كنت في الطريق إلى بيروت للمشاركة بمؤتمر الأيام العربية الخامس متوجهاً من مدينة رام الله، واخترت أن أبقى بعض من الأيام في عمّان للراحة بعد جولات مشيت بها مسافات طويلة سيراً على الأقدام في ربوع الوطن حتى أصبت بالإرهاق، لأوثق بوح الأمكنة في الوطن بالقلم والعدسة، فرأيت في عمان واحة أرتاح فيها قليلاً بعيداً عن التجوال والمناسبات والأمسيات الثقافية والفنية، لكن وفي اليوم الثاني لوصولي كانت دعوة قد وصلتني لحضور معرض للفن التشكيلي للفنان الشاب رائد القطناني يحمل اسم (جذور)، فلم أتمالك نفسي، ولم تتمكن الرغبة بالراحة من منعي من التوجه للمعرض في جاليري راس العين للفن التشكيلي.
من لحظة دخولي للمعرض الذي امتد على مساحة واسعة وعدد كبير من اللوحات تجاوز ستون لوحة، شعرت أني أقرأ في كتاب، كل صفحة تحمل شيئاً جديداً، ولكن مجمل اللوحات تروي حكاية، حكاية شعب تجسدت من خلال الفن المتألق، فالفنان لجأ لاستخدام الألوان الشمعية (PASTEL)، وهذه المدرسة الفنية أصبحت فناً مستقلاً منذ القرن الثامن عشر، والرسم بالشمع وبخاصة التفاصيل الدقيقة يعتبر من أساليب الفن والرسم الصعبة، ويختلف عن الرسم بالألوان المائية والزيتية حيث لا تدخل أية مادة مذيبة للألوان، لذا كان لهذا الأسلوب الفني طابعه الخاص، ولا يمتلك ناصيته إلا فنان مبدع يمتلك القدرة على مزج الألوان الجافة ورسم التفاصيل الدقيقة والصعبة، فالألوان الشمعية من ثلاثة أصناف: ناعمة وصلبة ومتوسطة، وهي حساسة جداً خلال العمل كونها شمعية، وأية لمسة غير مقصودة يمكن أن تخرب من رسم اللوحة، فكيف حين تكون عملية الرسم لأدق التفاصيل بالجسد البشري.
في معرض الفنان رائد القطناني كانت هناك قدرة كبيرة على تطويع الألوان الشمعية في بناء لوحاته، وكل لوحة له حملت فكرة مرتبطة باللوحات الأخرى، وباستثناء لوحتين اختلفتا عن باقي اللوحات كانت لوحاته تروي الحكاية، فلوحة للملك عبد الله ملك الأردن في بداية المعرض من فن رسم الشخصيات (البورتريه)، والذي ينظر إليه أنه فن صعب ومعقد كونه يعطي ملامح الشخصيات التي يتم رسمها من خلال ملامح الوجوه، ولوحة أخرى في نهاية المعرض كانت تمثل أسلوباً مختلفاً تماماً.
من يجول معرض القطناني متأملاً لوحاته يعيش تجربة جميلة وفريدة، فهو ينقل المتأمل إلى حياة الريف الفلسطيني من حصاد وقطاف زيتون وزراعة الأرض، يعيد المتأمل لحقيقة أن القدس مزروعة في الأذهان ولا تنسى أبداً، وأن الأرض لا بد أن تعود لعشاقها، تجعلنا لوحاته نتنسم عبق القهوة وسماع صوت الجاروشة الحجرية تطحن الحبوب، وتزرع الأمل فينا أن السواعد الشابة ستكمل المسيرة حتى تحقق الحلم بالحرية، وأن حياة الشعب الفلسطيني لا تتوقف فهي تورث القضية من جيل إلى جيل، وأن حلم الحرية والتحرر والسلام يبقى أملاً وحلماً لا يموت.
في جولتي بالمعرض وجدت أن اللوحات يمكن أن تقسم إلى ثلاث مجموعات ترتبط معاً بالفكرة بشكل كبير، المجموعة الأولى اهتمت برسم الأصابع والأكف، والثانية بالتراث، والثالثة مجموعة من اللوحات التشكيلية التعبيرية التي حملت فكرة وأرادت أن توصلها للمشاهد، وسأتناول كل مجموعة على حدة بشكل مجمل، فحقيقة كل لوحة من اللوحات تحتاج لقراءة كاملة.
لوحات الأكف والأصابع: وهي مكونة من عشرين لوحة تعتمد كل لوحة على رسم أصابع اليد البشرية بشكل تشريحي دقيق، علماً أنني أرى أن تبيان أدق التفاصيل باليد البشرية يحتاج إلى مقدرة عالية وهدوء روح وصبر طويل، وفي هذه اللوحات كان الفنان يتحدث عن حكايات كثيرة تلامس الوطن وإن كانت الأصابع تشكل المحور الأساس فيها، ففي لوحتين نجد أصابع رجل كبير في السن تلتف حول العصا التي يتوكأ عليها، في إشارة واضحة للكهل وبخاصة أن أحد العصيّ هي ليست صناعية وإنما من أغصان الشجر، والتي نسميها باللهجة المحلية (الباكورة) بتضخيم الكاف، وهذا ربط مباشر بين فنية رسم الأصابع والفلاح الفلسطيني، بينما نجد ثلاثة لوحات لنساء كبيرات بالسن يرتدين الثوب الفلسطيني المطرز والمتميز بالإشارات الكنعانية التراثية واحتساء القهوة العامل المشترك بينها، وهنا إضافة إلى دقة رسم الأصابع نجد الإشارة للتراث الفلسطيني من خلال الثوب المطرز وعادة احتساء القهوة في جلسات النساء. وأذكر في طفولتي المبكرة حين كانت تجتمع نسوة الحي مع المرحومة والدتي ويحتسين القهوة، بينما في سبعة لوحات أخرى كانت الأصابع والأكف تصور حياة المرأة الفلسطينية، وهي ترتدي زيها التقليدي وتمارس التطريز الفلسطيني والزراعة وصناعة القش وقطاف الزيتون ونسيج الصوف، وهكذا نرى أن الكف والأصابع التي شكلت عموداً فقرياً في لوحات الفنان كانت تحمل فكرة الوطن من خلال الحياة بأشكالها المختلفة، ولم يبتعد الفنان أيضاً عن فكرة الحياة واستمراريتها من خلال رسم الأكف والأصابع في خمس لوحات، منها ثلاث لوحات تصور التقاء كف كبيرة مع كف طفل في إشارة لاستمرارية الحياة جيلاً إثر جيل، بينما لوحة واحدة كانت الأكف الكبيرة تحتضن قدم طفل صغير وأخرى تحمل فرخي طير بين الكفين، فتواصلت فكرة الأكف والأصابع بدقتها التشريحية مع دورها في الحياة اليومية حتى فكرة الحياة وتولدها واستمراريتها، حتى يوصلنا الفنان إلى كف المرأة بزيها التقليدي وهي تحمل المفتاح رمز العودة، لينقلنا بعدها إلى اليد المقاومة الشابة التي تحمل الحجر ويلتف حولها غص الزيتون وكأنه ينبت منها، في رمزية واضحة لربط المقاومة بفلسطين من خلال الزيتون من جهة، وأن المقاومة تهدف إلى الحرية وحياة ينيرها السلام بعدها وليس المقاومة العبثية، ويكمل الفكرة بالكفين الكهلين يحملان المسبحة بصمت وهدوء.
المجموعة الثانية تتحدث في ثمانية لوحات عن بعض من صور التراث في القرى والبلدات الفلسطينية، فنراه يأخذنا مع الطفل الذي يرعى الأغنام وهو مشهد كان من المشاهد المألوفة في الريف الفلسطيني، مروراً بالعجوز التي تشعل الشموع في محراب الكنيسة، فالسيدة المضيافة مع ابتسامة عريضة فرحة مرتدية كما كل اللوحات زيها التقليدي، وهي تقدم قطوف العنب على صينية القش وتحمل أحدها بيدها، وهذه اللوحة مزجت بين فن رسم الشخصيات (البورتريه) والتعبير عن التراث وعادات الضيافة والكرم، إلى المرأة التي تطحن الحبوب على الجاروشة الحجرية، والفلاحة التي تحمل المنجل بيدها وتضع الحصاد في حِجر ثوبها، وصولاً إلى المرأة التي تحمل سلة القش على كتفها عائدة من قطاف الفاكهة والحمضيات، وبدون إغفال المرأة التي تجلس بجوار طفلها وتمارس التطريز اليدوي التقليدي، فيجعلنا الفنان نجول ببعض من أدوار وعادات وتراث مارسته المرأة الفلسطينية بدون أن تبتعد عن زيها التقليدي والانتماء للأرض إلى درجة العشق.
المجموعة الثالثة هي لوحات تعبيرية تشكيلية وتتكون من أكثر من ثلاثين لوحة، وهي تشكل وحدها معرضاً تشكيلياً متكاملاً، وقد مزج الفنان فيها بين المدرستين التعبيرية التي تهتم بالتعبير عن العواطف والحالات الذهنية والعواطف من خلال الألوان وتغيير وتشويه الأشكال، وبين المدرسة الواقعية التي ترسم الواقع كما هو بدون تشويه للشكل، مع تركيز الفنان على أفكار وجوانب يريد أن يوصلها للمشاهد دون نفور أو غرائبية بالأشكال المرسومة، فرائد القطناني أخذ التعابير بدون تشويه للشكل وجعل في كل لوحة رسالة يريد أن يوصلها للمشاهد، فماذا أراد الفنان أن يوصل للجمهور والمشاهد من رسائل وأفكار؟ هذا سنجده حين تأمل اللوحات جميعها، فنجد المجموعة الأولى منها تتكون من ثلاث لوحات تروي حكاية الشعب ومسيرته، فالأولى للمرأة الفلسطينية تحمل جرة على كتفها ومعها طفلتها في أرض جرداء مشققة من العطش وشجرة متيبسة والمرأة يحمل وجهها كل الألم وهي كما الطفلة حافيتيّ الأقدام، واللوحة الثانية تمثل الأيدي المكبلة بالسلاسل وهي تضغط لتحطيمها، بينما الثالثة تمثل الإصرار على الحق في وجه الكهل الفلسطيني وهو يحمل مفاتيح العودة وشهادات إثبات ملكية الأرض في فترة حكومة فلسطين قبل النكبة والتهجير القسري، بينما المجموعة الثانية تتكون من إحدى عشرة لوحة كانت القدس العامل المشترك بينها، وإن كانت الإشارة إلى القدس تختلف من لوحة لأخرى، فمن اللوحات المتميزة مشهد المسنة الفلسطينية وهي تحمل القدس على طبق القش التراثي، وتستند إلى جذع زيتونة يورق من جديد رغم تعرضه للتقطيع، والنور يشرق من محيط المرأة التي تنظر بقوة وتصميم وكأنها تقول: لن تكون القدس إلا فلسطينية التاريخ والغد، ولوحة أخرى تميزت المرأة فيها بارتدائها لباس من منطقة الشمال الفلسطيني، حيث ثوب المرأة يخلو من التطريز الكنعاني ويتميز بالألوان الزاهية، مع شاشة بيضاء تغطي الرأس، وهي ترفع مفاتيح بيتها الذي أجبرت على تركه والقدس خلفها، ولوحة لعجوز يتوكأ على عصاه ويدخل الأقصى، ولوحة مميزة أخرى تظهر فيها يد فتاة شابة تلبس الأساور الفضية المتميزة من تراث فلسطين وخاتم فضي، وهي ترفع حافة ثوبها المطرز فتظهر القدس في إشارة رمزية أن القدس فينا فهي الجسد وهي الروح، وفي لوحتين نجد جذور الشجر تتحول في لوحة إلى يد ترفع إشارة النصر أمام القدس، وفي الثانية تتحول الجذور إالى جواد شامخ ينبعث من قلب القدس وكأنه إشارة إلى الغضب الساطع الآتي، بينما في لوحتين نجد في إحداهما القدس تتمازج مع رجل فلسطيني يرتدي الكوفية واللباس التقليدي وهو يمسك عصاه ويبتسم وكأنه يحلم بالقدس، بينا اللوحة الأخرى لشيخ باللباس التقليدي (القمباز) يتوكأ على عصاه والحلم يتألق في عينيه وهو القدس التي تمثل خلفية اللوحة، بينما في لوحة وقفت الحمامة بهدوء تنظر للقدس في ليل ماطر وعاصف، وكأنها ترى فجر الحرية والسلام آت بعد العاصفة، ولوحة نرى فيها ورود الفرح تلتف حول تراث الأبنية القديمة التي ترمز للقدس، بينما كانت اللوحة الأخيرة هي الأقوى في تعابيرها كما رأيت، فهي تمثل عجوز فلسطينية تغطي وجهها بكفيها المتعرقين بعوامل الزمن والقدس خلفها وكأنها تخفي وجهها ألماً مما تتعرض له القدس وخجلاً من موقف العرب والمسلمين تجاه القدس وزهرة المدائن.
في المجموعة الرابعة من اللوحات التشكيلية نجد أربعة من الأجيال من الصغير حتى الكبير تحلم بالحرية والسلام، فالحمائم العامل المشترك في اللوحات الأربعة باستثناء واحدة كان هناك العصفور يقف على الكف، بينما باقي اللوحات وهي المجموعة الخامسة فحملت في ثناياها ملامح مشتركة من الحلم والفرح والأسطورة والأمل.
الفنان كان يستخدم أسلوب المدرسة الواقعية متمازجاً بالتعبيرية في غالبية لوحاته، وإن لجأ في بعضها إلى اللوحات الرمزية التي تجعل المشاهد يبحث فيما وراء الألوان عن الفكرة، وفي العديد من اللوحات وبخاصة لوحات الأكف والأصابع لجأ إلى الأسلوب الحلزوني في الرسم، فكانت الأكف مركز اللوحة وبؤرتها لتتوسع باتجاه المحيط على شكل دوامة تجعل المشاهد يتخيل المحيط الغير موجود، ولكن بدون مجاملة تمكن الفنان من إيصال الفكرة للمشاهد بشكل جيد، وتمكن من استخدام الألوان الشمعية بطريقة متميزة ومختلفة عما شاهدت سابقاً من لوحات مرسومة بالألوان نفسها، حتى أني كدت أشك أن ما أراه شيئاً مختلفاً عما عرفت، وتبقى ملاحظة وحيدة همستها للفنان مواجهة رغم أني لم ألتق به سابقاً وهي: لو كان المعرض معرضين لكان أفضل، فهذا العدد الكبير من اللوحات يتعب المشاهد المتأمل، ولا يسمح له أن يستوعب كل الافكار والجماليات في المعرض من زيارة واحدة، فأنا اضطررت لثلاث زيارات تأملية لجماليات اللوحات والاستماع لهمساتها التي همستها بأذني وروحي كي أنقل لكم هذه الهمسات ولا أبقيها حبيسة صدري.
(عمّان 1/1/2016)