تكشف هذه الدراسة للناقد المصري الموهوب عن ديوان الشاعر الواعد أحمد عايد أهمية أن يقدم كل جيل من المبدعين نقاده، خاصة إذا ما تسلحوا بعدة منهجية قادرة على بلورة جماليات نصوصهم الجديدة، فبعد الكشف عن العتبات الاستهلالية يأخذنا الناقد في رحلة ممتعة إلى مختلف المدارات الدلالية في الديوان.

جماليات التشكل الشعري

في ديوان «رماد أخضر»

محمد سيد عبد المريد

إن الشاعر يغامر حين يشكل لغته الشعرية، التي تحوي عوالمه المتخيلة ورؤاه الذاتية؛ وفقًا لمكوناته الفكرية والنفسية؛ لذا تعد اللغة بالنسبة له حياةً يشكلها، فتجئ ممارساتُهُ التشكيليةُ مرنةً كمرونةِ الحياة. ومن هذا المنطلق ستكون قراءتنا النقدية في ديوان "رماد أخضر"(1) للشاعر أحمد عايد؛ لإدراك جماليات التشكل الشعري التي تعبر عن حس الشاعر الجمالي والدلالي، في اختيار الدوال اللغوية وتعالقها التركيبي والتجريبي والتجاوزي، في تشكل البناء السياقي للنصوص الشعرية(2)؛ مما يعكس ما تتميز به تجربته الشعرية من إمكانات وجماليات أسلوبية.

جمالية عنوان الديوان

العنوان "رماد أخضر" يتضمن بانزياحيته التركيبية التناقضَ الدلاليَّ، فدلالة رماد تدل على البقايا والحطام والفناء، ودلالة اللون أخضر تدل على خضرةِ النبات والتعمير والبقاء، ويبرز التناقض الدلالي جراء العلاقة النحوية/ الصفة، مما يمنحُ الموصوفَ تغييرًا جذريًا في هويته، فتشع دلالة أخضر/ الموصوف به بالمغايرة، وهنا الارتكازُ على اللون كبنية لغوية مائزة بمرجعيتها الأصلية، وبالتالي تتبدى الرؤيةُ المغايرةُ من سيميوطيقا العُنوانِ واضحةً في جذب الانتباه، وتستدعي معها المغايرةَ في التشكيل اللغوي، وهي تتطلب وعيًا مائزًا في كيفية التشكيل. ولا شك أن ثقافةَ الشاعر تساهم في مغايرته الإبداعية، بل وتحدد حجمَها، وتُستنبطُ من خلال القيم الجمالية الفنية، والقيم التناصية التي تتجاوبُ بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ مع المعرفة.

جمالية التصدير

يذكر الشاعرُ بعد الإهداء موقفًا، يتناص مع مواقف النفري الشهيرة، موظفًا مع جماليات التناص اللغوية والدلالية – التي تعكسُ حسًّا عاليًا بتوظيف التناص كبنيةٍ مركبةٍ دالةٍ - التي تسمو بحواريتِها الفعالةِ، وتعكسُ التكثيفَ الدلاليَّ في صياغة الموقف صياغةً متناميةً؛ لتصل ببنائها إلى صيغة السؤال. والموقفُ يدورُ حول الشعرِ، وهو يعد رؤيةً مكثفةً حول الشعر واللغة يدمجها الشاعر بإشكالها التجاوزي/ الفُرَادي، الذي يبرز جليًا – وهو يعكس جدليةً حول العالم الشعري والتلقي – في ختام الموقف:

أَوْقَفْتَنِي فِي الشِّعْرِ/ قُلْتَ: (الْحُلْمْ)

فَاسْتَيْقَظَتْ لُغَتِيْ/ وَجَدْتُ الْوَهْمْ

أَنَصَبْتَ لِي رَفْعًا/ وَتَنْوِي الْجَزْمْ؟

أَبَرَاءَةٌ أَنْ قُلْتَ: (سُوءُ الْفَهْمْ)؟(1/9)

وهنا تتحدث اللغةُ الشعريةُ عن نفسها، معتمدةً على المفارقة في بنية الموقف، وعلى التباينِ في تحديد التعريف الشعري، فتعريفُ الشعر هو الحُلمُ، لكن استيقاظ لغة الشاعر، أبانت عن المناورة في الموقف، فالتصورُ التعريفي هو الحلم، أما الواقعُ فهو الوهمُ؛ وهذا البون الشاسع ساهمَ في إنتاجيةٍ خاطئةٍ من حيث النحو "نصب الرفع – الجزم"، وهو دخولٌ في تركيب اللغة النحوي ؛ ومن ثم تتبدى القيمةُ الإدراكيةُ لهذا التركيب وهو سوء الفهم، إن هذه التبايناتِ في محاولة تأطير العالم الشعري تأطيرًا تعريفيًّا، يعكس مدى المغامرة والمناورة التي سيلقاها المتلقي في نصوص الديوان، فهذا التصورُ المنتوجُ من قِبَلِ الشاعرِ، يقدِّمُ نبذةً عنِ التشكلِ اللغوي الشعري، حيثُ تتبدى أهميةُ التجاوزاتِ كقيمةٍ شعريةٍ دالةٍ، تسهمُ في إنتاج عالمٍ شعريٍّ مغايرٍ شكلا ومضمونًا.

جماليات التركيب الشعري والمدارات الشعرية المركزية والسياقية

في أول مقطع قصير جدًا، يقدم رؤيةً مكثفةً تُبَيِّنُ المداراتِ الدلاليةَ التي يَلِجُهَا الشاعر في تكوين عالمه، وهو يصوغُ عبر صيغة الاستفهام نبرةً متوترةً ومتوجسةً ويائسةً، ولا سيما أن العُنوانَ يحملُ انفتاحًا معلقًا "بدايةٌ بلا نهايةٍ"، ومغايرًا للنشيجِ المنطقي، الذي يفترضُ لكلِّ بدايةٍ نهايةً، ومن ثم يأتي المقطعُ في ثلاثةِ أسطرٍ، ترمزُ إلى السياقِ العنواني:

كيفَ نمضي

ودَرْبُ المدى

حفَّهُ المُستحيلْ؟(1/13)

إن صيغة الجمع – وهي الأقرب إلى تشكل المقطع دلاليًا - في الفعل المضارع نمضي، تحملُ سياقًا جماعيًّا، له رؤيته المشتركة في المصير الواحد، وهو أن درب المدى قد حفه المستحيل، عبر صيغة الاستفهام التي أنتجت الأسى حول فقدان مطلق المدى، الذي صار مقيدًا بالمستحيل، ومن ثم تفرض السكون/عدم المضي على السياق الجماعي، وهذا التقييد العنيف يمارسُ سلطويتَه في تأطير المطلق والحرية.

هذا المقطعُ هو مفتتحُ الديوان، ولقد جعل الشاعرُ مقطعًا قبل المقطع الأخير للديوانِ يرتبطُ بالمفتتح ارتباطًا عضويًّا، يجبُ التركيزُ عليه في ترتيب الديوان، وعنوان هذا المقطع "نهاية بلا بداية" مقتبس من عنوان المفتتح، ولكن بطريقةٍ تبادليةٍ، تعكس وعي الشاعر بتقديم تجربته بين دوال المفتتح ودوال التتمة – بنفس التجاوزات في عمق الديوان- وتتعمقُ في تقديمِ بنيةٍ أكثر جدلا، فالعنوان الأول حمل جدلا واسعًا في تجاوزه العلاماتي، حيث جعل الشاعر البداية بلا نهاية أي ليست مرتبطة بنهاية، ونفس الوضع في التتمةِ، فقد جعل النهايةَ غيرَ مرتبطةٍ بالبدايةِ، وهذا التفكيكُ المتعمدُ لا يحمل تفكيكًا بين القيم الشعرية اللغوية والدلالية، وإنما هو تفكيكٌ للعالم الذي يتشكل في وعي القارئ، وهذا يتساوق مع الموقف السابق في بنيته التجاوزية، يقول المقطع:

كيفَ ارتحلتَ

ولمْ تكنْ غيرَ البداية؟

والنهايةُ

لنْ تكونَ سِوى النهايةْ؟(1/131)

هنا المغايرةُ تتجلى واضحة في التغيير السياقي للمقطع السابق الذي حمل نبرة السكون أو الخضوع التام، وهنا تكون صيغة الاستفهام مختلفة الدلالة، ولكنها تشي بتناقضاتٍ في التركيبِ التشكيلي، فالسؤال للمخاطَب عن كيفيةِ ارتحاله رغم وجود البداية فقط، وهذا هو المستحيلُ المرجوُّ السابقُ، قد تحققَ في هذا المقطعِ، ولكن خط التناقض يمتدُّ نحو وجودٍ للنهايةِ وجودًا ذاتيًّا/ ماهويًّا، ومن ثم يحدثُ سوءُ الفهم الوارد في الموقف، ماذا يريدُ الشاعر من حيرة المتلقي في هذا التغيير السياقي غير المتوقع؟ لكن يتبدى الخروجُ المتفردُ للمخاطب/ الشاعر عن السياق الجماعي، وهذا الخروجُ ينتجُ المغايرةَ في التمردِ والسعي نحو المستحيل، مهما كلفه ذلك، وقد تكون النهاية هي المستحيل الذي يسعى إليه الشاعرُ، لكن السطر الأخير، يداهم الشاعر في عمق تخييله، مبينًا أن النهايةَ هي النهايةُ، وهي هنا تتجاوز إشاريتَها التعيينيةَ إلى معناها التضميني، حيث التصور الإنساني المسبق للنهاية بما تحمله من جدلياتٍ متأرجحةٍ بين اليقين والشك، في ترسيم المصير الجمعي، ومن ثم يكونُ سعي المخاطَب بلا جدوى؛ لأنه سعي ميتافيزيقي يبغي النهاية/ الحقيقة، ومن ثم يُمكنُ لنا أن نرمزَ إلى البدايةِ بأنها الوجودُ.

إن مناورةَ الشاعر التي أفصح عنها منذ البداية، لا تلزمُ القارئَ بوجودِ تأويلٍ محددٍ، وإنما تقنعه بأنه في فضاء شعري يتسم بإمكانات تجاوزية غير مؤطرة، وعليه أن يكونَ مرنًا في تلقيه، متبادلا مع الشاعر القيمة التخييلية بذاتها الرحبة. إن البنيةَ اللغويةَ تتحركُ في هذا المستوى الجمالي والدلالي في تكوين الصورة الشعرية، مثل اشتغالها بإمكاناتِ الأنساقِ التقابليةِ المائزةِ(3)؛ لتنتجَ بلاغةً نصيةً متفاعلةً مع طبيعةِ الرؤيةِ، في السياق التوزيعي للدوال:

كُنَّا طُيُوْرًا فِي الصَّبَاحِ

فَلاَ نَخَافُ مِنَ الْمَسَاءْ

كُنَّا نُجُوْمًا فِي الْمَسَاءِ

فَلاَ نَخَافُ مِنَ الصَّبَاحْ(1/21)

إن الرؤيةَ المتضمنةَ بكل إجراءاتِهَا اللغويةِ، تمثلت صريحةً في العلائق التقابلية؛ لإنتاج دلالة عدم الخوف في الصباح والمساء، جاعلاً مسافةً فارغةً بينهما في التشكل الطباعي، ترمز إلى اليوم. ويستحضر الشاعر من الحقول الدلالية المقترنة بهذين الدالين الزمانين دلالتي "الطيور – النجوم"، وهما المنقذانِ من الوقوعِ في براثنِ الخوفِ؛ بالتحليق والابتعاد عن قبضتي الصباح والمساء، فتتغير العلاقة التقابلية اللغوية إلى علاقة تقابلية ضمنية مغايرة، الطيور ويقابلها الصباح، والنجوم ويقابلها المساء، وهذه الرؤية المائزة في إنتاجيتها التعبيرية، تبين عن حس الشاعر الجمالي والدلالي في تغيير العلاقات المألوفة إلى علاقات غير مألوفة/ متجاوزة، بما يتناسب مع إجرائية التخييل المتجاوزة التي يرتكز عليها الشعر في تصور محدداته، في صياغة الأسلوب، فـ"تعريف الأسلوب بأنه مجاوزة، يخرج به في الواقع من دائرة الأنماط التي يحكمها قانون "الوجود التام أو العدم المطلق" نثر أو لا نثر"(4).

وفي هذا النص المعنون بـ "قصيدتان"، يحمل الكثيرَ من إمكانات لغوية شعرية متنوعة، كالتناقض والتكثيف الدلاليين، والذي يبرزهما المقطع الآتي:

خُذْنِيْ هُنَاكَ إِلَى التَّنَاقُضِ فِي تَفَاصِيْلِ الْقَصِيْدَةِ

رُبَّمَا أَجِدُ الْمَمَاتَ بِلاَ حَيَاةٍ، وَالْحَيَاةَ بِلاَ مَمَاتٍ

رُبَّمَا أَجِدُ الْحَيَاةَ بِلاَ حَيَاةٍ، وَالْمَمَاتَ بِلاَ مَمَاتٍ

رُبَّمَا أَنِّي أَرَانِي آخَرًا لاَ أَعْرِفُهْ

أَوْ رُبَّمَا..

لاَ رُبَّمَا..(1/23)

إن إشارتَهُ الموعاةَ لتشكلاتِ التناقضِ، تمتدُّ في تفاصيل القصيدة/ الحياة، في تفاصيل الأنطولوجي بتناقضاته المركزية، وفي معاناة الشاعر الذاتية في حياته اليومية، وهذا يبين اضطراب الشاعر وجدانيًّا وفكريًّا؛ ليصلَ إلى نتيجةٍ حتميةٍ هي اغترابُ الذاتِ، لكن ثمة طاقة داخلية في ذات الشاعر تحاولُ أن تبعدَه عن سلطة التناقض، لكنه لا يستطيع، وتكرار دلالة ربما التي تفيد الاحتمال – نتيجة حتمية للاضطراب -؛ للدلالة على القلق الأنطولوجي، تتعمق في بروز البنية الشعرية. وهذا التكثيفُ الدلاليُّ الذي يكرر دلالات بعينها بشكل تبادلي، يمنح النص ثقلاً في التلقي، لكنه عبر إمكاناته يعبر عن الاضطراب تعبيرًا موسعًا ومؤكدًا، وختام المقطع يتعمق في بلاغة الكتابة، التي تتطلبُ توقعاتِ المتلقي للسياق الغائب المكمل للسياق الحاضر، لكن الشاعر حصرَ التوقعاتِ القرائيةَ بين أداتين "أو – لا"؛ ليصاب المتلقي بالحيرة الممتدة.

وفي السياق ذاته، يعتمد الشاعر – لتوسيع وتأكيد رؤيته – على المرونة اللغوية في استخدام الأدوات اللغوية، التي تكثف الرؤية بشكل غامض، وتتطلب تركيزًا في فهم البنية النصية، معتمدًا على دلالتي المكان:البعيدة "هناك"، والقريبة "هنا"، وهذا يتساوق مع نتاجات الاغتراب في خلق صور شعرية ضبابية، لكنها قابلة للتأويل، ففك الضبابية/ الاضطراب متاح هنا؛ بسبب توظيفه للغة توظيفًا دلائليًّا:

خُذْنِيْ هُنَاكَ..

هُنَاكَ خُذْنِي ..أَوْ هُنَا..

فـَ"هُنَاكَ" يَعْنِي لِي "هُنَا"

وَ"هَنَا" يُطَابِقُ مَا "هُنَاكَ"

وَمَا"هُنَاكَ" سِوَى "هُنَاكَ"

وَمَا"هُنَا" إِلاَّ"هُنَا"(1/25)

إن الشاعر يؤكد في البدء على المطابقة بينهما، ثم يعود وينفي عبر أداتي الاستثناء "سوى، إلا" هذه المطابقةَ، والتأويل – رغم هذا التكثيف – يدرك التناقض والتشابه معًا، أي التطابق واللاتطابق بين مفردة هناك ومفردة هنا، والذي يفصح عنه الشاعر في السطرين التاليين لهذه المقطوعة:

مُتَنَاقِضَانِ أَنَا وَأَنْتْ

مُتَشَابِهَانِ أَنا وَأَنْتِ..(1/25)

هذه الرؤية المتداخلة مع التناقض والتشابه، تتساوق مع بنية عنوان الديوان، وتهيمن على العديد من النصوص، ومن خلال هيمنتها تؤكد سمات التجربة الشعرية، نفس دلالات القلق والحيرة وسوء الفهم، يقول في نفس النص:

وَرُبَّمَا نَجِدُ الْفَنَاءَ هُوَ الْبَقَاءُ

وَرُبَّمَا نَجِدُ الْبَقَاءَ هُوَ الفَنَاءُ(1/26)

إن المدار الدلالي الممتد يبرز حالة الشاعر القلقة، ويعمق التجربة بما تحتاجه من إمكانات تعبيرية موسعة، تنتجها اللغة الشعرية بتجاورها البنائي وتجاوزها الدلائلي باقتدار، وهو في حالته هذه التي تشغل تفكيره بشكل بالغ، يبحث عن مصيره في ظل التناقضات المتاخمة، يحاول أن يجد خلودًا حقيقيًّا، وإن كان التناقض يلازمه بجدليته المفتوحة على الدوام، يقول في نص "لابد من شيء":

وَ"أَنَا"

عَلَى بُعْدٍ قَرِيْبٍ وَاقِفٌ

فِي اللاَ مَكَان

وَلاَ زَمَان

وَحْدِي

مَعِيْ خُلْدِيْ/

مَعِيْ عَدَمِيْ/

مَعِيْ

حِبْرٌ بِلَوْنِ الْفُلِّ يَخْتَصِرُ الْمَدَى(1/31)

هنا تتجرد الأنا بكل جرأة من المكان والزمان؛ لتصبح مطلقة متناقضة، وهو يتساوق مع الخروج عن السياق الجمعي؛ لذا تتبدى نبرة الوحدوية كما تتبدى في الترابطات الدلالية مركزيةُ التناقض، التي تحوم حول التصور الذاتي للشاعر؛ ليجمع بين نقيضين ممتدين في التجربة الشعرية،  الخلد/ العدم، وهما يشيرانِ إلى دلالتي عنوان الديوان المركب "رماد أخضر"، وفي السطر الأخير للمقطوعة، يستحضر المكتوب/ الشعر بكل قوته التصورية والتصويرية في اختصار المدى، هذا الاختصار يمنح الشاعر المغايرة الفعلية؛ للوصول إلى المطلق اللانهائي، وكأن الشعر وحده هو القادر على مزج التناقضات مهما كانت حدتها التكوينية، في أسلبة شعرية مدركة للقيم اللغوية في تشكلاتها وانزياحاتها المكثفة والممتدة في سياقات النصوص.

ويحيد الشاعر عن هذه الصياغة المكثفة إلى صياغة مباشرة، في تجربته الشعرية؛ لتتفاعل مع الرؤية بشكل دال على بنية النص، وهو في الصياغة المباشرة يهتم بالتهكم الساخر، وتأكيد الحقيقة الراهنة في الحياة مهما كانت مؤلمة، باختصار شديد هي صياغة كاشفة لا تبغي سوى الاعتراف بما هو مؤلم/ واقع فعلي، يقول في نص "خطأتُ حَقًّا":

يَتَنَازَلُ الإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا عَنِ الأَحْلاَمِ

فَالأَحْلاَمُ صَنْعَةُ مَنْ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ الآلاَمَ

يُجْهِدُهَا بِغَيْرِ وُجُوْدِ مَنْفَعَةٍ

هِيَ الأَخْطَاءُ تَمْلؤُنَا

كَثِيْرًا ما نُحَدِّقُ فِي الْحَيَاةِ

فلاَ نَرَى إِلاَّ الخَطَأْ(1/16)

هذه الصياغة الشعرية المباشرة، أفصحت عن المعاناة الذاتية والجماعية معًا، فهي تتعمق ببساطتها الفنية – بسبب النزعة الإنسانية – في مأساة الإنسان الذي يتنازل عن أحلامه، وهذا التنازل تنازل وجودي ذاتي، يحد من حرية الإنسان في تحقيق الحياة التي يتمناها، كما يؤكدُ في السطر الثاني على أن الأحلام صنعة من يحمل نفسه الآلام، وهنا تعمق شديد في الرؤية التأملية، ولأن الحياة الآن بسبب الرأسمالية أصبحت براجماتية، فتتبدى الأحلام التي توازي الآلام هنا في مدار دلالي واحد، بلا منفعة أي أن المكابدة لتحقيق أو تحمل هذه الأحلام/ الآلام بدون أي منفعة دنيوية، والأحلام بالنسبة للشاعر –أي شاعر- هي الشعر، كما ذكر الشاعر في موقفه الخاص السابق، لكنه يقر بشيوع الأخطاء، ومن ثم تتبدى نتاجات التناقضات المشتركة/ البشرية في هذا الشيوع الدال.

والمدار الدلالي للحلم في هذه التجربة من المدارات الدلالية الرئيسة، الذي ينتج – عن طريق الوعي اللغوي للشاعر – تفاعلية البنيات اللغوية في سياقات متضامة ضمنيًّا، ومختلفة شكليًّا،  تبرز بشكل أوضح في نص "رَمَادُ الْحُلْمِ .. حُلْمُ الرَّمادِ"، وبنية العنوان تعكس اتساقًا دلاليًّا مائزًا، بينها وبين بنية عنوان الديوان، فالعلاقة السطحية بين دوال البنية العنوانية لهذا النص، تفصح عن الاقتران بين الرماد والحلم؛ لأن المضاف كالمضاف إليه كما قال النحاة، ودلالة الحلم تتساوق مع دلالة الشعر في العلاقة العميقة، أما دلالة الرماد التي تدل شكلانيا على البقايا والفناء، قد تدل هنا ضمنيًّا على المستوى التجاوزي، في اعتبار الرماد ذاتَ الحلم المتبقية /الشعر، وإن كان التلاعب اللغوي هنا يقوم بإجراءات متداعية؛ للترميز على التشابه المضموني في النسق المضمر، فحلم الرماد التي تخالف الدلالتين المتضايفتين اختلافًا تبادليًا لغويًا، يعكس بدوره الاختلاف الدلالي في علائقية البنية، وكأن القارئ أمام سياقين متوالدين، لكنهما متواشجان في بنية الموضوعة.

والنص يحتوي على خمسة مقاطع، تتراوح فيها الصور الشعرية والرؤى، بين ما هو واقعي وما هو شعري وما هو سريالي، فتعددية الأساليب تنبعُ من الوعي بقيمة التنويع الأسلوبي في صياغة الرؤية، ولو في نص واحد متسق، وهذا ينبع من أهمية الفعل التجريبي، الذي يمنح الشاعر إمكانات تجاوزية متعددة، ومن ثم تكون اللغة الشعرية تحفيزية وخارج سياقها الجاهزي المؤطر.

ومن المقاطع الشعرية المائزة في هذا النص المقطع الرابع، الذي يفصح فيه الشاعر عن بنية العنوان:

     (4)

لِلْحُلْمِ نكهةُ عاشقهْ

تهوى الحياهْ

وأنا الفتى الجوَّالُ أفتتحُ المدنْ

والحُلْمُ أوَّلُ رحلةٍ في الليلِ تختارُ المكانْ(1/39)

إن التشكيل التركيبي في هذه المقطوعة، يقترب من بنية الحلم التي تهوى الحياة، فالحلم هنا يساق وظيفيًّا بدلالته الشائعة، التي توازي الحياة، فمن خلال الحلم يكون حب الحياة، كما يبرز المتكلم بذاته الحماسية – من جراء عشق الحياة – الذي يفتتح المدن، ورغم أن الشاعر لم يحدد نوعية الصيغة لهذا الفتح التعددي، إلا أنه يبرز الإقدام على الحياة، الذي يصاحبه شغف التطلع إلى المدن الجديدة التي يفتتحها في طريقه، كما يتبدى الحلم بطاقته الفعلية في تجواله الذاتي، عبر صيغة تقريرية تسرد حقيقة هذه الطاقة الفعلية.

وتجول الشاعر قاده إلى التفاصيل التي يبحث عنها كالرحالين، بصياغة كاشفة دالة على تفاصيل مؤلمة عن الحياة، في بحثه عن الأحلام، فيتبدى الواقع بقبحه، فيجد البلدان قفرًا:

سأجولُ مختصرًا تفاصيل الحكايةِ:

في البدايةِ

لمْ يكنْ غير الضبابْ

يحتلُّ أطرافَ العيونِ

اللَّوْحةُ الخرساءُ يملؤها الضجيجُ

أصابعُ الرسَّامِ لمْ ترسمْ سوى مُدُنِ السَّرَابِ

أخذتُ أثقلها خُطىً

أجتاحُها بحثًا عن الأحلامِ

والبلدانُ قفرٌ...(1/39،40)

إن الشاعر يتكبد معاناةً شديدةً من أجل البحث عن الأحلام، التي تبرز هنا من خلال انزياحية الصورة الشعرية وإسقاطاتها الدلالية، ولا سيما في مدن السراب لأصابع الرسام التي لم ترسم سواها، وهذه الصياغة تعمق الرؤية، بكل إجرائية الاستثناء الدالة، في تصوير سياق واحد للمعاناة، واختار المتكلم/ الذات الشاعرة أثقلَها خطىً؛ ليجتاحَها بحثًا عن الأحلام، وهذا الصمود يعكس مدى تشبثه بالأحلام، مهما كانت المكابدةُ المصاحبةُ للخطى، ولكن السطر الأخير يحمل نبرة اليأس؛ لذا يجعل النبرة تمتد لعدةِ أسطرٍ في وصف البلدان، وفي الوقت ذاته يوظف تتابعية الصور الشعرية؛ لتعبر عن حالته الوجدانية المتأزمة.

وفي سياق الرؤية الممتدة، يتشكل المقطع الخامس للنص، بنفس المستوى الوجداني والجمالي والدلالي، ويتضحُ هيكلُها:

        (5)

كانَ الرمادُ يُحَاصرُ الأحلامَ قرب الهاويهْ

يأتي الهواءُ مُحمَّلاً بقصيدةٍ

( يا تائهًا خلفَ الرُّؤى ، مهلاً

"عسى فَرَجٌ يكونُ عسى "*

كفاكَ بها عسى

لا حُلْمَ يبدو باسمًا في حانةٍ

إلاَّ إذا كان الظَّلام تنفَّسَا

حُلْمُ الرمادِ حقيقةٌ ، لكنّهُ

منْ خبثِهِ ثوبَ الخيالِ تلبَّسَا)(1/41)

هذا الوعي الجمالي بالبنى اللغوية في التشكل، يمنح النص التفاعلية البنائية، ومن ثم تتبدى التعالقات الدلالية في مسارها الرؤيوي واضحة، ولقد وظف الشاعر الكثير من الإجراءات اللغوية في تنويع الأسلوب تنويعًا لغويًا، ويتبدى وعيه ببلاغة الكتابة أيضًا في التشكل الطباعي الدال، الذي يشتبك مع التنويع اللغوي في إنتاج الأبنية الجمالية، كما تبدت الدوال التي شكلت المدارات الدلالية للتجربة الشعرية كالرماد والحلم والقصيدة، وهذه الدوال الثلاثة أنتجت فضاءً مشتركًا، يكون فيه التقاطع بمرونته الإشكالية المزدوجة؛ لينتجَ رؤيةً مكثفةً ورمزيةً، تحتاج إلى جهدٍ موازٍ لإدراك جماليته.

يتكررُ دال القصيدةِ كثيرًا في التجربة، وهو لصيقٌ بالشاعر وبذاته التخييلية، ويتساوق مع دلالتي الحلم والرماد، في جدليةٍ استشكاليةٍ مزدوجةٍ ذكرناها سابقًا، والملمح الرئيس في هذه الجدلية التعمق في الإنتاج التعبيري المكثف المغاير، وأيضًا التوسع في هذه المدارات الدلالية التي تكاد تشمل الحياة بتفاصيلها بالنسبة للشاعر.

يتبدى للمتلقي الرماد الذي يحاصر الأحلام قرب الهاوية، وهو ما يعكس التموضع المصيري الحتمي للأحلام، فهي بين حصار الرماد وخطورة الهاوية، فهذا الصراع المتأزم يمنح دال الرماد قوةً دلاليةً أكبر من قوتِهِ اللغوية – إن جاز التعبير -، والشاعر حين ينتجُ هذا الصراع وينتقل مباشرة إلى القصيدة، حيث تتعالق المدارات الدلالية، وفي هذا الانتقال تغيير سياقي ملفت للانتباه، وعبر بلاغة الكتابة وهيمنة الإيقاع، ينتج معاناة الشاعر الذاتية في البحث عن الرؤى، فتتداخل معاناة الشاعر الإبداعية مع معاناته الحياتية، وتعبر عنه القافية بجرسها الموسيقي، ويتبدى التمازج الإيقاعي بين التفعيلي والخليلي في إنتاج دلالة النص، وهذا التنويع الإيقاعي يتضام مع التنويع اللغوي، في إنتاج تجربة شعرية ثرة بأبنيتها الجمالية المتعددة، وتمايزها في توظيف الجماليات المعاصرة.

ولا شك أن تداخلَ المداراتِ الثلاثةِ السابقةِ، أسهم في استغلاقيةِ المعنى الشعري، فحين يقول 

حلم الرماد حقيقةٌ، يلتفت ذهن القارئ إلى حقيقية حلم الرماد، الذي من خبثه تلبس ثوب الخيال، وبالتالي يلتفت إلى تواجد القيمة التخييلية الشعرية، ويتجهُ صوبَ القصيدة، باعتبارها حقيقة لكنها تلبس الخيال قناعًا جماليًّا، وهذا التأويلُ يجانبُ الصوابَ في مقاطع كثيرة متفرقة في الديوان، تعكس القيمة التي تمثلها القصيدة من منظاره الشعري؛ لذا يمنحُ القصيدةَ كدال منفتح رؤى عديدة تعبر عنها، ورؤى تعلق بها، وكأنه ينتج تجربته الشعرية ويشير في نفس الوقت إلى قيمتها التعبيرية، فيقول موضحًا المدارين المركزيين "الرماد/ القصيدة، الحلم" في سياق الغربة والفردية في نص "نص مجهول وُجد على شاهدة قبر أحد الفقـراء":

كَالذِّكرياتِ النَّاسياتِ ملامحي

كانَ المدى مُتحمِّسًا لتجاهُلِي

لمْ أحملِ الألقابَ في صدري

ولمْ أحصلْ على شيءٍ مِنَ الدنيا

سوى هذا الرَّماد(1/133)

كما يقول عن المكونات البنائية الشعرية اللغوية والدلالية في نصه "لا تليق بنا الحياة":

لاَ تَحْتَوِيْنِي الْمُفْرَدَاتُ.

كَأَنَّنِيْ لاَ شَيْءَ.

لَكِنِّيْ أَنَا الأَشْيَاءُ:

جَوْهَرُهَا، وَحِكْمَةُ صَمْتِهَا،

وَتَنَاسُلُ الْمَعْنَى مِنَ الْمَبْنَى،

تَنَزُّلُ دَهْشَةٍ مِنْ فِكْرَةٍ(1/73)

هنا يلتقي الشاعرُ مع اللغة من خلال اللغة، ويطرحُ العلاقةَ الفعالةَ بينهما، يصوغ اللغة بحسه الذاتي، في عدم احتواء المفردات له، وبصيغة التناقض اللامنطقي يفلسف العلاقة بتعابير تتساوق في النطاق اللغوي التكويني والتوليدي، فالعلاقةُ التناقضيةُ بين لا شيء وأنا الأشياء، وكأن الشاعر يقول أنا اللغة، بكل ما يكونها ويحملها قيمة فعلية، فالشاعر يوظف اللغة وفقًا لتشكلها الضمني أو الجوهري، وفي نفس الوقت هو الذي يمنحها هذه القيمة الفعلية الجوهرية، فهي بدون الشاعر مادة فارغة جوفاء، لا تتمتع بانسيابية وتعبيرية التجاورات المفرداتية في خلق المعنى، أي هي مجردُ قاموسٍ كل مفردة فيه مستقلة بذاتها نسبيًّا، من حيث التعيين، لكن الشاعر هو الذي ينتج المعنى من المبنى، من حيث التضمين(5)، بل ويجعله متوالدًا، وفي السطر الأخير يقترب أكثر من جوهر القصيدة - بعد أن أفاض عن علاقته باللغة - فهو الدهشة التي تتنزل من الفكرة، وهذا يعكس أهمية الوعي الجمالي في إنتاج الدهشة، التي هي مطية الشاعر في نتاجاته، وهي في نفس الوقت مبتغاه الجمالي الفرادي.

وفي هذا النص المائز، يطرح سؤالاً مائزًا حول التجربتين الإبداعية والوجدانية:

هَلْ يَكْفِيْ بَهَاءُ الْحَرْفِ يَا أَلَمَ الْمَدَى؟(1/74)

إن الحرف أداة تعبيرية عن الألم، ومفردة بهاء تدل على جمال التعبير/ الشعر، وألم المدى ألم متسع ومنفتح، فالتساؤل يقع بين دلالتين مائزتين، البهاء والألم، فالتعبير الجمالي لا يكون كاملا في توصيف الألم، وفي نفس الوقت يتبدى التناقض الجوهري بين الجمال والألم، ومن هنا تبرز بنية السؤال الضمنية.

ودلالة المدى من المدارات الدلالية الرئيسة؛ لذا يجب إضافتها إلى تلكم المدارات، حتى يتشكل للقارئ الوعي الكلي بعناصر التجربة الشعرية، والمدى الذي يتعمق في اتساع الكون والمطلق، يعبر عن الحالة المتأزمة للشاعر في إدراكه الميتافيزيقي، كما أن هناك آلامًا بحجم المدى، يقرنها الشاعر به، ومن ثم يتبدى هذا المدار بمركزيته الثرة، في استدعاء الحالة الشعرية استدعاءً جماليًّا أثيريًّا.

واللغة عند الشاعر كل شيء، أي تعبر عن كل شيء:

هَذَا ابْتِدَاؤُكِ-يَا حَيَاةُ- مِنَ الْمَوَاجِعِ

عَالَمَانِ مِنَ الْمَشَاعِرِ

عَالَمٌ تَبْيَضُّ فِيْهِ الْمُفْرَدَاتُ،

وَعَالَمٌ تَسْوَدُّ فِيْهِ الْمُفْرَدَاتُ..(1/75)

يقسم الشاعر المشاعر إلى عالمين متناقضين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ويتناص مع الخطاب القرآني في دلالتي "تبيض، تسود"، وبالتالي تتبدى اللغة حاوية للحياة، وإن كانت نبرة الألم تنسرب إلى نصوص الشاعر، حين يتحدث عن الحياة.

وفي ظل هذه النبرة القاسية، يتحدث الشاعر عن روحه الشاعرة، التي تغايرُ الحياةَ المؤلمةَ والمفروضةَ عليه، حيث يتمتعُ بحسه الإنساني الرفيع، خاصةً حينما يشتبكُ مع الذكريات بطابَعِها الانفعالي الدال، ويتبدى للقارئ الجانبُ الجميلُ والشاعريُّ في الحياة:

هَوَ ذَا جَحِيْمُ الْكَوْنِ يَكْبُرُ دائمًا،

وَيَظَلُّ فِي رُوْحِ الطُّفُوْلَةِ شَاعِرٌ

يَتَذَكَّرُ الأَحْدَاثَ مُنْذُ مَجِيْئِهِ تِلْكَ الْحَيَاةِ :

بَرَاءَةَ الدَّمْعَاتِ فِيْ خَدَّيْهِ،

وَالآذَانَ يُشْرِقُ فِي الْفَضَاءِ،

وَحِضْنَ جَدَّتِهِ،

وَنَخْلَ الْحَقْلِ،

وَالنَّحْلَ الْمُحَلِّقَ فِي الأَعَالِيْ،

رَفَّةَ الأَطْيَارِ فِيْ عَيْنَيْهِ،

طَعْمَ الْخُبْزِ-ظُهْرًا- طَازجًا(1/76)

بهذه الذكرياتُ التي تكوّن بطابعها النوستالجي عالمًا حالمًا صافيًا، يتناسب مع روح الطفولة، يحافظ الشاعرُ على اختزان هذه الصور المتساوقة مع الطفولة، وكأنها تصنعُ الشاعر والشعر؛ بسبب تشكلها الصافي الذي يجانب تطلعاتِ الشاعر نحو عالم جديد لا يختلف عن البساطة السابقة للعالم الطفولي، فهو لا ينجرفُ نحو اليوتوبيا، ولكنه يحلم بعالم من الماضي، حين كانتِ الطفولةُ لا تدرك شيئًا من مآثمِ العالَمِ. وهذا يجعله يقع في انسحاقية الاغتراب، وتتبدى العزلة كنجاة مؤقتة من آلام الحياة الجبرية، وتتشكل اللغة في سياق انفعالي دال:

هَلْ أَسْتَطِيْعُ الآنَ أَنْ أَبْكِي – صَدِيْقِيْ-

كُلُّ شَيْءٍ مُوْجِعٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا

تَمرُّ السَّارِقَاتُ سَعَادَتِي فِيْ،

ثُمَّ أُصْبِحُ عُزْلَةً!(1/79)

هكذا تُستلبُ سعادتُهُ؛ لينغمس في غمار العزلة، وهي تعكس رؤيته السوداوية وحالته المزاجية المتأزمة، التي تعد نتيجةً حتميةً لكل جبرية آلام الدنيا، وهذا الاستلابُ يجعله ينوّع في بوحه الشعري، ويستفيضُ في امتداد الثيمة الرئيسة، بوعي جمالي يطرح الصراع المتأزم، ومن ثم يجنح إلى عالم آخر مختلف، من خلال الشعر، يناسب الإنسانية الحقة/ البياض:

وَكَأَنَّنِي اللاَّ شَيْءُ حِيْنَ تَكَاثَرَتْ أَسْمَاؤُهُ

إِنِّي بَيَاضُ الشِّعْرِ فِي كَفِّ الصَّدَى

أَحْتَاجُ كَوْنًا مَا يَلِيْقُ بِضَحْكَتِيْ،وَبِدَهْشَتِيْ، وَبَرَاءَتِيْ

نَحْنُ الْبَيَاضُ الْفَذُّ فِي كَفِّ الْمَدَى

نَحْتَاجُ كَوْنًا مَا يُنَاسِبُ بَوْحَنَا وَقُلُوْبَنَا

وَالْكَوْنُ غَيْرُ مُلاَئِمٍ لِبَيَاضِنَا!(1/79)

إن هذا الجنوحَ لكون ملائم للبياض، يفصحُ عنِ العديدِ من العلاقات بين الشعر كأداةٍ تعبيريةٍ إلى أداةٍ تحويليةٍ فعليةٍ لواقعٍ أفضلَ، وبين المدى الذي يتعالق مع البياض؛ ليمنحَه اتساعًا مناسبًا، وهذا ما يناسب "بوحنا، قلوبنا"، وهنا يعتمدُ على المضمرات الذاتية، بصيغة الجمع التي تعمقت في المعاناة الجماعية، فالبوح/ الشعر ينبع من القلوب، وهذا البوحُ يتعارض مع الكون الفعلي؛ لذا يطمحُ الشاعر إلى التناسب مع كون متخيل يشبه الصـفاء/ البياض الذي ورد ذكره حين تحدث عن روح الطفولة.

ولا شك أن البوحَ يقوده إلى التفاصيل الدقيقة لحياته ولتصوراته، معتمدًا على آليات كثيرة شعرية وسردية، كالإيقاع والحوار والتشكل الطباعي وعلامات الترقيم والحكي التفصيلي، هذا بالإضافة إلى الإمكانات الموسعة للصور المجازية، التي تبين عن وعي بالتصوير، ومن ثم تتبدى تجربتُهُ الشعريةُ ثرةَ الجمالياتِ، ومهمومةً بأبنيةِ النص الشعري.

ومن النصوص الطويلة والمائزة نص "سردية"، الذي بلغ فيه البوحُ أعلى مراتبه، وتعمق في تفاصيل الحياة بدقة، موظفًا تقنيات سردية – كالحوار- أهمها الحكي، الذي يستفيض في استعراض التفاصيل، وتخفتُ فيه المجازيةُ، ومن ثم تكون اللغة الشعرية أكثرَ انسيابية، بما يتناسبُ مع الحس الحكائي ومرونة الحكي التي تتبدى في تقنية الالتفات واضحة، وهو لا يجربُ في هذا النص الحكي فقط – وليس لأن النص معنون بـ "سردية"- وإنما في النصوص الأخرى، والحكي صار أداة شعرية مائزة في العصر الحديث، يوازي بكل إمكاناته البوح الشعري؛ لذا يوظف بتكنيك عالٍ، بدمج البنى الشعرية والبنى السردية في الانبناء النصي.

يدور النص من خلال ضمير المتكلم متحدثًا عن المخاطَب/ الذات الشاعرة، ويوظف الشاعر كل تقنيات المونولوج، في إنتاجية البوح بشكل مؤثر دال، مستعرضًا لكل التفاصيل الحياتية الواقعية، مبينًا التناقض بين المتكلم والمخاطب، منها:

لاَ زِلْتَ تَفْرَحُ بِالرُّعُوْنَةِ،

وَانْتِفَاخِ النَّفْسِ حِيْنَ يَقُوْلُ قَائِلُهُمْ: (كَبِيْرُ الْعَائِلَةْ)

لاَ زِلْتَ تَذْكُرُ قِصَّةَ الأَجْدَادِ إِذْ صَنَعُوا الْصَدَى

وَأَنَا أَقُوْلُ لَكَ: (الطَّرِيْقُ هُنَا. تَعَالَ مَعِيْ)

فَتَسْخَرُ مِنْ كَلاَمِيْ قَائِلاً : (يَهْذِي الْفَتَى)(1/47)

تتغلغلُ المقطوعةُ في الواقعية، وتعبر عن المعاناة الذاتية، عبر مكوّن التناقض وتحيينات الصياغات المباشرة، التي تحوي في نسقها الوعي الجماعي، وتتبدى دلالة الطريق التي تتجه نحو تاريخ جمعي، وتتبدى دلالة "الصدى" بكل ما تمثله من معنى الرد أو التجاوب، في السياق التأثيري لهذا التاريخ الجمعي، لكن التناقض يمارس سلطته في تخلق الأزمات والصراعات المتعددة.

ويتمادى في هذا التشكل التركيبي، عبر صور شعرية ممتدة تحوي أسئلة ثرة حول التجربة الوجدانية والمفعمة بالمفارقات، وهي ليست أسئلة في حد ذاتها، وإنما تسوق بنية التعجب في تشكلها الضمني، بأسلوب شعري/ سردي مائز، يعكس الآليات المشتركة بينهما، بلغة متوالية متدفقة، تحوي أشكالا مجازية عدة، تعبر عن لحظة الذروة أو التفاقم الحدثي الدال:

لاَ زِلْتُ أَذْكُرُ يَوْمَ غَلَّقْتَ النَّوَافِذَ بِالْخَشَبْ

وَمَنَعْتَنِيْ مِنْ أَنْ أُطِلَّ عَلَى الطَّرِيْقِ؛

لأَنَّ بَنْتَ الْجَارِ تَشْكُوْ مِنْ طَوِيْلِ تَأَمُّلِي فِي وَجْهِهَا!

هِيَ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي بِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَدْرِيْ بِمَوْقِفِهَا بِسَطْحِ الْبَيْتِ.

لَمْ تَعْرِفْ بِأَنِّي لاَ أَرَاهَا.

إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ بِمِلْءِ عَيْنِيْ،

مَا مُلاَمِي وَالضِّيَاءُ نَوَافِذٌ مِنْ عَيْنِهَا؟!

أَ أَبِيْحُ سِرِّي فِيْ أُنَاسٍ يَجْهَلُوْنَ حَقِيْقَةَ الرَّمْزِ الْخَفِيْ؟!

أَ أَقُوْلُ إِنَّ النُّوْرَ يُمْكِنُ أَنْ يُضِيْءَ مَعَ النَّهارِ ،

فَتُهْرَعُ الشَّمْسُ انْزِوَاءً فِيْ خَجَلْ؟!

أَ أَقُوْلُ إِنَّ الْمُفْرَدَاتِ تَكُوْنُ كَاذِبَةً،

وَإِنَّ الشِّعْرَ لاَ يَعْنِي الشُّعُوْرَ عَلَى الْحَقِيْقَةِ؟!

رُبَّمَا بَعْضُ الْقَصَائِدِ صَادِقَةْ(1/48)

ذكرتُ المقطع كلَّه؛ ليعبر عن الآليات المشتركة بين الشعر والسرد، الذي حوى مفارقات عديدة في أنساق الاستفهام التعجبية، كما يلاحظ المتلقي تتابعية البنى النصية، التي تشبه الخواطر في تشكلاتِهَا، في سياق يرمزُ إلى عمقِ الحالة الوجدانية للشاعر، ويتحرك بعد انهمار الأسئلة، نحو القصيدة ومشروعيتها، فيمزجُ بين الواقعي والشعري في تشكل السؤال، وما هو واضح من تتابعية المفارقات التي أدت إلى تعميق المنتوج الشعري، كما بين أن الواقع بمفارقاته يقود إلى التأكد من مشروعية الشعر ونتاجاته، أي التأكد من ماهيته التعبيرية التي تتأرجح بين الصدق والكذب، هكذا تدفعه التجربةُ الواقعيةُ إلى مساءلة التجربة الإبداعية، عبر سياقات مائزة بتبايناتها وتشكلاتها الجذرية، وعبر صياغاتٍ سرديةٍ تجاورت مع الصياغات الشعرية في سياق نصي واحد، تعبر عن الوعي اللغوي بالقيمة العلاماتية الدالة. وهو في إنتاجه الشعري يولي الشعر جانبًا جماليًا في داخل النصوص، ويمنحه طاقاتٍ تفاعليةً عديدةً؛ ليصنعَ منه – وفقًا لجنسه الأدبي- قوةً مخصبةً في الاندماج مع الحياة بشكل طبيعي، حيث يمنحه صلاحيات عديدة تتجاور مع الصلاحيات المستنبطة من الحياة، والحياة في هذه التجربة تتبدى بواقعيتها المؤلمة، وصياغاتها المباشرة في التعبير.

فيقول عن معاناة طفلة يتيمة:

لَكَمْ تَحْتَاجُ مِنْ صَبْرٍ،وَمِنْ شِعْرٍ يَلِيْقُ بِفَهْمِهَا!(1/51)

هنا يمنحُ الشعرَ وظيفته التعبيرية الأثيرية، ولكن من خلال فهمها، أي يكون هناك تناغم  المنتوج الشعري -عن معاناتها- بما يتناسب مع عمرها الصغير، وهذا النتاج من ضمن نتاجات واقعية عديدة، تساهم في تشكل الواقع تشكلا شعريًا. وفي هذا النص الطويل والثر، يوظف الحوارَ كبنيةٍ نصيةٍ مائزةٍ، تستمد من فاعليتها الاتصالية خاصيةً أسلوبيةً مائزةً، وتتعمقُ وفق معطياتها التكوينية في الشعر بحركيتها الدالة، ولكن وفق مرتسمات الإنتاجية الشعرية:

يَا أَيُّهَا الوَعْدُ الْمُخَبَّأُ فِيْ قَصَائِدِنَا الْحَمِيْمَةِ،

-هَلْ تَرَانِيْ؟

-لاَ أرَى.

-أَ تَجِيْءُ مِنْ غَسَقِ الدُّجى؟

-إِنِّيْ أَجِيْءُ مِنَ الرُّؤَى.

-مَعَكَ الرٌّقَى؟

-لاَ شَيْءَ لَكْ!(1/52)

هذا الحوارُ الذي يدور بين الشاعر والوعد "المخبأ في قصائدنا الحميمة"، تنطلق من ركيزة شعرية مجازية إلى أنسنة الوعد، ومنحِهِ الطاقةَ التفاعليةَ المنتجةَ من قبل ديناميةِ الحوار، في سياق حضور مفردة القصائد، التي تشتبكُ مع الانبناء النصي بكل ما لديها من ممكنات محايثة لجنسها الأدبي، ومن ممكناتٍ تعالقيةٍ مع سياق البنية الضمنية، التي ركزت على هيمنتها في النواتج الدلالية بحدية بالغة، وعن طريق التعارضات الحدية بين المتحاورَينِ، الذي يستعرض الاختلاف الجوهري بينهما، ولقد ساهمت صيغةُ الاستفهام في تداعيات الحركةِ الدلاليةِ من صيغة السؤال وإجابتها المغايرة لتشكلها، ولقد أفصحتِ الإجاباتُ عن الفجوة بين الواقع وبين المتخيل، الذي حضر من أهم منطقة مؤثرة وهي الوعد، وهذه التفاعلات البنائية تبرز اهتمام الشاعر بالحديث عن الشعر من خلال الشعر ذاته، معتمدًا على طبيعته البنائية الانفعالية والتجاوزية الدالة. ولقد ساهم السؤال الخاص بكينونة الوعد، في تحديد ماهية الإبداع الشعري، فالسؤال كان يطرح مجيئه من غسق الدجى، أي من ضبابيةٍ غيرِ متعارفٍ عليها، وهو يتساوقُ مع مفهوم الإلهام الإبداعي، لكن الإجابة تأتي مغايرة، حيث طرحت الرؤى بدلا من المجهول أو الضبابية، وبالتالي تبرز رؤية الشاعر حول مفهوم الشعر، الذي ينبع من المفهوم الصوفي بكل ما يستدعيه من اشتراطات متقاربة لاشتراطاته، أي أن الرؤية الشعرية تتداخل مع الرؤية الصوفية في الإنتاج الشعري؛ لاعتمادهما على الحدس الجمالي، ولكن الصوفيةَ تتجه صوب المطلق، أما الشعر فيتجه صوب الحياة والشعور والمطلق أيضًا، بما يتناسب مع محدوديته الإجرائية في التعبير، ولا يعني هذا أنه محدود، وإنما محدوديتُه من حيث الجماليات الشعرية القارة في الشعر الحديث، وهذا يتعارض مع التجربة الصوفية التي تنطلق إلى المطلق وتتجرد من كل محدودية.

ويستفيض بعد المقطع السابق في تفاصيل أكثر بشمولية ودقة مائزتين ، ويكون التفاعل هنا الذي حوى المفارقة الشعرية والتغاير في إجابة سؤال دال في السياق النصي مؤثرًا :

يَا أَيُّهَا الْمَخْلُوْقُ مِنْ خَوْفِيْ؛ لِتَسْتُرَ بَوْحِيَ الرُّوْحِيَّ، ثُمَّ تَقُوْلُ

أَسْرَارِيْ بِلاَ خَجَلٍ أَمَامَ الْحَاضِرِيْنَ،

-أَلاَ تَعُوْدُ إِلَى بِلاَدِكَ؟

-لَنْ أَعُوْدَ سِوَى مَعَكْ!(1/52)

حيث يتحدث عن الوعد وعن خَلْقِه/ تكوينه، وتنتج المفارقة بين الدوال المتناقضة حول سرية وعلانية البوح الروحي، فيجد الشاعر أن هذا الوعدَ يفصحُ عن بوحه وأسراره؛ لذا يطلب منه العودة إلى بلاده، ولكن الإجـابة تأتي مغايرةً، فرغم التعارضات السـابقة تتبـدى دلالة "معك"-التي تعبر عن التلاحم الشديد بينهما بقيمته الدالة- بائنة المدلول، وتتساوق مع تكوينية الوعد من خوف الشاعر. وفي سياق الصوفية، التي تُنتجُ في بعض النصوص، تتبدى هنا بكل ممكناتها الأداتية، في إنتاج مقطع متشبع بالوعي الصوفي، الذي يشكل رؤية نصية مائزة، حول الرؤى التعبيرية والصوفية في سياق دلالي واحد، يبين عن مقدرة الشاعر في تجاور عالمين متماثلين نسبيًا، ويمثلان ركيزة هامة في وعيه الجمالي:

أَنَا نُوْرِيَّةُ التّعْبِيْرِ فِي تَعْبِيْرِ رُؤْيَايَ الْعَتِيْقَةِ. حِيْنَمَا أَبْصَرْتُ بَرْقًا لاَمِعًا حَاطَ اسْمِيَ الْمَذُكُوْرَ فِي كَشْفِ الرُّؤَى، وَتَبَتَّلَتْ حَوْلِيْ طُيُوفُ النُّوْرِ، ثُمَّ تَخَشَّعَتْ، قُلْتُ: ( ارْفَعِيْ رَأْسًا، وَلاَ تَخْشَيْ أَذَى)

يَا كَمْ رَأَيْتُ الْحُلْمَ، لَمْ أَعْقِدْ لَهُ حَلاًّ وَلاَ عَقْدًا، وَعِشْتُ كَمَا تَمَنَّتْ

لِي الْمَعِيْشَةُ دُوْنَ مَالٍ أَوْ فَرَحْ .

يَا كَمْ لَهَوْتُ مَعَ الصِّبَا، وَمَعَ الصَّبَا-فِي خَيَالِيْ- .

لَمْ أُصَدِّقْ تُهْمَةَ الشُّعَرَاءِ ،حَتَّى إِذْ وَقَعْتُ بِهَا، عَذَرْتُهُمُ اتِّبَاعًا

لِلْهَوَى.(1/57)

تتبدى النتاجاتُ الدلاليةُ الصوفيةُ في المقطوعة الشعرية، التي تتشبعُ وفقًا لمرجعياتها الصوفية المائزة بالحدسِ، الذي يتعمقُ في تشكل دلالة النص، فتتبدى آلياتُ التعبير الشعري متساوقة مع التجربة الرؤيوية الذاتانية، التي تنطلق منذ البداية بـ "نورية التعبير" في تعبير رؤيا الشاعر/ المتكلم؛ لتعكس العالمَ الصوفيَّ الذي يتسم بالكشف النوراني، ولا شك أن هذا الكشف يتبدى في المقولات التعبيرية؛ لذا حرصَ الشاعرُ على دمج النور والتعبير والرؤيا في سياق دلالي موحد، وهذا يتساوق مع المطارحات السابقة، التي اتسمتْ بتفاعليتِهَا البنائية وكليتها المرنة المعمقة.

وهو يقدم رؤيتَه حول التشكل الصوفي، بدوال مستمدة من المعجم الصوفي، إلى أن يصل إلى دمج الحلم في سياق الرؤية، وبذلك تتمحور العناصر الرؤيوية حول المرجعية الصوفية بكل ما تمثله من تمثلات حدسية. والحلم قاده إلى جبرية الواقعية، حيث يقر بجبرية المعيشة الساحقة، التي جردته من مال أو فرح، فيظهر النسق المضمر بالحزن والألم، كما يوظف التلاعب اللغوي باستدعاء ثلاث مفردات متقاربة صوتيًا ومختلفة دلاليًا "التشاكل الكلمي"، (الصِّبَا، الصَّبَا، الصَّبَايا)، وهذا الاستدعاءُ اللغوي المتعمد، يبين عن التنوع الأسلوبي في التشكل اللغوي، فالمرجعية اللغوية تتسق في خط استدعائها؛ لتبرزَ عمقَ التجربةِ الذاتيةِ، في اللهو مع الخيال، الذي ينقله بعد ذلك إلى الخيال الشعري الدال، حيث يقع فيما وقع فيه الشعراءُ من تهم حول الخيال الشعري الغريب.

وفي سياق الاندماج مع القصيدة كمفردةٍ لغويةٍ، تدور حول ممكناتها ومآثرها، في السياق النصي؛ فتبرز متفاعلةً مع عالم الشاعر الواقعي، بنفس التشكلات الوجدانية المتألمة السابقة، في إنتاج صور شعرية مكثفة، تتراوح نسبةُ كثافتِهَا وفقًا للتدفق الرؤيوي، الذي يقومُ بترسيماتِ النصِّ الحدوديةِ، بشكل متناغم بين البنى النصية:

"رِيلْكَهْ" يُعَلِّمُنِي الْقَصِيْدَةَ فِيْ ثَنِيَّاتِ الْجَمَالْ.

تَتَعَثَّرُ الْغُرْبَاتُ فِيَّ.. تَضِلُّ مِنْ فَرْطِ احْتِفَائِيْ بِالصَّدَى.

إِنِّي ابْتَدَعْتُ الشِّعْرَ

يَوْمَ تَوَلَّدَتْ هَذِي الْبَسَاتِيْنُ الْحَبِيْبَةُ مِنْ يَدِيْ.

وَقَرَأْتُ كَفَّ نَخِيْلَهَا، وَغَمَامِهَا.

وَزَعَمْتُ أَنَّ الْغَيْثَ- كُلَّ الْغَيْثِ- أَسْرَارِي الْحَمِيْمَةُ فِي الْوَرَى.

وَابْتَعْتُ لِلأَيَّامِ لَحْنَ طُفُوْلَةِ الأَلْوَانِ.

أَعْزِفُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ بُحَيْرَاتِ الْبَجَعْ/ وَحْيِ الْوَجَعْ(1/59)

وهنا يستحضر الشاعرَ العالميَّ الألماني البوهيمي ريلكه، الذي يستدعي معه ما يتعلق به من أثر دال ، وهو تعليمه القصيدة من خلال مضمرات الجمال، وهذا يتسق مع التجربة الشعرية التي قدمها ريلكه، وهذه الإشارةُ الهامةُ إلى كيفية تكوّن القصيدة، تعكس رؤية الشاعر أحمد عايد الجمالية نحو القصيدة، والذي يفصح من خلالها في السطر التالي عن معاناته مع الغربة الذاتية التي تكاثرتْ في صيغة جمع المؤنث السالم "الغربات"، والتي تضلُّ بسبب الاحتفاء الشديد بالصدى/ صدى القصيدة، وهنا تبرزُ الصراعاتُ بين المعاناة الذاتية والاحتفاء بالقيم الشعرية الجمالية، ولكن رغم هذه الصراعات الداخلية، يتعمق في تفاصيل الشعر، لكن بصور مجازية مكثفة، تحدد وعيَهُ الشعري بدقة، وهو يمزجُ بين المتخيل والواقعي في سياق مجازي دال، بحركيةٍ دالةٍ أيضًا؛ بسبب تتابع الجمل الفعلية، والتي تنوعت بين الماضي والمضارع، عن طريق خاصية الالتفات، وهذه التفاعلات البنائية اللغوية والمجازية، بتراكيبها المتنوعة والمتسقة، أنتجت بنية النص المضمرة، التي تسير في خط التجربة الشعرية الرؤيوي، بما تمثله من خصوصيةٍ دالةٍ في ترابطات القدرات الدلالية لهذه التجربة.

وفي هذا السياق الرؤيوي، الذي يبرز مكوناتِ اللغة الشعرية، التي تتجاوز إجرائيةَ التعبير الرومنطيقي إلى إجرائيةِ الجمالي الواقعي، وفي هذا النص الطويل، يفصح عن الكثير من خصوصيات الرؤية والتجربة، التي جاءت في سياق واحد ممتد، عبرت عنه المدارات الرئيسة، والتي برزت بحسها الانفعالي الحزين، الذي يعكسُ حجم المعاناة الذاتية، التي تمتد في التجربة كلها وصانعة لكل تفاصيلها، بنفس تشكلاتها المساقية ومستواها الأدائي:

"أَنَا" .،لِيْ. :

دَمْعَتَانِ، وَسَوْطُ مَنْ شَقُّواْ رِدَائِيْ، وَاسْتَسَاغُواْ حُرْقَتِي،

وَاسْتَحْقَرُواْ قَلَمِيْ.

لَكَمْ كُنْتُ الرَّحِيْمَ بِهِمْ، وَلَكِنْ زَادَهُمْ عَفْوِيْ هِيَاجًا؛ فَاسْتَعَادُواْ

مِحْنَتِيْ.

أَطلَقْتُ نَفْسِيْ؛

كَيْ أَعِيْشَ حَمَامَةً؛ تَرْقَى إِلَى الأَنْوَارِ.

جِئْتُ مُلَطَّخًا بِدَمِ السُّكُوْتِ، مُجَنَّحًا بِالشِّعْرِ.

قَدْ غَنّيْتُ أَوَّلَ فِتْنَةٍ:

فَتَسَاقَطَتْ تِلْكَ السُّحُبْ،

وَتَفَطَّرَتْ تِلْكَ الْحُجُبْ.(1/62)

إن الشاعر في تجربته، يستدعي غالبًا ذاتَهُ الشاعرةَ، فيتحدثُ عن معاناتِهِ الذاتيةِ بوصفِهِ شاعرًا، وهذا الاستدعاءُ أو التوظيفُ الدالُّ لشعريته، يبرز عن أهمية الشعر في حياته، والذي يتلاحم معها – حياته- في كل تفاصيلها؛ لذا حين ينتجُ المعاناة الذاتية في النص، يتبعه بالتلاحم الشعري في سياق واحد ممتد في التجربة كلها؛ لذا تجيء اللغة الشعرية مدركة لهذه العلاقة الدينامية المائزة، ومن ثم تكون نتاجاتُهَا الدلاليةُ مولَدة وموِّلدة في نفس الوقت.

تبرزُ المعاناةُ الذاتيةُ في بداية المقطع أو المقطعين، في دلالتين مائزتين "دمعتان، سوط" وهما يعبرانِ بدقةٍ عن ألمه ومن تسبب في نشوئه، كما أن دلالة سوط التي هي أداة الآخرين المعادين له/ القمع، وقد تتعدد مرجعيتها الدالة إلى التعذيب بوضعه المادي، ولكن السياق الانفعالي تمادى في هذا المضمار الإيحائي، حول التعبير عن فرديته، والتي تتسم بالرحمة  والحِلم والعفو، مع الآخرين الذين يتسببون في تخلق محنته، مستغلين سلطتهم وتكاثرهم، وهذا المقطع الأول قاد إلى تشكل المقطع الثاني كرد فعل له، ولكن يكون رده على محنته الواقعية شعريًا، ولا يعني هذا التعبير عنه بالشعر، بقدر الاتساق مع توجهه التخييلي الشعري، فهو شاعر يرد على الواقع بإجراءات الشعر التعبيرية والبلاغية، ليس بوصفه إنسانًا بل بوصفه شاعرًا، كما وضحنا سابقًا.

وفي المقطع الثاني يتبدى فعل أطلقتُ بما يحمله من حماسة وتهور، كرد فعل على محنته الواقعية، والتي تقترب من الفعل التخييلي في الصورة المجازية الدالة، وتتبدى دلالة حمامة في هذه الصورة ملائمة لسياق التجربة الشعرية، ومتفهمة لمدركات الواقع في نفس الوقت، كما أن الترقي إلى الأنوار، والذي يعكس معه الحس الصوفي، يجمع بين السياقين الشعري والصوفي، الشعري في تحليق الحمامة، والصوفي في الترقي إلى الأنوار.

لكن هذا الطرح لا يتساوق مع جبرية الواقع؛ لذا تشكل دلالة جئتُ والتي تعني هنا العودة إلى الواقع، تغييرًا حادا في طموح الشاعر، فمجيئُه ملطخًا بدم السكوت، والذي يعبر بدلالاته المكثفة الدالة على القمع، فالسكوتُ يتناقض مع الشعر/ البوح، كما أن دلالةَ دم عبرت باقتدار عن مدى القمع وهيمنته بمرجعيته العلاماتية والثقافية الدالة. وليسَ هذا فقط، بل (مجنحا بالشعر)، ومن ثم تتبدى جبريةُ الواقعِ في أساليبها المتعددة لقمع طموحات ورؤى الشاعر، وهذا ما ساقه إلى نتاج ختام المقطوعة المشحون بالنبرة المؤلمة والموحية.

ولذا يعترف بعجزه وامتلائه بالبوح:

أَنَا لَمْ أَجِدْ حَلاًّ لِهَذَا الأَمْرِ

وَامْتَلأَتْ قِرَابُ الْبَوْحِ

وَازْدَحَمَ الْكَلِمْ

فَتَرَكْتُ هَذَا الشِّعْرَ

يَغْتَابُ المَدَى!(1/70)

وختامُ المقطع – وهو ختام نص "سردية" – يرمز إلى مدى المعاناة، كما يكشف عن الدور الشعري في اغتياب المدى، وهذا الاغتيابُ هو أضعفُ مواجهةٍ للمدى المهيب، ويتساوق مع فردية الذات، التي لا تستطيع المواجهة المباشرة وتغيير الواقع، ودلالة المدى هنا تتعمق في حجم الواقع، وربما تكونُ بسطحيتِهَا اللغويةِ معبرةً عنِ المدى المتسع، والذي يوازيه في اتساعه الشعر؛ لأنه يمتلكُ أدواتٍ موسعةً تخييليةً، تجعل من النص مدى ضمنيًّا، وهذا المدى الضمني يحوي العالم/ الحياة. وتعددية التأويل في هذا النتاج الشعري، ينم عن تعددية التعبير اللغوي/ الشعري، فاللغة – لمرونتها التفاعلية الشديدة- تنتج علاقات جديدة على الدوام في نطاق التجديد المرجعي، وتتبدى مرونتها أكثر في النصوص الشعرية؛ لأنها تنشأ عن العلاقات الجديدة اللغوية، ومن ثم ليستْ هناك مرجعيةٌ محددةٌ للدلالة اللغوية، ولكن التأويل يحاول أن يقترب من المرجعية الأدق للدلالة اللغوية، من خلال اتساقها النصي  ببنياته المتجاورة والمتجاوزة.

ولقد أفصح عن علاقته بالشعر قائلا:

إِنِّيْ رَهِيْنُ الشِّعْرِ. لاَ أَرْضَى لَهُ بَدَلاً، وَلاَ أَدْرِيْ لَهُ شَبَهًا.

لَكَمْ أَسْمَعْتَ يَا شِعْرِيْ. وَلَمْ أَعْثُرْ عَلَى نِدٍّ يُشَابِهُ طُهْرَكَ الْعَالِيْ.(1/63)

هذه الرؤية التي تتمادى في السياق العلائقي مع الشعر الذي لا بديلَ له، تأتي بفرادتِهَا العلائقية، والتي تعكسها على الشعر بشكل عام، وعلى التجربةِ الشعريةِ بشكل خاص، فالفعل الإبداعي يتسم بالفرادة التخييلية، كما أن الشاعرَ حين يتحدث عن الشعر، يمنحه الفرادة الخاصة به/ طهرك العالي، والطهر العالي تتساوق مع رؤيته الجمالية التعبيرية، والتي ترمز هنا إلى الصدق الفني والنقاء الخالص/ البياض، والتي قد تتداخل مع التطهير الأفلاطوني.

وتمتد هذه الرؤية في نص "الشخص الغريب يعبر النقطة الثالثة والعشرين"، والذي كتبه الشاعر بمناسبة عيد مولده الثالث والعشرين، وهو يتصورُ الملاكَ يأخذه إلى الفراديس، والذي يعرض عليه نِعَمَ الفراديسِ التي لا تنتهي، لكنه شاعرٌ يجنح إلى الشعر، وهذا التصورُ تشكلَ في هيئة حوار:

-إِلَى أَيْنَ تَأْخُذُنِيْ يَا مَلاَكِيْ؟

-لِهَذِي الْفَرَادِيْسِ

-مَاذَا هُنَاكَ؟

-هُنَاكَ الـ هُنَاكَ

هُنَاكَ الْخُلُوْدُ/ الْهَنَاءُ/ الرِّوَاءُ/ السَّعَادَةُ..

-مَاذَا هُنَاكَ؟

-النِّسَاءُ/ الْبَهَاءُ/ الضِّيَاءُ/ اللِّقَاءُ/ الْغِنَاءُ..

-وَمَاذَا هُنَاكَ؟

-أَلاَ تَكْتَفِيْ؟

-لاَ.

-فَمَاذَا تُرِيْدُ ؟

-أُرِيْدُ الْقَصِيْدَةَ!

-فِيْهَا الَّذِيْ قَدْ تَشَاءُ.(1/95،94)

هذه الحوارية التي تنوعت بين النثرية والشعرية، وغلبت على ملفوظـاتِهَا اللغويةِ التقريريةُ 

- لكن الشاعر ارتكز على التشاكل الكلمي في تشريح نعم الفراديس- تعبر عن السياق العلائقي مع القصيدة، حتى في العالم الآخر.

كما يطرح سياقَ الشعر/ الحياة، بنفس الطروحات التشكيلية السابقة:

بَسِيْطٌ هُوَ الشِّعْرُ، لَكِنَّهُ مُؤْلِمٌ..

مُؤْلِمٌ كَالْحَيَاةِ..

وَلاَ شَيْءَ مِثْلُ الْحَيَاةِ كَجُرْحٍ عَمِيْقٍ(1/83)

وفي هذا السياق في نص "اعتذارات متأخرة"، ينتج العلائق التفاعلية بينهما مبرزًا القيمة الفعلية لكل علاقة على حدة، فتتوازى العلائقُ في نسق واحد يعبر عن التضافر الكلي لها:

عُذْرًا وَعُذْرًا لِلْحَيَاةِ؛

لأَنَّنِيْ أَتْعَبْتُهَا بِقَصَائِديْ.

عُذْرًا لِهَذَا الشِّعْرِ؛

قَدْ دَوَّنْتُ فِيْهِ مَوَاجِعِيْ.

شُكْرًا لِهَذَا الشِّعْرِ؛

إِذْ أَطْلَقْتُ فِيْهِ مَعَاذِرِيْ.(1/129)

بونٌ شاسعٌ بين العذر والشكر، فتتبدى اللغةُ الشعريةُ بكل طاقاتها التعبيرية، في تشكل الرؤية الفنية بدقة، والدقة تحتاج إلى وعي لغوي مدرك لكل الدقائق اللغوية المتمثلة في جسد النص؛ حتى يكونَ المعنى النصي متسقًا في طرحه.

الحياةُ هي التي تنتج الشعر، كما بينت الرؤية السابقة في دلالة "مواجعي"، وهذه الدلالة المركزية في البنى الضمنية للنصوص الشعرية، ساهمت بطابعها الانفعالي/ الرؤيوي، في تخلق جدليات موسعة حول القيم المفاهيمية في الشعر والحياة، وكأن الشاعر من خلال الشعر يكتشف الحياة، ومن خلال الحياة يكتشفُ الشعرَ؛ لذا جاءتِ الرؤى الشعرية مثقلة بهذه الجدليات في التوتر الداخلي للانبناء النصي، المشحون بالتجربة الوجدانية الذاتية، مرتكزًا على مرونة اللغة في التشكل الجمالي، فاللغةُ بما تحتويه من إشارات دالة وتحايلات تتبدى في اللعبة اللغوية، كما ذكرنا سابقًا، ففي نص "الشخص الغريب يعبر النقطة الثالثة والعشرين"، وفي سياق الغربة التي تتساوق مع بنية العنوان، يطرحُ رؤيةً مائزةً حول الجبرية التي يعانيها، والتي تجعله يشعر بالغربة:

غَرِيْبٌ عَلَى ضِفَّةِ الْكَوْنِ أَمْشِيْ

كَمَا قَدْ يَشَاءُ/ كَمَا لاَ أَشَاءُ

كَمَا لاَ يَشَاءُ/ كَمَا قَدْ أَشَاءُ(1/83)

وهنا يتلاعب الشاعر باللغة الشعرية، التي توضح للمتلقي مدى الاضطراب الناجم عن معاناة الغربة، في تفجير مساق الجبرية، والتي تنتهي بالحرف قد الذي يفيد الاحتمال في تحققِ الحرية الذاتية في تخلق/ تشيؤ عالمه المنشود:

أَشَاءُ الْخُلُوْدَ/ الْقَصِيْدَةَ دَهْرًا/ وَحُبًّا فَرِيْدًا/ وَطَيْفَ ابْتِسَامٍ عَلَى شَفَةِ النَّايِ/ عَزْفَ السَّمَاءِ/ وَلَحْنَ الضِّيَاءِ/ وَشَيْئًا جَمِيْلاً بِغَيْرِ انْتِهَاءِ(1/83)  

كما يرتكز على التشريح أو التعدد التفصيلي، في إنتاج صورة شعرية ممتدة، في سياق الوداع، فهو يودع عالمه، فالاحتفاء بعيد مولده قاده إلى تصور النقيض/ الموت، كما أن الحياة المؤلمة تدفعه إلى ذلك أيضًا، يقول في سياق ممتد:

لِسَقْفِ الْخَيَالِ...

لِنَجْمِي الْبَعِيْدِ، لِقَلْبِي الْفَرِيْدِ.

لِعَيْنِ السَّمَاءِ، لِمَوْجِ الضِّيَاءِ.

لِمَقْهَى الْمَسَاءِ، حُدُوْدِ الدِّمَاءِ.

لِطَيْفٍ شَرُوْدٍ، لِنَوْمٍ طَرِيْدٍ.

لِصُبْحِي الْجَمِيْلِ، لِلَيْلِي الطَّوِيْلِ.

لِبَيْتِي الْبَسِيْطِ، لِحُبِّي اللَّقِيْطِ.

لِفَجْرِي النَّبِيِّ، لِصَحْبِي الْوَلِيِّ.

لِلَوْنِ الْغَمَامِ، حَمَامِ السَّلاَمِ.

لِسَطْحِ الْبُيُوْتِ، لِلَحْنِ السُّكُوْتِ.

لِسَطْوِ الْمَمَاتِ، لِكُلِّ الْحَيَاةِ.

لِشِعْرِي، لِنَثْرِي، لِشَكْلِيَ، لاسْمِيْ، لِهَمْسِي، لِصَحْبِيْ، لأَهْلِيْ، لِنَفْسِيْ،

لَكُمْ، لِيْ...

أَقُوْلُ: وَدَاعًا.. وَدَاعًا.(1/98)

وفي السياق الرؤيوي ذاته، يعتمد على ممكنات التشكل الطباعي في تخليق صورة بصرية موازية للبنية الضمنية:

دَعِيْنِيْ أَمُوْتُ إِذَنْ يَا حَيَاةُ

دَعِيْنِي إِذَنْ يَا حَيَاةُ

دَعِيْنِيْ أَمُوْتُ

دَعِيْنِيْ

!(1/99)

هذا التشكلُ الطباعيُّ الذي يحوي التشكلَ اللغويَّ، يعبرُ عن المعاناة الذاتية للشاعر من الحياة، وتكرار دلالة "دعيني" تشكل عمق المعاناة، التي بدأتْ في التشكل الطباعي تأخذ طابَعًا مائزًا بوصولِهَا إلى علامة التعجب، ومن الطبيعي أن تأتي علامةُ التعجب في هذا السياق، فرغم أن الشاعر يحتفل بعيد مولده، تقوده الحياةُ إلى طلب الموت، هروبًا مما تحويه من آلام تغاير عالمه المنشود؛ لذا يطرح رؤيته حول نفسه المحاطة بالجبـرية في نصه "اعتذارات متأخرة" وهو نص مشحون بالاعتذارات - والنص يعكس معه الفعل التجريبي في تشكله -:

عُذْرًا لِنَفْسِيْ

لَمْ أُرَتِّبْ مَوْلِدِيْ.

عُذْرًا لِنَفْسِيْ

لَمْ يَكُنْ بِيَدِيْ سِوَى هَذَا الِّذِيْ أَرَّخْتُهُ.(1/127)

يقرُّ الشاعرُ بالذي أرخه/ الشعر، في التعبير عن معاناته الذاتية. والجبريةُ تنتجُ الغربةَ، كما وضحنا سابقًا، وفي نص "أعني هنا بالضبط" يصوغُ ملامحَ الجبريةِ بما تحمله من قيم سلطوية، معتمدًا على الجمل الفعلية التي تنتج الملامح بمشهدية متأثرة بالقص السردي، الذي يعتمد على جماليات التفاصيل الدقيقة في البناء النصي:

(1)

هُنا..

أعني هُنا بالضَّبْطِ

كان أبي يُؤسِّسُ غُربتي في الكونِ

أُمِّي شاركتْ في جولةِ الإعدادِ لي

واللهُ كان يُرتِّبُ الأحداثَ

كنتُ أنا أُواصلُ دهشتي

أنمو على حبلٍ رفيعٍ مِنْ دَمِ الأُمِّ

انتفضْتُ

وكانتِ الدُّنيا تُراقبُ طلعتي فرحًا.(1/107)

وفي هذه المقطوعة الشعرية المائزة، التي تعكس الألم الذاتي بدقة، مشيرة إلى مرحلة خَلْقِ الشاعر، التي جاءت في سياق مدهش، فالأب يؤسس غربته –الشاعر-  في الكون والأم شاركتْ في جولة الإعداد والاستقبال له، والله كان يقوم بالرعاية اللازمة للخروج إلى الحياة، أما الشاعر فيواصل دهشته، وتأتي دلالة "انتفضتُ" والتي قد تدل على خروجه إلى الحياة، والمغاير في هذا التصور، هو ترقب الدنيا إلى خروجه للحياة فرحًا، رغم الغربة التي أعدها الوالد والجبرية/ القدرية المعدة، فغياب علامة التعجب في السطر الأخير، تدلُّ على مدى الألم الذاتي الذي جاء في أشد السياقات الجوهرية التي يعانيها الإنسان المعاصر عامة، والشاعر خاصة، هكذا تتشكلُ اللغةُ الشعريةُ عن طريق ممكناتها التعبيرية وأبنيتها الأثيرة لدى الشاعر، وتنتج تجربتَه الواقعية الذاتية، بحمولاتها السوسيولوجية والأنطولوجية والسيكولوجية والمعرفية المتاخمة في بنية الرؤية الفنية.

 

الهوامش

  1. رماد أخضر، شعر، أحمد عايد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2014.
  2. ترتكز الدراسة على المعطيات السياقية، من خلال المعطيات اللغوية والمعطيات البنائية الأخرى؛ لدمج التفاعلات البنائية والتي تتسق مع جوهرية اللغة في تفاعلها الحيوي؛ لاكتشاف التصورات الكلية للنصوص الشعرية/ التجربة الشعرية، وهي بذلك تنطلق من وإلى اللغة الشعرية.
  3. وأنساق التقابل والتماثل توازي بنية الدلالة، كما يطرح الدكتور محمد عبد المطلب: "والدراسة النصية لأنساق التقابل والتماثل تتقصى الأبنية اللغوية التي تشكلت كحصيلة للتفاعلات والتوترات بين الواقع وبين رؤية الشاعر الخاصة، فهناك انطباع يختزنه العقل عن العالم، وكلما ابتعث الشاعر هذا الانطباع أدى ذلك إلى مسلك لغوي ذي خواص مميزة ربما كان التقابل أبرز نتائجه، وهذا التقابل يشكل أنساقًا تكون أعمق من الدلالة السريعة التي يمكن أن تطفو على سطح الخطاب الأدبي، وهذه الأنساق تمثل بنية موازية – من حيث البناء اللغوي- لبنية الدلالة ".

في كتابه بناء الأسلوب في شعر الحداثة، دار المعارف، الطبعة الثانية 1995 م، ص 147.

(4) بناء لغة الشعر، جون كوين، ترجمة الدكتور أحمد درويش، دار المعارف الطبعة الثالثة 1993م، ص 34،33.

(5) راجع في ذلك: السياق والنص الشعري، علي آيت أوشان، دار الثقافة، الدار                                                                                                                                   البيضاء، الطبعة الأولى 2000 م، ص 40- 43.