وجدتني، أخطو في دفقة ضوء الزقاق. ضوء لا يشي بزمنية ما. ضوء هو خليط من نور وظلام. امتزاج غير مسبوق. لا هو بالسحر ولا هو بغسق مساء. لا هو بشروق، ولا هو بغروب. في التباس الضوء والزمن أسير غارقاً بالظلال. لا أقصد سوى امتداد الزقاق. تحنو على قامتي جدرانه القديمة المتآكلة، بشبابيكها الخشبية المعتمة اللاهثة بأنفاس الصبايا. أخطو مخدراً بالخواطر والأماني. عيناي تسرحان في ظلام النوافذ .. أسرارها، وتبسمان لخاطر أنثى محتملة تحتويها الدكنة الرطبة الباردة، أنثى تختبئ خلف حواف ستائر البيبان المسدلة، خلف النوافذ المعتمة. أبتسم لعيون مخيلتي المتأججة، مأخوذاً، حالماً. أتخيل ما يحتشد بعيون الصبايا المتوارية من تباريح الرغائب الفائرة في القلوب الغضة الحبيسة. أرمقُ ظلال ستائر تهتز، تتموج. تربكني، تلكئ ناظري.
يقول:
ـ لا بدَّ أنها تكمن بعينيها القادحتين!!.
أخطو منتشياً بأخيلة العيون، مكاتفاً خيال صديقي هاشم لفته المغني وهو يقول:
ـ ما عليك سوى التحديق في عمق النوافذ والابتسام.
ـ لماذا يا هاشم؟.
يطلق ضحكته الآسرة ويقول:
ـ يا صديقي النثايا محبوسات في البيوت، خلف النوافذ، فلا بد أن تعلق واحدة بصنارة النظرة والبسمة!.
ـ المرأة ليست سمكة، وأنا لست صيادا يا هاشم.
ـ دعنا من فلسفتك التي لا تسعفك في الليل عندما تضطرم نيران الشهوة، ولا تطفئها العادة السرية بل تزيدها استعاراً.
وقتها كنت مشحوناً بالأفكار الداعية إلى احترام المرأة وتحررها المخلوطة بطهرانية البيئة المحافظة.
ـ لكن يا هاشم! المرأة ليست سلعـــ...
فيقاطعني بودٍ:
ـ لنعلق .. أو لتعلق! لا فرق! ماذا في ذلك يا صديقي .. ماذا؟
ـ ..........
ـ ألا تحلم بشم رائحة بنية ناعمة تفور وترجف من اللمس؟
يهفو قلبي للخاطر المنبعث من الكلام، وهاشم يردف:
ـ اسمع يا صديقي .. أن نلمس بشرة صبية بأصابعنا، ونبحر في العيون المتشهية، في الجسد الفائر المحروم .. ذاك يمد في عمرنا سنيناً.
ـ أتضحك..! اضحك.. اضحك.. الضحك جميل ووجهك يصير أحلى وأنور وثق بكلامي .. إنهن يكمننَّ خلف عتمات النوافذ الآن، حدق خطفاً، تأمل طويلاً، واشحذ خيالك بفوران الجسد والروح والعيون .. ستجد العديد منهن يتجرأن على البوح والوصال.
أخطو منتشياً بخاطر العيون، أشكالها، وساعتها، الوداد المائج في بحورها، الشبق المتأجج في أعماقها، أتقدم منطلقاً نحو امتداد الزقاق .. نحو الأفق الحاشد المفتوح بالشؤون والأنفاس بالمعاني والظلال.
ـ هل حقاً قُتِل هاشم؟.
أخبروني حال وصولي إلى المدينة قادماً من جبهة ـ حاج عمران ـ في أقصى الشمال بخبر موته في قاطع العمارة ودفنه قبل يومين. سلكتُ درباً مختصراً بين بساتين النخيل قاصداً بار المصايف. دخلته بملابسي العسكرية المغبرة، وحقيبتي الثقيلة أسقطتها على عتبة الصالة المزدحمة بسكارى الظهيرة .. بجنود الجبهات المجازين .. ومن طرفها هرع نحوي بقامته الناحلة. اعتنقني، وانفجرنا بنحيب بلّ كتفينا. همستُ له:
ـ هل حقاً يا قاسم ما سمعت؟.
وابن لفته الكبير يمعن في دفن رأسه بعنقي، ويسكب دمعه الغزير، قلت:
ـ هيا .. هيا.
رمقني للحظة وقال:
ـ هيا .. نعم .. هيا بنا.
أخذني رغم سكره إلى تيه مقبرة النجف الشاسعة. عانقتُ الشاهدة وبكيت. ذكرته بكل حكايا الحب والصبايا ومد العمر معاتباً اختصار رحلته.
هل ما جرى حقاً جرى؟ أم كان مجرد خيال؟. هذا ما لا أدريه الآن، وأنا أخطو في احتشاد الظلال والألوان. أخطو وحيداً مضمخاً بأتراح غامضة المنشأ، غامضة غموض إناث هاشم لفتة المندمجات في عتمات النوافذ المسدلة، المحدقات في قامات فتيان الزقاق .. والمارة. أخطو مضمخاً بعذابي .. باشتباك الحلم بالمخيلة بالذاكرة، أخطو وفي نفسي استبهمت الأسباب والمعاني، وأصبح من السخف أن يشار لمنشأ حزن!.
وهل لمن جاوز الأربعين منشأ واضح للحزن؟
أخوض في ضوء هو خليط من نور وظلام، في امتزاج غير مسبوق، في التباس الضوء والزمن، منفصلاً عن الصيرورة الناجزة .. البدء ـ المنتهى، الولادة ـ الموت، متوحداً بأنفاس الحجر المتآكل، مزفوفاً بعيون الصبايا أبيض القلب، أخطو مثل طفل. أعانق هاشم القائم من التراب، الملاصق لخطوي في اللازمن، اللامعنى، واللاهدف. نتوغل في مطلق الظلال. يعصف بنا دفق الأشواق نحو جدران البيوت نتلمس .. آجرها المتآكل المرطوب .. ينوح هاشم وجداً بصوته الحنون:
«ليش الي سماره حلو ينحب
تظل الروح دوم عليك تنحب
علي بوية»
تسدرُ نفسي .. تسافر في عمق الحائط، التراب، خشب الأبواب، نوافذ الغياب، أرتحلُ متمايلاً مع تموج ستائر البيوت المسدلة، الساقطة من أسقف المداخل الحالكة إلى العتبات العاليات. أخرقُ بقوة خيالي قسوة القماش مطلاً على ألفة كائنات محبوسة خلفها. أتخدر بالهبوب الخفيف العابث بأجساد الستائر، واللاعب بليونة عباءات النسوة السود، المارقة في بحور الظلال. أتخدرُ ممسحاً فتات الآجر. أخطو .. أخطو متأنياً .. لأخبو قليلاً .. قليلاً .. أخبو .. أخبو .. يأفلني شروق صبية من عتمة دهليز مسقوف، بوجهها النائر من حلكة العباءة وأمواجها الصاخبة .. تأفلني .. أتحول فراشة وشفتاها الناريتان تنفرجان عن بسمة أبدية تحرق جنحي، فأسقط في فرح طاغ .. مأسوراً بالتي كانت متوارية خلف الجدران، في عتمات الغرف، ووراء النوافذ المحكمة الرتاج، مكبوحة مهددة. أحبو مرعوباً ألذ رعب في مسافاتها، والصبية تنفض خصلة سوداء شاكست عينيها المكحولتين. اختضضتُ في حبوي على التراب، والخصلة تطير فاضحة ألق العينين المتوهجتين بالرغبة الطافحة التي أظهرتها تباريح الموانع، هواجس الحصار والخلوة، الكبت وفداحة انتظارات لا طائل منها، لم تنحرف أو تميل، منطلقة صوبي، مربكة خطوي.
ـ هاشم .. يا هاشم ... ها أنذا أعلق .. أعلق الآن!
والصبية المتوردة الوجنتين، بوجهها الغبشي، لاهثة بماء الفجر، بالشهوة تمعن في الاقتراب، تكاد تلفني في عباءتها التي تركتها تنفتح عن ثوب منزلي، يبرز نهديها الصغيرين، المستيقظين لتوهما. وقبل أن تنحرف عن جسدي المأخوذ همستْ بخفوت شديد، أولجني في حلم آخر:
ـ صباح الخير.
هل كنت وقتها في طريقي إلى مدرستي ـ إعدادية زراعة الديوانية ـ أم أن ما حدث، حدث في اللازمن، في خيالات وجدي؟ ما يحدث لي، أو ما حدث لي، ما تخيلته في زمن شرودي الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، أو ما يكون قد حلمت به نوماً ويقظة. لا فرق فقد استوت في نفسي المقامات، مقام الحلم، مقام البصر، مقام الرؤيا. ما رسخ في حناياي ... هو ما خلفه غيابها خلف باب مقابل لنفق ظهورها، فقد شبتْ بي تباريح عشق مطلق، عشق اللحظة الخاطفة، النادرة، التي لا مثيل لها ولا تكرار، ذلك التوق الغامض المنطلق بغتة من أماكن مجهولة في الروح، توق حارق للاندماج بالآخر، توق مستحيل، فانحفرت في روحي سمرة الوجنتين المضرجتين، والشعر الفاحم الناعم المنسدل جوار النهدين، والخصلة المعاندة نفضة الرأس الآسرة، مسافة الغبش بين بابين متقابلين، والرغبة المخضلة بحر العينين، والهمس الملهوف.
في التوتر الخاطف .. في الخدر القائم .. أتلظى بأخيلتي الآن، هاشم، قاسم، صبية النافذة الجريئة، وصباح خيرها التي لا تنسى. أتلظى في زمن وجدي، في امتزاج أضواء غير مسبوق، في طريقي من ظلال سوق التجار المسقوف عبر شارع علاوي الحنطة المفتوح إلى دفقة ضوء زقاق من أزقة "الجديدة". في التباس الضوء أحبو، في التباس الأحوال .. من أخبرني أنها أزيلت .. من؟ وبُني محلها عمارات، وهل تُزَالُ الأمكنـةُ من الذاكرة، من النفوس .. لكن هل كانت الأمكنة حقاً؟ هل حقاً ما أنا فيه الآن؟ هل حقاً أخطو هذي اللحظة على تراب الزقاق .. هل .. هل..؟ ورأيت هاشم يتحول إلى دخان ويتلاشى رويداً .. رويداً في الأنوار الغريبة، في امتداد الزقاق، نافذاً من زجاج نافذة الصالة العريضة، ذاهباً بكل شيء معه، الصبية، النوافذ، الحيطان القديمة، أخيلة العيون.
تظل الروح دوم عليك تنحب
علي يوبة
تظل تتردد في صمتي، في السكون المطبق المحيط، في وحدتي المكينة.
وجدتني أخطو على موكيت الصالة، لأتوقف جوار النافذة، أبحلق في الثلج المتساقط منذ بكرة الصباح. في أوراق الشجر الذابلة المتساقطة، ببقاياها المعلقة على الأغصان بعناء، ببياض الثلج الناصع الذي بدأ بتغطية عشب الحديقة، بأدراج المكتبة المغبرة، بكأس الخمرة المترع القائم على الطاولة الخشبية السوداء. كم عببتُ من الكؤوس؟ لا أدري. فقد بكرتُ في الشرب هذا اليوم، يدوي برأسي صراخ "حسين عطشة" القصاب الذي كان جندياً في وحدتي العسكرية زمن الحرب حينما نسأله عن سبب صمته وشروده كل غروب حيث نكون بانتظار قصف الإزعاج الليلي:
ـ اليوم .. اليوم .. يا الله ذاكر أحباب قلبي
ذاكر أحباب
هل مات هو الآخر في الحرب؟ عدتُ إلى جلستي، إلى كأسي وأصغيت إلى هذه الألحان المنسكبة من مكان ما بخفوت وكأنها تأتي من بعيد. ما زال هناك "شتراوس" يدلق روحه من الـ "CD"، هل كنت في غور أمكنة السونيتا، ما هذا المكان؟ ما هذي الرخاوة القاتلة؟ من ألقى بي في هذا القفر الوثير .. في المطلق .. اللازمن .. اللامعنى .. العزلة .. من؟ رفعتُ كأسي .. وأصغيتُ، فوجدتني أخطو على التراب. أتحسس جسدي القائم، الممشوق، الناهض، المارق في بهجة ضوء الزقاق الرطيب، وروحي بعيونها الكثار مرتبكة تحدق بعتمات النوافذ المفتوحة، بستائر الأبواب المسدلة، في دفقة ضوء الزقاق، في امتزاج أنوار غير مسبوق، أخطو وحيداً ... وحيداً.
الدانمارك