في الغرب أصبحت أغنية رولاند أشهر الحكايات الشعبية وأكثرها انتشاراً، وهي سيرة ملحمية تتحدث عن بطولات فارس فرنسي أسطوري من القرن الثامن الميلادي، ضحّى بحياته لأجل حماية جيش الملك شارلمان من المسلمين أثناء عبوره جبال البرانس الممتدة بين فرنسا وإسبانيا، وفي نهاية الملحمة، وبعد سلسلة من المغامرات، يتعرض رولاند ورجاله للموت مع إنجاز المهمة الخطيرة، فتخلد الملحمة التي كتبت على ما يبدو في القرن الثاني عشر ذكراهم، وسرعان ما تنتشر الأغنية مجهولة المؤلف في أنحاء أوروبا، تسرد تاريخاً غير التاريخ، ووقائع ربما تخالف كثيراً ما جاء في المصادر والوثائق، لكنها تبدو عند العامة تاريخاً حقيقياً، ومصدراً لا يقبل التشكيك.
هناك دوماً تاريخ آخر يتخذ مساراً موازياً للتاريخ الرسمي المكتوب، ربما لا يقل هذا التاريخ الموازي أهمية لقدرته على الانتشار والتمفصل في منطلقات الوعي الجمعي للشعوب، فيصبح ضمن معطياته الرئيسية، ويتخذ موقعه المميز في الوجدان الشعبي.
تجسد تغريبة بني هلال هذا النوع من التاريخ الموازي الذي يخترق خط الزمن في مفارقة تبدو شديدة التعقيد، فتلك الممالك والإمارات، وهذا العدد الهائل من الملوك والسلاطين والأمراء لا تكاد تجد له أثراً في التاريخ المنظوم، ولا في كتابات المؤرخين، حيث يبدو السؤال الحائر والأكثر إشكالا: كيف وأين ومتى جرى كل هذا؟
لا يكاد ذكر القبائل والجماعات التي لعبت الدور الرئيسي في ملحمة بني هلال يأتي في سياق التاريخ العام سوى ضمن الحديث عن إغارات القبائل المتناحرة، وهجراتها، ومهاجمتها لتخوم وأطراف الدولة الفاطمية، أما أبطال الملحمة فلا نكاد نعثر لهم على أثر في التاريخ، اللهمّ سوى أخبار متفرقة هناك وهناك، مع تباين في ذكر الأسماء والألقاب، حيث يضطر الباحث إلى التخمين أحياناً لاستنتاج الاسم، فزياد بن عامر صاحب الريادة الذي جاء ذكره عند ابن خلدون ربما هو أبوزيد، وعامر ربما هو الجد الأعلى لقبائل بني هلال.
ولكن، هل اختلق الأدب الشعبي كل هذا؟ وهل لعب المخيال دوره في إنتاج ملحمة أسطورية معقدة التفاصيل إلى هذا الحد؟
لا يمكن للباحث أن يركن إلى هاجس الاختلاق ليفسر هذا الإشكال، فللمتخيل في الحقل الأنثروبولوجي دلالات رمزية تتجاوز التعويل على كونها تمثلات مجردة، إذ تصبح فعاليتها الرمزية بنية تخترق ثوابت التاريخ، لتحمل تأويلاً للعالم من خلال المحاكاة، هذا البعد الأنثروبولوجي يتيح لنا على حد وصف أركون فهم الآليات العميقة لكيفية اشتغال المجتمعات البشرية وحركتها، وهو بعد له معقوليته الخاصة ومنطقه الداخلي، ذلك أن ما نسميه اليوم بالمتخيل هو نمط عقلاني ربما لم نعد قادرين على فهمه؛ لأننا أسقطناه من اهتماماتنا على حد تعبير بسام الجمل. فهجرة الهلاليل وقبائل العرب من نجد إلى تونس حدث تاريخي موثق، أضفى عليه المتخيل نوعاً خاصاً من العجائبية الأسطورية، والملحمية الجماعية، فالقبيلة دولة داخل الدولة، وليس بمستغرب أن يكون بينها الأمراء والسلاطين، ولعل في انتصار علي بن رزق الأخير وتسليمه السلطة خير دليل على الدور الموازي للبطل الذي يحقق الانتصار ثم يلوذ بالظل فيغفل التاريخ ذكره.
طريق السلامة يا تلاتة وخالكم
طريق السلامة يا كبار العرايب
هكذا يشدو الراوي، ومازال، في قرى ونجوع مصر بآلاف من أبيات الشعر، تناثرت هنا وهناك عبر التاريخ، لتسرد تغريبة بني هلال، بكل ما اختلط بها من مشاهد تخيلية، وأساطير مفارقة، تجسد حالة من الوعي الجمعي، تحيل على كل ما هو متاح للتعاطي مع بيئة الصحراء القاسية، وتغريبة بني هلال يختلط فيها ما هو تاريخي بما هو اجتماعي، ويحمي وطيس الجدل بين ما هو حادث وما كان ينبغي له أن يحدث، ويتبدى فيها البعد القبلي بكامل معطياته ليعبر بمنظومة القيم البدوية عبوراً حاداً من الحيز المكاني (الصحراء) إلى حيث ثقافة النهر والساحل، في أكثر مشاهد الدراما الشعبية حضوراً وزخماً في الفولكلور المصري.
ليس مهماً الالتزام الحرفي بمعطيات التاريخ، فقد غدا بنو هلال مملكة مستقلة يتناحر فيها الأمراء والملوك، لتتواتر حكايا الفرسان والأميرات في سياقات تشبه حكايا ألف ليلة وليلة، لتتحول الذاتية القبلية إلى ملك كامل الاستقلالية في الوجدان الشعبي، وترتكز الحكاية على البطل المنتظر الذي جاء بعد طول ترقب.
تبدو المعايير الاجتماعية حجر الزاوية في هذا القدر الهائل من الحكايا، ووفقا لبارسونز فإن تلك المعايير هي الضامن لتماسك المجتمع، والسيطرة المعيارية على كل فعل صادر من أفراده، ومن دونها يحدث التفكك والانهيار الحتمي؛ لأنها تأتي من المعتقدات المشتركة المنبثقة عن الثقافة بما فيها المفاهيم عن الصواب والخطأ.
يتبدى ذلك بوضوح في تغريبة بني هلال، ففي كل مرة تتهدد المعايير الاجتماعية بالخروج عليها كما فعل "دياب بن غانم"، يثور الوعي الجمعي منتخباً بطله المنتظر دوماً ليعيد ضبط الأمور إلى نصابها من جديد، هنا تبدو لهفة انتظار البطل المخلص القادم من بين غياهب الحاضر ليبشر بالمستقبل، وقد أنهك الجميع جراء صراعات لا تنتهي حالة شبه مستمرة على مدار الحكاية.
تقول النبوءة إن البطل سوف يولد من نسل الأمير رزق (ابن نائل، عم سرحان، ملك بني هلال) وللهفة رزق على الإنجاب تزوج مراراً، لكنه لم ينجب من زوجاته العشر سوى بنتين: شيحة وأتيمة. وصبي خرج إلى الحياة مشوهاً بلا أطراف، ثم تزوج بزوجته الحادية عشرة الأميرة خضرة الشريفة، نسبة إلى أبيها شريف مكة. وسرعان ما ظهر على خضرة علامات الحمل، وبينما الجميع في شوق يخالطه أمل متوجس، لغلام يجمع بين الشرف الهاشمي والدم الهلالي، تلعب الميثولوجيا دورها، فالأميرة التي تحمل في أحشائها بطل العرب المنتظر، ترى طائراً أسود اللون يهاجم سرباً من الطيور مختلفة الجنس واللون ويقتلها. فتعجبت لهذا المنظر، ورفعت وجهها إلى السماء تدعو الله أن يمنّ عليها بولد مثل هذا الطائر، ولو كان فاحم اللون، فاستجاب الله لها ووضعت غلاماً أسود اللون.
ولما خرج الغلام إلى النور فزع رزق، وأشار عليه معظم أصحابه أن يخلي بينه وبين زوجته، وشككوه في خُلقها، فأذعن لهم وأرسلها وابنها إلى أبيها في مكة.
في الطريق تنزل خضرة وادياً فتلتقي الأمير فضل رأس بني زحلان، فيكرمها ويتبني الغلام المغضوب عليه، لينشأ بركات -وقد أصبح هذا اسمه- في كنف الأمير النبيل فارساً وشاعراً وعارفاً بعلوم العرب.
هكذا جاء الميلاد معقداً، والمخاض عنيفاً مفعماً بالتحدي، حالة من الريبة والرفض تحولت إلى يتم حقيقي أحاطت بالفتى، إنها ذات لحظات خروج الأنبياء إلى الحياة، ونشأتهم العسيرة التحقق إلى أن تتدخل يد القدر، ذات لحظة رفض المسيح، واتهام العذراء مريم في شرفها، خضرة تعيد استدعاء اللحظة بكل آلامها وانكسارها، وربما انتصارها الأخير.
هنا يبدأ التمكين لنبي بني هلال بعد إنكار الأب لنسبه، في ذروة صعود المنحنى الدرامي للحدث، يمثل لحظة انقشاع غيامات الزمان، فالأب المعتزل سنين طويلة حزناً على فراق الزوجة والابن، يلبي أخيراً نداء قومه ليخرج معهم في مواجهة الابن المجهول الذي ألحق بهم هزيمة منكرة، فلما بلغ موضع الهلالية المندحرين حمل عليه بركات، وكاد الابن يقضي على أبيه لولا أن نبهته أمه، فأقر الأب ابنه، واستعاد زوجته واعترف بنو هلال بالبطل الصاعد في سماوات العرب الملبدة نجماً يلمع بريقه على مد النظر.
وإذا كان الأنبياء قد جمعوا عديد الأسماء، فإن البطل أبا زيد المسمى عند بني زحلان بركات، أسماه قومه سلامة كناية عن الأمن في كنفه، كما احتفظ باسم آخر مستعار هو مسعود إبان الصراع مع قبيلة تيدمة، فدلالات تعدد الأسماء تعكس حالة التنوع في القدرات والمواهب، والهالة المؤسسة على معطيات الواقع، لتنفجر في التاريخ ظاهرة "أبوزيد الهلالي سلامة".
فور إقرار مجيء البطل تظهر المهمة، وكأنه خلق للحظة الفارقة في تاريخ العرب، حيث المكانة التى انتزعها تفرض هذا الدور المحوري، فسرعان ما أصاب القحط بلاد السرو بويلاته، وهنا يلتقي أبوزيد بدياب بن غانم في مفارقة أخرى تبدو أكثر لزومية، فالخير المطلق لابد أن يصادف شراً مقيماً، لتتخذ الأحداث مساراً آخر عبر الثنائية المعروفة: يوسف/ إخوته، موسى/ فرعون، المسيح/ يهوذا، أبوزيد / دياب.
كان الجدب هو التحدي الذي صادف القبائل، فقرروا الارتحال غرباً، حيث تونس الخضراء، كانت التغريبة كالتيه في منافي العرب وصحاريهم المترامية، من الجزيرة إلى العراق فبلاد الشام، حيث مروا بحلب وطرابلس والقدس وغزة، عبر طريق القوافل القديم، ومنها إلى مصر، ثم إلى تونس.
خرج أبوزيد متنكراً في زي الشعراء الجوالين، وبصحبته الأمراء مرعي ويحيي ويونس، هاهم كبار "العرايب" في رحلة استكشاف المجهول واستشراف المستقبل، وسرعان ما يقع الأمراء في أسر خليفة الزناتي حاكم تونس القوي، ويتمكن أبوزيد من الإفلات ليعود إلى القبيلة ويبدأ بهم التغريبة الأهم في التاريخ، لفك الأسرى واستيطان تونس.
تحركت العشائر صوب الهدف تصحبهم الجازية ابنة الأمير سرحان، وكانت تزوجت من صاحب مكة، كانت الجازية نموذجاً فريداً لنساء العرب، هي المجدلية في التغريبة، لعبت الدور الأكبر في استنهاض الهمم وتشجيع الفرسان، لما تتحلى به من مكانة ونسب وجمال وكمال في الأخلاق، كما امتازت بالحكمة ورجاحة العقل حتى قيل إنها احتكرت ثلث المشورة في مجلس الحرب في قومها، ونموذج الجازية المرأة المحبة لقومها، والتي تتحمل المسؤولية بكل تفاصيلها يظهر بوضوح في مواجهة نموذج المرأة التي اتبعت هواها وباعت قومها في سبيل حبها، نموذج عزيزة التي عشقت يونس، وراودته عن نفسه، فباتت كامرأة العزيز التي شغفها يوسف حباً.
تنتصر القبائل ويسقط الزناتي قتيلاً بسيف دياب بن غانم، والذي سرعان ما يكشف عن وجهه الطامع فيقتل البطل أبوزيد والجازية ليستبد بالبلاد وحده سبع سنوات عجاف.
دياب يجسد في المتخيل لحظتين غاية في الأهمية، الأولى لحظة فرعون موسى، حيث بغى واستكبر وعلا في الأرض، يستبيح النساء ويقتل الأطفال خشية أن يكبروا ويثأروا منه، فأصبح فرعونا أمعن في إذلال قومه.
اللحظة الثانية لحظة السنين العجاف، سنوات سبع من الظلم والجدب والقحط، كسباعيات يوسف الصديق في مصر، محكاة تبدو نهايتها في مجيء البطل النبي ليخلص قومه.
وبعد مخاض عسير يخرج البطل الجديد إلى النور، ويوحد القبائل في ثورة لتصحيح المسار، الأمير أبي الهيجات على بن رزق بن أبي زيد يقود جموع الثائرين ويقتحم قلعة تونس، ويقتل دياب بن غانم قبل أن ينصرف لشأنه، وقد ثأر لجده وأتم مهمته بقتل الطاغية دياب.
تنتهى سيرة بني هلال، وعديد حكاياها التي خلدتها السيرة الشعبية، تعلو قيم الفداء والشجاعة والتضحية، وتتراجع الذاتية في مقابل الجماعية، ويضع التاريخ الموازي علامات الاستفهام عبر سلسلة من الأحداث والوقائع المفعمة بكل أشكال الزخم العاطفي والإنساني، ويبقى السؤال: ترى هل مرّ هؤلاء يوماً من هنا؟