ملخص
أكد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على وحدة الأصل الإنساني ولكن مع الإقرار بمبدأ الاختلاف، ورتبا على ذلك ضرورة التفاهم والتعارف والتعاون بين الناس، وتبادل المنافع بين الأجناس والأديان المختلفة، وأمرا بالعدل بين الناس عامة بغض النظر عن عقيدتهم هذا ما يؤكد ضرورة التعايش مع الآخرين، ومن أوجه هذا الأخير نجد التعايش الثقافي بين الأمم والحضارات المختلفة، والأمة الإسلامية واحدة من تلك الأمم والتي قدمت نماذج يعترف بها العدو قبل الصديق، وضربت أروع المثل في التعايش مع الآخرين والنماذج الإسلامية للتعايش مع غير المسلمين في تاريخ الإسلام القديم والحديث كثيرة جدا، وعند هذا المقام يتبادر الى أذهاننا التساؤل التالي: كيف حَفِظ ذلك التعايش القائم بين المسلمين ونظرائهم التوازن والسلم بين الأمم أحيانا؟ وكيف انحدرت الأوضاع إلى العكس عند فقدانه أو الإخلال بعنصر من عناصره؟ ولا يمكن في الواقع معرفة ذلك إلا من خلال ذكر نماذج تتضح من خلالها الإجابة على ذلك التساؤل.
مقـدمة
القرآن الكريم حافل الآيات الكريمة التي تؤكد الاختلاف والتنوع، وقد أكد هذا كتاب الله والسنة النبوية الشريفة على وحدة الأصل الإنساني، ولكن مع الإقرار بمبدأ الاختلاف ورتبا على ذلك ضرورة التفاهم والتعارف والتعاون، وتبادل المنافع بين الأجناس والأديان المختلفة، يقول الله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)"1، والقائل"أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)" وأمر بالعدل بين الناس عامة بغض النظر عن عقيدته2، ما يؤكد ضرورة التعايش مع الأخر واحترام عاداته وتقاليده ومقوماته، فالأساس الذي بني عليه الإسلام علاقة المسلم مع غير المسلم في الأحوال كلها، هو مكارم الأخلاق، وخلق التعامل الحسن، والرؤية الإسلامية عموما تستند في مجال التعايش مع الآخرين إلى أساسين رئيسيين:
- المصلحة الإسلامية العليا على ضوء الواقع القائم.
- الصلات والرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية3.
من النصوص القرآنية والأحاديث الكثيرة الدالة على هذا التوجه، والتي تعتبر بحق مُؤسِسَة لثقافة التعايش مع الغير المخالف والمختلف، قوله تعالى "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)"4.
وفي الحث على حسن الجوار والدعوة إلى الحق، قوله تعالى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)"5.
قوله أيضا عز وجل " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)"6.
فالحوار مع الآخر من باب التواصل الحضاري والتعايش، من صميم المبادئ الإسلامية السمحة، التي دعا إليها الله عزو جل والرسل والأنبياء الكرام، الذين بعثوا هدى ورحمة للعالمين.
من أوجه ذلك التعايش، نجد التعايش الثقافي بين الأمم والحضارات المختلفة، والذي كانت له مميزاته وخصائصه المنفردة حسب الزمان والمكان، والأمة الإسلامية واحدة من تلك الأمم، والتي قدمت نماذج يعترف بها العدو قبل الصديق، وضَربت أروع المثل في التعايش مع الأخر، وحتى مع أشد وأبغض أعداء الإسلام منذ بزوغ فجره بمكة المكرمة.
قبل الحديث عن أبرز تلك النماذج والتي أخبرنا عنها التاريخ، لابد من توضيح بعض المفاهيم، والتي لا يكتمل فهم الموضوع إلا بها والأمر متعلق بمصطلح الثقافة، التعايش، وصولا إلى الغاية من التعايش الثقافي.
1 – التعايش الثقافي
1-1 : مفهوم التعايش
التعايش: ضرب من التعاون المشترك والذي يقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادلين بطواعية واختيار والذي يهدف إلى تحقيق أهداف يتفق عليها الطرفان، أو الأطراف التي ترغب في تقبل بعضها، فهو إذن قائم على تعلم العيش المشترك والقبول بالتنوع، دون ترك فسحة ليؤثر طرف ما على ثقافة المسلم الصحيحة، وهنا تتجلى مخاطر العولمة الثقافية على كيان الأمة الإسلامية ومقوماتها، كما سيتم الحديث عن ذلك لاحقا7.
1-2 مفهوم الثقافة
الثقافة: اختلف في تعريفها، فقيل أنها مجموعة من الأنماط السلوكية لمجموعة من الناس، توثر في سلوك الفرد الموجود في تلك المجموعة فهي تشكل شخصيته، تتحكم في خبراته وقراراته ضمن تلك المجموعة من الناس التي يعيش بينها كما تعرف بأنها مجمل السلوك الاجتماعي المكتسب، لدى الفرد داخل مجتمع ما، الذي يتم تناقله من جيل لأخر، وقيل أنها نموذج كلي لسلوك الإنسان، قيمه، عاداته أفكاره، وأفعاله، وهي تعتمد على قدرة الإنسان على التعلم، ونقل المعرفة للأجيال التالية.
ثمة من يعرفها: بأنها مجموعة العلوم والفنون والمعارف النظرية التي تؤلف الفكر الشامل للإنسان فتكسبه أسباب الرقي والوعي، فهي النسيج الكلي من الأفكار والمعتقدات والاتجاهات والقيم وأنماط التفكير والعمل والسلوك، وما يبني عليها من تجديدات أو ابتكارات أو وسائل في حياة الناس8.
1-3 مفهوم التعايش الثقافي
التعايش الثقافي من خلال ما سبق ذكره يعتبر بالفعل الطريق إلى السلام الاجتماعي9 فاختلاف الثقافات في المجتمع الواحد، وإن لم تتعايش، فحتما يؤدي ذلك إلى الكثير من المشاكل، والتي قد تؤدي بدورها إلى انهيار دولة بأكملها10، أو حرب الثقافات، كما أصطلح عليه حاليا، وخاصة على المستوى العالم.
عند هذا المقام يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي:
كيف حَفِظ َذلك التعايش القائم بين المسلمين ونظرائهم التوازن والسلم بين الأمم أحيانا؟ وكيف انحدرت الأوضاع إلى العكس عند فقدانه أو الإخلال بعنصر من عناصره؟ ولا يمكن في الواقع معرفة ذلك إلا من خلال ذكر نماذج تتضح من خلالها الإجابة على ذلك التساؤل.
2 – نماذج إسلامية في التعايش الثقافي
لقد عرف التاريخ الإنساني ثقافات متعددة، منها اليونانية والومانية والهندية والثقافة المصرية الفرعونية والفارسية إلى غير ذلك من الثقافات، ولما استلم العرب زمام القيادة الفكرية والثقافية للبشرية في القرن 7 ميلادي واستمروا في مركزهم المتميز إلى القرن الخامس عشر منه عرف العالم الثقافة العربية الإسلاميةّ في أوج تألقها، وعند التراجع، توقفوا عن الإبداع في ميادين الفكر والعلم والمعرفة الإنسانية، فانحسر مد ثقافتهم وغلب عليهم الجمود والتقليد وضعفوا أمام تيارات الثقافة الغربية التي أثرت في آدابهم وفنونهم وطرق معيشتهم11.
2–1 هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والتعايش مع الأخر المختلف
أولى نماذج التعايش بين المسلمين وغيرهم، كانت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، حيث أنه وجد مجتمعا مختلفا في عاداته وتقاليده، وكان التباين واضحا بين المهاجرين والأنصار، غير أنه لم يكن هناك مانع أن يكون للأنصار كيانهم وشخصيتهم المعنوية، ويكون مثل ذلك للمهاجرين، فعاشوا تحت مظلة الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية الجامعة بمقتضى الدين والعقد الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، وقد كشفت المؤاخاة عن مثل عالية من الإيثار والحب والبذل على نحو لم تعرفه إلا الدعوة الحقة، ولعل في هذا إيناسا للمسلمين اليوم وتنبيها لهم إلى أن يتعايشوا في ظلال الأخوة الدينية، وإن تعددت مشاربهم في الفهم، فلا يصح شرعا أن يُلغى كيان منهم كياناً آخر فضلا عن أن يناصبه العداء12.
2-2 هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والتعايش مع الأخر المخالف
من ذلك أيضا نجد حرصه عليه الصلاة والسلام على إقامة علاقات طيبة مع رعيته والطوائف المقيمة بالمدينة، وكان منهم اليهود، فبعد إقامة النبي عليه الصلاة والسلام وضع دستور المدينة "الصحيفة" ليحدد حدود الدولة، ومكونات رعيتها والحقوق والوجبات لوحدات الرعية بن فيهم العرب وحلفائهم العبرانيون، وليبين كذلك المرجعية الحاكمة للدولة ورعيتها فكان "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مَواليهم وأنفسهم وإن بطانة اليهود كأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ "يهلك" إلا نفسه وأهل بيته، ومن تبعنا من اليهود فإن له النصرة والأسوة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، غير مظلومين ولا متنا صَر عليهم، ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم "هادفا بذلك صلى الله عليه وسلم إلى إقامة صلة مودة وسلام وحماية13.
نفس الأمر بالنسبة للنصارى، حيث وضع وثيقة ثانية لنصارى نجران باليمن، عهدا لهم، ولكل المتدينين بالنصرانية عبر المكان والزمان، نصت على أنه ''لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته" ما يعتبر إقرارا وتأسيسا من الوثيقتين لمبدأ التعايش على أساس المواطنة بغض النظر عن العقيدة14، فعلى الرغم من أن رسول الله عليه الصلاة والسلام وجد في المدينة مزيجا إنسانيا متنوعا من حيث الدين والعقيدة والانتماء القبلي والعشائري ونمط المعيشة، إلا أنه تمكن من توحيدها، بعد أن كانت قبائل نافرة وطباعها شرسة غليظة15.
العالم الانجليزي سير توماس أرنولد يشهد للحرية الدينية التي قررها الإسلام وحضارته، والتي وسعت التنوع والاختلاف وأتاحت إنقاذ النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية البيزنطية حتى يمكن القول أن بقاء النصرانية الشرقية هو هبة الإسلام16.
على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم سار الخلفاء الراشدون، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما دخل بيت المقدس فاتحا، أجاب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه من أن لا يسكانهم فيها يهودي، فالتسامح الديني هو الذي جعل عمر رضي الله عنه، وقد قال له بطريرك بيت المقدس عندما أدركته الصلاة "صل حيث أنت" فقال عمر رضي الله عنه: "لا.. لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وقالوا هنا صلى عمر وأخذوا الكنيسة منكم"، وذهب فصلى بعيداً17.
نفس الأمر نجده في معاملة أهل الديانات الوضعية، إذ تمت معاملة أهل الكتاب، حيث بدأ تطبيق دولة الخلافة الراشدة لهذه السنة عندما دخل المتدينون بالمجوسية في إطار الرعية الواحدة لدولة الخلافة على عهد الراشد الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)18.
3 – التعايش الثقافي بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة
بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة، كان عصر الدولة الأموية (40هـ-132هـ/ 661م-750م)، ثم العباسية (132ه/ 749م) فيما بعد، والتي فتحت أبواب الترجمة من أقطار الدنيا، فاطلع المسلمون على ثقافات الأجانب وعلى أنواع المعرفة19، حيث ازدهرت الحركة الفكرية والثقافية بفضل مجهودات الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، والذي ساهم في تفعيلها حتى قيل عنه " أعلم الخلفاء وحكيم بني العباس"، وكان ذلك من خلال جمع التراث القديم وخاصة اليوناني ونقل كتبه إلى بيت الحكمة في بغداد للنسخ والترجمة.
يعترف الغرب بفضل ودور العرب على هذا العهد في إيصال معارف الشرق إلى الغرب، من ذلك ما ذكرته المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة، إذ قالت: "ففي ظل حكم هارون الرشيد تثبتت مكانة الورق حيث بنيت أولى مطاحن الورق في بغداد ليسير موكب صناعة الورق إلى سورية، إلى فلسطين، إلى مصر لينطلق منها إلى الغرب إلى تونس ومراكش واسبانيا... أجل لقد فتح ورق العرب هذا، عصرا جديدا لم يعد العلم فيه وقفا على طبقة معينة من الناس. وفي الواقع فإن استعمال الورق قد أدى في وقت قصير في كل الأنحاء إلى اختراع فن الطباعة"20.
4 – نموذج بلاد الأندلس في التعايش الثقافي
ومن النماذج التي ظهرت فيها أصالة التعايش عند المسلمين، كما ظهر فيه الحقد الدفين عند الصليبيين، وهو بلاد الأندلس حيث فتحها المسلمين سنة (93هـ)، وسقطت سنة (898هـ)، بمعنى أن المسلمين حكموا فيها أكثر من ثمانية قرون، ساد فيها العدل والتسامح الديني مع أصحاب الثقافات الأخرى والديانات السماوية ولا سيما اليهود21.
كان تاريخ المسلمين في الأندلس يتسم بالتسامح، وأبرز دليل على ذلك هو تعايش الديانات السماوية الثلاث، الإسلام، المسيحية، اليهودية على أرض الأندلس في انسجام وتآلف ووئام، وقد أبدى كثيرون من الكتاب المعاصرين دهشتهم إزاء هذا التسامح العربي الإسلامي الذي لا نظير له، يقول الشاعر المفكر المكسيكي أوكتافيو باث في كتابه زمن الغيوم المنشور عام 1983: "لقد ظل الإسبان والبرتغاليون على عكس منافسيهم من الانجليز والفرنسيين والهولنديين تحت سيطرة الإسلام لعدة قرون، لكن الحديث عن السيطرة فيه خداع، لان ازدهار الحضارة الاسبانية-العربية مازال يصيبنا بالدهشة حتى الآن، فتلك القرون من المعارك كانت أيضا قرونا من التعايش الحميم"22.
ثم لم تسقط غرناطة أخر معقل للمسلمين بالأندلس (1492م)، حتى أضطهد من بقي فيها من المسلمين وتعرضوا لأشد أنواع التعذيب، ملاحقين من قبل "محاكم التفتيش" المقامة خصيصا لمراقبة كل مسلم يمارس شعائره الدينية وإرغامهم على التنصر، ففر من استطاع إلى شواطئ بلاد المغرب العربي، ومن لم يستطع بقي بإسبانيا تحت نير التعذيب والملاحقة، أو إخفاء إسلامه متتبعين سياسة "التقية" أي إخفاء الدين الحقيقي حفاظا على الحياة.
لقد أقام العرب حضارة زاهرة بالأندلس، تركت آثارا على مستوى ميادين متعددة، في اللغة والحساب والفكر وشتى فروع العلم، وفي ذلك تقول أيضا هونكة: "أجل، إنه في لغتنا كلمات عربية عديدة، وإننا لندين، والتاريخ شاهد على ذلك، في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زينت حيتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب"23، وعن فضل العرب وعلومهم "إن أرقام العرب آلاتهم التي بلغوا بها حدا قريبا من الكمال، وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلثات الدائرية وبصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبة إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه"24.
الخاتمة
لقد حافظ المسلمون من خلال إقرار مبدأ التعايش عموما، على السلم في مجتمعاتهم وعلاقات طيبة مع باقي الأمم في أحيان كثيرة، ولكن هل المسلمون قادرون ألان في زمن العولمة المتسم بالتنوع الشديد والتقارب والتواصل الأشد إلى حدود التمازج على تقديم نموذج عالمي إنساني معاصر قادر على الصمود في وجه أعاصير العولمة وتعقيداتها؟ خصوصا مع ظهور حركات الغلو والتطرف والانعزال في صفوف مختلف المجتمعات والثقافات.
العولمة وما تحمله من معاني بقصد تعميم الثقافة الأمريكية على العالم، وهي بهذا الشكل تنفي الآخر وتسلبه خصوصيته25، وكما يقال فإن التاريخ يعيد نفسه، فالرومان الأقوياء هيمنوا على اليونان عسكريا، ولكنهم خضعوا لثقافتهم القوية، كذلك المغول والتتار فقد احتلوا بلاد المسلمين عسكريا ولكنهم في النهاية خضعوا لثقافة الإسلام القوية، واليوم على الرغم من وقوع أغلب الديار الإسلامية تحت نير الاستعمار الغربي المباشر وغير المباشر، إلا أن الإسلام اقتحم قلوب كثير من الغربيين، بل إن أحكام الشريعة الإسلامية بدأت تجد لها المكانة والاحترام داخل المنظومة القانونية العالمية26.
لكن هل يمكن للأمة الإسلامية حاليا أن تتجنب أثار العولمة خاصة في شقها الثقافي؟ وهي تعيش اليوم عدوانا صارخا على كيانها السياسي والاقتصادي والثقافي، كل ذلك واكب حملات التشكيك في ثوابت الأمة المسلمة، بدءا بإصدار"الفرقان" الذي أرادوه بديلا عن "القرآن الكريم"، ومرورا بتشجيع التهكم بالإسلام باسم حرية الفكر وحرية التعبير، والكاريكاتوريات الدنمركية وما تلاها من محاكاة في سائر بلاد الغرب دون نسيان التصريحات التحريضية ضد الإسلام التي تصدر من أكابر رجالات الغرب، كمقولة "أن الإسلام هو العدو البديل عن الشيوعية المتهاوية" ولعل أخطر ما يقال لا عن الإسلام اليوم هو أن القرآن الكريم هو مصدر العمليات الإرهابية27.
في ظل هذا الغزو الثقافي التغريبي، وما تدعوا إليه العولمة الثقافية الداعية إلى إلغاء التعددية الثقافية التي هي الكنز الباقي الذي تتطور من خلاله مختلف الحضارات، ومحاولتها سلخ الشعوب من هوياتهم الثقافية واللغوية لصالح ثقافة مهيمنة مسيطرة على العالم، وجب على المسلمين أن يدققوا في الأغراض والمرامي التي تنطوي عليها الدعوات التي تصدر عن بعض الأطراف إلى الحوار مع الأديان والثقافات والحضارات، والتي تدعونا إلى التعايش مع أهل تلك الأديان، خاصة اليهود، والمنظومات العقائدية، حتى لا يكونوا ضحية للغش الثقافي والديني.
للأسف، فإن الحضارة الغربية تتجه إلى التعصب بدل التسامح وإلى التضييق بدل التوسعة، وإلى النفور من الأديان والأجناس المختلفة، ومن ذلك أيضا وليس ضد الإسلام والمسلمين في العالم، بل حتى ضد الأقليات الضعيفة، والدول النامية لنهب خيراتها وإلزامها بالثقافة الغربية، من خلال القتل والتشريد وبث روح الفتنة28، ومن هنا تبرز قيمة التعايش، والاعتراف بالغير ومقوماته في حفظ التوازن والسلام العالميين والذي لا يتحقق إلا بالتخلص من حالة الاستعلاء التي تتعامل بها القوى الكبرى مع باقي شعوب العالم أو كما قال الدكتور فولفجانج شوييله وزير الداخلية الألماني من أن "الاستمرار في التذكير المتبادل بين الجانبين بالحملات الصليبية وغزو شبه الجزيرة الأيبيرية، وعهد الاستعمار، أو الأزمات الأخرى من الماضي "فإنها لن تساعد على التقدم"، "ولذلك فإن أهم المهام في العقود القادمة تتمثل في إحلال ثقافة الاحترام المتبادل بروح إرادة العيش بألفة ووئام".
(أستاذ باحث، المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ، علم الانسان والتاريخ، الجزائر)
الهوامش
(1) سورة هود، الآية 118-119.
(2) عبد السلام بلاجي، الإعلام وثقافة التعايش وتعايش الثقافات على الموقع: http/www.iugaza.edu.ps/ara/research تم الاطلاع يوم: 03/03/2013.
(3) عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، الأخلاق الفاضلة-قواعد ومن طلقات لاكتسابها، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، الطبعة الثانية، ص:238.
(4) سورة البقرة، الآية: 256.
(5) سورة العنكبوت، الآية: 46.
(6) سورة النحل، الآية: 125.
(7) وليد أحمد مساعدة وعمار عبد الله الشريفين، "العولمة الثقافية –رؤية تربوية إسلامية " منشورة ضمن مجلة الجامعة الإسلامية (سلسلة الدراسات الإسلامية، م18، الموقع: http/www.iugaza.edu.ps/ara/research بتاريخ :يناير 2010، الأردن، ص :254.
(8) وليد أحمد مساعدة وعمار عبد الله الشريفين، المرجع السابق، ص:254.
تم تعريف الثقافة من منظور علماني غربي، ومن منظور صيني، ومن منظور عربي إسلامي، ما أنتج تعريفات كثيرة ومختلفة للثقافة ومنظهورها، للتفصيل في ذلك أنظر كتاب، محمد الجوهري، الثقافات والحضارات، اختلاف النشأة والمفهوم، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ص:34 وما بعدها.
(9) حاج أبا آدم الحاج، ورقة بعنوان مفهوم السلام الاجتماعي للقبائل السودانية (دارفور نموذجا)، الموقع : http/www.iugaza.edu.ps/ara/research، تم الاطلاع عليها بتاريخ: 03/03/2013، ص:3.
(10) حاج آبا أدم الحاج، المرجع السابق، ص:3.
هي ثقافة المجتمعات الإسلامية والتي أوجدها الدين الإسلامي، والتي تأصلت وترسخت وتجدرت في المجتمعات الإسلامية، و يرى ابن خلدون أن من أعظم منتجي الثقافة في الحضارة العربية الإسلامية تنحدروا من أمم أخرى غير "أمة العرب". ينظر :عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، 2007، ص :594 . وطيب تزيني، بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، بيروت، ص:21.
(11) عبد الله عبد المنعم العسيلي، "التعددية وحق الاختلاف من منظور إسلامي ودورالجامعات في تنمية ذلك" جامعة فلسطين، 2012، الموقع: http/www.iugaza.edu.ps/ara/research، تم الاطلاع عليه بتاريخ: 03/03/2013.
(12) محمد بنزعمية، دروس من الهجرة النبوية، في مجلة :رسالة المسجد، ع4، السلسلة 5، الجزائر، اكتوبر2005، ص:48. أنور الجندي، الهجرة النبوية الشريفة الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، منبر الإسلام، مصر، محرم/1396، ص:69.
تنبيه عن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند دخول المدينة ومبادرتهم له بالعداء، والأحاديث الواردة في ذلك، ينظر : عبد الصبور مرزوق، السيرة النبوية في القرآن الكريم، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1987، ص:135 وما بعدها.
(13) أنور الجندي، المرجع السابق، ص19.
مما جاء في الوثيقة أيضا: "لنجران وحاشيتها وسائر من ينتحل دين النصرانية في أقطار الأرض جوار الله وذمة محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.. أن أحمي جانبهم أذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح وأن أحرص دينهم وملتهم أينما كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي". عبد السلام بلاجي، الإعلام وثقافة التعايش وتعايش الثقافات، ص:5.
(14) عبد الله عبد المنعم العسلي، المرجع السابق، ص08، قطب عبد الحميد قطب، خطب الشيخ محمد الغزالي في شؤون الدين والحياة، مكتبة دحلب، الجزائر، 1409هـ، ج4، ص: 27.
(15) عبد الله عبد المنعم العسلي، المرجع السابق، ص:20.
(16) عبد الله عبد المنعم العسلي، المرجع السابق، ص:20. قطب عبد الحميد قطب، حطب الشيخ محمد الغزالي في شؤون الدين والحياة، مكتبة رحاب، الجزائر، 1988، ص:73.
(17) المرجع نفسه، ص21.
(18) قطب عبد الحميد قطب، المرجع السابق، ص:31.
حيث كان على رأس بيت الحكمة الفلكي يحي بن أبي منصور (حوالي217هـ/ 832م)، حيث تجمع حول ذلك البيت أبرز الوجوه في ذلك العصر، فكانوا يجدون في متناول أيديهم مكتبة ممتازة، ينظر: خوان قرنيت، فضل الأندلس على ثقافة الغرب، ترجمة: نهاد رضا، اشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، 1997، ص:23.
(19) شمس العرب تسطع على الغرب، نقله عن الألمانية، فاروق بيوض-كمال دسوقي، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع، بيروت، 1969، ص:46-48.
(20) عبد الله عبد المنعم، المرجع السابق، ص:21. وللتفصيل حول أوضاع اليهود بالأندلس، ينظر: سامية جباري، "التسامح الديني مع أهل الذمة بالأندلس –التسامح مع اليهود"، في مجلة:رسالة المسجد، السنة6، ع2، الجزائر، فبراير 2008، ص:31 ومابعدها.
(21) لوثي لوبيث – بارالت، أثر الإسلام في الأدب الاسباني، ترجمة حامد يوسف أبو أحمد وعلي عبدالرؤوف البمبي، مركز الحضارة العربية، 2000، ص:8.
(22) لوثي لوبيث – بارالت، نفس المرجع السابق، ص:20.
(23) المرجع نفسه، ص:163.
(24) تعدد تتعريفات العولمة من قبل الباحثين والمهتمين، وذلك حسب توجهاتهم الفكرية والعقائدية وثقافاتهم المختلفة، وتتعدد الزوايا المختلفة التي ينظر منها الباحثون والمفكرون، ويمكن القول بأن للعولمة معنى شاملا، يتضمن الانتقال من المجال الوطني، أو الإقليمي إلى المجال العالمي أو الكوني وليس الدولي، لأن الكلمة الثانية تعني وجود الحدود، وخطوط الفصل، بينما كلمة الكون تعني أوالعالمي تتجاوز الحدود، أو بأنها اتجاه تقوده الرأسمالية بهدف إضفاء طابع كوني عالمي على أنماط العلاقات والتفاعلات في المجتمع الدولي بمظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والمالية.
(25) هنية مفتاح أحمد القماطي، "أزمة الحوار الحضاري في عصر العولمة" على الموقع: http/www.iygaza.edu .ps/ara/researh، بتاريخ: 03/03/2013، الساعة: 21:15
(26) خميس بن عاشور، "العلاقات الدعوية بين الأمة الإسلامية وغيرها" في مجلة رسالة المسجد، س8، ع 5، الجزائر، جانفي 210، ص:12.
(27) بوعبد الله غلام الله "أمة الرشاد والمودة" في رسالة المسجد، س6، ع6، الجزائر، جوان2008، ص:7 وما بعدها.
(28) وليد أحمد مساعدة وعمار عبد الله الشريفين، المرجع السابق، ص:250، عبد الله عبد المنعم العسيلي، المرجع السابق، ص:8، ص:22.