عن حياة المنفى البارد يرسم لنا القاص العراقي عالم رجل مسكين تضطره ظروف بلاده القمع والحروب إلى التغريب ليعيش في وحشة ووحده يجتر أيامه ليموت بصمت في يوم ثلجي في الشارع.

طائر جناحاه من جليد التوقعات

سـلام صـادق

مرت العاصفة سريعا لا كما يتوقع جعفر مطر موظف الأنواء الجوية , وخلفت وراءها غرفاً تعجّ بالغبار الذي غطى رفوف الكتب المليئة بالأسماء و أجهزة الراديو التي تئن منذ ذلك الحين ,وكذلك الصور المعلقة على الحيطان , اما جعفر مطر نفسه فقد أضحى طيرا مهاجرا وحط في بلد لا يعرف الغبار كي لا يكون مضطرا للتنبؤ ويعفي نفسه من توقع الأحوال ,

 حدثني مرة حين التقاني في بلد يكفنه الغبار ومواسم الهجرة فيه لا تخضع لاعتبارات الطقس بأنه كثيراً ما ثبت في تقريره النهائي في أخر ساعات الليل صحو الأجواء وهدوء الريح واعتدال الطقس ودرجات الحرارة ثم لا يلبث ان يغادر دائرته منهكا من انتظار الغيوم والأمطار ضارباً على أرصفة متربة باتجاه البيت لتدهمه سحابة جشّاء فينزوي في اقرب موقف للباصات خلافاً لما آمن به , وما استنفذ جلّ وقته من اجل تكريسه وتقريبه إلى الواقع .

الغريب في الامر كله , لو ان جعفر مطر أخطأ التوقعات ، لما اضحى طيرا مهاجراً ، ولو لم يخطئ في ذلك ، ماحط رحاله في بلد لا يعرف الغبار ، بلد لا يمنح الطيور الغريبة فيه غير اجنحة من جليد تذوّبها حرارة التوقعات .، ومواسم محسوبةٍ بدقّة وأشواق عاصفة ونسيان غزير ، وما زال المطر يعرش في احداقه ، وان كان بعيداً عن حكاية الفصول القديمة وتقاويم النخل والاعشاب ، في غرفة بلا نوافذ في الطابق العاشر من بناية تختزل المسافة بين الارض والسماء .

وفي ذات ليلة هطل المطر غزيراً ، ملقياً ببرقعه الابيض على وجه الاشياء ، فأحس جعفر مطر بالسأم من طول تلك الليلة ومن تكرار الاغاني المجروحة بالحنين والبرد ، فنزل الى قلق الشوارع البيضاء وفي نيته ابتياع علبة احتياطية  من الدخان يجهز بها على ماتبقى من ليله الطويل  .

إنزلق في طريق عودته الى قفصه الصغير ، فهوى أرضاً ، ارتطم الراس المثقل بالافكار والاحلام بالعمود الحديدي لموقف الباصات المثبته في اعلاه مواعيد المغادرة والاياب .

اصطبغ نثار الثلج باللون الأحمر ، توقف النهر المحاذي للرصيف عن الجريان ، وسورت الوحشة الجسد الغريب حتى الفجر ، وحتى موعد انتشار عمال ازاحة الثلوج من الطرقات ..

في آخر ليلة التقيته فيها وكان الوقت صيفاً شربنا خمرتنا حتى الصباح ، كان فرحاً بوجودي كطفل يخاف غربة الرعد والانواء ، وحين جئنا على الثمالة ، بدا مترنحاً بعض الشيء وراح يكرر ودمعة تأبى النزول تشع في عينيه :

 - قرائن الطبيعة جميعها لا تكفي لدحض سلوكنا ، الانسان الذي يصعب على الطبيعة إخضاعه وأقلمته ، يمكنه ذلك .