"إن من يقرأ ما كتب حول النص ومفهومه باللغة العربية يهوله ما يجده من خلط وتشويش واضطراب وليس هناك فرق بين ما كتب في مشارق الأرض ومغاربها؛ ومن بين أسباب تلك الآفات غياب تصور نظري محدد المعالم ومنهجية مضبوطة الحدود والأبعاد والغايات، مما جعل الباحث العربي يلجأ إلى تشقيق الكلام وإلى الأساليب البلاغية ليخفي الخسارات العلمية المؤكدة(1).
وأساس المأزق النظري الذي وقع فيه الباحث العربي في تحديده لمفهوم النص، هو علاقة النص بالعديد من المفاهيم، التي تحتاج بدورها إلى الضبط والتحديد، ومن بين هذه المفاهيم مفهوم الثقافة، والدلالة والتأويل، فالباحث العربي يجد نفسه أمام تعدد ثقافي، فهناك من جهة الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجت عدة تحديدات للنص(2)، والثقافة اللاتينية بشقيها القديم والحديث التي أنتجت تحديدات متباينة، وفي الأخير الثقافة العربية الحديثة.
لكن قبل تأطير المفهوم، والانتقال إلى مفهوم النص لا بد من أن نتساءل عن ما هو النص؟ وأين يكمن الجوهر الحقيقي لهذا المفهوم؟
يعد النص مجالا خصبا في الدراسات اللسانية والبنيوية والأسلوبية والسيميائية، لما شهده من جهود علمية دؤوبة من طرف العديد من علماء ورواد نظرية الشعرية واللغة الأدبية، أنتجت من خلاله نظرية متماسكة أنتجت به معرفة شاملة، درست مقاطعه وأنظمته اللغوية والحمولة الدلالية، وأيضا في تفاعله مع الخطاب ونصوص أخرى.
ومن المعلوم أن النص شفرة لغوية تقوم على نظام من القواعد النحوية والعلاقات الدلالية والتركيبية والصوتية، ولهذا تحدث فان ديك عن مفهوم النص معتبرا إياه حلقة من الجمل المتتالية والمتعالقة فيما بينها، سواء أكان كتابيا أم شفويا. وقد راهنت جوليا كريستيفا على الطابع اللساني للنص، كونه "جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان عن طريق ربطه بالكلام التواصلي راميا إلى الإخبار المباشر، مع مختلف أنماط الملفوظات السابقة"(3).
إذن فعلاقة النص باللسان المتموقع داخله تشير إلى علاقات التوزيع البناءة الممكنة القول عنها أنها صادمة، ولذلك فالنص قابل للتناول عبر المقولات المنطقية لا عبر المقولات اللسانية الخالصة.
بالإضافة إلى كونه ترحال للنصوص وتداخل نصي، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى(4).
هذا التصور يحيل بنا إلى جوهر الكتابة حيث تحديد النص، فحسب بول ريكور يطلق "كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته عن طريق الكتابة –واستنادا إلى هذا التعريف- فإن التثبيت، أمر مؤسس للنص ذاته ومقوم له"(5).
وما يمنح النص هويته يحدده الوسط الثقافي، لذلك كان الكلام لا يعد نصا، إلا بانتمائه لثقافة معينة، لأن تحديد مفهوم النص يشترط فيه احترام الوسط الثقافي المنتمى له، والثقافة الخاصة بهذا الوسط، لأن الكلام الذي يعتبره البعض ثقافة نص ما، قد لا يعتبر من طرف الآخر نصا داخل ثقافة أخرى(6)، لكن تبقى عدم مساواة النص لمرجعياته (تاريخية، اجتماعية، نفسية...)، فهو يبقى ذو هوية فنية بتحويله كل الدلالات إلى علامات نصية فنية(7).
* * * *
الهوامش
(1) د.مفتاح محمد: "المفاهيم معالم" –نحو تأويل واقعي- المركز الثقافي، الطبعة الأولى: 1999، ص 15.
(2) قدم الدكتور محمد مفتاح "دراسة غنية لمفهوم النص في الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اللاتينية"، أنظر "المفاهيم معالم"، ص: 15 إلى ص 46.
(3) سعيد يقطين: "انفتاح النص الروائي"، ص 19.
(4) جوليا كريستيفا: "علم النص"، ترجمة فريد الزاهي مراجعة عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، مطبعة فضالة 1991م، ص 21.
(5) "الممارسة الثقافية للزواية الوزانية": الجزء الثالث، ص 782.
(6) يمنى العيد: "في معرفة النص"، دار الآفاق الجديدة بيروت، الطبعة الثانية: 1983، ص 55ـ57.
(7) د.حامد أبو زيد: "هكذا تكلم ابن عربي"، دار النشر: الهيئة المصرية للكتاب، تاريخ الطبع: 2002، ص 215.