النقد هو استعداد انسانی ومیل فطری فی أساسه، فما من شخص طبیعی إلا وله تصورات وآراء متنوعة تبدو معجبة أو متحفظة أو رافضة لمشاهد مختلفة وأفكار ونظریات یبدیها الآخرون. ومن هذه النوازع الفطرية بدأت فكرة النقد ولكنه یحتاج إلی موهبة خاصة، وإلی ثقافة منوعة ومنظمة، وهكذا یمكن أن نقول ان كل أدب إبداعی یصاحبه نقد وأنه علی قدر نشاط الإبداع الأدبی وتنوع أشكاله ودرجته من الجودة یكون النقد، ویمكننا أن نراقب هذا التوازی فی بدایات النقد القدیم دون صعوبة، فقد ظهر أرسطو ناقداً وألف كتابه ”الشعر" عن فن المسرح زمن ازدهار المسرح الإغریقی فی القرن الخامس قبل المیلاد، وفی النقد الأدبی العربی آثار المتنبی حول شعره حركة نقدية ضخمة سواء لإبراز تفوق موهبته أم لإظهار إحالاته وسرقاته وأخطائه، أم لإجراء الموازنات والوساطة بین ماتفوق فیه وما هو منذ ذلك.
لقد جری عرف الباحثین بأن العصر الحدیث یبدأ مع نزول الحملة الفرنسية فی مصر (1798م) اعتماداً علی أن هذه الحملة حققت الاتصال بین أوربا والشرق العربی، هذا الاتصال الذی ترك آثاراً عمیقة فی الحیاة الثقافية والإجتماعية، والعلمية والسیاسية فی مصر وإن یكن من الواضح للكل أن هذا الامتداد الزمنی الذی تجاوز القرنین لم یكن كله مؤثرا فی العلوم الإنسانیة، وربما فی النقد الأدبی خاصة، الذی تأخر أخذه بأصول المناهج الغربیة ربما إلی أوائل القرن العشرین، وكذلك تختلف مراحل التأثر وصوره واتجاهاته، اذ كان تأثیر الثقافة الفرنسیة غالباً فی مرحلة، والإنجلیزیة فی مرحلة أخری. إن محمد علی أرسل البعثات المصریة لدراسة العلوم الحدیثة إلی فرنسا، وكان رفاعة الطهطاوی بمثابة ”مقدمة“ للتعریف بالحضارة الغربیة وتبعه علی مبارك، وظل التأثیر الفرنسی غالباً فی مصر.
إن العصر الحدیث إذا رجعنا إن التقسیمات الغربیة، قد یبدأ من عصر النهضة الأوربیة، فی القرن الخامس عشر أو السادس عشر، وقد أعید فیه بناء الكلاسیكیة بما عرف بالكلاسیكیة الجدیدة وأعقبتها الرومانسیة ثم الواقعیة، فالرمزیة أما النقد الأدبی فقد تأخرت فیه حركة الحداثة حتی بدایات النصف الثانی من القرن العشرین؛ فإن میلاد النقد العربی الحدیث یعود فی الأساس وكما أشار إلی ذلك الدكتور یوسف نجم إلی ثلاثة أعمال وهی علی التوالی:
مقدمة إلیاذة هومیروس، لسلیمان البستانی وتاریخ علم الآداب عند الإفرنج والعرب وفكتور هوجو، لروحی الخالدی، ومنهل الوراد فی علم الانتقاد، لقسطاكی الحمصی.2
ومع أن أغلب هذه الكتب تندرج فی باب الأدب المقارن، فإنها تعد وثائق هامة فی تاریخ النقد العربی الحدیث نظرا لما تطرحه من تصورات ومفاهیم حول الأدب.
النقد القدیم فی القرن التاسع عشر:
كانت صور النقد الأدبی فی مصر فی مطلع القرن التاسع عشر المیلادی تبدو فی تلك المناقاشات اللفظیة التی كانت تجری فی دروس الأزهر ومعاهده، ولم تكن النظرة للكلام خلال هذه المناقاشات سوی نظرة نحویة أو لغویة وهكذا كان یقاس الأدب عندهم، لاسیما عندما یقفون علی نادرة من ذلك أو عقدة فیه، فانهم حینئذ یزدادون به معلقاً واعجاباً وكان مثلهم الأعلی فی مقیاسهم الأدبی كله هو الشعر الجاهلی وشعر صدر الإسلام.
ورغم النهضة التی تمیز بها عصر محمد علی فی أوائل القرن، فانه لانصرافه للناحیة العلمیة دون الأدبیة، كان الأسلوب الأدبی فی عصره ضعیفاً ركیكاً تمثله ”الوقائع المصریة“ ویمثله ”تاریخ الجبرتی“ وغیرها، كما أن النقد الأدبی ظل علی حاله اللغویة تلك. ولم یتجاوز فی موضوعه تقریظ الكتب وإطراء الأدباء، والمبالغة فی ذلك جمیعه.
ثم جاء عصر اسماعیل بعد ركود عصری عباس وسعید، فاشتد الإتصال بالغرب، واشتدت العنایة بالأدب العربی، كما اشتد التأثر فیه بالأدب الأجنبی، وكان أثر ذلك واضحاً فی الأسالیب الكتابیة، إذ عنیت بالفكرة وبالأسلوب السهل والقصد فی الألفاظ كما أنها بعدت عن التكلف والصنعة البدیعیة والمبالغة والمقدمات الطویلة والخیال السخیف. ووجد فی أخریات عهد اسماعیل وفی عهد توفیق من یحاول من الكتاب رسم طریقة جدیدة فی الأسلوب لیتحتذیها الأدباء وكان من أولئك الرواد أدیب اسحق وعبدالله ندیم، فمما قاله أدیب إسحق:
”رأیت أن أصرف العنایة إلی تهذیب العبارة وتقریب الإشارة، لتقریب المعنی فی الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشیق للمعنی الرقیق متجنباً من الكلام ما كان غریباً وحشیاً، ومبتذلا سوقیا، فإن التهافت علی الغریب عجز، وفساد التركیب بالخروج عن دائرة الإنشاء داء؛ اذا سری فی القراء والمطالعین أدی إلی فساد عام، وأغلق علی الطلبة معانی كتب العلم، والتنازل إلی ألفاظ العامة یقضی بامانة اللغة وإضاعة محاسنها، وإن فی لغة القوم دلیلاً علی حالهم".3
وهكذا یمكن لنا أن نقول صریحاً إن حیاة النقد الأدبی فی مصر ظلت خامدة فی العصور الأخیرة حتی حصل احتكاكها فی العصر الحدیث بالغرب، فإذا بنا نشهد فی عصر اسماعیل بدایة لحیاته من جدید، ولكنه كان لفظیاً لغویاً فی جملته معمماً للأحكام معتمداً للبیت الواحد دون سائر العقیدة ودون سائر الشاعر فإذا ببیته أشجع بیت قالته العرب أو أغزل بیت أو أحكمه أونحو ذلك. ولكن هذا النقد كان علی أی حال یحمل اتجاها جدیداً ودعوة جدیدة لتحرر الأسالیب، وكان كل ذلك بمثابة التمهید لظهور نقد حدیث یقوم علی أسس ومقاییس تختلف عن الأسس والمقاییس القدیمة.
ولعل الشیخ حسیناً المرصفی بكتابه الشهیر ”الوسیلة الأدبیة" خیر من یمثل لنا ذلك النقد اللغوی فی أواخر القرن التاسع عشر تمثیلاً صحیحاً، فإنا نقول كذلك إن الشیخ حمزة فتح الله كان أیضاً یمثل لنا بكتابه ”المواهب الفتحیة" الاتجاهات النقدیة المختلفة فی أخریات ذلك القرن. یعرض بعض التوجیهات والآراء العامة فی المقارنات والنقد التی سبقه إلیها االنقاد القدماء، والتی یقرها هو، ویدعو للأخذ بها، والحرص علیها، فهی علی ذلك تمثل اتجاهه فی النقد وتلقی ضوء اً علی الاتجاهات القدیمة التی ظلت مسیطرة علی النقد حتی آخر القرن الماضی. ومن صور النقد القدیم فی أخریات القرن التاسع عشر ماكتبه الأستاذ محمد المویلحی فی نقد أحمد شوقی، عندما أصدر شوقی الطبعة الأولی من دیوانه عام 1898م وقد بدأ الأستاذ محمد المویلحی یكتب نقده فی جریدة (مصباح الشرق) فنقد جزءاً قلیلا من الدیوان، كما نقد مقدمته، ولكنه لم یتابع هذا النقد لأسباب ما.
والآن نرید أن ننتهی عند الشیخ سید بن علی المرصفی الذی یمثل النقد اللغوی القدیم فی آخر القرن الماضی ومطلع القرن العشرین، وقد كان مذهبه فی النقد یبدو فی دروسه لتلامیذه بالأزهر، كان یفسر لهم حماسة أبی تمام، وكامل المبرد، وأمالی أبی علی القالی. كان ینحو فی هذا التفسیر مذهب اللغویین والنقاد، من قدماء المسلمين فی البصرة والكوفة وبغداد مع میل شدید للنقد، وانصراف شدید عن النحو والصرف، وما ألف الأزهریون من علوم البلاغة.4 ولنا أن نقول في هذه الدراسة الموجزة إن النقد الأدبی خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرین كان نقداً لغویاً فیه ذاتیة كما فیه موضوعیة مع تقدیر لحكم الذوق، ومیل للاستطراد.
وهناك نجد عوامل عدة تضافرت علی توجیه النقد وجهة أخری غیر تلك التی نعرفها، وكانت الحملة الفرنسیة علی مصر فی أخریات القرن الثامن عشر فی مقدمة تلك العوامل، التی ظلت متضافرة متعاونة، وظل النقد بینها متخذاً ذلك المذهب القدیم، إلی ان انقضی القرن التاسع عشر، وبدت تظهر بوادر مذهب جدید أو حدیث فی النقد الأدبی.
العوامل المؤثرة فی تطور النقد الأدبی الحدیث فی مصر:
وقد كانت حالة مصر كغیرها من البلاد العربیة فی أوائل القرن الثالث عشر الهجری وأواخر القرن الثامن عشر المیلادی. غایة ماوصلت إلیه من الفساد والاضمحلال فی كل مرافق الحیاة سیاسیاً وعلمیاً، واجتماعیاً إذ استبد بها الأمراء الممالیك، وتنازعوا علی مواردها وأمورها من غیر عطف علی أهلها فی حیاتهم القاسیة وأما من الناحیة العلمیة والإجتماعیة، فقد عم الجهل، وفسدت الأخلاق، وضعفت النفوس وهان الحق حتی فی الأزهر، رغم أنه كان قبلة الطلاب، فإن علمائه قد فتر نشاطهم، وفسد إنتاجهم، وتدلوا عما كانوا علیه من مكانة تعتز بها مصر.5 هذه الحالة التی تردت إلیها مصر، وجعلت أوربا تجدد علیها غاراتها، ولكن لا بشكل الحروب الصلیبیة الممقوتة فقط لأن الحملة الفرنسية في الواقع كانت حملة صليبية على مركز من أهم مراكز العالم الإسلامي وقبلة العلماء والمثقفين المسلمين، وإن كانت الحملة جاءت بدعوة نشر متاجرها، وبث علومها، وآدابها، وهذا مادعا نابلیون لیقوم بحملته تلك علی مصر والشام سنة 1798م فكانت هذه الحملة أول ناشر لعلم أوربا وأدبها فی اللغة العربیة، ومن هنا نستطیع أن نتلمس بدائة أثر هذه الحملة فی تطور النقد الأدبی العربي الحدیث فی مصر.
علی أن الحق التاریخی یقتضینا، مع هذا أن نشیر هنا إلی المعالم العلمیة والأدبیة التی لابست هذه الحملة، وفتحت عیون المصریین وعقولهم المغلقة علی حضارة جدیدة أعدت نفوسهم لقبول هذا الجدید. أقام الفرنسیون دوراً للبحوث الریاضیة والنقش والتصویر، وأسسوا مكتبة عامة فرنسیة وعربیة تردد علیها طوائف مصریة، ومن أهم المعالم العلمیة والمنشئآت ”المجمع العلمی المصری" الذی أنشئ سنة 1798م علی نظام المجمع العلمی الفرنسی، وكانت أغراض هذا المجمع نشر المدنیة وبعث العلوم والمعارف بمصر، والقیام ببحوث طبيعیة وتاریخیة وصناعیة ونشرها فی مجلة المجمع. وهكذا كان اختلاط هؤلاء الفرنسیین بالمصریین فی هذه الفترة من أهم الوسائل لهذا البعث الحضاری الحدیث فی مصر ولاشك أن سیكون له أثر ولو من بعید فی تطور النقد الأدبی العربي الحدیث فیها، ولقد وصف إلیاس أبوشبكة هذه النهضة الأدبیة. ”ویقیننا أنه لولا تلك الحركة السنیة التی انبثقت من أفواه فولتیر وروسو ومیرابو ودانتون وكمیل دیمولان وسان جوست وروبسییر وغیرهم لبقی الشرق هاجعاً فی خموله الإقطاعی سواء فی السیاسیة أو فی الأدب"6
ولم یكن اتصال المصریین بالأجانب مقصوراً علی الفرنسیین وحدهم، وان كانوا هم الكثرة الساحقة فی هذا المیدان فقد كانت بمصر جالیات أجنبیة شتی منها الیونانی، والإیطالی، والأرمنی وغیرهم تعیش مع المصریین فی المدن والقری، وتعرض نماذج من الحیاة العقلیة، والخلقیة، والإقتصادیة، وان لم یبلغ أثر هؤلاء مبلغ زملائهم الذین طغوا علی الحیاة فی مصر منذ الحملة الفرنسیة والإحتلال الإنجلیزی. فخلاصة القول ان اتصال المصریین بالأجانب اتصالاً اجتماعیاً، ونفسیاً، واقتصادیا، وثقافيا، كانت له آثاره فی ظهور الأولین علی حیوات شتی أعدتهم اعداداً عقلیاً ونفسیاً لتقبل الجدید، ولاشك ان النقد الأدبی الحدیث لقی من هذه النفوس فیما بعد أرضاً خصیبة، واتجاهاً الی التجدید فی هذا المجال الأدبی. ولانقول ان هذا الإتصال حل محل الترجمة أو تعلم اللغات الأوروبیة أو البعوث الی أوربا ونحوها، فتلك وسائل أخری مهد لها ذلك الإتصال الذی أجملنا القول فیه.
معاهد التعلیم وأثرها فی النقد:
لما خرج الفرنسیون من مصر، وأغلقت المدرستان اللتان أنشؤوهما ابان حكمهم لمصر، وانتهت بخروجهم جمیع جهودهم العلمیة الأخری، ولم یكن فی مصر وقتئذ من دور العلم ومعاهده غیـر الكتاتیب، والمعاهد الدینیة. أما الكتاتیب فقد كانت منبثة فی كل مكان، وكان یتعلم فیها الصبیة مبادئ القراءة والكتابة، وشیئاً یسیراً من الحساب، ویحفظون فیها ما یتیسر من القرآن الكریم. ولم یكن لتلك الكتاتیب أی غناء فی خلق ثقافة ما فی مصر لأن مستواها العلمی كان ضعیفاً ولأن التعلیم فیها غیر ناضج، بل هو أدنی للسذاجة وأقرب الیها من أی شئ آخر. كما أن المعاهد الدینیة التی كانت قائمة فی القاهرة وفی بعض المدن، انما كانت تعنی بالعلوم الدینیة واللغویة والعقلیة، ولاتحفل بالعلوم الحدیثة، اللهم الا بقدر ضئیل اقتضته ضرورات الدین كعلم الفلك والهيئة، وكانت لاتوجد علوم الغرب وفنونه فی تلك المعاهد، هذا بالإضافة الی أن علماء الأزهر ومعاهده اقتصروا فی تألیفهم علی النقل ووضع الشروح أو شروح الشرح والحواشی والتقاریر والتعلیقات، والإحتفال بالتحقیقات اللفظیة والاعتراضات المختلفة، ونحو ذلك مما لایمكن أن یكون أساساً لنهضة علمیة صحیحة. وذلك یفسر لنا وجود تلك النزعة اللغویة فی النقد الأدبی فی ذلك الوقت، حین كان االنقاد لایحفلون من الأدب الا بالمحسنات البدیعیة ولایقیمون وزناً الا للزخارف اللفظیة.
هذه صورة مبسطة لما كانت علیه حال الثقافة فی مصر عند ما آل الحكم فیها لمحمد علی أما الأسلوب الكتابی، فقد انحط حتی قرب من العامیة، وكان الكتاب یتوخون فیه تنمیق العبارات بالسجع الركیك والمحسنات البدیعیة، وتقهقر الأدب حتی تضاءلت مكانة الشعراء وأًصبحت كلمة ”شاعر“ تطلق علی جماعة یجلسون فی المقاهي ویلقون علی مسامع الجماهیر أمثال قصة أبی زید الهلالی وعنترة وینشدونها علی نغمات الربابة. وكانت أمثال تلك القصص هی الآثار الأدبیة الوحیدة التی كانت فی متناول الجمهور.7
وعلیه فلو تلمسنا فی هذه الصورة اتجاها للنقد الأدبی فلن نجد منه إلا ذلك النقد اللغوی الذی احتضنه الأزهر والمعاهد الدینیة. علی أن هذا النقد نفسه لم یكن یبدو إلا فی تلك المناقشات اللفظیة التی كان یسوق الیها تدریس الكتب العربیة المختلفة ولعل أكبر مجال له كان فیما نجده من مناقشات طغت علی كتب البلاغة خاصة، وعلی جو ما كان یلقی فیها من درس. أما الكتاتیب فقد تركها محمد علی تسیر فی الطریق التی انتهجتها، فلم یبسط علیها سلطانه ولم یبذل لها توجیهاً أو ارشاداً وظلت حالها هكذا فی كل العهود التی تلت عهد محمد علی، ولم یتحقق الإصلاح الحقیقی لهذه الكتاتیب إلا فی أواخر القرن التاسع عشر المیلادی، وعلی أنقاضها نشأ نظام التعلیم الأولی القائم إلی هذه الأیام.8
وأما الأزهر، والمعاهد الدینیة الأخری، فقد تركها محمد علی أیضاً تسیر فی طریقه الأولی اذ أن رجال الأزهر لم توقظهم آثار الحملة الفرنسیة، كما أیقظت غیرهم، ولم یأخذوا علی أنفسهم مسایرة النهضة الحدیثة، فتخلفوا عنها، وظلوا فی تلك الغفلة إلی عصر اسماعیل، وكانوا خلال كل هذه الفترة یمقتون المدنیة الأوربیة الدخیلة علی مصر، ویمقتون علومها. أن نظرة الأزهریین للأدب، رغم ماطرأ علی الأزهر من تجدید كانت نظرة مشبوبة بالكثیر من الازدراء وعدم التقدیر، وقد وصف الدكتور طه حسین حیاة الأدب فی الأزهر:
”وقد رأیت الأزهر فی أیام الصبا والشباب یؤمن بأن النحو والصرف وهذا السخف اللفظی یسمونه البلاغة هی لب اللغة وجوهرها وأن غیرها أعراض وقشور. وكان الأدب بالطبع من الأعراض والقشور، وكنت من الذین یختلفون إلی دروس الأستاذ سید المرصفی، رحمه الله، وكنا جمیعاً موضع النقد والسخریة والاستهزاء لأننا كنا نهمل اللب والجوهر ونحفل بالأعراض والقشور، ومن المحقق أن شیوخنا كانوا یحتقرون دیوان الحماسة، وكامل المبرد، ویحتقرون الأستاذ الذی كان یدرسهما والطلاب الذین كانوا یستمعون له، ویمنحونهم شیئاً من العطف والإشفاق یمازجه البغض والخوف والازدراء، لأنهم یؤثرون آثار أبی تمام والمبرد علی آثار البنان والصبان. ولما غضب الشیخ حسونة، رحمه الله علی أستاذ الأدب وطلابه لأنهم اتهموا عنده بالابداع ألغی درس الكامل للمبرد، وكلف الأستاذ أن یقرأ لطلابه كتاب المغنی لابن هشام. والأزهریون جمیعاً یذكرون أن الأستاذ الإمام محمدعبده لقی كثیراً من الجهد، واحتمل كثیراً من المشقة، وأوذی فی نفسه ودینه، لأنه أدخل العلوم الحدیثة فی الأزهر. وكان الأدب العربی من هذه العلوم الحدیثة فی ذلك الوقت، فاعجب لقوم كانوا یرون درس الأدب بدعة فی الدین، ویتهمون الذین یدرسو نه بالفسوق والإلحاد، ولم یكن ذلك بعید العهد، وإنما كان فی أول هذا القرن ادركناه واصطلینا ناره“.9 ولایمكن لنا بعد ذلك أن نرجو أن یزدهر النقد الأدبی فی هذه البيئة التی تحمل علی الأدب وتغض من مكانته، وتهون من شأن رجاله لذلك لم یعش فیها إلا النوع القدیم من النقد.
وخلاصة القول ان النقد اللغوی ظل مسیطراً علی معاهد العلم طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرین، غیر أن معاهد التعلیم المدنی الحدیث أوجدت ثقافة جدیدة فی مصر أعدتها لتتجه اتجاهات جدیدة متنوعة فی العلوم والآداب والفنون وقد استفاد النقد الأدبی كثیراً من هذا التمهید الثقافی، حتی ظهرت بوادر النقد الأدبی الحدیث بما انتهجته فی ذلك الجامعة المصریة، فأخرجت أمثال طه حسین والأستاذ أحمد أمين ممن نهجوا منهج أساتذتهم المستشرقین، وظهرت بوادر ذلك أیضاً بما دعا إلیه التمكن من اللغات الأجنبیة لاسیما اللغة الإنجلیزیة، فظهر أمثال العقاد، وعبدالقادر المازنی وعبدالرحمن شكری.
البعثات العلمیة وأثرها فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
أخذ عدد كبیر من أثریاء القوم المصريين ومن كبار الموظفین والأعیان یرسلون أبناءهم للدراسة بأوربا علی نفقتهم الخاصة، مما یدل علی الإیمان المتزاید بقیمة البعوث العلمیة، وأثرها فی نقل الحضارة الغربیة. ولسنا نعنی بذلك أن الأدب أو النقد بدأ كل منهما یتجه فی أول الأمر اتجاهاً جدیدا، أو یتخذ شكلا غیر شكله السابق، ولكننا نعنی أن اولئك المبعوثین قد عاشوا فی بیئات غیر بیئتهم الأولی واتصلوا بالحضارة الأوربیة اتصالاً مباشراً واندمجوا فی المجتمع الغربی اندماجاً من شأنه أن یقوی الصلات الثقافیة، ویوسع من أفق هؤلاء المبعوثین ومداركهم، فتأثروا بعوامل تلك البیئة الجدیدة من حضارة وثقافة، وعلوم غیر التی ألفوها. ففتق ذلك كله أذهانهم، وهیأ نفوسهم لاعادة النظر فی حیاتهم السابقة، وعلومهم القدیمة، وأدبهم القدیم أیضا، لاسیما أن هؤلاء المبعوثین قد أتیحت لهم جمیعاً فرصة دراسة اللغات الأجنبیة، كما أتیح لبعضهم دراسة آدابها، وهذا من شأنه أن یجعلهم یطلبون من الأدب العربی فنوناً وألواناً أخری تلائم ذوقهم الجدید وتغذو عقولهم ومشاعرهم المتجددة ومثل هذا الشعور بالحاجة إلی أدب جدید یعد خطوة أولیة فی حیاة النقد الأدبی الحدیث.
ولقد استفادت مصر من جهود هؤلاء المبعوثین عن طریق الترجمة أو التألیف أو التوجیه العلمی فی نقل الثقافة الغربیة والحضارة الأوربیة. ولعل أبرز جهود تمسّ الأدب العربی بخاصة فی الطور الأدبی للنهضة هی تلك التی قام بها رفاعة الطهطاوی وعلی مبارك. ولقد أتیحت لكل منهما فرصة العمل فی المیدانین العلمی والأدبی وكان لرفاعة الطهطاوی فضل كبیر فی نشر العلوم وطبع طائفة من أمهات الكتب العربیة علی نفقة الحكومة كتفسیر الفخر الرازی ومعاهد التنصیص، وخزانة الأدب، ومقامات الحریری، وغیر ذلك .10 وأما زمیله علی مبارك الذی أوفد لفرنسا فی بعثة سنة1260ھ فقد كانت له بعد عودته لمصر ید طولی فی خدمة اللغة العربیة، فهو الذی أسس دارالعلوم لتقوم علی خدمة اللغة العربیة وتنهض بها. وهو الذی أسس دار الكتب لتسهل الاطلاع علی الراغبین والطموحین، ولتشجع علی القراءة والتثقیف، ولتمهد للبحث والتنقیب.11
ویعد إنشاء الطهطاوي لمجلة (روضة المدارس) من أجل أعماله خدمة للغة العربیة والأدب، اذ كانت هذه المجلة مما نفخ فی روح النهضة اللغویة والأدبیة فی هذه البلاد، وكان هو رفاعة الطهطاوی ممن كانوا یجیلون فیها أقلامهم الثرة الفیاضة. والحق أن علی مبارك ورفاعة الطهطاوی وعبدالله فكری كانوا عماد النهضة العلمیة فی مصر آنذاك.12 كان لهم جمیعاً الفضل فی محاولة إحیاءاللغة، وجعلها مسايرة للعلم الحدیث، بنقلهم إلیها عشرات الكتب الجلیلة فی العلوم المختلفة وإدخالهم كثیراً من المصطلحات، وتألیفهم فی شتی نواحی العلم، مما أحدث فی اللغة انقلاباً عظیماً، واكتسبت به ثروة طائلة من سعة الأغراض والمعانی، والألفاظ العلمیة، والأسالیب الأجنبیة، وطرق البرهنة والإستنباط، وترتیب الأفكار، والدقة فی الأداء.
وقد كان أثر البعثات اكثر وضوحاً فی النقد الأدبی عندما أعید ارسالها فی أول هذا القرن، فأرسل أمثال أحمد ضیف وطه حسین وزكی مبارك، أولئك الذین عادوا متأثرین بمذاهب النقد الغربیة واتجاهاته، فطفقوا یدعون لها، مع ما وقفوا علیه منها قبل رحیلهم عن مصر. فان البعثات العلمیة فی عهدها الأول قوت من أواصر الصلة الثقافیة بین مصر وأوربا، كما أن مابذله المبعوثون من جهود حینما كانوا یتلقون العلم خارج بلادهم، وحینما عادوا لیعملوا فی شتی المیادین، كان من شأنه أن یجعل مصر تخطو خطوات واسعة فی تلك المیادین، وتنال حظاً لا بأس به من العلم والمعرفة والحضارة، وكان من شأن ذلك كله أن یهیئ العقول لتنظر إلی الأدب وإلی نقده بمنظار جدید، وأن تمهد لذلك النقد الأدبی بأن تعد له اللبنات الأولی التی سیقدم یوماً ما علی تجمیعها من هنا وهناك ثم یبدأ فی البناء واضعاً لبنة فوق لبنة. وقد لاحطنا أن مجرد الإطلاع علی الآداب الأوربیة والأقل فی أن یجد هؤلاء المبعوثون فی أدبهم العربی ما ینهض لتلك الآداب، أو یقارب ذلك هذا الاطلاع نفسه وما أعقبه من شعور، ثم ما تلاه فیما بعد من دعوة لمثل تلك الآداب یعد النواة الأولی لهذا النقد الأدبی الحدیث الذی یقوم علی مقاییس أدبیة جدیدة لم یألفها الأدب العربی القدیم وإنما یرقیها الأدب العربی الحدیث.
الترجمة والتألیف وأثرهما فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
كانت حركة الترجمة بمصر فی أیام الحملة الفرنسیة هی أول عهد هذه البلاد بالترجمة فی العصر الحدیث، ویمكننا القول بأن أعمال الترجمة فی عهد نابلیون كان لها شأن فی إحیاء الترجمة بوجه عام، وإن كانت مصر لم تستفد منها فی ناحیتها العلمیة والأدبیة، وربما كانت حركة الترجمة هذه لاتعدو أن تكون تنبیهاً لأذهان المصریین لما یمكن أن تؤدیه الترجمة لهم فی نقل تراث الغرب فی العلوم والفنون والآداب. لم یكن إذن غریباً أن نری عهد محمد علی حافلاً بالترجمة والتعریب وأن نری محمد علی یولی هذه المسألة جل عنایته، فاستعان بالمترجمين فی الدیوان العالی لیقوموا له بترجمة التقاریر، والكتب الخاصة بأحوال مصر السیاسیة والإجتماعیة، وترجمة مایهمه من الصحف الأجنبیة. وكان من حرص محمد علی الإسراع بنقل تراث الغرب العلمی لمصر أنه كان یكلف تلامیذ هذه البعثات بترجمة الكتب المهمة قبل عودتهم من الخارج 13؛ مع مواصلتهم لدراساتهم التی أوفدوا من أجلها. وذكر قدری باشا أن تلامیذ رفاعة الطهطاوی عربوا نحو ألف كتاب أو رسالة فی مختلف العلوم والفنون، وأن جمیع الذین نبغوا فی الترجمة كانت لهم مؤلفات قیمة. 14
وقد قامت الصحافة بدورها أیضاً فی انعاش الترجمة، فكانت (الوقائع المصریة) تصدر باللغتین التركیة والعربیة، وكانت كل صفحة من صفحاتها الأربع تصدر بنهرین، نهرها الأول للتركیة، ونهرها الثانی للغة العربیة، ولكن كانت اللغة العربیة فیها ركیكة ضعیفة مليئة بكثیر من الألفاظ والتعابیر التركیة. وهناك جریدة أخری فرنسیة صدرت فی عصر محمد علی هی ”المونیتو اجبسیان" وكان لها أثرها أیضاً فی الترجمة، اذ كانت تقتبس أخبارها المحلیة كلها تقریباً من ”الوقائع المصریة“.15 ولذا فإنا نقول ان ماحدث من ترجمة فی عهد محمد علی، إنما كان أحد العوامل الثقافیة التمهیدیة، لتنال مصر حظها كذلك من الناحیة الأدبیة والنقدیة، بعقول تفتحت علی هذه الثقافة الحدیثة وظلت تبذل مجهوداً عظیماً لتبلغ منها غایتها.
ومهما یكن من شئ فإن الترجمة سواء أكانت علمیة أم أدبیة، فقد أفادت الأدب العربی الحدیث فی ألفاظه ومعانیه وأغراضه وأسالیبه حیث قد زادت الثروة اللغویة، بما وضع أو عرب من مصطلحات فی الطب والقانون والآداب وغیرها كما أنه تأثر بما ترجم من علوم الغرب وآدابه اتسعت الأغراض وتعود الكتاب قصد العبارة، فدقت المعانی، وارتقت الأخیلة وبعدت الأسالیب عن الصنعة والزخرف، وانصرفت عن التمهید بالمقدمات الطویلة، وتخلصت من التقلید، ومالت العبارة للسهولة والوضوح، ثم كانت بعدذلك هذه الكتب المترجمة من الموارد الفكریة التی وسعت مسارح التألیف والتصنیف وأنشأت طوائف شتی من الأدباء فی مذاهب الوصف و دراسة الأطوار النفسیة وقصص الواقع والتاریخ.16
وقد جنی النقد الأدبی الحدیث ثمرة هذا الإتجاه فی الأدب، بأن كان هذا الإتجاه عاملاً خطیراً یمهد لظهور اتجاه مثله فی النقد الأدبی بل كانت المترجمات فی الحقیقة من الأسس الهامة لنشأة النقد الأدبی الحدیث فی مصر، فهی لیست إلا صوراً أدبیة جدیدة ذات مقاییس و أوضاع طریفة یصح لأن تحتذی فی إنشاء الأدب العربی الحدیث، انها نقد عملی وتوجیه سدید. ولاشك فی أن النقد الأدبی الحدیث استفاد كثیرا من الكتب العلمیة التی ألفت او ترجمت منذ بدأت حركة التألیف والترجمة اذ كانت هذه الكتب والمترجمات عاملاً ثقافیاً فعالاً أعان علی تطور نقد جدید فیما بعد. كما أن الكتب الأدبیة التی ألفت كانت عاملاً مباشراً فی توجیه النقد الأدبی الحدیث تلك الوجهة التی بدت بوادرها فی مستهل القرن العشرین.
الطباعة والصحافة وأثرهما فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
كانت مصر آخر بلاد الشرق الأدنی معرفة بالمطبعة، وهی لم تعرف ذلك الّاحین وفدت علیها الحملة الفرنسیة فجاء ت معها بمطابع لاتینیة ویونانیة، وعربیة، ولقد اهتمت مطابع نابلیون بإذاعة أوامر الفاتحین ومنشوراتهم، بطبع الكتب المؤلفة والمترجمة لعلماء الحملة وأدبائها ثم أصدرت صحیفتین فرنسیتین وأخری عربیة.17 وبقیت مصر بعد خروج الفرنسیین بلا مطابع، حتی قام محمد علی بتأسیس مطبعة بولاق فی سنة اكتوبر 1819- 1820م وكانت تصدر عنها المطبوعات الرسمیة وغیرها كما كانت تطبع حاجات الجیش من قوانین وتعلیمات، ثم صارت تطبع الی جانب ذلك ماتحتاج إلیه المدارس من كتب ونحوها، كما أنها أخیراً صارت تطبع كتباً خاصة علی نفقة أصحابها. وهكذا اتسع عملها، وواصلت نشاطها، وقامت إلی جانب مطبعة بولاق مطابع أخری صغیرة زادت علی الزمن حتی بلغت تسعاً، منها مطبعة القلعة الخاصة بجرنال الخدیوي، فإن هذه الطباعة التی بدأت حیاتها فی عصر محمد علی، وظلت مطردة إلی الیوم، كان لها أثرها فی نشر الثقافة، وبعث الآداب القدیمة، والنهوض بالحیاة الأدبیة الحدیثة، مما أعان جمیعه علی تطور نقد أدبی حدیث كانت الطباعة مرة أخری أول من أخذ بیده، ویسرله السبیل للتطور والذیوع والإنتشار.
وكانت الصحافة ثمرة من ثمرات المطبعة، فنشأت فی أرض مصر صحافتان، إحداهما رسمیة، والأخری شعبیة، وهذه الأخیرة لم تظهر الّا فی عصر اسماعیل. وأقدم الصحف المصریة ”جرنال الخدیوي" الذی أصدره محمد علی سنة 1822م فكانت فائدته محدودة، وظل كذلك إلی أن صدرت”الوقائع المصریة" فی سنة 1828م فصار عندئذ یصدر للوالی وحده. أما ”الوقائع المصریة“ فهی ثانیة صحیفة مصریة، بل أقدم صحیفة بالمعنی المفهوم للصحیفة لیس فی مصر وحدها بل فی الشرق العربی كله.18 وهناك صحیفة رسمیة أخری لها مكانة ثقافیة وأدبیة، تلك هی”روضة المدارس" التی أنشأها رفاعة الطهطاوي واستمر صدورها ثمانی سنوات. وكان الغرض من إنشائها النهوض باللغة العربیة، وإحیاء آدابها، ونشر المعارف الحدیثة، كما كانت تشجع النابغین منهم بنشر بحوثهم وإنتاجهم المختلف، مثل ما كانت تفعل بشعر اسماعیل صبری فی شبابه، ومن ذلك یتبین أن مدرسة الشعر الحدیث قد بدأت باكورتها تظهره فی تلك المجلة.19 وهكذا كان لهذه الصحافة الرسمیة أثرها فی ترقیة الفكر وتثقیفه، وفی دفع النهضة الأدبیة والعلمیة للأمام، وكانت جمیعها تعین علی تطور العقلیة المصریة الحدیثة، ویهمنا بعد ذلك أن نری إلی أی مدی كان أثر هذه العقلیة الجدیدة، فی تطور النقد الأدبی الحدیث. وإذا نظرنابعد ذلك إلی أثر الصحافة فی اللغة والأدب والنقد وجدناها أحیت اللغة وساعدت علی نهضتها، وعلی شیوع كلماتها الفصیحة، وقربت بین لغة العلم والأدب وبین لغة التخاطب الدارجة. فقد ظهر من خلال هذه الفترة الصحافیة أعلامُ الأدب واللغة مثل أحمد شوقی وحافظ إبراهیم وغیرهما من الشعراء والناشرین، وتبع ذلك ما تبعه من سجالات أدبیة كانت هی البذور الأولی للنقد الأدبی الحدیث الذی اتخذ مذهباً غیر مذهبه القدیم.
الإستشراق وأثره فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
عرفت مصر الإستشراق أول ماعرفته فی هذا العصر الحدیث، عندما جاء نابلیون فی حملته، ومعه مجموعة كبیرة من المستشرقین لیمكنوا له من الإتصال والعلاقة بالمصریین ولیعینوه علی دراسة أحوال مصر المختلفة ولكن أهل مصر لم ینتفعوا بآثار هؤلاء المستشرقین مما ترجموه أو ألفوه إلا انتفاعهم بالقلیل منه بعد جلاء الفرنسیین بزمن طویل، كذلك عرفت مصر المستشرقین عندما أوفدت أبنائها لأوربا لیحصلوا علی العلوم هناك، فكان أن التقوا بهم فی بلادهم، واتصلوا بهم فی الجامعات وخارجها، وكان الشیخ رفاعة الطهطاوی من أول من نشط فی الإتصال بهم، وحرص علیه، فاستفاد منهم كثیراً وظل الإتصال العلمی قائماً بین طلاب البعثات والأساتذة المستشرقین، ولاشك فی أن هؤلاء الطلاب جنوا الكثیر من هذا الإتصال فیما یفید العلم والأدب. واتصلت مصر بالمستشرقین أیضاً فیما قرأه أبناؤها، مما نشره أو ألفه هؤلاء المستشرقون باللغة العربیة، مترجما لها، أو مكتوبا فی لغته بعد أن أتقنوا اللغات الأجنبیة.
ومجهود المستشرقین فیما یتصل بالحضارة العربیة والإسلامیة مجهود لاینكر وأدل علیه من تألیفهم لدائرة المعارف الإسلامیة باللغة الإنجلیزیة، وأما الأدب الذی یعنینا هنا أكثـر فمما نشروه فیه كتابی "كلیلة ودمنة" و"مقامات الحریری"، نشرهما المستشرق الفرنسی سلفتستری دی ساسی، وكتاب ”وفیات الأعیان" لابن خلكان نشره المستشرق الألمانی، وستنفیلد، وكتاب"تاریخ الآداب العربیة" الذی وضعه بروكلمان الألمانی، كتاب "تاریخ آداب اللغة العربیة" ألفه جورجی زیدان كذلك نقلوا الكثیـر من اللغة والأدب إلی اللاتینیة والفرنسیة والإنجلیزیة والألمانیة. وهذا الذی ذكرناه ماهو إلا بعض ما قاموا به من خدمات للشرق، كان لها أثرها الكبیر فی حضارته الحدیثة. وعرفت مصر فضل المستشرقین هذا، فاستدعتهم للتدریس فی الجامعة المصریة عند أول نشأتها، وكان من أولئك الذین استدعتهم المستشرق الإیطالی جویدی وقد انتدبته أستاذاً بها سنة 1908م ومنهم نالینو الإیطالی الذی كان یدعی منذ سنة 1909م لإلقاء بعض المحاضرات، وكذالك "فییت الفرنسی" وقد انتدبته استاذاً سنة 1912م. وكانوا جمیعا یلقون محاضراتهم باللغة العربیة.20
وقد أفادت الجامعة المصریة من هؤلاء المستشرقین فی تدریبهم للغة العربیة وآدابها، لما نهجوه من طرق جدیدة فی البحث ودراسة الآداب، تلك الدراسة التی بنیت علی الاستقراء والتمحیص والموازنة، والعلل والأسباب، واعتمدت علی النقد المنطقی، والإستنباط الدقیق، والمقدمات الصحیحة، والنتائج الراجحة، وقامت علی الدراسة التاریخیة والشخصیة والفنیة، حتی یستطیع الناقد تفسیر كل الأدب وتعلیله وحتی یستطیع الحكم علیه بعد ذلك حكماً صحیحاً. وها قد أصبح الأدباء المصریون ینهجون نهج المستشرقین فی دراسة الأدب ونقده، ویؤلفون المؤلفات علی مذهبهم ویعدون مثلهم البحوث، بل ان مابلغه بعضهم من زعامة فی الأدب ماكان إلا بتأثرهم للمستشرقین. وأول هؤلاء جمیعهم الدكتور طه حسین، فهو ثمرة من ثمرات المستشرقین، درس علیهم فی الجامعة المصریة وتأثربهم، وهجر منهجه القدیم فی دراسة الأدب والنقد، ذلك المنهج الذی عرفه من أستاذه سید حسن المرصفی فی أروقة الأزهر، ثم هو یضع كتاب ”ذكری أبی العلاء“ الذی نال به الدكتوراة من الجامعة المصریة ناهجاً فیه منهج أساتذته المستشرقین فی الدراسات الأدبیة، بل هو سلك ذلك فی كل ما كتب بعد فی الأدب، ویذهب لأبعد من ذلك فیتأثر بآرائهم الخاصة تأثراً كبیراً.
والحق أن المستشرقین أتقنوا طرق البحث ودراسة الآداب عندما درسو آدابهم الخاصة، فلما اتصلوا بالشرق، واتصلوا بآدابه طبقوا علیه مناهجهم فأوجدوا فیها درساً جدیداً للأدب وأوجدوا فیها نقداً جدیدا. وكانوا یعقدون المؤتمرات لیتباحثوا فیما وصلوا إلیه من نتائج فی بحوثهم وكذلك أنشئت معاهد للدراسات الشرقیة فی بعض تلك البلاد الأجنبیة ویتبین مما مضی أن ماقام به المستشرقون مما نشروه أو ترجموه أو ألفوه فی اللغة العربیة وآدابها، كان أحد العوامل المهمة فی إتصال مصر بالفكر الأوربی. ولقد أشاعوا فی الأدب العربی منهجهم النقدی، الأوربی واستفادت منهم الدراسات الأدبیة بعامة، وقد تأثر نقاد الأدب العربی بمذهب المستشرقین راضین أو كارهین فی هذا الصدد، نشیر، إلی أهم تلامیذهم الدكتور طه حسین كان أهمهم مناهضة لكل جمود فكری فی بلده ودعوته إلی دراسة التراث العربی دراسة علمیة نقدیة كما فعل مع الشعر الجاهلی، حینما شك فی ثوابته وأصوله انطلاقاً من تشبعه بالمنهج الدیكارتی الذی یدفع الباحث إلی أن یتجرد من كل شئ كان یعلمه من قبل، وأن یستقبل بحثه خالی الذهن مما قیل فیه خلوا تاما.21
هذا، ومادام النقد العربی الحدیث قد خضع لعوامل كثیرة علی مستوی ممارساته، فان فترة الخمسینات تعد مرحلة ترسیخ النقد الواقعی الإشتراكی فی الحقل الثقافی العربی بعد أن عرف حضوراً متعدد المفاهیم فیما بین الحربین وذلك فی كتابات تمهیدیة لفرح أنطون ”الحیاة فی الأدب“ وشبلی شمیل ”فكرة النشوء والإرتقاء“ وسلامة موسی "الإشتراكیة" ثم فی كتابات تطبیقیة لكل من مفید الشوباشي، وسلیم خیاطه، ورئیف خوری وعمر فاخوری وغیرهم. علی أنه فی بدایة الثمانینات، ثم اكتشاف مجالات النقد الحدیث الذی لم یتوقف إلی حد الآن عن تحقیق طفرات بعیدة خصوصاً فی مجال البحث الجامعی، وكذا علی مستوی القراءة والكتابة.
من هنا، نستطیع القول أن النقد الأدبی العربی عرف أوجه الحقیقی فی المغرب العربی الذی كان سباقا إلی التعرف علی المناهج النقدیة المعاصرة. حیث حرص بعض الأساتذة فی الجامعات علی التعریف بأصولها وأهدافها وطرق اختبارها. وهذا ما أدی بالدارسین إلی العنایة بها وترجمة دراسات وكتب متخصصة تسلط الأضواء علی عوالم مثل الألسنیة والشعریة والأسلوبیة والتأویلیة والسردیات الخ. ونستطیع أن نقول بعد ذلك إن االنقاد المحدثین ذهبوا فی النقد الأدبی مذهبین رئیسیین، تبعاً لثقافة كل فریق منهما، سواء أكانت ثقافة عربیة أم ثقافة غربیة، ونقول أیضاً إن الثقافة الثانیة هی التی أخذت تسیطر علی الاتجاهات النقدیة، وإن االنقاد غدوا فی الربع الأول من هذا القرن یمثلون هذین المذهبین أو هاتین المدرستین! المدرسة القدیمة التی تعنی بالنقد اللغوی والمدرسة الحدیثة التی تعنی بالتجربة الشعریة والصیاغة الفنیة. وسنتناول فی الدراسات القادمة اتجاهات الآراء النقدية للأستاذ أحمد أمين كی تتضح من آرائه وآثاره النقدیة والمحاكمات الفكریة، شخصیاته المؤثرة علی مجال النقد الأدبی العربی الحدیث.
الهوامش:
1. كاتب الدراسة هو رئيس تحرير مجلة التلميذ الصادرة عن مركز الثقافة الندوية بسرينجر كشمير الهند
2. كتاب الأدب العربي في آثار الدارسين صـ 318
3 في الأدب الحديث جـ 1 صـ 85
4 في الأدب الجاهلي صـ 7
5 مقدمة الشوقيات صـ 3
6 روابط الفكر و الروح بين العرب والفرنجة ،صـ 63
7 تاريخ الحركة القومية، جـ 1صـ 47
8 تاريخ التعليم في مصر جـ 3 ، صـ 34
9 مستقبل الثقافة في مصر ، صـ248
10 صر محمد على ،لـ عبد الرحمن الرافعي صـ 521
11 عصر اسماعيل لـ عبد الرحمن الرافعي جـ 1 صـ 247
12 زعماء الإصلاح في العصر الحديث لأحمد أمين صـ201
13 تقويم النيل وعصر محمد على لـ أمين سامي صـ 580
14 تاريخ الحركة القومية بمصر لـ جاك تاجر صـ 15
15 حركة الترجمة بمصر، لـ جاك تاجر صـ 15
16 أثر العرب في الحضارة الأوربية ،لـ عباس محمود العقاد،صـ 162
17 تاريخ الوقائع المصرية ، لـ إبراهيم عبده صـ 15
18 تاريخ الوقائع المصرية ، لـ إبراهيم عبده صـ15
19 أعلام الصحافة العربية لـ إبراهيم عبده صـ 33
20 نشأة النقد الأدبي الحديث،لـ عزالدين الأمين صـ 101
21 في الأدب الجاهلي لـ طه حسين صـ 68
المراجع والمصادر
أحمد أمین
- ضحی الاسلام، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1955م۔
- قاموس العادات والتقالید والتعابیر المصریة، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، 1947م۔
- فیض الخاطر (الأجزاء العشرة) مكتبة النهضة بالقاھرة 1949م.
- النقد الأدبی ، مكتبة مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1952م.
- دیوان حافظ ابراھیم، دار الكتب المصرية 1937 بالقاھرة.
أحمد هيكل
- تطور الأدب العربی الحدیث فی مصر، دارالمعارف بالقاھرة.
إبراهیم عبده
- أعلام الصحافة العربية، مكتبة الآداب1957م
أحمد الشايب
- أصول النقد الأدبی، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، 1946م.
أمین سعید
- تاریخ مصر السیاسی من الحملة الفرنسية إلى إنهاء الملكية، دار إحیاء الكتب العربية بالقاھرة 1959م.
أحمد حسن الزیات
- تاریخ الأدب العربی،مطبعة الاعتماد بالقاھرة 1948م.
أحمد بدوی طبانة
- التیارات المعاصرة فی النقد الأدبی، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.
- دراسات فی نقد الأدبی العربی، مكتبة الانجلو، بمصر1959م.
جرجی زیدان
- تاریخ آداب اللغة العربية، دارمكتبة الحیاة، بیروت 1967م.
- بناة النهضة العربية، دار الهلال بالقاھرة 1969م
رمزی مفتاح
- رسائل النقد، مطبعة الاخاء بمصر،
سید قطب
- النقد الأدبی أصوله ومناهجه، دار الفكر العربی بالقاھرة 1954م.
سهير القلماوی
- محاضرات فی النقد الأدبی،دار المعرفة 1958م.
شوقی ضیف
- النقد، دار المعارف بالقاھرة 1977م.
- مع العقاد، دار المعارف بالقاھرة.
طه حسین
- فصول فی الأدب العربی
- فی الأدب الجاهلي، دارالمعارف بمصر1927م
- مستقبل الثقافة فی مصر،مطبعة المعارف1944م
عبداللطیف حمزه
- مستقبل الصحافة فی مصر
عمر الدسوقی
- فی الأدب الحدیث،ج۱، دار الكتاب العربی، بیروت1966 م.
عمر طوسون
- البعثات العلمية
عز الدین الأمین
- نشأة النقد الأدبی الحدیث
عباس محمود العقاد
- شعراء مصر و بیئاتھم فی الجیل الماضی مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1950م
محمد الرابع الحسنی الندوی
- الأدب العربی بین عرض ونقد،مكتبة ندوة العلماء،لكھناو1965م
محمد مندور
- فی الأدب والنقد،لجنة التألیف والترجمة1944م.
- محاضرات فی الأدب ومذاھبه،معھد الدراسات العربیة العالمیة بمصر 1955م.