يشهد العالمُ العربي قدوم خيالة الفناء الأربعة التي ورد ذكرها في سِفِر الرؤيا، وهى الغزو والحرب والمجاعة والموت. والسؤال هو من الذي جلبها إلى إحدى أكثر المناطق ثراءً في العالم؟ بفرض حدود مصطنَعة، ومساندة الرجعية، والنظم الفاسدة والجائرة، وشنّ حروب عدوانية، وفرض عقوبات إبادية، يبدو أنّ الغرب* هو المسئول.
لا ريب أنّ للعالم العربي مشكلاته الداخلية المعقّدة التي لا يمكن إيعازها للغير. كما أنّ حلّها غير ممكن ما لم يُوقف الغرب تدخّله العدواني. لم يعرف العراق قبل الحرب غير الشرعية التي شُنّت عليه سنة 2003 جماعاتٍ إرهابية على شاكلة تنظيم الدولة في العراق والشام (داعش) عدا فصيل يسمَّى أنصار الإسلام اتّخذ من المناطق الكردية شماليّ البلاد مقرّاً له. تمتّع هذا الفصيل بملاذ آمن (منطقة الحظر الجوّي) فرضته الولايات المتّحدة وبريطانيا بعد حرب عام 1991. أصبح العراق بعد تلك الحرب دولةً فاشلة ومركزاً للإرهاب. فها هي داعش تسيطر على أجزاء من العراق وذلك عائد أساساً إلى التشرذم الذي أوجدته السياسات الطائفية التي انتُهجت منذ الغزو.
من الواضح أنّ تجريد العراق من هُويته العربية، وبذلك حرمانه من تراثه الموحد، كان أحد الأهداف الرئيسة للاحتلال. فقد أصدر قانوناً يحظر تعريفَ العراق بأنه جزء من الأمّة العربية (المادّة 7 أ من قانون الإدارة الانتقالية لسنة 2004). وبتطبيق مبدأ "فرِّقْ تسُدْ"، أرغم الغزاةُ العراقيين على تحويل ولائهم من وطنهم إلى طائفتهم. أضحت العروبة تهمة بعد أن كانت هُوية ووساماً. وقد أدت هذه السياسة الحمقاء إلى إشعال الحرائق الطائفية في مناطق أخرى في العالم العربي.
كانت بغداد مدينة نابضة بالحياة ومتآلفة منذ تأسيسها سنة 765 كعاصمة للدولة العباسية بلغت روعتها إلى حدّ أن البروفسور "فيليب حتّي" خصص فصلاً في كتابه "العرب" بعنوان "المجد الذي كان بغداد". وجد فيها "بيت الحكمة" وهو مركز تفوّق للتعليم والتقدّم العلمي في القرون الوسطى و الذى اعتُبر أول جامعة في العالم. وصف العالم الأنثروبولوجي والمؤلّف "روبرت بريفولت" إسهامات علمائها في نهضة أوروبا عندما كتب "الراجح إلى حدّ بعيد أنه لولا العرب ما كانت الحضارة الأوروبية لتنهض على الإطلاق". ومن سخريات القدر أن بعض المتعصّبين في الغرب يتّهمون الإسلام بالبربرية، حينما يعود الفضل للمسلمين في إنقاذ أوروبا من البربرية في العصور الوسطى.! كيف يردّ الغربُ الجميل؟ بمحاولة سلخ بغداد عن تراثها العربي الذي يمتدّ قروناً واختزالها بمدينة بائسة مقسمة بكتل خرسانية بشعة إلى بؤر طائفية. واكتمل ردّ الجميل بتيسير وصول تشكيلة من شخصيات وضيعة و"وشاة محلّيين" إلى السلطة، كفاءتهم الوحيدة هى قدرتهم على نشر الطائفية و الفساد.
ومن المأساة أن العراق ذلك البلد الغنى فى حضارته وموارده وكرمه والذى وفر، بدون أى مَنٍ، لملايين من الأشقاء العرب فرص عمل للإسهام في تنميته و تطويره، اصبح مواطنوه الآن يهجرونه بالملايين هرباً ممّا خلقه الاحتلال من عنف وقهر وفساد وشرذمة.
جيش العراق حله المحتلّ. ذلك الجيش الباسل الذى حمى دمشق وقصفت نسوره العدو في سيناء أثناء حرب تشرين/ أكتوبر المجيدة ودكت صواريخه الأعداء. المضحك المبكى أن الجيش الجديد الذى أسس بعد الاحتلال وكلف مليارات الدولارات لا يستطيع حتى أن يذود عن مدنه عصابات مارقة.
تحقق تأثير الدومينو الموعود، ولكن عوضاً عن الديمقراطية، اكتسحت موجةُ تسونامى من الإرهاب والطائفية العالمَ العربي بفعل زلزال حرب العراق. أقامت داعش والجماعات المشابهة لها مواطئ قدم قوية لها ليس فقط في العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا وإنما على امتداد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكما بيّنت صحيفة الغارديان، يصف تقرير استخباري أمريكي أُعدّ في آب/ أغسطس 2012 ورُفعت عنه السرّية الجماعاتِ المشابهة لداعش بأنها "قوى رئيسة تحرّك التمرّد (على النظام) في سوريا". ويذكر التقرير أنّ "دولاً غربية ودول الخليج وتركيا" تساند جهود المتمرّدين للسيطرة على شرقيّ سوريا. وبذلك، لا يهيّئ الغربُ البيئةَ التي يترعرع فيها الإرهاب وحسب، بل ويدعمه مادياً أيضاً.
الحديث عن مساعدات يقدّمها الغرب لجماعات على شاكلة داعش ليس جديداً. وكما قال الصحفي المتألق جون بيلغِر، "دُرّب أكثر من مائة ألف إسلامي مسلّح في باكستان بين عامي 1986 و1992 في معسكرات أشرفت عليها وكالةُ الاستخبارات المركزية والأم آي سكس (الاستخبارات العسكرية البريطانية). ودُرّب قادتهم في معسكر لوكالة الاستخبارات المركزية بولاية فرجينيا في إطار عملية اسمها سيكْلون". بل إنّ ريتشارد مورفي، المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي والسفير السابق لبلاده في السعودية، اضطُرّ إلى الإقرار بذلك قائلاً "لقد أوجدنا وحشاً".
إنّ الغرب أيضاً يشجّع على نمو الإرهاب باتباعه سياسة أنانية نفعية خطرة تقوم على مساندة نظم قمعية و رجعية ، فهو لم يتخلّ عن دعم آل سعود على الرغم من مذهبهم الوهّابي، الإقصائي المتخلف والذى تشاركهم داعش في اعتناقه. وكما يؤكّد البروفسور نعوم تشومسْكي، "لطالما ساندت الولايات المتّحدة الحركاتِ الإسلامية الأصولية المتطرّفة ولا تزال كذلك. وأقدم حلفاء الولايات المتّحدة في العالم العربي وأكثرهم قيمة المملكة العربية السعودية هي الدولة الأصولية الأكثر تطرّفاً أيضاً".
ويقول باتريك كوكْبورْن، المؤلّف والمراسل المخضرم، "الحلف الوثيق مع الولايات المتّحدة السبب الرئيس لصمود الحكم الملكي السعودي في وجه هذه التحدّيات القومية (العربية) والاشتراكية منذ ثلاثينات القرن الماضي". تسنّى الصمود في وجه التحدّيات بقمع أيّ حركة إصلاحية أكانت وحدوية عربية أم ديمقراطية أم ليبرالية أم اشتراكية أم نسوية ، مما أدى إلى نشوء فراغ ملأته جماعات دينية عقيمة.
رأت النظم العربية الرجعية المتحالفة مع الغرب في حركة الوحدة العربية، وهي حركة شعبية تقدّمية تناضل من أجل الوحدة والعدالة الاجتماعية والحرّية في وجه الانقسام والطائفية والفساد والاستبداد، تهديداً وجودياً. وهذا العداء شاطرهم إياه الغربُ الذي رأى في الحركة الوحدوية خطراً يهدّد مصالحه الجيوسياسية، وفي مقدّمها النفط. لذلك، نشأ حلف خبيث بين الغرب و أنظمة متخلفة لمحاربة الاندفاع العروبي الذى كان بطله الرئيسُ عبد الناصر في خمسينات وستّينات القرن الماضي.
لصد المد الوحدوي العارم نزلت قوات المشاة البحرية الأمريكية في لبنان وقوات بريطانية في الأردن عام 1958. وبالإضافة إلى محاولة اغتيال عبد الناصر بتدبير من آل سعود أيضاً في سنة 1958، شنّ الغربُ ووكيلته إسرائيل حربَين على مصر عبد الناصر أولاهما في سنة 1956 والثانية في سنة 1967. لقد استُخدمت كل الوسائل لمنع الحركة الوحدوية من تحويل العالم العربي إلى كيان عصري حر موحَّد مهيب الجانب مؤمِنٍ بالمساواة.
يبدو أن عداء الغرب للوحدة العربية عميق الجذور وموغل في القِدم. أحد تجلّيات هذا العداء كان خيانة الغرب لوعد قطعه أثناء الحرب العالمية الأولى بمساندة إقامة دولة موحَّدة للمناطق العربية التي كانت جزءاً من السلطنة العثمانية. وعوضاً عن الوفاء بذلك الوعد، أتفق الوزيرُ البريطاني سايكْس والدبلوماسي الفرنسي بيكو سراً و خبثاً بتقسيم الأراضي العربية إلى مستعمرات لهم ذات حدود مصطنَعة. كان هذا البناء الاستعماري في نظر العرب "تعبيراً سرطانياً سمّم حياتهم" على حدّ تعبير روبِرت فيسك المراسل والمؤلّف المشهور.
لماذا لا يستسيغ من أسّسوا الولايات المتّحدة الأمريكية والاتّحاد الأوروبي، رغم تنوّع لغاتهم وثقافاتهم، سعيَ شعوب تتقاسم لغةً وتراثاً ومصيراً واحداً لتشكيل وحدة عربية؟ ألن تكون مشاطرة هؤلاء تجاربهم وتقديم النصح لهم عوضاً عن وضع العراقيل أمامهم أكثر نفعاً وجدوى؟
يتجسّد تعصّب وعداء الغرب أيضاً بشكل وقح وسافر في ما قاله تشرتشل عن الفلسطينيين: "أنا لا أعتقد أنّ الكلب يملك الحقّ النهائي في الحظيرة حتى وإن لبث فيها مدّة طويلة. أنا لا أعترف بهذا الحقّ. أنا لا أعترف مثلاً بأنه ارتُكب خطأ جسيما في حقّ الهنود الحمر في أمريكا أو الشعب الأسود في أستراليا. أنا لا أعترف بأن خطأً ارتُكب في حقّ هذه الشعوب لأنّ عِرقاً أقوى وأرقى وأحكم إذا جاز التعبير، قدِم إلى مكانهم وانتزعه منهم".
كشفت الحوادث أنّ الغرب أخطأ في حساباته بانتهاجه سياسات غير أخلاقية تحقيقاً لمصالح محدودة قصيرة الأجل عوضاً عن اتخاذ سياسات مبدئية تعود بمنافع أعمّ طويلة الأمد. لو أنّ الغرب تمتّع ببعد نظر استراتيجي ولم يمنع الحركة الوحدوية من تحقيق أهدافها ، يمكن القول بأنه ما كانت ستندلع حروب، وما كان سيبرز إرهاب، وما كان سيفنى ملايين الناس وتُنهَب تريليونات الدولارات ويظهر خيالة الفناء الأربع. وحدها شركات الأسلحة و الدمار الغربية التي كانت ستعاني.
يُخبرنا التاريخ أيضاً أنه لا يمكن للعنف أن يجلب سلاماً مستديماً، بل إنه في الواقع مشكلة ينبغي حلّها وليس منافسة ينبغي الفوز فيها. وما لم يحول مستنقعُ الغضب إلى واحةِ هدوء، فلن يمكن القضاء على مخلوقاته السامّة. لتحويل هذا المستنقع إلى واحة، على الغرب أن يعترف بالإرث المأساوي الذي خلّفه في العالم العربى. وهذا يتطلب اعتذاره عن جرائم ارتكبها، ومحاكمة مرتكبيها، وتعويض ضحاياها والتوقف عن مساندة النظم الاستبدادية والفاسدة، والتعامل مع الشعوب العربية باحترام وإيجابية، والأهم من ذلك كلّه إرجاع للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة بما فيه حقه بالعودة إلى وطنه. لا شك أنها مطالب صعبة ، لكن خيالة الفناء على الأبواب.
خروج العالم العربي من محنته يكمن في وحدته. هل كان صلاح الدِّين، وهو كردي من العراق، سيفلح في تحرير القدس من دون مساندة العرب المسيحيين وجيش موحَّد من الإقليمين الشمالى (سوريا) و الجنوبى (مصر) ؟
* يشير مصطلح "الغرب" بصورة خاصّة إلى دعاة الحرب الغربيين سواء صنّاع القرار السياسي أو صنّاع الرأي ، علماً أنّ هناك ملايين من الغربيين من المتنوِّرين ومُحبّي السلام.