«ليست الحياة خيرّة أو شرّيرة، بل هي مُجرّد مكان للخير والشرّ»
ماركوس أوريليوس
أوّلا- المدخل:
المصلحة في اللغة ضدَّ المفسدة، وجمعها مُصالح، ورد في لسان العرب " الصَّلاح : ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً،، والإِصلاح: نقيض الإِفساد، والمَصْلَحة: الصَّلاحُ. والمَصلَحة واحدة المصالح، وأَصْلَح الشيءَ بعد فساده: أَقامه، وأَصْلَحَ الدابة: أَحسن إِليها فَصَلَحَتْ[1] وسنستخدم المصلحة بداية بكونها ضدّ المفسدة، ولن نستخدمها بمعنى النفعية المؤقتة والأنانية وكنقيض للمبادئ، مع العلم أنّ مفهوم المصلحة في المنطق الحيوي يشملها كل كينونة، ويقرُّ بوجود صلاحية لها، فالمفاسد والنفعية والأنانية والمبادئ كلها مصالح قد تكون أكثر أو أقل صلاحيّة من بعضها البعض وباعتبار معيّن. المصلحة مفهوم نسبي، فكل مفسدة تتحوّى مصلحة ما، وكل مصلحة تتحوّى مفسدة ما، فلا يوجد مصلحة مطلقة كما لا يوجد مفسدة مطلقة، بل هناك الأكثر صلاحيّة من .. أو الأقل صلاحيّة مِنْ ... بالمقارنة مع وربطا ب...الخ ولغويّا جذر صَلَحَ وأصْلَح ومُصلِحْ ومنها اصطلح على وزن افتعل وربط المصالح بالصلاحية بالمصطلح هو فعلا حدس حيوي قانوني مدهش- ووفقا لرائق النقري يحقُّ لزكي الارسوزي أن يتوهم كون اللغة العربية، والعرب هم اكثر قدرة على الفهم والتفهُّم بفضل حدوس لغتهم، ونشير كذلك إلى أنّ الوهم كذلك هو مصلحة وصلاحية واصطلاح[2]
ثانيا- المصلحة في التراث وأصول الفقه الاسلامي
كثيرا ما ترد كلمة المصلحة في كتابات الفقهاء المسلمين في صيغ من قبيل: عموم المصلحة- مستحقا على وجه المصلحة - من حقوق المصلحة العامة- اذا اجتمعت كفاية المصلحة - من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة - إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس- لا بد أن يكون مشروطاً بالمصلحة - الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة .. الخ" بما يدلّ على حضور مفهوم المصلحة في كتاباتهم، وهي ترد بمعنى جلب منفعة ودفع ضرر. وقد سعى علماء أصول الفقه المسلمين الى تأصيل مفهوم المصلحة بالاستناد الى النصوص المقدّسة، يورد العز بن عبد السلام "أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن الفاسد باسرها قوله تعالى ان الله يأمر بالعدل والاحسان[3] وكذلك بالاستناد الى نص الحديث النبوي "لا ضرر ولا ضرار" حيث نفى الضرر عن الشريعة، ولكن يبقى مفهوم المصلحة هنا مُقيّدا بمفهوم الشريعة، فالمصلحة هنا موازية للمقصد الشرعي[4] حيث يورد فخر الدين الرازي "والمصلحة الشرعية هي الوصف الذي يتضمن في نفسه أو بواسطة حصول مقصود من مقاصد الشرع، دينا كان ذلك المقصود أو دنيويا ونريد بمقصود الشرع: ما دلت الدلائل الشرعية على وجوب تحصيله والسعي في رعايته والاعتناء بحفظه، لا ما يريده الشارع وذلك كمصلحة حفظ النفوس والعقول والفروج والاموال والاعراض.[5] وبناء عليه يصنّف الأصوليون المصالح في ثلاث: المصلحة الملغاة شرعا- المصلحة المعتبرة شرعا- المصلحة المسكوت عنها، والأخيرة هي ما تسمّى في عرفهم بالمصالح المرسلة وتقسم المصالح المرسلة بدورها بهذا الاعتبار من جهة قوتها الى مصالح ضرورية، ومصالح حاجيّة، ومصالح تحسيّنية، وأما من جهة اعتبار الأصل فتقسم المصالح المرسلة إلى خمسة وهي ما يُعرف بمقاصد الشرع أو الضروريّات الخمسة، وهي: حفظ الدين- حفظ النفس- حفظ العقل- حفظ العرض- حفظ المال. وكخلاصة لما سبق فقد جاء مفهوم المصلحة في أدبيات أصول الفقه الاسلامي كاعتبار لاحق ومشروط بالنص المقدّس، وجرى تأويلها بمصالح المسلمين واعتبرت المصالح المرسلة من المصادر المختلف عليها في أدبيات الفقه الاسلامي، حيث يورد الشاطبي "إن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال.[6] وأمّا الشيعة الامامية فيضيفون العقل كأحد مصادر التشريع من بعد القرآن الكريم والسنة وأقوال أئمّتهم، بينما امتاز المعتزلة عن فرق المسلمين باعتبار العقل هو أوّل الأدلّة الشرعيّة في تصنيفهم، حيث يورد القاضي عبد الجبار "وأولها العقل لأن به يميز بين الحسن والقبح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر[7] والمقصود بالعقل هو الاحتجاج بالمصلحة التي يقرّرها عقلاء الناس في العموم، ربطا بما يترتّب عليها من منافع، ودفع ضرر.
ثالثا- من أصول الفقه ..إلى فقه المصالح السياسية
كتاب فقه المصالح لرائق النقري الصادر 1999م، والذي جاء عنوانه الفرعي (منهج الحيوية الاسلامية السياسية) يقدّم رؤى لتجاوز قصور مفهوم المصلحة كما ظهرت في كتابات علماء أصول الفقه الاسلامي، وتطبيقاتها في الجانب العقائدي السياسي.
*الفقه في اللغة هو العلم بالشيء، وقد غلبَ لفظه في علوم الدين والفقه، بحيث أصبح الفقيهُ مساويا العالم بشؤون الدين، والفقه اصطلاحا – في اصطلاح فقهاء الدين: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من ادلتها التفصيلية [8] وإن جرت العادة على تصنيف الفقه في علوم الدين، ولكنّ المعيار في ذلك غير دقيق فالفقه هو من علوم الدنيا كونه يهتمّ بمصالح الناس في حياتهم – في العالَم- من منظور عقائديّ معين، ولكنّ المنظور العقائدي ليس يدعونا لإهمال مصالح الناس والمجتمعات، والناس ليسوا بالضرورة مسلمين والمجتمعات الانسانية ليست بالضرورة من المسلمين كذلك، والمسلمين ليسوا سواء وليسوا بمنعزلين عن أخوتهم البشر، وما ينطبق عليهم ينطبق على غيرهم في ميزان جلب المصالح ودفع الضرر. وإنّ العقائد سواء أكانت دينية أو غير دينية ما هي إلا أحد أبعاد الكينونة الاجتماعية، والبعد العقائدي ليس بخارج عن هذه الكينونة، وهو ليس كلّها أيضا، بل هو من الأبعاد المُشكّلة لها في شكلها الحركي الاحتمالي الاحتوائي النسبي. لنميز اذا بين فقه مصالح الانسان والمجتمعات (الكينونة الاجتماعية) بالاستناد الى مرجعية عموم الناس وعموم أهل الاختصاص بما لا يخالف البرهاني التجريبي، وهذا يشمل الانسان والمجتمعات بغضّ النظر عن مرجعيتها العقائدية والأثنية واللغوية ..الخ وبين [علم الفقه وعلم أصول الفقه] كأحد المعارف التقليدية عند المسلمين، وهي معارف تستند إلى مرجعيّة فئوية تشمل الايمان الاسلامي والنصوص المؤسّسة له. لندعو الفقه بالمعنى الأوّل بفقه المصالح الفئوي الشرعي، وندعو الفقه بالمعنى الثاني بفقه المصالح الحيوية. الأوّل - في صيغته المهيمنة تاريخيا وحاضرا - يستند الى منطق الجوهر الفئوي، أما الثاني فيستند الى منطق الشكل الحيوي. ولنعد الى كتاب [فقه المصالح] للنقري، ففقه المصالح لا يتوجه الى المسلمين دون غيرهم! ولا يتجه الى المتدينين دون غيرهم، "فقه المصالح يقوم على أنّ عامة البشر بحاجة الى مفهوم الله أو القانون المطلق وإلى تحديد قيم الحق والخير والجمال .. أما الله نفسه فهو ليس في حاجة إلى البشر. وبالتالي يجب ألا نسأل عن مصلحة الله. بل عن مصلحة البشر. واذا كان لله مصلحة فهي كما وصفتها كل الاديان تتمثل بالخلق والحياة والعطاء وديمومة الوجود الحي. وهي مصالح لا تتوقف على رأي البشر! ولذلك فإن قتل المرء بحجة حماية الله. أو نيابة عن السماء. هو عمل لا معنى له إلا أن القاتل يعرف أنه يرتكب كبيرة![9] فمفهوم الله يدلّ على الخير ويحرّض عليه (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء 79 والحيوية الاسلامية – وفقا للكتاب - ليست شعرا وليست احلاما وليست طقوسا وليست غيبا، بل هي مصالح في الحياة (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) النحل 97 ولكن اذا كانت الطقوس يمكن ان تؤدي الى استحضار مشاعر الخشوع والطهارة في مؤديها فهي حيوية. وإذا كانت الغيبيات تؤدي الى تقديس الحياة والسلام وتحريم الأذى والقتل. فهي يحتاج عامة الناس عيشها لتزيد ثقتهم وقدرتهم على الحياة.[10] واذا كانت بعض الطقوس والغيبيات لا تدعم قيم الحياة فهي ليست أكثر من سقط متاع "فالحيوية الاسلامية ليست وصفا للطقوس الدينية ولا تتطلب اية مرجعية غيبية، بل تتطلب الدلالات المنطقية الملزمة لتكون قراءة نقدية قياسية وتجريبية وبهذه الصفة فان الحيوية الاسلامية ليست مذهبا جديدا وليست موضوعا للإيمان بل هي للمشاركة والممارسة العملية لأصالة التراث الحضاري الاسلامي بوصفه ممثلا في اهدافه لكل التراث الحيوي الموجود في الاديان والحضارات الاخرى.[11]
فالإسلام كما يعرضه الكتاب يتجاوز كونه دينا وبعدا عقائديا بالخاصة، فهو انتماء حضاري وثقافي بالمعنى الواسع يشمل المؤمنين وغير المؤمنين، بما عبّر عنه فارس الخوري – رئيس وزراء سوري سابق- [الاسلام هو وطن المسيحين العرب] وبما عبّر عنه مكرم عبيد – سكرتير حزب الوفد المصري في ثلاثينات القرن الماضي – [انا مسلم وطنا ومسيحي دينا] ويطرح الكتاب مشروع (نحو الولايات الحيوية العربية الاسلامية المتحدة) مع تأكيده على قيمة الحرية واحترام حقوق الانسان وضرورة التعددية السياسية. ويقدّم الكتاب قراءته للمصالح استنادا الى قانون الشكل الاجتماعي مُستخدما تقنيّة وحدة مربع المصالح ISU) Interest Square Unity) حيث يميز ما بين أربع دارات متحوّلة: هي العزلة والتعاون والصراع والتوحيد، يجمعها معا المنطق الحيوي في وحدة مربع المصالح، ويميز الكتاب في سياق عرضه للتحوّيات الفئوية ما بين: تحوّيات العزلة - وتعبر عنها منظومة منطق الجوهر العنصري. تحويات التعاون – وتعبّر عنها منظومة منطق الجوهر الصوري تحويات الصراع - وتعبر عنها منظومة منطق الجوهر النافي الديالكتيكي، أو منظومة منطق النفي البراغماتي. تحويات العولمة والتوحيد عبر التنوع - وتعبر عنها منظومة المنطق الموحّد للشكل الحيوي.
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور، نسخة موقع الوراق، مادة صلح http://www.alwaraq.net/Core/AlwaraqSrv/LisanSrchOneUtf8
[2] من حوار عبر الايميل لكاتب السطور مع رائق النقري.
[3] قواعد الاحكام في مصالح الانام – ابن عبد السلام – ص642
[4] الوعي المقاصدي – د. مسفر القحطاني- المكتبة العربية للأبحاث والنشر –بيروت ط1 2008م –ص21
[5] الكاشف عن اصول الدلائل، فخر الدين الرازي، دار الجيل، بيروت، 1992م ص 21
[6] الاعتصام، الشاطبي، الرياض، دار ابن عفان، 1992م، ، ج2، ص608
[7] فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد سيد، الدار التونسية للنشر، ط2، سنة بدون، ص 139
[8] شرح مختصر الاصول من علم الفقه، المنياوي، المكتبة الشاملة، القاهرة، 2011م، ص5
[9] فقه المصالح، مرجع سابق، ص 34
[10] فقه المصالح، مرجع سابق، ص35
[11] فقه المصالح، مرجع سابق، ص 43