قبل خوض موضوعة هذه المقالة، لا بدّ لي من الكشف اللائق مرّتين:
أنا أوّلا هو عارف الصادق. كتبت، مستظلا بهذا الاسم المستعار، أكثر من مقالة سياسيّة، تناولتْ في الأساس السياسات هنا من حولنا. لم أتّخذ هذا الاسم خوفا من السلطة، كما كانت العادة أيّام الحكم العسكري. خوفي كان من البيئة البشريّة حولي بالذات. لا يريدون لي أن أهرق جهودي في الكتابة السياسيّة، مهملا كتابات أخرى، في النقد والأدب، بدأتها ولم أتمّها.
طبعا، معهم حقّ. لكن كيف لي أن التزم الصمت. السياسة في دمي، ولا يمكنني التخلّص من دمي!
وعليه: يمكن مقاضاتي عن كلّ ما نشره عارف الصادق. سواء الحضّ على مقاطعة الانتخابات بادئ الأمر، أو التراجع عن الدعوة المذكورة لاحقا. كانت لي مبرّرات مقنعة، في نظري على الأقلّ، سواء في الدعوة إلى المقاطعة أوالعدول عن الموقف المذكور لاحقا. شرحت ذلك بالتفصيل في مقالة سابقة، ولا إفادة في الإعادة هذه المرّة.
ثمّ إنّني، ثانيا، أكتب عن المحامي أيمن عودة، وأنا أعرفه شخصيّا. لا أظنّنا صديقين، لكني أعرف الرجل. الأستاذ أيمن، لا تنسوا، حيفاوي، يعني "بلديّاتي". وكان لسنوات عضوا في بلديّة حيفا، مدينتنا المشتركة. لا تنسوا أيضا أني كنت لسنوات طويلة من أنصار الحزب والجبهة. على كلّ حال، أرجو أن أكون موضوعيّا، في مقالتي هذه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
الأمر الأوّل، وقد كتبت ذلك سابقا، أنّ ما حدث في الجبهة الديمقراطيّة كان ثورة، بكلّ المعاني. ولكي أكون صادقا، مع القارئ ومع نفسي، أقول إنّي لم أتوقّع ذلك. بعد نجاح القوى الجديدة في الجبهة، الأستاذين أيمن وعايدة، بدأت أتابع، بعين القارئ والفاحص، كلّ ما صدر عنهما. قرأت فوجدت أنّ ما حدث لم يكن مفاجأة أو صدفة. كان تطوّرا حتميّا، بالأسلوب الماركسي.
العرب في إسرائيل، ولا تعجبني "عرب 48" على فطنة، مرّوا خلال السنين الماضية في تغيير نوعي، وهو تغيير نوعي كبير. ذكرت في موضع آخر أنّ سبعة فقط، من الفلسطينيين الذين بقوا تحت حكم إسرائيل سنة 48، كانوا يحملون شهادة المترك، شهادة إنهاء الثانويّة زمن الانتداب. فمن يستطيع هذه الأيام إحصاء المتعلّمين والمثقّفين والأكّاديميّين عندنا؟ هذا تغيّر نوعي طبعا، بل هو أجلّ وأخطر من الازدياد العددي الكبير الذي يقلق وحده كلّ العنصريّين المأفونين.
ثمّ إنّ العرب هنا أيقنوا، أخيرا، أن لا أحد يوردهم في حساباته، إبّان المفاوضات، الطويلة العقيمة، بين إسرائيل والسلطة. ما حكّ جسمك مثل ظفرك. لا بدّ لهم من النضال هنا، في سبيل الفلسطينيّين هنا. الأحلام الغيبيّة لم تعد معقولة ولا مقبولة. نحن هنا، باقون هنا، ونضالنا هنا في الأساس. نؤيّد إخوتنا الفلسطينيّين في نضالهم العادل في سبيل الحرّية والاستقلال. لكنّنا باقون هنا، خارج المفاوضات والتخطيطات. لا بدّ لنا من تقليع شوكنا بأيدينا. لا بدّ لنا من النضال، مع الأوادم جميعم من اليهود، من أجل مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، هنا.
هذا هو الخطاب الهادئ الثاقب في كلّ ما قرأته للأستاذ عودة، وهذا هو السبب في التأييد الجارف لهذا الخطاب بين العرب، ووقوف العنصريّين اليهود مشدوهين، وقد أسقط في أياديهم. هل رأيتم سلوك واستفزاز المأفون ليبرمان في المواجهة التلفزيزنيّة؟
أراد جرّ عودة حيث علّموه، لكنّ عودة لم يغضب ولم ينجرّ ولم يصرخ، كما كان علّمه ملقّنوه. كان الردّ عقلانيّا مفحما. كلّ العنصريّين فوجئوا بخطاب عودة الجديد. خطاب لم يعتادوه. يريدون سماع الصياح والتهديد والتشاتم. لكنّهم سمعوا خطابا جديدا، يعرف ما يريد، ويعرف ما يقول، فبنّجوا مشدوهين. تماما مثل كلّ مباراة. يستعدّ الفريق لخطّة وتركيبة معيّنة، فيفاجأ بخطّة لم يهيّأ لها، وتكون هزيمته منكرة. هذا هو التكنيك وهذه هي النتيجة الأخيرة.
أخيرا، لا بدّ من جهود الفريق كلّه في الخطّة والنجاح. لا تكفي التشكيلة الرائعة إذا لم يتجنّد لتحقيقها اللاعبون كلّهم، والجمهور كلّه. مقبلون على عهد جديد، ولا بدّ لتحقيقه من الجهود والعرق. فلتنجنّد جميعا لنكفل لشعبنا، في هذه المعركة الوشيكة، نصرا مؤزّرا نصنعه معا، لنا ولأولادنا!