواية، كي يقحم فيها، لأنه ورد على خاطر المؤلف؟ وفوق ذلك، ما علاقة النص بكامله بالحديث عما يجري في سجن بعيد، هو ليمان طرة المصري (ص 231)، حيث تقطع صخور جبلية لا حاجة لقطعها أصلا، سوى التقاط صورة أخرى من فيلم قديم، لا حاجة لها في الرواية أصلا؟

ولا يكون الزائد وصفا أو إضافة لمشهد "سينمائي" فقط، ولكنه قد يرد حتى في الحوار الذي يجري على ألسنة شخصيات الرواية، خصوصا حين تختلط فيه اللغات اختلاطا عجيبا، رغم أنه اختلاط مقصود بذاته، ولغرض سياسي غير خفيّ:

"البيت فيه غرباء يا جماعة."

هتفت فرحا بوجود غرباء في بيتنا: "في بيتنا يهود!"

"هئم يِش مي شهوو بَبايتْ؟"

سألت لودا إن كان في البيت أحد.

"مي؟"

سأل صوت نسائي متوجس "من؟"

"أني روتساه لِدَبير عِم مي شِبَبيت."

ردت قائلة إنها تريد أن تتحدث مع من في البيت. (ص 57).

من الواضح أن الهدف من مثل هذا الحوار، الذي يتكرر عبر الرواية، والذي كان من الأسهل والأنسب أن يأتي على شكل سرد، هو استخدام اللغة العبرية، الزائد تماما، خصوصا مع التفسير الذي يلحق بكل كلمة. من أجل ذلك ربما كانت شخصية لودا الروسية يهودية، وما يؤكده أن يهتف وليد دهمان بفرح "في بيتنا يهود"، ما يثير الاستغراب حول فرحه من ناحية، وما يذكر ـ من جديد ـ بحضور فيلم قديم أيضا، هو "في بيتنا رجل"، من ناحية أخرى، ليكون التأكيد على أن الأفلام القديمة جزء مهم من "ذخيرة" الكاتب، يستحق أن يستدعى؛ وليس في ذلك خطأ بالطبع، إذا استدعيت الصور في مكانها، وهو ما لا يفعله الكاتب.

3 ـ 2: باب التكرار
كثيرا ما لا يورد الكاتب أي مشهد أو حدث في النص مرة واحدة، فهو يعمد إلى تكرار المشاهد وسرد الأحداث بشكل بعيد عن العين الناقدة التي تراجع وتدقق، ما يوحي بالاستعجال الذي يلحق بمثل هذه الأعمال السياحية، حتى وإن ادعى كاتبها أنه عمل فيها أربع سنوات، لأن ما يهمّ القارئ هو نتاج هذه السنوات، لا عددها.

بعض هذه الأحداث يروى مرات عديدة، دون إضافة تستحقّ التكرار، كما هو الحال في وصية الأم بأن يدفن رمادها في بيتها بعكا، وفي حكاية محمود الدهمان (باقي هناك) الذي عاد متسللا إلى البلاد، بعد هجرته الأولى منها، وهي الحكاية التي تكاد تكون منقولة نصا عن "المتشائل"، دون أن يخفي الكاتب ذلك، لدرجة أنه يستخدم اسما مشابها لاسم باقية في رواية إميل حبيبي المهمة، لسبب واضح، هو أن يوهم نفسه بأنه ينسج على منوالها، وهو كثيرا ما يكرر اسم حبيبي دون سبب، سوى وضع رابطة بينهما، ككاتبين، أو عقد مقارنة، بهدف أن تعلق هذه الرابطة، غير القائمة، في ذهن القارئ.

من باب التثاقف أيضا، يسرد الكاتب "رواية داخل رواية"، حين يقرأ ـ كخبير أدبيّ بالطبع ـ مخطوطة تكتبها جنين، تحمل بكل بساطة عنوان "فلسطيني تيس". في هذه "الرواية" بالذات، وهي مفتعلة بكاملها، نتعرف على باقي هناك، وحكايته التي تتكرر كلما عاد الكاتب إلى متابعة قراءته للرواية (التي يناقشها مع كاتبتها أساسا، لأنه يهتم بالتعرف على حياتها، بدلا من كتابتها)، مع أننا منذ البداية ـ كقراء ـ نعرف أنه ترك عائلته الأولى وعاد، وشكّل عائلة أخرى، وحياة أخرى، منسجمة مع الاحتلال، حتى حين يفتعل مقاومته، دون أن يعيد علينا الكاتب سرد حكايته مرة بعد مرة، حتى يتوصل في النهاية إلى استكمال هذه الحياة، حين يعود إلى غزة زائرا، بعد احتلال 1967، حيث يتكرر الحديث عن الاحتلال الأول، وعن هجرته الأولى دون غيره (ص 120). في هذه العودة يبحث عن بقايا عائلته، ليكتشف أن الذي لم يقتل منهم جنّ، وأنه هو الوحيد الذي كسب حياته، إلى جانب جارته اليهودية التي تتهمه زوجته ـ الثانية ـ بأنها خربطت عقله. وإذا كان هذا البقاء، والعودة الباحثة عمن بقي في الهجرة، يمكن أن يفسرا بعدة طرق، إلا أن ما تطرحه الرواية بمجملها سوف يساعد على اختيار تفسير بعينه، لأنه يجري التأكيد عليه باستمرار.

لكن أطرف ما يتكرر في الواقع هو طرح اسم الكاتب مرة بعد مرة في روايته، ومحاولة شخصيات روايته القديمة أن تتحدث معه عن مصائرها، في نرجسية ممجوجة يكاد القارئ ـ بسببها، وأسباب أخرى ـ يقذف بالرواية حنقا، عندما يواجه هذا الإعلان الدعائي فيها لأول مرة في صفحات عدة (ص ص 163 ـ 170)، حين تطل على المشهد مؤخرتا الكاتب وزوجته ـ في تكرار لمثل هذه الصورة ـ عندما "رمى بمؤخرته على المقعد المقابل لنا (الراوي هو وليد دهمان) بطريقة ستعاتبه مؤخرته عليها، وجلست المرأة إلى جواره، بحرص أنيق على مؤخرتها"، لكنه يعود ويبتلع الغيظ وهو يرى ذلك يتكرر، بإصرار ما بعده إصرار!

إن الحديث عن جولي وأمها، والوصية يتكرر، والحديث عن جنين وعلاقتها بزوجها، وضيق زوجها بواقعه في يافا يتكرر، والحديث عن غزة، وشوق الوالدة يتكرر، والحديث عن القطار، الذي يجرّ حديثا عن قطار آخر يتكرر، وربما كان ذلك بهدف "تعليم" القارئ ما لم يتعلمه من المرة الأولى.

ومن الطريف أن الكاتب يفصل ويخرج عن السياق إلى حكايات من توارد الخواطر، حين يفترض الاختصار، لكنه يقفز عن التفصيل حين يكون ذلك لازما، كما هو الحال في موضوع معرفة الراوي بجنين، فهو يقول وحسب: "تعرفت إلى جنين قبل ست سنوات، خلال توقف قصير لها في لندن، في طريقها إلى نيويورك. حينذاك، استضفتها على عشاء في البيت في غياب زوجتي التي كانت خارج البلاد" (ص 124). وبالرغم مما في هذا النوع من التعارف غير الواضح من افتعال، إلا أنه لا يكفي لتحوّل العلاقة العابرة، التي لا تفهم ظروفها، ولا الدافع إليها، بداية، رغم نسبتها بعد ذلك إلى صلة القرابة، إلى علاقة حميمية بسرعة، لا تكفي لعرض عمل روائي مخطوط على الكاتب الشهير، ولكنها تتحول إلى نوع من الحميمية التي توحي بالحبّ، أو على الأقل بما يسمح بالبوح بالأسرار الخاصة، على فنجان قهوة (ص 135). ويدخل في هذا التكرار بالطبع سرد ما هو معروف للجميع، حول الأماكن، والمعارك، والأحداث الشهيرة، أو ما هو متاح من ذلك لمن يريد أن يعرف، وهو يشكل عبئا كبيرا على الرواية، يجعل ما يتبقى منها للسرد الروائي الحقيقي شيئا يسيرا.

4 ـ فواتح نرجسية
كلّ هذا الإحساس بالفوقية تجاه القارئ، ينبع من حسٍّ نرجسيّ عال، يتحول إلى تعظيم للذات بشكل يمنع عنها رؤية أي خطأ فيما تفعل. وهذه الأنا المتضخمة لا تخفي وجودها عبر الرواية كلها، لا من خلال الاستعراض الزائد للمعرفة وحسب، وإنما من خلال التصريح المباشر بهذا الإحساس. إن أول بوادر هذا الإحساس هو المحاولات المتواصلة لوضع الذات في موازاة إميل حبيبي "الرائع". وقد يأتي ذلك من خلال الإلحاح على ذكر حبيبي، حتى دون مناسبة، كما قد يتجاوز الأمر لوضع مقارنة هادفة بين حبيبي والكاتب، سواء جاء ذلك من خلال وليد دهمان، الشخصية الرئيسية في روايته، أو من خلال المقارنة المباشرة بين إميل حبيبي، وربعي المدهون مباشرة، على لسان شخصيات مختلفة.

جنين مثلا، بعد أن تصف إميل حبيبي بأنه "الرائع"، وتطلب من زوجها، القلق من وجوده في يافا بعد أمريكا، التعلّم من المعلم، تتحدّث عن وليد دهمان، الذي كتبه ربعي المدهون، بهذه المباشرة الفجة: "قبيل عودتنا الأخيرة، رويت له ما دار بيني وبين وليد دهمان، قريبي الروائيّ المقيم في لندن، وكان يعجبني كثيرا ما يقوله، وكنت أقتبس عنه، حتى إنني لم أخف تأثري بأسلوبه، ولم أنكر يوما ما تركه وليد من بصمات على كتابات طلبت منه مراجعتها" (89). وهكذا يكون دهمان ـ المدهون، خبير كتابة، لا يتردد الآخرون في الاعتراف بأنهم يستشيرونه ويقلدونه.

وهو معجب بنفسه أيضا، لدرجة أن إحدى النساء، عندما جرى تطهيره، قامت بقلي ما قطع منه، بزيت الزيتون، وتناولته مساء مع رغيف ساخن، فما كان منه إلا أن خمّن، وهو طفل "أنها نامت ليلتها مع زوجها أولا، قبل أن تنام عميقا مع أحلامها بصبيّ يأتيها من حمل ساهمت (تلك القطعة) فيه" (ص 119).  وفي مقام آخر، وحين يسمع ما يروى من أن "الحامل إذا مرقت من تحت الصخرة بتطرح وبتسقط اللي في بطنها" لا يتردّد في القول: "حمدت الله حين سمعت ذلك، أن زوجة عمي لم تقل هذا الكلام لأمي أثناء حملها بي، لكانت المرأتان طوّرتا معا معتقدا عجيبا يقضي عليّ بينما لم أزل جنينا" (ص 229)، ربما سيخسره العالم.

لكن الأمر لا يتوقف عند التخفي وراء وليد دهمان، بطل الرواية، لأن ربعي المدهون نفسه سريعا ما يظهر باسمه الصريح في روايته، في نوع من الاستعراض لا أظن أن تاريخ الرواية عرفه حتى الآن: كان وليد دهمان (مع زوجته الأجنبية) ينتظر أن يجلس على مقعد خشبي عريض في مطار بن غوريون في اللد، انتظارا للتحقيق، عندما دخل الى قاعة النكد المفتوح تلك، رجل في مثل سنه، "ذو سحنة عربية مغبرة بمتاعب تشبه ما على ملامحي (...) اعتدل الرجل فجأة، وتخلى ظهره عن الحائط، راح يتأملني ويقرأ ملامحي كمن يراجع بيانات اطلع عليها من قبل. كأنه يعرفني! هل حقا يعرفني؟ شككت. لم يسبق لي أن رأيته من قبل، أو رأيت السيدة الأنيقة التي ترافقه. ربما يعرفني! كثيرون يعرفونني ولا أعرف أنهم يعرفونني" (ص 164). إن الكاتب يتماهى تماما مع بطل روايته، حتى في الملامح، ولكنه لا يستطيع أن يستمر في هذا التماهي، فهو يترك الصحيفة التي يحملها عندما يستدعى ـ ومؤخرته بالطبع، ومؤخرة زوجته، بسبب ما يوليه الكاتب للمؤخرات من اهتمام ـ للتحقيق، دون أن يدري القارئ لماذا يستدعى قبل بطل روايته الذي كان ينتظر قبله، سوى من باب الافتعال الذي يجعله يترك جريدة كان يحملها، ليكتشف البطل، حين يلتقطها، وجود مقال فيها، وليفاجأ، كما يفاجأ معه القارئ، ويفاجأ فن الرواية ذاته، باسم كاتب المقال: ربعي المدهون. وحينئذ تنطلق "يا إلهي" في وقتها تماما، من الرواية والقارئ معا: أبمثل هذا تكتب الروايات؟

مع هذه النرجسية العالية، لا يتوقف الكاتب عند حدّ، في استعراض ذاته، بل يكرّر، على لسان بطله القديم الجديد قائلا إن المدهون قد يعمد "إلى تغيير مسار رحلتي كلها، فهو المؤلف، وخالق شخصيتي التي أظهر بها الآن" (ص 170). ثم لا يفتأ يكرر استعادة المشهد نفسه، ليورد اسم الكاتب مرة بعد مرة، ويعلن عن شهرته وأخباره وصوره، بإلحاح يثير الاستغراب وخلافه. البطل السائح يسمع من صديقه الذي يحمله من المطار تلك الحكاية ذاتها: "من شويّ شفت زلمة طالع من المطار مع مرة كأنها مرته، حسيت فيه شبه من الكاتب ربعي المدهون.. ابتعرفه للمدهون؟"

"لا والله بس بقراله أحيانا.. اليوم شفته؟"

"إلا مبارح يعني! إسه من شوي شفتهم اثنيناتهم طالعين ومعهم شاب ابيضاني مربوع شواربه سودا. إحنا طلعنا وهمّ راحوا جهة الكراج."

"يمكن هو.. أني بعرفوش بالوجه .. بس .. والله مش بعيد إللي بتحكيه أبدا. ابتعرف .. ذكرتني باللي صار معي اليوم. كان في زلمي موقوف معنا في المطار، قاعد ع باب غرفة التحقيق .. كان بيقرا جريدة القدس العربي .. ولما طلبوه للتحقيق هو ومرته، ترك الجريدة ع المقعد .. أخذتها أنا واتصفحتها، لقيت فيها مقال للمدهون وقريته. بس يمكن الزلمة يكون من قراء الجريدة مش أكثر، ومقال المدهون صدفة؟"

"ما ظنيش .. أنا متأكد إنه اتعمد يترك لك الجريدة ليعرفك عن نفسه بطريقة غير مباشرة."

"مش مستبعد .. بس أنت بتعرف المدهون عن جد واللا شبهت عليه؟"

"أني زيك بعرفوش شخصيا بس قاري عنّه أخبار وشايف له صور كثيرة في الجرايد" (ص 180).

ولا يكتفي الكاتب بهذه اللقطات لترويج نفسه، لأنه يفتعل أية مناسبة من أجل ذلك، حتى وإن كان افتعالها واضحا، فدون مناسبة على الإطلاق، يقول أحد أصدقاء البطل السائح: "هذاك اليوم قريت خبر يقول إنه كان في أمسية للروائي ربعي المدهون، أكيد ابتعرفه، الكاتب اللي حكينا عنه في الطريق ... راح منير وصرخ في المدهون: بلا حمص بلا كنافة بلا بطيخ أصفر، اليهود أخذوا البلاد كلها وانت بتحكي لي عن الحمص والزعتر. حل عن سمانا يا زلمة" (ص 229). لكن "الزلمة" فيما يبدو، يرى أن من واجبه ألا يحلّ!

5 ـ يهود وعرب
كل هذه النرجسية والقصدية والفكرة المسبقة تصب في اتجاه واحد، هو أن يقوم الكاتب بعرض ما يفكر فيه، من إقناع للعرب بأهمية وجود الاحتلال في بلادهم، وضرورة تقبله، من أجل أن يرتفع بمستواهم من الحضيض الذي هم فيه، عل كل المستويات، تماما كما زعم الاستعمار القديم عندما غزا بلاد العالم التي تملك ثروات طبيعية، بهدف تطويرها. لذلك ظلت هذه الرواية تحرص بدقة على أمرين: الأول هو الإعلاء من شأن كل ما هو يهودي، مهما كان صغيرا، والثاني هو التنقيب عن كل ما يسيء إلى العربي، لإبرازه.

5ـ 1 ـ ما أجملهم!
يبدو كل شيء يتعلق بالحضور اليهودي/ الإسرائيلي، من وجهة نظر الرواية، في أبهى صورة ممكنة: فإذا كانت الشاعرة اليهودية مريحة، واليهودية الروسية تحظى بتنافس المحبين، فإن شرطة المطافئ في إسرائيل تحضر دون تأخير حين تستدعى بالهاتف (ص 142)، أما قطار حيفا ـ المعروف لمن يعرفه بأنه غير نظيف ـ فهو من وجهة نظر الكاتب غريب وجميل، يبدو كأنه سلسلة من حافلات لندن الحمراء الشهيرة، ذات الطابقين، تمسك بتلابيب بعضها، مع أنه فضي باهت! كان "جميلا يعِدُ برحلة هادئة، نظيفا من الداخل. مقاعده المتقابلة زرقاء غامقة بلون بحر يذهب إلى أعماقه، كل منها مخصص لراكبين. تتوسط كل مقعدين طاولة تغري بوجبة غداء لأربعة. على مسافة سنتيمترات من النافذة، يوجد مقبس كهرباء للراغبين في استخدام الكمبيوتر، أو شحن جوالاتهم خلال الرحلة" (ص 231)، فما يؤكد عليه الكاتب هو أنه قطار متحضر، لأناس متحضرين، وهو حين يصرّ على وصف اللون، لا يهمه ماذا يعني لون البحر حين يشكل جزءا من علم إسرائيل، ومن تفاصيل رموزها، بحيث يفسر على أنه شعار الصهيونية المعروف: من الماء إلى الماء، لأن ذلك كله، مع الفكرة المسبقة التي يروّج لها، لا يمكن أن يلفت نظره.

وحين يتعلق الأمر بالمرأة اليهودية الإسرائيلية، فهي تبدو أقرب إلى الملائكة. لقد ذهبت جولي، الفلسطينية الأم البريطانية الجنسية، وحدها لزيارة البيت الذي كان لجدّها الأرمنيّ في عكا، قبل أن يطرد ومن معه منه، ومن عكا كلها، "مسرعين نحو البحر، تلاحقهم القذائف والجوع والعطش، ليبتلعهم البحر ويلفظهم في الغربة". ويبدو أن جولي تناست كل ذلك تماما وهي تروي لزوجها وقائع الزيارة: طرقت الباب بكفها مترددة. و"فتح الباب، ووجدتني أمام سيدة جميلة تبدو في العقد الثالث من عمرها، تلبس ثوبا أسود طويلا مطرّزا بالحرير، بدت فيه تحفة فنية" (ص 45). وإذا كان وصف شكل السيدة لا يكفي كدلالة على اطمئنان سمية، المرأة اليهودية الإسرائيلية إلى مكانها، فإن الابتسامة، والترحيب يضيفان إلى ذلك خلقا مميزا. ثم يأتي السلوك "المتحضر" ليمنح الحالة مزيدا من الإعجاب: فالمرأة التي حافظت على البيت كما تركه أهله، "ستباشر، بعد أسبوع فقط، في تجديد البيت وتغيير أثاثه كله، لأنها قررت أن تحوّله إلى نزل صغير للسياح. لكنّها ستبقي على طابعه الشرقي، وديكوراته التي تروق للسياح الأوروبيين المولعين بسحر الشرق، حتى إنها ستبقي على بعض ما كان فيه من مقتنيات" (ص 46). لكن المفاجأة العجيبة الكبرى ستكون في أن هذه المرأة المحتلة سوف تسمّي النزل باسم ابنة صاحبه الأصلي، ليكون "نزل إيفانا"، والدة المرأة البريطانية الزائرة، التي نسي الكاتب أنها هربت من هذا البيت بالذات، مع ضابط بريطاني، فتبرأ منها أهل هذا البيت حتى النهاية. ولم تكتف سمية بالترحيب والوعود الرائعة، لكنها أخذت بيد جولي، ومضت بها نحو سلّم حديد يتوسط البيت، وأشارت لها أن تصعد قائلة: ما دامت والدتك حدثتك عن التفاصيل، اصعدي إلى أعلى. وتركتها تتحرك وكأن البيت ما يزال بيت جدها.

كيف يمكن لهذا أن يكون مقنعا وهو يعرض سلوك امرأة تمثل احتلالا استيطانيا لا يعترف لصاحب حق بحقه؟ مع ذلك فإنه يوحي بأن المرأة إنما تسكن في البيت مؤقتا، حتى تحافظ عليه في انتظار عودة أهله، ربما خشية أن يقع في يد الاحتلال؟ أليست هذه امرأة تستحق القبول ـ على أقلّ تقدير ـ لأنها تشغل نفسها في السعي إلى المحافظة على التراث الفلسطيني؟

ويتكرر الأمر نفسه مع رومه، اليهودية الإسرائيلية، المتدينة أيضا؛ فحين زار وليد دهمان ـ مع مجموعته هذه المرة ـ بيت والده في المجدل عسقلان المحتلة، بالطريقة ذاتها، فإن المرأة فتحت لهم الباب و"سبقتها إلينا ابتسامة تخلّت عن تردّد سابق، ورحبت بنا (...) ودخلنا البيت الذي كان لنا قبل سقوط المجدل عسقلان في أيدي القوات الإسرائيلية" (ص 58). ومثل زميلتها سمية، لم تكتف رومه بالابتسامة، بل تجولت بهم "داخل البيت. بدت سعيدة بنا، وهي تفرّجنا على أنفسنا. وبدونا نحن راضين بإنصاتنا لكلام يهودية تعرّفنا على ما كان لنا" (ص 59).

لكن أخطر ما في هذا الموقف هو ما يقوله الكاتب، انسجاما مع فكرته المسبقة، عن أن رومه "بدت بدورها غريبة عن نفسها، كأنما اعتادت على تطبيع حياتها في غيابنا. في عينيها الغائرتين خلف نظارتيها السميكتين رعشة ضمير طارئة، هائمة بين مجدلها التي لم تكن مجدلها، ويمنها الذي أضاعته" (ص 61). وربما انطلاقا من رعشة الضمير هذه، التي لا يلاحظها في امرأة إسرائيلية متدينة إلا الكاتب، تخلت رومه عن فراقهم المتعجل ولحقت بهم، وعرضت عليهم أن تصطحبهم في جولة على بعض ما بقي حيا في المجدل عسقلان. وعندما فارقتهم، شعرت بالأسى، ولوحت بذراعها القصيرة عاليا، فشرح وليد دهمان: "توقفت لحظات، وتابعتها وهي تستدير عائدة تحت ملاحظة عيني. ولا أعرف إن كان قد سقط من عينيها دمع وهي تبتعد، أم تخيلته" (63). والسؤال الذي يتولد في ذهن القارئ، إذا أقنعه المشهد، هو: هل يمكن لمثل هذا الكرم أن يفسح مجالا لأي قدر من الضغينة، مهما كان بسيطا؟

والكاتب، بعد ذلك، لا يتساءل من أي مالك اشترى الفنان التشكيلي والروائي الإسرائيلي مارك روزنبلوم الحارة الصغيرة في يافا القديمة، وكتب على بابها (ملك خاص)، لأن ما كان يهمه بالفعل هو المعجزة التي صنعها هذا اليهودي الإسرائيلي في الحارة الصغيرة، وكيف حوّلها إلى "مستعمرة" للفنانين، الذين يوهم بطل روايته الزائر بأن في وسعه أن يكون بينهم، مع أنهم جميعهم من اليهود. الذي اهتم به الكاتب هو أنه رأى ما هو مدهش في المكان، كما يرى كل ما هو يهودي مدهشا، فتحدث بإعجاب عن "داخل الشقة التي تتكون من غرفة واحدة فسيحة، نسبيا، وزّع مارك عددا من أعماله الفنية المدهشة، ثريا معدنية معلقة في السقف، ومنحوتات وتشكيلات أخرى معدنية غرائبية. مفاتيح قديمة كبيرة صدئة ألقيت بلمسة فنية على حافة مصطبة حجرية قرب سرير النوم". (ص 252)، حتى إنه لم يتساءل عن أصحاب المفاتيح القديمة الكبيرة الصدئة، رغم شهرتها كرمز للعودة الفلسطينية المنشودة.

ومن الطريف أن هذه الشقة كانت وسيلة تعايش أيضا: فبالرغم من أنها "مستعمرة" فنانين يهود، زارتها جنين، الروائية المفتعلة وغير المقنعة في وجودها كله، كشخصية داخل الرواية، ثلاث مرات، وحفظت تفاصيلها، ثم لم تتردد في القول: "لقد ساعدني ذلك كثيرا في العثور على مكان مناسب أوطّن فيه شخصياتي. إنه يناسب كل ما تصورته عن باسم وجنين" (ص 254)؛ فهل يمكن لمثل هذا البيت المسروق، الذي تحول إلى نوع من التلفيق المصطنع، والمأهول بمن احتلوه، أن يشكل موازيا لبيت الفلسطيني، وهو يحلم بالعودة، أم أن عرضه هو نوع من توجيه الحلم الفلسطيني، نحو ما يحتمل أن يعتبر حياة تعايشية مشتركة؟

5 ـ 2 ـ ما أسوأنا
على العكس من ذلك، ينتهز الكاتب أية فرصة من أجل أن يوجه ما بوسعه من الاحتقار نحو العربي الفلسطيني، حتى وإن جاء ذلك عابرا، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الأمر مبيّت: ومع أن عنوان رواية جنين "فلسطيني تيس" قد يوحي بشيء من السخرية المتكلّفة، ككل شيء في الرواية، إلا أن ما يرد في رحلة الطائرة ـ التي كانت مجرّد تكرار لرحلة "السيدة من تل أبيب"، وإن اختلف الجوار ـ يثير الدهشة بالوصف المسيء العابر الذي يورده الكاتب للاجئ الفلسطيني في المخيمات: فقد خرج الجار الجديد لوليد دهمان عن صمته، وبدأ "ثرثرة سريعة جعلتني أظن أنه حلاق في مخيم للاجئين  للفلسطينيين"! (ص 139). وفي زيارة دهمان لكنيسة القيامة، وبعد أن سرد تاريخا معروفا للجميع، عن عمر بن الخطاب، ومفتاح الكنيسة، دون مبرر لسرده، لم يفته أن يذكّر بالخلافات الطائفية التي حدثت هناك "كما في صيف العام 2002، حين حرّك كاهن قبطي مقعده من المكان المتفق عليه، حيث كان يجلس، إلى الظلّ، فاعتبره الأثيوبيون تعديا عدائيا، ونشبت معركة انتهت بجرح أحد عشر شخصا" (ص 219).

أما في غزة، فإن أبرز أخبار البلد التي يمكن أن تروى هي التي تتعلق بمجتمع المخيم هناك: فصاحب مقهى البلد مات في المقهى عينه، "بضربة إشاعة أصابته في كرامته"، ومقهى درغام، أغلق وخسر زبائنه "لأن إذاعة شعبية من ألسنة النساء، روّجت أن ابنته رتيبة ذات الستة عشر ربيعا، والوجه التفاحيّ، والعينين القهويتين، والصدر المتمرّد على حمالتيه، والقوام اليافاوي المميز، حملت من غير زواج .. و.. أن من نفخ بطنها هو والدها سليم نفسه، وأنه ... أجهض ابنته سرا، وأن زوجته ساعدته في ذلك، وتخلصا من الفضيحة، ومن حفيدها الذي سيكون ابن سليم" (ص 156).

وعندما زار محمود دهمان خان يونس ليوصل ما تقطع من صلات منذ النكبة، عرف أن أخاه طلق زوجته، ثمّ جنّ، لأن إشاعة قالت إن ابنه "مش من ظهر أبوه". وأن زوجته "عشقت زلمة بالسر" وأن "الولد أصلا ما فيه شبه من أبوه بالمرة" (ص 209)، ما يعني تعدد السوءات في هذا المجتمع، وهي تبدأ من السقوط الأخلاقي وتنتهي عند تأصل الجهل، ما يسمح بأن تفعل الإشاعات فعلها. وفي كثير من الطرق التي تشوّه من خلالها صورة العربي باستمرار، لا يتردد الكاتب مثلا في أن يتحدث عن الحشيش في يافا، من خلال ما يسمعه عنه، لا ما يرى أو يتمّ التأكد منه عن طريق البحث، في تلك الزيارة السياحية السريعة التي أنجبت رواية. إن جولي، الزوجة، تبدي ذات لحظة مفتعلة رغبة عجيبة في تدخين سيجارة حشيش، ثم تمزح بأنها تشعر بأعراض وحام، وتطلب من وليد ـ المدهون بعد التماهي التامّ الذي ظهر بين الكاتب وبطل روايتيه ـ "أن يدبّر لها "تسطيلة"، وإلا ظهر وحامها على الطفل الذي لن تخلّفه، بعد أن دخلت أنوثتها مرحلة يأسها قبل سنوات طويلة. ضحكا معا. وحين قال لها، بقليل من مشاكسة تواطأ عليها ضمنا، إن ما تطلبه يحتاج إلى مغامرة قد تنتهي بهما في السجن، ردّت قائلة: "لو كانت قطعة حشيش ستدخلنا السجن، لكان نصف سكان يافا العرب سجناء، فقد سمعت أن الحشيش منتشر هنا." (ص 35)، وهذا ما يذكر بمشهد "أجاد" الكاتب استعارته من مسرحية "شاهد ما شافش حاجة"، بعد أن حوّل القاهرة إلى يافا، والراقصة إلى حشيش!

ولأنه يراد أن تلتصق صفة الحشاش بالفلسطيني، فإن عليه أن يقوم بتأكيدها، فحين ينتقل الحدث إلى حيث يعيش "باقي هناك"، فسوف نكتشف أنه يلوم نفسه على عودته إلى البلد قليلا (ضمن أشياء أخرى يلوم نفسه عليها) ثم "يعتب على الحظ ويعاتبه قليلا على ما اختاره له ولعائلته من جيرة إجبارية تضغط على الأنفاس، بين امرأة يهودية يسكنها ماض توزّع تفاصيله المرعبة علينا (...) وبين حلمي مطر، جارنا الفلسطيني اللدّاوي، الحشّاش المزعج ثقيل الدم، في الجهة الأخرى، الذي كانت جيرته تضاعف نكبتنا" (ص 146). ولا يوجد الحشاش وحده بيننا نحن العرب، وإنما يوجد "المثليّ" الجنسيّ أيضا، وتتمّ تزكيته، من وجهة نظر مجتمع يهوديّ متحضر، بأن يسمح له بأن يعيش مع صديق له إسرائيلي، داخل المجتمع الإسرائيلي التل أبيبي الذي يتقبله، مع أن ذلك المجتمع لا يتقبل الوجود الفلسطينيّ داخله. يوحي هذا التقبل بأن المثلية سمة حضارية، ترتفع بمستوى الفلسطيني عن مجتمعه، حين تلحق به، وتبيح التسامح معه، لأن "راية الديمقراطية في هالبلد ما بترفرفش إلا على قفا سمير بدران وأمثاله" (ص 75).

ولا تتأخر الرواية بالطبع عن إعلاء شأن موقع "قاديتا"، الذي يخصص شيئا من اهتمامه للمثلية، "لأن هذا الموقع وحّد المثليين في لبلاد، وأهل لبلاد مش لاقيين مين يوحدهم!" (ص 72). ومع ذلك، فإن البطل المثليّ "التعايشي بطريقة ما" لا يبقى حيا، دون أن تتضح الجهة التي قضت عليه، إلا أن التهمة تبدو موجهة، فالرواية تشير إلى أن عائلة القتيل، التي سبق أن تبرّأت منه عندما هرب من البيت، رفضت تسلم جثته. وتكون محصلة الحادثة هي بعض الدموع، وهمس قوي وحاد مثل سكين، فيه إدانة للرافضين المتخلفين: "مسكين سمير.. ما حدن بدّو إياه لا طيب ولا ميت" (ص 76). هذا النوع من القتل لا يكون وحده مما تهتم الرواية بمتابعته، فالكاتب يتفنن كثيرا في رصد أشكال القتل التي يقدم عليها الفلسطيني كل الوقت، فيفرد عدة صفحات من روايته (ص ص 84 ـ 86)، دون أي مبرر فنيّ، للحديث عن ثماني حوادث قتل، على قاعدة غسل شرف العائلة، وهي جرائم تتوزّع على مساحة فلسطين 48 من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب: من الرامة إلى النقب، مرورا بحيفا والناصرة واللد والرملة.

ولم يفت الكاتب أن يتحدث بسوء عن العلاقات العائلية داخل المجتمع الفلسطيني، وخصوصا عن الخلافات حول الميراث. وفي مشهد مفتعل، يتذكر باسم أنه نسي كيف جاء زوجته غاضبا، بعد زيارة لعائلته في بيت لحم، حيث بيته وأهله وأرضه. كان "يسبّ ويشتم والديه وجميع أفراد عائلته، ويخبرها بأنهم اختلفوا، في ما بينهم، حتى على توزيع حصصهم من الخلافات. ونسي ما فعله شقيقه محمود الذي لم يهاتفه لو مرة واحدة منذ عودته إلى البلاد (...) أما شقيقته الصغرى نوال، فلم توقف غضبها على إخوتها الذكور الذين يصرّون على لهف نصيبها من الأرض ومن بيت العائلة (...) وتذكر أنه سيحصل على شقة في البناء الذي انتهى والده من إقامته مطلع هذا العام، وعلى نصيبه مما تبقى من الأرض التي قرّر الأب توزيعها في حياته كي لا يحلّ أبناؤه خلافاتهم بعد رحيله بالرصاص" (ص 112).

إن هذا الوصف يقدّم الفلسطيني في صورة تغذي الدعاية الصهيونية وهي تحاول أن تقدمه للعالم مشوها، لا من ناحية التخلف الذي لا يحل المشاكل إلا بالخلاف والقتل وحسب، وإنما من ناحية التوجه الوطني أيضا، فدافع باسم، وهو يطالب بالرحيل إلى بيت لحم، ليس وطنيا، ولا هو ضيق بالاحتلال الذي يجعله "يلعن الساعة التي عاد فيها إلى البلاد ظانا أنها وطن" (ص 71)، بقدر ما هو بحث عن المكسب. كما أن دافع جنين زوجته لا يختلف كثيرا، من وجهة نظر الرواية، فهي لا تتمسك بالبقاء في يافا حبا بها لمجرد الحبّ، كما تزعم كل الوقت، وإنما لما تكسبه من البقاء: "روء بسومتي روء، وما اتجننيش معاك. يمكن ترتاح لعيشتك عند أهلك في بيت لحم، بس أني بخسر عيشتي كلها ومعها كل إشي اتحصلت عليه بعرق جبيني من اسنين: الصحة والطبابة والتأمين الاجتماعي كله" (ص 90).

ولم يتوقف الأمر مع الرواية عند مثل هذه الحدود، ولكنه توسع بما يصدم القارئ العربي كثيرا، حين تقع عينه على ما يؤكد، منذ الصفحات الأولى للرواية، خيانة الوطن نفسه من قبل أبنائه، لأن "أغلب أزلام عكا رحلوا عن المدينة سنة الثمانية وأربعين، واتغرّبو وما نفعهم كل البوس اللي باسوه، ولا حتى حفلات الجنس الهستيرية التي سبقت الرحيل" (ص 17)، وسوف يتساءل القارئ، بعد أن ابتلع إهانة الرحيل: من أين للكاتب بمثل هذه المعرفة الواثقة، خصوصا حول حفلات الجنس؟ لكن التساؤل سوف يخفت تدريجيا وهو يكتشف أن الكاتب يتقصد أن يقول كل شيء يمسّ بسمعة العرب الفلسطينيين، أو يدعو إلى تشويه صورتهم. الكاتب لا يتردد في القول إن الناس "قتلها الفقر وباعت بيوتها. وفي ناس باعت من كتر مدايقات المتدينين اليهود اللي احتلوا بيت هون وبيت هناك (...) بس في ناس برضو حاطين عين ع الوطن وعين ع المصاري اللي زي الحلم" (ص ص 40 ـ 41). ومع أن الكاتب استثنى بعد ذلك بعض أهل عكا الأصيلين، إلا أن الرسالة كانت قد وصلت، لتؤكد ما ترويه الدعاية الصهيونية، ومن يوالونها، من أن الفلسطيني باع وطنه، وهي رسالة تتأكد خلال الرواية، من زوايا كثيرة، يبدو أن الكاتب يتقصدها، حتى وإن كانت خارج سياق روايته.

هذه الحالة ذاتها تتكرر ـ هربا هذه المرة ـ عند الحديث عن مجزرة دير ياسين في الرواية: كان "باقي هناك" يزور خرائبها ويجلس تحت شجرة ليكتب على الأحجار الكلسية البيضاء بدهان أسود أسماء شهدائها، "ويروي لنفسه إحدى الحكايات المروّعة التي يقول إنها فتحت طريق النكبة، لأن كل من سمع بما حدث في دير ياسين، في ذلك الوقت، ترك بيته وهرب." (ص 249).

ضمن هذا التوجه نفسه، الذي يعنى بتسجيل كل ما يسيء إلى الفلسطيني، يفتعل الكاتب مناسبة ليروي ما حدث في رام الله، خلال انتفاضة 2000، فيتذكر حادثة شهيرة وقعت بتاريخ 12 أكتوبر من العام نفسه، "عندما حاصر عدد من الشبان الغاضبين رجلين مدنيين في سيارة "فورد" كانت تتجول قرب مدرسة الفرندز، في رام الله، اشتبها في كونهما من الوحدات الإسرائيلية الخاصة. وقتها تدخلت قوة من الشرطة الفلسطينية وقبضت على الرجلين ونقلتهما إلى مقرّها القريب. لكن جموعا من المواطنين الغاضبين احتشدت حول المقر، ثم داهمته وقتلت الشابين." (ص 133). كما لا يفوت الكاتب أن يستعيد ـ بافتعال يهدف إلى التذكير بالحدث ـ أن حيفا ظلت "بتوخذ العقل، حتى حين قصفها حزب الله وأصاب أحد صواريخه جريدة "الاتحاد" الحيفاوية، وقتل صاروخ آخر أربعة من أبنائها الفلسطينيين." (ص 263).

6 ـ الطريق السالك: التطبيع
كل هذا التثاقف وما يتوالد منه من نرجسية عالية وفوقية وتعالم وتقليد وسرد حكايات زائدة، وتكلف في اللغة والأحداث، وصنعة، إنما تقوده تلك الفكرة المسبقة التي تحاول الرواية أن تروّج لها، بجهد لاهث، بعيد عن وسيلة الإقناع الطبيعية: إنها إمكانية التعايش مع الاحتلال، أو التطبيع معه، بعد أن يتمّ تجميل هذه الفكرة، واعتبارها طرحا حضاريا، أو أمميا، أو إنسانيا، يتسم بسعة الأفق، والموضوعية التي تتجاوز الواقع العربي المتخلف، وتتسامى عليه، لتحظى بقبول المجتمعات المتحضرة؛ كل ذلك مع التناسي المقصود لواقع يؤكد أن الاحتلال ذاته لا يرضى بهذا الطرح، وتجارب تؤكد أن الطرف الذي يقع عليه الاحتلال، تنازل عن كل تطلعاته السابقة، لكنه لم يحصل إلا على مزيد من الاحتلال، ما يثير كثيرا من التساؤل حول تورّط بعض الكتاب (وخصوصا من كان فلسطينيا من بينهم) في التعامل مع هذه الفكرة، بطريقة فجة، تنعكس على الفن وعلى الموقف الوطني على حدّ سواء. غياب المنطق في هذا التوجه هو الذي يفتح الباب واسعا للنظر في أسباب أخرى، غير الموضوعية المزعومة، التي بات العالم نفسه ـ بمن فيه بعض من يعملون فعليا على إدامة الاحتلال ـ يعيد النظر فيها، لا عن طريق الكلام وحسب، وإنما عن طريق المقاطعة التي تتوسع كل يوم، على المستوى الثقافي في البداية، وصولا إلى المستوى الاقتصادي في الفترة الأخيرة.

في الرواية، تنوّعت سبل الإقناع بإمكانية التعايش، والدعوة إلى التطبيع، دون تستر على الإطلاق، ودون حاجة إلى الدفاع عن موقف معلن. ولعل أبلغ ما في المحاولات هو الإيحاء بأن اللغتين (العبرية والعربية) شقيقتان، ما يحيل إلى شعبين شقيقين، عليهما أن يتعايشا. ذلك ما يمكن أن يكون محصلة تفسير منطقي سابق لحوار بين باسم وجارته اليهودية الفنانة التي تثير اهتمامه: فبعد أن استشعرت وجوده، رفعت رأسها إلى أعلى، وضبطته يتفرج عليها. لم يزعجها ذلك، وصبّحت على باسم ودعته بالشاب الجميل:

"بوكر طوف تسعير يِفيه."

ثم عرّفته بنفسها:

"أني بات ـ تسيون"

"شالوم غْفرَتي. أني باسم."

وعلى الفور لاحظ أنه ردّ بأربع كلمات، ثلاث منها لا تحتاج إلى تعلم اللغة العبرية: واحدة هي اسمه، والثانية (أني)، مشتركة مع المحكية الفلسطينية، والثالثة (شالوم)، لا يحتاج تعريبها سوى قلب حرف الشين الوحيد فيها إلى سين، وواوها ألف. أما الرابعة (غفيرتي)، فجاهد باسم لاختيارها من بين عشر كلمات عبرية هي كل ما عرفه من اللغة (ص 73). فهل نحتاج إلى تفسير ما يقوله النص حول وجود لغة واحدة، لشعب يجب أن يكون واحدا؟

وإذا كان الكاتب قد بدأ بخلط اللغة والفكرة مع الإعلان الذي كتب بالعبرية مرتين بينهما تناقض، حول بيت ليس للبيع وآخر للبيع في حيّ عربيّ خالص (ص 41)، فإن مثل هذا التداخل سوف يتحول بالتدريج إلى علاقة عادية: فبيت جميل ولوديا (الفلسطيني واليهودية الروسية) في حيفا، الذي قضى فيه بطل الرواية أياما، يقع في عمارة من ثلاثة طوابق، تضمّ ست شقق، يسكن خمسا منها يهود. بدت جولي هناك "مرتاحة لأحاديث جميل عن العلاقات الودّية بين جيران وصفهم بالعاديين، وعن عضويته في لجنة سكان العمارة، التي تشرف على حلّ خلافاتهم ومشاكلهم اليومية، وتنظّم كل ما هو مشترك في ما بينهم" (ص 64)، بينما كان الشك يعلق بذهن زوجها في هذه المرحلة. الشكّ سوف يبطُل على ألسنة شخصيات الرواية بعد ذلك: فباسم، المتعصب لفلسطينيته معظم الوقت، الرافض لتعامل الاحتلال معه، بعدم السماح له بالعمل، يرتاح حين يطلّ برأسه من النافذة، ويرى جارته اليهودية بات ـ تسيون" (ص 72)، ثم يمنحها بعد ذلك اسم بات ـ شالوم (بنت السلام بدلا من بنت صهيون) بعد أن يشعر بأنه "في فِ هَلِبلاد حدن بحب السلام" (ص 64). أما "باقي هناك"، فمنذ انتقل إلى اللد، لم يتوقف "عن تشجيع حسنية (زوجته) على إقامة علاقات مع جيراننا اليهود في الحيّ. كان كلما أظهرت حسنية ترددا، مكتفية بعلاقتها الحميمة بجارتنا المسيحية أم جورج التي تقيم على بعد بيتين، قال لها: "إحنا ما فينا نعيش في غيتو على قدنا يا حسنية. إحنا في هالبلاد طول عمرها مفتوحة على الدنيا، وقلوبنا بتساع كل البشر، يا ستي لا تحبيهم ولا تناسبيهم، بس خلي علاقتك معهم عادية".

ومع الأيام والسنين، تغيرت حسنية وصار لها صديقات من بين جاراتها اليهوديات، أولهن عفيفة كما تناديها" (ص 154). هذه العلاقة العادية المطلوبة هي التطبيع بعينه، فهي تعني أن يُرى وجود المحتل أمرا عاديا، طبيعيا. ومن أجل هذا يكون الرهان على الزمن، حتى يحلّ عقدة الفلسطيني الذي يعاند، وهو الرهان الذي سبق للاحتلال أن وضع فيه أمله كي يغير المواقف، من خلال كبار يموتون، وصغار ينسون، ولكن أمله خاب كليا.

ومن باب الإلحاح على محاولة ترويج الفكرة، تتحدث الرواية عن حالات فردية حاولت قلة من الإسرائيليين أن تكون فيها منصفة، مثل جماعة "ذاكرات" التي تحاول أن تحكي لليهود ما لا يريدون أن يسمعوه عن مذبحة دير ياسين، وكأنها تهدف إلى طرح مثل يمكن تعميمه على الاحتلال كله. لكن القارئ سرعان ما يكتشف أن طرح اسم هذه الجماعة كان نوعا من الافتعال، لتبرير أسوأ ما يمكن أن تقع في رواية فلسطينية على الإطلاق، أو أن يخطر في ذهن أيّ فلسطيني سوي، وهو زيارة متحف المحرقة، "يد فشم"، (ص 224)، ليكون هناك بعد ذلك سبب لحزن البطل والرواية والكاتب معا، "على من هم منا وعلى من هم منهم" (ص 240)، حيث يتساوى الجلاد مع الضحية، في أعلى مستويات التطبيع. 

لقد أرجأ الراوي زيارة "خرابة وشوية حجار" دير ياسين، رغم أنه حلم بها، وجاء من أجلها، من أجل أن يتجول داخل المتحف اليهودي، باعتباره جزءا من رحلته على أية حال. ورغم محاولة تبرير الزيارة، وتفسيرها بشتى الحيل، إلا أن الراوي يتساءل عما ربحه عندما تخلى "عن جمع عدد من التحف التذكارية والهدايا النادرة، وروائح التوابل والبهارات، وابتسامات الفلاحات الفلسطينيات المطرزة بالنعناع والزعتر" (ص 239).

لكن تساؤلاته هذه تسقط منه عند المدخل، دون أن ينتبه لها، فالمتحف ـ فيما يبدو ـ يلتقط دهشته، ولذلك يكيل له إعجابا سبق أن خصّ به كل شيء يهودي: "اجتزت مكتبا زجاجيا صغيرا يجلس بداخله شاب بلباس مدني يقرأ جريدة. لم يسألني شيئا، ولم يلتفت إليّ أصلا حين مررت. دخلت المتحف من ممرّه الداخليّ الطويل المتكسر بزاوية حادة، إلى حيث تتوزع محتوياته على قاعات مصممة بطريقة فنية رائعة" (ص 239).

والكاتب لا يخفي تعاطفه مع الضحايا في "قاعة الأسماء" التي استولت على مشاعره، فقلب الأسماء وتصفح ملامح الضحايا وهم يراقبونه يتأمل وجوههم ويتحسس مشاعرهم، وكأنهم هم أهله الحقيقيون. ثم لا يخرج من المشهد إلا بأمنية وحيدة، قد تكون هي المشهد الروائي الوحيد في الرواية بكامله، وهو مشهد فانتازي، يتصور فيه الكاتب أن "التعايش" سمح بأن يقام متحف مواز، لذاكرة الفلسطينيين، يذكر اسمه العبري طبعا (زخروت هفلسطينيم)، لأنه يحلم بأن الاحتلال هو الذي سيقيمه، "في أعقاب المصالحة التاريخية التي وقعت قبل سنتين فقط، بين الشعبين في البلاد، وأنهت صراعا دمويا استمرّ أكثر من مئة عام" (ص 241 /242).

هذه المصالحة التاريخية بين شعبين في البلاد، هي الدافع الأساسيّ الذي يقف وراء صناعة الرواية، وهو دافع لا يستطيع التعامل مع الواقع من حيث هو، بتفاصيله الصحيحة، لأنه يبحث فقط عما يرضي أطرافا تتصور أن هذا الحلّ ممكن، رغم كل السنوات التي انقضت هباء في محاولات التوصل إليه. لذلك فإن التصور المسبق حمل الرواية كل هذه الأحمال الغريبة عما يقتضيه الفن الروائي، فجاءت متكلفة في لغتها، وتراكم أحداثها الزائدة أو المكررة، وفي طرح أفكارها التي لم يعد في واقع الاحتلال ما يبرر أن تجد لها من يؤمن بها، خصوصا إذا كان فلسطينيا.