يصعب على النقد أن يكون كامل التجلِّي في حضرة الشعر، لذلك لـنَعْقِـد للشعر في البدء كل الحضور ولنُـسافِـرْ في عمق النـقــد عبر خـطاب الشعـر وجسد القصيد العربي.
غـزَل دون مقدمة:
في البدء سنتنصل من الانزياحات ونفرُّ من المجازات، ونترك اللغة الاستعارية جانبا، إلى حين. سنتخفَّف قدر الإمكان من كل غموض الرموز وكثافة الأساطير وأثقال المحكيات الشفهية. سننسى لبرهة من الزمن، زمن هذا المفتتح وليس زمن النص الذي أشارككم تشييده بغواية الشعر.. لننس سحر الإيحاء وبلاغة التكثيف وإغراء الكناية.. لننس إشراق المعنى وحلول الصور.. لننس التـداعـيات والأحـلام والأطياف.. لننس الطباقات والمفارقات والمعارضات الساخرة.. ولنتساءل ببراءة الذئب من دم ليلى الطفلة وليس من دم يوسف النبي، ما الذي يتبقّى للشعر؟
قد تنفتح الإجـابات على احتـمالات الإدهاش والشغـب واللـعـب والمـغامرة والاندفاع، والحياة وكشف العالم....، وقد تغوينا جملة هايدغر اللامعة "الشعر هو فعل القول الأصلي أو الأول".
الرحلة الأصعب:
لنختط للقصيدة رحلتها، ولنسافر عميقا في ذاكرة الشعر. سيكون مسعفاً القولُ: إن الشعر قد صاحب مسيرة الشعوب من طور الفـطـرة الأولى إلى أطـوار الحـضارة المختلفة وصولا إلى لحظتنا الرقمية هاته. ولقد كان في كل الأطـوار منـشغلاً بـروح المعنى، باحثاً عن أسرار الـوجـود في الطبـيعة والأشياء والإنسان والإله، محايثاً لكل القيم والقضـايـا والتحديات. وفي عمق كل تلك التعالقات كان الشعر يصطفي حدوسه ورؤاه لبلوغ الجوهر الإنساني.
ولعـل العـودة إلى السـجـل الـحافـل الذي شيَّده الـشعـر عالميا باسم الثـورة والمقـاومة والتحرر قد تغنينا عن الاستدلال بما يزخر به من أسماء مجيدة سنذكـر بعضها وسننـسى بعضها.
قد نذكر فيـديريكو غــارسيا لوركا من إسبانيا، وبـابلو نيرودا من التشيلي، ولوي أراغـون وبول إيلوار من فرنسا، وناظم حكمت من تركيا. ومن المغرب نذكر عبد الله راجع وعبد الله ازريقة الذي لم يمنح حقه، ومفدي زكريا من الـجـزائر والماغوط من سـوريا وأمل دنـقـل من مصر. ونذكر الســيـاب ونـازك الملائـكة والجـواهري وأحمد مـطر ومظفر النواب وبلنـد الحيدري من العراق، وتوفــيق زياد ومعين بسيسو وفدوى طوقان وسميح القاسم ومحمود درويش من فـلسـطين، وغيرهم كثير...
إن الشعر في مطـلق أصلـه الإبـداعـي لا يحـيا بعـيـدا عن كينـونة الإنـسان في العـالَـم، وسيرورته في الزمان وصيرورته في المكان. فالـشعـر مثل كل كـتـابـة وإبـداع هو مقـاومة تتـوسّم سـبـلها الخاصة للـوجـود والصمـود والخلود.
الغرض الأساس:
بعيدا عن الخوض في جدل التمييز بين الشعر الثوري وشعر المقاومة أو شعر الاحتجاج، وهو الجدل الذي اتخذ في ضوء التجربة الفلسطينية تمايزات قطبية من منطلق البعد الجغرافي والبعد الإيديولوجي. وقد خاض فيه أدونيس في كتابه "زمن الشعر" (1978)، فكان مما قاله: إن "هذا النتاج محافظ، منطقي، مباشر، فهذا النتاج يندرج في الإطار الأيديولوجي السائد، يحاول أن يصنع الثورة بوسائل غير ثورية... والثورة لا تقوم بإحياء الماضي أو استدعائه". وخاض فيه سميح القاسم حين أصدر في السنة ذاتها ديوانه "الحماسة"، فهاجم النقاد العرب وخص منهم غالي شكري الذي كان في كتابه "أدب المقاومة" قد وسم الشاعر في بـ"السلفية"، فرد سميح القاسم: " ... بقدر ما تضرب الشجرة أصولها في الأرض تهيئ لنفسها طاقة الشموخ والامتداد.. وهبة ريح واحدة كفيلة باقتلاع سرحة باسقة نسيت العناية بجذورها أو هي عجزت عن ذلك". وفي ظل الجدل ذاته أطلق محمود درويش صرخته الشهيرة: "ارحمونا من هذا الحب القاسي".
و يستند التمييز بين الشعر الثوري وشعر المقاومة أو شعر الاحتجاج إلى منطلق أنَّ الأول يحمل في داخله شرارة التمرد المتحرِّرة من قيود الأوضاع المفروضة، وهي شرارة تطمح إلى التغيير وتبحث لذلك عن السبل الملائمة في سعيها إلى إحـلال واقـع جديد مكـان الـواقع المرفوض، ولذلك الثورة تبدأ بالهدم قبل البناء. وقد يبلغ الشعر الثوري في مداه أن يكون إبداعيا تكسيرا للنمط الشعري السائد وأن يكون اجتماعيا أو وطنيا المعادل الموضوعي للكفاح المسلَّح. أما شعر المقاومة أو الاحتجاج فهو رد فعل يقابل عنفاً رمزياً باقتراح إبداعي سـلمي لا يـدعو إلى حـمل السلاح، بل يطرح نفسه على سبيل نشـدان التـوازن الضائع بين صوتي القوة والسلطة المتجبِّريْن وأصوات الحق والعدل والحرية والكرامة المفقودة.
لنتساءل هذه المرة ببراءة الذئب من دم يوسف النبي: "ما الذي يستطيعه الشعر؟". قد تحتمل الإجـابـات كل أثـقـالَ كينونةٍ تبحث عن سـمو الـذات في الـحـياة والـكون والآخر، وتقاوم كل أشكال الاستعباد والظلم والاستبلاد. وقد نصيخ السمع لصوت الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي يقول بعد حصوله على جائزة فلسطين للشعر "الشعر الحقيقي يخدم الوطن بطريقة واحدة هي أن يكون جميلا ومقنعا وصادقا وقابلا للقراءة والإمتاع الفني في زمان ومكان آخريـن... نحن معنيون بالمصير الإنساني فرديا أو جماعيا، معنيون بأنفسنا وبالهم الإنساني عموما ولسنا دبابة في منظمة التحرير (الفلسطينية) يقال لنا ادخلوا المرآب فندخل. لسنا جنودا برتبة شاعر أو رسام أو مغن."
بحسن تخلُّـص:
قريبا من روح الشعر في كل الجغرافيات وفي كل الأزمنة، يمكن أن نقول إن الذات في الشعـر فاعـلة وليـست مفـعـولة أو مفـعولا بها .. هي فاعـلة من منـطـلـق الكـون اللـغـوي والكون الشعري والكـون الوجـودي. ولذلك هي تقاوم الفـناء على أكثر من مستوى واحد.. تقاوم الموت والعبث والجمـود.. وتقاوم القيود والرواسم والإكراهات.. وتقاوم الانـقـيـاد والاستهلاك والتأجيل. ولذلك عاد أبو القاسم الشابي إلى لحظتنا الرقمية بقوة مذهـلة، وعادت قصيدته "إرادة الـحـيـاة" إلى التداول والـقراءة والفِعـل في كل الأوسـاط وعلى كل المستويات.
إن الذات في الشعـر تمتـلك رؤية نافـذة إلى الوجود بما هو موجود في الظاهر الحسي، وبما هو مدرَك من المتعالي المجرَّد، بل وبما هو متحقِّقٌ في الباطن القـلبي، فقد كان للإشـراق الصوفي في الشعـر مـنازل للمقـاومة والمجاهدة.
شذرة الخـتم:
الذات في الشعر ثائرة متمرّدة بالفطرة لا تستسلم أمام العادة ولا ترتكن إلى المألوف، تثور ضد الجمود والتكرار والاستسهال والاحتلال والاحتكار... لا تأنف من رفع صوتها الإبداعي المتفرّد خارج الإجماع وخارج السرب، وحتى بعيدا عن ظلال الأغصان الحامية.
الذات في الشعر لا تنضو عنها روح المقاومة كي ترتديها، فالمقاومة بعض من أسرار وجود الشعر الـرؤيـوي وكل كيـنونـتـه الإبـداعية. الـذات في الـشعر لا ترتهن إلى قانون أو ضابط أو سيادة ولا تؤمن بـغير الجمال والإبداع والإبهار والحرية.