ليد قتيلة تحت نخلة هنا
لغائبات، لعيون، لرأس مقطوع
لقتلى بلا صياح،لمدينة من الكتب
لأمة من الجنون
أكتب كلمتي الأخيرة "
صباح العزاوي
"يا طيورا تُفَضّضُني بالعناد
هل الدموع القديمة بريد مُرتَجع"
إبراهيم البهرزي - من مجموعة صفير الجوال آخر الليل
الفصل الأول
فجأة تُطرق الباب، الملائكةُ ترتعش، أُلاحِظُها. تسير جدتي مثل ربَّان على وشك الغرق، أصابعها دم، يا إلهي ! دم اسود وشمع ذائب، تصل الباب وتنظر إلى الوراء، تحديدا إلى وجهي.
أصابعي والملائكة التي تقف خلفي، كلها تذوب مثل شمعة كبيرة، أين نحن؟ صراخ كبير، في السماء؟ على الأرض؟ في الجحيم؟ في الغابات البعيدة والأنواء؟ لا ادري.. لا ادري.
تُفتح الباب ويهجم الصوت والرجال مثل عاصفة محطمة.
- هل ابن القحبة موجود؟
- من انتم؟
- هل هو موجود؟
**
تنطلق سيارة الفرقة الحزبية ـ اللاندكروز ـ بجنون، أنا في حلاقيم الوطن، أنا بين حيوانين وأنوف. آلاف المطبات، عشرات الاستدارات، إنها لاتسير - السيارة - بل تطير في شوارع بغداد، مثل رخّ بلا أجنحة، بلا ريش، بلا عيون. كل العيون تغرق في التساؤل، في الحيونة. معدتي تنقلب، البنكرياس يتمزق، المرارة تنفث السائل الأسود دون السيطرة عليها.
أقول : أريد أن أزوّع أرجوك، نحن فوق الأكوان، فوق المجرات الحيوانية، فوق الغابات والوحوش واسمع من المجرات صوت العواء والتوسّلات. اسأل : إلى أين؟ إلى أين؟ يستدير السائق صارخا : خونة، قشامر،.سن... خواتكم، و يضحك بهستيريا واللعاب يسيل من فمه. إلى الجحيم ياخرا. يبكي ثم يضحك وانتبه إلى أن ضحك السائق يشبه مغارة لصوص و إني أنا الوحيد الذي سيصعد إلى النقنق.
**
ضبابٌ، سماءٌ من رصاص ذائب وذئاب تكريتية تتفرج على سقوطك المدوي. لا حياة بل صمت كونيّ. فقط الرئيس بأقانيمه المتعددة يفرد أجنحته على الفضاء. أنت تسير مثل خرافة، مثل قنديل بحر، مثل فزّاعة في الحقول الجرداء والمهيب الركن بتمثلاته النرجسية يمزق الأحشاء بمناجله الكبيرة.
**
منذ البدء كان ينبغي أن أروي قصة الأشياء السخيفة التي حدثت في حياتي أو حياتها الملعونة. كان يجب أن أنتحر. أن افعل شيئا ما، لكن الأشياء غير المُمكنة هي الوحيدة التي نستطيع أن نطلق عليها : ازدراء. لذلك فاني ازدري حياتي و ازدري هذا الوجع، الوجع الكبير يوم فلقت إلى فلقتين، في واحدة كنت أنا وفي الثانية عقابي الشديد وغير الممهور بالرحمة، ذلك لأني ضعت في لحظة زمنية نحو الغطس الكلياني للروح وهي تموج في بحر اسمه العراق. قد أكون مغاليا في بعض الأحيان، وقد أكون بائسا إلى درجة الشفقة والى الحد الذي أثير فيه مشاعر النحلة والنملة.
لم أعرف منذ متى أصبت بالشيزوفرينيا او العوز النفسي، ربما في طفولتي وربما في ريعان الشباب، كما يقولون. وفي كل الأحوال فأني أضحك من كلمة ريعان، أي ريعان؟ ! وهذا الكابوس يغلف الوطن، الوطن الممتد شرقا وغربا ويمتطي صهوة المجد. لكن هذا المجد ليس عنوانا للنجاح ولا للهيبة، التي يتبجح بها الرئيس، إنما الإذلال الذي عانيناه كل حياتنا. لا أعرف على وجه التحديد كيف حُملت بهذا الألم؟ الألم الشنيع عندما تغزوني تلك النوبة الحقيرة. في الواقع، ما كانت نوبة بالقدر الذي كانت فيه استمرار الحياة بشكل آخر.. أنا أهلوس غالبا، أنتقم، أوشوش في الريح، افتن على العاصفة وأثير شفقة الرياح. وهنا ينبغي القول : إن اللعنة التي نامت على ظهري جعلتني اكفر بكل شئ، اكفر بالأرض والتربة والأشجار والوطن أيضا. لكن يجب وفي كل الأحوال أن أجد تبريرا لما فعلت، وأي تبرير يمكن أن يقدم للخروج من المحكمة كشاهد وليس مجرما؟ جريمتي ليست كما جرائم الآخرين. إنها مبررة لي شخصيا وهذا مهم. ربما سأُتَهم باني حقير، كلب، قواد، سرسري، خائن. أي شئ يمكن أن يطرأ الى ذهنك، لكني في الحقيقة لست هذا الشرير الذي طعن ولا المجرم الذي قبَّل خد يسوع القبلة الأخيرة. لا لست واحدا من هؤلاء قطعا، ذلك ان تبريري الوحيد الذي لم يفهمه الجميع، إني فعلت كل هذا تحت غريزة غريبة، غريزة مجهولة وضائعة بين ألاف الحشرات في هذا العالم.
إن ما يراه البعض سخافة، تجده أنت أروع الأشياء. هكذا هو العالم وهكذا هي نظرتي التي تعتمد على الإحساس الفردي بألم الروح وليس كما يتصوره البعض. وفي النهاية فإن هذه البقعة، الشيء الذي يُسَّمى - الوطن - وأنت خرجت من حيا منه، سيبقى هو الأجمل وستبقى - رغم الوجع - مسكونا بهاجسه الغريب، مهما مورست بحقك سلطة الإبعاد واللؤم، لأنه ببساطة يضم أكثر الأشياء إثارة في حياتي، زهرة الراسقي، أمي التي قَطفت ربما عن خيبة أمل او عن يأس وغالباً عن حرص روح و ريحان وجنة نعيم حياتها وهذه هي المشكلة.
من جهتي اعتبر ان الحياة لاتستحق أن تعاش في غالب الأحوال ونادراً ما كنت أبكي وعندما أعيش حالة الانشطار الذهني، افرغ جل الألم في مهبل الوطن، وهذا الإله الذي اسمه السيد *الرئيس، والسيد الرئيس عندما كان نائبا يستمر في ممارسة عزف البيانو على مؤخرتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرئيس : صدام حسين
** بغداد في شتاء 1979 - 1980 مثل مراحيض كبيرة خالية من الدسم لكن بوجوه متعددة، مثل آلهة الهنود ومثل الميثالوجيا الاغريقية،/ لكن لا شاروبيم في السماء ولا ساروفيم مجرد هو، هو و عواء في مقتبل الأيام ومنتهاها.
الخنازير تفتك بالكروم، تقتحم عينك وحدقتك وأنت غريب على باب السلطان حيث لا وجوه ولا حياة ولا موت. إذا لم ينجـّني الله من فوق سبع سماوات أسبل على هذه المدينة بُصاقي.
اين أنت الآن يا أمي؟ ألهث و أنزلق على مراجيح الوطن كما الهباء الالكتروني الذي تطلقه أشعة الشمس المتوارية خلف وجوه العوز النفسي. حشرجة قوية، تفحم الحنجرة، اختناقات وعيون مليئة بذروق – فضلات - العصافير. أشرب ظلِيم النفس وانتهب روحي التي تكره هذه المدينة السافلة. أسير كتافه ومخذول لأن الزمن ينتهبني. أسكر الآن من ( بُطل ) عرق منحتني إياه الآلهة العظيمة لصحراء العرب. أتبرز على كل الشواهد في حياتي. الموتى، السكارى، الوجوه الحديدية، أصحاب العاهات المؤقتة، العميان، البرصان، العوران، العاهرات، اللقالق تخفق وترتفع، الزرازير تفر هاربة في مجموعات مليونية، الفخاتي تنام في الكاظم والأعظمية، رقبة الجسر، حلويات نعوش، نوارس، عصافير تلتقط روث البغال في خان دلة. خياطون في شارع ضيق يعربدون وأصوات ماكيناتهم تصم الآذان. نادي نواب ضباط الجيش العراقي الجنائزي عند نهاية جسر الاحرار. مراوح معلقة تتحرك بجنون في البارات، كلاب تزمجر في المقابر. غربان تلتهم الخمس بجنون، فروخ. سيارات موسكوفيتج وفولغا تتعطّل بسبب الحر والبرد. بطاريات سيارات متروكة. شعرة مرمية على حافة مرحاض، باعة لبن أربيل وقيمر وذباب يطوف على الوجوه. شلغم، لبلبي، عصير رمان، سراويل مفتوحة، محلبي، لافتات على الجدران تقول : البول للحمير، ياناظري صلَّ على النبي، محروسة سبع الدجيل، لا سيف الا ذو الفقار، أدركني ياعلي. فيضان بشري اسود ورمادي يدور حول مراقد مقدسة. ماء اسود في العيون، كهنة يقدمون القربان الأحمر، شرجي يتدفق الى الزواريب والدرابين ونساء بعباءات كالحة تتطاير في الهواء واستجداء بعاهات الأطفال مع مخاط يلوث الأنوف. أتسكع في شارع الرشيد منحدرا إلى الميدان. المدينة مبهمة تماما، النهر يشهق شهقاته الكبيرة ويتحسر على الأرواح التي تذوب في الفراغ وعناق خلف سكك القطارات وفيما وراء سدرة المنتهى. أريد ان أشم رائحة بغداد قبل أن تلوثها حضارة رعاع العوجة. اين اجدك ايتها الرائحة؟ في الروح، في الطرقات، في الدرابين، على الوجوه الملتوية للبشر بفعل الشرجي. متخم بحبك يا أمي. أُرشق بعيون زهرة الراسقي وهي تضيع إلى الأبد تحت أقدام الرعاع المحشورين معنا في علبة تنك اسمها العراق.
برد شنيع وبغداد تتحرك في داخلي مثل أفعى. التجمدات والصليل والعيون الجاحظة تراقبك في مداخل ومخارج المدن. رشاشات، مسدسات، بدلات عسكرية، رتب مجهولة، رفاق حزبيين، شاحنات تزمجر والسعي إلى الموت يصطدم برغبة الجيشان المر للمشاعر المخرومة. اهجس أن صوتا عارما يرتفع إلى السماء متوحدا يقول : من الذي وشى بك يا أمي؟ من الذي ثقب مراكب الآلهة وهي تبحر في انفلات دجلة والفرات ومواسم الحزن البابلي؟ أنا والجراثيم والبكتريا و صديقي ميري مشوهان في زمن الردة. ما الذي تفعلوه يا أبناء القردة والخنازير وأمي زهرة الراسقي وحيدة هناك؟
حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مكروا، سم الصلال تحت شفاههم وفمهم مملوء لعنة ومرارة. جسدك ياخضر الياس يذوب في حامض التنتريوك والتيزاب وكل السوائل المذيبة في هذا العالم الخرائي. ناظم كزار* في العلية يشرب القنداغ مع لوسيفر وقنينة العرق ملاذي الوحيد. اين انت يا برزان ووطبان وسبعاوي وعدنان خيرالله وارشد ياسين وحسين كامل وعلي حسن المجيد. اين انت ايتها الافاعي المزنرة بالاسلحة القاتلة وأنا مثل بيضة عليها جلس العالم وسأموت من ضراطكم وحيوانيتكم. أقف مترنحا أمام ساعة القشلة، متحسّرا. أبوس أقدامكم أيها الانكليز - الليبراليون - أبوس طيزكم وطيز كل عاهراتكم وأحصنتكم. الانكليز ارادونا أن نكون ليبراليين لكننا شعوب غارقة في البداوة والحيونة. ميري وأنا، الأحصنة الوحيدة في هذا العالم التي تبول نائمة اما أنا شخصيا فأبول على المسنايات والزوارق البغدادية والوجوه اللاهفة والبصاق والأمراض والنوستالجيا والتاريخ الخرائي للعراق وكل آيات وسور الدهشة التي تميتني..
_______________________________
* ناظم كزار : عضو مجلس قيادة الثورة ومدير الامن العالم في زمن الرئيس العراقي احمد حسن البكر
* اقارب صدام حسين الذين يشكلون الحلقة الضيقة لإدارة العراق
ضباب بلا نهاية وسماء رمادية ثقيلة لاتنقشع تفاهتها وأنا ارتعش. برد يغزو عظامي فأغدو مثل بعير يبول في الصحراء. هكذا أفكر، في طرقهم اغتصاب وسحق، بدو، وحوش، ثقافتكم ثقافة السحق والتنكيل والولدان ونكاح الحمير. ضباب افنوتي وموت بطرق مختلفة ثم تلفني التائهات والغاديات والعاهرات. أين أنت يا الله؟ في المدن الماورائية؟ أم لم تزل أقدامك على ارض أهل العوجة والشيوعيين؟ ميري أين أنت الآن ياصديقي في هذا الكبرياء المغالي للسماوات وهي تمنحني موتها بلذة الارتعاش.
تكريت نكحتنا يا ارميا وخضر الياس، نكحتنا من الخلف والضباب فظيع وغير مرئي وبلا نهاية، لماذا عيونك رمدة يا بغداد؟ لمَ تتراكضون مثل الثعالب والضباع؟ تُنبشون الأسواق المركزية بحثا في مزبلة الوطن وقبلات ضاعت قبل الأوان في خراء المدينة الشفيف. أبصق عليكم أيها الرعاع، أبصق على مدنكم ومنائركم المحلزنة المليئة بالصراصير و المخبرين السريين ورجال الجيش الشعبي والمخابرات والأمن العام والخاص.
سيارات ومدن مصفحة بالتيزاب والحمير النافقة وجيف في كل مكان، ملفات سرية لكل شئ، مخبرون من كل الألوان والأصناف، مخبرون مجانيون يخدمون فقط للهاجس البعثي - التكريتي - لان لا صوت ممكن أن ينطلق في العماء، لذا أطير فوق بغداد مثل عصفور مهلوس.
**
شتاء (1979 - 1980) في بغداد بارد جدا، نزيفي، زمهريري، ديماغوجي، دكتاتوري، لم نشهد بردا قاسيا ومعربدا مثل هذا.. يا سرجون الاكدي وام معبد. أتبول عليكم أيها الملاعين وعلى مدنكم وحميركم ومطالكم وأحزابكم وثقافتكم، أبول واقفا عليك انت ايضا ياتيتو وماوتسي تونغ وفلاديمير ايلتش لينين وميكي ماوس، وربما ميشيل عفلق. ميشو اين انت؟ و…. أبول عليكم كلكم أيها الرفاق، ضمنا الشيوعي ف خ وهذا النغل عزيز.. وأسير في الشوارع تصدمني الأجساد. حشود غريبة، حشود دودية، تعبث بكل شئ وتدهس كل شئ وهي تتراكض مثل الخنازير وتدخل الأسواق المركزية وتحمل الأغراض والألبسة وتتصارع وتتلاحق وتتقمص وتستفرغ في المستنقعات المتفجرة لنهر الخر العظيم.
أريد ان أموت يا ميري أرجوك، افتح لي إست النقد لأنتحر فيه، علِّقني في سنارة الحداثوية والاشكالوية، أريد ان أموت بطريقة ليبرالية وسط هذا الركام من العفن النفسي والتأجج وأشجار الياس والخروع و تاريخ الجنون. ركض وركض وعواء وبيرة متاحة في الشوارع وعاهرات من الفلبين وكل المعمورة وأغبياء وهتافات للقيادة السياسية وهستريا جماعية.
أسير في الشارع مثل مخبول، مخبول أبدي وأشاهد ملايين الرجال والنساء يتدافعون من أجل طبقة بيض، حيث حوَّل القائد الرمز حياتنا إلى طوابير من التشيؤ، من البحث عن البصل والثوم والطماطم. كل يوم أزمة جديدة طوابير أمام باعة البيض، طوابير شيطانية تتدافع للحصول على الدجاج، حياة خربة وأنت تتدافع مع الآف من اجل الحصول على كيلو بطاطا، زبدة، قشطة. نقود في كل مكان، نقود كثيرة في الهواء والعاصفة والريح وأفواه الرفاق،لكننا ننام في الشوارع، ننام أمام وكالة الأفريقية من أجل الحصول على طباخ أومبردة هواء. الوطن عواء وأنا أسير بين الحشود الفزعة مصطدما بالأكتاف والوجوه وروائح الأفواه والحر والبرد والصقيع والملابس الثقيلة والعارية والمؤخرات الدنيئة وأذوب من الحرارة في ساحة النصر. أسير مترنحا، هائما، بخطوات مبعثرة لكي يتم ماقيل في اشعيا النبي «الشعب الجالس في الظلمة» يسافر إلى وارشو ويستمتع هناك بالفيكي فيكي.
ضياع في روحي وجسدي وعقلي يا أمي. عواء والفيترجية* يتدافعون بالآلاف أمام مكاتب الجوازات للسفر إلى بولندا والنوم في أحضان العاهرات، سفر وشيزوفرينيا وعرق في الشوارع وبارات تعج بالزبائن في كل الأوقات وزرازير مشوية. لكننا نقف بآلاف الطوابير أمام بائع البيض والدجاج. تنمية انفجارية، تنمية متوازية، تنمية اشتراكية، تنمية رأسمالية تنمية جقلمبية. كل انواع التنميات في العالم. لكننا نخاف أن ننام لان ( أبو طبر )* يسرق أحلامنا. (أبو طبر) يا أمي، وعصابة الكف الأسود بعد ذلك، لأن الله تركني على قارعة الطريق، في هذا الوطن، بفوضوية الأشياء، بالانتهاب المغموس باللعاب السائل من الأفواه، بالنساء الممهورات بالعباءات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الفيترجية : مصلحو السيارات.
*أبو طبر : عصابة إرهابية اخترعها البعثيون في بداية حكمهم لإرهاب الشعب العراقي وتعتمد على القتل العشوائي.
والغائط في الطرقات، بالنذور التي لاتستجاب، بالمسدسات والبنادق الكبيرة، بعدم وجود مراحيض كافية للشعب في الشوارع، فيما مصانع الأسلحة والجوامع تنبثق من الأرض مثل الشوك. أيها الأباعر لسنا بحاجة إلى مصانع أسلحة، نحن بحاجة إلى مراحيض وتحديدا إلى مراحيض نظيفة في الشوارع وصابون لغسل اليد بعد التغوط بدلا من أن نمسح بالحائط الأسمنتي. إن الدماغ يلوكني مثل نعال متذكرا إني غالبا ما وجدت في مراحيض المدرسة شعارات البعث
(امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) ( الطالب الجيد هو البعثي الجيد ) (من لايعمل لايأكل)، (لاخير في أمة تأكل اكثر مما تنتج ). مراحيض المدرسة تفيض بالبراز، بالميثان المتفجر متناثرا. براز في كل مكان ولا أحد ينظف ولا أحد ينزح السبتتنكات لأنه لاتوجد أيدي عاملة، لكن هناك المزيد لتعليق الشعارات، شعارات لكل شئ، شعارات للأكل والشرب والتقيؤ ولعيان النفس والجيفة ومضاجعة النساء والتجسس على الأهل والأخوة والأقرباء والجيران ونتف شعر الأبط والعانة وكتابة التقارير والوشايات وشعارات في كل مكان. اصغر تكريتي في العالم له سلطة اكبر من اكبر وزير. لكن مشكلة البول والغائط في الطرقات لم تُحَلّ ولا توفير البيض ولا قيمر المصلحة أو الحليب المطعَّم بالموز الذي كنا الدولة العربية الأولى التي تنتجه، لكن عندما جاء العوجيون صار هباءً، مصيبة، كارثة، جرثوم من العربدة المزنرة بالطلاسم السحرية ومسدسات براوننغ للرفاق ورشاشات للجيش الشعبي. كل الشعب بعثيون وان لم ينتموا، أكاد أختنق، أموت، أتقزز مثل قنفذ على سرير معروك. اينما تلتفت تجدهم، كعورات مقطوعة ومتدلية، كحمير في صباحات أسواق الخضرة المتفجرة والخيسة وعلس الحشيش في الشواكة وحمّال يرتجف وهو يأكل لفة الباذنجان. تشاهد مسدساتهم وبنادقهم و مسدساتهم تحت السترات بارزة في الشتاء وفي الصيف تحت بدلات السفاري ومتورّمة كخصية حمار. تشاهدهم في سيارات النقل و الباصات والتاونسات والفورتات و كراج العلاوي وفولفات خشب وطليان وبعرور وباجة وبريمزات برقبة طويلة كما اللقالق تحت القدور وتلمحهم في كراج النهضة ايضا ودرابين فضوة عرب، مثل ديدان تزحف الى السبتتنكات، رجال أمن يرفعون أذرعهم الى الأعلى لترى المسدسات والأعضاء التناسليّة و علب سجائر روثمان ودي موريه وبغداد تصدير، يسقطون بطاقاتهم على الأرض عمدا ويلتقطونها من اجل ان يشاهدها الجميع. انتبه يا بعيوه، سيطلقون عليك الرصاص. سيطلقون عليك رصاص دم دم صدَّره لنا جمال عبد الناصر والأمريكان. يطلقوه في عينك و فمك مملوء بشعاراتهم وأهدافهم، وحدة حرية اشتراكية، لما سلكنا الدرب كنا نعلم ان المشانق للعقيدة سُلّم. مافيا خرائية يا زهرة الراسقي. لأني أضعت السنبلة والكرمة في هذا الوطن، ولأني تائه أبدي في شيزوفرينيا جماعية، ولأني أنكرتك أمام الناس وضابط الأمن ورجل المخابرات وهم يجرجروني من ياقتي. كم شعرت بتفاهة أني عراقي، تفاهة السهاد والصلاة والتضرع، قنابل غائطية في وجوه الجميع، و.... بم وينفجر كل شئ ونغرق في سهاد الخراء ونرقص رقصة الفيكي فيكي والجوبي و شاينه كوكو. انا أولد بالخطيئة الأصلية يا أمي. أولد بعراقيتي. ليس لنا فاد بعد، ولأننا بلا فادٍ فأن روح المعزي لن تجيء يا ابناء العاهرات حتى بعد اليوم الخمسين.
كنت مختبئاً عند صديقي ماجد عندما دخلت علينا جارته أم عليوي. ارتعشت وقتها خوفا و بعد أن خرجت أبلغت الشرطة قائلة : هناك شاب مشبوه في البيت وبلهفة أيضا، بلهفة الدسيسة، بحب طغياني، نهلستي، قفزوا على السطح داهموا عيوننا، رشاشات في أفواهنا، مسدسات في مؤخراتنا، ومن كل الأنواع شرقي وغربي، شيوعي ورأسمالي، سيارات لاندكروز خارج البيت، صراخ، أطفال يتبولون في الشوارع، مخاط، شاعر شعبي يزمجر عبر راديو جيب بقصيدة شوباش اخذني الحلم، ملابس عسكرية مزوّقة بالشارات وجوه ترابية، جيران يضحكون. جرجرني رجال الأمن وقتها مثل معزة، سحلوني مثل جرذ ميت مثل يربوع. أهان بملايين الكلمات القاسية، بملايين ابن القحبة، القحبة التي تراكضت في هذا الوطن الزائف والملعون تحمل منشورات الحزب الشيوعي لتوزِّعها.
**
ابكي الآن يا أمي وأمجّ من قنينة العرق مترنّحا متذكرا رعبك، متذكرا بهاء قامتك النسرينية وانت تسيرين في مستشفى الطوارئ، ممرّضة بعقصة شعر أحمر. الساعة تقترب من العاشرة صباحا. يرن الهاتف بإلحاح في غرفة الممرضات ياالهي ! وفي كل مرة يبقى وقتاً طويلا كريها يرن، تتقدم إحدى الممرضات وترفع السماعة، تطلبك، تأتين بهدوء، بهدوء سماوي و مجدلي، أكثر رقة من شاروبيم. تنظر الممرضة إلى وجهك، لاتريد أن تغادر. آلو.. آلو.. آلو. تحاولين أن تفهمي لكن على الطرف الآخر ارتباك، تشوش، بطء، مرارة، قسوة، ارتجاف غشاء عضلة القلب. تحنين رأسك قليلا وتحاولين الاستماع بشكل أكثر تركيزا.. ماذا؟ آلو... آلو. تضغطين بأصابعك على الأذن الأخرى تقولين بتشوش وتستديرين إلى جهة الحائط : ماذا؟ هناك لعثمة لا استطيع أن اسمع، تنظرين إلى الممرضة الواقفة قربك وتلمحين لها أن تطفئ المذياع منذ متى؟ تعودين للتركيز على المكالمة. يقول الصوت الآخر بتقطع : الآن خرجوا من بيتك، فتشوه، رجال بملابس مدنية، رجال امن بسيارات فولكسفاجن وفيات G L وينقطع الصوت و صمت قاتل. صفارة العدم تنطلق من السماعة، رعشة خفيفة تسري في كل جسمك، تحدقين في العدم، زغب ذراعك يقشعرّ، تصابين بتنمّل عمودك الفقري وسكاكين طويلة تعبث في أجساد مكوّمة على الأرصفة. تتمنين ان تسمعي تفاصيل أكثر. لكن، لاصوت في السماعة. فقط الحيرة المتأججة وصفارة مموهة بالهلاك. في تلك اللحظة حدث شئ غير متوقع، شئ لا تفهمينه، ولأنك لاتفهميه فانك تضطربين مثل دودة متوحّشة تسير على جثة، ترتمين على الكرسي ووخزات على طول ربلة ساقك، وتلتصق الساق بالساق، حذاؤك المطاطي الأبيض يجمع عرقك ويطلقه نحو العالم. متاهة من الأفكار، ضوء نافر لكنه مصفَرّ يقتحم ستارة النافذة وتشعرين فجأة بعصف سريع مثل قنبلة تفجّر المكان. شئ من العبث مع ضوء يضنيك اضطرابا، لعثمة. تتساقط أمامك فجأة أضواء بعيدة وتتخيلين إن العالم بدأ بالانهيار، تحاولين النهوض، تفكرين بملايين الاشياء، زوجك، الأطفال، الكتب، قسائم الكسب الحزبي، إشارات التعارف. الممرضة الواقفة تنظر إلى وجهك ببرود تحاول أن تعرف سر الاصفرار المفاجئ. طرق غريبة تنغلق أمامك و أنت تنظرين إلى نهاية أكوان غاية في البعد. هل يمكن ان ينتهي كل شئ؟ كما حدث في ٨ شباط عام 1963 عندما اقتحم البعثيون البيوت. و كما فعلنا نحن - الشيوعيون - في عام ١٩٥٩؟ تتذكرين؟ هل الذاكرة مخربة إلى هذا الحد وغير قادرة على نسيان أعوام الهزيمة المُرَّة وتضحيات هائلة وموت في الشوارع. نقطة سوداء تكبر وتصل إلى النقطة الحرجة والنقطة الحرجة، هي مخيلة مرضوضة بفعل القتل والسحل وبقر البطون.
تنهضين الآن، الأصابع مرتبكة وبصاق خفيف يتطاير متناثرا من بين الشفتين. تنزعين روب التمريض والقلنسوة البيضاء بالخط الأسود، تسيرين بثبات باتجاه ممرات بيضاء. انه العدم ولا رؤية غير بياض الأسرّة والممرات المشحونة بضوء بارد يتسلل من بوابات تفتح وتغلق بسرعات متفاوتة.
في 8 شباط 1963 كنت تمارسين عملك في المستشفى عندما دخل الشيوعيون وهم يحملون إصابات دامية، وبمجرد أن بدأ الصباح ينثر دمه امتلأت ممرات المستشفى بهم. كنت تتنقلين بين الأرجل والأيدي المدماة. عيون الموتى المتجمدة وعيون الجرحى المكوية. ليل طويل منح الآخرين فرص الهرب لكن الزعيم عبد الكريم قاسم * كان يقاوم. تحاولين مع رفيقاتك الاستماع إلى الشائعات. عبد الكريم لم يزل يقاوم، عبد الكريم معه ثلة من الجنود والعرفاء - أبناء الشعب – حطموا آلاف الجماجم البعثية، الفاشيست أعداء الجمهورية. يعيش الزعيم، تعيش الجمهورية، تعيش ثورة ١٤ تموز والخونة إلى الجحيم. ثم يرين صمت مخيف على المذياع والعيون تحدق وتمتد آلاف الأصابع والجراح وأصوات الرصاص تتناهى من أمكنة بعيدة. انتهى كل شئ، سقط الزعيم وهبت ريح انتقام بعثية مخيفة.
**
تسيرين الآن في ممر المستشفى تدوسين أحلام الوطن الاشتراكي الذي تتيه فكرته وتأملاته في جوف الليل الذي يوشك أن يضرب بأجنحته، تدوسين حقول ملايين الجماجم وآلاف الألسن التي ترغي في برك الدم والرماح والفوضى، تسيرين بعجالة لكنك تشعرين إن العالم الخفي المكنون داخلك قد انهار. الصور الدموية تخرج فجأة من الذاكرة. يخرجها جن غريب بوجوه هلامية باعثة على الغثيان، يخيل اليك انك تسيرين في مستنقعات من الفولاذ والحديد المتآكل، لكنك تستمرين في السير السريع، الجري، الركض، الصفنة على ضفاف الأنهار الملغومة بالموت الجارح، العيون التي تنظر لك مبهورة، تركضين في الممرات، بين أسرة الحديد، بين الأورام والأوراق والإبر والبدلات البيضاء وعلب التعقيم البخارية. بين المرضى، بين
ـــــــــــــــــــــــــ
عبد الكريم قاسم : ضابط عراقي قام بالانقلاب على الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية عام ١٩٥٨
الشمس والضوء الذي يتسلل عبر النوافذ، بين الطاعون والسل والرمد وقناني الدم الملوث واللفافات والأدوية وطاولات الأكل وعربات الطعام والمرضى والمشلولين والفقراء والأغنياء والنساء المتشحات بالسواد. يتنامى اليك انك تسيرين نحو العدم والانبهار والأصوات والكواكب والمجَرّات والآلهة والضياع والخوف. لكن هذا العدم له صوت الاختلاط مع ضجيج صرخات النساء والبكاء على الموتى. كنت تبحثين بعجالة، راكضة، مهرولة، عن اللحظات الأشد قسوة ومكرا ووجهك تتجمد فيه العروق والشفاه ترتجف مطلقة انينا. تصعدين سيارة الموسكوفيتج - السوفيتية - بارتباك و تديرين المحرك، قلبك يخفق، يملأ المكان باضطراباته. العالم ينهار بصورة غريبة ويتحول إلى ركام. تتفحصين الشارع بنظرات المجهول و بابتعادك عن المستشفى يداهمك ماهو أكثر إثارة للشفقة من خوف حيوان على وشك الموت.
أثناء قيادتك للسيارة يوخزك الإحساس المُعَثلب لك وإحساس العمل الحزبي، أو ما يمكن تسميته بالتناثر البارد لكرات البلياردو وصوت الارتطام الجامد، لكن هل يمكنك الفرار الآن فيما إحساس الانهدام يرمي عليك ثقله؟ لم يكن هناك من اتجاه. يمكن الهروب إلى الشمس أو إلى الذهن. يمكن أيضا الهروب إلى سطح بارد على قمر مظلم، او عتمة شفيفة في زنزانة، وهذا الخيار قاتل عندما يرتبط متماسكا بشدة مع الايدلوجية ليولّد عنفا مرعبا ولذة للمحقق مع الضحية وفي إطلاق الألم والاستمتاع به. هل تسعفك الذاكرة الآن للإفلات من التربص الشديد القسوة الذي نقله لك الشخص المجهول عبر الهاتف؟ هو يعرفك ويعرف مكان عملك، أو هو ربما كمين أعدته الشرطة السرية. الكارثة، وأنت تفكرين، ربما تكبر في الشوارع. سمعت عن حوادث كثيرة، وكانت قد بدأت قبل أسابيع حملة لاصطياد الشيوعيين من الشوارع وأماكن العمل. لكن صوت الهاتف يبعث فيك قشعريرة تمتد من اعلى رقبتك نزولا إلى كعب القدم ومرورا بالعمود الفقري والأمعاء التي بدأت تتقلص. في روحك وقلبك وفؤادك والمخيلة المتراكضة كأحصنة متعبة في سباق الخيل تحاولين التعرف على هوية الذي هاتفك لكنه يبتعد بصوته وكلماته القصيرة مع نخرة الأنف التي تشعرين بها مع صوت الخشخشة المتسارعة لاضطراب خط الهاتف وأنت تناورين بين السيارات في الشارع، ثم تتوقفين على الجسر المعلق تلازمك نوبة غثيان وإحساس بعدم القدرة على استفراغ المعدة.
أين يمكن للواحد أن يهرب من هذا الحصار؟! وتتأملين فيما أطفال مع عائلات تعبر الجسر وتسمعين الضحكات و صخب النوارس و ارتطام الهواء بأعمدة الجسر الشاهقة والموحية بالخوف والرهبة. لكن التفكير بأماكن الاختباء تتطلب بحثا استقصائيا على الأقل ريثما تنجرف العاصفة أو يتم التوصل إلى تفاهم بين موسكو وبغداد. الهواء البارد يبعث فيك نوعا من الانتعاش. تنظرين الى شريط كامل من الصراع مع حزب البعث، تحدقين وقتها في ستائر الغرفة وضوء الشمس يغرقك في الق مبهر، وحتى سماعة الهاتف في تلك اللحظات الغير معروفة، كانت تبدو لك أشبه ببوق القيامة، لماذا القيامة الآن؟ في البحث والتفتيش عن ركائب متروكة وأمتعة بائسة لم يُبق منها العقل إلا النثار. وعندما تنظرين الى ضوء الشمس في ذلك اليوم يبدو لك انه ينسحب بعيدا في لحظة واحدة وتكون الغرفة والأرضيات والجدران كلها بلون داكن. وقتها كنت تفكرين بأشياء تقتنص اللحظة المسكونة برعب يخرج كجنون البحر من مناطق الذهن المتعددة. ربما النسيان قد تسلط عليها في وقت ما، لكن وأنت في الانبهار تنظرين إلى هذا الانتشاء الغريب والسريع لوجع الأيام والأزمنة السابقة من الصراع بين الحزب وحزب البعث، يلفك فكر ان كان هذا مجرد صراع؟ صراع طويل بين الحزب الشيوعي والبعث ويشبه مسلسل كارتون بباي. لمَ اتخذ حزب البعث هذا الموقف وكأنه يريد تصفية الحزب الشيوعي؟ ألسنا في جبهة واحدة؟ ويتسلل إلى ذهنك كلام صدام حسين في ندوة خاصة عن تصوراته للعمل الحزبي والجبهة الوطنية التي كان للحزب الشيوعي العراقي فيها نصيب الأسد وكتابه الصغير الذي أصدره تحت عنوان
(خندق واحد أم خندقان). ما الذي يجري هناك؟ تحت الرمل، خلف الكواليس، فيما وراء الأكمة؟ أيكون هو مجرد صراع على سلطة؟ أو تغيرات في المعادلات الدولية؟ ما الذي سيكون عليه موقف الرفاق في موسكو؟ وأنت تنظرين إلى اللعبة المذهلة والمؤلمة وصفحات من تاريخ أسود يُكتب بمداد لاذع.
كنت تناورين الذهن والانحطاط والعودة إلى ما كانت عليه الأيام في عام ١٩٥٩. لكن الذاكرة دائما مولعة بالاختباء خلف أحداث الوجع. تفكرين بذهول، لمَ الذاكرة قاسية إلى حد أنها أشبه بسيف حاد أو شفرة تقترب من الرقبة. في تلك اللحظات السريعة التي تختلط فيها عشرات الأحداث من الواقع والذاكرة والريح والجو والسيارات في الشوارع وأعمدة الجسر المعلق، تحاولين الهرب من أسئلة الواقع وتطرأ إلى ذهنك تخيلات كثيرة بان البعثيين صقوراً جامحة، منقضة، مثل سراديب مظلمة تبتلع الآخر إلى نهاية العالم ثم ترميه إلى صمت النسيان أو الموت في أحسن الأحوال.
تقودين السيارة في ذلك اليوم بلا اتجاه معين متذكرة السّحل، العقاب المدمِّر الذي ابتكره أهل العراق عندما سحلوا العائلة المالكة وسحلوا نوري السعيد، كنت وقتها شابة قادمة في قطار التاسعة صباحا من الناصرية إلى بغداد، في إجازة من عملك كممرضة. عندما هبطت أولى سلالم القطار لفحتك رائحة دم، دم يشبه عصافير هاربة في هزيع ليل، في حياة ميكانيزماتها ضائعة في الصحراء وبداوتها. عندما هبطت أولى السلالم، لم تتنفسي عطر بغداد الذي تفوح فيه روائح من الرازقي والروز والقرنفل، القرنفل الذي له في روحك ذكرى أليمة، يوم أهدتك صديقتك الأثيرة سليمة حزقيل واحدة منها، اين أنت الان يا سليمة، هل احتضنتك أرض الرب؟ على الأقل خرجت من عباءة البداوة الكبيرة.. تسيرين يا أمي في المحطة العالمية في علاوي الحلة تسمعين نوعا من الحشرجة في السماء، صوت يشبه صوت عزف ناي بعيد وكئيب، وفي السماء نوع غير مريح من صرخات مجهولة المصدر. قسوة، يا الله ! كيف يتحول كل شئ إلى نوتة موسيقية طويلة؟ كيف تتحول الآذان والأفواه إلى هذه الكتلة من الغائط؟!
كنت تسيرين على رصيف المحطة وحرارة خفيفة من صباح تموزي طويل تلفحك، ثم وجوم كبير يلف الارصفة، كأن المكان يشبه مسلخا مهجورا، مرحاضا تفوح منه روائح البول الدموي والصديدي. قرنفلة سليمة حزقيل لم تكن موجودة وعوضا عنها كان هناك ارتكاض وتقيؤ. لون سماء بغداد وقتها كان يشبه ترابا أصفر مسكوبا في العيون ورائحته تلعق المكان. وعندما وصلت بوابة المحطة قال لك أحد الحراس مبهورا : هناك ثورة، ثورة يا خاتون، اذهبي إلى البتاوين، انتبهي لنفسك، الجميع هناك، نوري السعيد، خاتون يقولون إن ضابطا بقر بطنه ويضحك مثل ضبع وأسنانه متآكلة بسبب التُتن. تتوجهين بلهفة من المحطة إلى الباب الشرقي، من علاوي الحلة، من النفايات والذين يتبولون واقفين وسائلهم الأصفر يسيح على السيقان الملتوية. تتعرقين في الطريق من القلق وتنتابك حالات من المغص القاتل لان السماء كانت مقشوطة و صوت لعواء طويل قادم من لا مكان يطوِّق العين الذابلة والمليئة بالنعاس.
في السيارة الصغيرة التي تنقلك إلى الباب الشرقي تستمعين إلى الأحاديث المشوًّهة والمبتورة وحشود الأفواه اللاذعة و ميكانيزميات التقلُّص. كنت تلاحظين نوعا باهتا من التشفّي، نوع مبهم من صبغة تلف أنيابا لكلاب ليلية ترتكض على حافات الغيوم.
بغداد كلها كانت هناك وعندما تصلين ملتهبة من الإثارة المسموعة، من أفواه غير مغسولة. تجدين الحشود تصرخ و ارتكاض هيولي. آلاف الوجوه الأميبية تسحل أجسادا، بقايا أناس الزمن الغابر، تشاهدين عواء وحشيا، ذئابا، قرودا، نسانيس، بشراً من العصور الكونية الأولى وأطفالا قادمين من أزمنة غابرة من عمق صحارى خلف السدة، من سبع بكار، من سباق الخيل، الازرملي، كرخ، دوريين، البتاوين، عكد الجام، الصرايف. الصراخ الذي سمعته وقتها كان يشبه اضطرابا من كثافة أحصنة بملايين القوائم تصهل عندما تجد نفسها أمام نار، نار في وقت يهتز فيه الزمن. آلاف الأفواه البشرية تضحك وأضداد إنسانية تتحرك و تسحل نوري السعيد الذي أُمسِك به في البتاوين. شحم يخرج من الجثة يشبه شحم الأسماك البحرية المندلقة من مراحيض الشعب الثائر المتضاحك. الصراخ ينطلق من كل مكان وحسوني ابو التكة يشوي وزبائن يأكلون والحبل الذي يجر به رئيس الوزراء السابق ملوث بالدهن والاسفلت واللعاب والعصي. تحضر دبابة الانقلابيين وسط الهياج وتحاول حمل بقايا الجثث المرمية على الإسفلت إلا إن الشعب يتسلق المكائن الحديدية ويفك الحبال و تُسحب الجثث مرة أخرى ويتراكضون بها في الشوارع، مرة أخرى والجموع الهستيرية تصرخ وتعربد.
كنت تشاهدين نوعا من غمامة سوداء تحيط بالجميع. يا للسماء البلهاء بميلودراما القتل والسحَّل!! ثم وضعوا رأس نوري السعيد تحت إطار ( باص ) لتنفجر الجمجمة و معها جماجم أخرى وتتناثر الأمخاخ العجينية، ثم يهجم الشعب ويمتص الدم والصديد والصرخات والشيزوفرينيا والتمطي والابتذال والسوقية والعري. نساء يتراكضن بعباءتهن ورجال من صمت الصحراء وغابات القيح الأسود والظلام والهستيريا يأتون. آلاف الأجساد المتعرقة في ضجيج شمسي لاهب، تتدافع لترى الشحم الخزين الممرود في الجثث المتهرئة والممدد على الشارع والأرصفة وفيما الهستريا الجماعية تجتاح المكان، تبحثين في الذاكرة عن سليمة حزقيل، سليمة وهي تملأ لك ورقة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي. كلمات سليمة ما زالت ترن في أذنك مثل غيمة ماطرة من سمت بعيد وناء، وفيما ذكرى تلك المرأة تخترق ذهنك، تنظرين إلى الدماء بتيه الافتقاد في داخلك كما الشعب. حقد دفين يشمل العائلة المالكة والاقطاع وفساد السياسيين، لكن ليس هكذا الانتقام، ليس هكذا تكون الثورة وقتل العائلة المالكة والسياسيين وسحلهم في الشوارع والتمثيل بجثثهم بحيوانية. لكن الجماهير تزحف امامك، عشرات، آلاف، ربوات، كغيمة مليئة بالمسامير وتتجه إلى القصر الملكي وبيوت الوزراء، ويُنهب ويسلب ويُحرق كل شئ. وتنتقلين مع الجموع إلى جسر بغدادي آخر حيث تم تعليق جثة عبد الإله - الوصي - على العرش وقََصَّاب محترف يمزّق اللحم بسكاكينه ويرميه إلى الجماهير الغاضبة والمهللة والصارخة، المزيد، نريد الكثير، ويضحك القصاب وينثر اللحم على الجموع في مهرجان عارم من الضياع الذهني، وتتسائلين وقتها هل هذا تحديدا ما يسمى نزق الثوار؟!
**
عندما اتصلت بي هاتفيا كنت لم أزل أعاني من تأثير سكرة الأمس مع صديقي ميري، صوتك كان مرتعشا، لجوجا و متأرجحا. قلت ان هناك ماهو عاجل. كلماتك مثل صفيح يقرقع تحت المطر، لم أفهمك بمثل هذا الاقتضاب. كنت أعرف انك لاتتصلين بي إلا لأمر خاص - ربما سيء - وان علاقتنا كأم وابن كانت في الحضيض، لأني ابنك من زوجك السابق، الميت. استلفت ربع دينار من جدتي وودعت ميري. ثم ارتديت أسمالي، خرجت إلى الشارع أو العدم أو أي سخافة أخرى. وجدت على بعد مسافة من البيت الرفيق خلف الذي اخذ يطاردني مثل قواد و يطالبني بتوقيع استمارة الانتماء إلى حزب البعث. عَهَرة. برد شباط كبير، يجلعني أشبه بماكنة تدور بسرعة خيالية وأصوات ارتطامات وزيوت تسيح. شعرت بشهوة غريبة للتبول على كل شئ، على الوجوه، الحثالة، الذاتيات السائرة ببله الأعوام والقدرة على امتصاص الغائط والشعارات والهتاف للقيادة. الأصابع تهتز بفعل التدخين والجلغ، اصابعي كسعف، أشعر بها، كطائر الزق، كقطة في حالة ولادة حيث ينفلق الفرج إلى النهاية ليخرج الجسم الجديد.
لم أجد في الجوار ولا في أي مكان آخر مرحاضا. تبوَّلت خلف نخلة عراقية، نخلة شامخة بروح البعث والبرق والرعد. كنت أضحك وأنا أبول بروح ملتوية وكأنما أسافر على الأجنحة السماوية للملائكة. سيارات الشرطة تزحف على الشوارع مثل ديدان على كل حياتك. جاء مدير المدرسة المسائية التي درست فيها يوماً، وبعد أن اقتحم الصَّف بنزق البعثي وأغلق الباب، طلب من كل شخص غير بعثي التوقيع على استمارة الانتماء لحزب البعث، واستمارة أخرى بان لا تنتمي إلى حزب غير حزب البعث، وإذا ثبت العكس، تعدم. أسهل شئ في هذا الوطن هو الإعدام بصاق، تفال، العالم كله يبصق عليك. يجدر أن تتخيل، تتزحلق في هذا الوطن من دون إرادة منك. بعث في كل مكان، بعث في المراحيض، في الهواء في العاصفة، في علاوي الحلة، في الدرابين، في الأزقة، في مستشفيات الأمراض العقلية، في البارات، في مستشفى المجانين، في بيوت القحاب، في الدوائر الرسمية وغير الرسمية، في العيادات والعيادات الخاصة بالأمراض التناسلية الجلدية والزهري وأمراض السيلانات. الوطن كبير، إلى الدرجة التي يخنقك فيها، يعاملك كأنك كلب أجرب تهز ذنبك وتعوي وتهرب إلى المزابل والمستشفيات والأمراض الذهنية أو تتزوج جنية وتخلص من كل شيء.
دخلت مرحاض المدرسة وقتها، بعد ان خرج المدير من الصف ودخنت أربعة أعقاب سجائر وعود عنب. وعندما خرجت وجدت أمامي لافتة كبيرة كتب عليها ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ). (الطالب الجيد هو البعثي الجيد).
أبصق عليكم في روحي الخفية لكني أخافكم، أرتعب منكم. أحد الأولاد رفض التوقيع على استمارة الإعدام في الصف، تم إخراجه وبعد أيام اختفى. قالوا إن أهله - شيوعيين - أمه تكسب الرجال للحزب عن طريق القبل والدبر. شعرت بتقزز، هم لايريدون استمارة الانتماء للحزب بالقدر الذي يريدون فيه توقيعك على استمارة الإعدام. في طريقي إلى موقف الباص اختفى الرفيق خَلَف لكني التقيت بسعد الخبل صرخت به - بارود سكين وملح - لاحقني مسافة طويلة، سعد ابن بعثي قديم تم سحل والده أمامه من قبل الشيوعيين عام ١٩٥٩ وهم يهتفون بارود سكين وملح، منذ ذلك اليوم أصبح هذا الشخص يرتعد ويتشنج لسماع هذه العبارة، غالبا ما كنا نمر من أمام بيت سعد ونصرخ - بارود - فيخرج المسكين كشيطان يتأجج ليطاردنا.
وصلت موقف الباص لاهثا ومرتعشا، شعرت أني أختنق بسبب كثرة التدخين والجلغ، و لا يمكنني الركض لعشرة أمتار.
في موقف الباص وفيما كنت ابحث عن سيجارة توقفت أمامي سيارة الشرطة وترجل منها الشرطي الحقير - أبو بعث - وقف أمامي مثل أي إنسان شرس وطلب مني - بلكنة تكريتية - أن أراجع مركز شرطة اليرموك لتجديد معلوماتي الأمنية في بطاقة المعلومات المركزية. جاء الباص وتعلقت به مثل شيوعي يلتصق بك ليكسبك إلى حزبه.
في الباص كنت أشعر أني أضيع في غمامة من الوهم، عالم من البعثيين يزأر في كل مكان. بالإمكان رؤية روح البعث تلف اللصوص والقوادين والرعاع والنصب التذكارية. مشهد للخراب المتأصل وأنت تنتظر ساعات كاملة وفي النهاية يجئ الباص مليئا ومحشورا بالبشر. كنت تستطيع في زوبعة البرد الشباطي الذي يلف كل شئ أن تجد روحك هاربة ومستلبة وأنت أشبه بكلب أجرب يطارد الفراشات.
في الباص الذي تعلقت به بعد مأساة الانتظار، كنت أفكر في سبب اتصالك بي. لمَ لم تتصلي بزوجك؟ أنا لست إلا نكرة في ذهنك و … روحك.
أشعر بارتجاف في شفتيّ ونوع من الاكتئاب يحلَّق في ذهني. من نافذة الباص أشاهد ضوء النهار وهو يدفع بعيوننا إلى مسافات عائمة بلا حدود. أصل الباب الشرقي ومن هناك أستقل الباص إلى مدينة الثورة. وعندما أصل هذه المدينة النائمة على القاذورات والأوساخ والجيف المتنقلة والمخلوقة من ميثالوجيا الكره والوساخة واللعبان نفس، أقف عاريا ومملوءا بالتفاهة أمام البيت، تُفتح البوابة الحديدية بصراخ القلاع المتروكة وتستقبلني ربة البيت بملابسها السوداء وعباءتها الحائلة اللون ومؤخرتها الناشفة ولا استطيع التفكير بأنها مشروع جديد للجلغ، أسير خطوات و.. أجدك متكوِّرة في الغرفة الوحيدة في البيت وصور علي بن أبي طالب وجيفارا ولينين والحسين معلقة بخيوط جنباً إلى جنب. وعلى أفرشة مليئة بالعثة اجلس قربك مثل آلهة تركها الأبناء والرهبان، تخبريني عن كل ماحدث بوجل وارتباك وتيهان. أقول انك مضطربة، مضطربة جدا، ربما هي كذبة، أقول و امسك يدك وأنت ترتعشين. كنت وقتها عبارة عن حنجرة مرتبكة وقلقة، حنجرة بلا صوت مسموع وبلا فوارز ونقاط. تقولين : ليست كذبة، الوضع سئ جدا ويتطور بسرعة، قبل أيام اقتحموا مقر الجريدة * إنهار كثير من الرفاق في التحقيقات، زوجي يشعر أنه مراقب بشكل حثيث. سيعتقلوه الآن أو غدا. أحاول أن أهدئ من روعك، تنحنين على يدي وتبكين. فتشوا البيت، تقولين : الأمن يبحث عني الآن. البيت مليء بأوراق الحزب؟ أنا تائهة لا أستطيع التصرف، ربما انهارت منظمتنا ولا أعرف مصير الأطفال، من سيعود بهم من المدرسة؟ أنظر في وجهك وأقول : ألم اقل لك سابقا اتركي هذا الحزب وتعترضين بقوة. تناوليني عناوين لأماكن تواجد زوجك المحتملة. ابحث عنه في كل مكان، جده بسرعة، قل له إن البيت مراقب. لاتدعه يقترب منه أرجوك. انظر بتيهان إلى النافذة الصغيرة في الغرفة والمظللة بخرقة بائسة، ربة البيت تقف مكتوفة الأيدي عند
ـــــــــــــــــــــــــ
الجريدة : المقصود بها جريدة طريق الشعب، الجريدة الرسمية للحزب الشيوعي العراقي.
الباب لكني ألمح قلقها. الحزب يُطارَد هل تعرف هذا؟ تقولين بتشنج : أحاول أن أقول لك إنكم تقامرون، بينكم خونة. قلت لك لاتتبعي زوجك، طلقيه. تنظرين في عينيّ مباشرة. لا تتحدث عما قلته لي سابقا، انقذ الأطفال الآن، دبِّر لهم مكانا ثم ابحث عن زوجي، آه نسيت خذ السيارة إلى علي شقيق زوجي، من الخطر أن تبقى هنا. أسأل، أنا ام السيارة؟ تجيب : السيارة طبعا.
**
أخرج من البيت الذي تختبئين فيه وأضيع في طرقات العالم. أفكر فيك مثل نبي و أحس بغصة قوية تصعد إلى الزردوم، كم مرة قلت لك؟ اتركي الحزب الشيوعي واتركي زوجك، عليهم اللعنة. أتذكر كل أحاديثي معك، أفكر بالنقاشات التي جرت بيننا، العصبية، الاندساس عميقا في الأرض وكأنما أحاول الهرب من القسوة، من الألم الذي يحلَّق كما النسور في حياتي. قلت لك أيضا، إنهم سراق وأبناء كلب، كل الذين يأتون، يجيئون برغبة الاستعلاء المرير، ما كانوا يحبون الشعب، ألا تتذكرين كلام سليمة حزقيل عنهم؟!. كانوا عبارة عن ممسوسين وطلاب سلطة. أتذكر الآن كيف كنت ولم ازل بالنسبة لك شيئا على الهامش، لقية غير فريدة تركتها للنسيان. لم أشعر يوماً أني ابنك. كنت مشغولة كل الوقت بالتباسات زوجك، بالتباسات أطفالك والحزب، كل وقتك لهم. كنت اشعر بهامشيتي المريرة في حياتك ويتصاعد إلى ذهني إني من الماضي. الغيرة دمرتني. الالتباس بمعرفة الضياع والغرق فيه كان سمة أزلية في روحي، حتى إني كنت أشعر بكينونتي مخلوقة من العدم ولست إلا اله جديد في هذا العالم. لكن رغبة الانتقام كانت تتجذّر في عميقا، تنغرز كما السكين في ظهري وحلقي واشعر برغبة قوية لابتزاز الجسد وشنقه.
فكرت مرات كثيرة تحت طائلة الهجر بان أترك العالم. الشعور بالانتهاك الذي يحيطني يمكنني من التفكير في مخارج لأيام الزمن، الزمن الوحيد الذي يجعلني أفكر في الضياع والهروب نحو الانتقام، كهاجس، كوجع، كانتحار، كاستيحاش.
في عبور الأزمنة وأنت تختبئين الآن أتذكر صباحاتي الميتة من دونك، ياالله! صباحاتي التي كنت أستيقظ فيها وأنا أشعر بالاختناق. شعور مرير بان تحس صدرك يكاد ينفجر وما من وسيلة لتفريغ شحنات العاطفة التي تلبسك. تتمتعين أنت بأطفالك وزوجك الجديد وحزبك، فيما انا أجّر موكب العزاء على روحي. في كل مساء، في كل هجير، في كل ارض بها سوسنة الجبال، في كل عاقول الصحارى، في كل ليلة عندما يمسدني الله باصابعه الزبرجدية وأشم رائحة المر واللبان. كنت أبكي أمامه، أبكي توحّدي الغريب وأنا في هجرات العالم الذي تركني وحدي، كنت انتظر يوم الخميس في كل مراحل حياتي. يوم الخميس الذي تأتين فيه او لاتأتين لرؤيتي وأنا عند جدتي. فأغرق أمامك او احلامي في سهوب رائعة من حبك. كنت أقبّل حذاءك وأصابعك وعقصة الشعر الأحمر وعطر الكلامور المختبئ خلف شحمة أذنك، كنت أشعر انك كرهتني مثل عيسو يا أمي. مثلما كره الله النكرات في هذا العالم، مثل سفينة آيلة إلى الخراب، مثل مدينة عاهرة استحقت غضب رب الجنود.
كنت أستيقظ كل صباح وأروي لنفسي هفاهف أحلامي. تتكرر في مناماتي قصص الوحوش، تتكرر في أحلامي هجراتك العظيمة وأنت مثل طائر أنكر أطفاله. لا أعرف على وجه التحديد لمَ تعاودني بشدة هذه الرزايا الآن. هذه التذكارات وكأن بي أمام حدث كبير يتكون، انه الهروب، هروبك. أعيش في هذه اللحظة، وفيما أفكر فيك، بان العالم الذي كونته من ضياعاتك، من النزر القليل منك، يكاد يفرّ مني. لايمكنني نكران التشفي بما آل إليه مصير حزبك. لكن في ذات الوقت أشعر ان العالم البسيط الذي يتكون من رؤيتك لبعض الوقت، يهرب مني الآن، انه يتسرب من بين أصابعي كرمل، أوراق أشجار ذابلة تنتهكها العاصفة. أقف الآن مثل عضاءة وسط هذا العالم. الريح قوية، مهددة، وأنا مشنوق بحبل نكرانك، كنت أتذكر، بنوع مدنس بالشيزوفرينيا، أني عالة على هذا العالم، أتذكر يوم غادرتِ منزلنا وتركتني وعندما سألت جدتي عنك قالت : ذهبت تتزوج، ياللخبال أمي، مذاك أعلن الله عليّ الحرب، أعلنت أن أنصاف النهار تساوي أرباع الليل وان الموت أكثر من الحقيقة و لم افهم وقتها ما الذي يعنيه زواجك. إلا إني أدركت بعد ذلك انك ستنامين مع رجل غيري. تركتني انتهب فراشي مع شراشف مبللة بكل دموع العالم. تركتني اغرق سريري كل يوم بسقف عدم كفاية حبك أو شهوة طفولتي، أو انتظر موعد زيارتك في وسخ انتظاراتي الأبدية وأنا في كوخي الهمجي بانتظار عطاءاتك. وعندما تزوجتِ وصنعت أطفالا، هجرتني يا أمي. صارت زياراتك متقطعة، متباعدة.
كم كان مؤلما، سحيقا ونائيا، متتاليا ومتباعدا، أن أنتظرك أيتها الضائعة في دروب وطرقات بلا نهاية رغم ابتعادك وكره زوجك لي وهروبك إلى عالمه، كنت أقول لك أرجوك يا أمي اتركي هذا الحزب، اتركي كل عوالم زوجك الذي غزل حولك ملايين الخيوط. كنت لا تقدرين، بدافع الزوجية، إلا أن تدافعي عنه. كنت تقولين إنك تريدني أن اترك الحزب الشيوعي ليس لأنه حزب بائس مثلما تقول ولكن لأنك تكره زوجي الشيوعي، تكره أطفالي. هل هذا ممكن؟ أقول : لا لا أكره الأطفال ولا زوجك وتعرفين إني أكذب وكنت أكذب فعلا، كنت أريد أن اقتل زوجك، أن أميته. حلمت مرارا باني أمسك سكينا وأطعنه. أعشق أن اقتله وان أرى الدماء على وجهي وأصابعي ثم الحس السكين، أشرب الدم وأعوي مثل ذئب جريح. لكن لا يا أمي ليس بسبب هذا فقط، إنما الإشاعات، الإشاعات دمرتني وهي تقول إن الشيوعيات يمنحن جسدهن للكسب الحزبي. كنت أتألم جدا وبصمت أموت كل لحظة وأجلس في فراشي تائها. كنت أشعر بالعار، بالدونية، باليأس بسبب زوجك الذي جعلك شيوعية مرة أخرى بعد أن تركت الحزب سابقا. كنت أشاهدك في الحفلات التي يقيمها زوجك في البيت. حفلات سكر وعربدة وأصدقاء شيوعيين ورقص وابتذال، والشيوعيات في أحضان من يريدون كسبهم للحزب. وكنت أرتعش عندما تمرّ في ذهني صور معربدة عنك. لا، لا أستطيع تخيل هذا الأمر.
كنت أقول لك لِمَ هذه الحفلات؟ اتركيها وكنت تقولين : لا أقدر، لا أقدر بسبب زوجي، انه يحب هذه الحفلات ويستعملها كوسيلة للكسب الحزبي. لقد شعرت من زمن سحيق باليأس منك، وكنت أشعر إن زوجك الخنزير لايحميك، لاتهمينه في شئ. كنت اشعر صادقا انه تزوجك لأن لديك وظيفة جيدة وسيارة ومنزل، وهو إنسان مملوص خارج من زرف الحائط. أحس انه سيدفعك إلى الهاوية. كنت أقول اتركيه وكنت ترفضين، وترفضينني أنا بذاتي، وفي يوم همجي مثل وجهه صرخت به : اكرهك، اكرهك، اخرج من البيت الآن، اخرج. وأردت بنوبة الهستريا وانحطاطي وهجوم نوبة الجنون قتله. كان ينظر لي ولك بعين شيطانية، صامتا، قاتما، مدنسا. ولم اعرف انه سينتقم منك بعدئذ. سينتقم بان يجعلك تنقلين سند ملكية البيت لأسمه تحت ضغط التهديد أنه سيتركك إن لم تفعلي هذا، كان يُذلك. قال لك إن لم تنقلي ملكية البيت لاسمه سيتركك، يطلقك.
وكان صعبا عليك. صعبا أن يطلق رجل امرأة في العراق. في ثقافتنا العربية تصبحين محاطة بذكورة الرجال الهمجية وألسن النساء وعهرهن ونميمتهن. ستصبحين ضحية محطمة. ولذلك قبلت وغيرتِ ملكية البيت لاسمه. وكان شيطانا خبيثا وكنت أنت صامتة، هلعة للصدمة، صدمة ثورتي عليه وتوهّجي وانفعالي وهستيريتي وتهجّمي عليه وتهديدي له بسكين المطبخ، كنت صغيرا، أجل، كنت صغيرا جدا لكني مملوء حبا لك، مملوء بالرجولة، مملوء من الروح القدس، وأهجس بالهام انه سيبعث بك -هو وحزبه وعهره- إلى الجحيم، الى الجحيم يا أمي، بعد أن جربتِ وامتحنتِ همجية حزبهم الشيوعي ودكتاتورية البروليتاريا اثر المجازر التي ارتكبوها بحق الشعب في الموصل وكركوك والنجف وبغداد والكاظمية والبصرة عام 1959، عندما سُحل الأبرياء، عندما قُتل الاطفال، عندما هُتكت أعراض النساء، عندما مُثل بالجثث، عندما بُقرت بطون الحوامل، عندما شنقوا الرجال على أعمدة الكهرباء وهم يصرخون ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ) ويستدعون قصَّابين للتمثيل بالجثث ونثر اللحم على جماهيرهم. وجماهيرهم تصرخ وتريد المزيد والمزيد. رباه !! وهناك سليمة حزقيل صديقتك التي روت لك ـ قبل أن تكفر بالعراق وتهاجر إلى إسرائيل وبعد أن عُضت يدها و بعد أن طاردها الرفاق القادة من اجل مضاجعتها وبعد مؤامراته عليها واخبار الشرطة السرية باماكن تواجدها ودورها في تنظيم المظاهرات ضد الحكم الملكي. سرّب الرفاق للشرطة السرية بانها على علاقة مع المخابرات السوفياتية ليحكم عليها بالإعدام شنقا وغيابيا مثل أي خائن.
عندما أتذكر تلك الحكايا والمؤامرات، أرتعش، أتوهّج، أشعر بخساستهم وبأنك تمشين في دربهم المليء بالقذارة والحيوانية والمثلية الجنسية وهتك أعراض الرفيقات بالقوة والتهديد. كانوا مافيا بكل معنى الكلمة بل أسوأ من المافيا التي لها قوانينها. أما هم فلا، إذ يبعثون برفاقهم ومؤيديهم وأصدقائهم إلى الموت من اجل شهواتهم وشذوذهم.
**
من الصومعة التي أنام فيها كل أيامي الحبلى بالبرد ومدفأة - علاء الدين - القديمة في غرفة مصنوعة من التنك، من رائحة النفط الأبيض و ( صخام) الطباخ النفطي في حياتي، من صباحات مزوقة بثآليل برد ليلة ماطرة وجَدّة بائسة تجمع المطر بأوان من الفافون، بالجرذان التي تهب مع أعاصير الشتاء الهمجي وأنا فوق حشية قديمة مفعمة برائحة بولي عندما تهاجمني الكوابيس، لأني بلا أم تضعني تحت أبطها. أشتهيك وأفكر أنني أعيش هنا بين القاذورات وزوجك يستنزف كل راتبك ويسافر كل صيف إلى بلغاريا ورومانيا وعندما تطلب جدتي منك، أمامي، مبلغا من المال لشراء حقيبة مدرسية لي أو فتيلة للمدفأة تنهريننا وتقولين أين تذهبون بالمال الذي تعطيكم إياه الحكومة كراتب تقاعد لوالدي؟! وكان التقاعد - المعاش - هزيلا جدا وبائسا، وعندما أسمعك تنهرين جدتي أبكي في وحدة مخيفة في ظلمة هذا الكون متذكرا ملابس وأحذية زوجك الايطالية وحفلاته العارمة وصناديق البيرة والعرق وصناديق شراب السنزانو التي يشتريها من راتبك وأنت صاغرة. كنت طفلا لم يبلغ الثامنة تهزه عصافير هاربة من المكان، كنت اقرأ على ضوء فانوس في غرفة التنك وفي الصباح حينما اذهب إلى المدرسة تكون ملابسي كلها مملوءة برائحة الكيروسين.
**
تعتريني الدهشة وأنا إزاء الباب المفتوح على العالم حيث أقف متواريا ومرميا بالنبال. أول ما أفعله بعد الخروج من البيت الذي تختبئي فيه أمي، التخلّص من سيارتها الموسكوفيج المركونة قرب الدار. أقود السيارة بصعوبة وأتوجه إلى بيت علي شقيق زوج أمي. أصل حي العامل حيث يسكن و أجده جالسا عند عتبة الباب وخلف كرسيه بُطل عرق موضوع في كيس ورقي اسمر أطلب منه الاحتفاظ بالسيارة لبعض الوقت واتجه من هناك إلى مدرسة أطفال أمي حيث أجدهم يبكون خارج سور المدرسة بعد أن انتهى الدوام ولا احد ينتظرهم. كنت اشعر إني أرنب في حقل كبير جدا وبانتظار العاصفة. أتوقف أمامهم وأنا اشعر بضياع فيزيقي، ضياع ملون بالخراب واللامعنى والدهشة والحيرة. أقودهم مثل حيوان هرم واذهب بهم إلى بيت جدهم حيث يقف هذا ازائي مثل معتوه و يسحب الأطفال من يدي ويدينني بنظرة الاحتقار والبله. أبصق عليه في سري وأقول اللعنة عليك أيها العاهر ولا أحصل منه على شكر. أتركه و أذهب إلى الجحيم، في جو بغداد الذي يضيعني في متاهاته وألغازه. وجوه الخوف تتوالى علي َّمثلما توالي الشياطين على ….. مع الخوف والابتذال. بعد ساعات طويلة مشفوعة بإنهاك دينوسي أعود إلى البيت، أندسّ في الفراش مثل خبل وأغرق في كوابيس متواصلة واحلم.
في صباح اليوم التالي انهض منهكا وحالة اختناق تأسرني وعيني مملوءة ـ بمخاط الشيطان ـ من دون أن أتناول فطوري المكوّن من الخبز والشاي أحاول الهرب إلى عالم متكامل من الصراخ والارتكاض واللعنات. جو مذاقه خرائي و كل شئ في ذهني يعوى وانا اتوجه للقاء امي. اخرج وعند سكة القطار التي تقسم حي اليرموك، ألتقي وجها لوجه أمام الجامع، شئ ابله طويل له شفتان متهدلتان والتفال يسيل من فمه دائما مع حدبة ظهر ولحية منثورة إلى كل الاتجاهات أضف إلى هذا انه متزوج بثلاث نساء وكلهن يمارسن العادة السرية ووجوههن مملوءة بالندب المتقيحة، قبل أن التفت يمسكني هذا الشئ من زندي بقوة شيطانية ويقول لي : لم لا تحضر صلاة الجمعة؟ و أقول له : اعتذر مولاي. لكنه لايمنحني مساحة للتفكير ويقول : صلِّ قبل أن يُصلّى عليك. أتخلص منه وأركض إلى موقف الباص، اللامعنى يطاردني. أشاهد في المحطة معلم التربية الرياضية - البعثي - بسيقانه اللقلقية وعلكة أبو السهم في فمه و - كَروته - عندما يشاهدني ينجذب نحوي ويحاول التحدث بأدب جم، ثم يتحول كل شئ إلى فوضى وبصاق متطاير وحك للخصية و يقول : إنه صبر طويلا من اجل كسبي لحزب البعث. أتذلل أمامه أقف مثل كلب مبلل على قائمتيه. يقول أيضا : إنه مبتئس ويسألني لماذا لا أكتب تقريرا للحزب أطلب فيه الانتماء؟ هل أنت معاد للحزب والثورة؟ لا... لا استغفر الله أقول. " يجب ألا تنسى فضل الحزب عليك وعلى الذين خلفوك ياساقط، ياعار، يا خنيوة "، يقول. ثم يضيف: "الحزب هو الذي أمم النفط وهو الذي أوصل الكهرباء إلى الريف وهو الذي صنع مجانية التعليم وهو الذي قاد ثورة محو الأمية" وبتأتأة أجيب : "نعم... نعم، اعرف، اعرف". ويناولني ورقة بغضب ويقول : "وقع هنا... هنا... أراوغ مثل ذبابة، مثل ضبع،، مثل بقة وعندما يهطل المطر أكون قد ذبت في العاصفة.
الفصل الثاني
اليوم هو يوم جحيمي آخر، يوم يضاف إلى السلسلة الطويلة المتفجرة من النوم تحت سماء منفلتة على جوع وحشي، جوع غريزي وأنا في الطبقة العليا من السماء والأرض والميكانيزمات التي تجعلني أعيش وهي ذاتها التي تجعلني أموت، أموت في كتب التاريخ والخفافيش والشياطين والأبالسة والمهووسين وغزوات عاهرة وإماتة شعوب وسبايا وفراديس خاصة للمناويك من أسلافنا. دعني اقبل طيزك أيها الانكليزي وأنت ترفع راية التنوير في عالم تعس للغاية. ياعزيزي ميري، صديقي وأنت تسافر في هذا العالم تحمل حلمك الفلسفي، لكن العالم لا يفهمك، يقذفك كما حجر في المستنقعات الضوئية. العالم ينام على أصوات الدعاء العاهر وعالم ينوء بالرزايا والموت الأخضر والبعث ورجالات السلطة والعقول المصنوعة من أحشاء العاهرات في زمن الخيبة الكبرى. كل شئ ضائع وأنا أتبرعم مثل زهرة الموت على قبر اصطناعي بلا جثة ضائع، وأنا أكرع من قنينة العرق الوحيدة في هذا العالم وأتبوّل بولا ساخنا رطبا وفيما أنا منشغل بلذة الوجع القصديري القاتم والمنايا والسحر الأسود ورائحة المغافير والنحر والعاهرات والجيش الشعبي والرفاق أعضاء الفرق الحزبية والمسترجلات من نساء الاتحاد العام لنساء العراق، أنوس في تطفيل نفسي وأبول في بنطلوني الوحيد النظيف. "إذا خربت حياتك هنا فإنها خربت في كل العالم". من الذي تفوّه بهذه العبارة الملعونة ونحن نزحف كما الموتى في القبور البلاستيكية نحو الآجال المتفسخة والثعبان الأقرع ومنكر ونكير وتقارير الرفاق عن أعداء ثورة ١٧ - ٣٠ تموز المجيدة.
هل سمع الرفاق في القيادة القطرية وقيادات الشُعب والفرق والأعضاء والأنصار والأنصار المتقدمين والمؤيدين بعبارة - خربت حياتك هنا-؟ بهاء أخاذ ياميري. من شفق لزج يلوِّث الوجوه والأنوف والأرجل، سائل مخاطي يشبه الحناء يحيطنا من الجوانب والأعالي والأسافل ولا سماء. لاسماء بعد العاشرة ليلا ولا في الصباحات ولا أنت تستمع إلى فيروز ووليد الأعظمي بكآبة وهو يقرأ لك ماتيسر من سورة يوسف في باص ريم ينقلك إلى النهضة ولا تأكل التكة والفشافيش عند حسين الأعور. تسير في شارع الرشيد وحيدا مع بُطل - قنينة - عرق، بُطل من أجل كل البائسين في الأحزاب العربية. البهاء الأقذر، البهاء الطريد من بيئة عربية قذرة وعراق شامخ يصطرع على الفتات وميكانيزميات القهر والدونية.
رجال الأمن في كل مكان، أتشممهم، أنفي يشم عذرتهم، وأبحث عنهم ويبحثون عني، أشبه بديدان الغائط وهي تتجه إلى المداخل والمخارج بسرعات ميكانيكية مجنونة. أضحك، أضحك أيها الأبالسة والملاعين والسوقة، موقن من دونيتكم وانتم تتجسسون علي. إنهم في كل مكان من بغداد، في الجوامع والبارات وكراجات السيارات والعلاوي والنهضة وخلف السدة ونادي الصيد وفي الذرات والهواء وتقاسيم الكوارك والمذيبات الذرية. تجدهم يستجدون، تلقاهم يتسوّلون. جواسيس من كل الأنواع ومن كل الجنسيات، لاتستطيع ان ترمي لشحاذ قطعة نقدية من دون أن يحدجك، هذا الشحاذ - الشرطي - بنظرة الضبع. انت تنفتق في الهواء وفي بارات هارون الرشيد والقصور الخيالية والولدان، آه الولدان، يندسون تحت ـاللحفان ـ والدفء وارتعاش الخصية وتعرق الظهر والإست والتفال والبصاق وسهولة الإيلاج من عدمه. إنهم يستسهلون إيلاجنا، أولاد القحبة.. وينتهي كل شئ بسلام. الوطن مملوء، يفيض بهم، وهم مثل دود صيني، يغزو الأشجار والريح والعاصفة والقلنطوزات والسرو والغَرب والياس والشبو ليلي والدفلة وبكاء النساء الحزينات عند مقام خضر الياس في الجهة الأكثر اعتوارا ووجعا في حياتنا النيوترونية الملغزة بالفلزات وقوانين الفيزياء الحديثة والتوسلات بالأئمة الأطهار وفخاتي الكاظم والهديل السري والطاقة الذرية والشموع والخرق الخضراء والمشاعل والنذور والحناء والخراف التي يلتهمها رجال الدين والكشونجية والدهن يهرب من الأفواه المبجلة برحمة هذه الأمة وعنوان سطوتها الجبارة في الموت طعنا بالدرنفيسات * والمحابس في الأصابع المترفة وأحجار جلب الحبيب والصوندات والكيبلات والتقعيد على البُطل والشعبة الخامسة في الاستخبارات العسكرية. طرقات الوطن تتقيأ رجال الجيش الشعبي وقوات الطوارئ في الهواء والعاصفة والموت وجو غريب يلف السماء المطهرة من الدَّنس - نحن - حتى عندما تذهب إلى حافات الانهيار المكتسحة للصلاة (بوصوصة )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدرنفيسات : جمع درنفيس وهو مفك المسامير اللولبية.
الدجاج والفحيح الأعمى للنجوم الغارقة في الوحل والغطس أمام القصر الجمهوري في الباب الشرقي وشارع ( أبو نؤاس ) والشقق السرية للمخابرات وأفلام الدعارة، بين الغيوم المتلجلجة بالصلوات العجوز والبق البري ولعبة اللكَو والدجاج المشوي والديوك المشبوبة بالرغبات الجنسية. تتسلق سياجات البساتين، بساتين قريش، بساتين خير الله طلفاح ويلقون عليك القبض في الوقت الذي أعلن تلفزيون العراق الرفيق القائد، الوريث الوحيد والشرعي للسلالة المحمدية وكأن لاشرعية لأي حاكم من دون نسب محمدي وكأن العراق هو بستان قريش، اما نحن العهرة والقحاب والقوادين والمدلكجية والمجبرجية والدودكية والفلاسفة والنزاحين وباعة راديوات الترانسستور والمبردات والعتالين والشعراء والكتاب وسواق التاكسيات وأصحاب البارات و الملاهي، مجرد نفايات وعامة وغوغاء.
في صخب المدن الفافونية والقرقعة لوجوهنا والتدافع على بضائع الأسواق المركزية بحيوانية غريبة، أتذكرك يا أمي. أتذكرك مثل ماكنة تنزف سائلا أرجوانيا ليس دما ولا صبغة الهيموكلوبين، إنما ملائكة مطعونة في إست تكوينها الميتوبلازمي. أتخيلك مثل كائن يطير بملايين الأجنحة النارية الاخنوخية ويهبط إلى العالم. وفي لحظة وهن الحقيقة، أكتشف الخراب الكبير أو الخواء واللذة الناقصة والخصوة المتيبسة وسرطانات الغدد اللمفاوية والبواسير والقولنج و أبو خريان. وأنت تسير في شارع الرشيد وتشرب العرق بالقندرة وتأكل كبة الكبة ولفات الباذنجان والبورك وتتمسح باحذية زبلوق وتنام مع قنادر التمساح وتتقيأ على سطح فندق العهد الجديد منكلا بالصداعات والإحساس بالاحتشاد وضرورة الصرخة على المجهول. استفيق من أحلامي الشريطية والتهابات الأمعاء وابتلاع كميات هائلة من الفاليوم وشم البنزين وسيارات أم الدخان والأتربة والشوارع غير المبلطة وتراكض الناس للفرقة الحزبية للاحتفال بمكرمة التزفيت. وأجدني جالسا إلى قذارة وقربي طفل صغير يتبول في خرابة بستان قريش ورائحة الحموضة تتتضخم كما صور الرئيس. بطل عرق واحد أيها السادة والرفاق، وسوف أترك بستان قريش، إلى النهاية. عالم التقارير السرية واستمارات الانتماء والاجتماعات الحزبية ومسؤول يضع بندقيته أمامك وخفارات في الفرقة الحزبية وكلهم يعرفون أنك ابن - قحبة - شيوعية. ولايتركونك، لايتركونك في هذا العالم تشرب وتمضمض جرعة العرق الشافية والملهمة. لايدعونك تلتهم أحلامك وكوابيسك ونبض قلبك اليائس، وكل يوم كابوس جديد، موت جديد، نستالوجيا ورعب الأمكنة ومطاردات سرية واقتحام بيوت وعيون وأفواه ومزاغل لحروب سرية. وبعد ضرب الشيوعيين جاء دور حزب الدعوة. دوريات شرطة في كل مكان، دوريات للأمن السري والجيش الشعبي في الهواء، في العاصفة، في الأتربة، في صحراء توحّدنا، في التاريخ، في علم العروض والمدن والمفعول والمفعول به، و في أنسابنا القبلية القذرة. رجال الجيش الشعبي والرفاق الحزبيين وتوسلات حتى لا تُساق إلى التدريبات وتدعي وجود دملة في طيزك ويرسلونك إلى المستشفى وتخجل أن تنزع بنطلونك ويُعرونك بصرخات هستيرية وأوامر عسكرية أمام الممرضة والدكتور و طلاب كلية الطب العسكري، والكل يبعبص إستك، يالهذا الاست !، يالهذه الإست لوجيا !!
**
اليوم أكملت تعاستي ورضيت بهجرك يا أمي، هجرك القاسي وأنا أبحث في شوارع بغداد عن أي قَوّاد يمكن أن يدلني عليك. أبحث عن نائلة وانفلات الصحراء والصخب الظامئ واللوعة والتوسل والانبهار. اذهب إلى الدكتور سميسم في عيادته بمدينة الكاظمية، وبمجرد أن يشاهدني يرتعب ويترك طاس اللبلبي ويتجمد مثل صنم أمام نبيه. أتوسله، أبوس حذاءه وجواربه واشم رائحة خصيته التي تشبه رائحة جبن الأوشاري وجواربه وثنيات بنطلونه وهو مثل كائن شيطاني، يضحك، يضحك بفيدورية، بنهلستية، بستالينية، بارتعاب، بحيونة ميكافيلية، بانسداد الشرايين وتبول الكلاب وذروق العصافير في عينك. وحشة دموية، عار أبدي. أتوسل إليك يادكتور انجدني، اخرجني من متاهة تيهي ودينوسية الحدث. لكن اقول في النهاية. حتى أنت يا سميسم ! حتى أنت ! يا للعنة ويا للنضال الثوري وسفراتك إلى المؤتمرات العالمية للتضامن العالمي مع جارا والليندي وايدلوجيات الخراب الكبير في عصر افتضاض الضمير وتفاهته الماركسية. أنا المسكين الوحيد في هذا العالم العمالي الواسع، في فيتنام ونيكارغوا وكوبا حيث كنتم تسكرون إلى الصباح وتدخنون السيجار الشيوعي الوحيد في العالم الذي تصنعه غانيات الرفيق فيدل، حيث لا أبنوس لصلوات الكاهن ولا بخور للدراويش المتوحشة في طرقات البرية الواسعة ولا ظلام، لا ظلام ولا عزاء للمناويك مثلي. لا عزاء للمبهوتين والضائعين. ستخسر، بل خسرت نفسك وأرضك، أرضك الدموية التي شربت من دماء الأنهار المتوحشة وميكانيكيات الثرم الدموي وعلب سرية للتعذيب في مبولة الوطن، مناشير للحب الفيزيقي، في مبولة الوطن طنين الزنابير وغثاء الحيوانات ودبيب النمل وصرير الأسنان وهو يصعد إلى رقبتك مثل إصابة الجلطة الدماغية. في مبولة الوطن كائنات مصنوعة من الوحشة والدم الأزرق الباهت دم أهل العوجة وتكريت والدور، دم منثور مثل كرات النفتالين التي تتدحرج في حياتنا البائسة وأنت في ساحة بلا نهاية تأكل الأدمغة وتتقيأ ايدلوجية الجماهير الرثة والرفاق يهربون و يتطايرون مثل الورق، مثل (النمور في اليوم العاشر )، مثل البعوض الخفيف في دنيا الأحلام، مثل الكوابيس التافهة في أحلامنا اليومية. لا مزيد من قصائد مغناة لجعفر حسن، لا مزيد من مؤتمرات التضامن والسلام العالمي مع الشعوب وشرب الفودكا والنوم مع الرفيقة ناتاشا وتحبيلها والهروب إلى براغ وبوهيميا حيث العالم الحقيقي للنضال الثوري وديكتاتورية الطبقة العاملة.
قلت لك يا أمي إنهم عهرة.
هذا العالم المرفرف بالشر الجديد الذي يصعد على رقاب المخدوعين والكافيار الروسي والايدلوجيات الحيوانية وصراع الطبقات والميتابلازم والولادة من العذراء الدموية، عالم من اللامعنى والتفاهة. أتضرع بحرقة المأثومين يا أمي، بحرقة وجع قاتل يضرب الخصية والبلعوم، وأُخرج من عيادة الدكتور سميسم - رفيقك الحزبي - الذي أنكرك وأنكرني وقال إنه لايعرف أي شخص بهذا الاسم، أرجوك، مستحيل، أرجوك، ألم تزرها معي قبل فترة؟ يطردني، يمسكني من - علباتي - ويدفعني إلى الشارع، إلى الكاظمية، أمام المرضى، أمام باب المراد، أمام باب الحوائج.
في الشارع بعد طردي من العيادة تنفجر في مستوى الوعي العقلي لي صورة صديقتك سليمة حزقيل، الإثارة هي البحث الديماغوجي وبأنف كلب عنك أيتها البابلية الأصيلة. أتذكر وأنا أسير باتجاه باب المراد في الكاظم على إيقاع الجورجينا وبوجه بارد ووعث إلى جانب الأرصفة التي امتلأت بالباعة والمنادين والصيارفة وباعة الحمام والبلنكو وعصير الرمان، أحاديثك التي رويتها لي عن سليمة حزقيل يوم التقتك في المحطة العالمية، في العلاوي وأنت تتوجهين إلى عملك في الناصرية. كانت سماء وكانت حياة و لمسة نورانية أشرقت فجأة من وجه كبير. في ذلك اليوم وبعد أن عرضت عليك الانتماء للحزب الشيوعي العراقي شعرت بتدفق روحي كبير،منها إليك، مثل الرخ عندما يحلق عاليا في سماء الميثالوجيا، مثل النور الذي تمنحه الملائكة للصديقين، كنت تستمعين إلى سليمة حزقيل وهي تتحدث عن حب الفقراء، عن حب العراق وضرورة انتشال الشعب من براثن المرض والأمية والجوع، كنت تستأنسين وتتساءلين عن سر هذه الحماسة الكبيرة التي تنطلق من جوارحها، ترتحلين عميقا في انثروبولوجيا التاريخ. مكتوب أن تمنحك هذه المرأة مرة أخرى كتبها، مثلما مُنحنا من قبل كتبهم وصلاتهم ونيرهم وهوانهم. كنت وأنت تسمعين لها، تتذكرين الدورة الغريبة للتاريخ، دورة الوجدان والمعرفة والحماسة، دورة الليوث الهاربة في أرض بابلية وأيائل وأيقونات. ميخائليات وناحومات. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان والشيزوفرينيا الدينية. قيود أبدية تحت الظلام، في الوعر والهيكل وإيحاءات لأبناء إسماعيل وخيام قيدارية سوداء وأبنية مهشمة تحت أجنحة الملائكة. غائيات يا أمي، غائيات والتماسات وارتكاسات للفهم المهووس بفكرة النبوة.
كنت تعجبين لحماسة هذه المرأة التي صنع أهلها كل تكوينات حياتنا منذ البدء. تمر عليك كلماتها وهي تتراكض في محلة التوارة وتحت التكية وأبو دودو وعكد الجام وخان دلة، هروبا من اغتصابها. لم يكن الاغتصاب يهمها كقيمة مادية، بل الاغتصاب الذهني، الفكري، الشفوي. وحتى لايتكرر مشهد داوود باشا مع الفيضان والدمار والطاعون الذي سحق بغداد بسبب اضطهاد اهلها وقتها، قلت لها بعد فرهود ١٩٤١ لماذا لاتسافرين؟ وتتركين هذا البلد يغرق في أساه؟ وكانت هي أكثر الأعضاء في الحزب الشيوعي تشددا وقوة وإيمانا. كانت تقول لك بنبرة الثوري المجنون والأحلام المخيفة، ومن لهذا الشعب؟ لايمكنني تركه تحت الجوع والفقر والمرض واللواط واغتصاب الحيوانات والإملاق والاستبداد والطغيان والأمية والشعوذة والقبلية والماورائيات الكاذبة و كنت تعجبين لهذا الإخلاص، الإخلاص المؤسس على آلاف السنين من الترابط الميتافيزيقي مع هذه الأرض. كانت سليمة تحس إنها ابنة النبوءة و ابنة المعابد التي أقيمت على الفرات. وعندما حدث الفرهود الأول صباح يوم ١ حزيران في عيد شعبوث عام ١٩٤١. عندما ساحت الجماهير الرثة في الشوارع وهي تصرخ متهيجة مثل نمور مصابة بسعار، كنت أنت يا أمي شاهداً للزمن الجديد - القديم - شاهداً أمام النساء وهن يتراكضن في الشوارع مع حمالين وعتالين ولصوص وشقاوات وقتلة، ليداهموا بيوت اهلها ويحطمونها ويهتكون الأعراض ويسلبونها ويحملون المسروقات بفرح مجنون. مهرجان للمورفولوجيا والضحك والصخام وفيما الارتكاظ يصل إلى قمة الدونية واللامعنى والتشتت والقصابين بسكاكينهم الطويلة وقاماتهم ومطاويهم وسواطيرهم ومراويلهم ووزراتهم الدموية والكواويد ينتهكون الأعراض. كانت سليمة تضيع في مقولة النهابين الوهابين. سليمة التي اقتحم الجنون منازل أسرتها واستطعت أنت يا أمي أن توفّري لهم الملجأ. في ذلك الزمن الهمجي، في عيد شعبوث، من بين سواطير القصابين المشرعة للذبح، ولدت رؤى وأحلام غرائبية، رؤى مكتنزة بالالتياع وخطوات رب الجنود فوق أرض بابل من جديد. قالت لك سليمة وقتها مع الصدمة المدمرة والمرارة واللافهم، أيعقل ما حدث؟! معقول أن تصح مقولات أبي؟! وتبكي بحرقة وتكرر كيف يهجم علي عائلتي الفقراء الذين أطعمناهم كل سنين حياتنا ويسرقوننا ويسكبون النفط الأسود ويحرقون منازلنا ومرددين (شحلو الفرهود لويعود يومية). يقتلوننا لمجرد إننا موسويون. انا التي لم أشعر في يوماً ما، إلا بأني واحدة من هذا الكم الهائل من الفقر وتراب الأرض.
كان أبي يقول لي : لا يا ابنتي، لا العاصفة تترك الريح ولا الذئب يترك الطريدة، حتى لو شبع. وفي استذكارات الجنون والمورفولوجيا والحناء المسكوبة على البيوت وخضر الياس وطوفانات ضريح العزير واغتسال أرضه بمياه الأمطار. كان الأب يروي لي ميتافيزيقيا التاريخ، ميكائيلية الأحداث، خرائية النتائج. لاحميمية الأفكار. كان يروي لي بجنون يوم انبثق الجن الأسود وغامت الدنيا وحُرق النخل وسُبيت العذارى والنساء واقتيد الرجال.
منذ ذلك اليوم بدأت الفتنة تلتهمهم. كرات من الكبريت المحترق تلهب الوجوه وتنحدر صحبة الجِمال لتشهد أكبر المصارع وأوسع ساحات القتل. ومنذ يوم تقتيلنا وحتى اليوم عاشوا في بؤس الحاضر واخصاء المستقبل وتوجوا بمعية الشيطان حيث خرج من الوهاد ومن الصحارى والتهم العقول والأمخاخ وتصارعوا على السلطة والجبروت والرئاسة. لا يا ابنتي، لاتهتمي بهم، لاتدفعي حياتك ثمنا لهم ولعقلهم , اتركيهم لأن كل شيء بالنسبة لهم هوالسلطة والرئاسة. وسليمة وفيما الأب يغرق في استذكاراته بحزن قاتم , ترفض هذا و تقول لأمي : كنت أكره منطق علم الأب، منطق انثروبولجي برجوازي , وأنا اؤمن بالماركسية وعلم اجتماعها الذي يختلف عن الطرح البرجوازي. غالبا ما أسفّه أفكاره وبيننا كان صراع فكري. أشعر الآن أني هُزمت، هُزمت.
**
اصل أمي في مساء بارد وأنا اشعر إن أصابعي تتجمد وروائح الأبقار والحمير في مدينة الثورة تقتحم انفي وفمي وتكتسحني. اقترب من البيت الذي تختبئي فيه وعلى الاسيجة رايات الحسين والعباس. أراقب الشارع بقلق الملاحق، وعندما أجد الحمير والبغال والأبقار قد نامت والمخبرين ضلوا الطريق والخفافيش السوداء تغطي الشوارع ولا قمر هناك ادخل البيت مثل لص غير محترف بارتباك الطفولة، بارتباك الصبا، برعب الحاضر والماضي. ادخله متخفيا مثل عقيل بن أبي طالب عندما ضاع في طرقات الكوفة قبل الاستيلاء على الخراج. تستقبلني أمي بجفاء القلق، بجفاء عدم الرضا. عندما اخبرها باني لم استطع العثور على زوجها.، تضرب يدا بيد وينحني جسدها إلى الأرض. آثار قوة مفتتة تبدو بعيدة، لكنها الآن أكثر بعدا. المح في ضوء شاحب، ارتسامة لحظة الدمع والقلق وقرض الأظافر، المح بانبهار حسي وكأنما اهرب إلى التواء الفكرة، العين التي شاخت قبل الآن، أكثر شيخوخة. أشاهد تضاريس ورياح وعواصف وأفق مسدود. اشعر للمرة الأولى بصخب أخاذ ودونية عظيمة تضربني كأني متهم في قفص القتل ورجال السجن يعدون السلاسل لاقتيادي واسمع الأصوات، اسمع من عمق السجن المدهش لذاتي ارتباكات الوحدة المريرة و أحاول أن امسح عنها الدموع وأجنحة الرياح تخفق. ترفع امي رأسها وكأنها نمرة منتهكة، مجروحة، و تبكي ابن الكلب، تبكيه. أهجس حرقة في معدتي، الم ممض يخربش وجهي بأصوات نواح بعيدة وينداح في ذاتي. أتحبه إلى هذا الحد؟! أمسها مثل ملاك ساقط يقبل جمرة وتبكي، تتقلص عضلات وجهها و باضطراب أحاول التماس الضوء الساقط على شعرها الأحمر والنافذة في الجانب الآخر من الغرفة ترمي إلينا إغفاءات الشمس والتواءات الضوء اللانهائي.
أحاول في متاهة المكان تأمل عقصة الشعر الملوم على قمة الرأس منتهيا كخصلات إلى الهلاك والبعثرة وإغراءات السقوط على الأكتاف. الهيكل العظمي وبروز عظام الفك تبعث في الشعر، في روحه، نزوة عميقة في ذاته، ارتجاسا ورفرفة لعصافير تكاد تجن في صمت المكان المتألف مع ضوء الشمس المحروس بالنوارس ودكنة الغرفة. فجأة اتحسس متذوقا طعم أسلاك الكهرباء، نبض مذاق غريب للنحاس عندما تفتك به الطبيعة والصدأ الأخضر. كلما تقفز صورة زوجها إلى ذهني، يتولد فيّ هزيم مشع وكأن الطفل الذهني لي ينحدر راكضا إلى سواحل البحر أو يدرك متصوف اتجاهات الهواء في عمق متاهته الصحراوية.
العاصفة تضرب، القنافذ تهرب، الكلاب الضالة تعوي في المزابل. القحولة تتبعثر أمامي، وللمرة الأولى ينمو إلى دماغي إني أمامها ليس وجها لوجه، إنما زوبعة أمام عاصفة، ثورة ضدية للمشاعر النبيلة تتجه نحو التوحش. او كأن بي رمل إزاء المياه و كل الأيام الماضية التي بيننا تحدث توترا لتنساب الغمامة إلى الحد الذي تضيع في مجريات الرياح، واشباح الجن، وارتباكات القوة والضعف التي اتصفت بها بعد بلوغي وهروبي إلى البدء من مرحلة الطفولة محملا بالانتقام. لايمكنك ياأمي فهم الانتقام وجذره اللوغارتمي، ولا أنا أيضا افهم فلسفة المشاعر عندما تتولد بعيدا عن مكان الاحتضان الطبيعي لها - وجودك - مرارا حاولت صياغة السلوكيات الطبيعية بيد أني فشلت - بنجاح ساحق - إذ بدا إن مكون عقلي ضاع في مجهول نسياناتك لي. وقتها تكون مسخ من اختلاطات مبهمة لعقل طفولة. فكان الوهم والتلوث سيد الذهن وسيد زوبعة الهستريا والشيزوفرينا التي ضربت عميقا جدا مخيخات العقل، جذوره، الشرودات النارية والعصبية التي تنقل إلى كيمياء الدماغ فكرة التفكير ذاتها.
تبحث امي بأصابعها أمامي عن حلم هارب، عن أسباب ارتعاش أصابعها في اغفاءات الانهار المتوحشة حيث تعبر الاشبال السهوب المظلمة تتبعها الكسور عديمة الجبر. وأفكر مليا في تقلصات جسدها، كقنفذ، كقنديل بحر يدفع بالمياه والبحر إلى الخلف، كمناجل نمو الفكرة المتكونة من الالتباسات، و يالها من التباسات ! اشعر إني أود أن اعرف طرقات تسلل الاحباطات الكثيرة في حياتها وتنظر عميقا في عيني والمح الصمت الذي يرين واللغة المستفندة واللاجدوى بل الدهشة. تؤنبني، تبعث بي إلى مشانق مع حبال مصنوعة من الأظافر والخربشات على الأبواب. اندهش في تلك اللحظات العائمة على الفكرة بالأشباح التي تزورنا دونما اعتراض. تهددنا في الشوارع وكأني أمام امرأة أخرى غير أمي.انحني قليلا متضلعا بالتيه لأقبل أصابعها المتعبة والمشققة من اثر البرد وعدم كفاية محبة التدفئة ورطوبة الغرفة في جفاف أيامنا. اقبل أصابعها وتجيب هي كبطل مهلك، في نضوب الميراث الانساني وبنونية ووحدانية التائه والصلب المتكتل على ذاته امام كراريز الظلمة، بشفاه انتهكتها اعتراضات الحزب على اعتراضاتها وتشرد الرفاق في الضياعات، في الوطن الماورائي و مصير الحزب الذي وقع كما العصفور في انتهاب البعث.
من المسؤول عن كل هذا؟ القيادة؟ القاعدة؟ كادر الحزب؟ أو تلك العبثية المريرة المشفوعة بتثقيف الحزب للأعضاء عن أهمية الجبهة الوطنية مع الرفاق في حزب البعث. تفكر بتوهج التوتر والغرق في لجة اللامسرة المرتحلة مثل طفل وراء الكرات الملونة مستذكرة المرارات التي عانى الحزب منها وكأنه طائر العنقاء يبعث من روح دودة صغيرة دائما ويكبر، ثم زاحفا إلى معاقل الشر لينهي أساطير الأولين. لكن الحزب برغم الأخطاء - وهي تفكر بهذا - يغلفه حب الجماهير والشغيلة المنهكة ووزر الفقر. هل ستنقذهم الجماهير؟ هل سيلتف الجميع حول الحزب و يمكنه امتصاص الضربة والنهوض من جديد ومقارعة يمين حزب البعث؟ وفيما هي تفكر بالاختلاطات التي عمت المسيرة، يستدعي عقلها الرمز الذهني المفقود للأطفال والزوج، تيه زوجها الحاضر في مملكة الوطن الجحيمية والتحقيقات المرعبة والكيبلات والصرخات والجهجهة واللهاث بين الأبالسة والرغبة المجنونة في إنقاذه من الهلاك. هل سيقترب من البيت؟ هل سيكون الكمين هشا إلى الدرجة التي تجعله قادرا على النجاة و الفرار؟ غير إنها تعرف زوجها الذي ارتكب العديد من الحماقات ولم يعمل بمبدأ الصيانة الحزبية. ترثيه الآن و ترثي تهوره ونزعاته القيادية وحب الظهور أمام الرفاق والجيران بنرجسية عالية الخطورة والإيحاء للآخرين بأنه قيادي والتي ربما ستكلفه الان حياته، ستكلفه المصير الغامض والمجهول من أن يضيع الأطفال في ثنائيات الزمن واليتم وستكون الشوارع بمفهوم أهل العراق، البيت والمأوى لهم مع ما يرتبط هذا بالضياع الخلقي وترك الدراسة. سيرقد الزوج في زنزانة انفرادية يأكل الشوربة بطاس الفافون فيما هي مطاردة ومطلوب القبض عليها. ولم تقدر ليلة أمس فيما كانت بانتظاري، الهروب من سيلانات الأفكار التي لم تمنحها فرصة إغماض العين اخذة النقمة والتهلكة الراقدة. كان السهاد طويلا و يدفع بها إلى المناطق الذهنية الخافية بعيدا في الدماغ ومناطق الحلم تشكل ميلودرامات مخيفة، وتقف أمام الباب وعلى الجوانب رجال امن ببدلات السفاري ولا تتمكن من معرفة الغرفة التي تجلس فيها، الا إنها تسمع من بعيد أصوات طائرات وركاب في قاعات التفتيش وأمامها وجه اسود بلا ملامح واضحة.
اقترب من أمي أكثر واسمع الأنفاس المتسارعة وكأنما ركض في فراغ الزمن وانظر إلى وجهها محاولا التماس الخيبة الجامدة، وأكاد اعرف مرارة ضياع الأطفال في دنيا التوحش والعمل الحزبي. وبرغم الشعور الخفي والغامض الذي أحسه يقترب منها وهو شعوري أنا، الاانه يطوح بي نفور غريب حالما أتذكر زوجها واعرف إنها تبحث عنه الآن كفكرة وذهن مرتاع للجنون الذي ضرب الحزب. أقول لها إني سوف ابحث عنه و أجده حتما قبل أن يلقى عليه القبض. أحدثها بما يعني إن الأطفال في بيت جدهم وانه لاخوف عليهم ولا هم يحزنون لكنها ترفض إذ لايمكنها الوثوق بي وغالبا ما تشعر باني ذئب يلتهم أطفالها. أتذكر انفعالها عندما اضرب ابنها فتثور، و أحس إني اسمع توبيخها الآن، اسمع توعدها واقتحامات الصوت لمخيلتي.
تكره أمي قدومي لزيارتهم، اذ كل زيارة تنتهي بصراع، بخصام، بتيهان قلبي ساحلا خيباته الكبرى. اتذكر صراخك الآن، التعتعة، السائل النازل من فمك، الأجنحة الملائكية التي تطير روحي عليها وصوت الرعد همهمتي، وعندما أثور مدمرا كل الأشياء أمامي بفعل ديمومة حقدي على زوجك اسمع رجس توبيخك فأخرج فارا من البيت أو هاربا ملتهما التراب، مع عصف الصيف وسموم اللهيب والشمس التي تلسعني. اشعر بنار متشظية منذ صباي تدفعني للموت وقتل زوجك، ياالله كم اشتهيت ارتشاف دمه بكأس امبراطوري فيما الملائكة تمجدني على جبل الاجتماع.
قبل أن اخرج تقول لي أمي، جد لي مكانا جديدا بسرعة، أهل البيت لايريدون بقائي فترة أطول. انظر إلى وجهها وتصعد ملتوية الى حلقي مشاعر غامضة وكره ورغبة في ضمها وحيدة. أريد أن اشعر إنها لي وحدي وان اجلدها، أضعها على صليب من الدخان و ارميها بسياط قوية في نهايتها كرات معدنية صغيرة.. لا ادري كيف أتصرف أقول لها إن كل شيء سيكون مثلما تريدين وانه يجب الاعتماد على الله، فتصرخ بوجهي إذ لاتريد ذكره أمامها وتقول بعجالة اذهب إلى بيت أبو كفاح سائق القطار وقل له إن الرفيقة زكية تريد رؤيتك وإذا لم تجده اذهب إلى صيدلية ضمير في ساحة السعدون واسأل عن ضمير الصيدلي، هذه هي العناوين، قل له يجب أن يأتي سريعا يجب أن أراه إذا لم تجده اذهب إلى الدكتور سميسم. عندما أهم بالخروج تسألني : أين وضعت السيارة؟ فأقول لها عند علي قريب زوجك.
**
صباح آخر من الصباحات السامة، صباح جديد مليء بالتفاهات المشحونة بالقيء واللاحب والارتكاض الوحشي في شوارع بغداد. برد يصل إلى كل عضلات إستك وترتجف وتبحث عن مكان للتبول ولاتجد - كالعادة في بغداد - وتفعلها بعد بحث طويل في نفق ساحة التحرير قرب المدخل المؤدي إلى المطعم الهندي ويشاهدك شرطي بائس حيوان يشبه البغل له كرش فظيع وابن زانية إضافة إلى انه اعور. بعد ذلك يركض الشرطي خلفك وأنت تركض مثل أرنب وهو كسعلاه ويمسك بك ويسحلك مثل نوري السعيد من الياقة، من الزردوم، من الشعر. نازي، فاشيستي، عدو طبقي، حاقد وإنسان كافر ويلوي ذراعك ويضعها خلف ظهرك وأنت تصرخ تصرخ بكل الرعونة المتولدة عن الألم ورائحة فم الشرطي والجيفة من ملابسه ويتقيأ عليك وتلتصق بوجهك حشرات البق والعصافير المغردة ويقال لك في مركز الشرطة بين قحاب البتاوين وجرخجية وباعة سميط وبادم وعربات بلا إطارات عليها رسومات صفراء : لماذا فعلتها ياحيوان، ياحيوان ويرفسك - بجلاق - ومحمودي على ظهرك عند الحافة العليا من عظم الترقوة وتشعر بالمدفع الرهيب يقتحمك وكأن الجلاق - الرفسة - المحمودي - فجر حيثيات حياتك مع البخور ورائحة المحرقات وموسى ينتظر عند جبل التجلي قرب معمل حلويات الحسنين والغمام كثيف وتشعر برغبة قاتلة للبكاء.
شاب مثلك على أعتاب الرجولة يهان، يضرب، تشعر بدونيتك وانك بلا كرامة و أي كرامة و كل شئ خراء في الوطن، خراء عارم وغائط وفضلات إنسانية تسير في الشوارع تلهث تحت تأثير ٦٠ درجة مئوية و تتدافع أمام الاورزدي باك والأفريقية وتدفعك الأذرع والأكتاف إلى الأبد، إلى البالوعات، المنهولات، السبتتنكات، الى سيارات النزاحين الرمادية ومن ثم إلى مزارع الخس على طريق بعقوبة القديم وسبع بكار والرستمية. خس أبو الطوبة، الدهين، الشفاف، الغامق، الملفوف، الشهي، مخيف الحجم، يملأ العين حبيب العركجية والمزات والذواقة والزلاطة. وتلفظك رفسة الشرطي إلى السماء، خارج الوقت والبخور والزمن النسبي والبكاء عند قبر قنبر علي والشموع وساحة السباع وباعة المنهولات والجص والوحشة المطلقة والعربيد الأقرع ووحشة القبر في ضيافة - أبو إصيبع* - والدهشة والثول أمام انفجار قنينة غاز في محل فاضل قرب العيادة الشعبية في بعقوبة والألم والنارجيلة والسيفون في المراحيض والموت والأبعاد الثلاثية للسنين الضوئية ونظريات الكم وكتاب الوجود في لواط نيوتن على السفود والقوة الدافعة الكهربائية وناتج معادلات المصفوفات واللوغارتمات وبحوث استنفاد اليورانيوم عبر حث أشعة غاما والبحث عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابو اصيبع : دفان (حانوتي) مشهور في العراق.
النيوترون الضائع في محل كبة السراي وجواز اللواط بالدابة و الزوجة من الدبر والبطيخة من الجانب والقطة من الخلف و كتب السيرة وقانون الموائع. وتتذكر حياتك السابقة، حياتك في الصحراء، هناك تتبول في كل الأماكن مع النار وخشب الطرفة ودلال القهوة والهيل والليل وجبار عكار والفروة وتبول خلف الخيمة وتضرط في أي وقت وفي أي مكان ومع أي كان، هناك حيث لابوليس، لا شرطة ولا ملاحقات قانونية، ولا محكمة الثورة وشرطة الآداب ولا ذئب يأكل شاة ولا كلب ينزو على كلبه ولا سفاح ولا جرائد ولا مجلس قيادة الثورة ولادولة تخونها وسجون وأماكن تعذيب سرية. هناك بين العصافير في البراري، حيث أنت الزرزور مع العصافير والواحد مع الذين يبول عليهم الوطن، الوطن البائس. وطن الشرطي وابن العوجة والاهانات واللادهشة من اهانتك من الجماهير الرثة. وأقول للشرطي : لأني لم أجد مكانا فيقول : كذاب وابن قحبة. ويصفعني واشعر إن وجهي مثل النار ويقول مرة أخرى : لمَ فعلتها؟ واقسم اني دخلت إلى كل المحلات في الباب الشرقي ولم يسمح لي باستعمال المرحاض، فعملتها بالنفق ويصفعني ثالثة ورابعة وثانية ويستعمل كيبلاً معدنياً مغلفاً بالنايلون صناعة صينية حقيرة ويهبط على ظهري بالنكال وكأني المسيح واصرخ ياسرسرية لست المسيح لكنه يستمر وأصحو من الغفوة واقطع بولي وأضم عضوي تحت ظلي.
اليوم أردت أن انتحر، انتحر لأتخلص من تفاهة العالم وضعفاته بالاوليات والنهائيات وهو يركض خلفك بمثل سرعة ملاك ساقط إلى الجحيم لكن لاجحيم هنا، هناك. لاجحيم غير جحيم القائد والقيادة الحكيمة والثورة الجهنمية التي تبتلعنا - ثورة ١٧ - ٣٠ تموز- وفيما أنا اركض واصعد الباصات وابحث عن السم المبهر والقاتل لازرقه في الوريد، تعلن القيادة الحكيمة زيادة في الرواتب. اسمع الخبر من راديو احدهم وهو يبعبص فيه بعد أن اشتراه للتو من سوق الهرج وتضج الجماهير الرثة في الشوارع، في الباصات، في الامكنة واللاامكنة، في المدن المقدسة بالقباب والأئمة والدراويش والتيهان الديني والدجاج المستورد من البرازيل وبيرة فريدة وعرق وعاهرات رائعات. يالله، ما أجملهن في نادي الطاحونة الحمراء ! وهن يتمايلن ويدعنك إلى أن تقذف فيهن سمومك الحزبية ! وحجي حميد وعرق زحلاوي أصيل ومستكي وجن ورجال ببدلات مخاطية مستوردة يتقيئون في الشوارع الجانبية حيث تبول الجماهير الرثة في الزوايا وعلى أبواب البيوت في البتاوين والمضاءة إضاءة سيئة والكلاب التائهة تعوي والجنادب تندب والعصافير تهاجر والقطط تتلوى والديدان تزحف و تنحني مع موسيقى فؤاد مسعود وديمس روسوس وقحطان العطار ووليد الانضباط وزحف كبير سماوي، خرافي متوحش، اهليلجي، تحميلي، سوداوي، بلغمي، هلامي. زحف مليوني من الجماهير الرثة جماهير ١٧ - ٣٠ تموز مع الديدان الحلزونية. هلاهل، ادعية، امنيات، صلوات على النبي وبارات مليئة بالرجال والبلغم والعراك والمسدسات والقناني الفارغة وهويات رجال الأمن على البلاط وشرطة سرية وقحاب ونادلات وندلة بمراييل بيضاء وباجة بعد منتصف الليل وسيارات لاندكروز تدور في الأحياء الرثة حيث الجماهير الرثة تبحث عن مطاعم رثة وباجة رثة وقطط سمينة مقطوعة الذنب عوراء ورثة تجلس أمامك وأنت تلتهم الباجة والكوارع والكرشة والرارنج وتخرج من المطعم مثل برميل سينفجر وتبول خارجا والشتاء مرير وقاس ويضربك الهواء البارد وتزداد ثمالة و تتقيأ في وجوه الجماهير الرثة بعد منتصف الليل الرث عند الساعة الثانية صباحا أو الثالثة حيث الفجر و الملائكة تجهز خيولها لغزو الأرض مع صلاة الفجر وقراءات وليد الأعظمي لسورة يوسف وحيث الصحون الطائرة في الفضاء وأنيس منصور وكتب ( الإنسان روح لا جس ) ( ودع القلق وابدأ بالحياة وسيرة بني هلال ) و ظاهرة اليوفو تدمر حياتنا بذبذبات التردد اللاسلكي والطيفي والجرخجي * التعبان ببندقية السيمونوف أمام المتحف العراقي و مسلسل ملائكة شارلي والذئب وعيون المدينة والقيادة السياسية الرثة تقول في بيان لمجلس قيادة الثورة الرث، كل يحتفل بطريقته الخاصة الرثة وتحتفل الجماهيرو يحتفل رجال الأمن والأمن العام والمخابرات والأجهزة السرية والعلنية والجماهير في الشوارع والسيارات الرثة أيضا والأضواء مبهرة استلوجية و اتبرز واقفا، رثا، لاهثا. أنين في الأمكنة و في مكوناتها الذرية و يأتي الصباح الرث ( مدمج كالقدح لاصدع فيه ) الصباح المخيف والهمجي والدنس والعارم مع لصقة جونسن وفكس وزنبك لدهن المفاصل وتخرج إلى الشارع وتتفاجأ بأصحاب الباصات والكوسترات والفيترجية وملالي الكاظم والكشونجية والكيولية وباعة الملابس الداخلية النسائية وباعة الليف وباعة الشلغم واللبلبي والبيرة والمزة ومعمل إبراهيم حيدر لصناعة أكياس حب شمس وقمر ومطاعم الباقلاء بالدهن وشوربة العدس والباجة والسينمات والاسكافية وباعة سمك الجري والسجائر المفرد وبيض العرب والحفاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجرخجي : ناطور البلدية الذي يحرس المدينة ليلا.
والمتسولين والرعاع وباعة الماء والشربت والعصير والبلنكو والفلافل مع عنبة الشريس الرائعة والمراحيض العامة المغلقة دائما في نفق ساحة التحرير والقحاب والفروخ - باستثناء الدودكية - يعلن كل منهم زيادة الأسعار ويلتهب كل شيء ويتورم وتشعر بالدنابل في مؤخرتك ووجهك وانفمك واسنانك وخصيتك والكيس الدهني في نهاية عضوك..
أنا ازحف الآن رثّا. ازحف بمنكبي ولا أصل ويضيع صوت ديمس روسوس وفؤاد مسعود وتينا جارلس واحمد الانضباط. بقبقة، اختناق صوت بلوعة مسدودة جزئيا، سبتتنك مفتوح على عصافير استوائية وغابات مطرية وصحارى بموت احمر. صوت مجرور وسيفون يتفجر فجأة في ذهنك، لكن يجب أن تصل. ولايمكنك أن تفعل الكبيرة في الشارع. عليك أن تتذكر الشرطي في تبولك الأول في نفق ساحة التحرير و أجد نفسي فجأة في مرحاض عمومي في باب المعظم. مرحاض متوحد ومشابه لخيمة بدوي حيث لاضوء ولا ساحبة هواء ولا نور ولا ظلمة ولا ليل ولا نهار وباب تجعرمتآكلة من الاسفل. مصيبة وماذا ستفعل برائحة الغائط؟ وأقول بحيرة، لا ادري، لا ادري إني أهذي وهناك فتحة صغيرة جدا في أعلى المرحاض، ثقب عشوائي ملوث بالذباب المتطاير والماكث، أشعل عود ثقاب وأصاب فورا بحالة من الإغماء واللوثة العقلية والغثيان، أشاهد مع ضوء عود الثقاب السريع الاشتعال، بقايا براز على الحيطان، طبع اكف، اثر أصابع مسحوبة إلى الأسفل ثم مسحوبة بشكل مائل وتلتقي في النهاية كل الأصابع وتنمحي بينها المسافات.
براز على الجوانب و قرب فتحة التغوط. أنبوب سيفون متآكل يمتد بشكل طولي وفي المنتصف فتحة كبيرة ورقاقات الحديد متآكلة و بلون اسود. أبو بريص يهز ذيله في الزاوية العليا وآخر أمامك مباشرة، أعقاب سجائر، علبة كيكوز مضروبة الجانب ومثقوبة من الأعلى ومربوطة بسلك كهرباء رفيع صدئ معقود في نهايته مع الطرمبة كي لاتتم سرقة العلبة، صفيحة سمنة - دهن زبيدة - متآكلة إلى النصف ولونها بلون الصدأ مع قنينة تراوبي سوداء في الزاوية تفوح منها رائحة قديمة جدا وغير نفاذة لسائل الاسفنيك. قدمك فوق مسحة غائط حلزوني مبلل وكعب الحذاء ملوث بالكامل، حنفية مصنوعة من نحاس اصفر تنقط ماء والجزء المربوط منها مع أنبوب الماء تلتف عليه شعيرات حبل منعا لتسرب الماء، حروف منثورة وقلب كيوبيد وسهم يخرج من الجزء الأعلى من القلب وتتجه نقاط الدم بشكل زاوية منفرجة لتضيع مع نقاط سمراء وسوداء وينطفئ العود وأعود مفكرا بالقدر، بالنتانة، ببغداد، بجماهير الشعب، بصديقي ميري ومشروعه النقدوي متناكفا مع حيوانيتنا، ببرد الشوارع، بتيه. لا نافذة مشرعة على العالم كل شيء في الوطن يذكرك بنافذة السجن. ثقب فقط لخروج ودخول الذباب وتيارات الهواء الباردة جدا والتي تصيبك بمغص مستمر. و بعد أن تخرج من المرحاض تدفع نقودا لالشيء، فقط لرائحة ملابسك المليئة برائحة البراز. تسير مثقلا باللؤم بشعور الجيفة، كأنك من عالم آخر غير عالم العالم.. سيارات الشرطة في كل مكان وبائعات الخضرة بملابسهن السوداء القذرة يفترشن الأرض ورجال المخابرات والأمن والأمن العام وأمن بغداد يداهمون البيوت والشيوعيون يعلقون بالمراوح والجماهير تصرخ بوجوهنا وترقص في الشوارع تطلب المزيد من البيرة والعرق للشعب المسكين وتتهافت الجماهير على البارات والملاهي الليلية والقيادة تستورد العاهرات للشعب من الفليبين ومدغشقر والصومال و….. أما عاهرات ألمانيا فهي خاصة بالقيادة، خاصة بهم وحدهم ومن قال إنهم يستعملون عاهرات أجنبيات؟ ! اعرف احدهم يعمل - فيترجيا - في مرآب القيادة القطرية يقول إنهم لايستعملون العاهرات الأجنبيات يستخدمون فقط الكيوليات * احدهم يجن عندما تحرك واحدتهن مؤخرتها ثم تجلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكيوليات : الغجريات
في حضنه و لا اعلم لم يجن الواحد من اهل العوجة لمرآى الكيوليات. إنهم من تراب هذه الأرض. مثلنا، من طينتنا، من شعبنا، منا وبينا صدام حسين، من بيوت الطين. متخلفون، نرجسيون، انحطاطيون، لوطيون، جلاغة. لايمكن لتفكيرهم ولا عقلهم البايلوجي ولا الغدد الجنسية من الوصول لحلم النوم مع ألمانية أو انكليزية عكس الشيوعيين. الشيوعيون أكثر ثقافة، تجذرا، عمقا مع الوطن، مثل الدرنفيس، يضغط ويفك و يحملون أفكارا فلسفية. اكبر قواد في العالم لايستطيع مجاراتهم ولو كان الجاثليق نفسه. هم لايحبون الكيوليات، يحبون الروسيات، يحبون اغنية كاتيوشا الرفيقة ناتشا و يموتون على نهدها المتبطل، الهاطل الكبير الأبيض، الوحشي، البروليتاري، العرموم، العمالي، البلشفي، الطفولي، اليساري، وليس التروتسكي، البريجنيفي. وكل الناتشات وللمصادفة الجميلة يعملن في مصنع سيارات موسكوفيتج ويحببن الفودكا واسنانهن الخلفية متأكلة ويضعن ربطات الشعر الحمراء على شعورهن ومن الجوانب يبرز السالف الاشقر البهي، العظيم، المديد، المهيب المدمر القاتل ومنه اسست السموات وفلسفة الكم والنقد البنيوي ومعادلات الماركسية وقانون الكذب العام. كل الرفاق الذين ذهبوا في دورات حزبية ثقافية ناموا مع ناتاشا ولحسوه املطا ومع القشطة ودونها ومع القشفة ودونها. كل الذين اعرفهم من الشيوعيين يحدثني عن ناتاشا آه ناتاشا آآآآآآآآآآآآه ناتاشا، امرأة رهيبة اتخيلها مثل عاهرات المعبد كل فخذ بكبر المجرة ولو جريت ألف عام فلن تصل إلى الفخذ الثاني ومابينهما ودبرهما وكل النساء بالنسبة للرفاق الشيوعيين ناتاشا. لايهم، الخراب في كل مكان. لا أتذكر فيلم (لاتزال الرصاصة في جيبي( لماذا لا اتذكره أصلا؟ لا ادري لا ادري.
اهرب من الجماهير وادخل البارات المظلمة في بغداد، البارات المليئة بالخفافيش والعسس وعرفاء الأمن والشرطة السرية ولا أجد صوت أم كلثوم، فقط شعارات القيادة ودوي الجماهير وهتافاتها خارجا. في البار وبعد القنينة الثالثة يبدأ احدهم بالصراخ وصفير الأسنان والعويل والبكاء والهتاف بحياة صدام حسين ثم ينهار على الأرض ويتفجر كل شيء فجأة، بصاق على النادل وبصاق على الآخرين وفي النهاية تنتهي حفلة السكر برصاص ومسدسات براوننغ وقنابل يدوية وسيارات شرطة وعاهرات يهربن وتدافع وأربطة عنق محلولة وأحذية متروكة في الممرات واحتسي المزيد والمزيد من العرق. يالهذا الوطن الجميل،. يالهذه الايدولوجيات المضحكة !!
**
صباح رث آخر في العراق، صباح آخر في بغدادنا المنهوبة بأهل العوجة الذين يستعملون مراحيضنا، مراحيض حياتنا، مراحيض بغدادنا وأفكر قبل أن انهض من الحشية التي أنام عليها بعددهم في بغداد. كم يا ترى الف، مليون، مليارات؟؟. يا الهي ما الذي سيحدث لو إنهم تغوطوا سوية وفي ذات الوقت؟ اخرج من البيت، الكوخ، الكنج بعد أن تأملت الحياة الميتة في وجه جدتي وهي تناولني مصروفي اليومي، المصروف المقتطع كما تقول من - زردومها - يالوجهك النبيل ! أضع النقود في جيبي المفتوق. جيبي الذي تضيع فيه العصافير والعالم والطيور المتوحشة والزرافات والمتاهات لكن لامتاهة مثل متاهتي. اصعد الباصات واحدا بعد الآخر واذهب لأطمئن على سيارة أمي. حينما أصل، أجد السيارة الموضوعة في الزريبة قد فككت وبيعت. ابصق في وجه الزمن بصقة صادقة واترك المكان للبحث عن أبو كفاح سائق القاطرة. في البدء فكرت أن اذهب إلى مكان عمله في السلجية لكني خفت وذهبت إلى بيته. يسكن أبو كفاح في العطيفية، في بيوت السكك قرب النهر بين غابات النخيل واليوكالبتوس والقلنطوزات الشبحية. استقبلتني زوجته بعباءة حائلة اللون وبدون أسنان أمامية مع رائحة بصل وثوم وكراث وفجل وبيض مسلوق.
ادخل البيت واشم رائحة المضاجعة والعنبة بالشريس ورائحة الحموضة. أحذية في كل مكان، أولاده مثل نسانيس، غوريلات، تركض أمامك وتتعلق بالمراوح والاضوية والاشجار والنخيل واشجار الدفلة وفوق سطح المطبخ وفي الهواء والريح والعاصفة والموت والسعف. ابصق على صورة ( ابوكفاح ) في عقلي وابصق على الحيوانات الطائرة في مستهل بدء الخليقة عندما كان الشيطان لم يزل الملاك الحبيب. لان الله أنكر مخلوقاته وضربهم على أعقابهم وعندما وصلوا الأرض مثل إبراهيم الذي خرج من ارض شنعار إلى الأرض التي باركنا حولها. ضربهم على قفاهم وقال اذهبوا وتناكحوا وعندما تناكحوا، فاحت رائحة الخس والفجل والبصل والمغافير والعنبة بالشريس.
تناولني الزوجة استكانة الشاي بأصابع ملتوية بسبب الروماتيزم مثل الحيات القروسطية واعرف كم لمست هذه الأصابع الغائط في اليوم الواحد. اشرب استكانة الشاي المحروق ويأتي ( أبو كفاح ) قلقا ومرتبكا ومتأففا بسبب الدخان و بهيأة سائق قاطرة يعمل على خط الموصل - بغداد وفي أحيان كثيرة على خط البصرة.
رائحة البصرة لم تزل عالقة فيه. رائحة خباز مشوي وصحارى ونخيل عذب. يريني ( أبو كفاح) الكتب الماركسية - الالهية - وهو يدسها في التنور مع محاضر الاجتماعات وأوراق الكسب الحزبي. انظر بألم إلى وجهه، اشعر بانهزامه، سحقه، تهافت العين وهي ترى كل التاريخ الشخصي له يحترق. ( أبو كفاح ) يجلس القرفصاء أمامي وبنطلونه التركال القصيرالمقلم ينسحب عن المؤخرة ويظهر طيزه مثل جلد طبل اسود ويبكي في ارتخاء الآجال المقدسة والبرقوق البري ورائحة المطال وسعف النخيل و يقول : الهجمة قوية، قوية جدا، أشرس من هجمة عام ١٩٦٣ التي انتقم فيها البعثيون منا بعد أن علموا إننا وشينا بتحضيرات انقلابهم إلى عبد الكريم قاسم والمخابرات السوفياتية. شيء لايصدق ويتناول قنينة العرق القريبة منه ويمتص جرعة عنيفة ويبصق على التنور وفيما أرغي وازبد واحيانا أتكلم بسكون الصمت المهسهس مثل صوت النار وهي تلتهم الكتب يكون( أبو كفاح) في عالم آخر ليس له علاقة بالواقع يحدثني وفيما اشعر بالدوار عن نضالاته السابقة، عن النضالات التافهة وكيف انه كان يكرر في كل تقاريره للقيادة عن الخطأ القاتل للتحالف مع البعث. هو ومجموعة كبيرة من الرفاق في منظمة بغداد قلنا لهم : يا رفاق، يا أحبة، يا أشراف، يا أبناء فهد وسلام عادل، يا أبناء نزيهة الدليمي، يا أبناء الصرايف، يا ابناء القحبة، يا ابناء الكواويد، يامناويك، يا لوطية، بحق الوطن السوفياتي، بحق وداعا غوليساري، بحق لينين وماركس وانجلس والثورة الاشتراكية العالمية والطبقة العاملة ودكتاتورية البروليتاريا والديالكتيك وبحق الثورة الاسبانية وجارا والليندي وأبو هريرة، ماتفعلوه حماقة كبيرة. وكانوا تروتسكيين، تحريفيين، باكونيين من أقصى اليسار والى أقصى اليمين. بلاشفة ومناشفة مناويك. كنا نقول لهم : نبوس طيز كل القيادة ونرجوكم، نرجوكم أن لاتتحالفوا مع البعث، لأنه عاجلا أم آجلا سيشوي على طيزنا البصل. هل نسيتوا مافعلناه بهم عام ١٩٥٨؟ هل نسيتم ما فعلناه بهم عام ١٩٥٩؟ هل نسيتم مافعلناه بهم عام ١٩٥٧؟عندما بلغنا القلم السري في العهد الملكي عن أسماء أعضاء قيادة حزب البعث؟ هل نسيتم ما فعلناه بهم بعد ردة تشرين؟ ومافعلناه بهم عندما كشفنا خطوطهم السرية لنظام عارف؟ كنا نعرف منذ البدء منذ أن وضع ماركس أسس رأس المال، منذ أن كانت المخلوقات كلها تسير في البحر، منذ أن خلق الله خير الله طلفاح - حرامي بغداد - ومنذ تكون هذا من خلية واحدة كما تقول نظرية النشوء والارتقاء وأمرنا نحن الشيوعيين أن نبتهل لداروين، إن البعث سينتقم منا، سينتقم. لكن لافائدة، لافائدة، ياللتروتسكيين المناويك، وهكذا وصلنا إلى هذا الحال.
بعد أن استمعت مليون سنة من الخريط، طلبت منه أن يأتي معي. قلت له : أمي تريدك، فتقلص مثل حلزون وطردني. طردني بالنعال والمكنسة والبابوج وعباءة زوجته القحبة والرفيقة ناتاشا والفودكا وزياراته إلى الصين الشعبية. اهرب، اهرب منه بين الأشجار، بين النخل، بين الحمير. اهرب مثل عوسج النخل عندما تدفعه الرياح،اهرب بين الغابات المطرية والتأويلات والمناحات وتهديد ( أبو كفاح ) لي باني إذا اتصلت به ثانية سيبلغ عني الرفاق في حزب البعث، انه يتغير الآن يتغير وكل شيء انتهى. الحزب انتهى، القيادة هربت، الكتب ضاعت، الاجتماعات توقفت، التبرعات اختفت، ميزانية الحزب سرقت، وسيتطوع منذ الآن في الجيش الشعبي.
**
صباح تلمودي رث آخر قادم من اللامكان. قادم من تفاهة العالم وتفاهة أهل الموصل لأنهم لايعرفون أكلة الباقلاء بالدهن ويسمونها تشريب الباقلاء، مع ان التشريب شيء والباقلاء بالدهن شيء آخر. صباح خرائي ثاني وثالث ورابع، وأنت تناور بين الناس وتسير مثل أعرج في متاهات الضياع الدينوسي. انتظر في موقف الباص من الساعة السابعة صباحا ولا باص في الأفق، مليارات الدولارات تختفي هنا وهناك. دولارات جهنمية، دولارات إلى الصحفيين العرب والأجانب والأفارقة وكل العالم باستثناء العراقي وعدي صدام حسين يصعد كل يوم في سيارة جديدة ونحن نُحشر في الباصات والحافلات الحقيرة وبازدحام شديد، باصات للنساء والرجال والكلاب والبعرور وملاصقات حقيرة ودفء نسائي يتسلل إليك عندما تطبق النساء. عندما تمس حتى ولو شعرة من امرأة تشعر بانتصاب كوني لعضوك الحقير وتتحسس روحك شيء ما من الثورة الداخلية وانتصابات وسيلانات وخيال جامع جامح فتاك تفرغه كله في ممارسة العادة السرية في حديقة الزوراء قرب حديقة الحيوانات، خلف قفص الأسد الذي سرقه عدي صدام حسين ووضع بدلا منه دعلج مهلوس. أتسكع في شارع الرشيد مثل أهبل، مطعون بالدرنفيسات لأبول على الذهن وأنت تمشي بلا هدف لأن الأهداف كلها ضاعت. وتطرأ إلى الذهن فكرة الذهاب إلى الدكتورة نجاة زوجة الدكتور سميسم وهي صديقة قديمة لأمي و لربما تحصلت منها على بعض المعلومات.
أصل جامعة بغداد والى قسم اللغة الروسية في الباب المعظم حيث تعمل. ابحث عن الدكتورة في الأروقة والأقسام واصعد سلالم وانزل في عبثية جاثومية وعندما يسألني احد الرفاق الحزبيين عما افعله هنا، أتراجع وأقول له إني ابحث عن قسم التاريخ. اخرج من القسم واجلس في النادي اشرب شايا سخيفا وأدخن بشراهة وأفكر بالخطوة التالية وعما سأقوله للدكتورة. إثناء التيه الوحشي وانهمام الذات بالبحث عن طريقة بداية للكلام، اشعر إني مشتت وباهت وفي طريقي للاضمحلال. يجيء رفيق حزبي آخر ويطلب هوية الجامعة. اشعر بالارتباك واللعثمة وأحس إني اغرق في بركة سخيفة من القذروات وأقاد إلى مكتب ضابط الأمن. اجلس على كرسي مشتت الذهن وارتعش واضع رأسي بين يدي وأحس بانضغاط الكتلة واعتصار روحي وكأن أشعة غاما تخترق الانحناءات المتلاصقة في الدماغ. البعثيون يمرون أمامي، طلاب وأساتذة وينظرون إلىّ نظرات شك وريبة، وجوه وقنادر باتا والتمساح وشوارب كثيفة بعثية وأفواه حاقدة ونظرات خالية من الرأفة وينمو إلى ذهنك أن العالم قد فرغ من الرحمة والرعاة المتيبسين هاجروا مع القطعان إلى الله والغابات الضائعة متروكة للنسيان والذئاب والأضواء المتأرجحة في غرفة متربة ومهجورة و الفئران تلتصق بقدمك. العالم فرغ نهائيا ولا احد يمسد رأسك وأنت في الدرك الأدنى من فقدان الإحساس بالعالم والزمن والحياة والتمرد واللامعنى والدهشة والرماد المتبقي عقب زيارة اليوفو الأرض بمركباتهم الحيوانية والانحراف النفسي واختلاط المشاعر في مقبرة الشيخ معروف والضياع في مقبرة النجف والأصوات والبراري والغابات والتصحر وخيول جامحة وصمت وصراخ وعتو واحدهم يصرخ في أذنك فجأة وتلتفت ولا احد.
وفيما أنا أفكر بالدكتورة على نحو مشوش و غريب من عدم وضوح الرؤية، يأتي ضابط الأمن ومعه أكثر من رفيق حزبي بشوارب ٨ شباط كبيرة مدهونة برائحة التشريب والسجائر، اجلس أمامهم بحذائي المعوج وأنصت. يطلب مني تفاصيل عن حياتي، عنوان البيت، المدرسة، اقرب دالة إلى البيت، اسم إمام الجامع، أسماء أصدقائي، عناوينهم و تفاصيل أخرى عن كل المدارس التي درست فيها. تحس أمام ضابط الأمن انك عار تماما، مقتحم، منهوب. يجب عليك أن تقول كل شيء. فكرت إنهم سيعتقلون جدتي ويجرجرونها إلى مركز الأمن، هل ستصمد؟ هل ستتوفر على القوة الكافية للمواجهة مثلما واجهتهم يوم اعتقال والدي؟ سألوني عن سبب تواجدي في الجامعة رغم إني لست طالبا فيها. تحدثت بارتباك إني معجب برواية ليرمنتوف - بطل من هذا الزمان - واني جئت لزيارة الدكتورة نجاة لأنها متخصصة بالأدب الروسي، دخنوا بخبل، الغرفة صارت مرجل. بعد ساعة كاملة من التحقيق أطلقوا سراحي، خرجت من الجامعة بارتباك وشعور إني عدت إلى الحياة ثانية، فرح غامر من التحرر. في موقف الباصات وجدت الدكتورة نجاة، اقتربت منها بخطو مرتبك، ظمآن، قلق. قالت لي بعد أن تنحينا جانبا أن ليس لديها معلومات عن أمي. رجتني أن لا أتي إلى الجامعة وان لا اكلمها ثانية، أرجوك. كانت بوجه ممتقع وأصابع نحيلة معرقة وشعر جاف متقصف وشعيرات نابتة عند زوايا الفم ورائحة ثاني اوكسيد الكاربون تغطي المكان. اعتذرت منها، ابتعدت وأنا أحس بعالم مغلق من كل الجهات. لانور، لا ضوء، لا عزاء، لافانوس، لا لالة* فقط عالم من الصمت الكامل والمؤامرة العميقة الجذور في عالم يتوسل البصيص وان لابصيص، لابصيص حتما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لالة : أداة إضاءة تشبه الفانوس بمرآة جانبية لعكس اشعة الضوء.
**
الصليل يجتاحني من أفاع جرسية، اصوات في اذني. اكاد اجن، نفور عظيم يشبه الصعود إلى الجلجلة، أين ابحث عنك الآن يا أمي؟ في الغيوم الهمجية، أفكر، أموت، ازحف مثل الأفاعي والتهم التراب، تراب العراق الكبريتي المصنوع من أجساد شيطانية واناثيمية. أضاجع ذاتي كدودة، لون السماء الحالك يمنحني تراتبا غريبا للموت. ابحث عنك في كل الأماكن، كل الأماكن مشوهة في العراق العظيم. بعثيون يزحفون عليك مثل الدود يقتحمون انفك وعينك وبطنك وتتقيأ، وتفاجأ إن القيء عبارة عن شعارات حلزونية.
كان ذلك شيئا مؤلما لي وأنا أدور على مراكز الشرطة لأبحث عن أمي. قالوا لي اذهب إلى سجن أبو غريب. ذهبت وسألت و توسلت، قبلت إياد قذرة، حُولت إلى حيوان ضاج بالموسيقى والضراط. قلت لهم هذا هو اسم أمي، أرجوكم.. توسلتهم أن ينظروا في قوائم السجن، دفعت رشوة، انتظرت قرنا مع التدخين والقلق والترقب والاهتزاز الروحي وقضم الأظافر واللعب بالأنف. كنت وأنا انتظر أشبه بموسيقا نشاز تعزف، أشبه بالبوق والطبل، صراخ في شارع ضيق كما يقول جبرا إبراهيم جبرا. لكن كفافيس ينظر إلى محنتي، زوربا اليوناني أيضا وأنا هزيل في سباق الخيول، هزيل إلى الدرجة التي خشيت فيها أن أتحول إلى سماد حيواني فتنبشني الطيور الجامحة.
خرجت من سجن أبو غريب خال مدنسا بالخطيئة، منبوذا ومجللا بالخيبة. الجميع يلعنك ويتعامل معك على انك نكرة، مدان، ذليل، خائن، عورة وطنية. وطن تعيش فيه كعبد، كقن، كلنا عبيد في مملكة الحيوان المتوحش بأنيابه وهي تبقر بطوننا. سلوك البعثيين انعكاس لسلوك السلطة، دسائسها، ضحكاتهم، جلجلاتهم، جبروتهم. دائما يشعرونك بأنك تافه، سقيم، هزيل، مشكوك فيه، يهربون منك، يعاملونك باعتبارك المنبوذ في هذا الوطن، الذي ارتكب جريمة زنا المحارم. لكن هذه ليست الجريمة الوحيدة التي تستحق العقوبة في هذا الوطن. حالما تمر في ذهني ذكرى سالم فراش المدرسة اصاب بالبلبة. كان المسكين يرفع سلة المهملات في الزاوية قرب خارطة الوطن العربي، عندما اقتحم مسؤول الصف وصرخ بعصبية : هل هناك من هو غير بعثي؟ ورفع سالم كفه ببطء وتردد ثم اخذ يحدق في مروحة السقف وكأنه لايرى شيئا. انفتحت عينا المسؤول وكأنها صدمة، دم، هباء، الشرايين الدقيقة تتفجر في بياض العين، الحاجبان ينعقدان، البشرة غامقة و تتضلع مثل تنكة دهن ثم تتدحرج مع نباح كلاب قرب مكب نفايات تفوح منه روائح متخمرة. لا يمكنك قياس تدفق الخوف الذي سرى في عروقنا، لا لم يسر إنما تفجر، تمرغل في الوحل. لم أزل وبعد سنوات من تلك الحادثة أعيش مع أشباح الخوف ووهم العروق الحمراء في العين والفم الذي يتطاير منه الرذاذ، بصاق جامد، كامد، لون اسود وغالبا ما يقترن مع رائحة خفيفة لديتول وفئران تعبث بساقي وأصابع قدمي أثناء التحقيقات. يتقدم المسؤول ويدفع بورقة إلى كف سالم ويقول : الآن يجب أن توقع استمارة الانتماء، ويتوسل سالم لكنه يخضع في النهاية لعملية تحويله إلى حيوان أبكم، حيوان يبكي فقط، لم تنفعه شهقاته وتوسلاته ولا نهيقه، ولم ينفع أيضا انه لايقرأ ولا يكتب، وبعد ساعة من زمجرة المسؤول وقع سالم استمارة الأنتماء واستمارة الموافقة على الإعدام في حالة الانتماء لحزب غير حزب البعث. هكذا أعلن سالم انبهاره من العالم، من هذا الوطن الجميل والرائع، الوطن الذي لاتتسلق فيه الأشجار ولا تنام تحت سمائه ولا تتقيأ في مراحيضه ولا تبول في مغسلاته و لا تسكر مع عاهراته ولا تشرب عرقه وزحلته ولاتضاجع مخدته، وطن اكبر قليلا من الطكاكية لأنه يضربك دائما. في هذا الوطن عصافير تشبه الثعالب ومن أشداق الثعالب يبزغ قمر ملتهب وعلى الأرض ظلمة وفوق الظلمة روحك وهي تتجشأ وهي تلعن وهي تتناغم وتتضاد في دوامة من الشيزفرينيا،الشيزفرينيا التي تضربنا جميعا باسم الوطن المجنون. الوطن الذي لاينجب قادة بل ملاعين وقواويد وشيوعيين وبعثيين ورجال يلبسون الدشاديش القصيرة ويأتي احدهم ومعه دولارات كثيرة ويدفع لترتدي دشداشة قصيرة مثله وتطلق لحيتك - طكاكيتك - في وجه العالم.
بعد أبو غريب ذهبت للبحث عن أمي في معتقل آخر - الرضوانية - ولم أجدها نصحوني أن اذهب إلى الاستخبارات العسكرية في الكاظمية، قرب الشط حيث التنهدات والشهيق ودون فائدة. زرت كل المعتقلات، كل السجون، كل دوائر الأمن، ودائما كانت الإجابة : هذا الاسم غير موجود. في النهاية أشفق علي احدهم وقال : لاتبحث بنفسك يا خرة، جد واسطة * ولتكن قوية هراء، خراء،
ـــــــــــــــــــــــ
واسطة : وساطة
أين أجد مثل هذه. من يعيرني أهمية في عالم هائل من الأجهزة الأمنية والتشابكات والدسائس والمؤامرات والأجهزة الحزبية وشبكات المخبرين العنكبوتية. أردت أن ابكي وبكيت فعلا، بكيت بدموع مستساغة للبلع وأخرى لا. لحست دموعي مثل كلب، مثل قط، مثل اذرع بملايين المجسات تتلاقفني وتضعني في فم هائل حيث الصراخ وصريف الأسنان وحيث الحجر يجرش أسناني بعد إنهاك و بعد إحساس طاغ باللاجدوى، بعد مرور مستمر على مقهى البرلمان واحتساء شاي بلا طعم وقراءة جرائد مقرفة، بعد طول تأمل لنستالوجيا الطوابير المليونية أمام اورزدي باك شارع الرشيد من اجل شراء بدلة رجالية صنع هنغاريا، بعد التفرج على نساء مدينة الثورة وهن يفترشن الأرصفة بمؤخراتهن الفظيعة أمام الاورزدي ويبعن الويسكي والتبوغ وسيجار الرفيق كاسترو. بعد تناول فلافل في المربعة، قرب سينما الشعب والدودكية، حيث أخواننا المنتمون إلى حزب البعث بقوة القومية العربية وعنفوانها وطيزها واستها ومؤخرتها وجماجمها وتحويلاتها الخارجية، أمر على احد الأقرباء الذين تربطني به علاقة طيبة، اعرف إن له صديق طفولة يعمل فراشا في الأمن العام. عندما ادخل بيت القريب أشاهد العديد من سجادات الصلاة وعشرات الكتب الدينية ونعلان. كان يعرف إن أمي شيوعية فيبدأ بالتمرد والكذب ويحلف ويتلكأ. مؤلماً، أتوسله وأتكلم بتلك اللكنة الشبيهة بمن كُسرت عينه وكأنما اقترفت كل الكبائر في هذا العالم واني الشرير، الملعون، الوسواس، الخناس، أتوسل أن يتصل بصديقه. يجب ان اعرف أين امي الآن؟ أرجوك اقبل كفك، ذراعك، زندك، مؤخرتك، مقدمتك. أشهر كاملة انقضت وأنا أطوف في الزمن الخرائي و اغرق في سبتتنكات العالم. كلٌي المرحاض، وحدانيٌ الذهن، منفرط القوة، مسحول الرأي، منبجس التأويلات. أتوسل بحق الله، بحق آل البيت، بحق جبريل، بحق الإسراء والمعراج، بحق السيد مالك، قديسك، ملاكك، شيزوفرينيتك، اكتئابك، هذيانك الرعاشي، هبوط سريع لمجاري الدماء وصعود السكر وعدم انتصاب العضو كاملا، مدويا، مزمجرا.
***
ما موجود في الذهن الآن ياامي يتشكل أمامي على نحو نزوي و النزوة تنبثق و تسيح كما لو إنها سائل مخدر ومهيج ومن البنج كان النبض يرتعش في هبوط دقات القلب.
كنت وأنا أفكر بك تنتابني تلك الحمى (القلاعية). ذلك الرمس الذي يغطي اشتات الروح ويجعلها تائهة وكأنها في دورة الشيطان، وما كان الشيطان غير بنية عقلية تتأرجح عما يقال في الوطن المهزوز. الذاكرة تعمل على نحو جامع وهي تكوّن الصور، وهي تكوّن المخيلة المتفخجة وكأنما حصان شرطة في سباق طويل بين صيحات المراهنين وبين خيول مطهمة أخرى، لكن الذاكرة تفتقد إلى الصهيل، إنها خابية إلى الدرجة التي تجعل المرء محاطا بسيوف وخناجر توخز وتنغرز عميقا في التلاشي الذهني وفي الضباب الرصاصي، حيث الفكرة عبارة عن ذهن متخيل لوجع الجسد وفي توسل القريب.
اتذكر في جحيم الذاكرة والبحث عنك، خطواتك في شوارع بغداد، خطواتك وأنت تسيرين في متاهة العقول تحملين نسخ جريدة طريق الشعب لتوزعيها على البيوت ولتحصلي على سعر إضافي لدعم الحزب. اجتماعاتك في البيوت وسفرات الرفاق والاحتفالات الكبيرة يوم كان حزب البعث يدفع رواتب كل قيادة ونصف كادر الحزب الشيوعي ومقراته ونشاطاته.
إن مايستدعي تلك الذكريات المشحونة بالارتياب، فكرة القتل التي اشعر بالحاجة لها وإن كنت وحدي مع الأشباح، وإن كنت وحدي في شباك متلازمة التخيل الشفيف والانطلاق بعيدا في دروب وعرة وقاسية لأجد في نهاياتها دائما اللغز القاتم واللغز الذي ما عاد لغزا إنما ارتماسات في الأنهر البخارية والليل والوحشة القاتلة. كنت اشعر إني بحاجة ماسة للبصق في وجوههم حيث هم الأشباح والأرواح الكامدة والغارقة في حساء التيه وكأن كل اللعنة المتخيلة للحياة سافرت واستقرت عند نهايات العالم ونهايات العالم ماكانت الا قلوبهم الحجرية، ابصق عليهم الآن مع نهش الذاكرة المسترجعة شدة الألم وأنت في شهر تموز الدموي الساخن و اللاهب في سيارة موسكوفيج دون جهاز تبريد تدورين على البيوت وتطلبين التبرعات لدعم ميزانية الحزب. لكن الرفاق ينامون مع ناتاشا ياحبيبتي وليس مع الفودكا إنما الويسكي الأمريكي المستورد خصيصا للقصر الجمهوري وأعضاء الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ويصرفون أموال التبرعات على الولدان والدودكية. كنت تخصصين الكثيرمن راتبك الشهري لهم. اشتراك الحزب، دعم قضية شيلي في المحافل الدولية، فيتنام، الرفيق جارا، حملة ضد بينوشيت، فيتنام، دعم مجلة السلم والتضامن ونسيت ان هناك ابن كلب - انا - بحاجة لدراهم. وقتما كنت تمنحين جدتي بصعوبة خمسة دنانير يزبد زوجك ويعربد ويريك نجوم الضحى. كم وددت في تلك اللحظة، لحظة الانشداد الذهني والمخيخ الذي يلهث وأنت ذليلة أمامه، أن انتقم متسلقا سدرة المنتهى، متسلقا القارب القادم ببطء متهاديا من عالم الأرواح المعذبة والغاطسة. كان يريد كل شيء له برغبة الاستحواذ الطفولية والآثمة، له وحده ولحزبه، يا للنذالة ! وفي النهاية كنت تسحبين بارتجاج موجع الخمسة دنانير من جزدانك* و نبحر أنا وجدتي بذلك الزورق المتهالك لنتجه إلى عالم الخراب والخيبة، عالم من اللاشيء ويتجه إلى اللاشيء. أزورك في منزلك متأملا نزوة الاستحواذ المتضخمة للزوج وملابسه المصنوعة في انكلترا، لكنه بروليتاري كبير ولايعيش الا من اجل حزبه والنضال الاممي، لذا كنت تطعميه وتلبسيه و اخرجته من زبالة حيث يسكن مدججا بك متدرعا يسافر كل عام بعد أن يجمع رواتبك إلى وارشو مستفيدا من فرق العملة وهناك يسبح في الموسيقى، بالأحذية الانكليزية، بالعطور، بالإناث الشيوعيات وعلب سجائر مارلبورو، فيما أنت هنا مثل ثور عظيم، سفينة تحمل الجميع، تعملين ثمانية أيام في الأسبوع ومائة ساعة في غرفة العمليات وألف ساعة بين الأذرع المقطوعة والأقدام والقلوب المفتوحة والبنكرياسات المقتلعة والمناشير وأجهزة وسكاكين الجراحة، تتفصدين عرقا وآلاماً وابنك - أنا - الملعون بلا أبوة ولا أمومة والمطرود والقذر والتائه والضائع في بيت نبؤتك يدور على الأقرباء بذلته، بابديته، بخرابه، بملابسه، بمخاطه، بحذاء نصف عمر، بملابس البالة التي تموت جدتي وهي تشتريها. و لااحد يمنحك قطعة كيكة ولا بيبسي أو مشن أو صحن سباجيتي بجبنة اوشاري مبروشة وتفوح منها رائحة الدفء والجوع والميتبلازم في امعائك يحطمك وتضطر تحت سلطة التفاهة والضياع أن تصرخ، أن تعوي في اطيط تموزي عارم من الحرارة القتيلة و تدور في الشوارع بلا أمل وتدخن الكطوف * و يحاول الرجال اغراءك بقنينة كوكا كولا وتهرب إلى سكة القطار، تسير عليها وتحلم، تهرب حيث لاسماء لان السماء غادرت، لان السماء بلا سماء، لان الملائكة رحلوا إلى الله، لان الله نفسه - دفرك - وهو يشاهد ابترادك وأنت أمام مدفأة علاء الدين محطمة تلتصق والغرفة مليئة بالثقوب والجدة تدفع الخرق تحت الباب وفي الفتحات العديدة إلى درجة البكاء، بكبر أمومة جدتي وهي تبكي ابنها الذي توفي وتركها عالة على الجميع والجميع نكرات، عاهرات، غانيات. والغانيات اشرف حتماً.. في حديثك معي يا أمي كنت تثورين بوجهي لان الأمل كان مجروحا وقتيلا وأنا اطلب منك بضعة قطع من النقود للاشتراك في مجلة سوبرمان والوطواط أو مجلتي والمزمار. بعدئذ كنت تنفجرين، تنفجرين مثل فقاعة، بالون، مثل قنبلة نووية وشرر متطاير
ــــــــــــــــــــ
الكطوف : أعقاب السجائر
الجزدان : محفظة نقود صغيرة تحملها النساء.
وعيون ملتهبة. وجع وتألم منك لأنه لم يكن معك نقود وان ابن القحبة استولى على كل راتبك أو تبرع به للحزب أو اشترى به سيكار هافانا من الاورزدي باك دعما للرفيق جارا وفيدل.. أتذكر الآن كل دقائق حياتك يا أمي. مثل النور البهي الذي لايولد الا بعد تفجرات كونية. وكنت أنا الكون و أنا الجوع و أنا الألم وأنا الصرع وأنا الشيزوفرينا وأنا الاكتئاب الثلاثي الأقطاب. أنا المتناهي الدائم والأبدي في سماء خراب عميم. أما أنت فكنت تبتعدين وكأنما في فيلم هندي طويل بلا إضاءة كافية ليغدو المشهد مظلما ومن الظلام ولد كل شئ.
**
ينهض القريب بعد ان احكي له حكاية بحثي عنك بلا جدوى ونصعد سيارته الفكسهول القديمة وندور في شوارع بغداد - لا ادري سبب عشق المتدينين للسيارات الانكليزية - ندور مثل تيه عاصف في لا مكان وبلا مركز وبلا تأوهات غير تأوهاتي أنا. شوارع وأزقة ودرابين وأطفال بدشاديش مقلمة و ظلمة واضاءات ضعيفة ورائحة قلي عروك تنبعث من البيوت وعندما نصل إلى ملتويات بيوت غائبة في عالم آخر من بغداد، هو عالم لم اعرفه ولم أزره سابقا. في مكان ما قريب من الشواكة اصُرع. لا يمكن أن يكون كل هذا في بغداد يا الهي ! عالم حيواني لزج يختفي وراء الشوارع العريضة المتحضرة نوعا ما وتتساءل : أيعقل أن يعيش هنا بشر ! عالم متشظي وضائع ومليء بالحكايات الخرافية والجن والشياطين والسحرة و صور السيد الرئيس وصور السيد الرئيس عندما كان نائبا وأحلام خرائية وغائط شفيف ثم حارات ودرابين وأزقة وبشر وبغال وحمير وقدور وشناشيل وروايات يهودية وطناطل وسعلوات واحجية وميثالوجيا وأدعية وشطحات ومتصوفة وقحاب وولدان وازبال ومجاري بائسة وفيضانات مسترسلة وفئران وجرذان تعيش في بحبوبة الميتوبلازم الإنساني ونخترق العمارات الحديثة البائسة، عمارات إسمنتية بعثية مصنوعة من البهاء المضطرب لعيون مفقوءة تغلف هذه الاحياء وتحجبها عن شوارع بغداد بانتظار مؤتمر قمة عدم الانحياز، ونصل عبر الدروب الملتوية وبائعات السمك والخس والفجل والكلاب المتسولة والأفواه المنتفخة والشاي الأسود المدلوق في الدرابين إلى نهاية الطريق، إلى بيت متداع، نطرق بابا خشبيا يهوديا موحشا وتنبثق من نوافذ عارية وجوه أطفال وحناء ونذور واكف واشم ملايين الروائح المختلطة مع بعضها. يخرج رب الدار - الفراش في الأمن - ويستمع إلى تشنجاتي، للبصاق المنثور من فمي ويتدخل القريب ويشرح الأمر بشكل أوضح ويتوسل أن يساعدنا لإيجاد أمي واشعر إني أريد أن اقبل ليس النعال - نعاله - إنما عتبة الباب والدكة والستارة الملوثة بالمرق والأطفال المجانين والشعر المنكوش البارز من شرفة النافذة والأنوف الصغيرة المليئة بالمخاط والصخام وأيام الطاعون والجدري وفيضان دجلة وعتو سليم باشا والمرتزقة والمحاربة والاحابيش والطبالين والكشونجية. وكنت كل شئ أمامه، كل شئ أمام فراش الأمن الأبله الذي يتصور نفسه هو السيد النائب والسيد النائب عندما أصبح رئيسا ويتكلم معنا بلكنة تكريتية مصطنعة وكأنه الضليع الوحيد في العالم بقوانين السياسة والاعتقالات والأمن والأمن القومي والتعذيب وقلع الأظافر والجلوس على القنينة وعندما ودعناه شعرت إن ما من شيء سيغدو أفضل، وان حالة الاكتئاب والانهزام والاختناق والغرغرة التي تصل البلعوم وإحساسك بالاستلاب و روحك تائهة في كم هائل من التفاهة لا ولن تزول مادامت القوانين ذاتها تعمل و المراحيض في العراق لن تتحول إلى تواليت حتى وان غدا السيد الرئيس قائدا لكل هذه الأمة من..
الفصل الثالث
أقف أمام أمي وتسألني إن كنت قد بحثت عنه. أقول مدققا في وجهها اجل ويمتد صوتها رخوا، هزيلا، بعيدا مثل زورق يتأرجح في بحيرة صغيرة، المحه وهو يبرز من حنجرتها، ليس من الحنجرة فقط إنما من كل الأماكن في الغرفة. أتأمل الصوت بقربان التقدمات المقدسة. تميل برأسها مثل فزّاعة منهكة. يصطفق باب كبير، نافذة مشرعة لتيارات الهواء المخضّبة بالألم. اقترب من الحنك، من عظمها الصغير المغلف بجلد منبسط فوق رياح مرتفعة لان لاسماء فوق الوطن بل نكايات وأحاديث عن موت القمر.ادفع يدها وتدفع وجهي بعيدا، ترميني بمنجنيقات ارض القفر والوحشة التي تموت في ضوء القمر الأزلي والفيضان المتسع والقطط التي تسير على الأسيجة في ليل بارد. اشعر بالإنهاك الذهني، بالانهمار، بناؤس، بضباع هائمة في الظلمة وفكرة الموت على ضفاف الأنهار المقدسة، استمع للتأويلات المتشنجة في البرد والمدفأة الحزينة تسيح مثل مطر على الوجوه.
تقول : لم تبحث عنه، تكذب. في كل مكان بحثت، اقسم بالأيائل والملائكة المحاربة والطغمات والقوات وجليل النهر المتشظي بعيدا يجري عن التشنجات. وتقول باستياء، صوتك يشي بالمغايرة، لاتكن باكونيني، أنت لم تبحث عنه بل تكرهه و يرتفع صوتها وهي تكمل بارتعاش هل وشيت به، هل وشيت به؟! و يقترب وجهها مني و مرة أخرى استطيع أن ألاحظ أصابعها وهي تندفع في الهواء. اخاف منها، تمسك ياقتي، حنكي، أصابعها بين شعري و أتراجع، أحس بأنفاسها مضطربة، لكنها تبتعد وتضيع. لا يا أمي اقسم لك لم أش به. بحثت عنه في مدينة الثورة وحي العامل والصرايف والمنصور وعكد الجام ومحلة حنون وخلف السدة والأبنية والزرايب. فتشت عنه في خان دلة عند صديقه خياط القمصان. بحثت عنه في كل ملاهي بغداد، كل باراتها، مقاصفها. كنت اعرف إني أعيش شهوة موت الآخر لكن لاجواب،لاجواب حتى أهله لايعرفون مكانه، لاجدوى لاجدوى يا أمي. و تبكي بوجع مكتوم و أمامها اقف ضائعا ولا اعرف إلى أين يمكن أن يأخذنا هذا البكاء؟ قلت لها إن عليا باع سيارتها، باعها مفككة وعندما طالبته بالمال هددني وقال انه سيبلغ الأمن عني. تنظر في وجهي مثل فراشة أفلتت من النار تذوي الآن، تذوي أمامي بوجه مليء بالحروق، أي الفراشات أنتِ؟! وأمام وجهها تقفز الى ذهني حفلة عرسها التي أبعدوني عنها، ليلة غريبة لم افهمها وقتذاك. عندما تغدرك الأشياء تغدو كظيما مهلهلا. عندما فهمت الاقتحام اللزج لليلة الزفاف أصابني داء الوهم والخيالات. كنت اهذي، اهذي في عالم من الدونيات، والمراسي بعيدة عني وأنا احترق لمرأى تلك الليلة ومع التذكر اشعر بالحقد، بالعواء، بشيء غريب يتصاعد فيَّ، أريد أن أمارس سلطة التعذيب على كل الكائنات البشرية وأتلذذ، أريد أن اطعن نفسي بكل رماح العالم. كان جوعا غريبا و اضطراب مبعثر في السماء وعلى الأرض. خرجت من عند علي ذليلا كنت أريد المال من أجلك يا أمي، من اجل أن نجد مكانا غير هذا بعد أن طلبت منا صاحبة البيت أن نخلي الغرفة. لم أكن اعرف أين يمكن أن نتجه؟ قالت بصعوبة، سنذهب إلى بيت جورية - صديقتها - التي تركت الحزب الشيوعي عام 1959 بُعيد مجازر الموصل التي افتعلها الشيوعيون. قبل أن نغادر هذا المكان اذهب إلى دكتور سميسم، أريد أن أراه.
اخرج من المنزل واذهب مباشرة. في بيت الدكتور سميسم كنت صاخبا وتائها في الزحمة اللغوية مرتويا من حدائق السم مثل عصفور مهلوس. توسلت، أردت أن اقبل الإقدام والأرجل والرؤوس. كنت قربانا مهملا، وكان هو بلا رجولة، وبعد توسل مرير وافق أن يأتي معي، على ان ادفع انا اجرة التاكسي.
في الطريق لاحظت كيف ينهار الإنسان الكبير وتصبح كل خرائيات التبجح عبارة عن خراب المدن الملوثة. كان يغلق انفه بترفع ونحن نسير في مدينة الثورة، هذا الجليل سليل المؤتمرات العظيمة ومدن صوفيا ووارشو وقبر لينين ومخادعات تروتسكي. نصل البيت ويدخل بصعوبة، كنت ألاحظ تشوهات وجهه، تشوهات الرجولة. أتذكر انه كان حتما يصول ويجول في المؤتمرات الأممية، كم غدا الآن شبيها بالفئران. ادفعه بقوة التوجس والانتقام، ادفع ظهره ويسير أمامي بخطى ثقيلة. ندخل غرفتك وينهار مثل جوقة من الذباب. لم يستطع أن يتحدث بهدوء، فمه يقذف تفالا و يقفز على متون المواضيع في تيه واضح ومع الإضاءة الهزيلة والذباب الذي استيقظ من غفوة السنوات ومع بحر الحزن والاندياح والتشيؤ والاضمحلال، مع التوترات الذهنية لسماء الخصاء، ينهار فجأة مع الخنوعات المبجلة ويقول انه وَقع* ويهز رأسه، وقع على براءة من الحزب الشيوعي لكنه لم يقل لهم انه يعرفك. يقسم بالعباس وروح أخته وارتجف واشعر بخدر وتنمل في ساقي وخصيتي.
كان أشبه بقطعة معدنية آيلة إلى الغرق في سائل لاهو بالماء ولا بالدهن. لكنه مزيج اخروي حيث النار والماء والبرد والحر والصمم والاستماع والهروب والانكماش. وأشاهد أمي الهلعة، اضطرابها وارتباكها، نهضتها السرية ورغبتها في صفعه، وهو بخنوع الضباع يطأطئ رأسه وينفجر فجأة، ينفجر مولعا بالنذالة ويقول مع رذاذ فمه، انه يئس من الحزب، يأس لان الحزب لم يمنحه المنصب الذي يريده والآن تركوه، خانوه، خانه - أبو سعود - ويبصق على جدار بعيد. كنت أقول لأولئك الحشرات التروتسكية إنهم حزب هزيل مكون من خروات فقط، براز وفلسفات منحطة ويرتعش صفيقا، بسنين مليئة بالقحط الفكري، بالقومجية، بالشيزوفرينا. ملهم كلهم، مل المكتب السياسي ومل أعضاء اللجنة المركزية ومل تفاهتم وعنصريتهم الكردية وتحطيم المنظمات الحزبية على يد الذئب البري - أبو سعود - الثعلب، ربيب الصهيونية والسافاك وك ج ب وستاشي. أنا... أنا، كان يقول، المضحي العظيم ويهز رأسه أسفا وهو يكرر الكلمات ويقول : خرائي عليهم سأقتلهم. وتبهر أمي، تُبهر بمقدار الحقد الدفين الذي انفلق فجأة. وتستمع غير مصدقة، منقطعة الأنفاس وهو يقول ومع انفعاله وضوء ضعيف يتسلل إلى صفحة وجهه ملقيا عليه قناعا من الوحشة والترفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقع : المقصود بها توقيع اعتراف بأنه شيوعي وانه سيترك الحزب ويسلم الأمن كل المتعلقات والأوراق والوثائق التي بحوزته.
إنك إنسانة بسيطة، وعيك البروليتاري ليس كبيرا لأنك لاتخبرين الداخل، عميقا عميقا جدا هناك جذور الخسة. هو سافر معهم إلى كل أرجاء الوطن الاشتراكي، سافر الى براغ وكوبا وسنتياغو ووارشو وموسكو وبرلين الشرقية وقضى أشهرا بل سنوات معهم وانه يعرفهم لصا بعد لص، قوادا بعد قواد، كلهم ابناء عاهرات ليسوا أفضل حالا من البعثيين. صدقيني واعذريني لأني استخدم هذا الاصطلاح.. غالبا ما أفكر انه مع هؤلاء النكرات لا يمكن أن يبنى العراق لأنهم ببساطة ليسوا مع بناء العراق هم فقط مع بناء روسيا. ما يهمهم هو روسيا موطن السوفييات الأول وكردستان و أن يكونوا قاعدة عسكرية للسوفييات. أما غير ذلك فهو بؤس، زبالة و خراب كلي. لا، لا استطيع أن أطيقهم بعد الآن. ويحني رأسه وتختفي نظرات الترفع و يفرك أصابعه أمامنا، يقشرها بأسنانه واتأمل الوجه المتشنج الداكن وعضلات الخدين المتقلصة، أصابعه المزحومة بالالتباسات، ملامحه الغائمة، شعره الجاف بسبب قصور الغدة الدرقية. ارفع وجهي وارى قمة رأسه، متاهات متسعة الكبر وبدايات صلع ظاهر. يشعل سيجارة ويغير مكانها بين الأصابع سريعا وعينه تتقلص أمام الدخان الهارب. من فترة ربما سنة أو أكثر قلت لهم وهو يشهق نفسا هائلا من السيجارة ثم ينفثه إلى ركبتيه، قلت لهم يا رفاق اللجنة المركزية، يارفاق المكتب السياسي، يا كواويد، هناك شيء خطير يحدث، شيء خطير يتراكم انه يطفو مثل قمة جبل الثلج، هناك صراخ اسمعه وهو متأت من بعيد، من موت، كأنه قادم من التيه الأسطوري لحزبنا. قلت لهم يا رفاق وينتفخ وجهه وكأنه يقول اعترافه الأخير. الحزب مخترق، الحزب مهلهل، حيثما اذهب في زيارة المنظمات الحزبية أشاهد أناس غرباء. كنت أقول لهم إني اعرف هؤلاء الجدد، اعرفهم حق المعرفة كانوا وكلاء للأمن، مخبرين، يندسون في الحزب وكنت احذر الرفاق لكن الأوامر العليا كانت تبقيهم مندسين، غافين.
يوماً ما سينفجر برميل الغائط هذا. هناك مؤامرة كبيرة. لايمكن أن يحدث كل هذا دون معرفة الحزب، دون صفقة سرية. وعندما أعلنت بصوت عال وقلت للكثيرين من الذين اعرفهم في الحزب ومحذرا من المؤامرة، جاءت التعليمات من فوق، من اللجنة المركزية أو المكتب السياسي بالتحقيق معي. لماذا؟ ! حققوا معي بنجاسة، بلؤم، بخباثة، اتهموني بأنني مخنث، طفولي، يساري، منحرف، متطرف، واني مهزوز. كواويد، ما الذي يدور خلف الكواليس، تحت الطاولات؟. مالذي يدور في البيوت السرية للحزب مع الرفيقات؟ تصوري بعد التحقيق معي من قبل الحزب جاءت رفيقات إلى العيادة وبدأن بسبي واهانتي أمام المرضى و بطريقة تستنكف فيها الشريفات عن ……. إنهم مافيا. كنت أقول لماذا هذا الإذعان لسلطة البعث؟ كنت أشاهد كل يوم دوريات الأمن وهي تعتقل الرفاق في حملة كبيرة. في البدء انتظر البعثيون أن نكشف تنظيماتنا، ثم تم إحصاؤنا. لمَ كشفنا التنظيم؟ حدثت حملة كبيرة للبحث عن كل الشيوعيين في العراق، في الدوائر والمصانع والمزارع والدرابين والطرقات والبارات والملاهي. كنا نشاهد جهازهم الحزبي مع أجهزة أمن الدولة ينتشر و يكبر. كانوا يراقبوننا بشكل دقيق. حتى عندما تذهب لشراء جريدة الحزب فان باعة الصحف يتعمدون التعرف علينا ومعرفة أسماءنا وأماكن عملنا. حملة كبيرة، مخيفة، دون كيشوتية. في المدارس والجامعات والى الجهاز الحزبي للبعث صدرت تعليمات تطلب من كل شخص بعثي له أقارب شيوعيون أن يبلغ عنهم، وإذا لم تبلغ يتم إعدامك. أيضا طلبت التعليمات من البعثيين أن يبلغوا عن الشيوعيين في مناطقهم، قرب بيوتهم. كنا محاصرين، كنت اكتب، ازعق للرفاق في اللجنة المركزية، لكن لاحياة.. لاحياة. أو إن هناك شيئاً يحدث بليل، أمر سري. كنت اشك. الرفاق في اللجنة المركزية كانوا يتمتعون برواتب ضخمة، مخصصات مالية تصرف لهم من قبل نظام البعث، سيارات حديثة، مناصب حكومية. جهازنا الحزبي كان يقول لنا : أيها الرفاق، البعث يكشفنا.
كنا مثل القمل نختفي لكنهم يجدوننا بسهولة، يخنقونا. كنت ارفع التقارير للقيادة، كنت أدور مثل المخبول عليهم، ازور بيوتهم، ازور مواقع عمل القيادة. لكن في كل مرة يقولون : أيها الرفيق لا تتدخل في سياسة الحزب، الحزب له سياسة، طاح حظهم، أية سياسة. في بعض الأحيان يأخذني الرفيق المسؤول خارج بناية اللجنة المركزية ويقول لي : الآن تستطيع أن تتكلم لأنه ليست هناك أجهزة تسجيل. من يقول هذا؟ من يقول إن هذا الرفيق لا يرفع تقريرا عنك إلى أجهزة أمن السلطة. كانوا يعرفون كل شيء ويسيرون مخدرين. المنظمات الحزبية لنا تمتلئ بالمخبرين السريين. في الحقيقة ليسوا سريين. كانوا يعملون بشكل شبه علني. الاستدعاءات الى دوائر الأمن تتصاعد كل يوم. كنت أتحدث إلى الرفاق في جريدة طريق الشعب عما يحدث. أجهزة التصنت تنتشر في كل مقراتنا و سجلوا كل شيء، ضراطنا، كفاحنا المسلح. أسرارنا وكنا مثل الدجاج البلدي. دائما بانتظار السكين وكانت السكين كبيرة، مهولة، مرعبة، حادة. كل يوم يتم اعتقال القاعدة الحزبية وكنا نفاجأ في التحقيقات إنهم يعرفوننا أكثر من أنفسنا. حدثونا عن كل شيء، عرضوا علينا أفلام القيادة، مضاجعاتهم السرية، دونيتهم، تسولهم للنقود، ساديتهم، ماسوشيتهم، خصيانهم، ولدانهم، وحشيتهم في التعامل مع رفاقنا. تصوري القيادة كانت تتهم كل من يريد أن يصلح الحال وينبه إلى الكارثة المحدقة بحزبنا، انه يعمل لتخريب الجبهة الوطنية مع البعث. أية جبهة؟ مؤخراتنا كانت مرفوعة، كنا عراة. وفي التحقيق معي في مركز الأمن عندما أردت أن أكون بطلا إلى حد ما، اروني هذا الفيلم الخرائي، فيلم السكرتير الأول وفيه أبو سعود يمارس ساديته مع القيادة ويساوم وينام مع زوجات الرفاق وبعلم الأزواج، لابل إن الرفاق الأزواج كانوا يقدمون له الكلينكس بعد ان تلتف الساق بالساق.. وكنت ابكي يارفيقة، ابكي هذا الحزب العظيم، حزب فهد الذي خربه هؤلاء. والمضحك إن السكرتير يتحدث عن خطط الحزب و كاميرات التصوير تعمل والمجسات الصوتية تسجل كل شهقاته وتشنجاته وهو مثل الغبي، مثل الزعطوط يكابر، يكابر بحزب منخور من الداخل، ولم استطع في جلسة التحقيق معي أن أنكر أي شيء، وكيف أنكر؟ وكل شئ كان مسجلا صورة وصوت، صورة وصوت أيتها الرفيقة. كان الرفاق مع السكرتير الأول يرقصون ويسكرون في الاجتماعات وكأننا في ملهى ليلي، لم أتصور في يوم ما إننا كنا نقاد من قبل هؤلاء، من خلف قناني العرق ومن خلف رقصات الرفيقات وأردافهن، مصيبة. في التحقيق معي ذكروا لي كل أسماء القيادة الحركية وذكروا لي أيضا كل الأسماء الحقيقية واروني كل عناوين البيوت السرية، كل الأوكار التي كنا نتصورها إنها سرية وشعرت في التحقيق كم كنت تافها، متواضعا جدا وأنا بين كومة من الشواذ جنسيا والمعاقين فكريا والساقطين أخلاقيا.
شعرت بالأسف على كل التاريخ الكبير للحزب لم أتصور أن ينهار كل شيء في شهر واحد، شهر أيتها الرفيقة، ضاع كل شيء. بعثرنا، تهنا، تهنا بين عصابات البعث وعصابات الرفاق. وينهطل وجه الدكتور للأسفل ويرفع رأسه وينظر إلى السقف و أصابعه ترتجف، يشعر بانهزام داخلي و عضلات فمه تتحرك حركة ارتجافية و يقول : لافائدة من الحزب. لا يمكنك تغيير شيء. أنصحك أن تسلمي نفسك، أن تذهبي إلى أي مركز امن وتقولي لهم أنا شيوعية، سيرحبون بك، لاتكوني بطلة أيتها الرفيقة لان نصف أعضاء حلقتك الحزبية هم من رجال الأمن. اسمعي نصيحتي أرجوك، أطفالك بحاجة إليك، كل شيء انتهى، لا تمنحيهم فرص قتلك، على السواء، الرفاق في القيادة او البعث. اذهبي للبعثيين صدقيني. اكرر عليك ماقلته قبل قليل، سيرحبون بك، لايريدون أي شيء منك.
أقول هذا لأني اعترفت ووقعت على وثيقة اعترافاتي بكل رحابة صدر، لكني رجل طب، علمي، وجدت إن المريض سيموت الان وليس هناك من حاجة بعد لأدوية إضافية. مع اعترافي في مركز الأمن والاحترام الذي شاهدته - بالمناسبة - هم لم يمدوا ايدهم، بكل احترام أجلسوني على كرسي مع سجائر وشاي وأعطوني التقارير التي كتبت عني والاعترافات والصور وكل شيء. قالوا لي : نرجوك دكتور حدثنا عن كل ماتعرفه ونؤكد لك إننا نعرف كل شئ عنك وابتسموا. وبعد أن أنهيت قراءة كل شيء تقيأت. في تلك اللحظات كنت أحس إني طرطور. صعب أن يشعر المرء بأنه طرطور وجيفة وغبي. أن تشعر انك غبي اشد شناعة من الشعور انك تتغوط في بنطلونك أو في نفق ساحة التحرير قرب المطعم الهندي. وبعد كل شيء، وحيثما كان السرد مع الشاي والقهوة والسجائر وبسكويت ألجميلي خرجت إلى البيت، أصروا أن يوصلوني بسيارتهم لكني رفضت، شكرتهم. كنت أريد أن أموت لحظتها، أريد أن أتنفس هواء نقيا، أن أسير وحيدا وسرت فعلا من مقابل القصر الأبيض حيث أبنية الأمن العام إلى الباب الشرقي، سرت إلى ساحة الطيران وجلست على الرصيف مع عمال البناء. كنت أريد أن اصرخ، لكن في ذات الوقت لم أكن اشعر بأي رغبة في الحديث، كنت مصدوما، مهانا. الشعور بالغباء يدمرني. عندما خرجت من بناية الأمن شعرت إني أريد أن اغرق إلى الأبد في الهواء، في السماء، في الصمت. أريد أن أتأمل حياتي، حياتي التي أضعت نصفها في صفوف الحزب. في تلك الساعات مر كل شيء أمامي كشريط مصور ومن قام بالتصوير، طفل في نحو العاشرة. لذلك كنت أشاهد حياتي في اغلب الأحيان مقلوبة، سريعة ومليئة بالسقطات. كنت أشاهد نفسي راكضا، واقفا، هاتفا، متظاهرا.
شعرت بعد الاعتراف إني أحيا من جديد. حياة جديدة مليئة بالسكينة، بالهدوء مثل جندي عندما يخرج من الحرب. هكذا كنت، مهزوما، معاقا غير مصدق إني أعيش مرة ثانية. كنت انظر للبشر بنظرة تختلف عن النظرة التي كنت انظر لهم فيها قبل دخولي بناية الأمن. كل شيء جديد وكأني تخلصت من سرطان أكل حياتي. وبعد هذا التمتع والتأمل والصفاء أقف متمهلا لأشتري جريدة البعث - الثورة - جريدة الذين كانوا أذكى مني واشعر إني أريد أن اقرأ كل شيء عنهم، عفويتهم، سلطتهم، جبروتهم. كنت اشعر إن بانهزامي شخصيا هزم كل شئ و انهار، لكني كنت أدرك إن على الجانب الآخر، الجانب السيء من حياتي كان فيه الرفاق من المكتب السياسي واللجنة المركزية يعيشون في عالم آخر، عالم خرافي، ليس مثل عالمنا. الآن ستتلقفهم الدول الاشتراكية، سيعودون إلى ناتاشا ووارشو ولينين غراد وصوفيا ومنتجعات البحر الأسود وسمورلنسك. المدن التي شيدت من اجلهم ومن اجل متعهم الشخصية ومن اجل اخصائنا. أحسست إني مسكين كبير و غير متصالح مع العالم. وعندما لفني الغطيط والتعب من التسكع بغير هدف أخذت سيارة أجرة وتوجهت إلى البيت وهناك بين الكتب الماركسية و بين عشرات مسودات الدراسات وملايين الكلمات التي كتبتها على مدار أعوام غيرت ملابسي وقفلت باب الغرفة وسقيت النباتات الظلية ووضعت تمرة للبلبل و نمت إلى الأبد.
ساد صمت شفيف ثم نهض الدكتور بارتباك. جمرة سيجارته تكاد تصل لإصبعه ووجهه هزيل. أحسست إن أمي قد داهمها شعور لعيان النفس الذي كللني أنا أيضا. رغبة قوية خارجة من بطني تندفع إلى الزردوم. أخذت انظر إلى أمي التي كانت متقلصة، متكومة في زاوية - الكبة* - مقدمة حذائي تلمس أصابع قدميها. كانت تزداد صفرة. أحسست بالشفقة عليها، نظرتها هائمة، صوت شهيقها وزفيرها اسمعه لاهثا ومتقطعا وكأنما تعاني من الجيوب الأنفية. قال الدكتور سميسم وهو يسير إلى باب الكَبة، انه لن يخبر الأمن عنها، فقط قولي لي انك ستتركين هذه النفاية.
مرت لحظات صمت ثم قال : أرجوك لاتكرري الاتصال بي. فهو لم يزل مراقب على أكثر الاحتمالات. إذا اتصلت به ثانية فلن يستطيع كتمان السر، سيقول لهم كل شيء، وفيما يهم بالخروج يميل كتفه قليلا إلى الأمام و يشيخ فجأة، صلعته الصغيرة تتجمع عليها نقاط عرق و طرف سترته مجعد لكن أصابعه لم تسعفه لفتح الباب. تحركت مثل دودة زحفت بكمون، بهدوء وفتحت باب الغرفة ثم باب البيت ثم باب العالم ثم ضاع في أصوات البيوت والأطفال والرايات ودخان التنانير والتراب والشوارع المتربة والحفر والسباب وصياح الرعاة والأبقار والبعرور والمطايا والهتافات للبعث الصامد والأسواق المركزية وعنوان رجولة الأمة ـ صدام حسين - القائد الضرورة وكل شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكَبة : القبة وتستعمل كاسم آخر للحجرة. كانت هذه المفردة شائعة الاستعمال في العراق.
مثل الزهر الذي ينمو ملاصقا للشوك بالضراعة المقدسة أقف أمامك يا أمي وامسك أصابعك بجلال الزمن وهو يسير أمامي مثل غيمة شتائية. تنظرين في بؤبؤ عيني وأقول : هل تشاهدين البحار والأيائل والمطر والانبعاث من الحياة؟ تقتربين من فمي وأذني. اشعر بذبذبات روحك تشتبك مع الهزء من العالم و تطلبين أن اذهب إلى ضمير الصيدلي. أقول : مالفائدة؟ الم تعي ماقاله دكتور سميسم؟ تبتسمين وتنظرين باتجاه النافذة الصغيرة، الضوء رقيق، ضعيف، يكاد أن لايملك القوة التي فيك تقولين : سميسم هذا جبان، انه يحاول تبرير استسلامه أمام أجهزة الأمن، عاش كل عمره منعما بعطايا الحزب، الحزب هو من صنعه أقول : اعتقد انه كان صادقا. تقولين : لا، الحزب مر بمنعطفات خطيرة، لكنه انتصر، استمر في الحياة. أنت لاتعرف ضرورة وجود حزب شيوعي في حياة العراق، حزبنا صنع الثقافة في الوطن، حرر شعب، حارب الإقطاع، انتصر للفلاحين، للعمال. ما تشاهده الآن من انتصارات للفلاحين هو نتيجة نضال الحزب. تنهضين بصعوبة وتنظرين من النافذة إلى الشارع، و الهواء يحرك خفايا روحك والقلق الملطخ بالتيه، تحسين بنوع من القوة. لازلت صغيرا ولاتفهم الكثير من الأشياء التي تدور في هذا العالم، تقولين. اصطدم بتهميشك لي وأقول باندفاع : لكني اقرأ التاريخ بانتظام، إذا كان الحزب الشيوعي صادقا، لمَ لم يعمل على استلام السلطة في زمن عبد الكريم قاسم مثلا؟ أمي، الحزب الشيوعي متورط في لعبة الحرب الباردة، صدقيني. من قال لك هذا؟ اقول : إني اقرأ بشكل متواصل، أحاول تحليل الأشياء بصورة علمية، أخاف عليك أمي من انك تفقدين الإحساس بالأشياء الخفية. تنظرين إلى وجهي بامتعاض و تقولين بوجع انك قلقة جدا على زوجك وان في عقلك تشوشا، هل تستطيع الذهاب إلى الصيدلي ضمير، اريد ان اعرف الاخبار؟ قل لضمير مهم جدا أن أراه. اشعر أمامك باهتزاز خفي سري مثل شجرة منخورة تكُسر لو إن عصفورا غفا على شجني. أتركك واخرج هائما إلى شوارع بغداد كما المطر.
بعد بحث متعب في الباب الشرقي أجد (ضمير) في شارع المشجر، في بناية مذخر قديم يسكر. شخصيته مكتظة بالفوضى والضطراب. تذكرت وقتما كان يحضر الحفلات التي يقيمها زوج أمي، سكيرا بائسا ومع أول كأس فودكا يتمرغل على الأرض ويهتف بحياة لينين وجارا وتشيلي و زوجته المرشحة للجنة المركزية، ثم ينهار بكاءً ليحمله الرفاق بعد ذلك إلى غرفة جانبية ملطخا بالقيء..
بعد محادثة متوترة يوافق ضمير على المجيء ويسير معي شبه دودة قديمة من العالم الأول عندما مست يد الله التراب معلنة بدء الحفلة التنكرية للمخلوقات. كان بدائيا بمشاعر مضطربة، بترتيب شعر وبدله سبعينية التفصيل - جارلس - والسترة بالأجنحة العريضة. أشم وأنا أسير معه فكره، بوحه الخفي، الشفاه المزمومة، تغضنات وجهه، عبوسه كل دقيقة وهو يكرر أين تسكن لخاطر القحاب؟ لا أريد الانتظار، سأرجع يا مناويك، ويهذر، سأرجع يا فعلة، يا خلاءات * بغطيط، ساقتلكم كلكم، هل انت من الطولة * نفسها؟ اسمع، الرصاصة لاتزال في جيبي، هل تعلم ماذا يعني هذا؟ اسمع، هل نستطيع المرور من أمام سينما السندباد؟ اسمع، أريد أن آكل بعض الداطلي*. ونتحرك إلى أمام السينما لكنه يتيبس أمام محل لبيع العاب الأطفال، يقول انه يريد أن يدخل المحل لأمر هام و أقول له : سأنتظرك هنا، لا أريد أن ادخل. ينظر إلى وجهي باستغراب ويقول : لكنه مكان رائع ! أقول: لا ادخل. سأشتري لك لعبة جميلة
ــــــــــــــــــــــ
خلاءات : مراحيض
الطولة : المكان الذي تعيش فيه الخيول.
الداطلي : نوع من الحلويات الرخيصة.
قرد يقفز ويضرب على رأسه مثلي أقول : لا أريد يقول : ستندم. أقول : ولمَ الندم؟ يقول : لأنك مطي ولا تريد العودة إلى ( الزمن الباهي) أقول وما الزمن الباهي؟ يقول : الذهاب إلى محلات هيب هوب وعالم الأطفال والمقص الذهبي في شارع النهر. أقول :لا أريد العودة إلى الطفولة يقول : ليست طفولة أنت بحاجة إلى شئ مُذهب في حياتك. أريد أن ادخل الآن، بالمناسبة هل أنت من ذات الطولة؟ اتركه يضلع وانتظر خارجا واشتري سيجارة دنهيل مفرد وأدخن فيما باعة فستق العبيد والداطلي يروش عليهم الذباب. انتظر ساعة كاملة ولا يخرج من المحل، ادخل واجده متكوما عند ركن وبيده لعبة القرد تلك. اقترب منه واكلمه فيما هو منشغل بإيجاد مفتاح شحن اللعبة يقول : هل قررت أن تلعب مثلي؟ أقول : لا يجب علينا أن نذهب الآن. نترك المحل واشتري له قطعة داطلي ويطلب جبس أيضا واصرخ بانفعال.، كفى لخاطر الكاظم و انهره ويتبعني كطلي * ثم أرغمه على السير أمامي لان لايفلت و ينظر إلى الخلف كل لحظة ثم يعود لالتهام الحلوى.
ـــــــــــــــــــــ
الطلي : الخروف
نصل مدينة الثورة والبيت. اطرق الباب والرايات فوقنا و ضمير يرتعش و ينظر كل لحظة إلى الوراء وسيجارته لاتفارقه. ندخل وتبادرنا ربة المنزل انه يجب أن نترك البيت اليوم حتما، زوجها الشيوعي الذي هرب إلى الناصرية بعد ان كان متخفيا في النجف ابلغها ان من الخطأ البقاء في المنزل. انظر إلى وجهها والألم يختلط مع صراخ الأطفال ومادة تعقيم الحلق البنفسجية تنثر رخاما قاسيا وروائح النفط الأبيض تمتزج مع تراب الأرض ورائحة السعف المحروق. قالت أيضا : إنها ستترك المنزل اليوم وتسافر مع الأطفال إلى أهلها في البصرة. عيناها تلتقي بعيني ثم تنتقل إلى ضمير متوجسة. اترك ربة البيت غارقة في قلقها واتجه إلى الغرفة وخلفي ضمير يقبع. عندما افتح الباب ترتعب أمي لحظات وتبدو منهكة وهي تجلس ملاصقة للشباك المغطى بالسيم المشبك والممزق. تنهض وترحب بضمير و تشد على يده. نجلس على حافة الدوشك * المليء ببول الجهال* تقترب ربة البيت مع طاس ماء. أشم رائحة المطال و البروليتاريا تزحف مع الهواء. ضمير لايشرب، اثر الخوف مازال في وجهه. يبلل منديله المقلّم ويمسح وجهه ورقبته الجافة، أمي تراقبه، تراقب سترته الناسلة وعرقه وغدده التي تفيض برائحة الشوارع والبرد والتقلص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدوشك : الفرشة
الجهال : الاطفال
تمر دقائق دون أن يتكلم. تبادر امي : ضمير،، ماهي أخبار الحزب، انا متعبة و قلقة للغاية.
ينظر ضمير طويلا ويتأمل الغرفة والذباب. يُكرر عليه السؤال و يحاول لملة أفكاره ولا تنفلت منه الكلمات. ينفث سيجارته ويشرب قليلا من الطاس ثم يرفع ركبته ويضمها إلى صدره وهو ينظر إلى وجه أمي و دخان سيجارته يرتفع مثل خيوط ملتوية.
ما الذي تريدين معرفته؟ كل شئ انهار، هذه هي الحقيقة. الحزب بائس، مشنوق، جثته تسحل في الشوارع، الناس تركونا وذهبوا إلى الاورزدي باك والأفريقية. يركضون الآن خلف قدور التيفال والملاعق والبطانيات والفلاش لذر وبطاريات السيارات. لابروليتاريا حقيقية هنا. يشعل سيجارة جديدة من سيجارته المنتهية وأصابعه ترتعش و هواء خفيف يتدفق من النافذة ويغمر ذبابة وحيدة تمشي على الأرض الدافئة. كل شئ انتهى، انتهى إلى جهنم. نعم إلى جهنم وبئس المصير إلى القذارة هذا هو المصير المحتوم، تفو عليهم، ياله من فيلم هندي، حتى قوانين المادية التاريخية لاتعمل في هكذا بيئة، أي حزب هذا؟! اتركيه مثلما أنا تركته هذه هي نصيحتي، أنا الآن أسير في الشوارع مثل نبي طرد من وطنه. لاحياة لهذه الناس يارفيقة، هناك ديماغوجية، صبيانية، اشد الأشياء فتكا في حزبنا هي هذه الشيزوفرينيا. كلهم عبارة عن وجوه متعددة يعطيك ويقتلك، يفلسف الأمور وهو سطحي جدا، يكفر بالله ويؤمن بالعباس. يضحك و تقول أمي بتأثر : هل من أخبار عن المرشحة زوجتك؟ يُصدم ويخفض صوته و يقول وكأنما دون الانتباه الى سؤال امي. دمروا حياتي يارفيقة، حطموني، وتتغير ملامحه ويتحول إلى حيوان جريح ويهذر، سأموت بطلقة أوسكينة منهم. اتصل بي احدهم من الحزب. قال : إنهم سيقتلونك، انتبه. طاح حظهم، ليس هناك من هو أكثر جبنا منهم. ابصق عليهم إنهم يريدون قتلي حتى لا اكشف أسرارهم التجسسية. لم أشاهد حزبا بهذا السوء. يبدو ان منظمتهم الامنية لاتزال تعمل رغم انهيار وهروب الحزب. لكن لا ادري لمن اكشف اسرارهم.
لكن الحزب شئ وهم شئ اخر، تقول أمي. الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث أداة تجسس بيد موسكو لا أكثر ولا اقل. يقول : أرجوك رفيقتي فكري جيدا، لا ليس هناك من مجال للتفكير سلمي نفسك مثلي، حافظي على بيتك وأطفالك، كل شئ عبارة عن سخافة. زوجتي سافرت معهم، قيل انهم ينامون معها بالجملة ههههه و( أبو سعود) جعلها عاهرة في شوارع بيروت و وارشو وصوفيا، أولادي يبكونها دائما ولا اعرف أن انتقم. ويخرج قطعة صغيرمن الداطلي ويلتهمها.
هل نسيت تاريخ الحزب وفهد، انظر الى الجانب المشع وليس على الجهة المظلمة، الحزب عظيم يارفيقي، تشجع، علينا ان نحميه، تخيل ما يمكن ان يحدث دون الحزب، ستلتهم الصقور والخنازير هذا الشعب. من يقف بوجه الراسمالية قل لي انت؟ كلنا لنا اخطاء وحزب كبير مثل حزبنا لايمكن ان يكون دون اخطاء. الامبريالية شرسه جدا في الدفاع عن مصالحها ومصالحها تعتمد على دمويتها مع الشعوب. يجب ان يكون هناك من يقف بوجهها وبوجه اذنابها من البرجوازية والا سحقت العالم، وتتوقف امي و يمج ضمير سيجارته ثم يقول بهدوء كبير واسترخاء. انت حالمة كبيرة، اكبر كذبة في حياتنا هو هذا الحزب، قولي انه إسطبل ماخور دعارة كلجية، قولي ريسس، قولي أي شئ إلا أن يكون حزبا. عزيزتي لايمكن ان تجدي في السببتنك زهورا. أي حزب يا رفيقة؟! والله أنت بطرانة. و ينظر إلى النافذة والذباب المعلق ثم إلى وجهي و وجه أمي. أما هذا الفهد فاعترف انه لم يخلف لنا إلا دودكية وجواسيس لموسكو ولبريطانيا. أكاد انتحر الآن وأنا أقول لك هذا لكنها الحقيقة، الحقيقة التي يجب أن نعترف بها. قضيت عمري من اجل هذا الحزب، نسيت الوطن وصرت لا أفكر إلا في الحزب، كل يوم يمر وأنا موجود في هذا الحزب يعني لي الموت. عندما أفكر الآن بان هذا الحزب نسي الوطن، ارتعش واشعر بالحزن لحياتي السابقة. لقد نسينا الوطن، صرنا ملاقط نار للقوى الدولية ولعبة الحرب الباردة. أسالك بحق كل مقدس عندك، لمَ لم نسقط السلطة الملكية ونستلم الحكم؟ ها لماذا؟ لماذا لم نقم بثورة على عبد الكريم قاسم يوم كان لنا كل الشارع وبإشارة واحدة من الحزب ينهار كل النظام، لماذا؟ لمَ كان القادة يزجون بنا إلى التظاهرات فقط ولم يفكر الحزب باستلام السلطة؟ أقول لك الحق، لان موسكو لم تكن تريد.
كنا ندفع شبابنا للموت بالرصاص لتحقيق المعادلة الدولية. كنا رهن موقف موسكو ولان موسكو تعرف إن العراق يقع ضمن مناطق نفوذ بريطانيا وأمريكا لذلك لم يقم الحزب باستلام السلطة. لم نكن حزبا عقائديا يارفيقة ولا في أي يوم من حياة الحزب. أنا اعرفهم كلهم، كلهم كانوا عبارة عن جواسيس لموسكو. أنت بعيدة عن الجهاز الأمني للحزب. هل تعرفين ماهو الجهاز الأمني؟ انه جهاز يقاد من قبل السكرتير وياله من جهاز ! انه عبارة عن خلية تابعة لل (ك ج ب). لقد عملت في هذا الجهاز، حولوني من إنسان يؤمن بالنظرية الماركسية للارتقاء بحال الوطن إلى جاسوس، تصوري كنت أعيش أصعب لحظات حياتي. كنت عنصر الارتباط مع السفارة السوفياتية وكنت انقل الأوامر إلى قيادتنا، تظاهروا الآن، توقفوا، ارفعوا الشعار الفلاني، ادخلوا الجبهة الوطنية، اضربوا الحزب الفلاني و المظاهرات تعم العراق ويموت الشباب ويتدهور حال الوطن. كل هذا من اجل عيون موسكو، من اجل أن تهدد موسكو الغرب في عقر داره فقط لاغير. عندما أتذكر الآن تجنيدي لل ( ك ج ب) اشعر بالخزي، اشعر برهبة التحول من مناضل إلى جاسوس، جاسوس صغير، مبتذل و أياً كانت التسميات.. وتقول أمي : والبروليتاريا يا رفيق؟ انت تعمل من اجلها، من اجل الوطن الاشتراكي والوطن الشيوعي وليس لاحد ولا لدولة. يضحك، نعم هذه البروليتاريا التي باعتنا الآن بقطع بطانيات وقنادر ايطالية وملاعق وسكاكين وبلوزات أبو الركبة*. كنت حالما بالوطن، حالما بوطن الفقراء لكن تبين لي إني كنت على خطأ كبير. لقد سلبوني اختي ثم زوجتي، أولادي بلا أم الآن. صعب أن تتخيل زوجتك وهي تنام في أحضان الرفاق. اصبحت مشاعا كما قيل لي. لا استطيع شرح الأمر للأولاد ن إنهم يتسائلون دائما، يبحثون عنها.. يسكت دقائق ثم يكمل، عندما أتذكر الآن اللحظات الغريبة من القلق الجبار الذي انتابني وقتها وهم يحدثوني عن مهمتي في الكي جي بي - الشريفة ـ اشعر بالارتباك. كان صوتهم قادما من المجهول و يقول لي : إن ماتفعله هو لخدمة الحزب ولقضايا السلام العالمي وصدقت. سافرت إلى موسكو ووصلت في شتاء مثلج وهناك بدأوا يعدوني كعنصر مخابرات وليس
ـــــــــــــــــــــ
* الركبة : الرقبة
كمناضل. قالوا لي انك الآن عضو في خلية مطاردة الرأسمالية. بعد أشهر عدت إلى بغداد وانضممت إلى الخلية الأمنية للحزب. مكاني في الخلية جعلني قريبا من أعضاء المكتب السياسي، عرفت أسرارهم، شاهدت دونيتهم. لم أكن أتصور إني سأتحول بعد سنوات من العمل المخابراتي - النضالي - إلى مجرد رقم تجسسي. بعد أعوام من العمل وتوصيل المعلومات إلى موسكو والتجسس على الوطن اكتشفت إني مجرد شيء صغير جدا في بناء كبير للغاية، عضو في منظمة حديدية تعمل بأوامر شخص واحد في الحزب، هو مسؤولنا الذي كان يتجسس على الحزب أيضا. فوجئت قبل الضربة التي وجهها لنا حزب البعث، إن مسؤولي سلم البعث معظم أسماء التنظيم، أمكنة عملهم، وقبض، قبض يا رفيقة هل تفهمين ما أقول؟
عندما أتذكر هذه الأحداث اشعر بالرهبة بالارتعاش بتقلص معدتي وآلام فظيعة تحطمني. كنت أرى الحزب وهو يتجه إلى المجهول و سكرتيرالحزب لايبدي اهتماما، عنايته الوحيدة أن تبقى منظمة الأكراد سليمة أما الباقي فالى الجحيم، الى الخرا، وعندما انهار كل شئ بقيت فقط منظمة كردستان سليمة بالطبع ولم يتم اعتقال أي كردي منها. شئ مضحك مقرف مؤلم. في المنظمة الأمنية لم أكن إلا العربي الوحيد، في البدء لم أكن مهتما بالموضوع على اعتبار انه مصادفة، لكن مع تلميحات الرفاق انتبهت الى ان المنظمة الأمنية لحزبنا كانت كلها من الأكراد باستثنائي أنا، كانوا يتصرفون - الرفاق الأكراد - وكأن الحزب حزبهم، كانوا متكتلين فيما بينهم. الشئ المهم بالنسبة لهم هو تدمير الحزب من اجل تأسيس الحزب الشيوعي الكردي لعموم كردستان، وكان هذا يتم بأوامر ومساندة السكرتير الكردي.
وفي النهاية تم إبعادي عن المنظمة. هذا السكرتير يا رفيقة ملأ الحزب بالشواذ وتسلط بدكتاتورية رهيبة على كل شئ. أراد قتلي بعد عودتي الاخيرة من موسكو و بعيد وفاة اختي و عندما هددته بكشف فضائحه للتنظيم. في البدء لم أتصور إن هناك منظمة أمنية اصغر من منظمتنا و هي التي كانت تسير الحزب. هذه المنظمة مكونة من السكرتير و بعض الاكراد و المستكردين الذين لاهم لهم إلا المنصب ومضاجعة الرفيقات، هل تعرفين لماذا هددت السكرتير، لأنه اغتصب أختي التي لم تكن شيوعية. و تنحدر دموعه فجأة و يرتعش فمه و يتقلص و عيناه تتواءمان مع الظلمة الشفيفة في الغرفة، مع الصخام الملقى على وجه السقف. طلبوا مني أن آتي بأختي إلى منزل سري - وكر - من اجل أن يبدو السكرتير وكأنه مع عائلة، ترددت لكنهم أصروا و هددوني بمعاقبتي حزبيا. جئت بأختي إلى المنزل و قالوا لي إن هناك امرأة أخرى وان لا اقلق. بعد أيام جاءت أختي وهي ترتجف وبعد أسابيع تبين إنها كانت حاملا. كتبت تقريراً للقيادة لكنهم لم يجيبوا. كتبت تقريراً آخر وهددتهم باني سأكشف كل شيء، قالوا إن الرفيق السكرتير لم يكن موجودا لكي يرد على رسالتك. لكن أختي تقسم انه موجود. كتبت تقريراً آخر توسلتهم فيه أن يحلوا هذه المشكلة الكبيرة - مشكلة الحمل - قالوا إنها ليست مشكلة كبيرة. بعد أيام عرضوا علي تسفيرها إلى بلغاريا لإجراء عملية إجهاض، لكن صحة أختي لاتساعد. كنت أشعر بالدمار النفسي. لم يكونوا يظهرون أي اهتمام ببطن أختي التي تنتفخ. كنت مرعوبا، الأهل والجيران والأقرباء سيكتشفون كل شئ عن حملها. اتصلت مرة أخرى بالقيادة وعرضوا علي إجراء عملية إسقاط للجنين هنا في بغداد. وافقت لكن أختي رفضت بشدة. توسلت السكرتير عبر التقارير أن يتم عقد قرانه عليها، قران شكلي فقط من اجل تكميم أفواه الفضيحة و رفض هذا العاهر وأنا اغرق كل ساعة في العبث، الشعور بالعار يجللني، يغرقني في بحره. كنت أحس بآلام فظيعة كوني قدمت لحمي إلى الموت والفضيحة واللؤم.
الشئ المؤلم الاخر ان الحزب اخذ يتعامل معي بفوقية حقيرة. وبعد أكثر من ساعة من الانتظار في غرفة جانبية للغرفة التي تجري فيها عملية الإسقاط لأختي. خرج الطبيب وقال : البقاء في حياتك. معقولة !!! شعرت بدوار وتيه لا استطيع غلق فمي. ذباب ملون، عنادل طيور ماقبل التاريخ. كنت اركض وكأنما في كابوس، بكيت. أجهش وأنا التمس إني أنام وتحت رأسي جريمة ما الذي ساقوله للأهل؟؟ لأمي وأبي والأقرباء والجيران، أردت أن احمل مسدسا، رشاشا و أطلق عليهم الرصاص، كنت أريد أن أملأ رؤوسهم بالطلقات. تم استحصال أوراق مزورة. وجرى الدفن بسرعة و احدهم قال : الحزب سيعتبر البنت رفيقة حزبية توفيت أثناء الواجب الحزبي. شهيدة من شهداء الحزب وعرضوا علي من اجل راحة أعصابي وتوصية من الرفيقة زوجتي أن أسافر إلى موسكوللاستجمام. رفضت اول الامر، ورفضت الرشوة الحقيرة وبان يتم ترقيتي حزبيا. بعد ذلك وافقت او ارغمت.. في موسكو كنت أخطط أن أطلق الرصاص وافضح السكرتير، أريد أن اقتل. صوت قادم من البرية يقتحم دماغي ويقول لي، اقتلهم كلهم ودفعة واحدة. فكرت بأكثر من طريقة وحصلت في بغداد على مسدس وبدأت أفكر في الطرق. غريزة القتل والانتقام أعمتني تماما. ورغم إن موضوع الحبل والموت تم التستر عليه لكني تهت في عوالم خرافية، طنين يدمرني، شهوة الانتقام تشجني. وعندما قدمت استقالتي هددوني بأنهم سيفشون أمري إلى الدولة. أبناء العاهرات، سيقولون للدولة إني وكيل ك جي بي. قلت لهم أنا أيضا سأكشف هوياتكم و أسراركم فقالوا وماذا عن الرفيقة زوجتك واولادك؟ ففتحت فاهي وعندما هممت بدخول بار في الباب الشرقي في مساء ملتهب من مساءات بغداد اندفع نحوي معتوه وطعنني بدرنفيس*.
لم تكن محاولة الاغتيال هذه هي الوحيدة. كنت اشعر إنهم ورائي في كل مكان، كنت أتشممهم مثل كلب. رائحتهم قوية مثيرة و تدفعك إلى الجنون. حملت مسدسي في ليلة مضطربة واندفعت إلى بيت السكرتير لكن البيت كان فارغا وأدركت للتو إنهم غيروا كل البيوت وتركوني بلا انتقام. كنت أسير في شوارع بغداد تائهاً في الزمن. أسير مترنحا و مثل أبله، مثل موصوم بالخطيئة الأصلية، مثل أرعن، أحلم بالانتقام لاستلاب زوجتي وأختي وحياتي الدرنفيسية، ولجاسوسيتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدرنفيس : مفك المسامير اللولبية
لقد شللت، تركت عملي وأهملت نفسي. لايمكن تحمل الشعور بالعار. انقطعت عن اجتماعاتي الحزبية لكنهم اتصلوا بي وقالوا إن لم أُعد الاتصال فأنهم سيشون بي، سيشون حتما، سيحرقون سمعتي الشخصية وعندما يتم اعتقالك من الدولة بتهمة التخابر مع دولة أجنبية فأقرأ على نفسك السلام. عدت إلى التنظيم مشوَّها، تائها مع اضطهاد الرفيقة المرشحة زوجتي لي. كنت اشعر إني اغتصب في كل لحظة و في كل اجتماع وصدر قرار بإحالتي إلى اللجنة الفكرية لإعادة تأهيلي وان أوضع تحت المراقبة ويتم الاتصال بي فرديا. في الحزب أجابوا الرفاق حول سبب الاتصال الفردي بي ومنعي من الالتقاء مع الآخرين، باني تعرضت إلى مرض نفسي، مريض، مخبول، مهشم، وأعاني من طفولة يسارية، وكل الأمراض الحزبية. قالوا إني مصاب بالاكتئاب وبالشيزوفرينا و إني مهووس بالرجال. كنت اسمع كل هذه التقولات، اسمع البحر وهو يلفظني والمناجل تجرح وجهي. الرفاق يارفيقتي لم يكتفوا بان فتحوا مخالب القتل نحوي، بل ذهبوا بعد أن أشاعوا أمراضي إلى أبي، اسروا له أسرارا، أبدعوا في النكران والدسيسة، قالوا له إني مريض وبحاجة إلى المكوث في مستشفى الأمراض العقلية. حملني أبي في انهياراتي إلى المستشفى ولفوني، لفوني وأنا أصرخ للعقبان الهازئة والمحلقة فوق رأسي، نسور برية قادمة من ممالك الصمت الكلي، وأنا أصرخ أن ابلعيني أيتها الأرض، ارميني أيتها السماوات في دبيب النمل وأزيز النحل اللاسع. وفي المستشفى غلفوني بالأسلاك والكهرباء الشفيفة التي نخرتني تائها في ضياع الظلمة والكدرة البائسة والسهام والعقابيل.
بعد ذلك أخرجوني من المستشفى - مكسور العين - * مبهورا من هذا العالم.
ـــــــــــــــــــــــ
مكسور العين : مغتصَب.
وشكل أهلي حولي طوقا من الصمت وحتى أطفالي كانوا ينظرون إليّ كأني لست بإنسان بل مخبول و اتجهت وقتها إلى الجنون، اتجهت إلى صمتهم ونكرانهم وكنت أتصنع في النهاية هذا الجنون لأخلص، لأبحث عن عالم آخر بعيدا عن التهجّدات والتأرجح بألسنة النيران والأحجار الشيطانية والصمت أمام الأنهار. صرت اخرج من المنزل ولا أعود إلا في متأخر الوقت مع الضجيج ومنغمر بالنفايات والبصاق، مملوء بصخب العالم ونظراته وخوفه وتقززه مني، ياللخبال يارفيقة ! ياللجنون وانت تفقد العالم ! تفقد كل المسميات والطوفانات الهادرة وضجيج الأصوات والأقدام المتراكضة وهي تدوسك. وان تشعر بانك حشرة وأنهم حطموك، قتلوك، نثروك مثل الشوك اليابس فوق صخب الصحراء وصمت الأمكنة وموت الفكرة واهتزاز السماء. كنت وحيدا، نائما، خائفا، شريدا في هذا العالم وها أنت تأتين الآن. هل أبني أعشاشاً للنسور وأوكارا للأفاعي واوجارا للضباع؟ والعالم الذي رميت فيه يبصقني إلى المالانهاية. كلاب، كلهم كلاب. وفي النهاية يجب ان تأخذي القرار الصحيح.
وينهار واندفع وأمد يدي وارفعه واشعر بأنفاسه اللاهثة بوجهي ودبيب القمل وتهيجات الأمعاء وفوضى الدماغ وانفلات الزمن من بين يديه. وتمر فترة صمت و هسيس اشتعال النار في مدفئة علاء الدين القديمة التي أعارتنا إياها ربة المنزل، يشوي أرواحنا التي تنظر لبعضها البعض. وينهض ضمير و تنظر أمي مبهورة إلى وقفته وانحناء ظهره ولحيته الكثة غير المشذبة ورائحة السجائر الخانقة المعجونة بعفونة. ويقول فيما اقترابه من الباب يتقلص إلى الدرجة الضئيلة : كلهم هربوا أيتها الرفيقة، كلهم هربوا. النظام نفسه منحهم مبالغ مالية كبيرة. أعرفهم و أعرف كمية الأموال. منحهم النظام ايضا جوازات السفر وتذاكر طيران مجانية على الخطوط الجوية العراقية وفي الطائرات أخرجوا صكوك الأموال، صكوك هروبهم وبيعنا للنظام. وفي الطائرات كانوا يغنون، يغنون ويفتحون قناني الويسكي الاسكتلندي ويغنون جير جير بنطلونك هاها.
أما نحن الكوادر فنثروها إلى الريح، نثروها وباعوها بثمن بخس. لاتتصوري كم كان مؤلماً قاسياً وأنا أشاهد الكوادر تبحث عن وسائل هروب ولا تجد. اتصلوا بالجبهة الشعبية بالجبهة الديمقراطية. بعض الرفاق كانوا يعرفون بعض المسؤولين في هذه المنظمات وساعدونا، ساعدوا الكثيرين وأنقذوهم من براثن البعث والتحقيقات الجنائية ومراكز الأمن والتعذيب والقتل. لكن من استطاعت هذه المنظمات مساعدتهم قلة. وذلك لان هذه لم تكن تمتلك القدرة على توفير جوازات ووثائق سفر للجميع. من فلت فلت ليكون مشردا في المنافي والجوع والألم أما القيادة فكانت تنعم بالملايين التي سلمها لها النظام. يقترب من الباب أكثر، قامته تذوب في رائحة السجائر التي تلف دائرة في المكان و اتوقع انه سيصدم الباب، لكنه يجده في النهاية وفي ارتعاش وجهه وغضون جبهته وموسيقا النزف السماوي لأعصابه. تتلمس أصابعه نتوءات الحديد ومثل أعمى يفتح الباب المموسق بالمغاليق القروسطية، تصدمه رائحة النذور والحناء وصور الإمام علي وبخور رخيص يعبث في سمفونية المكان. ومن ضجيج الأطفال وصخب الشوارع المتربة ينفلت إلى العالم الخارجي ويذوب كما الزهرة في زبد البحر.
الفصل الرابـع
مسبقا عرفت بما سيحدث لكني لم اعرف انه سيكون بهذا الشكل. أقترب منها وأضم أصابعها الباردة، أشعر برائحة الأمومة تموت في عالم من النكران الكلي. تأتي ربة المنزل وتطلب ببكاء مرير وإلحاح مع صخب الفروخ * أن نخرج من المنزل حالا. و نخرج من البيت بوشاية العالم إلى المجهول.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* الفروخ: الأطفال بلهجة جنوب العراق و بلهجة أهل بغداد تعني الولدان المخلدون الذين يلاط بهم.
نسير في الطرقات مثل مأثومين. الخطيئة الرابضة خلف الباب تكبر هي أيضا وأولاد الأفاعي يملأون الطرقات. نمر بهسيس الصمت على الكثير من السيطرات، سيطرات كثيرة تتفتق عنها الأرض وكأنك في مشهد من نهاية العالم حيث الشيطان يكبر بحجمه الهيولي ويملأ الغيوم. اشعر إن أمي مريضة وأحاول مساعدتها. البرد قارص، ومع النقود القليلة نحس باختناق، نصل الباب الشرقي ومن هناك نذهب إلى جورية - صديقة امي - التي ما زالت تعيش في محلة التوارت منذ أن خُلق العالم. نطرق الباب باصابع يابسة هشة. يخرج الزوج ويفاجأ بوجه أمي. تريد أمي أن تدخل، يمنعها و يقول : جورية ليست هنا. نبقى دقائق غارقين في الصفنة ثم نترك الباب، نترك كل شئ، نتحرك في درابين المحلة الآيلة إلى الانحطاط ثم نسمع صوتاً نسائياً خلفنا، تلتفت أمي، إنها جورية !! تقبلني جورية وأمي تحدثها عن الوضع. تقول صديقتها إنها لاتستطيع استقبالها في البيت إذ إن زوجها فقد عضوية حزب البعث قبل أسبوع وحالته النفسية صعبة. تتنهد واسمع صوت التنهد عاليا ويرتفع في حلقي يباس. تقدم لنا جورية مبلغاً صغيراً من المال نأخذه ونعود إلى الباب الشرقي.
نصل شارع المشجر ونلتقي قريبنا إبراهيم في مذخر المنارالذي خرج من المعتقل قبل اسابيع. يصعد بنا بعجالة إلى حجرة على سطح المذخر و نشاهد هناك عظام دجاج وقشور باقلاء متيبسة وقناني بيرة فارغة وجرائد قديمة. في ذلك الزاغور، الكنج نتكتل، أمي وأنا، على أنفسنا كجرذان وليدة ومطر نشيجي يهطل على حافات النافذة. كنت انظر إلى المياه الهاطلة كما المصاب بالطرش، انظر بجنون التيه الذي أنام تحته مشوها ومضرجا بالأوجاع، محتكا بالهسيس، ملاصقا للنكبة والتهيج الروحي. يأتي إبراهيم في اليوم التالي ويقول لأمي : انه من الأفضل لها مغادرة العراق، الحملة الأمنية قوية والمطاردات مستمرة وكل قيادة الحزب الشيوعي غادرت العراق وانه من الأفضل أن تهرب هي أيضا. وتستمع أمي بانبهار إلى كلامه وتنظر إلى النافذة طويلا، تنظر إلى المطر السماوي والملائكة الهاربة والجياع ورحلة السنوات الطويلة في العراق. الآن يُطلب منها أن تترك كل شيء وبكل هذه السهولة.
يقول إبراهيم انه يقترح السفر حفاظا عليها وعلى أطفالها وتتمتم أمي : الأطفال، أين اتركهم؟ ويلتفت إبراهيم نحوي ويقول : سنتدبر أمرهم، سأرسلهم لاحقا. وتقول أمي : وماذا بخصوص زوجي؟ سنتدبر أمره هو أيضا، سأحاول الحصول على جواز من الجبهة الديمقراطية أو الشعبية وأضيف إليه الأطفال وسيلحق بك إذا لم يرتكب حماقة كما هي عادته. واشعر بارتباك أمي وقلقها وانشداد بشرتها. ويقول إبراهيم أيضا انه اتصل بأحد الأصدقاء في الجبهة الشعبية، ويريد صورة شخصية وبعض المعلومات. ننزل ونحن نحتك بالحيطان القديمة و عبر درج ملتو، بعيد، طويل. صورة أمي مضببة وعبر ممر خلفي للمذخر تذهب مع ابراهيم إلى مصور شمسي. في اليوم التالي تصاب أمي بنزلة برد و ارتعاش وسعال وضعف في صوتها أربكني. كنت اشتهي لملمة جسدها والسفر به إلى عوالم سماوية بعيدة واشعر معها الآن بالقلق والترقب، عيناها تزوغان مع البرد وعدم وجود مدفأة، ومن ثقب الباب المدلوع للعاصفة والتشيؤ في المكان والرغبة في ابتلاعنا وقذفنا إلى المجهول اسمع صوت الريح كعواء وهو يثقب طبلة الأذن.
عندما استيقظ بعد اغماضة عين قصير أشاهد وجه أمي يسافر إلى مسطحات المياه المسحورة. استطيع الحصول على جولة بائسة في مخزن المذخر و تعمينا رائحة الكيروسين و أصابع أمي النظيفة متسخة. وأنا أوقد الجولة أفكِّر بأصابعها، أفكر بجسدها الذي لوثه زوجها، وأشعر بالرعب وهو يماحكني وترتعش أصابعي لحظات و أفكر في أوجاعي و مرارتي المتأتية من نومها معه. أوجاع تتركني منتهكا لقسوته معي. لا اعرف إن كانت تفكر هي أيضا به أو تتذكر في نسيانات الزمن صوته ورعدته ورعشته القتيلة والمموهة بالأشواك، لكني أحس بغصّات تتصاعد.
في لحظة اشعر انه يجب قتلها وهي تروم الهروب من العراق إلى المجهول، خلف المدن، وراء البحار وعلى حافات الصحراء العربية. ومن داخلي تنبعث صور الموت، موتها الدموي. اشتهي لعق دمها في لحظة عري غريب شامل. أجرب تردد النظر بعيون يتيمة مندهشة إلى وجهها، عيون تشبه في حدقاتها حدقات السحالي الصحراوية عندما تتوقف لاصطياد الفريسة. وجهها الذي غادرني إلى أطفالها الآخرين. أنا المموه بالألم، بالعزاءات، بالتراتيل المحمدية وقراءات قرآنية مبتورة تتوقف دائما عندما أُكل يوسف. لم تكن تفهم نوع التأثر الذي تمارسه علي تلك المرأة الغامقة، الضبابية، المرأة الوحيدة التي تتساوى لديها مواقيت الليل مع النهار والبكاء مع الابتسامة، ولشدة خوفي من التسلق الوحيد ومنفردا لهاجس الرغبة في أوقات الموت، أتوسل الطيف الخفي الذي أشاهده في الأحلام أو الشبح الشفيف الذي يمر تائها بين غفواتي انه يجب أن تفتح تلك الأم منازل الأقمار لتستقر في ذهني وتلمس باندهاش نوع الغربة المؤلمة التي أعاني منها والتي استمرت في حياتي كلها والى اليوم الذي شعرت فيه مفرغا من الأمل، انه يجب أن ينتهي هذا الوجع ويجب أن اقتلع بيدي كل أشجار الشوك والخطيئة.
أنا اعرف ملهما بغوايات الشيطان ربما، إن نزيف الأمومة الذي أعاني منه ليس له علاقة بالله، أو الإنسانية، إنما له علاقة مؤكدة بها، هي. هذه المرأة التي تجمع تحت أصابعها كل الألغاز وكل الأحلام وتمارس سلطة عجيبة على أحلامي ونزواتي وعشقي الغريب للاقتراب من النساء الى الحد الحاسم الذي يرغمك على قتل الأنثى واستحضار الدونيات المريرة من الوقوف على سواحل البحار كلها، وان تدعو الشياطين لتمحضني كل دروبها ومزاراتها وان أكون أنا الذراع الكلي القدرة والسرمدي للموت. وعندما اعرف مقدار سموات ابتعاد الله عني استُـفز في إشكالية ابتعادها عني، الابتعاد الذي ماكانت تعرفه ولا تفهمه في هذا الطفل الغريب والمدهش متسربا إلى عالم مؤطر بالوجع والشظف الجنسي والإنساني.
كنت بحاجة قاسية لان تلمسني، لان تجعل أوجاعي عبارة عن أضرحة يمكن للملائكة أن تطوف بها وان تطير بي إلى المدارات المتوحشة لله مع النار الأزلية والى أكوان مجاورة وقوانين ليس لها علاقة بقوانيننا. وكانت النار زورق كبير محمل بكل الأجزاء الكونية لجثتي التي أريدها أن تموت بعد هرب الأم وزواجها. موت الأم والبنوة الضائعة التي تشبه العشب المتفحم والركام الحديدي الملوث بالزرنيخ والاكاسيد. في أوقات كثيرة هشة أحس بنقص عجائبي واشتهاءات للمس طبقة صفائح وجهها المطري وملمس طبقة الدهن الرقيقة تحت شحمة الأذن وخيط العرق الصغير المنهمر من الأبط باتجاه صفحة الجسم الأبيض الملون بعشرات الشامات الرقيقة. اهجس إني غادرت رائحتها التي تشبه عطر الغابات عندما تطيل السماء وابلها المطري.
صورة ذهابها معه إلى غرفة النوم تتأرجح أمامي بشكل قاتل ومبعثر لأسمع منها الآهات الذليلة لنوع الأنثى اختياريا لسلطة الوهم الرجولي. أمامي تتفشى الجوار الكنس للتهدمات الحجرية لبنية الوهم واشكاليته، مرارات خيانات تسللاتي الدموية الغامضة المزنرة بالسيوف المتآكلة والقلائد الجاهلية والأرواح التائهة على سدرة المنتهى وذات أنواط، في ليلة شتائية تشبه ليلة خروج الله إلى العالم من العماء وحيدا إلا من كلمته وصولجانه الكلي وروحه القدوس السائر على ضفاف الأنهار والبحار النيرانية. وانتحب في المطبخ وصوت زوجها يعركني لأجل أن اسكت. كنت أمارس نوعا اسطرلابيا من محاولات الجناس الذهني واقتراب من هيولية خوف اشتباكات الظلمة، وهجرتني في تلك الليلة التي كنت اشد ما اكون لارتجاجات حضنها. فكرت وقتها و للمرة الأولى بكينونة تدفيق نزيف الانتحار غير الظاهر للعيان، اللا ملون كسائل الغدد اللمفاوية وبالقمع و بالهزيمة الصلبة لتركها جسدي في دهليز الخراب أمام شهوة العواصف ورشق النوافذ بالمطر وسيلانه كمجنحات إلى الأرض مشفرا بنبوءات، تأرجحات اضوية نائية تنتهك العزلة وتظهر الشياطين.
منعطفات ظلال تلك الليلة لاتني تعذبني وصور هجرها لي في وسط تفجيرات ضجيج الفلق والنجم الثاقب وساعات البروج الليلية وكهيعص متراخ في نون الذئب اليوسفي وتكسر نصال أغماد الخناجر اليمانية أمام تمثال الإله المقدس الجليل بقوة عضوه المتوفزة الها للقمر. وأنا انظر من نافذة البيت وحديده، إلى المكان الأصغر اختزالا خارج المنزل مكاني، ليلة التوحش، المكيدة، اللاتناغم، اللائيكية مخلوطة بتبر رغبة التبول ومطر كبير، كثيف، سريع، وأنا أتلمس الحيطان الطباشيرية في الظلمة بسبب انقطاع الكهرباء.
شعرت في بيتها باني أريد ان ارقص السامبا بانجراح محنتي، بأشعار المتصوفة اليزيدية في مدائح الشيطان وا نتهابه الفوضوي و بالبراكين تفيض بالأحجار النيزكية التي توضع في زوايا تكعباتي، تجرفني، باللامعنى، بالانثلام. و أسير للمرة الأولى في الظلمة لاقف متنصتا على بابها المغلق قامعا الدسيسة وحنجرتي والأصوات و ملتمسا جسد أنفاسها، دفء النهد والارتخاء الذي أريده عارما، ضحايا في مشهد الإحاطة الجنسية لأرض طفولة الأحلام الجميلة. رغم إني كنت سأبلغ مبلغ الرجال الا اني عانيت ولم أزل من افتقاد تهافت النهد، الثدي، العريكة، الاصطخاب، انتفاض الشعيرات الابرية للحلمة، الدائرة البرجية، سلالم العروج الملائكي، قدس الأقداس، جفاف الفيض الإلهي في معبد، كنيس، مسجد، كنيسة الالقام، رائحة لمعان إيحاءات زيت الأبط وهي تغرز فيك تضخم غدة الأمومة و العرق غزيرا، مدرارا كفيض في لهيب اب، واهبا نفسي بعيدا في التثام الأصابع، في نوسان توسل أظافرها.
كنت بحاجة مدمرة إلى رائحة جسدها الذي لم تفهمه هي. عطش، ظمأ، تلاسنات الملائكة أمام جثة الشيطان، دوامات، تيارات هوائية ساخنة، تدحرج من جبل قاف، سهل تشتعل فيه السنابل والخيول المتراكضة في ضوء القمر عند خيام بدوية سوداء ورائحة الحطب والقهوة والنار. وعندما شممتها بعد زواجها هربت عاريا، هلعا، كنجمة الصبح، إلى المهلك، المطهر، ارض اليمبوس، إلى مقبرة موت الأحلام المتوسدة صخام القشعريرة المباغتة كشعلة تنغرز على إطراف الأضرحة المقدسة في تصحر الرمل ويباس الحياة. اعترف إني غدوت كقنديل مطفأ، فانوس، لالة، شمعة، وباني ارتميت بعيدا إلى الأنهار كصابئي، غطسا، ثكلا، نكلا، بعيدا إلى ضفاف دجلة والفرات، قريبا من وهج الانفجارالمميت لانبثاق الضوء الأزلي ومحاولة الشيطان مصارعة أسلحة الله الجهنمية، ثم ارتعشت من الدهشة، كقصبة عارية وأنا أشم الرائحة الجديدة القاسية. اعترف، اخضع لسلطان الهواء واله هذا الدهر في لا منح الثدي، مذاك نفرت كأنثى من طعم مذاق الرجال، ثم تماهيت في المكنون من عقدة اللاوقت واللامكان والانسلاخ في غبار الفضاء.
انظر إلى وجهها المثقل بالتكهنات الآن و التغضنات التي بدأت بالظهور. أيام طويلة انقضت لم تغتسل فيها، لم تمسسها مياه بحر دجلة. رائحتها الحلوة، السوسنية، كنت أتنفسها بشبق غريب كالكافور، شبق تائه في رائحة الشاي. لكني ابتعد عندما أتذكر زوجها، في نفور غريب، مهلوس. اتلمّس أصابعها، أقربها من الجولة تضغط هي أيضا أصابعي و تقول : هل سيأتي إبراهيم قريبا؟
انظر بحيرة إلى وجهها. اصوات اطلاقات تعبر سماء بغداد فجأة. مسدسات البعثيين تنتحر في أفواهنا واخصائنا يتفجر مدويا قادما من ألف ليلة و كلما احلم بك، منذ الطفولة وحتى الآن افرح، غير انه حتى في الأحلام، تنحرفين فجأة لتذهبي لزوجك وأطفالك. حتى الأحلام كنت شحيحة بها ولاتمنحيني ولو قبلة، زهرة، وردة. غصن مقدس وانهار سيحونية، انهار في الحلم المرتبك وأنا أشاهدك تمزحين مع أطفالك وزوجك أما أنا فأقف عند الباب ملتصقا بالحواف التي انسحق فيها ناظرا اليك، تجاهك، نحوك، مكللا بالدموع وملاصقا وجهي لخشب الباب.
الدموع المقساة يا امي ماكانت لتوقف الحشرجات القتيلة و لم تني تنبعث من الحلقوم وغصصي عارمة صدقيني. نظرتي أيضا مليئة بالجوع لشئ ما، لعمل لا إرادي. بعد ذلك في حياتي المتوجة بصخب ابتعادك عني زُرع في شيء لا افهمه، هل تعرفين هذا؟ شيء غريب، قاس، ذئبي. شريحة الكترونية تصرخ في جمجمتي. وعندما مارست الحب العربي لأول مرة خلف الاشجار ملاصقا للسدرة مع بنت الجيران شعرت بهبوب عاصف لهذا الشئ وأردت قتل الفتاة، أكلها، ابتلاعها، تشويهها و امتصاص بظرها و الدخول إلى مهبلها الوردي. منذ ذلك الوقت، منذ اللحظة الديماغوجية لتحولي، كرهت كل شئ يتعلق بك، حتى الرغبة التي تحفزني لقتلك او الوشاية بك. من يشي بك؟ من يشي بتنمري؟ بذئبيتي المتفاقمة. هل تعلمين اني و مع جدتي وفي كل مرة تهاجمني صورتك كالنسور، اضرب جدتي، اضربها بقسوة، اضربها لغير سبب، أطوي صحون الفافون، أمزق ملابسي، اقطع أربطة حذائي. وكانت جدتي تبهر لهذا الكره المتعاظم في. كرهت العالم، كرهت طفولتي ورجولتي وشهواتي غير المبررة للعطش الخفي. أسبح في المستنقعات -لأصطلي -البرد. اشعر إزاء كل امرأة بهجوم عاصف لريح مغامرة ونسيانات وابتلاءات، وأتيه فجأة في سماوات مجهولة. لان الوردة ستبقى وردة طالما الغصن يحملها، ولان العاصفة لا تشتهي إلا القتل لذا كنت اقتل نفسي، أعذبها، أشوهها، اقتل كل طفولة في وجهي. اجرح أصابعي. اغرز ابراً في شراييني وكانت جدتي تبكي، تبكي انهماري من شاهق. جدتي المسكينة التي كانت تغمرني بكل تنفساتها أحطمها. لم أكن افهم هذه الذئبية. لا افهم إلا الضجيج من مجهول الذهن، من فضاءات سحيقة وكأني في لعبة دولاب هواء يريني دائما صحراء جفافي.
**
صباح أسود آخر يتسرب إلينا من الباب. ننتظر بلا أمل. يجيء إبراهيم مهموما ومعه صحن كباب. يجلس وينظر إلى وجه أمي التي تقول بصعوبة : حمامة لو غراب؟ أريد ان اخرج إلى العالم. ويقول إبراهيم : فشل كل شئ، وصلنا متأخرين. ابلغوه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية إن كمية الجوازات لديهم نفدت، سلموا كل ما يملكون إلى قيادة الحزب الشيوعي. ويتقلص وجه أمي. أشاهد التغضنات تتزايد ويقول ابراهيم إن هناك مخرجا آخر. سيحاول أن يرسلنا إلى صديق يأخذنا إلى شمال العراق حيث الجبال والغابات والرفاق الشيوعيين من منظمة كردستان. يغادر وأشعر بهبوبات لثورة وهيجان، وأقترب من أمي. أقول لها :، الله هو الذي فعل هذا، فعله بسبب النكران. وتنظر أمي إلى وجهي شائهة. نظراتها شاردة، قلقة، منزوية، متكومة مثل خرق بالية. أحس بجسدها يذوي. تحتضن الجولة وتلتصق بها والتصق أنا أيضا بحافات ثوبها. التصق بوجهها و اشعر إني أريد أن اقبل هذا الوجه واطعنه. أقول لها إن عليها أن تتذكر كلام سليمة حزقيل. أريد أن أقول لها أيضا، إن اللعنة المدوية لم تزل تعمل في جسمها، لعنة عدم الاختيار الصحيح للانتماء إلى الحزب الشيوعي. أذكّرها بما قالته لها سليمة حزقيل يوم قررت الهرب من العراق.
هناك لعنة على العراق، لعنة أبدية ربما بسبب اضطهاده لليهود. هكذا قال الاب،وهو يقرأ في التوراة واسفار اشعيا و رب الجنود سينتقم، ستكون هناك مذابح، قتل، سحل. ويبرز إلى ذهنها فيلم فوضوي، شريط أسود من التنهدات. لقطات الفيلم تتحرك مع ظلال رمادية وسوداء سريعة وفيما هي تفكر في سليمة حزقيل وكلماتها، تتذكر الوابل الدموي من المطر، الوابل الجهنمي لتاريخ بلد مُرِّغ في الدماء. تتذكر اليوم الذي تعرفت فيه على سليمة. تشعر الآن أن كلامي قد يكون صحيحا. يجب أن تتذكر، أقول لها : من أجل نفسك، من أجل روحك. اقترح عليها أن تسلم نفسها بدل كل هذا. تنظر إلى وجهي باستغراب، تحاول أن تستقرئ أفكاري. اعرف إنها تفكر الآن، اعرف أنها تمر بنوع من المراجعة الدموية للتاريخ الحادث والمستحدث. تمد يدها إلى الكباب وتلتقط قطعة لحم. مذاق الكباب الذي يسيل له لعاب أعظم الأفواه في العالم، يحكي نزوات التذوق للعراقي ببهرجته في تنغيمات الطعم. ومسيس قطع اللحم ليس اشتهاءا فقط لطعم اللحم إنما نزوة سرية في التماثل مع الوطن، في التماثل مع تاريخ مهووس مع طين الأرض ومذاق اللحم العراقي في سريات تكونه المذهلة وكأن الأرض تضع والآلهة معها شحنة التذوق المبهمة والمشدودة إلى العقل. لذلك فأن طعم اللحم العراقي له تنوينات خاصة، له ارتباطات سرية ومتشابكة مصنوعة من طعم تراب الأرض مع النباتات، مع الأشجار، مع الأزهار، مع الأنهار مع الأسماك مع العنادل واليمام والمعادن المخزّنة عميقا في الأرض و مع تكوينات التربة وملوحتها. تقول أمي بعد لقيمة صعبة البلع مع الزردوم المنهك والإلهام الضبابي للأحلام : كيف لي ان اترك تكويني الكلي مع هذا الوطن؟ عقلي وسريات جيناتي المصنوعة من طعم هذه الأرض.
تتمدد على الحشية وتسعل بعد اللقيمات و تضع ذراعها فوق جبهتها، متذكرة موسيقى غريبة تجلدها. رضوض روحها و أمواج تضرب جنبات سفن ارتحالاتها. بحر من المياه القاتمة تتتساقط مطرا غريبا، زوبعة تتفجر من بعيد. تنمو إلى ذهنها صور شتات الأطفال والزوج والبيت الجديد الذي كونته بعد وفاة زوجها السابق - أبي - ذاكرة مموهة بمشيئة كره وهي تتراكض مع سليمة حزقيل من بيت لبيت. هروب من ملاحقة لليهود. يتم القاء القبض على سليمة وتسحل من شعرها، من البيت الذي تختبئ فيه. صراخ وفوضى وأذرع وعيون و غطيط ونحيب. تركض باتجاه سليمة، لكن الأخيرة يتم اغتصابها بمساعدة نسوة.
منظر سليمة بعد الاغتصاب ونهب دارهم يجعل امي تشعر بالتقزز. سليمة التي كانت السبب في انتمائها للحزب الشيوعي تقول لها عشية هروبها من العراق : اتركي هذا الحزب. تلمسها، تحتضن أصابعها الباردة، تنظر في وجه سليمة الباهت، تتحسس أصابعها، بروز انفها المجروح، الأذن أيضا، فروة الرأس التي انغرست فيها أصابع المغتصبين. تمس المطر الهاطل من عينيها وسليمة تقول : زكية أستطيع أن أقول لك إنهم كَذَبَة، و تشعر بارتعاش وجه سليمة وهي تحدثها بمرارة عن الفقراء الذين كانت تطعمهم وانقلبوا عليها واغتصبوها في أيام الفرهود. تتذكر بألم، يوسف سلمان - فهد * - تتذكر رفاقه في المكتب السياسي، الذين كانت تمولهم وتخبئ بعضهم، كيف حاولوا واحدا بعد الآخر غوايتها. تصطدم بمن تحول
ــــــــــــــــــــــــ
يوسف سلمان - فهد - مؤسس الحزب الشيوعي العراقي.
من القيادة الأسطورية إلى ذئب يجري خلف ضحية. انتبهي زكية، انتبهي جيدا، بعد خروجنا عشعشت شياطين مخيفة في هذا الحزب. أشياء شاهدها أخي بعينه يوم كان سجينا. كانت الأوامر الحزبية تأتي إلى بعض الشبان الذين يمتازون بالجمال بأن يرفهوا عن رفاقهم. لاتستطيع أن تفهم كيف اختار يوسف سلمان كل هذه التشكيلة الغريبة لقيادة الحزب وهي التي تعرفهم جيدا.. الشيء المثير هو إصرارهم - الرفاق - على أن يكونوا عملاء للدول. حدثتها عن اتصالهم وتعاونهم مع السفارة البريطانية وتلقيهم الأموال منها ثم نشاطهم في تجنيد عناصر للمخابرات البريطانية. وأشاعت إن الثوار الفلسطينيين الذين يقاومون المشروع الصهيوني عملاء للمخابرات الألمانية. هوس غريب، جهنمي، على إتيان الأولاد. عرضوا عليها أن تذهب معهم لمكتب القنصل البريطاني وهناك في السفارة عرض عليها أن تكون عميلة لبريطانيا العظمى. بعد شهر من هذا اللقاء تسلمت أموالا من السفارة هي عبارة عن تبرعات للحزب الشيوعي العراقي لدعم نضاله ضد الألمان، ضد دعايتهم. كان الرفاق ينتشرون في المقاهي لالتقاط أية أحاديث عن حرب البريطانيين مع الألمان. يقيسون للسفارة مستويات التأييد الشعبي لألمانيا. حملت في العديد من المرات أموالا كثيرة من السفارة لدعم جريدة الحزب و دعم أنشطتهم كلها، وحساب سري في بنك عراقي للطوارئ ثم بعد ذلك تحولوا إلى عملاء لموسكو. دورات تثقيفية، دورات لتأسيس جهاز الحزب الأمني، دورات مجنونة جديدة لتكوين بؤر تجسسية. مرة اخرى تجسس على الشعب وقواه الوطنية ونقل كل شيء إلى موسكو، لكن بعض الرفاق بقي عميلا سريا لبريطانيا. الأم الرؤوم، التي أنجبت بذاتها ومدت ذراعها وكونت الحزب الشيوعي أصلا.
**
مزمور للزمن، مزمور للمرادفات العفنة والمضايقات التي جاءت من بعيد حيث العسس والشرطة السرية تنداح في بغداد مثل تنانين قديمة، حيات، وحوش تشبه الأسود بأفواه تشبه الميدونات. مزمور لحياتك أمي، للواهنين مثلي والصارخين في الطرقات. مجدك ووعدك وابتهالات روحي وهي ترنم لك. مزمور للنكايات التي تنبسط على وجوهنا ونحن يا أمي ننداح في كراجات السيارات وباعة الشاي واللبلبي وسندويشات الفلافل الرخيصة والفشافيش والمخلمة. متخللين بقلقنا بين الشرطة السرية ورجال الأمن والمخابرات ورجال حماية القصر الجمهوري وتكارتة يسكرون في نادي العلوية ونادي الصيد ويتقيئون في السيارات الجديدة التي اشتراها لهم الرئيس. نعيش بالروح المكلومة والرهبة والارتعاش كلما اتجه شرطي نحونا، ثم نكتشف انه ذاهب للتبول في شارع جانبي قرب عمود كهرباء متعب وخلف كشك يصنع الفلافل والسندويشات البائسة، في ظلمة قاسية وتشنجات سائقي الباصات الغافين والصاحين بمشقة وروائح العرق تفوح منهم ووليد الفلوجي يقرأ ماتيسر له من سورة يوسف في ليالي باهتة وباردة ومضببة وليس هناك غير ظلمة وعرة. في شوارع مملوءة بالازبال وزبالين منهكين يتوقفون كل دقيقة عن العمل ليصنعوا لفافة تبغ يستغرق صنعها ساعة وتدخينها ساعة ونصف. نسير ملهمين مكبلين بالفلق في كينونات استرهاباتنا ونحن نسحب أرجلنا ببطء كحيات خارجة للتو من سلة هندي.
بغداد المكونة من الوهم وتجسسات الأهل والأقرباء والأصدقاء عليك في بلد البائلين على الجدران التكتونية في اشتهاءات العبث التكريتي بحياتنا وتشنجات أعصابنا، وأنت في مراكز الشرطة وزواريب مدينة الثورة أو التحقيقات الجنائية.
بين أبواب الخصاء ومطاردات البوليس وانفلاقات الحروب الخربة على الأرواح المتناغمة مع البلاهات. الزمن البعثي وقبله الزمن الخصائي الشيوعي وممارسات اللواط العفن وسراديب النجف والولدان المخلّدون بسياقات النقد والنقد الذاتي، وبعثيون لاطعون خراء العوجة المقدس يزحفون على المناكب والأرجل في عورات الالتباسات المحملة بالطعونات الحلقية والفتنة والقراعين النرجسية لتمثلات السيد الرئيس مع أنسابه المقدسة في بحبوبة أعصابنا المتجحفلة كفيالق الحروب التوراتية.
أتذكر على نحو شديد الاثارة من ثورات الانبعاصات للذاكرة وإنا في هسهسة وأنفاس الصبح الداخن او أمام بائع جرائد ننتتظر وصول المجلات المستوردة للاطلاع على العالم فيما وراء بتلات الحاجز الحديدي للاستبضاعات الجنسية لإطاحة أرواحنا في بؤر الدسيسة الشيوعية والبعثية والأساليب الستالينية في تمزيق الخلايا الأحادية لحياتنا، واستكناهات عقولنا المتشحة بالانبساطات الدوائية والمخدرة بفعل البنزين والسيكوتين وأدوية الصرع والالتهابات المهبلية للخراف في الوطن ومضاجعات آخر الليل في الزواريب المظلمة في علاوي الحلة وتحت شاحنات النقل في كراج النهضة.
وفيما دوخانات العالم المضطرب تسفح احلامنا زودنا إبراهيم مع احساس بالفشل بعنوان الرفيق من منظمة الحزب في كردستان و أرسلتني أمي للحصول على بعض قطع الملابس من بيتها وبعض النقود المخبأة أسفل قنينة الغاز قبل ركوب سيارات وباصات النقل للسفر إلى مخابئ الثوار في شمال العراق. وصلت البيت ووجدت فيه عائلة غريبة وحينما استفسرت عن سبب تواجدهم في البيت ضربوني بالنعال وكِسر الطابوق والحصى وبجزء من أنبوب ماء تركته أمي قرب السياج وبجوار المن اسويج ثم بعد التوسل قالوا : إنهم اشتروا البيت من شخص يدعى حسين.
حكيت كل شئ وأمي تنظر مستسلمة. ويقول إبراهيم إن المكان ماعاد امناً وعلينا ان نسرع.
تتنهد أمي و تنظر إلى الباب. شعرها يضيع مع أبواق السيارات القادمة من عالم خفي وموحش وتقول : حزبها انهار مثل جبل من الرمل وحسين خانها؟! و تضحك بتشنج و كل تعب الأيام السابقة ظهر فجأة مهددا جسدها الواهن. أناولها قطعة من خبز تتناولها مني بلا اهتمام وتضعها في فمها وتمضغ. اختنق وأنا انظر إلى فمها المتعب. تشققات كثيرة وضئيلة تملأ شفتيها ويصل كل شيء الى حافات التقيؤ. هل اقتسمنا الخبز؟ أم لم نزل؟ و نظرت بعد خروجي من العلية إلى السماء، فكرت في الله و المصير و اضوية بغداد الصفراء وهي تتراقص كما في بركة مياه ثم شعرت بسعادة عميقة لما فعله حسين.
الفصل الخامس
وأنا أسير مع ميري اواسيه في شوارع بغداد، أشعر اننا في حالة نباح. سيارات مرسيدس جديدة وبأعداد هائلة، تم استيرادها خصيصا لقمة عدم الانحياز، تقتحم الشوارع ويقود هذه المركبات الخرافية العربان في تموجات البرد الجزري والثأليل وأمراض الغدة الدرقية وأصواتهم الحيوانية تنفلت في وجهك وهي تبعدك عن طريقهم وعلى أكتافهم عشرات النجوم الذهبية وعلى الصدور الشارات والميداليات والشهادات المستوردة خصيصا من جامعات العالم.
نسير أنا وميري مثل مجانين في الوطن، مجانين في عالم غريب يتراكض فيه أهل بغداد ويدخلون الاورزدي بالآلاف ويشترون كل شيء حتى الخراء. نعيش انا وميري حالة من التهميش النسقي، نعوي في الشوارع مثل آلهة مطرودة. وعندما نعترض على حكم الإله نفاجأ بأهل العوجة يضربون مؤخراتنا بأحذيتهم وقنادرهم وعصيّهم.
أترك ميري وهو في حالة جفاف روحي بعد أن طرده لوكية البعث من اتحاد الأدباء عند حسنين المصري في منطقة المربعة يلتهم وجبة الفول المدمس مع رأس بصل وطرشي اسود، وحسنين يحك شعر عانته وأتوجه إلى قريبي الذي أصل بيته وأنا اشعر بالإنهاك واللخبطة بعد عواءات ميري في الفراغ الثقافي للوطن. وبسرعة يجهز قريبي مطيته ويضيف تنكة زيت إلى المحرك وزوجته تنظر بازدراء من وراء ستارة (الهول ) وتحك رقبتها وتلقي نظرة إلى نهدها وبعد محاولات مستميتة يشتغل محرك السيارة وتنبعث هالة عظيمة من الدخان الأسود والأبيض والقرقعات ونختنق ويطلب دولكة * ماء من زوجته الا إنها لا تغادر النافذة وتبدأ بالهرش أسرع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدولكة : إناء كبير للماء ويقال له أحيانا - الدولجة - بلهجة أهل النجف وفي بعض مناطق بغداد - سراحية - وأحيانا تستعمل كلمة الدولكة تعبيرا عن السخط كأن يقال مذهب الدولكة او الدولجة أو مذهب الطرمبة.
وتمتد أصابعها إلى رقبتها وشعرها وتتشمم بعد الهرش أظافرها.
قبل الوصول إلى بيت فَرَّاش الأمن أشعر بانهزام روحي، اشعر إني مبلل وانني منذ أمد بعيد تبوّلت في بنطلوني. وفوق هذا نما إلى ذهني أني سأواجه صدمة حتما، لكن حتى من خلال الصدمة يمكن أن استشف على الأقل أين أمي الآن.
الليل بارد، زمهريري. السماء كتلة من الجليد الصحراوي المتدفق وعندما تسير في الشارع فإن العواء والهمجية والطقس البارد يلسعك أو يعضك ويعوى خلفك كل دقيقة.
نصل بيت فَرّاش الأمن. الحيونات الطائرة والوحوش الهمجية والتقيؤ يزداد ومعدتي تلتهب بخرائيات عجيبة. أدور مثل المجنون في متاهة شيطانية. التقلبات تمنحني ألَقا أخاذا لكن هذه التقلبات تداهمني وتمنحني عواءا وصهيلا أيضا وبعثرة للروح وأنت تلهث مثل كلب وتقف أمام باب الدار بارتعاشاتك، بتساؤلاتك، بالخبرة المستحصلة من عملية تذويب عظامك في سائل التيزاب ولا يتبقى إلا الدماغ، الدماغ المضروب بالقنادر والطكاكيات، ويتلبسني شعور المرارة ويقول لي القريب : لاتستعجل وأقول له : عندما يتركك العالم فأن لامعنى للإبحار على زورق الرغبة ولا الوصول إلى منبع الظلمة لان النهارات كلها متشابهة وان الأمل يفقد مسمياته والدهشة عميمة والخيبة كبيرة، و ينظر قريبي إلى وجهي ببله ويقول : طاح حظك، راح تبقى بهذي السوالف " ربنا لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء منا " ويخرج الفراش من مغارة الشياطين بملابس العمل وهي بدله سوداء و بينباغ * ومسدس تحت السترة وشوارب بعثية كثيفة وطويلة تشبه حرف ثمانية ووجه مستدق ورغبة ميكافيلية في التهامك من اللحظة الأولى، منذ أن فقد العالم براءته. وفيما يتحدث الفراش بسفسطائيته ولكنته التكريتية المستلبة والمقلدة، افهم أن لا خلاص ويعلن الفراش فشله وقبل أن نغادر دربونة الفجيعة والبهجة الميتة والصباؤوت
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بينباغ : ربطة العنق
والأطفال الذين يتبولون على الحيطان والمراحيض المملوءة بالصراصير والاشتهاءات المؤجلة والموت على الأرصفة والنزف من بين الأفخاذ وقطع المحارم النسائية المبثوثة في الجوار. يركض الفراش خلفنا مثل تائه ويمسك بأطراف أثوابنا وكأنما يمسك المسيح في بوابات أورشليم ويهود ومرتزقة يطلقون عليك الرصاص في يوم بارد حيث الأشجار تموت منحنية والورود مفتته والشوارع تضوع برائحة البول المليء بالشوائب. وعندما تنظر إلى بولك في قنينة الفحص الطبي تفاجأ بالمني أشبه بخيوط لأنك مهان والاعتصار الجسدي ينز من عينيك ويقول الفراش بلهجة بغدادية وكأنما الضمير المغيب قد استيقظ فيه : إن من الأفضل أن نتصل بشخص مؤثر. وينصحنا أن نتصل بأم وليد، الا تعرف أم وليد، معقولة؟! طيح الله حظكم، على كلٍ أم وليد تسكن في منطقة البياع، هي أهم امرأة لدى وطبان مدير الأمن. وطبان، يا للتفاهة يا للسفلس والدزنتري وداء الغرغرينا والاستسقاء !. ونحمل الخيبة مثل رضيع على وشك الموت تحت سنابك الخيول و نبرر بالموت واللا شفقة، ونتفق ان نذهب إلى المرأة الجهنمية في يوم اخر.
اترك قريبي واذهب إلى اقرب بار، حيث البول الدافئ يمنحني نوعا من التراخي لامكانية ان انسى امي لدقائق.. وأنت تتراخى في وسط بحيرة من نار الوجع والكبريت يحترق لأن السماء فوقي واهنة، ولان الله ترك أبناء القحبة يحكمون. وفي البار الهزلي، بار الطبقة المسحوقة والعربنجية وجباة مصلحة نقل الركاب حيث العواء بارد و ينزل من سماء برودتنا الأصلية هناك، هنا. في كل الأماكن، أسكر بقنينة واحدة واضعا فيها الملح لأني أريد أن أنسى العالم، أنساه او اتناساه دفعة واحدة و أتذكر حياتي الماضية و الحاضرة والمستقبل المملوء بالقمل والمباضع والجراحين يمزقون جسدك وأقول ليس مهما أن تمزَّق، المهم أن تشرق الشمس من خلال فتحات التهوية السرية في أفواهنا. ومن بطل البيرة يحدث كل شيء. هذا البُطل - القنينة - نشرب بها الخمرة الآن وإذا فكرت بالقيادة والبعث فأنك ستجلس عليها. اسمع من تلفزيون صالة الرعونة إن احدهم فجر قنبلة في مظاهرة تسير من أمام السفارة الإيرانية. وتعوي صافرات سيارة الشرطة والإسعاف ويتحول الصوت إلى هستيريا جماعية ويبكي عربنجي قربي واشعر بالهزال الشديد والتوتر والقلق. اترك البار مهلوسا وشاعرا بجنون يهطل عليّ مثل مطر بارد واحس بالتكومات في روحي. تكومات من إني اضيع في مشهد اللامكان والمكان ينهار والعمارات تنهار وتتساقط البيوت. اشعر بالهستيريا تجتاح بغداد. كرات من الوجع تكبر وتكبر وتنفجر تحت أقدامنا ونحن حفاة، ملغومين. عبارة عن مربعات ومستطيلات مختلفة الأضلاع. لكننا مستطيلات رغم الزمن وقواعد التكامل والتفاضل والزوايا الحادة تحصرنا ونريد الانفجار، نريد البهجة، نريد مياه آسنة وبحيرات من التنتريوك لتعقيم جراحنا وجراح أمواتنا.
أعود إلى قريبي بعد احتسائي البيرة مفكرا، واتوسله ان نذهب الآن الى ام وليد، ونصعد سيارة الفكسهول القديمة. الأشجار تنهار، العاصفة لا تمر، الزوبعة تتوقف، الدوامة تنام، البالوعات تفتح. ونمر عبر شوارع بغداد بتيهان المعنى ونقاط الأمن والمسلحين والجيش الشعبي والإنذارات العسكرية و كل شئ في بغداد يتحول، يتحرك بسرعة غريبة ليتجه إلى مجهول لا تعلمه. وفيما نحن في الطريق إلى البياع. نسمع عبر المذياع بتفجير قنبلة أخرى. ويدخل رجال الأمن البيوت والأزقة والحارات والغيوم والمطر ويخرجون عوائل أصولها إيرانية، وأشعر بالخوف والرعدة من أن أكون أنا أيضا ذا أصول إيرانية،وأعيش كابوسا، كابوس كبير من الظلمة والألسنة المدلوقة وأحلم برجال الأمن وهم يطاردوني في كل بغداد واهرب، اهرب بعيدا ونائيا وأصل إلى مقبرة زبيدة وأتضرع لهارون الرشيد، لبغداديتي، وفجأة تخرج الشياطين ورئيسهم بعلزبول وفي جو السحل العراقي تصل تعليمات للجهاز الحزبي بالإخبار عن أي عائلة إيرانية أو تبعيتها إيرانية ويعيش البعثيون اضطرابا أخاذا، إضطراب مبهم وصمت وأفواه يسيل منها اللعاب وارتعاشات مدوية للأصابع والعيون والرمش الكبير والعيون المليئة بالقذى والسهر المضطرب.
و عندما ينام العالم فإن رجال الحزب والدولة ينتشرون مثل صراصر في الشوارع مع الغبش ومع دكنة الظلمة. ومن الزيف الملوث للوجوه تسمع أصوات الزمن، أصوات الخيبة والمرارة. نساء يتوسلن رجال الأمن ونساء يقبلن أيادي رجال الحزب وصراخ وعويل وصرير أسنان وأطفال يرتعشون في غرف جانبية، فيما احدهم يعملها في بنطلونه وبلا رائحة بلا صوت، فقط صرير الأسنان والضراط لأن الأمعاء أصبحت عصية على الفهم، لان الكون يستحيل في انهماك ذاتي والملائكة تصعد وتنزل بلا فائدة حيث الله ترك العالم، ترك البعثيين والتكارتة وأهل العوجة يصولون ويجولون في طرقات العراق. لكن رجال الحزب لايهتمون، رجال الأمن يسحلون الرجال دون النساء وينعجن الأطفال وتتراكض النساء بلا عباءات، بلا غطاء الرأس وثياب ممزقة وظلمة عميقة وشتاء بارد وبول بارد وسماء باردة ووجوه باردة. وعندما تنظر إلى القمر لاتشاهد الضوء ولا النور بل عتمة رمادية وشوارع إضاءتها صفراء ووجوه مغلفة بالدم والتدافع وعصابات أعين وحشرجة قاتلة ورجال مصابين بالصمم والصدمة والبهوت واللاوعي.. هكذا حسب مشيئة الموت وسلطان الظلمة القابع خلف الغرف السرية وخلف أجهزة الهاتف الليلية الكثيفة الرنين والأجهزة اللاسلكية والموجات الخاصة وموجات الـ FM والكابلات المحورية. وإسرائيليون ينزلون بطائراتهم في الحدود الغربية ويضعون صمامات جهنمية للتجسس ثم يشربون القهوة في مضيف البدو الذين يظنون أنهم قوات خاصة عراقية، ويطير الإسرائيليون مع رصاص التوديع للحمير والرفاق الحمير في الشوارع الحمارية وفي العواء وفي العاصفة وفي الزحمة وفي التعثر والسحل وجذب الأطراف وفي الأحذية وهي تسحق المؤخرات والضرب والتدافع قاس والحشرجة متواصلة والبرد زمهريري والتبول بارد. تجمع آلاف العوائل من أصول إيرانية، ملايين العيون، آلاف الأنوف والشعر والنخام والبصاق والقشعريرة والأحلام والأطفال والشباب والأرامل والعجزة، بشاحنات وبسيارات الشرطة والأمن والأجهزة السرية التي نعرفها والتي لانعرفها، ويتم إركاب الجميع وتقطع السيارات الشوارع مع أصوات البكاء واللعنات والهمجية والتوسلات. وفجأة تحس نفسك في عالم من عوالم ألف ليلة وليلة، وفيما تنظر إلى السماء الملوثة بالدم تشاهد الطائرات تطير والعصافير تقتل والضفادع تنقنق والعاهرات في الشوارع مرتبكات والبارات تضج ورجال الأمن يسيرون زرافات ووحدانا ويطلبون من الناس استخراج شهادة الجنسية العراقية. وتصرخ الجماهير وتصاب بالهستيريا، وعلى أبواب الدائرة المختصة بشهادة الجنسية تشاهد آلافا، ملايين، مليارات العراقيين في لهاث، أرق، اعوجاج الأفواه، شلل نصفي، جلطة، ملاريا، تبول لاإرادي وتقصفات الشعر، والدزنتري، وداء الثعلبة، والوجوه المكومة والصراخ واللعنات ويتصاعد إلى روحك إن العنب المجتبى من الشوك يكبر، يكبر بصورة وحشية وسريعة والشرير يضحك مع سقم. وبين ليلة وضحاها، بين ليلة وانفجار لكريات الدم الحمراء والبكاء، تسير السيارات المحملة بالشحنات الإنسانية الإيرانية وتعبر قيظ اللامعنى ويتم عزل الأبناء عن الآباء ويؤخذ الشيوخ والأطفال وتتوقف السيارات قرب الحدود محاذية تماما للأسلاك الشائكة وقناني بيرة وشربت يافا على الأرض وغائط جاف. ينزل الجميع و العيون المسحوقة بالسهر والتقلب في الشاحنات وتوجَّه البنادق ويلعلع الرصاص ويختلط الصوت مع صوت الرضَّع والأطفال والثغاء واللعثمة والتراكض والدعاء والعباس والكاظم والحسين. وبعد زخات كاملة من الرصاص في الهواء وتحت الأرجل وفوق الرؤوس تضيع الأصوات على الحدود العراقية الإيرانية وتبتعد وفي الأثر يتراكض الضباب والتراب وتموت الأرض.
**
فيما نحن نسير في سيارة الفكسهول الانكليزية يشاهد قريبي تجمعاً لنساء ورجال وأطفال وشيوخ. كومة من البشر تتصارع أمام دكان، ينزل وأمسك كمه. يدفعني ويدخل المعركة، يدخل الكومة الجهنمية وبعد ساعة يأتي بدشداشة ممزقة وملوثة باللعاب والحناء والطين والبصاق وبلا أزرار وهو يحمل بين يديه طبقة بيض نصفها محطم ويقول لي: سيوزعون بعد قليل بصل. واتوسّله أن نترك المكان وان يشتري البصل من السوق السوداء. في سيارة الفكسهول الانكليزية ونحن نسير في الشوارع الغائمة وصليل صوت عريض الموجة والتردد ينزل ويسيح في الشوارع، أشعر أننا نطفو على الوحوش التي تطفو بدورها في متاهات الأنهار البرية، في فضاءات من العدم واللاشيئية واختبارات لصلوات كهنة تركوا ربهم وحده في طرقات العالم. اسمع مع انهيارات السكُر، القريب وهو يردد ابتهالاته ورعبه من أن يكون إيراني الجنسية والتبعية، اسمعه يصلي بإلحاح مخز مثل هندوسي يصلّي لبقرته. تضراعاته الجهنمية ولجاجته في القسم على الله أن يكون من تبعية عثمانية وليس إيرانية، مدمرة، عشوائية، تشبه مرحاضا يبتلع ويبتلع إلى الأبد الغائط والسوائل اللزجة وشعيرات قصيرة سوداء - كيرلي - متساقطة على حافة المرحاض. يمسك القريب مقود السيارة وأسنانه بارزة مثل حصان مصاب بالبله والاضطراب النفسي رغم إن الخيول لاتصاب بهذه الأمراض ونسير في الضباب الداكن، من خلال تقلبات النهر واللعثمة وانحطاط الذهن، نسير مثل أطفال مصابين بلوثة المصاصات وشعر البنات وزنود الست ونُلحس، نُلحس إلى الأبد بألسن مدلوقة ومتناغمة طوليا مع الذات المنكمشة. عيوننا مثل القطط التي تغتسل بمياه الأنهار الجافة والبعوض والسفلس على الضفاف. في المدن التي ليس لها نهايات ولابدايات، في السُّتَر - مفردها سترة - التي تخفي مسدسات براونينغ وتقارير عن الانحطاط السفلسي للشعب وهو يصفق للقيادة ويبكي وينبري الشعراء والكتاب لتمجيد الآلهة الوثنية في بيت الله حيث الله نفسه بصق علينا وأتم كلمته بنكراننا. من خلال السيوف والخناجر والزغب وتوسل العاهرات ومراكز شرطة مليئة بالقيء، من خلال صور السيد الرئيس عندما كان نائبا ندور بسيارة الفكسهول في الشوارع، و نصل البياع، شارع عشرين قرب هوس زحامي وإخطبوطات وطبقة وسطى وأزبال تملأ الشوارع، نصل بيت أم وليد، نصل البغية والدليل والاستكانة والضراعات الوثنية. قريبي قلق جدا وأنا أهذي. أحلامي الهذيانية تمسحني مصلوبا أبديا على خشبة عار التوسل والضعة، حيث الكل يتفل في وجهك وأنت تحمل صليب نكرانك مثل سفينة قادمة من عمق التاريخ. نترجل من السيارة مثل ملوك الهزيمة. ليكن بولك دافئا وشرابك باردا و بابك مخلوعا ونهايتك قريبة وسماؤك مقشوطة وحليبك نافدا وتضرعاتك غير مستجابة. اضحك بملء الفم، اضحك للسخيف الذي تحدث عن بوله الدافئ، لكن هنا حيث همج القيادة يملأون حياتنا كبعوض وحرمس وبق وقمل وصُواب * وبرغوث فلا أمل في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الصواب : بيض القمل في اللهجة العراقية
عالم من الـتأصيل ولا رغبة في إنسانيتك، نتوسل العاهرات لنعرف مصائر المبجلين والقديسين في زمن السفلس حيث الرعاة والحفاة ومقطوعي النسب يتربعون على سلم حياتنا. ومن السلم تنهار مقاوماتك وترابيعك العشرية ومستلزمات حياتك في وطن غريب جدا وسماء أكثر غرابة وبرد شباطي ملعون يلسعك حتى وان كنت ترتدي كل أسمال العالم.
ننزل من السيارة ونتوقف أمام باب مهيب مصنوع من الحديد المقسى بترابيع ورسومات وحلزونات وورود وجهنميات، والجيران ينظرون لنا نظرات مضحكة وكأنما يبعبصون لنا، وكأنما يؤشرون بأصابعهم نحو الخطيئة الرابضة عند الأسكفة.
نقرع الباب لأننا أضعنا الجرس في زحام الأفكار والتواصل اللامتواصل، نقرع ويهرع نحونا رفيق يعرفنا بنفسه ويجري تحقيقا أوليا عن سبب طرقنا الباب وعن الذي دلنا على البيت وأسباب تواجدنا هنا. نجيبه بتلعثم المرتبكين ويبتعد ليقف على مسافة منا. تفتح إحداهن الباب بهيوليتها الكبيرة، بأبعادها الأنثوية والجنسية وهي تنطوي على التغنج والاستغراب والمكابرة وأساور الذهب و نسأل ان كانت ام وليد هنا؟ وتتراكض خلف الفتاة امرأة أخرى، امرأة لها منظر المستأنسين وملاحة المستظرفين ورغبة الجنس القادر على لي الحديد، وتجيبنا بتقليد لكنة أهل العوجة بأن أم وليد في محل الكماليات التابع لها في المنصور قرب حلويات الشموع، ونحس بارتعاش فكوكنا مثل فكوك الموتى عندما تسوطها ملائكة النار. وأحدق في وجه قريبي ببله منزوع من كمالي الإنساني والرفيق الحزبي ينظر بخيبة كون المرأة لم تنهرنا ليأخذنا هو إلى الفرقة الحزبية للتحقيق.
نصعد السيارة على عجل ونصل المنصور ونترجل من سيارة الفكسهول، نترجل من حياتنا الانكليزية ونترك كل التاريخ خلفنا يوم أراد الانكليز أن يجعلونا شعب الله المختار فاعترضنا وثرنا ودفعنا آلاف القتلى لان حضرة الشيخ شعلان أبو الجون لم يستطع أن يهضم كيف إن كلب الضابط الانكليزي أنظف منه، إذ يتم غسله كل يوم بصابون انكليزي فاخر فيما الشيخ شعلان يغتسل مرة واحدة في الشهر وبلا صابون مكتفيا بالشنان.
بعد تردد قصير ندخل محل الكماليات، ندخل أبهة مهولة ومحلاً كبيراً مليئاً بالبضائع المستوردة ونشاهد أم وليد جالسة تخدمها النساء مثل ملكة إغريقية، مثل إمبراطورة، وعندما نقترب برعشة التوسل وأمل المشبوبين ترمقنا بنظرتها العارمة، نظراتها التي إذابتنا فجأة في الخوف والإحساس بالدونية.
الفصل السادس
عبر زجاج النافذة المدلوع للعاصفة أسمع صوتا، صوت الريح حفيفا متتاليا. في الباص تميل أمي برأسها إلى النافذة. سيولات من التذكر ومطر كثيف يلتصق بوجهها المنمش، تحدق باستقامة مثل الموجة الطولية، مؤشر الموجة لايشير إلى تغيير اتجاه، انه واحد، غير متردد، عجول، يستحث ايوناته بمياه الطوفان الأول. في الباص الذي ينقلنا إلى كركوك أحاول أن لا أحدق إلى وجهها طويلا، المحها في ذاتيات خاصة، فرصة للانزواء والتشيؤ على الذات الكليانية منطلقا من الوحدة الخاصة. الوجه يشكو من انسيابية غريبة. انظر ملتبسا بالجو البارد والنافذة المفتوحة قليلا وهبوب هواء بارد يلفظ روحي. ترفع أصابعها وتعدل خصلة شعر، الكف المرتفع من التلال الباهتة منمشا تغزوه تشققات وبقع لكدمات مجهولة. تنساب البقع مثل زيت بطيء لزج في إيحاءات غريبة منطلقا من جنون اللحظة وانبساطها. انظر إلى أصابعها محاولا استلهام تذكارات وان كانت بائسة. اشعر فجأة ببله مموه بالثعابين، بصور اله هندي يدميني ويصرخ، لكني أتوسل القسوة بأن تمنحني اهتبالات، مساومات، انبجاسات اليد التي منحتني يوما ما فرصة النجاة من هذا العالم تضمحل ببهتان و ينغلق ذهني مثل رحم أمرآة.
استعيد ذاتيا فعل لمس الأصابع، كفها، ذراعها، قَصة الشعر السبعينية و.. بوهن وتلقائية دون أن اجعلها تتأمل وجهي. ياللهول !! اكرر في سر نفسي: أإلى هذا الحد يمكنني التحليق وحيدا في سماء غريبة دونها. كان هذا ممكنا أما معها فاني أتحسس أدمغة تتوقف عن الرؤية لتشابك المشاهد، مثل كاميرا تصور حركة سريعة - اكشن - تصلبت نظرات أمي فجأة عندما توقف الباص وصعد شرطي للتفتيش. مددت يدي وعصرت كفها وكنت اشعر بالتوتر يدب إليّ لكنني لم انظر إلى وجهه ولا إلى ….. وتضرعت باستماتة، كنت اشعر إني ارتجف بالتياع نحو أمي.
أحس بإضطراب أمي شفيفا و تتذكر هي مفاصل بائسة من حياة تتكور الآن وتتجه إلى مجهول. كم شعرت بالنسيان ورجل الأمن يقترب. في تلك اللحظة أردت أن اصرخ فضغطت أمي أصابعي. للمرة الأولى كاميرا الطفل - المخرج - تتوقف أمام المشهد. أصابع أمي قاسية، أتذكر ملمسها الشفيف والرقيق، هاهي الان باردة ومتعقلة. يقترب رجل الأمن منا بسترته الغامقة وشعره العكش. احتشاد من الكوابيس يمر بطيئا جدا. أنت لاتستطيع أن تفكر، تفكر فقط في الله، تفكر فقط في هجوم الارتباك المضني. اشعر أني أريد أن انهض وأسير خلف الشرطي وانزل من الباص وأتوجه إلى منصة الإعدام سريعا جدا. أتوسل الطفل - المخرج - أن يُحرِّك الكاميرا سريعا منتقلا إلى المشهد التالي. أرجوك انتقل اياً كان المشهد، انه ارتباك ولعثمة وبهتان عظيم. في تلك اللحظة يكون الوجه جافا، العيون متحجرة، الاذان تسمع اصواتا، الصدر يتحرك سريعا، النفس يصعد ولا ينزل، تتوسله بقوة أن يهبط تلقائيا، انه بحاجة إلى قوة محركات ضخمة وأنت مهلوس، مخبول، جهنمي، معتور، مُجتحف. جفاف وجهك وربما تعرّقه وربما اضمحلاله، يرتحل بك إلى مسميات ذهنية من العبور إلى الوله بالقتل، إلى الاحتكاك به والنفور منه، لكنك تحبه وستحبه أكثر في اللحظات التالية.، الى الابد ستشعر بالامتنان منه آليا، أبديا. تهالك أذن إلى مقعدك واصرخ بصوت كامل النبرات والتعبيرات اللحنية، لكن الصوت والارتجاج لايخرجان، انه تقلص لا إرادي لعضلات الوجه.
في تلك اللحظة المجهولة من الزمن حيث الطيور تهرب والسماء تتلبد انتمي إلى فقدان ذاتي، اشعر إن أمي وهي باردة جدا تتضاءل إلى المقعد وتهاجمها ذات الكوابيس، كوابيس الاعتقالات والغرف الاسمنتية الباردة. الرجل يقترب برائحة السجائر والجواريب والفجل. لسان ذليق يهب. طويلاً كان الهروب وعلى الحشائش بقع الدم وجنود يقتسمون ملابسي. أحاول أن انهض، أن اذهب إلى دورة مياه مبنية من حجر لكن الرعشة تضربني. يقترب رجل الأمن، المح نظرته الحادة متذكرا عيون رجال الجستابو والعاصفة في أفلام الحرب العالمية الثانية. اضغط أصابع أمي، أتلو آيات من الصحف الأولى، اقفز من عالم إلى آخر، من المركز إلى المحيط ومن مشايعين ليسوع إلى أئمة آل البيت والتلمود. كل دعاء يكتسب قبولا. توسلت وفيما مسدسات - وبللي - تقترب، أن أموت، أن تتخطفني النسور وآلهة العرب، وللمرة الأولى اشعر بهذا الاهتزاز والبرد المرهق. وعندما يتخطاني رجل الأمن اشعر بهياج عارم، ضربات القلب تهتز، تعمل بعجالة غريبة. أموت وأنا انظر إلى وجه أمي و المح يباس زاوية فمها. يصل رجل الأمن إلى نهاية الباص ويعود لينزل. انهار و أمي أيضا. أصوات ركاب الباص تتحول إلى همهمة، غطيط، قوقئة، لم اعد أميز بين العيون والأفواه المفتوحة ولا الأصابع ولا رائحة العرق المخزن في ثنايا شحمة الأذن والأنف. تسند أمي جبهتها على الحافة العليا للمقعد المقابل، تتمتم بأشياء لا افهمها فيما روائح الجوارب والأحذية تكتسح الباص كله. عندما وصلنا كركوك في طريقنا إلى اربيل شعرت أمي بإعياء كبير. نزلنا من الباص وأقدامها ترتعش و أحاول قدر الإمكان مساعدتها. نميل إلى رصيف ونجلس. تقول بلهاث متقطع إن الأحلام تتعبها. أقول : هل حلمت بشئ معين؟ تقول : العصافير تهرب دائما من حقول جرداء وهناك بين الصخب والترقب والدهشة اجلس أنا على كرسي التحقيقات في مديرية الأمن فيما كيبلات مطاطية تطير في الهواء.
أقول لها : انه العقل الباطن، كل شيء سيكون بخير. سنصل إلى الرفيق وسيأخذك إلى مكان آمن، مكان في الوطن. تقول : أريد الأطفال، اشعر بوخزة الم في صدري وانتظر دقائق لأقول لها : سأتفق مع الرفيق على إيصال الأطفال لك. وحسين؟ أقول بعد تردد وإحساس بألم مضاعف في صدري : سأوصله أيضا. عليك أن تجده أولا. هل تريدينه فعلا؟ اقول وتجيب هل قلت إن الأطفال عند جدهم؟ أقول نعم. لا اصدق أن يحدث كل هذ ا!!. هل يعقل أن يتحطم الحزب بهذه السرعة؟ ! لا أجيب. تخفض رأسها وتحاول التقيؤ انهض واجلب لها طاس ماء من دكان وتغسل وجهها وفمها. تقول : لا استطيع التحمل اكثر، اتركني هنا، أعصابي منهارة. تتقيأ مرة أخرى و أمسح القيء عن فمها وملابسها، معدتها تعتصر والمزيد من سائل أصفر يندفع.
عابرون من أمامنا ينظرون، اشعر بدسيستهم تلاحقنا. تقول لي مرة أخرى : اتركني. اشعر بوجعها وروحها المنهكة، اجلس قربها تائها في الكراج الكبير لا أعرف ما الذي عليّ فعله؟ تقول : سأسلم نفسي. انظر في عينيها مباشرة، أحس بإصرارها على النزوع الأخير. أقول : ارتاحي قليلا، يجب أن نصل أولا إلى الرفيق في اربيل. تقول : لا استطيع. تختلط كلماتها مع ارتعاش ودوران تائه حول أطفالها، ترى مالذي يفعلونه الآن؟ تتساءل، اشعر بالموت لأجلهم. أقول لها : إنهم بخير صدقيني. يجب أن نصل أولا ثم يدبر الله كل شئ. ترفع نظرها فجأة وتنظر إلى المارة بنظرات تائهة تقول: اعرف احد الرفاق في كركوك، تنهض بصعوبة وتعدل العباءة. انهض أنا أيضا. تقول إن محل عمله قريب من الكراج، ننسحب، نخطو بتعب، بتشوه وجوهنا، نخرج من الكراج مع صراخ الباعة. أكتافنا تتدافع لكن وجوهنا تنظر إلى بعيد. لم نلمح الأجساد التي تصدمنا : هناك هدف يجب أن نصله. بعد دقائق نحن أمام مقهى صغير.
تقول أمي : اتبعني. أسير خلفها، تدخل المقهى وتتجه مباشرة إلى احد العمال الواقفين قرب نار يُعد عليها الشاي. تمس كتف العامل. يستدير ويُصدم. المح تغيرات كثيرة على فمه ووجهه، يمسك وزرة الشاي ويعتصرها. تقول له أمي : وصلنا الآن، دبرنا. فجأة تنقطع أصوات المنادين، لم نعد نسمع شيئا. يقول لنا انتظروني خارجا. تأخذ أمي طاس ماء بارد وتغسل وجهها مرة أخرى. تتذكر أمي إن من هذا المقهى كانت توصل الجريدة إلى أعضاء الحزب.على مقربة من المقهى نقف، تنظر أمي إلى المارة بحاسة البحث والحذر. اشعر بان قوة تتفجر في وجهها. يصل الرفيق عامل الشاي بلا وزرة و يسألها بتلهف عن الأوضاع في بغداد، تسرد له القصة كاملة يقول: إنها بحاجة إلى الراحة ويقترح ان نذهب الى بيته. تسأله امي أيضا عن الرفيق في اربيل، يقول بامتعاض هذا كردي. تقول له أمي لا ترتبك و تلفت الأنظار. تعدل عباءتها على رأسها.
نسير مثل جرحى الحروب، مثل أفلام الموت في الحرب، لكننا بلا أناشيد هنا، أناشيد الأممية الثانية وهي تنشد في المؤتمرات الحزبية العلنية في بغداد. تتذكر أمي إنها الآن ضائعة في الطرقات، تسير بين الازبال، بين الشرطة السرية والعلنية والدسيسة والافتراءات المضيئة وعيون ملايين المخبرين و بتمهل عجيب وقدرة فذة على إخفاء اعتلاجاتنا والقلق، نصل باب بيت قديم. يدخل العامل ونلحقه بتماس مع الحائط الخرب والمصباح المعلق بسلك متدل بطريقة عشوائية ثم نتوقف. تأتي أم عامل الشاي الى الباب بعجالة. تفاجأ، تبهر، تتراجع خطوة واحدة، تنظر في وجوهنا شائهة. يقول عامل الشاي : هذه رفيقة زكية التي عملت لك عملية القلب مع الدكتور سميسم، هل تتذكرينها؟ و بعيونها المتعبة تقترب الأم، وجهها يقترب من أمي، تمس عباءتها، ثم ترتمي عليها وتقبلها، تدعونا بسرعة إلى الداخل. نجتاز الممر بحيطانه المقشرة ونصل إلى فسحة صغيرة. تفتح أمي عباءتها. تجلس على الأريكة باسترخاء و تقول لا نريد أن نتأخر. تحضر لنا أم العامل كليجة وشاي، نأكل بسرعة. بعد استكانة شاي ثانية يقول العامل بتلعثم انه يشك في الرفيق الموجود في اربيل، لايمكن الوثوق به، يعتبرك معزة ويبيعك بكل سهولة و دون وازع من ضمير. لمَ لا تنتظرين هنا؟ الوضع هنا أفضل من بغداد، البعثيون لايطاردون الشيوعيين، هم يطاردون العصاة - الاكراد - والمهربين. تقول أمي : لا، انا متعبة جدا واعصابي منهكة، انا بحاجة الى الراحة الحقيقية، هنا التهديد مستمر. تريح أمي رأسها على الأريكة، تبدو كمن يفكر في الأيام الماضية اثر التعب والإرهاق يمزقان وجهها، النمش الخفيف حول عينيها يتراءى لي وهو يختفي نائيا. تنظر ببهوت إلى المصباح النازل من السقف، إلى السلك وتأرجح الذباب، تنظر أيضا إلى أعمدة الخشب التي تشكل جسورا يستقر عليها السقف وكأنما ترتحل عميقا جدا، بتصلب ورغبة في استذكار أيام ماضية. تغرق في انهمامات ذاتية، أصوات، ترددات، صرخات، سيل من الذكريات المضطربة. تستمع فجأة إلى صوتي الذي يخترق أحلامها ويقول بوعي مباشر، بفم موجوع. اتركيهم يا أمي، اتركي هذا الحزب اللعنة، البؤس، الحراشف، التقززات، الدم، ميراث يتفجر مثل ينبوع اسود من الكراهية، اختلاجات وشذاذات عنصرية، انتقامات، رغبات شريرة، اغتصابات، دسائس، بقر بطون. يقفز إلى ذهنها إني قادم من خلف السنوات الشبيهة بالأحلام. تفكر في العالم، العراق، التذكارات العطشى لملامسة الوجوه المهملة والمرهقة وهي تنزل لحمامات الدم في شباط ١٩٥٩عندما تصل إلى محطة قطار الموصل لإحياء مهرجان السلام.
كانت الموصل إحدى المدن التي ينشط فيها أعوان جمال عبد الناصر إضافة إلى إنها إحدى المدن التي قاومت المد الشيوعي في العراق. كانت تفكر بمن أشعل تلك الأحداث؟ رفاقها برروا مقدار القسوة المستعملة بقسوة المؤامرة التي كانت تستهدف الجمهورية العراقية الوليدة. لكن المشكلة ليست في تبريرات رفاقها أو البعثيين أوالقوميين العرب، المشكلة تكمن في هاجس الاستعمال الأقصى لأدوات الموت.
لم يكن هناك مايستدعي القسوة عندما حدث الفرهود بحق اليهود، لم تكن هناك مؤامرة ضد العراق، ولم تكن هناك مؤامرة من قبل العائلة المالكة تستدعي كل القسوة والانتقام منهم. كانت تسير في أحداث الموصل مع الحشود، حشود أنصار السلام الشيوعيين وأعلام الاشتراكية. وأقول لها بما يشبه الإيحاء بغيابات، انطفاءات، تسفعات الوجوه الكامدة المزمومة بهستريا بلد الاشتراكية الأول في العالم : إنهم ليسوا إنسانيين. دم كثيف مرشوش على وجوههم وسيرتهم الغريبة والمشفوعة بالتسلط. يجب أن تكوني إنسانية يا أمي، التعصب غالبا مايعمي البصيرة والبصر و المصائر الإنسانية المكتومة في لهيب عطش التحول الإنساني إلى حيوان مخيف نهم. تأخذ انهمامي وهمسي على محمل البحث، تدور ذاكرتها في آفاق شباط ١٩٥٩، مسيرتهم في الموصل، شباط بارد، زمهرير يتدفق من جهة الشمال، وكأنما ذئاب متوحشة تركض في برية واسعة، بانفلاتها المدوي، بصليل يشبه صليل أسلحة الموت وانفجاراتها بالوجوه. تسير مع الحشود الكثيفة في الشوارع، حشود أنصار السلام، وتلاحظ أن بعض الرفاق كانوا يحملون عصياً وكابلات وأسياخا، سيوف وخناجر قصيرة ومسدسات. تشعر في تلك اللحظة وفجأة وكأنما روح الله يبتعد في السماء ليقول لها اهربي من حمامات الدم. تشعر لمرأى السيوف والخناجر بوعكة ذهنية، تحاول الاقتراب من الرفاق الذين يحملونها لكن الحشود تدفعها. تشعر بارتهان وقلق كبيرين. المظاهرات تتدفق في الشوارع وتهتف مطالبة بسحق الخونة، وفيما هي تهتف بوعي الحزب، متجانسة مع انفعالاته. تسمع صرخات مدوية قادمة من إحدى الجهات، صرخات مكتومة، إذ ينادي أعضاء الحزب فجأة، فلنهاجم الموتورين وعملاء مصر والطورانيين والقوميين وأعداء الجمهورية وأعداء الزعيم.
تتراكض الحشود و النفوس، صور عبد الكريم قاسم تتراكض أيضا مع الكيبلات والخناجر والقناني وتتداخل الوجوه واللحم ويقتحم الرفاق بيوت معينة وكأنما معروفة مسبقا ويجهزون على العوائل والشباب القومي. تسحل الجثث في الشوارع بعد أن رُبطت أقدام الضحايا بالحبال ثم يهجم شباب الحزب وجماهيره على الضحية بالقناني المكسورة والخناجروالسكاكين والحجارة والمدى.
كانت تشاهد الدم المتدفق من الضحايا وتسمع صراخ الجماهير الشيوعية والأيادي المرفوعة بالسكاكين، أصوات، أبواق، لهاث، حمحمة، حشرجة، أنفاس متشنجة، وجوه متقلصة. تشاهد الرفاق الأكراد أيضا وهم يقتحمون البيوت بأفواههم المكشرة، رفاقها في كركوك. أرادت أن تركض باتجاههم لكن الرفاق سحلوا التركمان في الطرقات ثم علقوهم على أعمدة الكهرباء وانهالوا عليهم طعنا بالسكاكين، طعنات مخيفة يتجلى فيها الحقد الشوفيني القومي. أصابع أمي ترتجف، وجهها يبترد ملوثا برغبات الخوف والهستيريا التي انثالت على جماهير الحزب الكردية. فوجئت وقتها بعمق الغرائز القومية الدموية القاسية تتفجر وشخص شيوعي يعمل قصابا يتولى مهمة تعليق الجثث على الأعمدة وطعنها بالسكاكين مثلما كان في بغداد عام ١٩٥٨عندما قتلت العائلة المالكة وتم التمثيل بجثث نوري السعيد وعبد الإله الوصي على العرش.
يقول عامل الشاي انه جهز لنا متاعا بسيطا للسفر إلى اربيل، المسافة ليست طويلة، لكن قد نحتاج لزوادة. تنهض أمي و تضع في حقيبتها مبلغا من المال وفره لنا الرفيق العامل أيضا، ثم تخرج العنوان له، يحدق في الورقة الصغيرة، ينظر لها بتمعن. يقول : نعم انه هو أنصحك بعدم الذهاب. تقول له : يجب أن اذهب. اعرف الكثير من الأسماء لو وقعت بيد الأمن لانهارت منظمات كثيرة، لا أريد دم أكثر، يجب إنقاذهم. يسلم العامل الورقة إلى أمي بتنهد و يقول : ومن قال لك إن هذا الرفيق سوف لايسلمك للأمن؟ الأفضل أن تسلمي لتنقذي نفسك وتنقذي هذه المنظمات من الجحيم الذي ينتظرهم. القيادة مغامرة و مجنونة. صدقيني أنا ناصح أمين لك، حافظي على نفسك وحياة الآخرين، لاتدعي القيادة تأخذكم إلى الجحيم ثم إن القيادة نفسها تركتكم. تنظر أمي لوجهه باستغراب. تقول : لمَ تتحدث وكأنك غريب عن الحزب؟ صوتك يأتي وكأنما من خارج الحزب؟ ترتعش شفتاه، يقول : نعم، أنا لم اعد ضمن الحزب، فصلوني بسبب كوني تركمانياً. هل تعرفين إنهم فصلوا كل الرفاق التركمان في الحزب باستثناء واحد على ما اعتقد. لم يكونوا يسمحون لنا أن نتسلم مناصب قيادية في الحزب. كتبت تقريرا تحليليا للحزب أشرت فيه إلى نزعات عنصرية داخلية. استدعوني، حققوا معي، حاربوني، فصلوني من الحزب، بعثوا لي شقاوات من الاكراد، أشاعوا أني وكيل أمن. كل هذا كذب، افتراء. قالوا أيضا إني سرقت تبرعات منظمة كركوك. مهزلة لم يبقوا شيئا لم يلصقوه بي. ينظر إلى وجوهنا تائهاً. كانوا مافيا، أولئك الأكراد دمروا الحزب، حطموه، حولوه إلى حزب قومي كردي لايقل ضراوة عن الأحزاب الشوفينية الكردية. آه لو كان فهد موجودا.
هل تتذكرين أيتها الرفيقة ماذا فعل فهد مع القوميين الكرد والشوفينيين؟ أبعدهم عن الحزب، رفض كل مقولاتهم القومية. فهد كان يريد حزبا فوق القومية، حزباً إنسانياً، عراقياً يعمل من اجل الهوية الوطنية العراقية. بعد إعدام فهد حدث الخراب، بعد اعتقال سلام عادل تسللوا إلى الحزب، كمنوا داخله وعندما القي القبض على سلام عادل، بمؤامرة منهم ربما، وبعد إعدامه، سيطروا على الحزب كله وانتهى الأمر. مؤلم، مؤلم جدا عندما طالب قادة الحزب * في الخمسينات وهم - بهاء الاكرع وكريم احمد الداود وحميد عثمان العجمي وجمال الحيدري - بحق الكيان الصهيوني في ارض فلسطين كما طالبوا بإعطاء الشعب الكردي في العراق حقه في تقرير مصيره والانفصال. مهزلة، مضحكة.اشترك الحزب في المجازر ضد التركمان. تآمروا مع الأحزاب القومية الكردية لاقتلاعنا من أرضنا. كنا شوكة في أفواههم وكانوا يريدون الاستيلاء على كركوك بعد أن استولوا على اربيل، اربيل المدينة العراقية الأصيلة التي حولوا اسمها إلى هوليرا. اسم مدينة اربيل هو ذاته منذ آلاف السنين وكانت تعبد فيها عشتار آلهة البابليين، لكنهم طردونا منها واستولوا عليها في عشرينات القرن. جاءوا بلبنهم وماعزهم وبعرورهم من جبال ارارات في اسيا ومن السهوب الإيرانية وقتلوا كل شيء أمامهم، والحزب ـ حزبنا - ساعدهم بل كان هو الذي يكرّد كركوك. شيء فظيع. تنظر أمي في وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحزب : الحزب الشيوعي العراقي
الرفيق الذي يتنهد ويقول : انتبهي لنفسك أيتها الرفيقة، ليكن الله معك، الله هو الوحيد الذي يستحق أن نعيش ونموت لأجله. لكن الله لايريد أن نموت لأجله، يريدنا أن نعيش فقط بروح التسامح والمحبة مع النفس والآخرين، وان نتذوق السلام الروحي بسبب الاقتراب منه. لا أمل في هذا الوطن، هل تتذكرين عندما قتلوا اليهود المسالمين ! وعندما قتلوا العائلة المالكة ! عندما سحلوهم في الشوارع ! نحن غارقون في الدم، الدم المرشوش على وجوهنا أعمانا عن حياتنا، أعمانا عن الرؤية. إني اشعر بالتعاسة لنفسي ولهذا الوطن. اسمعي نصيحتي، اكرر و أقول : أنت تسيرين في طريق مخيف أؤكد لك انه خاطئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجازر كركوك : مجازر ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي ضد التركمان عام ١٩٥٩ اثناء المد الشيوعي في العراق بعد ثورة ١٩٥٨
تسمع أمي كلامه ولاتعلق بل تنظر إلى وجهه وفي لحظات معينة تستقر عيناها على مصباح البيت المعلق المدلى من السقف مثل مصلوب، قتيل في عري كامل يختلط في زوبعة المشاعر المضطربة. تُقبل أم العامل أمي، تقبل رأسها وجبهتها، تمس شعرها، تمس عباءتها الحائلة اللون والمستعارة. نخرج من المنزل محملين بالدعوات والكليجة والأدعية والتراتيل. تسكب أم العامل طاس ماء لأجل العودة والسلامة.
البرد قارس كالحديد والارض كالنحاس. عيوننا مثل عصافير في ريح دروج، ننزوي في البهتان و تنمو إلى ذهن امي صيحات متفرقة، أصوات وكأنما قادمة من ما وراء أسنان حادة. هل هو صراخ الشيزفرينيا الذهني؟ تسألني أمي و اقول لااصوات، وحدها صرخات الحساسين والعنادل تنداح فوق ركامنا وكأنما تقول " اللهم إن متعتهم إلى حين، ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قددا ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا" * نختلج بالكلمات الصارخة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مقولة للحسين بحق اهل العراق
وتختلج في صدر أمي مشاعر متداخلة، ليس حزنا ولا فرحا ولا موتا ولا حياة بل مزيج ثقيل. روح وكأنما قادمة من ما قبل تأسيس العالم. هل هي ذاتها التي تسير الآن مشردة؟. ياله من عالم أبله ! هناك أو هنا، قنابل تتفجر في سمائها، عالم وحشي. تفكر في سرها لكن هذا العالم، الكون المتوحد والمنغلق على ذاته ميت في أوصاله، بالتشرد ذاته الذي يعتريها دافعا بها إلى الأرض، الطين، البارود و الجامعة في اليد. كانت قد نهضت من الارتماس في مياه باردة وتشعر إن انتعاشة مفاجئة للذاكرة تنفتح على فضاء وسيولات مشعة تتدفق في السماء الباردة الملبدة بالغيوم. تفكر، كم يبدو الوطن نائيا وهي تفتح أجفانها وسط الركام الهائل من المقولات الفلسفية الحقيرة للنوع البشري والحيواني في تطوره الدارويني اشعر وانا انظر باتجاهها بالحزن لهزالها، هزال ذاتي عميم. تنظر بعين الخوف إلى الشوارع، لانهايات. تحدث نفسها، تفكر في أصواتهم، قلاقلهم. همهماتهم، أطفالها، زوجها، أين اختفى هذا العالم في ذاك الحلم؟ بين ليلة وضحاها فقدت كل شئ، حتى البيت وهو كل ماتملكه. كانت تعرفه - زوجها - سيسكر ويقضي ليله في الملاهي مع العاهرات، لتذهب الماركسية إلى الجحيم. إنها نظرة المادية الديالكتيكية، المادية التاريخية، نقد ليفي شتراوس، علم الاناسة، علم نفس الاجتماع الماركسي، قانون رأس المال، البيان الشيوعي، كلها قادمة من الأثر البعيد وتمضي إلى مالا نهاية، لكنها عابرة. تفكر بصمت كينوني، بصمت مملوء بالخشية، بالأقدام والزمن الذي يحملها هنا وهناك. بين العيون المغلقة للتاريخ وهو ينثال، ينساح. ها أنت تتجهين إلى المجهول. كل حياتك ضاعت، حتى الحزب. ياللسخافة ! اللؤم العميق لزوجها وهو يبذر النقود الآن، كيف صنعته من اللاشيء.
ترتفع إلى حلقومها كآبة شفيفة في طريقها إلى التوسع والانتشارعلى كل جسمها. تتحسس رقبتها، تتحسس الطرقات والبشر وأصوات الباعة. عوالم كاملة أمامها. تشعر إنها بحاجة ماسة إلى أطفالها، رغبة مثل العلقم والمر واللبان اللاذع، تفكر أيضا في روحها، ابتلاءات الدم. منذ اليوم الذي هربت فيه من المستشفى. تفكر، بقساوة مبالغة. كم مر من الوقت، خمسة أيام، ستة، شهر، عام، حول، عقد، قرن، من ماقبل الميلاد، من أيام السومريين على هذه الأرض، منذ أن هبط آدم مطرودا والخيانة في نفسه، آه الخيانة وترددها بهمهمة وتشعر بألم جراء قسوة زوجها عندما تركها تعبر وادي الموت هذا.
نصل ( الكراج ) ونقترب من الباص المتجه إلى اربيل. بغتة ينفجر صوت شرطي خلفنا وهو يسألنا عن هوياتنا نرتبك، نتلعثم ثم اعطيه هويتي ويتمعن فيها ثم يرجعها الي. نصعد الباص بارتعاشة أرجلنا، بنزو الحاضر على المستقبل. أشعر ونحن نجلس قرب النافذة إننا نتجه إلى مجهول، مجهول قادم من حكايات السندباد البحري.
**
إذا نجحت الخطة ستسافر أمي مع الرفيق الكردي إلى الجبال، في الثلج الذي ستذيبه الأقدام الحارة والمتعبة والبغال والانهاكات في الصباحات والليالي وعواء الذئاب وحمحمة السماء وارتعاشة الأفاعي وانزواء الأسود وهروبات الزمن المهرب تهريبا. ستمر على قرى نائية لم يسمع بها إنسان، قرى متروكة في نهاية العالم وكأنما أنت وحيد فوق جبال الهملايا حيث الصقور والغيم والوحدة. لكني وأنا أفكر في الهروبات الغائمة على صفحات سماء ملبدة وفيوضات مائية اشعر بالخوف يهاجمني، بالخوف من الرفيق هل سيصح ماقاله عامل المقهى؟ وأكذّب التأويلات الذهنية لكني ارجع مفكرا وماذا لو كان الأمر صحيحا؟ وقتها ستغرق أمي في سبات السلطة، ستغرق في رجس الأعمال والمحاكمات السرية والسرية جدا. ارتعش عندما أتذكر هيولات التعذيب. الأساطير التي اسمع بها عنها وفيها، في الموت المخزن عميقا في جزيئات العقل البارد والميت، في سلطة لاترحم وفي نظام لايرحم، تحت سماء ملفقة بالوجع والانبهارات بوسائل خرافية للتعذيب المذيب لوجهك وإنسانيتك، للتقززات المثيرة للنفس المتمرمرة بالعذاب المستمر، بالصحون القاتلة والمشابك الحديدية وقلع الأظافر ونهش الوجه والمراوح والقناني وكلاب تعوي وصرخات من ليل كأنه ليس ظلمة إنما ظلام - مبهر - قاتم، أفعواني يتسلقك من الأسفل ويعلق بمؤخرتك متمهلا ثم يستمر في اغتصابك أمام اهلك وبناتك وزوجتك. وفي النهاية عندما تكون بقايا حيوانية فقط تُسحل بالحبال والكيبلات تنهمر عليك وترمى في غيابت الجب مظلما بروحك ومفارقا حتى الأحلام.
يمر صمت طويل وامسك أصابع أمي، اشعر ببرودة جسدها وأحاول تمسيد رأسها. اشعر بشوق طفولي لها، لكنها ما إن تغمض عينيها حتى يتراءى لها على نحو مضطرب الارتكاض والقتل في شوارع الموصل، كركوك، النجف، البصرة، بغداد. تقول، لمَ هذا النزوع الكبير إلى القتل؟ النزوع الميكافيلي نحو قتل الآخر في فكر حزبها. ومن ابتلاءات الذاكرة تنتقل إلى تنسم عبير شوارع بغداد وهي تزهر بالدم، الدم !!، يالينين وروزا لكسمبورغ. و تغرق في اشتطاطات العواء والنوستالجيا و تتراكض مع سليمة حزقيل في بحور ظلمة الشوارع وأفواه القتلة. وإذ تبحث في الذهن عن الصور الدموية للقتل تشعر بالقشعريرة تسيح في شارع المشجر، الشارع الذي عشقته كل أيام حياتها، وهناك عند النقطة الجوهرية لذهنها تبرز فجأة مشاهد السحل الذي لم يشترك فيه الكبار فقط إنما الأطفال ايضا. الصورة الهمجية لتعويد كل الأجيال وتدريبها على مشاهد القتل، السحل، الطعن، تمزيق الجثث، ربط القدم بحبل وسحله بسيارة والدوران به في الشوارع والجسد مربوط تنهمر عليه الأحذية والأحجار والعصي والقامات والخناجر والقناني والدماء تنزف والنساء تهلل.
تتذكر أمي رفاقها في الحزب الشيوعي وهم يحثون الشعب على المطالبة بتسليم كل المتآمرين على عبد الكريم قاسم لسحلهم في الشوارع. سحل، سحل، بلا محاكمات، بلا قانون، فقط دكتاتورية البروليتاريا وحماية الجمهورية وصراخ الرعاع : اعدم، اعدم، اسحل، اسحل. لكن السحل ليس صفة مؤقتة إنما صفة استدلالية راسخة عميقا في الذهن العراقي، في المرارة السرية التي تضرب وجه أمي، في التمثلات الحزينة لشهقات الخوف، تقفز إلى ذهنها أيضا بانوراميات انقلاب ٨ شباط البعثي على نظام عبد الكريم قاسم. الخوف المعدني في برودة الصباحات عندما أعلن في الإذاعة عن الانقلاب. تهرع إلى الشوارع. تهرع بدون تعليمات من الحزب، تركض باضطراباتها الذهنية والتشكل المعرفي والقلق والخوف والرهبة. الإشاعات تقول إن عبد الكريم لم يزل يقاتل. وينك يا أبو حسين، وينك يا أبو راس الحار، كرومي * موجود في وزارة الدفاع مع ثلة من الجنود. الانقلابيون حول وزارة الدفاع برشاشاتهم وغدارات بور سعيد المصرية. الحزب الشيوعي يصرخ يطالب بحمل السلاح والتوجه لقتل المتآمرين، سحلهم، لكن الدبابات تهدر في الشوارع والشيوعيون يرجمونها بالقناني والحجارة وتفتض البيوت.
صرخات البعثيين والشيوعيين تملأ الشوارع و الشوارع مدماة، الجثث تتناثر مثل النجوم. يقول البعثيون إنها عروس الثورات. البعثيون الذين سحلهم الشيوعيون في الموصل وكركوك والنجف والبصرة والكاظم. الدماء لابد لها أن تولد الدماء، لابد أن تفتح الأفواه وتطلق زمجرة قوية، حشرجة، تأوهات، تضرعات، شلل ذهني - ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة - اسحلوا حتى الرمق الأخير، اسحلوا أي شيء حتى ولو كان السحل ذهنيا. تنطلق أصوات الشيوعيين في كل أرجاء العراق، تسمع الصوت بصداه، بتداعياته، بنخيره، بأنينه، بإضراباته، بماسوشيته البهيمية. الشيوعيون في الموصل عام ١٩٥٩ يدخلون البيوت، يدخلون على الأرامل، أرامل البعثيين وزوجاتهم ويقبضون على الاطفال ويقتلونهم ويرمون الجثث في براميل الازبال.
الدم غريب في تموجاته السادية، وينتهك الشيوعيون الاعراض وبعد ان يغتصبوا النساء في حيوانية العدم النهلستي والدراما الغيبية، يخرجون بافواه ملوثة بالدم والصديد والوهن والقتل وتقلصات الاعضاء الانسانية واستحالتها الى مليودراما متجانسة. ثم يسحلون النساء ويسمروهن بالمسامير على الاعمدة الخشبية، على الاشجار، على الحيطان ويبقرون البطون. هللويا لمهرجان السلام الممزوج بدكتاتورية البروليتاريا.
البعثيون الان في الشوارع، بمجنزرات ودبابات وحرس قومي، ينتقمون. دبابات ضخمة تقتحم كل شيء وتتقدم بسرعات عالية، سرعات جهنمية وتقتل المقاومين المبثوثيين في الازقة والدروب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كرومي : عبد الكريم قاسم.
وتشعر أمي بالبرد يقبض على المخيلة والخيبة تتأرجح متلاومة في الضياع الذهني وإضراباته التي تستحث المخيلة وتجعلها تلهث. الزمن يتحرك مثل ماكينة قديمة تعاود الحركة بعد دهور من النسيان الإنساني. الماكينات بحاجة إلى تزييت والبرد القابع في العظام والعيون المنهكة بفعل السفر تهزها بإضراب الذهن المرتعش والصور المستحثة استحثاثا متواصلا. تفكر بغير رغبة في كل الأزمنة والضياعات، تفكر باللحظة الدونية يوم سلموها قوائم بأسماء البعثيين وطلبوا منها أن تذهب إلى التحقيقات الجنائية وتسلم القوائم، وعندما رفضت هددوها بتهمة الانحرافية والطفولة اليسارية، وأعلنوا لها إنهم سيفضحونها هي. وقتها ضحكت للغباء القاتل، ضحكت وهي تتذكر يوم ألقي القبض على فهد العظيم الخالد. القي القبض عليه بسبب عاهرة. وشعرت باهتزاز الثوار، اهتزازهم الذي يريد أن يناضل حتى يتحول الواحد منهم إلى مخبر شرطة سرية. لكنها في النهاية وتحت الإكراه استسلمت لهم، استسلمت خوفا من أن تتهم بالبتي برجوازية وملايين ملايين التهم الجاهزة.
كانت تقشعر، يتنمل بدنها كله وهي تسلم القوائم إلى الشرطة والمخبرين السريين الذين غزوا روحها قبل أن يقتحموا الشوارع والحارات والبيوت ويتم اعتقال البعثيين فيما الرفيق سلام عادل - حسين الرضي البهبهاني - سكرتير الحزب يناور و يسكر ويغلق أبواب الغرف السرية في منزله والثورة الشيوعية الحمراء القادمة مع الرفيقة تماضر ومادلين مير والرفيقة بلقيس في الاهتزازات المتناغمة للكفل والزرور مع الكؤوس المترعة بالعرق المستكي السادة في أحضان الرفاق للترفية.
**
نصل اربيل الموحلة كما الحضارة، شوارع غائبة عن العالم والزمن و نشعر بنشافة ريق وأعصاب مشدودة. أمي تشعر باعتساف الطريق و أحاول مساعدتها وتوحلنا الطرقات ويوحلنا العالم بمطر الرجرجة، بزمهرير يجتحفنا بأوناش الأجزاء الحساسة من أجسامنا وانبثاق كمد العيون وكأننا مغيبون في الشوارع حيث يسير أكراد ببنادق حزب البعث.
تقول أمي : هل تعرف الطريق؟ أجفل كفرس وتكرر أمي السؤال واشعر بتقبض وجهي وانغلاق ذهني وأقول : إني، إني... وتهزني، تقبض على زندي و تقول في وجهي الناضب : أتشعر بالتيه؟ أتشعر بالتيه؟ ابتسم كمداً، اضحك، اضحك نتيجة قلوص روحي ونكولها ياالله !! مالذي يحدث لهذا العالم؟
نتوقف عن السير و نسأل صاحب عربة، وإذ يعرف إننا من بغداد ونبحث عن احدهم، تغمره السعادة وكأننا نستفز كرديته الجميلة وعفويتها و يأتينا بخبز وطاس من لبن الماعز وشاي وننحشر في ايكولوجيا الدماغ وهي تستحث لذة الشبع. بعد التهامنا الطعام واستكانة الشاي نودع ببهاء أخاذ ووداعة كبيرة وحسن مآب ونصل إلى العنوان الذي دلنا عليه صاحب المقهى. انه هو، هو، بيت الرفيق. تهزنا الأصوات المحمحمة في أذهاننا وعقلنا واشعر بخوف الهاجس وانبعاثاته العقلية. اشعر بارتعاش أصابعي وهي تطرق الباب وأمي متوجسة بفعل انهيارات الأيام واللغو الشيوعي وسيموطيقياته. بعد دقائق نسمع سحلا و ينفتح الباب. باب مثل أبواب الجحيم أو الرحمة ويبهرالشخص الواقف. نقول كلمة السر وتفتح الأفواه عن لغو الحاصل الذهني ولا افهم من هذا اللغو إلا الضياعات والتجمد في المطر والسلام واشياء لا افهمها. ندخل البيت مع حصيد الانغلاق، بوجوهنا، بإخفاقات أصابعنا وهي تلمس الحيطان المتباعدة والمحشورة آنيا في أدمغتنا فنشاهدها بعيدة، نائية، ومنفرجة بزوايا التذكارات الممزوجة مع الرؤية الحاضرة.
نحن وهو نسير متثاقلين، شاعرين بالكره الحاصل بسبب للقاء الأول على الباب. بين الاسكفة وزوايا البناء المائلة ندخل بهاجس التوجس ورائحة المنزل التي تذكرنا بالنسيان تتطاول، تتناءى، تقدم لنا إسهاماتها الدونية في جعلنا أكثر خوفا. تقول أمي، إنها خائفة، ويهرشنا القلق مثلما يأكل الدبيب الأبيض الخشب، منخورين، منزوعين من شيئياتنا. نصل إلى فسحة البيت والرفيق أمامنا محدودب الظهر ونجلس شاعرين بتآكل عظامنا ويحدق هو وجوهنا لحظات ثم يقول : هل انتم أكراد؟ ونقول له: لا عرب. ونشعر بردة فعل مباغتة تظهر على الأصابع. انظر إلى وجهه محاولا استقراء أي شيء، اية نأمة، اي تقلص، زاوية الفم، أرنبة الأنف، درجة ميلانها. وترمش عين أمي فجأة وعيني أيضا. اشعر بصمم يغلف وجوهنا، برد شنيع يتسلل إلى ظهورنا ملامسا العمود الفقري والكتفين والبرد يهبط، سريعا مثل ماء بارد.
ينهض الرفيق ويقول : كاكه، استريحوا أولا ثم نتكلم بعد ذلك. ويخرج و يتركنا نهبا منهوبا. وأقول لأمي اشعر بالاختناق وقوة جبارة تختطف السيرتونين من عقولنا فنشعر بالاكتئاب. أقول لها : إني خائف، هل انتبهتي الى نبرة الصوت؟ وتقول أمي لننتظر وأقول : ننتظر ماذا؟ مديرية الأمن، رجال بشراويل يقفزون على البيت ويعتقلوننا. وتقول أمي ثانية : لا مستحيل أنت تبالغ. وأقول : أمي أرجوك ألا تعرفين قراءة العيون والنظرات؟ ألا تعرفين سيموطيقيات الكلمات والمعرفة العقلية بتجاريح العيون والنظرة الخاصة؟ وتقول أمي : أنت تبالغ. واهتز معصوفا بالريح، الريح الهابة من كل الاتجاهات وقلبي شفيف جدا ويتحسس اقل الترددات. ربما لان أمي منهكة فتشعر بتبلدات الذهن لكن أنا لا. العاصفة تنثرني، الريح تتعقب اقدامي. وأقول لأمي : فلنخرج من هنا بسرعة أرجوك، أتوسلك، جفني يرمش سريعا.
الفصل السابع
نتقدم من أم وليد بمهابة السلطة و طبول، حلازين بدء الزمان من العدم التي تجللها و تنيرها، بالخوف المتناثر على العقول التي تتلبسها مقامات المتصوفة عندما يزحف المريد ملتمسا عطف مرشده.
نقف أمامها مستضعَفين، بائسين، ملتوتين بالبؤس كالكلاب في حضرة الوقت والجوع، أو نشعر إننا نتضاءل وإننا مواطنون من الدرجة العراقية، وتتحرك النسوة بين يديها مثل ملائكة الله عند بركة سلوام في أراضي بقشان ومدان ونخطو خلسة، خلسة فقط، بمناكب العارفين ونحن نشعر انه - إذا لاح علم الهداية للبصائر تطلبه اللطائف - نقف أمام أم وليد وهي تدخن النارجيلة وتنفث دخانها ناظرة إلى وجوهنا المزرقة. نحييها بتحية الإسلام فتضع الخرطوم جانبا، ببهاء أخاذ، بالصورة التي ظهر فيها لوسيفر إلى العالم وأمامنا، وننظر إلى الوراء حيث العشرات من الذين جاءوا أيضا لطلب وساطتها. تقول لنا المرأة القائمة على خدمتها : أوجزوا، تحدثوا بسرعة. ولا تتكلم أم وليد وتنظر مباشرة في عيوننا ونحاول عرض مشكلتنا في خلال الدقائق الممنوحة لنا، اهتزازنا الروحي يبعثر الكلمات على هاوية التوسل. أحس قبل أن أبدأ الحديث معها، بتفخج الأطراف وتيبس المذي وتمجمج العقل وانثيال الدموع وبان لوسيفر خذلني في الوقت غير مناسب للعالم وهو ينحو نحو جانحة الموت والذئاب تتراكض في دماغي. أنا الوحشي الذي قتل أبو طالب وطالب بثمن بخس، هو مضاجعة هند في بيت الملائكة المجنحة والعصافير الضاجة والوحوش المبتسمة والأسنان الساقطة.
أتكلم ومعي قريبي يلازمني مثل هارون أخي وأقول : حفظ الله روحك ووكل السلامة بك وافرغ الكرامة عليك وعصب كل خير بحالك وحشد كل نعمة في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة من أبناء الرجاء والأمل بعنايتك ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم ولا ثني طرفك عن الرقة لهم ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم، أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم *
وتضحك السيدة الملائكية الجالسة على يمين عرش الياقوت والزمرد وحجر الجمشيد والأرز والماهاجوني والسنط وبخور المقل أمامها وصورة الاله
ـــــــــــــــــــــــــــ
*كتاب الإمتاع والمؤانسة - لابي حيان التوحيدي ص١٠
المرتعش في اهتزازاته الجنسية فوقها و فوق رؤوسنا جميعا - السيد الرئيس ملك غابة الحيوانات - واحكي لها الحكاية من طق طق إلى السلام عليكم، واشعر لأول مرة بدموعي تهرب نحو الفلوات البرية وبيات الدادائيين والبحار المتوسطة وبحر النجف والقلزم وأنا أسير على الساحل بشخص الوقت وحبيبي قربي - لوسيفر- حيث النكهة البرية لسجائر سومر تحطمني وأتوسل الدموع النافرة وبيرة فريدة وشهرزاد وشراب تراوبي، وتقول أم وليد، بتمهل العاهرات الجميلات، بوحدة التطليق الحاصل لزوبعة تمر على وجهي باهتزازاتها الدينوسية والمعرفية، ابشر يا أخ العرب، ابشر فأنت الضائع وأنا الحلول، أنا البرية وأنت المطر ولامنفذ لتوسلاتك إلا بي. اترك لي رقم هاتفك لأتصل بك بعد أن أقوم بمحاولاتي، واشكرها وانحني مثلما اخرج من ضريح منحنيا ومتراجعا على المناكب.
يوصلني قريبي الى البيت و يرحل مثل حصان أعرج. ادخل بجلد ـ مكزبر ـ لأواجه اكتئابا و انحطاطا، القي بجثتي على السرير ناظرا إلى السقف و نازا عرقا مليئا بوابل من المطر وروائح العالم وروائح التدخين والبيرة الهزيلة التي تشبه بول البعير. وفيما أفكر في تهويمات قتلى وحروب وضياعات قادمة وانية، يرن الهاتف واسمع جدتي تنادي، انهض بسرعة صادما طاولة صغيرة ومتعثرا بأوراق ووسائد وأيقونات وأتناول الهاتف من يد جدتي.
تبتعد الجدة وهي تبربر واسمع من الطرف الآخر صوتاً نسائياً متقلب النبرات يقول بفحيح : أنا أم وليد، هل تستطيع أن تأتي الآن؟ وأقول لماذا؟ وتجيب : هناك شيء مهم. سأرسل لك السيارة. الصوت ينقطع، الصافرة الدالة على انتهاء المكالمة تثقب طبلة أذني. اشعر بانفلات أشياء داخلي، أشياء غير قادر على لمسها، لكنها عميقة، مهلوسة. اشعر بالهلوسة دائما عندما أتناول حبة الشيزفرينيا مع الباراسيتيمول وجرعات من الخ…... انظر من النافذة مثل خروف يساق إلى مذبحة، اشعر بالرعب يطوقني، انظر عبر النافذة إلى حياة مدانة، إلى عصافير قذرة، إلى طرائد بحرية وحيوانية. سمك جري يلتهمني، أسنان منشارية تقسم حياتي كلها. أتحرك خطوات و يتدفق البول من عضوي الحيواني. أنا ارتعش، مهيمن عليّ، يلزمني العباس، المقه، عشتر، الشرى، كل الآلهة العربية اللذيذة، خزاني يثقب، أنا محنط وشبه إنسان والبراز يسيح من مؤخرتي. اركض باتجاه المرحاض لكن كل شي انتهى. السيارة ستأتي بعد قليل، ياللضراط ! مسافة قصيرة بين بيتها حيث تسكن وحي اليرموك حيث اسكن. انظر إلى الساعة، المرحاض يتمدد طوليا، ارمي لباسي على الأرض. أصابعي ترتعش وهي تمسك الإبريق. صوت الماء نافرا، المس عضوي بلا مودة، بتقاطع مع الكونيات وهي تقذفني بعيدا باتجاه شواطئ عارية إلا من النسور، لكن لا نسور ولا قواقع ولا رمال، هناك حجر واحد، حجر كبير أنظره وهو يأتيني مندفعا من السماء السابعة، سريعا، متفوقا قرمزيا، تفوق سرعته سرعة القذف المنوي للسيد الرئيس والسيد الرئيس عندما كان نائبا. انظر إلى عقلي واكتشف فزعا أن لا بحار هناك ولا محيطات ولا حتى برك آسنة ولا انهر صغيرة مثل نهر - الخر - قرب رئاسة المخابرات العامة. واخرج من المرحاض مرتاضا، هزلا بعد أن تخلصت من كل شئ واتشمم ملابسي، عفونتي والعرق النازل من بين الأفخاذ وتاتي جدتي وتقول لي إن سيارة أمام البيت وانظر من فتحة عشوائية في الباب الخارجي وأحس بارتباك مشابه لارتباك ممارسة العادة السرية في المرحاض. أتلعثم وأسير مثل خواء الأيام الماقبل تاريخية عندما كنا نشرب البيرة بالقدح وبالقندرة بعد نزو السيد الرئيس علينا.. جدتي تنظر إلى وجهي بتحير، تنظر إلى هيأتي المتغيرة كل لحظة وتغيرات الألوان في وجهي والصخام والبيئة الحادة التي تزأر بصراخ وعويل، لكن العويل في ذهني خاص، عواء متوالي وصمت أيضا ولا تسألني كيف لأني انا أيضا لا اعرف. وافتح الباب الخارجي للبيت، في ظلام الأيام، في اسوداد قلبي والنظرة إلى الشارع المزرق والإسفلت الأسود وهو يلتهب بالأمنيات الضاجة في عقلي. أخطو كقرد افحج واقفز إلى المقعد الخلفي للسيارة المرسيدس وبعد دقائق من التناهب في الشوارع وظلال الستارة السوداء يغمرني بأهمية مطلقة، انظر إلى البشر والسيارة المحاذية نظرة استهزاء وعلو وقدرة عجيبة على إذلال الجميع، وأعجب للشعور المخيف التي تلقيه السلطة على الواحد فتجعله يشعر بالارتفاع عن الغوغاء والعامة وقدرة جهنمية تتولد فيك من اجل سحق الجميع. شعرت بكل شيءدفعة واحدة، رغبة في البصق على الجميع دون أن تتولد للآخر القدرة على رد البصق، وتولد في داخلي شعور آخر، هو إني قادر على سحق الجميع بقدمي، بحذائي، بكالتي، بطكاكيتي، بنعالي، وانتبه وإذا أنا فعلا بنعال أبو الإصبع ورائحة المرحاض تفوح مني وأعجب !! إذا كان جلوسي فقط في سيارة رئاسية يولّد فيّ شعور العظمة فكيف إذا كنت عريفا في القصر الجمهوري أو كنت من أهل العوجة؟ وفجأة تستدير السيارة وتدخل إلى شارع الأميرات وأشاهد نفسي أمام أم وليد، أمام منزلها والهاشمي الذي ترتديه يظهر كل مفاتن النساء على أنظار الرجال الملعونين مثلي.
المثير أنني وأنا في حومة الهزء من روحي ينتعض عضوي كحمار و أشاهد لحما ترفا، مرفها، ابيض واسمر، والمح المنطقة التي تتلاقى فيها الذراع مع الصدر وأحاول بالهام غريب أن اكتشف أنبتات الشعر والزغب الأسود في الأبط. وتقول لي أم وليد بعد أن نسير في ممر البيت - القصر - ونصل غرفة الجلوس المليئة بتحفيات من محل بكزاد في المنصور ومزاد الصباغ في ساحة الأندلس، اجلس. وبعار الشناعات التي تضربني اجلس إلى أريكة من تصاميم قصر فرساي، وتدعوني إلى شرب فنجان قهوة عربية واجلس على حافة الأريكة ولا اقدر أن اتكئ أو أن ادع قفاي يلامس ظهر الأريكة، اذ كنت مهزوما باللوعة وبنعالي أبو الإصبع وبشعور اني مواطن عراقي وفجأة أجد نفسي في بيت السلطة، في بيت المواطن العراقي من الدرجة الأولى. انغمر مع شذى البخور و لوحات فائق حسن وبقية الرواد واغرق في منحنيات أم وليد وملمس الجلد الباهر والمعطر والمبخر ويلامسني شعور إني في خيمة سجاح واللبان يشتعل والقرابين تقدم والمحرقات تحرق وأم وليد بجلال الحالم الأبدي تقترب مني ولا تجعل بيني وبينها إلا مسافة الارتعاش الخصوي وتقول لي : هل تذكرتني؟ واشعر بالصهيل والتلعثم وأدرج مثل أعمى في بيت مظلم ولا ضوء هناك، لاضوء إلا ضوء اللحم الذي تفوح منه رائحة الموسيقى وعطور شتى، القليل منها معلوم والكثير منها مجهول، والمجهول أقسى وأمر واتيه تيهان بعير في أطراف اليمامة ونجد والحجاز واليمن. وأقول لها : لا. اليس بيتك في البياع؟ وتبتسم مثل نعجة كبيرة، نعجة تعرف إن الذكر الحيواني سوف يصهل في وديان عميقة ولا صوت إلا صوت النبوءة الحادة والاراغن والتراتيل واقتسام الخبز والصلاة على النبي. تقول : هذا بيتي و ذاك بيت نسائي، قل لي كيف لم تتذكرني؟ ثم تقول أيضا : الم تكن في كلية الهندسة؟ ألا تعرف الدكتور منذر الآلوسي والدكتور مازن بكر عادل والدكتور التكمجي والمقرر صلاح الأسود؟
وأتلعثم وعيني تدور في دوائر متباعدة المركز ثم تنحصر هذه الدوائر في رأسي. وتقول : ماذا الآن، ماذا أيها الراكون الأسود والدعلج الأشهب، أين أيامك، أين أغانيك؟ وأنت تحمل الكتب ورواية الأبله وبيت الاموات لديستوفسكي، مثل مخبول وتجلس في زاوية النادي وبيدك دائما استكانة شاي وتنظر إلى طالبات قسم المدرسين الصناعيين محاولا الحصول على لقطة سريعة لعري فخذ أو شيء من هذا القبيل، ثم تضرب المحاضرات وتتغيب، واجدك دائما في مقهى البرازيلي، في شارع الرشيد تعاني من آثار اللطم والخيبة ومطاردات الـ …. لك. بالمناسبة ماهي أخبار حبيبتك أمية؟
و اشعر بعجف عضلاتي و انعجان عضلات وجهي وبدلا من التقلصات التي ترين عليّ، أرى إني في مكان امن نسبيا وابتسم ابتسامة الدعلج، ابتسامة وكأنها مسحوبة بصعوبة من وسط ركام هائل من صفائح الحديد الصدئ، ومع ابتسامة ورقة تقدم لي سيجارة سومر تصدير وأدخن بارتخاء وارجع قفاى الكلب إلى الخلف وأتذكر وجهها بين الركام واقفز سريعا ناهضا والسيجارة بين أصابعي والرماد يتساقط على السجاد وافركه بقدمي وريثما أمرده بالحذاء يتكون رماد آخر ورأسي يتجه إلى الأسفل في طأطأة وخذلان عارم. وتقول لي أم وليد بتأفف : اترك هذا أرجوك وأقول لها : لا، لا.
تذكرت !! انت خلود، خلود، كيف نسيتك. لكنك تغيرت كثيرا. خلود في قسم الهندسة ال..... و أتخلص من هوس سحق الرماد على السجادة. السنين مصيبة كونية، نكحونا يا حبي. الزمن كائن حيواني يرسمنا بتراسيم الوضاعة الجليلة، لكنك تغيرت كثيرا، ياللضراط !! ياللجحيم !! ياللهباء !! وتبتسم وأدخن بشراهة والدخان ينخرني، يخرقني، يبتلعني، الدخان هائل، انفثه مثل ديناصور، مثل تنين صيني كبير يسكن المستنقعات الوحشية والقصب والبردي والسومريون والصابئة ينامون على أوراق الغابات والمياه والمشاحيف *. كنت مشحوفا هائلا يتكوم فيه البهاء الأسطوري لفلسفة المياه والدخان والمغارات الاستوائية في جبال عارمة الوحشة. أقول لها : هل لي بسيجارة أخرى وتنظر إلى وجهي بتأمل جميل وباسترخاء تقول : كل السجائر لك حبي، ماظهر منها ومابطن وأضحك كفأرة.
آه أمية، النساء كالقطط هاربات دائما، و احني رأسي مفكراً، ناظراً إلى التواء دخان السيجارة. ياله من زمن !! ادردم، زمن بعيد ينهمر إلى العيون. ارفع رأسي هاربا وانظر إلى أم وليد. انظر مهووسا إلى جسدها اللاهب والى السمرة المخيفة والضاجة مثل ملايين العصافير، انظر إلى كفها المقدسة قداسة سجاح وأصابع قدميها بسمرتها ودينونتها وطلائها تندفع في نعال أبو الأصبع. والنعال يقسم أصابعها مثل متوحش يقرأ كتابه المقدس في حضرة الجن والتوابع ورئيس الملائكة والقديسين، نعالك خلود فن قروسطي يتمايل بضغوطاته القدمية وأقيس عنفوان الجسد من وزنه، اقيس انضغاطاته الواهنة واللينة واعبر بحر القلزم وخليج البصرة وهور الحمار و العمية وسربيل زهاب والمحمرة والجن يتبعني ليرميني بسهامه. اصرخ في ظلمة قاسية واقبل النعال وربلة الساق من تراتيل وترانيم هاربة في الفلوات. وتقول لي : معقول إني تغيرت كل هذا القدر؟ واقسم ببعلزبول إن التغيير كان كبيرا.
تقول : إنه الزمن الكلب. وأقول : هذا هو الذي منعني من التعرف إليك. وانظر إلى اللحم -الني- انظر واشعر فجأة بانتصابات مزعجة وأحاول أن أضع يدي في جيب البنطلون واكتشف وأنا اعبث معه إن جيبي مثقوب وان كل الخردة التي كانت في جيبي تسربت. وتقول لي : هل تتذكر خضير الطويل؟ وأقول لها : وكيف يستطيع الواحد أن ينسى -زمالا- مثله وتسألني ثانية عن أمية. أقول لها بعد استرخاء وشرب فنجان القهوة : كل شئ انتهى، انتهى وتركتني بعد معرفتها باعتقال أمي. أصابتني وقتها كآبة حادة وانتقلت إلى الأوج الأعلى حيث الشيزوفرينيا والبهتان والهستيريا والكمود. تنظر خلود إلى وجهي ثم إلى الساعة الموجودة على الحائط، وانهض شاعرا بالحرج، وأقول كاذبا، عليِّ الانصراف، لأن لدي موعداً. وتقول لم تتغير أيها الدعلج الباهر والمنقار الشاهر. السائق سيوصلك. خذ سيجارة أخرى من العلبة وأقول : لا، أريد أن امشي، وتمس بأصابعها وجهي الخطل، المشوه، الناحل، البرقوقي العفن. ياللتماهيات يا خلود!!، ياللتضرعات وأنت في الغسق الأعلى حيث الناموس واللاهوت وايليا يودعك بقراءاته والنمرود في القفص والحلكة والنار تشتعل في الأجساد الحيوانية. ليكن قلبك عارما و لايعوز رأسك الدهن وثيابك بيضاء مثل زهرة القرنفل الأبيض. وتميل برقبتها قليلا، وألاحظ ازرقاقا خفيفا عل جلدها، قريبا من شحمة الأذن وأسفل التقوقع الأذني. اخرج من البيت متعثرا و تلحقني هي إلى الباب الخارجي، متعثرة بالهاشمي والخلاخل ورنين الذهب والعقيق والزمرد والجمشيت والبهاء ورائحة الآباط والزنود وبدايات انبثاق الشعر المحلوق وخشب الصندل وخشب الأرز وجامات الملكوت السماوي في الأفق تترى وصورة صدام على الهاشمي عند الكتف الأيسر من الأعلى قريبا من الرقبة والحافات الملهمة للتابعين والمتبوعين، و أودعها باللهيب، بالسكيب الروحي، بالناسوت، ببيانو يعزف اللحن الاخير، الشبقي، بالتضرعات والتوسلات وتقبيل الأيادي ولثم الأصابع وانزياح الفكرة وتبرعم الاكتئاب وامساكه ببلعومك وزردومك وناصيتك وأصابعك ووجهك ويتقلص كل شيء فيك عضوك وشفتك وعينك واستك، وروحك تغدو مثل ذبابة حبيسة قنينة زجاجية. وأخطو الى الباب، الى الانحناءات الطولية لبوابة ملوكية صنعة مهرة وعمال جاويين وبخور ملطخ بالبواعث الإنسانية.
تُغلق البوابة ومع الغلق اشعر إني خرجت من عالم وأقحمت آخر.
***
أصل البيت واجد ميري سكرانا و متكأً على رنك شاحنة صغير يستقر عليه حٍبّ * ماء. يا ابناء القحبة !! من هنا؟ يا مرحبا، يامرحبا بالفلسفة التي تمشي بعرج في أنحاء العالم الهوسي، هللويا ميري أيها المسكين، السحلية، المتبوع باللعنات، المتبوع بهواجس الكتابة النايدرتالية أو الشنتوية. لمن تكتب أيها العزيز؟ تكتب لأهل العوجة؟ أهل العوجة الذين رموك بكل هذا السفلس والجوع والعري لأن كلاب العواء وباقي العصابة الثقافية للحزب الثوري العلماني جدا، الديني جدا، النهلستي جدا، العضوي والتحليلي جدا، رموك من علية منارة، رموك من شاهق، إلى بحر التنوير المعرفي واكتشفت هناك، حيث القواقع البحرية والضفادع و الباجات والكوارع والكرشات وتشريب لحم وجاجيك، انك عبارة عن تائه مع هذا الإخطبوط الهائل وانك تستعد للانتحار مع البسطرمة لكن ليس اليوم أرجوك ميري، أنا متعب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
حِبَ: وعاء فخاري لحفظ الماء وتنقيته وكان شائع الاستخدام في العراق.
ارفع ميري عن الأرض بالقوة الشيطانية للعضلات المخدرة والمهزوزة في سخافة الزمن الدنيْ، وأضعه إلى طاولة صغيرة في الغرفة وأدفع إليه عشرات الأوراق ليكتب، ويكتب، يفيض، يتقيأ، عن نيتشه ومرسيدس زوجة غابريل غارسيا ماركيز وأحلام منصور والمقدسة لطفية الدليمي. ويسوِّد قصاصات صغيرة عن التكوين الروحي للملائكة عندما تضيع في أرجاء العالم. انه مهووس بالنكايات والالتياع، بالنستلوجيا والاست لوجيا، ونظريات المعرفة. عيناه محمرتان، فمه قرمزي، وجهه ينتفخ باللعنات ومع كل الانتفاخ المرضي بسبب العرق الزحلاوي واضطهاد الاخوة الاعداء في اتحاد الادباء، يظل وجهه شبيها ببوز حصان. دائما كنت اشك إن في ميري عرق غريب، حصاني، عكركي، ماسوشي، وضعي، تأويلي. و اشعر بالشفقة عليه، بالجنون، اشعر بالاهتزاز الطوباوي معه وبأننا على وتيرة واحدة من اللامعنى والضياع في هذا الوطن الذي سيخرب. لكنه ليس ضائعا، انه مفكر كبير، حالم، عبقرية جنونية. الوحيد في العراق الذي حلل أصل العائلة المالكة واثبت بالدليل القاطع إنهم ليسوا كائنات ميثولوجية وان في أحاديثهم مورفولوجيا، ذوبان عراقي، عمبة وصمون بدون فلافل مصرية، ليس أكثر. ميري، يجلس على ارض الغرفة، يكتب بشغف شديد عن انحطاط الثقافة العراقية الصدامية وقيم الحيونة التي بدأت تنتشر في مجتمعنا العراقي.
انه يرتفع، يستنكف غائطهم الحشوي - في انسلاخ قطرة المخلص الرادودي - (عوجيين و بعثيين ) وغائط قرب حائط وذباب واتحاد حميد وعبد الأمير وعبد الثاني ولؤي تاليا، وباقي رزمة اللطامة في دار الشؤون الثقافية ووزراة الثقافة ووزارة الحيوان ومكتب الثقافة القومية ومكتب الاعلام المركزي ومكتب الثقافة في رئاسة المخابرات والمكتب الثقافي لرئاسة الجمهورية. واشعر بالشفقة - ميري - الإنساني بلا عرق كفاية في بارات بغداد الرخيصة ومحلات الدودكية في شارع الرشيد قرب سينما الشعب والسندباد وخلف سينما النصر. ميري ستقتلك الفئة الباغية. يارب، كم شِمر في حياتنا؟ كم بعثي وشيوعي في أحلامنا؟ اشعر بالانتهاب الروحي واللذة الناقصة كون ميري يكتب بالقلم وليس على آلة طابعة مثل عبد الستار ناصر. مساكين في زمن التكارته والعوجيين حيث الحيوانات التوراتية تعمل على محاصرتنا في زمن خيبة كبير، كبير جدا إلى الدرجة التي لا نستطيع فيها إلا التقيؤ على ملابسنا. واشعر بشهوة غريبة، شهوة ان آكل العمبة والصمون اليوم، العمبة عندما تسيح على قمع الصمونة وتبلل الأصابع وحتى عندما تغسل يدك وتفركها بصابون جمال أو صحة أو عطور الف مرة فأن الرائحة لاتزول. تبقى، مثل غمامة افتراضية، مثل شيء سري، عمبة من النوع التوراتي، عمبة مخيفة حتى رائحة ملابسنا وفمنا وأصابعنا تمتلئ بها.و نلوص لوصا في التكوين الغريب لهذا لسائل الاصفر اللزج المكون من البهارات والشريس والماء. لكن التكارته قضوا على العمبة، اذ استبدلوا اكلتنا الرائعة بالفلافل القومية التي غزتنا من مصر. لكن ليس الفلسطينيين. الفلسطينيون مساكين مثلنا، اوباش، ضحية. إنهم مهووسون بالحمص والفتة. الفلافل خطرة جدا، ما إن تدخل بلد حتى تغزوه الأمراض والفقر، هذا ماحدث مع اللبنانيين والفلسطينيين والمصريين والآن نحن يا منا.... !!
هل من مكان ياميري في عالمك للصمون الحجري والعمبة وعرباتها الملونة أمام المدارس مثل عرس هندي؟ هل تتذكر، أرجوك تذكر، إننا نخرج من المدرسة عارمين، مهلوسين نتراكض مثل حيوانات ضالة يضرب بعضنا البعض بالحقائب وجزء عمّ وتبارك في الحقيبة والجلاليق، ومثل جرذان صغيرة يصعد بعضها على بعض، حشرات مموهة، نسانيس من غابة مجهولة، أفاع طويلة و نتجمع صارخين في النهاية حول العربات وبلا ذباب، لان الذباب يهرب من صراخنا وفوضانا وجلاليقنا.
ياله من زمن غريب عجيب!! زمن مائي، ميثالوجي. هذه العمبة بالصمون مسؤولة عن العباقرة الذين ولدهم العراق من رحمه، من ذاته، من رحم غريب مكون من خلطة فكرية عجيبة ومخيفة، خلطة ديناميتية تتكون من فلسفة المعدان، أبناء قبيلة معد العربية حسبما يقول جواد علي مضافا لها الشروكية والأكراد وأهل عانة والانبار وراوة والموصل واليزيديين وأكراد خانقين والسريان والاثوريين وبني لام والدليم والاراميين والكلدان. وهكذا تلاحظ إننا شعب غريب عجيب مكون من ملايين التفاهات والاضطرابات وأمراض العصاب النفسي والقومي والديني، و كل واحد له فلسفة هندية خاصة به وله رب وبقر وآلهة تصيب فرجك بالسفلس والبثور، أضف إلى هذا الركام المعرفي، الشيوعيين بمختلف تصنيفاتهم الخرائية والبعثيين من أتباع القيادة القومية السورية وأتباع القيادة القومية العراقية وميشيل عفلق وبعض اليهود والعلي إلهية وعشرات غيرهم في هذا الوطن الجميل والخرب والعجوز. ويجب أن تنتبه إلى إن في الوطن حزب آخر، حزب خفي هو حزب اللوطية والكيولية ورجال ال......... والدودكية والفروخ والمغنيين والراقصات والمتمايلات.
كم كنت أتمنى لو إننا مثل ألمانيا -شعبا واحدا - أو مثل البريطانيين على اقل تقدير، فقط اسكتلنديين وانكليز وويلزيين وايرلنديين وليس مثل هذه التفاهة. لكن الشيء المذهل فعلا أن الجميع يشترك في كونه عضوا في الحزب والأمن والمخابرات والجميع يمتلك القدرة على سحقك وقمعك وسلبك.
هنا في العراق، في زمن الحيوانات الطائرة والمهيمنة على كل حياتك. بوليس سري، قواويد ونكرات، استدعاءات مجنونة، تحقيقات، طلب معلومات أينما تذهب في العراق العظيم يطلب من المنظمات الحزبية اكتشافك وإعداد تقرير عنك وعن كل حياتك وان كانت زوجتك قحبة أم لا، محجبة أم لا، تذهب إلى الجامع أم لا. عندما تسير في هذا الوطن تحس دائما بالأهانة، كل شيء يهينك بمن فيهم الشرطي ورجل الإطفاء وبائع الباذنجان المقلي امام القصر الجمهوري وسائق الباص والكوستر ورجل النقابة والعريف في الأمن والجايجي في رئاسة المخابرات والعضوفي الحزب وعامل التنظيف في مقر القيادة القومية. نحن شعب يحب أن يشعر بالقوة ويحب أن يمارس نازيته على اصغر المخلوقات في العالم، بشرط ان لايكون هذا الصغير من أهل العوجة. مسكين ميري وانا ايضا.
الساعة الآن العاشرة إلا ربع مساءا. ميري يبكي بعد كتابة مسودة كبيرة، يعمل الآن على مشروع كتاب جديد، ينهمك في العمل بشكل جنوني، يريد تشريح المجتمع وادب خير الله طلفاح و الأدب الروائي وتأثير عبد الأمير معلة فيه عبر روايته العظيمة (الايام الطويلة).
العاشرة والنصف، ليل تراجيدي. انظر من النافذة إلى روح العالم البشع، العالم الضيق. اشعر بالارتكاس والنزعات الدونية تطاردني، اشعر بالانتهاب والتيهان وميري يحتسي آخر قدح عرق ويكتب بروح نيتشه، و فون شتات واسبينوزا و فوكو وبقية نكرات العالم. لكنه لايكتب بروح حميد سعيد والجاحظ ولا ابن عربي ولا الزجاجي ولا الحلاج. كلهم نكرات، أريد أن أتقيأ عليهم على انفراد، خاصة عندما اكتشف أن ابن عربي كان يسرق فلسفته من ابن ميمون وان كل الإخباريين العرب كان يلصقون ويضيفون من عندياتهم وان التاريخ العربي ليس إلا كذبة كبيرة وتزوير ومضحكة.
أعجب للتساؤل الملفت للنظر وهو لمَ هذا التزوير المخيف في تاريخنا؟ يجب أن اعترف، أن اعترف مرة واحدة أمام التاريخ، أمام كل العاهرات في العالم، يجب أن أقول كلمتي الأخيرة قبل أن اجلس على حافة جسر الشهداء وأتقيأ على هذا العالم، أتقيأ على بغداد والانبار والبصرة والموصل والعوجة واربيل. أتقيأ على كل الخراب في هذا الوطن وهو يصعد بروح العسكرتاريا والهمجية والبداوة التي حذرنا منها علي الوردي. جحيم من العادات البدوية والجمال والاباعر والحمير والهوايش تنطلق في وطني. يجب أن اعترف الآن، أن أقول كلمتي دفعة واحدة وليذهب العالم إلى الجحيم. ميري هو فوكو العراق. اعتقلوه عندما أراد أن يهرب من الوطن، لكنه رغم الرجات الكهربائية التي سلطوها على دماغه بقي يكتب، انه يرعبهم بكتابته، يشرّحهم مثل صرصار إلى مليون شريحة.
العاشرة والنصف وعشر دقائق إضافية من اجل الموتى. لاشئ يعكر صفاء هذه الليلة الغريبة غير عواء، ميري وأنا، عندما قبلت وجه المسيح القبلة الاخيرة، لم ازل اتذكرها بوهن ودهشة وعدم تصديق وكأنما الذي حصل كان في عالم الرؤيا والغيبة.
أتمدد على السرير وما إن أفكر مرة أخرى بأمي والمجهول، وما اذا لم تستطع خلود العثور عليها، حتى يجثم عليّ إحساس الموت. اشعر بالاختناق واكتئاب مابعد مرحلة التقيؤ بسبب العرق المغشوش. تدخل جدتي الغرفة متثاقلة وتقول لي بتلعثم : كوم* سيارة با الباب ! ياللعنة !! اقفز بملابس مدعوكة وسيجارة ترتعش بين اصابعي
ـــــــــــــ
* كوم : قم
وأشاهد نصف وجه سائق أم وليد، ضوء الشارع الوحيد والأصفر يلقي هالة من الرعب. كنت لا أشاهد وجها، بل سفينة كبيرة آيلة إلى الانحطاط السفلسي. وأعجب في الحال ان كيف واتتني فكرة إن الضوء الأصفر والعامود الغبي يوجـّج فيّ كل هذه العذابات المخيفة من أن أكون أنا نفسي ليس ذاتا، إنما فراغات تدخل فيه عاصفة من التناقضات المهيمنة.
وفيما أنا افكر بملايين الأشياء، مثل العقل الكلي، يتقدم السائق ويقول : الأستاذة أم وليد تريدك الآن حتما. أقول بزئبق يؤشر درجة حرارتي إلى المليون وبكثير من المودة وجاجيك* على قميصي. وبنطلوني ليس مزررا وأعاني من فكرة أن الجحيم ليس إلا عبور الضوء الأصفر في ليلة غرائبية ميتة، وأصوات مواء تنبعث من الخرابة القريبة من المنزل حيث نكب الازبال، نحن و الجيران، وهذه الازبال أول الأشياء التي احلم بها كل يوم بعد العاشرة والنصف مساءا - كحالة مرضية - عندما يحرق احدهم الزبل وتفوح الروائح والضباب وحسب ازبال بيت أم عدنان ونوعيتها يكون الدخان , فإذا كانت ام عدنان قد رمت خرق الدورة الشهرية يكون الدخان رصاصيا وإذا كان بنطلون
ــــــــــــــــــــــــــــ
* جاجيك : مزة عراقية مكونة من اللبن والثوم الخيار.
الأب ببقع الغائط لان ليس له القدرة على ضبط أعصابه ريثما يصل المرحاض، يكون الدخان اسودا ورائحته غريبة يمكن أن تتنفسها وكأنها قنبلة كيمياوية.
وانظر في وجه السائق مبهوتا وأقول بلسان ذلق : ألا يمكن تأجيل الامر الى الصباح ويقول لي بلكنة تكريتية مزيفة. لا، الآن. الضوء الأصفر يحيطني واشعر إني في غرفة الإعدامات واترك ميري يعاني من تعتعات السكر واللعبان نفس وصرصار احمر يسير ملاصقا لساقه وأوراق المسودات حوله واصعد المرسيدس ببله. وفي الاعلى سماء من الخارصين وفي الاسفل زنك. وكما في أحلام بوليود و في مدينة الألعاب القريبة من مدينة الثورة، تتدافع أمام لعبة الطير المهاجر واذا بغلام يحاول العبث بمؤخرتك وعندما تشعر انك بحاجة للذهاب إلى الحمام تفاجأ به مملوء بالذباب الأزيزي الازرق والطنين والبعوض وأحدهم عملها أمام البوابة وعليك أن تقفز لتصل إلى الطهارة، هناك حيث صرير الأسنان. ويا للمتعة الجهنمية !! وأنت مصاب بالشيزفرينيا وببعض الاكتئاب الارتكاسي وتحس بحلقك مغلقا وأسنانك تضغط بقوة وأنت مفلس والديون تطاردك مثل حيوان تائه في قطاع خمسين *. لكن الشيزفرينيا لاتمنعك من تأمل كل شئ، من تأمل الخفقات الهاربة من قلبك ومن أضواء الشوارع الباهتة والصفراء ووجهك يتقلب كل لحظة، بل كل جزء ذري منه بين تقلبات الوجع
ـــــــــ
* قطاع خمسين : منطقة سكنية في مدينة الثورة في العراق.
والإرهاص المعرفي والحيواني. وتشعر انك تريد أن تقفز من نافذة السيارة، أن تصرخ عاليا بين الجموع البشرية وهي تتعارك وتتدافع أمام الأسواق المركزية بعد أن حولوا اسمها من الأورزدي باك الذي كان من أرقى المحلات في بغداد، حاله حال المقص الذهبي وعالم الأطفال في شارع النهر ومحلات هيب هوب. لكن كل شيء انتهى وتم تغيير الاسم إلى الأسواق المركزية وتتدافع الجموع وتتدافع الاضطرابات الذهنية وتسحقك بأقدامها مثل القطعان الوحشية وتدوسك وتكون في النهاية مثل غائط مداس بآلاف الأقدام. لكن لايهم يا حبيبي، لايهمك، المهم انك موجود هنا، هناك، في كل مكان كما القائد الضرورة، بلا مركز ولا محيط. إنها فكرة مجنونة، فكرة معربدة في محيط من المسامير والإبر الواخزة وأنت ممدد، جالس في سيارة المرسيدس في تناغم صفر الوجوه وظلام الليل. وأفكر بعتو شديد، مثل قط وحشي، مثل حمر أهلية، مثل ضب يؤكل أمام خالد بن الوليد، مثل فراشة اندينوسية تميل إلى الاحتراق في النار. أنا النار وأنت الظلمة، وأنا النهار وأنت البريق المتوهج والمتفجر من غيمة ماطرة، لكن العربدة الروحية هنا، هناك في كل مكان. مثل صوت اسرافيل يشرق في باران ويتلألا في تيماء ويأتي من القدس وليس من الصحراء. تجده في العاصفة والهواء والليل والدهشة وتتذكر انك في السيارة بلا حذاء ولا نعال ولا كالة ولا طكاكية ولا شحاطة ولا قبقاب ولا جوارب، وياللمتعة المتوهجة والمتولدة لمساقات الفلسفة !!! عندما تنحني أمام تفاهة واحد من أهل العوجة وهم في سياراتهم، فوق مطاياهم - سيارة المرسيدس - التي هي عصارة الهندسة الألمانية والأساطير الجرمانية وقبائل الانجلو سكسون والهون والسلتيين والبراري المثلجة والصقيع البارد وهتلر والغابات الداكنة والضوء النازف من قمم جبال بعيدة عن جبال البرنس وبيرة بافاريا وعصارة كرمة نهر الراين وحواف جبال الألب وعقل ديملر وباير وكل العباقرة الأرقى في هذا العالم. تتلفع تكنولوجيتهم بعباءة إعرابي منفلت في رائحة المخافير. نكايات وأزمنة مرعبة وأنت في السيارة التي تسير بسرعتها الجهنمية وتتذكر وجوه الناس والبشر المحتشدين أمام محلات بيع البطاطا والطماطم والبيض والدجاج البرازيلي وايس كريم الخاصكي والرواد. في متاهات الوجع المكتوم وأنت تقف في طابور يوصف بالملايين والأنفس والأرواح تتوسل البائع أن يبيعك ولو أكثر قليلا من الآخرين، علبة إضافية من قيمر المصلحة، لخاطر الله، الله ويدك أبو الغيرة دخيلك ياعلي الشرجي، دخيلك ياداحي الباب، دخيلك ياسبع الدجيل، دخيلك يا عزير، دخيلك ياسيد مالك، وفي النهاية دخيلك يا (أبو عدي) ويهجم الرعاع على شباك البائع في فوضى الزمن الغريب والهمجي والانثيالات والدموع وتداخل الأجساد المتشاطئة المتعبة والمنهكة والمأزومة باللوعة والارتكاض المرير بين الدكاكين للبحث عن البيض، بيض أيها السادة المسكونين باللؤم والتفاهة المضطربة لحياتنا المأزومة والمنتفخة وألعاب جهنمية تمارسها السلطة عليك وتتراكض في الشوارع والأزقة والدروب موحلة بلا مطر، بلا غيمة واحدة تروي الضمأ ويكتب الكُتاب حكايات الرئيس والرئيس عندما كان نائبا وينفلت رجال البعث في الشوارع ومعهم حميد وعبد الأمير في الأزقة، في العقول في البراري في الزواريب في الصحراء في......... وهم يحملون أوراق الكسب الحزبي و أبو طبر يلوح بسيوفه وخناجره والدولة مقلوبة، بالضباع المتأسية، بالألعاب البهلوانية ومدينة العاب سمقة والالام ومدينة كبيرة مثل بغداد تئن موجوعة بالتراكمات الذهنية والمعاقين نفسيا، بيض أيها السادة. سوف أموت لو لم آكل بيضا، بيض وقيمر وزبد
ـــــــــــــــــ
المصلحة وتبحث في الأسواق السوداء والحمراء والخضراء وتشتري القيمر والبيض بأسعار مرتفعة وشنيعة من بائعات ضخمات قادمات من الثورة بملابس سوداء يفترشن الأرض. وعندما تقف أمام وكيل الألبان لشراء البيض أو القيمر يفرض عليك أن تشتري كتب خير الله طلفاح - خال الرئيس - بعرور شفيف أيها السادة، غائط يلوث حياتك وأنت تشاهد العاهرات والقحاب والفروخ القادمين من الفيلبين يجولون في ارض الله. الأرض التي أنجبت البعثيين والشيوعيين والمعممين ورجال الإطفاء والحريق وعرفاء الشرطة والجيش وعرفاء الأمن العام والخاص والمخابرات وبيت أبو زينب قرب باب الحوايج وبيت أبو عبدو قرب مرقد أبو حنيفة وهكذا عزيزي، كلهم أبو وأبو. وطهارة وقتل وسحل وإجرام وعواء في شارع الرشيد وبصقات كبيرة وعراقيين يزحفون مثل الدود باتجاه النهر والنهر يلتهمهم وبيت أبو ريحة مغلقة أبوابه والعاصفة تنام عند الأرجل السحرية لـ … وكل المناويك في العالم. وترتعش عندما يدخل بيتك بعثي وتنسى في اضطرابك أن تعلق صور السيد الرئيس والسيد الرئيس عندما كان نائبا، و وتصاب بالجالي وبحبة بغداد والبواسير والفالج، وعندما يغادر الرفيق الحزبي البيت - بيتك - تصاب بالقولنج والسفرجل مثل لونك والبهاء مثل عقلك وأنت تقرفص في زواية البيت وترتعش وتفكر با الذي سيفعلونه بك لأنهم لم يجدوا صورة الرئيس ولا صورته عندما كان نائبا ولاعندما زار الاهوار ولا عندما كانت حلا جالسة في حضنه وهو يرتدي ساعة رولكس وتفكر في الفرقة الحزبية * عندما يتم استدعاؤك إلى هناك، بين البنادق والرصاص والرفاق في الجيش الشعبي والرفاق في المخابرات و الجهاز الخاص بالرئيس وتجلس في الزاوية مكلوما، متقلصا لكن بلا ضراط، مجرد فساء بائس ينسل باهتا مثل اليانسون وفمك جاف وأصابعك تتقلص وامعاءك، ياللعنة ! تتحرك بشكل دودي وتتمدد وتطول وتبلغ كل أنحاء العالم ومثل النبتة المتسلقة يكون عقلك وأنت تتوسل الله وكل الآلهة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرقة الحزبية : مقر حزب البعث في كل منطقة سكنية في العراق.
وبغداد وحواري البتاوين عام 1959، أن يشفع لك الله عند القيادة السياسية وقيادة الحزب والثورة وفي أفضل الأحوال تلقى تأنيبا لعدم وجود الصورة وتقسم لهم بكل الأسماء التي تحفظها من احمد بن حنبل والشافعي وابن ميمون والزجاجي وخضر الياس والعباس وعبد القادر الكيلاني وديك الجن …غير عالم بالخراب الروحي الذي يدمرك وكل ماعليك فعله هو أن تذهب قرب ساحة الرصافي، قريبا من الحيدر خانة وتجد هناك بعد توغل في الدروب والطرقات والدرابين المعوجة والملتوية مثل حية، حائطا وتجلس هناك وتتغوط وتبول أيضا، ولا أريد أن اشرح لك كل شيء لان السماء سوف تلعنني كوني لست بعثيا ولا شيوعيا ولا رجل دين ولا غبيا، إنما مجرد إنسان يريد لوطنه أن يعيش كأحلى وطن ولا يطلب أيضا إلا أن يتركوه وحيدا في هذا العالم ومع هذا الوطن المجنون والمخبول، نتراكض سوية في مروج الذهب الجنوبية والهضاب الرمادية والجبال البازلتية، وان أتذكر هذا الوطن أثناء السكر والعربدة، كما أتذكره أيضا عندما أنام واصلي صلاة خشوع لله أن يحفظه.
وهكذا أبقى اصرخ في فراغ القدر الموضوع أمامي، اصرخ في الفرقة الحزبية أمام الرفاق، انه حدث خلل ما وانك، وهكذا تقول للرفاق، نسيت أن تذهب إلى بائع اللبلبي لأخذ صورة الرئيس منه واكتافك للعباس إن كنت كاذبا. وينظرون إليك وعيونهم تشبه عيون البدوي عندما يرى عرياً حتى وان كان لقطة أثناء النزو الشباطي، ويدفعون إليك بصورة. وعندما تخرج من الحضرة الحزبية تشعر انك مثل بول متعفن، مثل غائط ورائحتك تشبه الذين يسكرون كل الليل مع تدخين مليون سيجارة بغداد في غرفة تشبه غرفة صنع الأكياس الورقية في معمل حيدر في بعقوبة بجوار جامع الفاروق و سوق النعل المعاد تصنيعها بتكنلوجيا التصنيع العسكري لحسين كامل ولاتعرف لمَ تتذكر في هذا الموقف والبلوى والبانوراما، كل شئ مثل شريط مغناطيسي يظل يردد على مسامعك كلمة خائن، مرتد، عدو ثورة ١٧- ٣٠ تموز المجيدة. وتذهب إلى البيت وأنت تعرج وسحاب بنطلونك مفكوك والمخطان اليابس بفعل الهواء يتدلى من فتحة انفك. وبعد ان تعلق الصورة تقف أمامها، تقف إزاءها وكأنك أمام هبل والكهنة تراقبك لكن عوضا عن الكهنة، هناك الجيران وبيت أم بثينة الرفيقة الحزبية التي وكلت بمراقبتك وتسمع الطرقات على الباب وتخرج من صمتك الحيواني، صمتك الممغنط وتدخل أم بثينة وتتجول في البيت وكأنه بيتها وعندما تجد الصورة معلقة وفوقها كلمة الله تنظر شزرة نحوك وتفهم في الحال وتنزل اسم الله وتبتسم هي، وتخرج وتعرف بحاستك الحيوانية التي تكبر وتكبر، انه ليس أم بثينة وحدها من يراقبك، إنما كل منظمات الحزب في المنطقة وكل منظمات اتحاد النساء والشباب والرياضة. الجميع بعثيون وان لم ينتموا، وعليك في هذا الجو أن تردد دائما مع نفسك انك تحب الحزب وتحب الثورة، ثورة ١٧ - ٣٠ تموز المجيدة، الثورة البيضاء التي لم يقتل فيها احد باستثناء الذين ماتوا بعد ذلك وهم آلاف، ملايين، مليارات الموتى والمجانين والمعاقين نفسيا والأرامل والأيتام.... الخونة.
يتحرك سائق أم وليد بسرعة مناورا بين السيارات، وعندما نجتاز بشكل جنوني من أمام بيت سعد المخبل اشعر بشغف مدمر إلى أن أقول - بارود سكين وملح - أن اصرخ بها بوجه سعد المخبل لأجعله أكثر جنونا، أكثر حيوانية وهو يضربني بعصا أو قضيب معدني أو كيبل نحاسي مغطى بمطاط قذر.
أقول للسائق : أرجوك سيدي لنعد قليلا إلى الوراء، أريد أن أرى بيت سعد، سأموت إن لم أره الآن، في هذه اللحظة، العجل العجل، المدد المدد و يقول لي : لانستطيع، الأستاذة تريدك الآن بسرعة، حالا. ياكواويد !! سأموت من الشيزفرينيا، اقسم بكل آلهة العرب الجميلة قبل الخراب.
ونصل بيت أم وليد وأترجل خائرا، أترجّل والقمر يعوي والبرد يقصف العظام والبخار يتدفق من فمي و أحس بحفرة الفم مليئة بالذروق ومذاق بيرة متعفة مع مليون سيجارة. الدخان حولي وفوقي وعلى الجوانب. أنا لست ملاكا، إنما جحيم لاهوتي، مدراشي، سفسطائي، مسياني. أخطو مثل فرس عرجاء باتجاه مدخل بيت أم وليد، اصعد السلمة الأولى والثانية، انظر إلى الخلف بعيون محتقنة بالثآليل وبوح الالهات بعد منتصف ليل غريب. أرى السائق يشعل سيجارته ودخانه مثل وحش الأزمنة وينظر إلى ساعته. وأخطو الخطوة الثالثة مرتمسا بالتهليلات و اشعر بوخز القلب، بتشنجاته، ببطء الضربات ومحنة النوارس على السواحل الباهتة المتصدعة تؤجج فيّ ملايين القشعريرات لوجود الأشرعة الممزقة والقوارب الراسية في العاصفة. اطرق الباب، أخاف، اعترف، إني وجل، منهك. البتلات الوردية لجهنميات عصر الخليقة الأول تنمو على فمي، مثل الدنابل، الألغاز، التقيحات.
انظر إلى الوراء مرة أخرى واشاهد السائق يستمر في التدخين والدخان يخرج من مؤخرته ويحدق إلى عصافير ليلية وخفافيش تحلق في سماء الدسيسة والترقب، الأشجار صامتة، الياس* ساكن، القواقع البحرية تزحف، الضفادع تنقق، الكلاب تنهش. صمت كئيب لايمثله إلا صمت وجوه حماية الرئيس في نادي الصيد والعلوية والامباسي. احني راسي قليلا وانظر إلى قدمي، انظر إلى الطين والعبث وشعري الكث مثل السحرة. بعد دقائق تفتح الباب وادخل وتقول الخادمة. بخ بخ. بسرعة مع إيماءة من يدها : الأستاذة في …...ياللجحيم !! يالصحف موسى و إبراهيم والتقرير السياسي الثامن للقيادة القطرية والمنهاج الثقافي للمؤيدين والأنصار والأنصار المتقدمين والأعضاء.
الأستاذة في غرفة الخطار تقول الخادمة. لماذا؟ لماذا؟ وتقول : اركض، اركض. وأهرول ومؤخرة الخادمة امامي تهز الانزلاقات الميتة للخصية وتوخزاتها، لكني لا أرى، لا اسمع إلا صوت خفقان قلبي واللهاث. نجتاز ممرات سرية تشبه ممرات وزارة حميد وعبد الأمير، وادخل الغرفة واجد الأستاذة ممددة نصف تمديدة على - القنفة* - ومسجل نوع سانيو قربها وأشرطة موسيقية لجبار عكار واحمد الانضباط وديمس روسيس وتينا جارلس وفؤاد مسعود وجيمس لاست وكوكوش وعلبة كلينكس من إنتاج معمل الرفاه وقطعة من بسكويت الجميلي على الأرض وافزع شاعرا باللواث العقلي. وعندما تجدني ام وليد امامها، تنهار بشكل اعمق وتنزلق من القنفة* وتلتصق بالارض وأثناء الانزلاق فوق سجادة الكاشان الرقيقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
* الياس : نبات عطري معمر.
* الخطار : الضيوف في اللهجة العراقية
ا* القنفة : أريكة
تصطدم يدها بآنية الورود وصور السيد الرئيس وتتساقط الأشياء واهرع و ارفع صورة السيد الرئيس، وتصرخ أم وليد وتمسك رأسها وتجلس متربعة على الأرض وساقها طويل مثل الحريديم والبدو والكحل في عينيها يسيل. اجلس على الأرض قربها، فوق سجادة الكاشان وقطعة بسكويت الجميلي قربي. تقول لي : مصيبة، مصيبة وتختنق واطلب من الخادمة قدح ماء بارد ويجيء القدح وامسح الوجه والذراع والزنود وأشاهد وجه أم وليد يتقلص، صلد، وحشي، بدوي، عبري. الهشاشة تضيع والرؤية تلتبس وأحاول مساعدتها وتشرب من القدح وتولول وتطلب من الخادمة أن تخرج.
أشعل سيجارة لها ولي وندخن متربعين. أم وليد تشهق الدخان كله وصوت ديمس روسيس يرتفع وتقول لي مرة أخرى : مصيبة وتضرب رأسها وتنغرز أصابعها في شعرها الفاحم والطويل والمخيف مثل شعر امل الجبوري واشعر إني أمام ربة من ربات طي وخزاعة وتميم ومعد. وأتوسلها أن تهدأ. واطلب فنجان قهوة لي ولها وبسرعة تشرب من قدح الماء وتبدأ بالارتخاء والاستناد إلى القنفة. وأقول : مالذي حدث؟ اقسم عليك بسيد مالك.
الفصل الثامن
صرير، بقبقة، ابتلاع، صوت حجر يسقط في مياه ثقيلة، والأصابع ترتعش وأم وليد تتكئ وأنا اضطرم. أعصابي متوترة، الحشيش في الخارج يتآكل والسماء بطعم العفن والسيد الرئيس، والسيد الرئيس عندما كان نائبا يتفجر من خلال الإذاعة والتلفزيون وعيون حمراء محدقة في السماء والله يبتعد ويسحب أحيائه.
الدموع تسيل وأنا مقرفص. السيجارة بين أصابعي، الرماد ينتثر على الأرض وملابسنا، وعلى وجوهنا الهاطلة مثل ديس * كبير. ديس بكبر السماء يرضعنا المرارة والعبث والموسيقى من آلة السنطور البابلية. أم وليد تنخر وأتوسلها أن تحكي. تولول وتضع رأسها بشعره الأسود المبعثر بالعاصفة بين يديها وتقول لي : قتلته، قتلته. أنا الآن هاربة !! ويغمى عليها. وتُفتح باب غرفة الخطار وتندفع الخادمة بتوحش وصرخات وتسكب العطور والأطياب و الماء على الوجه وتتململ صاحبتي وأقول بتوتر عصبي، قتلتِ من؟ أرجوك جاوبيني. وتنظر - هي - في عيني مباشرة، تنظر إلى وجهي كله والى البؤبؤ تحديدا والرموش والريح عندما تكتسح كومة من الشوك، وأتذكر إني كما الشوك ساعة يشتعل تحت موقد، بتكتكه، بهسيس، باشتهاء داخلي، متهيبا من خروج الزبد من فم أم وليد و اقترب مثل باخرة عتيقة وامسح فمها بالكلينكس واخفض صوت المسجل وعرقنا ينز. وتقول : عدت قبل قليل، كنت في بيت سبعاوي* وتضرب رأسها، وهناك قضمته، قضمته مثلما تقضم السناجب ثمرة من الجوز،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ديس : ثدي
* سبعاوي : الأخ غير الشقيق لصدام حسين
عضضته مثلما تعض الكلاب زوجاً من الأرانب في برية فاران. أرجوك ساعدني، ساعدني لخاطر العزير. نعم بحق العزير ساعدني، أريد مكاناً للاختباء سيجيئون الآن. ماهذا الصوت؟ انها سيارات الرئاسة، الرئاسة ياللمصيبة !! سيأتون، سأجلس على البُطل. سأعذَّب أكثر مما أُعذّب الآن، إني أموت، انتحر، يجب أن انتحر. أين يمكن للواحد أن يختبئ في بلد فيه 18 مليون مخبر. وأحاول تهدءتها وأقول إني لم افهم شيئا، أرجوك، احكي لي من البداية، وتنظر في وجهي مثل مجنون يُسلم إلى مستشفى الأمراض العقلية، نفس النظرات، ذات التوسل، عين الهاجس الداخلي عندما يقبل الإنسان على الانتحار.
تقول : اتصل بي سبعاوي يوم أمس وطلب مني أن اذهب إلى بيته كالعادة، وعندما وصلت أدخلوني مباشرة إلى غرفته، وجدته هناك، ياروح الله !! كان في حالة انهيار نفسي ومعنوي، وعندما شاهدني هجم علي بتوحش وجردني من ملابسي واغتصبني أمام الخادم، كنت اصرخ، اصرخ بهمجية وهو يضحك. ثم مددني على الأرض ورفع ساقي ودفع سبطانة بندقيته في المهبل. كان متوحشا، همجيا ومضطربا وقال لي انه يشعر اليوم بإلوهيته، يشعر أنه اله حقيقي، وكان يبكي ويدفع بالسبطانة في عضوي بقوة ويصرخ بألم ويبكي ويقول لماذا؟ لماذا اخذ وطبان مني وزارة الداخلية؟ سأنتقم منهم كلهم بحق مزراحي وشمو وعبد السطيع.
كان عبارة عن قنبلة، قنبلة تفجرت في حياتي. وأحاول أن أتحرك تحته، أن اخرج السبطانة من الحياء، ويصرخ ويشد الشعر الذي نسيت أن انتفه ويعضه ويتشممه ويأتي باطلاقات البنادق ويدفعها أيضا ثم ينحني ويمشي على أربع ويطلب مني أن أسوطه بالكيبل وعندما امتنع، يضحك ويشق ملابسه ويأمرني أن ازحف أنا أيضا على أربع، ويضربني بالكيبل ويلكمني ويخمش وجهي ويمسك بشعري ويجعله مقودي ويصرخ وهو يجلس على ظهري ويعوي مثل كلب متوحش بري، مثل إنسان غابة.
كنت ابكي، ابكي بحرقة وبوجع والسوط بيده والضربات تنهال على ظهري وهو يصرخ : لماذا؟ لماذا اخذوا مني الوزارة؟ وعندما تمدد على الأرض منهكا من النكاح والسوائل البيضاء تسيح من فمه تقدمت إليه وهو في شبه غيبوبة مفاجئة وقضمت عضوه. وعاط الى السماء،، الى الجوبة، الى السدة وهربت بسرعة وجئت إلى هنا. أرجوك، أرجوك دبرني، ما الذي علي فعله؟ ويداهمني شعور بالإغماء. أم وليد أمامي مثل جرو يتجهز للخنق. يبكي الجرو وابكي أنا أيضا واولول واصرخ قائلا : لماذا؟ لماذا؟ والزبد يملأ زوايا فم أم وليد، واشعر إني انهار فعلا وخدر مفاجئ يداهمني ويبدأ باللسان ويندلق على نصف جسمي وأقع إلى القنفة. العالم مضطرب وهلع، العالم يدور أمامي وسقف الغرفة ينفلق والأرض تُخْرِج قوم يأجوج ومأجوج واسمع آلاف الأصوات، حمير تنهق وتعربد وترفس وأتوقع انه في أي لحظة تقتحم الشرطة السرية والحرس الرئاسي والمخابرات والانضباط العسكري الأبواب وأساق إلى الهاوية، الهاوية ومكائن الثرم الهائلة في الشعبة الخامسة * واصرخ فيما يدفع بي بعد تعذيب مهول إلى فتحة المثرمة البشرية واخرج من الجهة الأخرى على شكل خراء و إلى نهر دجلة وانثر مثل الحلاج، مثل الحلاج يصرخ في البرية ودروب بغداد وفي باب الخليفة والسياف جاهز والسيف حاضر والحبال معدة والخليفة مع قحبته، والخيزران وزبيدة ترفرفان بروحيهما فوقي.
هراء، هراء، ابكي وأشعل سيجارة من اخرى، وأم وليد تقضم أظافرها وتنظر في وجهي. واكرر صراخي الخفي وتقول أم وليد انه يجب أن يموت. ياللجحيم !! لكنه لايموت، لايموت. دمر حياتي، حطمها، وتتناول سيجارة سومر مُحسن من العلبة وتقول : لاتوجد امرأة في العالم تقبل أن تتحول إلى عاهرة، حولوني إلى قحبة، هذا الكلب دمر حياتي. وتمج بشراهة وتمسك السيجارة بين أصابعها وتعصرها وأصابعها صفراء. النيكوتين غزير والقطران ينقط من فمها، قطران اسود وحياة سوداء مثل ليل بغداد، مثل شوارع مدينة الثورة، مثل رائحة تنفلت من المجارير المهدمة عند تقاطع المربعة مع شارع الرشيد. إني اصرخ كما عبد الستار ناصر* في سيدنا الخليفة. تقول أم وليد إنها مستعدة للموت، تريد أن تموت إنها تنتظره الآن، لا، لاتريد أن تهرب. أرجوك لاتساعدني، لاتجعلني اهرب، وتضحك بشكل غريب، بصوت مهزوز. تضحك ليس بقهقهة ولكن مثل الذئب عندما يرتعش، مثل وسادة مليئة بالبق تتفجر في وجهك وتغزوك ملايين ملايين الحشرات والصراصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشعبة الخامسة : قسم في مديرية الاستخبارات العسكرية.
عبد الستار ناصر : كاتب عراقي
وأنت مبنج* وتنظر إلى السقف وتبتسم. إنها تضحك بقوة شيطانية وانظر إليها من الأسفل. أم وليد تقف مثل طريدة محاصرة. أنا اهتز كسعفة، كشعرة. الاهتزاز يغمرني وإياها. نحن نبحر في مركب واحد يعوم على بحيرة ليس من النفط، بل من الغائط. في زمن وطبان وسبعاوي و آل المجيد وآل لا اعرف من و الأستاذ عدي الأخرق، ثم بعدئذ الأستاذ قصي و... آه ياربي، كدت أنسى، علي حسن المجيد وحسين كامل المجيد وصدام كامل المجيد وبرزان وحجي حميد والأخرق الآخر الذي لا أتذكر اسمه، وليس مهما طبعا، المهم انه من آل وهذا وحده يعني دم مقدس ونسب سماوي وسراق ونميمة وابتذال وعتو وبداوة وحيوانية وعتاوي* مثل عتاوي نصيف الناصري الموضوعة على سطح بيتهم وأمه المسكينة تبكي لأنه أصبح شاعرا وليس كاتباً مثل شوقي كريم*.
**
تقول الخادمة : وضعوا فوهة المسدس في المهبل.
يقول وطبان : انها شاذة.
تقول هي : إنه لوطي وشاذ، لاتصدقوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مبنج : مخدر
آل المجيد : عائلة صدام حسين المباشرة وهي جزء من عشيرة البو ناصر التي تضم عوائل أخرى.
العتاوي : ذكور القطط
شوقي كريم : كاتب عراقي
تقول الخادمة : العصافير على الشجرة والشجرة تموء مثل القطط.
تقول هي : الشبح، الشبح، انه يدخل من النافذة وأقلام الحمرة والزينة موضوعة في الحمام. أرجوك حطمها، هشمها بسرعة أو ضعها في المراحيض واسحب السيفون. لكن السيفون عاطل، فماذا نفعل بحق الجحيم؟
أقول : لكن المرحاض يشبه وجه وطبان. هل انت متأكدة؟ تقول هي : أرمها، أرمها بسرعة لان القطط بدأت والكلاب تضاجع الحيطان والبيت بلا مدفأة ولا يوجد كلينكس، لا في السوق ولا في الشورجة.
يقول وطبان : سأغتصبها بأي عضو غير عضوي. سأغتصبها بعضو صومالي كبير جدا. ويسقط على وجهه وتتلقفه الأرض و بشكل جحيمي.
تقول هي : دماغه عبارة عن نكح ولواط وجلغ.
تقول الخادمة : أنا ابكي من اجلها.
يقول دهام : سأرسلها إلى الحماية من اجل اغتصابها.
تقول هي : انتقمت منه.
يقول برزان : سأرسلها إلى سبعاوي مدير الأمن. انه اكبر مناضل نياك في الأمة العربية.
تقول هي والخادمة : إننا نرتجف، نرتجف ونحن نقف في طابور، وسبعاوي يدور علينا ويمسك فروجنا ويختار الفرج الأكبر.
يقول سبعاوي : إنها تكذب، تكذب، لاتصدقوها. لأني خصي، خصي.
نقول نحن : لخاطر سيد نور !! هل لازال السيد الرئيس بأربعة اقانيم؟
تقول هي : وحوش في المراحيض والسيد الرئيس باقانيمه الأربعة فوق والسماء تحت والعاصفة قادمة وأنا اختض. هل هو حلم؟ هل هي رؤيا؟
أقول أنا : لابأس، لابأس، كل شيء سينتهي نحو الأفضل. اقترب منها وأوشوش في أذنها وأقول : نهاية كل شيء أصبحت أمامي. اليوم أو غدا و… وستصعدين المشنقة وينتهي كل شيء بسرعة خاطفة. افتح فمي و اضحك مثل مجنون. السقف في الأسفل، على الجانب، إلى اليمين، إلى اليسار. ياسيد نور !! اقترب من وجهها ثانية واهمس : احكي لنا الآن. احكي لنا كيف عرفت كل هذه الوحوش لخاطر القحاب !! لمَ اقتربت منهم أصلا.
**
النافذة مغلقة، الستائر مزاحة، البرد يتمدد، القمر يعوي، الكلاب السائبة تركض مع الاسماك في الشوارع. تنظر أم وليد في وجهي بخبل وأنا أحدق في بؤبؤ العين. كنت أقف مهزورا، مرتعشا، موبؤا بالألم. كانت تتحدث بارتعشات مفصلية مثل باب قديم يئن متى ما دفعته العاصفة والأنين فظيع، قوي، مجلجل... كانت تتحدث وكأنما تحت تأثير دواء الاولزابين.
بدأ كل شئ هكذا، تقول بمرارة وسيجارة سومر تصدير بين أصابعها. زوجي ضابط برتبة لواء في الجيش العراقي. اتصلت بالسيد النائب - صدام حسين - لرؤيته وشرح قضية زوجي الذي أصيب بكآبة وذهان من الطور الحاد. حُدد لي موعد وذهبت، قابلت السيد النائب وشربت معه قدح عصير برتقال وكان هو يشرب قهوة عربية والقرعان بجانبه. عندما خرجت قابلني برزان وجلست معه وكان يجلس وراء مكتبه بين فناجين القهوة والقرعان الى جانبه. واخذ مني كل المعلومات التي يحتاجونها، عنواني، عملي، وتفاصيل محرجة عن وضعنا العائلي وتفاصيل أخرى عن زوجي ودقائق حياته العسكرية والجنسية. وصلت البيت في العاشرة مساءا بعد أن أوصلتني سيارة من الرئاسة. قلت لهم لا احتاج إلى توصيلة، لكن برزان أصر.
صعدت السيارة وأنا اشعر إن أشياء تتأكلني. وصلت البيت وإحساس القلق يسيطر علي. في صباح اليوم التالي وعند خروجي من البيت، شاهدت سيارة فولكسفاجن ( ركة )* متوقفة قرب عمود الكهرباء المقابل لبيتنا، ركبت سيارة الدائرة ووصلت مكان عملي. طيلة اليوم لم يحدث شئ. عند خروجي من العمل شاهدت سيارة الفولكسفاجن نفسها متوقفة وخلف المقود شخص ببدلة وربطة عنق. في اليوم التالي وعند خروجي من العمل شاهدت سيارة الفولكسفاجن مرة اخرى، لكن بلون مختلف، حاولت أن اشرح الموضوع لزوجي، لكن حالة الاكتئاب منعته من الفهم. كنت خائفة فعلا، خائفة من إن يتطورالموضوع إلى أشياء لا اعرفها. قالت لي صديقتي : طبيعي أن تحدث مراقبة. لكن الموضوع لايوحي بمراقبة عادية. سيارة الفولكسفاجن تتبعني أينما ذهبت، إلى السوق، إلى زياراتي العائلية، إلى المكتبة، إلى العمل، إلى المعارض التشكيلية،
ــــــــــــــ
* ركة : سلحفاة وهي كناية عن سيارة فولكسافجن البيتل التي كان الامن العراقي يستخدمها وقتذاك مع سيارت فيات جل ال.
إلى نقابة المهندسين، ياالهي !! حتى عندما كنت اذهب إلى مطعم بصحبة الأطفال، كانت السيارة تلاحقني وينزل ذلك المعتوه، ضابط أو رجل ألامن، ويجلس أمامي. أو قريبا مني. كانوا يتصرفون بطريقة يريدونني فيها أن أعرف أنني ملاحقة وأنني أمام أنظارهم. بدأت اشعر بالقلق، لا ليس القلق، انه شعور مغاير واستثنائي. شعور غريب بالإحاطة والاستلاب، شعور بالغرق في وحول وأمطار وعواصف وافتأتات ولعبان نفس. اتصلت بصديقتي مرة اخرى وشرحت لها الموضوع. اقترحت أن أقابل وطبان واشرح له الأمر. ارتبكت، داهمني إحساس خانق بالاكتئاب. في النهاية اتصلت وحُدِّد لي موعد. لايمكن أن اشرح لك حقيقة الشعور الذي اجتاحني وأنا أتجهز للقاء. في اليوم الموعود كنت امسك قلم أحمر الشفاه باضطراب ومترددة. المرأة تستطيع أن تشم الأشياء، تحسها وان كانت بعيدة. فكرت بعدم الذهاب. لا، ليس عدم الذهاب وإنما شئ آخر. أن اذهب دون إجراء المقابلة. سأتسكع في الباب الشرقي، سأعبر جسر الجمهورية وادخل مكتبة النهضة واشم عطر الورق والأحلام والعصافير والضفادع. لكنهم سينتظروني حتما، سيتصلون. عليك أن تفكر بمرارة، بقوة، بقسوة، بسرعة، بتكرار هزلي لأحلام سوداء. سيتصلون بإلحاح مزعج وسأكون أمام زوجي وهو يعاني من الاكتئاب وأنا أمامه شبه مخبلوة وجاحدة. سأصاب بقشعريرة عند كل رنة تلفون وصوت متحشرج قوي يتسرب إليك موقظا فيك إبهاما عاما وظلاما مسترسلا. لا، لم استطع أن أتلبث في البيت، ولا مقاومة شعور ضرب الموعد. وضعت احمر الشفاه، لبست أي قطعة صادفتني في طريقي وأحذيتي مبعثرة وهناك شئ ما يرتعد في قلبي.
وصلت في الموعد، أدخلوني غرفاً كثيرة وعندما فتحت أمامي بوابة كبيرة مرصعة بأحجار وخشب وآيات قرعانية، وجدت وطبان كخليفة أمامي و مثل كائن مبعد عن الملكوت، مثل قادم من مجرَّات بعيدة. اقتربت منه و تشممت عطرا. عطر لايحسه الرجال، وتفهمه النساء.
جلست لاتفصلنا إلا طاولة شاي كنت اشعر بتوحد، بصلابة، بتفتت. حكيت بإسهاب، ببعثرة، بهروب الحروف ونشافة الريق وصعوبة البلع وانتهاء المفردات واضطراب الوصف. كنت أقول له : إني لا أنام، لا استطيع أن اغسل أطفالي وأزيل وساخة العالم. لأني هززت، ثم اخذ يسألني عن زوجي، عن سلوكه في البيت، عن بكائه كل يوم. كان يقترب، اشعر به، اشعر رائحة الذئب تحيطني ورغم انه كان بعيدا وتفصلني عنه طاولة وورود وزنابق وياس مزهر وأوراق ودفاتر وقرعان بغلاف اخضر، إلا انه كان يلمسني، يلحسني وأنفاسه تحيطني وأحس بملابسه تحتك بي و تهيلني وتبعث بي إلى المجهول.
**
صراخ في أنبوب يشبه حياتنا المرمية أمام الكلاب وساعة التوقيت تشير عقاربها إلى النهاية. استظلالات تحت عيون شهوة شجر الزيتون والسرو في تكعيبات الرسوم وهي تتدفق إلى حياتنا، تحيلها الى الهباء المنثور. أقف أمامها ككاهن أقدم صلوات الترانيم الحسية واقبل العهد والصندوق والظلال المنعكسة على الحائط بلهيب شموع الموقد الغريب في الغابة المنعزلة لحياتنا المهددة. أقف تائها مع الصراخ المكدود لوجهها وجزيئات حياتها مثل أوراق القمارعلى منضدة تشريح تعفناتنا ونحن نسحب قارب النجاة سوية إلى الهاوية، أنا في البحث الاستقصائي عن منابع الموت والأمومة الضائعة في النسيان، وهي في شربها من الينبوع المحرم حيث تحرسه الآلهات بسيوف مضيئة.
تقول لي : إني أموت، أرجوك لنتحدث عن شيء آخر. السماء والطارق مثلا. لا، لا استطيع الحديث عن موضوع آخر، إني أهذي، هل تلاحظ شعري. انه مجنون في مركب حزين، مخبول جنسي في أوقات المضاجعات الليلة خلف مناضد دست الحكم. مطاردات متصلة، سيارات أمن في كل مكان. سياراتهم باللون الأزرق والأبيض، سيارات فيات جي ال وفولكسفاجن، سيارات طويلة وقصيرة وذات أجناب وأرقام تنتهي ب ٨٨٨ او إدخال جمركي مؤقت. إني اهتز وأنا أحدثك. هل تلاحظ؟ أرجوك لاحظ، مهم جدا أن تصدقني لأني ارتجف وقشعريرة مريرة تمر على قلبي. هل تشك في قلبي؟ لا تشك في قلب امرأة ابداً، هل تعرف هذا؟
كنت ارتعش مع الاستدعاءات المتكررة، التلفونات تستمر في الرنين. يجب أن ينتهي كل هذا. زوجي يبكي، يبكي الليل متصلا بالنهار. انه بحاجة إلى علاج في فرنسا، لكنهم لايمنحونه ذلك. هو بحاجة إلى أدوية كثيرة. هاجس القلق ينثرني على وجه القمر. إني مثل التراب، ملوثة بالانحطاط. استسلم أمام الصراخ والعويل والاستدعاءات الأمنية. اشاهده كل يوم في الأحلام والكوابيس، الكوابيس تطاردني حتى في اللحظات الأكثر حميمية عندما اذهب إلى الحمام لامارس العادة السرية. صرت مجنونة. أني اختض دائما كمصابة بمرض الباركنسون. في الدائرة كانت هناك استدعاءات أيضا. ضابط الأمن يتصل بي غالبا طالبا استفسارات عن عائلتي. مختار المحلة يأتي كل يوم إلى بيتنا يسأل. أعضاء الفرقة الحزبية استدعوا أبنائي، الاستخبارات العسكرية تستدعي زوجي أيضا. فكرت في الهروب من العراق، لكن إلى أين؟ لا احد يمنح العراقي لجوءا.
ليس مهما تفو. الهجرة مؤلمة في كل الاحوال. العراقيون لم يعتادوا الهجرة. نحن نخلق لنموت هنا، في مقبرة وادي السلام أو المعظم أو الشيخ معروف أو أبو غريب أو حتى في الطهارة. المهم إنها طهارة عراقية. أردت الحصول على جواز سفر، لكني وجدت إنه ممنوع عليّ. اضحك، نعم كنت اضحك مرددة في نفسي، تفو عليكم. هربت من بغداد و توجهت إلى أختي في الموصل، علمت أنهم اقتحموا بيتنا في بغداد. اخذوا زوجي وأولادي. تحقيقات مستمرة. ضربوهم بالكيبلات، جلدوهم، يارب كيف يستطيعون جلد زوجي؟!! وهو مريض جدا وضابط؟! كان يرتجف، المسكين، يهزل. حصلوا منه على عنواني في الموصل بكل سهولة. زوجي يتصل وهو يبكي، لم افهم منه شيئا، ولا من الأولاد. كنا نعيش نوعا عاليا من الخراب اللفظي والفهمي. الأمخاخ تتوقف عن معالجة الكلمات، الكلمات ذاتها تهرب، تهرب مثل اللقالق، هل شاهدت اللقالق؟ يوجد احدها فوق منارة جامع الشورجة مقابل مطعم كباب لا أتذكر اسمه. لمَ هذا الضياع والعصافير تغرق واللقالق ترحل والأوساخ تتجمع بين أسناننا. كلهم لايعرفون، لايعلمون سبب كل هذه الفوضى، أولادي، الزوج، أختي أيضا والعائلة كلها. يتصورون إن لدي مشكلة في الدائرة مع إنذارات متتالية بقطع الراتب وإنذارات بالفصل. كنت محاطة، محاطة من كل الاتجاهات. بهم، فيهم، منهم، عليهم. لاتستطيع تصور الارتعاش الذي عشت فيه. لا. لاتستطيع تصور مقدار الارتباك الذي دمر حياتي.
عندما أوصلتني أختي إلى محطة القطار، لفني إحساس غريب وأنا احمل حقيبتي وصغار الوطن يبيعون العلكة و حب شمس قمر، إحساس أني لم اعد أنا، أسير بلخبطات روحي. فكرت وقتها لمَ أنا أنثى أصلا؟ هل سأنتقم؟ ثم اغرق في جموع المسافرين، الأكتاف تدفعني وأنا أهرول وأختي تنظر من بعيد. لم أجرؤ على النظر إليها. كانت تتبخر، تضيع، تتلاشى. ياإلهي !! تتلاشى، كيف يحدث هذا؟ لم أتصور إنها ستختفي من أمامي كوردة من الضباب أو غيمة صغيرة. لكن هذا ما حصل. مسكينة لم تعرف أنها لن تراني، وأنا أيضا، وأضيع في الجموع والجنود والبيريات الحمراء والأسلحة والصواريخ وسجائر بغداد وغازي والأحذية وأفواه باردة وعربات بيع الشلغم واللبلبي و..
ارجع إلى بغداد مهزومة بسبب التهديدات لزوجي كما قلت لك. شاهدت عيون الأولاد دامية. زوجي يشرب كل يوم قنينة عرق. لايتكلم معي، انهم ينظرون لي نظرة قاسية.. اتصل بوطبان واحدد له موعدا.. هناك مت.
هل قرأت قصة عبد الستار ناصر لاتسرق الوردة رجاءً أو شيء من هذا القبيل؟ لا، لا، ليست تلك الرواية، اقصد هذه بالتأكيد. هل قرأت صيادون في شارع ضيق لجبرا إبراهيم جبرا، لا، ليس هذا أيضا. لايمكن أن تحدث الأشياء بهذه الصورة. انه عفن. أعرف أني أهذي لكن الهذيان شئ رائع. أرجوك اسمعني إني أشبه بخرير جدول، سقط الخرير وبقي الجدول مستمرا في الهذيان، باق مثل الآلهة البابلية عندما تتوسد العالم والحضارات والأيام الأولى من هذا الكون. هل قرأت شعر عروة بن الورد أو تأويلات ابن عربي؟ أو حتى السمؤال؟ يارب، لايمكن أن أكون واحدة من كل هذا، إني أهذي وهذياني كبير جدا، اكبر من مدينة اليرموك والكرادة وسبع أبكار. أنا لست أكثر من قحبة رئاسية، عاهرة. لاتهمني التسميات، التسميات دائما واحدة ولاتعني المفردات إلا ماتعنيه. إني امخر في يباب، اليم، البحر العربي، البدوي بغير مجاذيف لأن المجاذيف كُسرت نهائيا وما عليك إلا السباحة، السباحة في أجاج وسلطعونات البحر فوق شفتيك والشمس الإعرابية على الضفاف وأباريق العاهرات في القصور الرئاسية تسير في مواكب موت تموز. انه السيد المقدس وأنا أيضا. إني مقدسة بالقداسة ذاتها، بالقداسة المتكونة من أجاج الملح والبخور والمر والمعابد الأنثوية لعبادة الإسقاطات اللزجة على وجوه المتعبدين.
تتحدث أم وليد بخبال وشعر منثور وعيون سال منها الكمد والبخور والكحل، وفيما الالهات الوثنية ترفع كؤوس المجد لنيرون في جبال الألب والكاربات والالزاس والاولمب، تسير المرتفعات والعهن المنفوش ينسحل والسحايا ترتعش والبط البري يطير وطائر ألواق واق يعبر السموات الكونية متجها إلى السلطان السماوي. فيما أنا انظر لوجهها وهو يتغير كل لحظة سيميائية، تدخل الخادمة وتقول : تلفون من الاستاذ. تلفون، ماذا، تلفون، خرائي عليهم، أبول عليهم، قولي لهم إنني غير موجودة. لم أصل بعد. حشرات، مطال، صون، زرجين. إنهم يأتون، ما الذي سافعله؟ وأنا أريد أن أكمل. وتصرخ وترتعب الخادمة وتتبول وينزل البول من دشداشتها الانكورة وتهرب بسرعة.
انظر إلى أم وليد واشعر أني مهدد أيضا. مهدد بشكل جدي، بشكل حيواني، بشكل توراتي. يصرخ في داخلي صوت الحيوان البري. انهم قادمون بالبساط السحري والصحون الطائرة والجن على طائرات بوينغ يهزجون بأجهزة اللاسلكي والهوكي توكي ويتمايلون وأنا معهم والبخور كثير والمحرقات تحرق، وترتعش أم وليد وتتمسك بقدمي وتقول : أرجوك جد لي مكانا اختبئ فيه. وأقول لها : أين، أين؟ أرجوك أكملي، أكملي اجتحافاتك كلها.
تقول أم وليد متشبثة بأصابعي مع صوت طبول كردية وزرنات والموبقون على التلال الصفراء واليعاسيب تزحف. كانوا ينقلوني من بيت إلى بيت، من قصر الى آخر. مشاعة حيوانية وارهاصات وصراخ وبكاء، هناك كان صريف الاسنان. يعيرني وطبان - بعد ان يغتصبني بأن يلطخ الكمرة بالفلفل الحار وانا اصرخ واتوسل وهو يضحك - الى برزان ومنه الى دهام - ويجب ان اعترف ان هذا الاقنوم كان الاكثر انسانية، اذ لم يطلب مني الا ان..... وان انهق مثل الحمار وهو يقول ياحمارتي الجميلة، ياحمارتي الحبيبة. ثم من دهام الى سبعاوي وسبعاوي يغتصبني مثل الاقانيم الاخرى ويحمل علي مثلما تحمل الجيوش على بعضها البعض ويمددني ويلحس الاجتراء الجنسي لي ويغني وملايين العصافير ترف وبعد أن يغتصبني يدفع سبطانة مسدسه ويخرجه ثم يلحسه ويريد أن يدخل قدمه فيه ويحاول و لايتسع، ثم يتشممه ويبول في دشداشته وعقاله منكس ثم يعيرني إلى أخيه - الاقنوم الاخر - ويصعد هذا على ظهري ويجلدني ويغني ويحاول أن يدفع سبطانة رشاشته في حيائي أيضا ويقول لي غني لي الغناء البدوي وهو ممدد تحتي بملابسه العسكرية ثم ينهض ويأتي بمعجون الحلاقة ويعصره ويتأمل ويضحك وينفتح فاه ويستمر في الضحك حتى تنتفخ اوداجه وبطنه ويكبر ويتمدد في الغرفة ويصبح مثل بالون ويرتفع عن الأرض وهو يضحك ويستمر في الانتفاخ ويقول هذه بركات عبد القادر وعندما يغدو بكبر الغرفة والغرفة لاتتسع له ينفجر وتتناثر اشلاؤه وتجمع ويعود مرة أخرى الاقنوم الثالث أو الرابع، وبعد أن ينتهي من اغتصابي يضربني بالسوط ويتناول رشاشه ويفتح النار على السقف والنوافذ ويتناثر الزجاج وهو يصرخ بهستريا : إلى جهنم، إلى جهنم علي حسن المجيد وصدام كامل المجيد وحسين كامل المجيد ويتناثر اللعاب من فمه والمخاط من فتحة انفه، ويقول كيف يستطيع علي حسن المجيد الحصول على أعلى المناصب وأنا لا؟ كيف تزوج حسين كامل من ابنة الرئيس؟ سأقتلهم كلهم، سأبيدهم واحدا بعد الآخر، سأصفّهم إلى الجدار وارميهم بملايين الطلقات والقذائف. سأستعمل البرنو والكلاشنكوف والموزر وقاذفات اللهب وال ار بي جي ٧ و١٠ و ١٥. لكن هل هناك ار بي جي ١٥ لطفا؟ لا ادري، يجب على هؤلاء المناويك المسقوف* أن يصنعوا لنا قاذفات ار بي جي ٩٠ و١٠٠ وألف وعشرة آلاف. أريد المزيد من القذائف، أريد المزيد من الرصاص، أريد أن اشبع، أن ارتوي. سأبول على الجميع. السيد الرئيس لا يحبني، لايحبني، وينهار ويبكي، يبكي بحرقة، مثل خنفساء تصعد إلى سارية علم، مثل حيوان هلامي يقف وسط الأحراش ودموعه مثل ماء نار ويبحلق في، يبحلق بعين متورمة وقرمزية وحمراء وأرجوانية وتصيبه حالة من الخبال والشيزوفرينيا والانهام بالذات والدنس والطهرانية والاضطهاد والهربس والزهري و الطنين والسفلس والسيلان والايدز ويهرش مثل قرد و يجلس إلى الأرض والساق ممدة والالتهابات المفصلية تتفجر من ركبته وتضربه حالة من الانجعاص الذهني ويتصور نفسه انه الرئيس، الملك، الجوكر. إني اكرههم كلهم، يصرخ ذهنيا ومخلبه وفمه تسيل منهما السوائل الجنسية ويقول : اكره حسين كامل وصدام كامل وعدنان خيرالله وعلي حسن المجيد.... ارشد ياسين و صباح ميرزا. أريد أن أخرى على صباح، من صباح هذا؟ انه ليس من العوجة، انه عجمي قذر، حشرة، ابن متعة، قرادة، أريد ان انكحه بعضو صومالي كبير.
ـــــــــــــــــــ
* المسقوف : يقصد بهم الروس
ويمددني على الأرض مرة أخرى ويحشو دبري بالورود ثم يقول لي أخري في الغرفة ويعوي قائلا : خراء، خراء، كلهم خراء وانا خراء ايضا. منذ أن كنت طفلا خراء، منذ ان رفضت حمارة آلبو خطاب مضاجعتي. حتى الحمير لاتقبل بي. اعرف هذا، اعرف ويسير على اربعة والغائط المليء بالورود على الأرض، ويطلب مني أن ارتدي كل لحظة لباسا جديدا ويأخذه ويتنشقه ويمارس أمامي العادة السرية ويجمع الحيمن في قدح ثم يسكبه على حيائي والمتبقي يرسم به دوائر ومثلثات على الحائط ويقول صارخا. بسبب هذا المثلث فصلوني من المدرسة، فصلوني لأني حمار. لكني امتلك اكبر اير في العوجة، وهذا يكفي، يكفي، وينظر لعضوه ويداعبه كمن يمسك سبحة و يضحك، ينفلت والصراخ مستمر والشيزفرينيا في أقصى حالاتها وفي النهاية عندما ينهار وتسيل من عضوه خيوط الدم، ينفلق صارخا وطالبا من الحرس أن يتدخل. ويدخل الجنود بهلع ويقيدوني ويبدأ هو بغرز الإبر في جسمي وتكشف عن ذراعها وتريني ابر المخدرات. هكذا كنت أدور في دائرة الوجع، ودائرة العجز والإفراط الجنسي والاستاتيكيا وتتفجر القنابل الكهروحرارية وملايين الفولتات تنفلق في الهواء والهوس البهيمي يموج في الغرفة وأنا مقيدة، يُبعث بي الى برزان ثم اعود الى سبعاوي مرة اخرى - لان برزان اكتفى جنسيا من بقرة استوردت له خصيصا من استراليا - ويسوطني هذا بسوط كبير، سوط بأطرافه حلقات معدنية ويضربني والحرس يتدخل ويصاب بموجة من العتو والاستاتيكيا والإحباط ويطردني عندما تنتابه موجة الكآبة الثلاثية الأقطاب ويتكورعلى نفسه مثل حية والمسدس في يده ويأخذني الجنود إلى الخارج فيما وجهه يتحول الى نعال أبو الإصبع مع دشداشته الطويلة وحزامه الذي يشد بطنه ممزق والكلاشنكوف إلى يمينه. في تلك الشناعة الميكافيلية والانشطار الذهني والتقيؤ قررت أن أعضه، أن أتحول إلى كلب واعض الجميع. أرجوك، ارحمني، اهرب بي. سنهرب معا، لدي أموال كافية لان نعيش في عالم آخر، ياللجحيم !! أين نهرب، إلى أين؟ إلى الشمال الى الجنوب، ستسلمنا العسس، إلى القمر، ستسلمنا المخلوقات الفضائية. أين يمكن لنا أن نذهب وكل العراق رجال أمن ومخبرين وعسس ورفاق حزبيين، حتى المصريين عملوا منهم مخبرين والسودانيين والمغاربة وكل ابناء العروبة. سنسلم إلى الأمن والغرف السرية والفلقات والقناني الفارغة والجلوس عليها والكراسي الدوارة والانشوطات الجديدة والمعلقات المروحية وقلع الأظافر واجتثاث الألسن والكهرباء النابضة ووشم الجبهة وقطع الآذان وجدع الأنوف. هنا، هناك لامفر.
الفصل التاسع
جالسون في غرفة حجرية، المصباح متدل من السقف - بواير - هزيل، رصاصي، تكوم عليه الذباب. نجلس بانتظار غودو، بانتظار التآكل الحديدي لأفواهنا وعقولنا. كلنا تأملات مضطربة. نزو ليلي على الأحاسيس المتهالكة والمرهقة بالنسيان العارم لإنسانيتنا وخوفنا الفيزيقي.
نجلس وكلنا اهتزازات روحية، أنا وأمي، في الهزيع الأخير لسماوات مضطربة حيث اقشعر وأقول : إني خائف، الخيانة. الكلمة الميثالوجية لإبحار الزناة في العالم. أقول مرة أخرى : سيخوننا، صدقيني. أمي تنظر إلى وجهي. أقول : حتى متى؟ إلى المنتهى الدراقي لسماوات مكشرة وأسنان رجال الأمن تنهشنا. الرفيق الكردي تأخر و الفئران، الفئران يا أمي تعبث في الأمكنة المهلوسة بالابتراد والبول. اشعر بقشعريرة تجتاحني أقول يجب أن نغادر الآن، ليس بعد الآن. الهلوسة تطاردني مثل ذئب وأنا كلب معوّج الذنب، لكني ارتحل تآسيا مع الوقت والزمن الحاضر والمستقبل مخبول. تقول أمي : أنا أيضا بدأت اشعر بالخوف، لكن إلى أين نذهب؟
أقول : على الأقل لانمنحه فرصة تسليمنا. تقول : أنا غير قادرة على اتخاذ قرار.
أقول : يجب أن نتخذ القرار سريعا، وسريعا جدا. سنرحل الآن. تقول أمي : أشم رائحة غريبة، وأنت؟ وأنا أيضا، أتنفس هواءا معربدا ورائحة غريبة تسيل وتتشتت في فضاء الغرفة ويستولي علينا القلق والحاسة السادسة تعمل بعجالة فريدة، نحس بالتآكل كأن أجسادنا تهرشنا ونهرشها مثل قردة ونشعر باحتكاك أجسادنا وتيبسها والرائحة، الرائحة يا أمي تكبر وتكبر. احمل كيس الأغراض وأُنْهض أمي ونتجه إلى الباب. تأتي ام الرفيق الكردي مهرولة. تشبه عجائز الغجر بالشعر المجدول والممدود إلى الأكتاف والملابس الغجرية البراقة. نقول لها : إنا راحلون، راحلون. سلمي لنا على ابنك وتبربر بكردية لانفهمها، ولا نفهمها، لكننا نفهم حركات العيون والأصابع وارتعاشات الأنوف الهندو - ايرانية المعقوفة. نصل باب البيت وتتشبث أم الرفيق بأذيالنا، تمسك حاجياتنا البسيطة واشعر بالكره في عينيها وأرى اللؤم عميقا ومتجذرا، لا، لا، شكرا. نقول لها وتصر الأم وتتصلب كفها ونقول لها بصوت مرتفع اننا سنذهب الى السوق، الى البازار حجية، ونترك الأغراض ونهرب قلقين ونصعد سيارة أجرة ونطلب أن نصل إلى كراج كركوك. وفيما نبتعد، نشاهد الرفيق الكردي مع مجموعة من الرجال يتكومون على بوابة المنزل والأم تؤشر بذراعها، يمينا وشمالا. شرقا وغربا والرجال يستنطقونها. والأسلحة مخبوءة في السترات وفي أحزمة البناطيل والعيون صقرية والإيماءات متالية والعبث فيزيقيي والدراقات السماوية تتساقط مثل المطر على الأفواه. لكننا نبتعد، نبتعد مغايرين الطبيعة الاستاتكية للعقل الواهن من الضراعات بالنجاة والوصول إلى بغداد سالمين.
**
حتى الان كان الله معنا. ننظر الى السماء بارتعاش. نستغرب ان الشرطة السرية لم تلاحقنا ونحن في كراج كركوك. جنون العقل الجمعي يمارس اضطهاده الجمعي أيضا. الشيطان يضحك على العالم يبخر، يصلي، يحرق محرقاته ومسمناته. العاصفة قوية، نتيه في الريح وفي تيارات الهواء. كل المسميات تيه لأننا نصل إلى بغداد من كركوك وفي أرواحنا اختلاجات. تقول أمي : هل سنجد إبراهيم في مذخر الأدوية؟
نسير في بغداد مثل لصوص، نحاول تجنب جنود الانضباط العسكري، وفيما نحن نسير تلمح أمي زوجها يقود سيارة بيجو بنّية اللون. تقول أمي : الحقه، ألحقه واهم بالركض مخبولا، أركض بعجالة ويأس والسيارة تحتشد في شارع السعدون وأنا على الرصيف واقفز إلى الشارع واقترب من السيارة ويتحرك زوجها بسرعة واستطيع أن أصل النافذة الجانبية واضرب بقبضتي ويرتبك هو ويحاول أن يخرج من الزحام المروري وتتحرك السيارة باضطراب. المنبهات تصيبني بالصمم والفوضى واصرخ قائلا : أمي تريد أن تحدثك. وأحس بصوتي يضيع في الارتباك والبعثرة ويقفز شرطي مرور إلى الشارع ويلحق بي واركض خلف السيارة محاولا مسّك صندوقها الخلفي لكني اسقط وارتمي في الشارع مع فسفورة الضوء الخلفي ومنبهات السيارات تعلو بشكل خرافي ويترجل البعض وينظرون إلى جسمي وجراحي و يبتعد الزوج، يبتعد ويتلاشى واصرخ من على الرصيف بشكل يائس محاولا إيصال صوتي : يا كلب، يا.......
ويداهمني شعور الخيبة ورائحة ثاني اوكسيد الكربون المنطلق من عوادم السيارات تخنقني واسعل وأتكوم على الرصيف. بعد دقائق تصل أمي لاهثة إلى حيث اتكئ ومعها قدح ماء وتمسح وجهي، وأتلمس ارتعاشاتها وكيونونتها المستلبة وتنهضني قائلة، يجب أن نبتعد، انهض بسرعة، وانهض ونكمل سيرنا بعجالة ونتوجه إلى المذخر. حيث نجد إبراهيم غارقا بين علب الأدوية والمراهم ورائحة التنتريوك تغلف المكان. يشاهدنا ويهرع باتجاهنا غير مصدق ويقول : ماالذي حدث؟ ولا نتكلم و في لحظة الارتباك والتبعثر والأحاسيس بالانضغاط النفسي تشعر أمي بدوار ويصفر وجهها وتنهار أمامنا. نرفعها عن الأرض ونجعلها تقف قليلا ونرتقي الدرج ثم نصل الغرفة - الزاغور - في العلية وامدد أمي على حشية بعيون ممزقة ووصال شجي وروح غريبة في الأماكن الطاردة للجنس البشري. وتشعر أمي إنها تتناءى عنا وترحل في غيبوبة قصيرة، ثم هلوسة وانثيالات وبزوغ للنور الأوحد مستلقيا على الازبال والجرذان المتكتلة فوق حشية زمن مغادر إلى الفضاء الأضيق. ترتفع حرارتها بسرعة ويبدأ هذيان الاكاسيد والزنك والنحاس والأرض مثل الحديد القاتل بشفراته الحادة والمناجل المتوحشة لحصاد اختباءاتنا. متوحشون في علية و المطر بين أيدينا وبين العيون الأكثر تعبا في العالم، بالهلوسة في ضياع الأحلام والتقربات من الشمس الزائلة إلى اغترابات أوجاعنا. وتبحلق امي في الفراغ وأمسد فرو روحينا الأليمة وهي تتمخض في جناب الغرفة والعلية الموحشة المفتوحة على الفضاءات واللوعة. و يقول إبراهيم انه سيحاول الحصول على جواز سفر يمني عبر صديق يمني يعمل موظفا بالسفارة اليمنية.
كم كنا بائسين ياقديم الأيام ونحن في الانتظار. تهذي أمي من خلال تسللات الحمى و تقول : أريد أن أرى اولادي أرجوك، وتمس أصابعي وأحس بالحرارة العميقة والناشبة أوجاعها في الجسد الواهن. تنظر بعمق في عيني وتقول أريد أن أراهم لأني أموت الآن، أرجوك. وتحاول أن تعصر أصابعي وانظر لوجهها ببهوت. أقول : كيف لي أن اذهب وأتركك؟ تقول : لا تنشغل بي، أريد أن أرى الأطفال، لاتنتظر أكثر.
اترك أمي و أقف في باب العلية. الظلمة كثيفة، الظلمة ناشبة مناجلها القاسية في وجوهنا المتكتلة على ذاتها. بالبريق اللاهب والضوء النزيفي وأمي على الحشية وذراعها فوق جبهتها تنظر إلى سقف مجهول في عالم خرب تماما والمطر يهطل. اهبط إلى المذخر ومنه اخرج إلى العالم. أصوات السيارات منفرة. أحس إني أواجه كما هائلا من البشاعة الذهنية حيث يختلط أمامي كل شئ، ضجيج السيارات مع ضجيج رنات مجهولة لأجراس غائبة مع بربرة البشر ووحشيتهم وأنا أسير صلدا، صمدا، ثقيلا. ويسير الموت مع الارجل وتخترقني سهام ملغزة بالهميم، ملغزة بالثرثرة والهمهمات والصراخ والوطوطة والفرح والموت والاكتئاب وأمراض الانهيار النفسي والهجرات الخارجية والداخلية وغزوات منتصف الليل. اشك بإنسانيتي مع المطر الذي لاينقطع، أطوف في طوفانات بغداد والمجارير المسدودة والكلاب المتراكضة بين الأجمات المتيبسة في شارع المشجر. وأنا أسيرمنتهبا، شاعرا بانفجار رأسي، أعاني من الصراخ في دماغي، وامسك جمجمتي وأسير، أحس بالموت يترصدني وأنا ابحث بعيني عن أية واسطة نقل. لكني لا اجد واذهب في الصباح واتسلق باصات وسيارات نقل صغيرة واحشر بين الأكتاف والرطوبة وروائح الملابس والأنوف وتقترب مني الوجوه العجفاء وتلقي نظرة علي وأنا أقف مثل طائر الببغاء أغرد واحكي ملايين القصص قائلا : كلكم خراء، كلكم عبارة عن بيانو كبير تضع الأصابع عليه نوتات الحزب ورجال الجيش الشعبي وثرثرات القائد الضرورة.
أصل حي العامل حيث يقيم أهل زوج أمي وبعد قرع قوي على الباب يخرج أبو الزوج بلباس داخلي طويل وفانيلة - تعلاقة - أكلها الجرب ويحملق في وجهي ويقول : ماذا تريد يا ابن الكلب، ولّي، اذهب من هنا وإلا أخبرت الأمن عنك أقول له : اسمع حجي، أين الأولاد؟ أمهم تريد رؤيتهم. يقول لي مزمجرا : أي أولاد يا ابن العاهرة؟ لا أولاد لدينا. اذهب وإلا سأخرج لك - القامة - واقطع ايرك يا حقير، ياشيوعي، ويبدأ بالصراخ : ياناس هذا شيوعي. واشعر بالثولان واهرب ويبدأ هو برجمني بالحجارة والفانيلة قصيرة وتخرج بطنه العجفاء ووجه يشبه وجه بقرة تساق إلى الذبح. وأثناء الركض وفيما أنا ابتعد أتعثر بشيء ما، شيء من الفوضى في الشوارع حيث الحفريات ومياه الأمطار والبعرور والوحول والضفادع و اطمس في بركة صغيرة ويتلوث حذائي والجوارب والبنطلون بالطين، فيما الماعز البشري يتراكض في جوقات من الفرح ليصل دكاكين بيع البيض والدجاج المستورد.
أصل الباب الشرقي. وأجد إبراهيم جالسا يدخن وأمي ممددة على الحشية وتسعل. اجلس أنا أيضا بلا كلام. يقول إبراهيم : بشرى رائعة، حصلت على جواز السفر اليمني، ستسافر إلى اليمن الديمقراطي، ستساعدها الحكومة اليمنية هناك. ترفع أمي رأسها قليلا وتقول : أين الأولاد؟ وأقول لها متحيرا : طردني جدهم. تقول لي : تكذب، يجب أن أرى الأطفال، يجب أن أراهم الآن، الآن، هل حدث لهم سوء؟ أقول لها : لا أبدا. تقول : هل اعتقلهم الأمن. أقول : لا. تقول لي : لمَ لم تجلبهم إذن؟ أقول : جدهم هددني. تقول : تكذب، تكذب. يقول إبراهيم : بقيت لدينا مشكلة مبلغ الحجز. أقول : مالذي سنفعله؟ تقول أمي : هل جلبت الأولاد؟ يقول قريبنا : لدي بعض النقود لكننا نحتاج إلى المزيد. أقول : دبرها أنت بمعرفتك. تقول أمي : لخاطر الكاظم هل وضعت غطاء كافيا على جسمي؟ أقول : وضعت كل الأغطية. تقول : لمَ اقشعر إذن؟ يقول ابراهيم : من هذا الزاغور يتدفق الهواء، ويشير إلى فتحة في أعلى الحائط. أقول : أغلقه، أغلقه. يقول قريبنا : نحتاج إلى ورق مقوى - كارتون ادوية - تقول أمي : العاصفة بدأت واشعر بأمعائي تتقلص. يقول قريبنا : يجب تدبير المبلغ بسرعة. أقول : هل ستستطيع السير. تقول أمي : شاهدتهم وهم يقطعون يد طفل نائم في مهده ويلقم ثدي أمه المقطوع أيضا في كركوك. يقول ابراهيم : لا أقدر، المبلغ الذي نحتاجه كبير. تقول أمي : الغيمة بعيدة والضباب يهاجر والمطر بعيد. أقول : لمَ كل هذا ياربي؟ يقول قريبي : فكر معي، فكر بسرعة. تقول أمي : والعواء شديد والبرد همجي وأنا اركض في الممرات والمرضى يزحفون على بطونهم والأطباء يهربون. يقول قريبي : هل فكرت؟ هل فكرت؟ أقول : كواويد بعثية !! يجب الحصول أولا على كارتون لتغطية الفتحة. يقول قريبنا : سأذهب إلى المخزن و ابحث. تقول أمي : سليمة تسير وحيدة في الشوارع المدماة والجنود باحذيتهم الطويلة يدوسون القمر. أقول : بدل الكارتون و المقوى احصل لنا على إبرة لخفض الحرارة. يقول ابراهيم : لكني لا اعرف زرق الإبر. أقول : يجب أن تفعلها. تقول أمي : على نهر الفرات جلسنا وبكينا. أقول أنا : أما زلت تتذكرين سليمة؟ هل تتذكرينها حقا؟ تقول أمي : هناك بكينا، بكينا بصدق. أقول لابراهيم : هلم نزرع زرعا ونوقظ الطيور الغافية والمراسيم التي تذوب على مجاري الأنهار. تقول أمي : يَا رَبُّ مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ. كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ. كانت سليمة تقول له : لماذا تجمع حولك الشقاوات وأصحاب السوابق والمجرمين والعتاة. أقول أنا : أما زلت تتذكرين؟ يقول قريبنا : سأذهب لتدبير الإبرة.
أقول : اسرع. تقول أمي : ونركض في الشوارع المدماة مع الاحتشاد، أنا وهي والأنهار البابلية تهدر والوحوش البرية تلوغ في الدماء. أقول انا : اسرع، اسرع. يقول قريبنا : لا ادري أين وضعت الإبرة. أوقد الجولة البرد هنا قارس. انحني وأشعل عود الثقاب وتتوهج الغرفة فجأة وأوقد الجولة ورائحة الكيروسين حادة واشعر بالمرارة و تقول أمي : بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ فَيُجِيبُنِي مِنْ جَبَلِ قُدْسِهِ. سِلاَهْ *. أقول أنا : اسرع أرجوك، النمور البابلية تفتح أفواهها والتماسيح تقترب والبرد يمزق الأمكنة والرؤى والأحلام تفر هاربة. يقول ابراهيم ويده ترتجف و يدفع الإبرة عميقا في زجاجة الدواء : رباه. رباه، لمَ شبقتني. تقول أمي : وكنت اركض من دار إلى دار واصرخ، لاتقتلوا الأطفال. لكنهم كانوا يقتلون ويرمون الجثث في الشوارع بعد تمزيقها عام ١٩٥٩. أقول للسبع : يجب أن تنتهي بسرعة، الحرارة أصبحت لاتطاق. تقول أمي : قُمْ يَا رَبُّ، خَلِّصْنِي يَا إِلَهِي. لأَنَّكَ ضَرَبْتَ كُلَّ أَعْدَائِي عَلَى الْفَكِّ. هَشَّمْتَ أَسْنَانَ الأَشْرَارِ. ترتعش يد السبع وأنا انظر إليها ويقترب، يقترب، أنا أيضا اقترب، الضوء ضعيف ونار الجولة اخضر بألسنة حمراء داكنة وصخام، صخام في كل مكان، هباب في عيوننا وفي فتحات أنوفنا. تقول أمي : لأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ. جَوْفُهُمْ هُوَّةٌ. حَلْقُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا، الرفيق رقم واحد يقيم الحفلات في الامباسي وأنا أموت لبيع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مزامير - الكتاب المقدس
الجريدة والحصول على التبرعات للحزب. نزرق الإبرة في العضلة وتنظر أمي في عيوننا بارتياع وانفلات وملوك وأمراء وحروب وتهجمات وعواصف وخيل وصحراء وجبال وانهار تموت ورجال كي جي بي وعصافير تهرب وغربان تنعق وبحار تنشف. يقول : لا استطيع تدبير المبلغ كله. حاول أنت. أقول : من أين؟ يقول : من الرفاق. يمكن أن تتصل برفاقها. تقول أمي : لم تمارسون الدعارة مع الرفيقات وتدفعون الرفاق إلى أن يكونوا جواسيس. أقول : الآن؟ يقول : نعم. أقول واذا اعتذروا؟. تقول أمي : تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي، أُذَوِّبُ فِرَاشِي. يقول قريبنا : لا، لا اعتقد. حالتهم المادية جيدة. أقول : من باب الاحتياط، دبر أنت أيضا بعض المال. يقول : سأحاول. أقول : هل اذهب الآن؟ يقول: الآن، ليس لدينا وقت اضافي، يجب أن تتم الأمور بسرعة. أقول : سأخرج للعاصفة وسأطوف في المطر. يقول لي : أرجوك اسرع لان العاصفة على الأبواب.
أتوجه إلى الكاظمية، الى الدكتور سميسم، إلى الهباء الكلي. العيون هاربة ومكللة بالعمى، العصافير مبللة على أعمدة الشوارع والأسلاك المعدنية معلقة ومتدلية و البشر يذوبون في زحام الوقت والأيام والتسوق. الباعة يعرضون بضاعتهم وأنا مثل مهبول، مصاب بالرجة العقلية. أصل العيادة، اقترب من طاولة الممرض واطلب مقابلة الدكتور فورا. يقول الممرض : لا.أستطيع. أقول. نعم و يقول بصراخ : لا، اخرج، اخرج. يظهر الطبيب من غرفته، يعرفني و اصرخ فيما الممرض يدفعني خارجا : دكتور، ألحقني، أمي بحاجة إلى نقود للسفر. يقول الدكتور : لا أعرفه، لا اعرفه، استدعي الشرطة والامن. يقول الممرض : دعني اقتله وذراعه تطوقني ورأسي ينفلت من الذراع وكأني مشنوق، وكأني عبارة عن فم وأسنان تخرج من الفم والأذرع تطوحني. الممرض مع المرضى والهباب والصراخ، يبصقون علي. ها ها ها، احدهم مد يده، مد يده و أشاهد كفا تضربني، تصفعني واشعر بالطنين وعشرات الأصوات وصوت يصرخ قائلا : اخرجوا ابن الكلب، أمه كلبة أيضا، كلهم كلاب، كلاب وأولاد قحبة، إلى جهنم، تعيش ثورة ١٧ -٣٠ تموز المجيدة.
أقف عند الناصية، ناصية شارع باب الحوائج الوحشي في الكاظمية مواجها محلات الذهب والملابس النسائية الداخلية. هل هناك من هواء؟ لأني اشعر بالاختناق، بهسيس يشبه هسيس نجوم بعيدة، انه اعتوار، اختراط سيوف توحشي، ميتافيزيقي، انه نعال في وجهك. نعال اسود من صنع مصنع الحسنين في بوب الشام. لكني لا اشعر بالهسيس بل بالإحجام.
أتركُ الكاظمية والدكتور سميسم و أتوجه إلى ضمير الصيدلي. أصلي في عمق غريب لروحي ولحمي وهو يزحف بين الأشواك نادباً إنه الأمل الأخير.. وبعد رحلة كوسترات* متعبة. خانسة، رافعا يدي إلى السماء قائلا : أنا المستريب، نواصي القلوص. الأشجار التي فارقتها في الزمن الخابئ، سدرة المنتهى. أستريب وإنا أسير مصطدما بالأكتاف واللعنات في شارع السعدون بعيدا إلى الضوء الأخير لذوبان الشمس العاهرة. شمسنا المفتتة كالأحجار، المحاطة بالتنهدات والنذور والعَلكْ والبُطْلّة * والعتاوي والشطار والعيارين في أسواق البزازين والسراجين والوراقين، بلعنات وسباب وكفر، تُسحل إلى ماوراء جسور بغداد العظيمة عندما تتعامد الإشعاعات الكونية على زوايا جامع الوزير ومقام الكلّيني و قبر ابن خُرْدَاذْبُه، حيث نكفر بكل سلاطين حياتنا والمُلك المعضوض وما روته زبيدة عند اخدار النساء في مشهد الضراط على العالم وعلى الفلسفات عندما لا تجتمع العصافير في بغداد، ولاتشرب الأيائل من الغدران، ولاينام البلبل في بستان إبراهيم البهرزي *.
ـــــــــــــــــــــــــ
الكوسترات : جمع كوستر وهو اسم باص نقل صغير.
البُطْلّة والعلك : وصفة لفك السحر
ابراهيم البهرزي : شاعر عراقي
هاجسا هنا كل الاهتزازات وانا اسمع الكفر تدردم * به جدتي، مثل صاحب دكان البايسكلات ولاعب الريسس والخبازة و زوجها وسائق الباص والمطيرجي والركاع وبائع السمسمية و الجابي وبائع السمك و الجايجي و الجرخجي وتيتي القطارات ومكادي باب الشيخ وباعة اليانصيب. جرائد ورقية ممزقة في المزابل، الحانات والخمارات والقحاب وولدان منتصف الليل. البهجة الملعونة ملتوتة بعجيج خفي متراكم في عمق أعماقنا. اذ نشعر باللذة المقدسة ونحن نبصق بوجه الآلهة، كبيرها وصغيرها، آيا كان اسمه، صفاته، تشنجاته، رغباته السادية في التعذيب المتوحش للمخلوقات الهزيلة المركونة إلى متكأ الأفكار الغريبة والجنون. نحن عظام هزيلة تسير بالهرمونات والاحماض الامينية والتشنجات، أجساد متخمة بالغصات والمعجزات والإشكالات الروحية والأخلاقية. نجلس إلى اي مكان في العالم ونشعل البخور ونتسور بالعَلك ونبكي اللذة المستنبطة التي لامفك منها للعراقي كعرق المستكي، وهي النزيف المتوهج و النحيب، وربما الشجن مع التذكارات المعلقة فوق الأشجار البهيمية والصحراء وضفاف نخيل الأنهار السماوية.
ـــــــــــــــــــ
تدردم : تبربر
ومن شارع السعدون أتجه إلى ضمير وفي دماغي تثور الحكايات. أنا مع جدتي في انبهار الأمطار والضوء الشديد (العتمة ) والليل - الكثيف (البياض) وغربتي عن العالم بسبب هجران امي لي في مواسم الليل والنهار والطفولة المؤلمة والانتظارات القاتلة كل خميس لمشهد وجهكِ الضائع بعد ذلك في انشغالات حياتك العائلية الجديدة بعيدا عن التذكارات المؤلمة بشخص نفسي باعتباري فزاعة الماضي من حياتك.
وأصل صيدلية ضمير واشعر بنوع من أنفة توسّله. وأقف أمام الصيدلية وأحاول التقدم. الخطو مرير، ويالهذه الحرب ! واستند إلى جدار مدخنا و بيتم شديد، يتم أني أبحث عن المال اللازم لأمي وسترحل عندئذ عبر الغيوم، وأفكر أن أعود لأقول لها : إن الصيدلي لم يمنحني أموالا، أريد أن اكذب لكن شيئا متعلقا بمهجتي يصر على دخول الصيدلية وأقاد مرغما مستغلقا. أريد أن تبقى أمي بين ثنايا شهواتي الدنيئة وان اشعر بوجودها قربي حتى وان كان ذلك بعيدا، في السجون. ادفع جسمي إلى الصيدلية و تصفعني رائحة الأدوية. أقف كمشوّه متلبثأ أمام ضمير المبهور والمرتبك. ويسحبني هذا بسرعة إلى غرفة خلفية تسمى غرفة التحضير ويقول لي : ما الذي جاء بك ثانية، ويكفر و أقول له : إنها بحاجة إلى مبلغ من المال. ويقول لي لماذا؟ أقول له، حصلت عل جواز سفر وهي بحاجة لمبلغ من المال فينبري قائلا : خراء، وما الذي ستستفاده من السفر غير التشرد، ويمسح - رواويله - عن فمه ويمد يده ويعطيني مبلغا من المال بشرط إعادته مع الفوائد. وفيما أنا أتوجه للخروج يقول لي : قل لها إنها مجنونة. اغلب القيادات سافرت بموافقة الدولة إلى خارج العراق وبعض الكوادر سلمت نفسها لأجهزة الأمن ومنحوا مبالغ مالية ممتازة وسيارات بيجو جديدة. قل لها إنها ستدمر حياتها، ستدمركم، اللعنة على الحزب.
اترك غرفة التحضير وضمير يهذر ويمج من بطل عرق ويصرخ عندما أصل الباب أن لا أنسى الفوائد.
**
غيوم الشناعات تهبط هبوطا الى الأرض. السماء تمطر وحشة ودهشة. اشعر بأشياء داخلي تتفاعل لكني لا أتعرفها. إنها مزيج ملوث من رغبة مخيفة تشاكسني فابدو مهلوسا وكائنا إلى الخراب.
أصل المذخر واجد حرارة أمي مرتفعة مرة أخرى. يقول إبراهيم وهو يجلس قربها ويحاول تغطيتها بأردية ومعطف عتيق، انه زرقها إبرة ثانية.
أقول : ستموت؟ يقول : لا.
تقول أمي : يجب.
يقول : هل جئت بالنقود؟
أقول : ما الذي يجب؟
يقول : إنها تهذي.
تقول أمي : أموت دونهم.
أقول : لمَ تفكرين بهم؟
يقول إبراهيم : يجب أن نجهز كل شيء، يجب أن تسافر بسرعة قبل أن يعرف
زوجها مكانها.
أقول : متى؟
يقول : غدا سأشتري التذكرة.
تبكي أمي بحرقة و تطير غربان الحقول و تنبح آلاف الكلاب و آلاف الخفافيش والجرذان والقمل. ألمس وجهها، اشعر بشيء غريب داخلي يقترب، يتمدد، أخاف منه، أخاف فيه، هل هي النبوءة لما أريد؟ إنها تبكي بحدة وتكرهني، اعرف، تكرهني عندما انظر لأطفالها في حضنها. تكرهني عندما اضرب أبنها. تكرهني عندما تسافر مع أطفالها الى وارشو والبلاجات دوني، تكرهني عندما يطلقون عليها أم... من دون اسمي وأنا الطفل البكر. تكرهني عندما تشتري لزوجها صناديق البيرة وعشرات أزواج الأحذية وأنا بقندرة واحدة لكل المواسم. شعور النكرة قاتل وأنا أشاهدهم يستلبون الشئ الوحيد الذي لي من هذا العالم، هي. فلتخرج إذن الدناءات من أظافري ومن قلبي السكاكين والقامات.
**
انهض وانسرح خارج الغرفة وأشعل سيجارتي واشهق دخانها بقوة. انظر إلى الساعة وأحس مع القلق أن أمي تراقبني. هل تهجس الشكوك وتداريها بغفوة العقل؟ أفكر ويرتعش فمي رعشات صفيرة حينما اشك في لحظة المعرفة التي ستصل إليها الآن أو لاحقا. يصل إبراهيم ويقول : حصلت على التذكرة، السفر غدا صباحا. يلفني فجأة مالايفهم هوعبارة عن خرابيط ذهنية وسجالات وضحكات ونظرات مستريبة وعواء وانفلات في دائرة الوسخ والوضاعة. أشعل سيجارة أخرى واشهق بخبال ثم ادخل الغرفة وأتأمل أمي التي تنهض رأسها قليلا وتقول هل كل شئ بخير؟ التفت و أقول : نعم. واشك إنها تعرف غريزيا نوع السماء التي تظللني.
**
نتحرك في الغرفة بسرعة، نحاول أن نضع بعض قطع الملابس في حقيبة لتبدو ملآنة ولا تثير الشكوك. أصابع امي تبحث في حفر الذاكرة تقول : الأصوات تنهكني، هل تسمع؟ لا أتكلم، واعمل بسرعة ككلب يلعق عظما، أضع الملابس، أغلق الحقيبة وازرر ثوب أمي جيدا. أصابعي تفوح برائحة نتنة. ساعات فقط وربما دقائق أو خطوات، ستنقلنا السيارة إلى المطار وهناك سأواجه المحنة الكبيرة. أتساءل، هل استطيع أن اقبل الخد وانهي كل شئ؟
يجب ان لا انكر اني أنا أمام شيء يمكن أن يطلق عليه المواجهة أو العدم، وأفكر بالعدم متسائلا هل هو الفراغ أم الموت أم الولادة القصرية، ام طفل يفارق الحياة ساعة ولادته؟ اشتهيت موتي في الدقائق المتبقية، الساعات وعقارب الوقت تتسلق رقبتي وتصر على خنقي. يجب أن اهرب، ليس مهما المكان بل الوقت. لم اشعر بسلطة الوقت كما الآن. أتنفسه، يمسك بخناقي، أحس بالشد العصبي على رقبتي. الجميع اخطأ أحاول أن امس رقبتي لأحررها، فقط أريد الفرار من ضجيج الأصوات حولي. تقول أمي والطامة الكبرى على وشك الوقوع، الأحلام تؤلمني جدا، أشاهد ملايين العصافير تهرب وحدها وأنا اجلس تحت سماء منفتحة وكيبلات معلقة في الهواء ثم أتقدم ببطء نحو حفرة واقف على الشفير، اقف والعيون تنظر في لامكان. لكني أجدك على الضفة الأخرى وكأني أنادي قائلة : الأطفال، الأطفال. لكن لم تقل أين أنت بعد ذلك؟..انشغل بالتدخين والفكرة الغريبة التي تنمو في عقلي.
ننزل إلى الشارع فجرا والبرد قارص. لا شمس، الغيم كثيف، دخان متواصل ينبعث من عوادم سيارات هاربة نحو التفاهة ومن بسطات شواء التكة. العمارات في الباب الشرقي تتحلل. لا باب شرقي في الباب الشرقي. فقط ساحة الطيران وخزان المياه الذي يشبه اله متعجرف. تمثال السعدون يقف وسط البلادة والكسل والانضباطية* والجرخجية * مخاط جاف يلتصق على موقف باص 62 المتوقف وسائقه يعلس صمونة مع استكانة شاي بقوة التأمل الصباحي والكفر. نحن لسنا في فجر بغداد، بل في رحلة استكشاف الذهن ووجوم يغيم على العيون المنهكة برائحة الكيروسين. تقول أمي بتوتر، إنها لاتحس بالبرد، بل بالضياع والخوف. إني أتأمل حياة كافرة - حياتها - من دوني، بين المقتربات الذهنية وهي تتكافأ مع بوادر ذاكرة ممزقة. نعم، اشعر إن من ينكرني يكفر بالذات الإلهية. هل جربت تمزيق الذاكرة؟ أحاول إشغال عقلي برؤية فجر الباب الشرقي، لكن اللعنات تنمو على وجهي مثل الطحلب البري، لماذا؟
تتوهج في عقلي الفكرة، اقول انها مخيفة، ثم تنزلق هذه بين المخيخات والتواءات الفصوص الدماغية ومحاولاتي استكشاف المناطق الغريزية في العقل البايلوجي ومواصفات الشعور ان جعلت الفكرة قيد التنفيذ.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الانضباطية : الشرطة العسكرية ومهمتها الرئيسية البحث عن الفارين من الخدمة العسكرية.
الجرخجية : الحراس الليليون.
هل أفعلها؟ اقول في سر ذاتي. اني احاول ان اجد المسوغات العقلية لتنفيذ الفكرة، لا اريدها ان تهاجر، اريدها قربي. نصعد سيارة الأجرة ويتنامى فيّ إحساس التوحش و أخبئ القبلة في الضباب واشعر إن هناك تماثلا بين ما أفكر ورغبة أخرى مدفونة في التاريخ. يسير يهوذا أمامي وهو يحمل لي شعلات النار وأنا في قلعة المصائر التائهة.
هل جربت التشيؤ مثلي؟ أسير في المدرسة المتوسطة وسط الضحكات، وسط نظرة شمولية عنك بأنك فقير جدا ويتيم وتمنح أمام عشرات الطلاب قميصا أبيض. هواء، كراكيع، فسائل النخيل ترتعش عندما انظر لجدتي المشعة وهي تحوقل في عين الطبيب ليقول لها وأنا ممدد على السديه في تساقط الوعول البرية على أجسادنا البلورية، او نرتكض هلعا، باني مصاب بالشيزفرينيا، كيف داهمه هذا المرض وهو بهذا العمر الصغير؟ وتقول جدتي، كل شئ بدأ حلما، كان يحلم دائما ان امه تزوره ثم يبدأ الحديث معها وتقبيلها والنوم في حضنها والتماس المخدة على انها الثدي، ثم تطور الامر و خرج من العالم واصبح يعيش في عالم غريب لا يوجد به الا هو وامه. ويهز الطبيب راسه ويقول لماذا لاتجعليه يرى امه. وتقول هي : ليس الامر بيدي، هل هناك من مجال للشفاء؟ ويهز الطبيب رأسه نافيا وتقول جدتي : ساخذه الى الكاظم واربطه هناك. وينظر الطبيب ساهما ويرجع لنا اجرة الفحص وتقودني هي من يدي ونعبر جسر الشهداء إلى الشواكة و من هناك إلى الكاظمية، وفي حضرة الكاظم بين رصاص الدعاء و رعدات التوسل والربط بالشبابيك في بهاء الأنس الأشهب، يجتاحك بله الطفولة وقبلات الزوار وقراءات الملالي ورائحة الجواريب وأصابعك المشبوكة في وحدة الموجود الديني. وياله من اضطراب ! ونزور قمبر علي وتشعل جدتي شموعا وعندما نخرج من الضريح الاخضر اشعر اني بحاجة للتبول وتسور علي جدتي عباءتها وابول بارتعاشة الخصية المتكورة المتقلصة. إني أهيم بالتضوع والهلوسة وليلة القدر وتنكات دهن زبيدة وسينما الخيام وكبة الكبة والطبك والعيون الكهربائية، بعيدا عن مطعم همبركر ( ابو يونان). إني امسك صورة أبي وأغرز فيها جطل* الطعام الفافون في هلوسة النفور والتقزز والكره، لان جدتي غالبا ماتقول : لن تكون مثله ابداً، كان رائعا، جميلا وشعره كسرات يلمع واحذيته انكليزية وبينباغه من لندن وأكره أبي وأبول على العالم الذي يكرهني مع حبات كلاجة لوجع الاست والأسنان والظهر والبطن والمحالب والاسقربوط، والقولنج وحلاق يقلع ضرسا بخيط اللحاف في الجعيفر ودهن شعر اخضر ومشك، و ياله من نزوع شرير! بنج، ضراط، فساء الحضارة في وجهي.
عشية سألني يوحنا اللاهوتي عن الخائن، فابتسم و اقترب رويدا من القبلة. عليك أن تتذكر الشتاء ولحافك البارد وإصابتك بالمرض. لان لا أصابع تمسد وجعك وقتذاك ولا غفوات لرؤوس لذيذة تنام على جوانبها وجوانحها. ما أحقرك في هذا العالم !! كنت انتظرك، عشيات تحت المطر وبرد كانون ومراط ممزق وعيون متكاسلة ووهج ينطفئ، انتظرك مثل طائر الكاو بعيدا عن العش، قرب سكة الحديد التي تشطر اليرموك وانا بانتهابي انظر إلى الأفق وصوت قاطرة قادم من الضباب. كنت انتظرك واضعا الحجر الأبيض والحصى على سكة القطار وتاليا أحدق في اللقالق تعبر سماء مبقعة مثل كلاب صيد في غابات مدفونة عميقا في الذات.
انظر إلى وجهك الآن حيث تستعدين للسفر والأذان تلتقط ترددات غامضة بأن أمنعك. كنت أقول يالهذا الصوت !! وأشنف الأذان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* الدوشك : الفرشة التي ينام عليها الشخص.
*الجعيفر : منطقة سكنية في بغداد
* الجطل : شوكة الطعام
أترقب صوت الصليل، البوح، البحة، الحشرجة، صوت يشبه صوت دحية الكلبي وهو يوشوش في أذني، يقرأ علي زبور الفراق الكائن والذي سيكون. سأكون مبعدا أبديا وتطلبين أنت من إبراهيم أن يهتم لك بالأولاد ويحاول بأي طريقة إرسالهم إلى حيث تكونين اما انا الكلب ابن الكلب فأاذهب الى الجحيم..
نتوقف أمام نقطة تفتيش قبل الدخول إلى المطار وتتقلص أمي أمام الشرطي وتندفع عميقا إلى المقعد الخلفي. داهمتني رغبة قوية بأن اصرخ بوجه الشرطي قائلا : امسكها، لاتدعها تهرب، أرجوك، ليست لدي القدرة على إتمام هذا الأمر، أنجز المهمة عنّي، إنها هاربة وستهجر هذه الأرض، ألا تفهم؟ ستهرب مني، ستهرب من ارض الخل والتمر والعرق والسادة والكشونجية والشأبيب والطهور والقلف والدماء والأقبية السرية ودهاليز المتحف البغدادي وليفة الحمام الخشنة والقامات والرايات والتشابيه ومحل المقص الذهبي وعالم الاطفال عندما رفضت أن تشتري لي طائرة ملونة واشترتها لابنها، و تشبثي بشراء جوارب هيب هوب وتمرّغي على الأرض وصراخي ورفضها لإرادتي لأنها ببساطة جوارب بناتية ولم تفهم هي المعنى من تشبثي، ومدينة الألعاب حيث رفضت أيضا أن تشتري لي لفة من الباعة المتجولين وبكائي الهستيري والناس ينظرون إلى هذا الخِبل ثم استسلامها لإرادتي وبعد التهامي اللفة أصاب بالزحار والإسهال والتحقيقات الجنائية والقيء واللصوص والسراق والدبيب والمخنثين والعيارين وشذاذ الافاق والدراويش والعاهرات والعسس والهريسة والقيمة والشوارع والأرصفة وعلامات المرور المائلة والبرد وكشف البخت لأبو معشر الفلكي والنساء القاعدات على عتبات الأبواب بدشاديش كيمونة سوداء وبدلعة كبيرة - قبل ان يحل الحجاب - والفساء في الأحلام وتفسيره لابن سيرين وعربات الباقلاء بالدهن الحر والنارنج والبصل الأخضر والبورك والفشافيش والاترج والفالوذج والفحم الأسود ومرق الباذنجان والبربين والفانيذ وصياح الديكة على مدار الوقت والبشوش* وفنادق علاوي الحلة المترعة بالمخاط على الحائط قرب دكمة الكهرباء السوداء مع بقايا عود بخور والافرشة المنسولة ورائحة المرحاض وموقف باص ٤ والدبانستري.
ويسلم الشرطي جواز السفر المزور إلى أمي. وتمد أصابعها وتلمس الغلاف واشعر بالأسف. اذ لم أكن قادرا على التكلم. كنت مهزوما ولايمكنني التحكم في عضلات فمي، لا استطيع. لكن يجب أن تُمسك وتقاد إلى جوف الوطن. تنطلق السيارة مرة أخرى بنثيث المطر، بنثيث الهزء،
ـــــــــــــــــــــ
البشوش : البط
بنثيث الطين. تنطلق روحي أيضا مروعة وأنا اسمع داخلي صراخ وعويل وتوقفي في المطر قرب الجدار بقمصلة شتوية وبيجامة تحت البنطلون أمام منزلها وهي تخرج مع زوجها وأطفالها إلى حفلة بقاعة الشعب. نصل المطار و اهبط من السيارة كملك مهزوم. أسير خلف إبراهيم وأمي تشكو دوارا. نسير لكننا نضيع في البخار والابتراد وتقلص عضلات وجهي. ندلف إلى الداخل بشفاه مزمومة ووجوه كالحة وعطر السماء يغلفنا.
أمامي دقائق فقط كنت أقول، ليس أكثر من نصف ساعة وأعلن موتي، أعلن ضياع الأم، وتمرّ في ذهني خيالات غريبة، خيالات شديدة ليست لها علاقة بالواقع المحيط بي والمسافرين والبوليس والضجة العارمة والأصوات المنطلقة من المايكروفونات. فجأة اشعر بصمت هادئ وأحس إني اغرق في غيمة رمادية والساق تتقافز بخفة لذيذة واقف مثل يوشع. غموض يداهمني مغلفا برؤى الشيزفرينيا وعوالمها، واسير ببطء وأقبل خَدّ أمي واشعر بتيه وخدر، واجد نفسي فجأة أمام شرطي، وابهر إذ أقف إزاءه ملتوتا ومضمخا باللعنات، لعنات كبيرة وضاجة ومرح وضحك ومدن تتراءى أمامي وصخب جدتي تعاقبني بنعالها الأسود، ثم صخب المطر والنثيث الذي يغمر وجوهنا ويغمرني فيض رائع من الهلوسة وتدخل أمي بوابة المسافرين وإبراهيم يلوح لها ثم يقف مستندا إلى حاجز قصير يدخن بشراهة ويتلفت قلقا. وتتوقف كاميرا الطفل عند مشهد واحد، نقطة ذهنية واحدة واتوسلها
- الكاميرا - أن تتحرك، لكنها تصرّ على الثبات حيث أرى انسلاخ جسدي وتشكل هيئة ثانية وهي أنا أيضا، وأعجب إن لكلينا ذات العقل، لكنه يتميز بالقوة والانتقام والاندفاع وليس مهزوما. وتقف جدتي أمامي وهي تكفر بحدة و تحاول انتزاعي من قرب سكة القطار بانتظار أمي. وقتها كنت اشعر بالغصص تتصاعد إلى فمي وأنا اندسّ في الفراش وأغطي وجهي باللحاف متثنيا ببكائي لعدم مجيء أمي وعلي الانتظار أسبوعا آخر وآخر وآخر واهس هسيسا الى الشرطي وأغمغم بأن فجر امكانيات قهرك أمامه وابكِ طويلا ومريرا وبُحْ بالغموض الذي يجللك. افعلها ولو لمرة واحدة في حياتك، انتقاما من لا مجيئها وانتظارك في الصباحات الباردة وأنت تجلس أمام الباب. منذ متى وأنت لاتنام؟ تذكر طفولتك، قسوة الحجر والمدر والطحالب على وجهك والقمر كبير وأنت أمامي متوحدا. تذكر افتأتك وعوز جدتك وفقرها وغرفة النوم المطبخ ورائحة سائل الكيروسين تعبق في الأمكنة والهواجس وصخام يلطخ سقف الغرفة ووجهك وملابسك وجارنا يقول للجار الاخر حيوان هذا بلا ام ولا اب و تذكر الصراصر التي تسير على ملابسك و ترتديها في الصباح ذاهبا إلى مدرستك متوحدا في ذاتك المنهكة، تذكر استلاب أمك من قبل زوجها واغتصابها، تذكر اليوم الممطر وأنت في بيتها وتشعر برغبة النوم قربها لكن زوجها يسلبها منك وتسمع هسهسات وضحكات خافتة.
ويتحرك الشخص الآخر وتنظر أمي من بعيد، من أمام شباك الجوازات وبأصابعها الباردة حتما تدفع جوازها. وينظر إبراهيم ويسحق بعصبية سيجارته على الأرض وينظر ضابط الجوازات في وجه أمي، وأهجس حركة شفاه متبادلة وتصلني أصوات غير مفهومة ولا واضحة وأحاول تلمس الكلمات وفك الأحجية، لكني لست من هذا العالم والحجر الذي رفضه البناؤون يقذف به بعيدا، و فجأة اهتز عندما يكلمني الشرطي شاعرا بالهزيمة والقبلة التي طبعتها على وجه أمي تنمو كزهرة الراسقي.
يلتف حولي رجال بربطات عنق وبدلات رمادية وسوداء. ولا افهم مايقال لي ولا افهم الصمت أيضا. أعيش لحظة خرس عميق وانبهات ولا تأثر بالعالم وهو يموج أمامي. تقول لي الأفواه المفتوحة والمظلمة : هل تعرفها؟ واضُرب بقبضة على رأسي، لكني لا أحس. جسمي مرن و أعيش في عالم آخر. ابتسم وأنا أطير بانتظار أمي قرب سكة القطار، وفي الطارمة الخارجية للبيت قرب السدرة وملايين قطع سكراب السيارات. انتظاري لها في البرد، المطر، الوحول، حُفِر المجاري المملوءة بالماء الآسن والدعاميص، انتظاري أيضا في وحشة صراخ أطفال المدرسة ورائحة الكيروسين تنسرح وأنا متوحد مع كتاب القراءة، وأهمل المطر الذي يبللني كشميم راسقي، وفي الصف الدراسي أصاب مثل الآن، بانحشار الزمن وتضخمه، نهايته بأنك خارج علم الساعة وخارج المكان. لا اسمع صوت المعلم لأني لست من هذا العالم. لمَ لا أُفهم؟ واحلم فقط، احلم بأنك بلا أطفال، احلم باني ابنك الوحيد راكضا بانفلات الزهد، بعلانية الموجود، في مدينة الألعاب وأنت من هناك. من غواية الأمومة المغروسة فيك كدم، تجرين خلفي وأضحك بقوة سحرية واستمر بالركض والضحك حتى اسقط على الأرض متشنجا مثل مصاب بمرض عضلي.
يقول ضابط الأمن وهو يمسك ياقتي ويرفعني قليلا عن الأرض : تعرفها يا كلب؟ لكني لست هنا وصائرا إلى الضحك لأنك في الطين مثلي، لوحتنا الشمس والصيف والبهجة والمجرات وأنا معك في سيارتك الموسكوفيتج ونحن نتوقف أمام (أبو يونان) لشراء الهامبرجر. و يكرر الضابط سؤاله ويصفعني فجأة وانتقل إلى عالم طنين الوجود خارجا من الأحلام مثل مريض يشعر باقتراب نهايته، وأفاجأ بوجودي في هذا المكان. يصرخ بي الضابط مرة أخرى، وينطلق من فمي الصوت : لا أعرفها. لكني استغرب الـ لا وابحث في عقلي عن الأسباب التي دفعتني لنكرانها. ينمو إلى ذهني انه يجب أن أجد تبريرات، والتبريرات جاهزة حينما اغرق ثانية في الانجاز الرائع والضربة الموفقة التي وجهتها لتمام العالم وتكويني لبؤرة حية جديدة لاستمرار الحياة بأشكال مختلفة واني أنجزت الأهم في حياتي، أن لا ادعها تهرب مني هذه المرة.
هل ما فعلته كان ضروريا؟
تنقذف بوجهي ضربة قوية، تلطمني ويهتز كل شيء. حتى الأصابع والشعر، شعري الجميل الذي كانت تمسده قبل زواجها. إني أتذكر على نحو مذهل تلك الأصابع الطويلة البيضاء والمليئة بالنمش وهي تمر على خصلات شعري. يغمرني فجأة شعور الطمأنينة. لا أحس بالضربة الموجهة إلى فمي وأسناني تنزف. لكن النكران رغم البرد المحيط بالقلب يستمر على نحو مذهل، و أعيش حلم الخداع العقلي قربها قبل زواجها، اذ نزور الأصدقاء وأكون أنا بالنسبة لها المركز والمحيط، الزاوية والأضلاع، ومحض الاهتمام. كنت أفكر انه حتى لو استمر الضابط بالضربات والجامات فأني سأحلم بعيدا ومحلقا في السماوات حيث الآلهة ترعاني وتمدني بنسخ ديمومة الحلم اللذيذ الذي يوصلني نحو جسدها ورائحتها القوية. حب غريب اشعر به نحوها، لكنه محطم وعندما لا استطع تحطيم زوجها فاني اتجه نحو ذاتي.
إني اقرأ في عوالم غير العوالم الحاضرة، لأني أطير مثل سعلاة في عالم مغاير لهذا العالم وقوانينه، حيث لاجاذبية إلا الحب. ينظرون إلى وجهي و يحدق احدهم فيه. يقترب مع سيجارته والدخان يلتوي على وجهي لان لا هواء في الغرفة، فقط أنفاس تترى مثل الأحلام. أنفاس شهيق وزفير مكتوم. وأنفاسي سريعة التدفق لكن القلب يدفع بي إلى مكان آخر. هو ليس المكان الحالي، لكنه مكان مكوَّن من قلب واحد يحتضنني أنا وحدي وفجأة أجد نفسي خارج هذا القلب واللوعة تطاردني.
إني اخرج من عالمها إلى عالم آخر بعيد، وحتى الأحلام لا تريني أصواتها ولا صوت قلبها و لااصغاء إلى صوت جدتي باكيا كوني بلا أب، والآن افقد، أو فقدت، حتى الأم، وأنت لم تزل بعد في سنتك الثانية من الهزء والعالم وحشة كبيرة ومشاهد ميلودرامية وكوميديا سوداء.
نحن نضحك ملتوتين، نضحك محنطين مثل مومياءات. لكنها الآن تبقى.
أفكر فيما الضابط يستجوبني وأنكر مرات متعددة معرفتي بها. ليس مهما أن تنكرها، المهم أن تبقى في عالمك ولو إنها رحلت إلى البلاد البعيدة سيكون الإحساس بالفقدان اكبر وأعمق وستطلب أطفالها وسيسافرون وانت ستبقى هنا. ليست المسافات الأرضية هي المشكلة، لكن المسافات الذهنية هي التي يجب الاهتمام بها، يجب الخوف منها.
عندما تذهب إلى السجن سأفكر أنها ستكون وحدها، ليس مهما أن تكون في زنزانة. المهم انه ستكون وحدها دون أطفالها. سأتمكن للمرة الأولى بعد مليون عام من اللاحب أن أعيد الساعة الرهيبة لما كانت عليه. اخرج من غرفة التحقيق من دون شعور جسماني بالألم. قدما أسير في الممر المؤدي إلى باب الهروب المبحلق في الكون، واسمع صوتها يأتي متحجرا من غرفة ثانية، مخلوطا بتحقيقات طويلة. إني اسمع صوتها الآن، لكني لا اشعر به، بمعنى أني فاقد القدرة التدميرية التي اجتاحتني للحظات فغيرت بها العالم، سمه ما شئت، افتئاتاً، رغبة تحطيمية، نوبة صرع، دمدمة، نوبة مغايرة عقلية، لايهم. إني ابحث مرارا عن توصيف أكثر دقة للاحتشاد الأخرس الذي نكل بي. منتهبا مثل ارض، خراف تطير بأجنحتها السماوية وهي تلتهم الأدمغة البشرية. لكن دماغي لا وجود له، لأني منته إلى صفة أكثر التصاقا بذاتي وبنحو غريب فعلا. باب غرفتها موصد بأقفال ورجال بوليس سري وعلني على الأبواب. هنا تدخل في متوازية الانتهاك، غير إن هذا الانتهاك ليس قاصرا على ذاتي، إني أوزعه عليها وهو يشبه شعور ضفدع في سبات شتوي حيث لانأمة ولا مطر، فقط طين لازب نصنع منه آلهة لنعبدها.
اسمع صوتها قادما من الغرفة التي أتوقف أمامها لحظات لأشعل سيجارتي ثم أسير مندفعا بلا انقطاع في المطار. أسير رافعا رأس انتقامي دفعة واحدة كأني أبول على الحيطان في مساءات بغداد، وأنا أتناول خمري ورعدي وبولي يغطي طرقات العالم الصخري.
أخطو بلا توقف، مفكرا، ليس تبريرا لما حدث، ليس أسفا على ماصار، اذ ترفعني يد الشيطان الذي وسوس لي، يقبلني الآن، يمصصني ويربضني على أجنحة النيران مغادرا العالم القذر إلى بهاء روحه الجميل، إلى ـ صنعة صيغة القصوص وترصيعها يوم خلقت الكروب المظلل وأقمتك على جبل الله المقدس. كنت بين حجارة النار وتمشيت، أنت كامل في طرقك من يوم خلقت حتى وجدت فيك إثم *- لكني لست آثما، بل ملعونا كنت وسأظل ملعونا مطاردا بالجحيم والسحرة تتبعني، حيث أطير مثل خفاش متلجلجا و أحلِّق كحيوان خرافي - تنين - أفعى النار المقدسة في رؤى السحرة الشامانيين والعرفان ورجال التصوف الهندي والحاخامات وأسرار الهيكل المقدس وطيران السادة المحمديين، في غرغرة مريرة من روحي وأنا اضطهد المسيح، مسيحي الذي رميته الآن بالسهام والدموع والزهرة الميتة على درفات شباك موصد بوجه الفجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب المقدس
اترك بوابة المطار، اخرج من الدرفات، اخرج من المراحيض، أقول ياللسماء!! لمَ كل هذا الخراء في حياتنا. لم الخراء أصلا اذا كنا مدنسين إلى هذه الدرجة العظيمة من السقوط الهيولي في التاريخ.
اجلس إلى الرصيف، البرد يجمدني، البرد صحراوي، تكريتي، شيوعي، بعثي، يفيض بي و به، شوارع عمياء ملتوية ومغمسة بالنفط الأسود المنبثق من الأرض لتكبيلي وقتلي، كل الشوارع مسفلتة، شوارع وأنا في نهايتها غيمة تعبر ارض جنون خارق للهلوسة، للفكرة المريضة والميتة مثل كلب أجرب.
لم أكن أريد الانتقام منها فقط، بل من كل الحياة. وصل الموج إلى الحافة العليا لرقبتي وأنا ادفع كل الحياة نحو متخيل الموت. اكره ليس الحياة وليس أمي فقط، إنما الجميع. اكره كل شيء. كل النساء، كل الرجال، كل الأطفال، كل الشيوخ والحمقى والذئاب، كل الباصات في شارع الرشيد والباب الشرقي. اكره كل انتماء لهذه الأرض، لهذا المجتمع الذي فرض على أمي الزواج وأبعدني عنها انصياعا لعادات المجتمع الذكوري الوحشي، الهمجي، الذي يدين الأرملة التي لا تتُزوج، أو تبدأ دورة التلفيق على شرفها.
الفصل العاشر
في الطريق إلى بيت قريبي أفكربالآتي، هل يمكن أن يلقى القبض علي؟ وحينما أفكر اشعر بقشعريرة في الشوارع الطويلة والمتعرجة. أنت تسير ليس في شوارع بل في دروب محقونة بالخوف والاحتشاد الذهني يصل إلى مديات كبيرة واليباس العقلي ينقلك إلى مستويات من التفكير المشوش. أصل بيت قريبي وعلى الباب أضع قبضتي الملتهبة والعيون المبحلقة في الظلمة لكن دون رؤية شئ. إنها نستالوجيا الفكر المتخبط بين جدران الوهم وأنت في القعر تصرخ والشياطين البعثية ترميك بالمقالع والنيران اوقذائف المنجنيقات. ألهث وأنا أقف على الباب واطرق بارتعاب ولا استطيع إيقاف اللعاب عن الجريان.
يخرج قريبي من وحشة صامتة، من نومه. وينظر إليَ بانفعال ثم يسحبني إلى الداخل ويقول : لعنة الله عليك، ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ أقول : هربت، هربت. يسير بملل ويشعل ضوء غرفة الاستقبال واصرخ به طالبا الظلمة. لا استطيع بعد الآن أن أعيش في النور. يقول : مابك؟ تكلم. يردد هذه الكلمة عشرات المرات بشكل غبي و يخيل لي أني اسمع صداها بين الجدران. لا أستطيع، أقول لاهثا، لا أستطيع. ينظر القريب إليّ ويبدأ العبث بسبحة طويلة ويمد ساقه على القنفة ويظهر لباسه الأبيض الطويل وخصيته تتكوم إلى الجانب. أقول له هربت منها، هربت، هربت. هل تفهم ما أقول؟ إني أحاول أن أتكلم بشكل مقتضب. بعد أن خرجت وفيما أسير مبتعدا، وصلت سيارات مرسيدس سوداء. فتحت الأبواب على عجل وقفز منها رجال ببدلات وأربطة واتجهوا فورا إلى بيت أم وليد.
كنت مصابا بلوثة عقلية بعد أن انهارت هي أمامي. إني أعيش لحظة لا اعرف تسمية صحيحة لها. لم أحاول الاقتراب من البيت واكتفيت بالتبول على جذع نخلة قريب. بعد دقائق اخرجوا أم وليد ضربا. كانت مستلبة وأظافرها تتشبث بذراع احدهم وآخر يرفس مؤخرتها. أردت أن أقول لهم كفى، لكن لا املك الجرأة والقوة والإرادة، عرفت أني جبان وقذر، ليس بالفطرة بل بالتعود، بالممارسة. إني مندس الآن في التجويف الذهني لعقل جمعي هارب من الإحساس بالمواطنة، ولا يعني هذا إلا أني مهزوم ومرهق واشعر إن التآكل الحاصل فيَ يزداد ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.
علي أن أتذكر الطفولة والصبا التي تحولت بعد سنوات من حكم حزب البعث إلى هشاشة نظرية وعقلية وإرغام ذاتي لأدلجة التنفس والممارسة الحياتية، وانظر إلى أم وليد وهي و تسحل بلا رأفة كونها امرأة. السلطة قاسية جدا و الخادمة تقف بلا حراك، وتمد النظر و تغطي فمها لتكتم صرخة مروعة.
ادخلوا أم وليد في الصندوق الخلفي لسيارة وانطلق الموكب بسرعة، باستدارات، بنزق، بتوهج الحصول على الغنيمة، لكن المدينة نائمة بلا انفعال. عندما انتهيت من التبول فوجئت أني بلت في بنطلوني وليس على نخلة. طرأ إلى ذهني، أن كره الوطن هو كره للذات. عندما تُخرب الوطن فأنك تخرب نفسك. حاولت الاقتراب من البيت، لكن شعرت بانهيار لمنظومتي النفسية. بعد ذلك عبرت شوارع المنصور واجتزت الريسس * وشارع ١٤ رمضان ومحلات بكزاد من دون انتباه إلى إني كنت مخبولا واللعاب يسيل مني كذئب جريح.
ينظر قريبي إلى وجهي ويتأفف ثم يتعوذ من الشيطان. اركع وأقول له : دبرني أرجوك. دبر لي طريقة أخرى للاستفسار عن أمي. نحن نلهث في الأماكن الضائعة. الله فوق المدن، فوق العيون والحشرجات الموهومة. كل لحظة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الريسس : مضمار سباق الخيل
تهاجمني صور أمي في تأنيب ضمير مدمِّر، أتخيل وجودها بين وحوش، وأشعر بانهيار قيمة الإنسان أمام نزعة التعذيب الوحشي.
أتوسل قريبي ثانية وثالثة. ويفكر على مايبدو بحل معين، بشهادة للزمن. يقول : أتعبتني قبحك الله، الوقت متأخر لكن يمكن عمل شئ. ينهض ويذهب إلى الداخل، اسمع زوجته تقول بعصبية : راس واحد قبل أن تذهب.
نخرج إلى الريح والعاصفة بحالة شتات ذهني، بهالة الترقب، نذهب مباشرة إلى فراش الأمن، نعبر شوارع سوداء واضوية خافتة وصفراء. المدينة تتقيأ وجوهنا وأحاسيسنا من تحت خباء هذا العالم. حتى السماء وقتها تتحسس طردها لك. لكننا نسير بسيارته المتداعية وبعد ساعة من السير بين الخرائب والدرابين الملتوية والازبال نصل و نترجل.
رائحة المرق تكتسح الشارع. هناك مصابيح ٤٠ واط نائية تتأرجح. نحن نخوض تجربة التحول إلى حثالة بشرية..
أحس بانقباض روحي كلما آتي إلى هذا المكان. يخرج الفراش ويتحدث قريبي معه. أنا أقف متبلد الحس،شاعرا بخراب وانبهات واقف صامتاً و قريبي هو من يدير الحوار.
الفراش : ماذا؟
قريبي : القي القبض على أم وليد.
الفراش : مستحيل
قريبي : هذا ماحصل.
الفراش : والآن؟
قريبي : لا نعلم، دبرنا.
الفراش لاشيء : اذهبوا إلى البيت واشربوا بطل عرق وصباحا ينتهي كل شيء.
- لايمكننا الاصطبار نرجوك دبرنا، دلنا على طريق آخر.
ويصفن الفراش و يبربر مع ذاته، يصور لنا انه ذكي ويحاول إيجاد مخرج، مخرج لكل شئ، لموضوعنا وللثقب الأسود الذي نحن فيه. وفيما هو صافن وخيول داوود تجري على سواحل البحار، يصرخ قائلا : وجدتها. ويقول : نعم، نعم، انه الساحر رضائي. وفيما هو يشرح ويزبد ويعربد، يدخل ابنه الصغير والمرق على دشداشته وفي يده قمع صمونة ملوثاً بالعنبة ويقول : بابا أريد أن أبول وهذا الخرة عبد القادر لازك * بالمرحاض، فيقول له إذهب إلى الشارع وبوِّل على صفحه *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لازك : ملتصق
* على صفحه : الى جنب
ويعود إلى الموضوع ويهمهم : ليس أمامكم إلا الذهاب إلى ساحر. ويقول قريبنا : مستحيل، استغفر الله. وأقول أنا : نستطيع إيجاد حيلة شرعية.
نترك بيت الفراش وفي اليوم التالي نسير في درابين الشواكة من ناحية رقبة الجسر. الشواكة معدمة ومحتشدة برائحة القصابين والمجانين وباعة السمك والكرفس والفجل والكراث والحيوانات المذبوحة والأمعاء والكرشات وخيوط الجنـّب والغائط بجانب سياجات البيوت وسيارات موسكوفيج متوقفة وعاطلة عن العمل و دجاج يركض في الشوارع، وجرذان تلاحق الدجاج، ودجاج يلاحق الصراصير ويصنع البيض، ورائحة العنبة والشريس تفوح وتغرقك في هالة كونية من العفن مع رائحة بيض مسلوق وفساء وأطفال بدشاديش بازة بائسة قصيرة ومقلمة.
نصل بيت الساحر رضائي ونجد الباب مختوما بالشمع الأحمر. نسأل، وتقول لنا امرأة مع جوق عسكري من الأطفال الملوثين بما لا نعرفه : طلع إيراني، عجمي وتم تسفيره، وتنهار باكية وتولول وتقول مالذي سأفعله الآن، انجدوني، ساعدوني. زوجي يذهب كل يوم إلى القحاب وهذا الإيراني كان يساعدني في فك السحر، سأموت دون حجاب وتبكي وتتوسل أن نجد لها ساحراً آخر. وفيما نهم بتركها تصرخ وتقول : انتبهوا لان البيت مراقب، ويقع الخبر على رؤوسنا مثل الصاعقة، مثل القنادر، قنادر الوطن الجميل، ونغادر المحلة بسرعة وندور في شوارع بغداد كمصابين بالحصبة، بأبو خريان. المدينة بائسة وتشعرك بالملل والقرف وتلقي عليك غمامة من اللافهم. أقول لقريبنا إني خائف ولا أريد العودة إلى البيت أوصلني إلى صديقي ماجد. ونصل إلى الدورة بعد استدارات وشوارع وغيبة عن العالم والانهمام بالعقل الفردي ومراقبة حالات الوهم الذهني الذي أعيش فيه.
اهبط من السيارة، أسير خطوات مع الظلمة التي حلت، قرب مزارع ارض حفيف الأجنحة مواقيت نوم الأشجار واضطراب القلب ومصابيح الشوارع بعيدة وصفراء، نقاط توهج ولؤم، كدرة شفيفة، عرّافون وسط ظلمة. وجهي ينثال بعيدا وصوتي يخرب. لا اعرف على وجه التحديد بم كنت أفكر، لكن من الواضح إني كنت أعيش آلية معينة من فقدان الذات واكتساحها. انظر إلى الحقول البعيدة. أتنهد، أملأ روحي بكاءاً و أشعل سيجارة وابتلع الدخان، ليس استنشاقه، يبدأ لعبان نفس، أسير خطوات واطرق باب صديقي. بعد دقائق من الانتظار يفتح باب مواجهه لباب بيت صديقي وتخرج امرأة بعباءة تضيع في الليل. تبقى المرأ ة بالمراقبة وأنا اسلم على صاحبي وندلف إلى الداخل. بمجرد الدخول اطلب أي شيء يجعلني أسكر. أي شيء، عرق، فودكا، سنزانو، بلموكودين، سيكوتين، وأتوسله أن يتركني مرميا على القنفة. إني أعيش لحظة تسمى لحظة الحقيقة الكلية.
تأتي نصف انبوبة السيكوتين زاحفة واشم متوترا. اركض في حقول ذرة بعرانيص تنحني للضوء والعاصفة تهب من لا مكان، أقف وسط الحقل، بين الحشرات الضخمة، بين الطل الشفيف، بين هلوسة السيكوتين، ومثل قطار الزمن أطير على أجنحة نسور وجن وعفاريت، اربض، احلق بين سماوات غائية في انحياز للعقل الأول، في انحياز كلي للأسطورة التي تنبئ عن موت الملائكة المقربين في يوم رهيب. أشم ثانية وثالثة انفاساً متلاحقة، شهيق وزفير، إني أفكر في الجيل، جيلنا الذي تآكل، ممددا بين رؤى الهلوسة و ترنـّحات الأصابع والاعتقالات والنميمة. لكن حتى الهلوسة لاتنقذني تماما من هلوسة المطاردات والشرطة والكوابيس والبوليس السري.
أتذكر ميري الذي ينبثق مع الحشرات الضخمة في الحقول اللانهائية و يقفز إلى ذهني في الوعر، في التيه، في المرمزات من حياتنا. أقول، لمَ أذكره الآن؟ يا إلهي !! نحن نقيم في مياه الأنهار المرة ونخوض في اللهاث بحثا عن المصير، ياللانتهاب !! ياللاعتوار !!.
انظر باحثا عن ساعة، انهض وأجد واحدة مسمرة على الحائط، حتى الزمن يسمر في هذا الوطن. هجست تكتكات هذه القحبة - الساعة - وكأنما تتحدث وتشي بالغرابة والاندهام - الدهم - ومن النافذة سواد عميق وكأنه نهايات حياتية وانبعاث للموتى، انظر من النافذة محاطا بهواجسي، هواجس كثيرة تتآكلني واضغط أصابع كفي. أريد أن اشعر في هذا الظلام إني لم أزل في هذا العالم وفيما الظلمة تمتد على حياتنا، يتراءى لي إني أعاني من حالة هياج ذهني، لا استطيع إيجاد أمي في كومة الخيوط المتشابكة من الدوائر الأمنية، ولا الحقول المترامية، كباحث عن حبة زؤان، أداس، اعتصر، ملوحا بالانهزام في رحلة البحث عنها. لم أكن أتصور أن تكون النهاية بهذه الحدة والشكل، ارتعبت و أردت فقط الاحتفاظ بها لوحدي هنا في هذا الوطن، ادخرها للزمن القادم حيث تحتاجها العيون، عيني أنا منافيا للاكتمال العاطفي الذي يجعلني منتهبا.
إني أعاني نوعاً من التلاشي اللامعقول إذ يتصل الزمن بالمكان والشيئية بالانفلات والخصوصية بالانتهاب. معاناة الانتهاب شيء مخيف، لا استطيع وصفه لكنه عبارة عن مباح في طور التحول إلى هلام بلا شخصية محددة، حيث تتعرض للضرب والتحقيق وانتهاك خصوصيتك واكتساح عواطفك ولايعني أيضا الا الجلوس على تلة الحظوظ الميتة بانتظار عودة الأم في صباحات وطن يفترض انه جميل وليس قاسيا إلى هذه الدرجة. وفي عمق الهلوسة اسمع قرقعة تتأتى من كل اتجاه. أضع رأسي مرة أخرى على القنفة مراعياً ألا تكون استفزازات الأحلام والكوابيس مُرَّة إلى الدرجة القصوى بالتفكير في حدث معين. إلا أن الدربكة تزداد، تتمحور حول شيء موجود في مكان مجهول، وفجأة تقتحم الباب وتدفع وتنتهك بمرارة أحلامك ويتم الولوج إلى خيالاتك بالوطن المفترض جميلا، وتتناوشك أياد واذرع ووجوه وقبضات وبمثل الرعدة المتوفزة تقف مترنحا، إذ ترفعك الأيادي، وفي غمرة الانتهاب والوطن الجميل جدا والقاسي تغادر المنزل وأمامك أم عليوي البربوك جارة صديقي تشير باتجاهي. إني مدمغ بالسيكوتين، لكن يخيل لي إني اعرف بجسدي يسحل من ذراعي والأقدام خلفي، واسمع أم عليوي تقول : هذا هو المنيوك، عدو الحزب. لكن صوتها يمس جدران خارجية من الوعي و لعابي يسيل وقميصي خارج البنطلون والرغبة في موت وحشي تتلاقفني مع الضربات التي توجه إلى فمي.
أجرجرْ سحباً إلى خارج البيت وأشاهد عشرات الأطفال يتجمعون ونساء وأم عليوي أمامهم تسير بهلوسة الانتصار، تسير مشحونة بشهوة النميمة والقوة والهلع والخوف كرد فعل على مقدار اقتحامها روحي وانزلاقها في متعة الدفاع عن الوطن. أدْفَع بهمجية إلى داخل سيارة، مع قبضات، لمَ لم أفكر؟ يحيرني السؤال ومابين دوار السيكوتين واضمحلال العالم اشعر بابتذال كبير وأنا بين عضلتين متوحشتين تضغطان على رأسي وأكتافي. في التشوش العقلي تذكرت، وعندما وصلت إلى مركز الأمن وقبعت بانتظار التحقيقات، ملايين الأوراق تنثر على رأسي في كرنفال عظيم لأفواه وأصابع وملائكة تهرب ومنجنيقات تضرب وسيوف تنبثق من ظلمة متفجرة، وخيل إليّ إني اعبر وحيدا بحر سول واعبر الملاط والخوض في برك مملوءة بالتماسيح الإنسانية.
أُدفع إلى داخل غرفة التحقيق مع تيه كبير. تمنيت بضراعة مطولة أن أنتهي من هذا العالم، أن أتحول إلى بذرة تموت بعيدا عن الأنهار، ما الذي يمنحني فرصة البقاء ولمَ أصلا التفكير في البقاء وأنت تُشبه ضمنيا بالكلب وبائس إلى درجة الانحناء وكأنك مصاب بنوبة اكتئاب. انظر إلى السقف والمروحة المعلقة، الجدران العارية والمقشرة والاصفرار البائس يُضمن روحك نمطا غائيا من بعثرة التفكير. في تلك اللحظات لايسعك التفكير فالعالم يدور بك ويأخذك عنوة إلى مجريات الملائكة وحركة الأقطاب السماوية وساعات القبول و الاستجابة. تهجس انك قريب جدا من الكائن الأبدي و تتوسل بشهوة عارمة إنقاذك من هذا التكوين الهيولي واضطجاعك على سرير الموت بنكبة روحك.
ماعدت أتحسس ولا أفكر في تلك اللحظات الا بإنهمام روحي وبعثرتها، وأنا تحت هاجس الخدر والجدران العارية ويطلب مني أن اجلس على الكرسي أمام المحقق بخذلان كبير ومرارة في الفم، وماعدت أفكر ولا انظر إلا إلى المحقق والسيجارة التي تتحرك بين الأصابع بنرفزة وعصبية وفراغ صبر. أحاول أن استمر في النظر وان اجعله يتوقف عن إحراق السيجارة التي يرتفع دخانها ببطء شديد لتلتوي نهايته. وأتسمر مطرقا بنظري ومتشمما العبق القوي للرائحة. يالها من رائحة !! أقول مفكرا وتتسلل الرائحة وتتمدد مثل كابوس لزج إلى انفي وتعبر مجرات كبيرة وكون في داخلك إلى العقل وتحرقه وتميز أنت رائحة غائط ودخان سجائر وعرق ونجوم عشرية وانفلات من دائرة الوجع نحو دائرة الاضطرار وأفكر بأنه لايمكنني القول ضمنيا، إني امنح العالم المزيد من القوة، واضحك متذكرا أن المصدر الذي ارتوي منه قد نأى وما عاد الآن إلا ظلال وما إن تمر دقائق حتى تستقر على وجهي قبضة عجول وأخرى قوية لكل كلمة أقولها أو لا أقولها.
في تلك الغرفة الكدرة التي تغطيها الأتربة والاسمنت الذي لوثت به الأرضية بغير ترتيب وضرس احدهم مرميا، يتعقبني الانتهاك والاستباحة كوني حشرة في بلد القسوة المفرطة وبعثيين ومحققين، حتى ولو لم يكونوا كذلك؟ يمرون أمامي، وأنا بمثابة الحجر الذي تقصف على أرضه النكايات والرغبات المتولدة بفعل اهتزاز أزمنتك كلها.
بين الضربات التي تطوف على وجهي وفمي، تمر صور ذهنية غريبة وبلا اتفاق أشاهد أمي تدور في متلازمة دورانية كبيرة، إنها تدور أيضا في بئر مملوءة بالأفاعي والحيات وفتحة البئر مغلقة لكن لماذا كنت أقف على مبعدة ممسكا برأسي مُغلقا عيني فيما المطر يتساقط برقا ونثرا، و لا افهم على نحو دقيق أن المطر يمكن له أن يتساقط بهذه الدرجة من الشدة و الإلهام الذي يزرعه داخلي قادرا على فهم الترنيمة المتوحشة لاصطدامه بوجهي واصطدامه أيضا بصوت أمي الذي يخرج من عمق البئر بوتيرة التلهف وربما اليأس الكامل من النجاة والخروج إلى العالم.
كنت أقول هل بالإمكان لمس فتحة البئر؟ هل بالإمكان فعلا استيراد أفكار هروب؟ واشعر بالعار كون الفكرة - الهروب - بائسة للغاية ولا تنطق عن محتوى الفرار الكبير الذي أتخيله وأصرخ في العتمة، في أرض مملوءة بالجثث والعظام والألسن والنزيف قائلا : لايمكنها الفرار إلى أي مكان، لايمكنها.
مقدرة التخيل تنتفي هنا وببأس شديد يتراءى لي انهمامها على ذاتها، ياللموت !! وتصيبني القشعريرة ساعة أتذكر انه يمكن أن تكون الآن قد حملت سفاحا من احد السجانين في عملية اغتصاب جماعي وأقشعرّ محاولا لمس وجهها هنا، أن المس الثدي والتقم بؤرة عميقة من متكون الأحاسيس. الارتجاف في فمي غير صادر عن الضربات، إنما بفعل القوة المدمرة لابتعاد أمي. كنت أحاول أن أجد مقايسات معينة يمكن لها أن تعينني، تسوغ لي ماحدث، بيد أني اشعر أنها هي المسؤولة عما يجري الآن. مسؤولة بعمق عن التجويف العميق الذي نهبني وأنا مجرد طفل صغير بلا وعي للنزوة الامومية،، ياله من هتك مغاير لإنسانيتي !!!
أُضرب عشرات المرات، بالمقارع والأكف للتحول بعد نصف ساعة من الموت الحيواني إلى شيء هلامي، مكتئب، مهان، ذليل وينبت في عقلك تصور إن يد الجلاد وضابط الأمن عبارة عن اذرع تتوسل بقاءها إلى جسدك وفمك وعضوك التناسلي لتنقذك من الجدل الذهني، وتتساءل في صراخك الحيواني وتقول، انك لا تعرف لمَ تم اعتقالك اصلا، لكن الأكف المشققة الكبيرة كبر رغيف خبز الوطن تنحط على فمك. و بين الصراخ والأنين والعويل والحشرات والوجوه المتقلصة وكأنما بفعل غازات الموت الكيمياوي، المح عيون الجلاد متشنجة، مبحلقة، بعيدا في تأسيسات وجهي. إني ارسم بما ليس له شبه إنساني ولا في عالم فئران التجارب، تلك النظرة الغريبة، التوسل الشديد لشقّي إلى نصفين، لكن جسدي يهرب ويسقط عندما تلتئم نظرة عيون ضابط الأمن على وجهك وتلوي فمك وتذهب بمقدار الجنون المعاصر للإنسانية نحو سيل آخر من التعذيب.
اصرخ متوسلا كل شيء في هذا العالم، كل العالم دفعة واحدة مستغلا رمس الحروف ومخارجها التي تضيع مع كل صفعة جهنمية وقاتلة. وأُنزل من المروحة واقف متهالك الساقين أمام المحقق فيما هو يتناول وجبة فشافيش وأتبول مع ارتعاش ساقي، ثم اسقط واسحل خارج الغرفة. بعد أيام أُدفع إلى بوابة مديرية الأمن، لأنهم عرفوا إني لست معاديا للحزب والثورة.
عندما خرجت من عالم الحيات الكبير والمغلق بأقفال الصوت المكتوم والسلاسل المتلجلجة، تناهبتني مشاعر عالم آخر، ليس هو الحرية، إنما دخول لعالم القوة المجردة عندما تلوكك الأقدار وتذهب إلى نهاية العالم متكأً على قوة حظ. فكرت انه كيف لي أن أعيش ثانية الآن، كيف تسنى لي أن ادخل بحر سوف و اخرج منه حيا. لكن كلمة حي صعب التحقق منها. صعب أن تقول إنك حي بعد الآن وماعدت غير نفاية، رقم معين، ملف في دائرة الأمن وبلا أهمية. ما الذي اعنيه بالنسبة لهذا العالم؟ مالذي أعنيه للوطن العراقي؟ ولعالم الغرف المغلقة والأسنان المرمية والقناني وحشرجات المسجونين والظلمة والممرات السوداء والرمادية والعالم المتنفس بطئيا من نوافذ صغير ة ومرتفعة وأسلاك شائكة ورشاشات ووجوه غريبة.
أصبت بعد خروجي من التحقيقات بنوع من الهزال الشديد. صرت إنسانا ثانيا، منفيا في ذاتي، ببثور في وجهي وخياطات والتهابات. النفي الذاتي أصعب وعندما أسير في شوارع بغداد منتكسا و متذكرا تحقيقات الرفاق معك واكتشافك في النهاية أنها دسيسة امرأة فقط، تشعر بعمق التفاهة التي سقط بها الوطن. لكني خرجت من عالم الظلمة نحو أصابعي المكتظة بوحدتي الشديدة والعيون التي تبكي والانحطاط الأخلاقي والشجون القاتلة للمساجين. لكنه ليس أيضا عالم الحرية الذي قذفت فيه الآن. انه سجن أكبر، ألعن، أشد.
أصل في مسير اللامعنى إلى الصابونجية، إلى عالم الحواري والمراقص والدرابين الضيقة التي تنتهي بتشيؤ للذات وصخام وجوه. أريد أن ارتوي. أملأ بوحي الشخصي جدا بالشراب والنبيذ والخمر. أريد بطل عرق سادة، ليس مهما أن يكون مغشوشا لابتلعه كما الأيام تبتلع إنسانيتنا في هذا الوطن الجميل جدا والشيوعي جدا والبعثي جدا والتكريتي جدا جدا. إني مهزوز تماما ومصاب بمرض تصلب الأطراف واللحاظ والاعتوار واضمحلال العضو الذكوري العقلي، وعندما ادخل بارا ارتجاليا متكورا في نهاية دربونة، اجلس إلى كرسي مرقع بأسلاك معدنية - سيم - و طاولة وسخة جدا، سوداء جدا، تغلفها طبقة دهنية وكلمات اغاني، دون تفكير، ولا ذباب رائع تجده في هذه الأمكنة الرطبة، حيث تعيش نوعا شهوانيا من الاتجاه عميقا إلى رغبة التلاشي، التماهي. لكن ليس إلى العيش إنما إلى رغبة التخلص من حياتك.
اعترف إني تغيرت تماما بعد الاعتقال، النزوح الذهني الذي أعانيه غائم وغير واضح المعالم، ومنوها بروح خفي جللنني بالنكايات. استفسر عن قوة القوانين التي عوقبت بسببها، اعترف متأخرا انه نزعت عني رؤية شيء ما في السماء ولم اعد أنا ذاتي وأشبه امرأة تمت مضاجعتها اللحظة، ترى مالذي تشعر به؟ إن إحساسها القمعي متأت منا نحن، معشر الهمجية واستلاب جسد وروح وعقل. لكن الأنثى تغفر ربما مسألة الانتهاك، لكنك أنت ومع الشعور بالاجتحاف والقمع والاستباحة والرعونة والخشية، يزايلك شعور الأنثى بالافتضاض.
أولى القواعد التي علمني إياها صديق يربي كلبا، ان لاتضرب كلبك أبدا، لأنه بالضرب ستتغير كل الخارطة الذهنية له. سيتخربط كل شيء في دماغه. وماذا عني؟ ماذا عن هذا الوطن الجميل جدا حيث رفاق البعث ينتشرون مثل ذباب وبعوض في حياتنا، اذ تلسعك كل دقيقة خراطيمهم الماصة لحياتك.
يأتيني النادل المصري بربع عرق. ألطّه * واسفح ذاتي وانثيالي مع البطل. إني أتماهى إلى الأبد مع الطعمية المصرية وفي مشروب غريب عاصر كل حياتنا من المهد إلى اللحد. ماعدت افكر، حيث الدماغ لايقبل أن تنقل له موجات التفكير. إني أريد تحليلا منطقيا لما حدث لي من انتهاك وافتضاض و اشعر بالرعب عندما اتصور أن أمي تنام هناك وتعرّضت لهذا اللؤم، بل ربما أكثر.
مع كأس العرق أحلّق في متاهات. كم مرة شعرت بالعري في هذا الوطن؟ لا ادري. وتتكون أمامي حياة مضطربة بين فئران وصراصر تدور على وجهي وتمزقه وتشوهه. إني مشوه الذات، ممزق، متناثر. فكرة إنقاذ أمي من الهجرة كانت فاشلة تماما. لا يمكنني قمع الأفكار ولا الهروب منها. الضغط النفسي هائل بين افتضاضي في التحقيق وبين فكرة افتضاض أمي وربما قتلها. في ليلة ماطرة أتمدد قربها، غارقا في رائحة ملابسها والصابون، أيام قديمة جدا ومع اللط المتواصل للعرق تبدو رائحة الملابس وكأنما أشياء بعيدة تزأر وأنا أمامها بلا حول ولا أهوال غير أهوال الذاكرة عندما تضطرب مع نزوع مرير إلى توارد أفكار موت العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألُطه : تعبير شعبي لكلمة - شرب - العرق او البيرة او مزاولة الجنس مع الولدان.
أمد يدي في ذلك المطر وألمس نوع القماش، وكلما كان القماش رقيقا، تحس بنشور كلّي للجسد وهو يهرب من العالم الميت إلى العالم الحي فيّ. وأمد يدي بطيئا، مثل سلحفاة أو قندس يعبر المياه. أفكر الآن من جهة الموجبات التي تفرض على الذهن تذكارات مؤلمة، حيث أخوض في بحيرة لا أنا فيها بالغريق ولا الناجي. كم تشبه بحر سوف، تلد المخاضة من الأوجاع، وعندما أمد يدي اكتشف فتحات الأزرار. لم أفكر وقتها بفلسفة الأزرار ولا انثيالاتها. إنما في اليد وهي تلمس إحساسا غريبا يولد من بنوة وأمومة عارية كما الاشباح.
كنت أفكر وقتها - واضعا يدي على بطنها وناظرا إلى وجهها الغافي قربي - بالذي يعنيه أن يفكر طفل صغير جدا عندما تكون الذاكرة متشنجة إلى الدرجة القصوى وأنت بحاجة إلى تفريغ عالم من الشحنات. فوجئت وقتها بتسلل أصابعي كاملة إلى بطنها. لا استطيع وصف الإحساس الذي سيطر على عقل طفل في السنة الثالثة على أبعد تقدير، غير انه عندما وضعت أصابعي مكتشفا دوائر بطنها ظهرت لي ملائكة ترنم الاناشيد. أستطيع الآن تذكر تلك الابتسامة التي منحتها لي على نحو فائق الرقة والنعومة، كدهشة، كرائحة صابون لوكس، كعطر بنات الهند، كرائحة حشائش برية، وكأنما رسمت تأويلات لكلام المطر عندما يزحف مرتعشا على الأرض.
هل تستطيع تذكر المزيد؟ أقول لنفسي وامسك قدح العرق وألطّه مرة واحدة واسمع همهمات النّدل وضجيج السكارى وأصوات أطباق المزة وقشور الباقلاء تزحف صامتة على الأرض. هنا أو هناك، اخرج مرتمسا من ماء نار عندما أتذكر أنها طردتني بعد أن تزوجت، من محيط الدائرة والملائكة. حاولت بعد زواجها أن ارقد قربها وان أمد أصابعي لأصل الأزرار الحمراء لدشداشتها، أو أسيح عميقا في فكر المتخيل الذهني لرأسي، لكن عندما وصلت البطن، فتحت عيناها بقوة ونهرتني. صدمت، التهمني الطرد وفق آلية احتساب هروب المشاعر واعتوارها وانعقادها لأغدو بعد ذلك بهيميا في حياتي كلها. عندما أتذكر نظرتها المؤنبة الآن، أصاب بحالة من الانعقاد الذهني، تشوشه، لذة عارمة في الانتقام والقتل، وعندما مسكت بعد ذلك ذراعي وغرزت فيها عود ثقاب مشتعل تناءى إليّ صوت محير يطلب مني أن اصعد ارتعاشي، أصَعّده، أرفعه، أعليه، أقوّيه، لفكرة الرفض وان أغرس في ذراعي المزيد من أعواد الثقاب المشتعل وغالبا أعقاب السجائر.. ليس دونيا هو التفكير الذي سيطر عليّ وقتها.اعترف انك كليل جدا ومهزول وعصبي ومرتعش وبهيمي. انك تقتل الحلازين الماشية على وجه روحك يا صديقي، لماذا؟ في الانخطاف العقلي والدماغي؟ يمكن، ولانك مطرود منها، بائس.
لكني أعود مرة أخرى، مع رشفات وجرعات العرق الأسود واللهيب الذي يشتعل في بطني قاتلا. أعود متراجعا حيثما أتذكر زحفها في ممرات التعذيب في مديريات الأمن العام حتما أو رئاسة المخابرات أو الحاكمية والجلاد مغطى الوجه ويضرب بالانكال والعراقيب والكيبلات ومئات أدوات التعذيب في مختبر الوطن الشفيف جدا والغامض جدا، جسدها وروحها وبطنها وتقتلع العيون والألسن والأظافر وكي الأعضاء الجنسية. أقشعرّ، عقلي العضوي يموت كليا، انظر متأسفا له. انفجر مثل حوصلة دجاجة، مثل كبد طائر بأجنحة فوق غيم. والعرق لم يعد يفيد. هل يفيد الطيور أن لاتهاجر إلى المستنقعات الحسية حيث الأمطار نار والكبريت يشتعل؟ لا، لاتنفع المحاولات فاخرج ممزقا من الحانة.
***
مرة أخرى ارجع تائها سائرا في الشوارع، منتقلا بين السيارات العاوية والأرصفة. سيارات جديدة مستوردة من فرنسا واليابان والسويد وأنا في حالة الهياج الذهني أشاهد أصدقاء أمي وهم يعبرون سماء بغداد بسياراتهم الفرنسية الجديدة التي منحها لهم رعاع وطني وسادتها الجدد في وهج الشمس وهي تفر هاربة نحو أنابيب سيكوتين ممزوجة بالبنزين. أنا استنشق والوطن كله مخدر بما فيها القطط الهاربة سراعا والفئران التي تلاحق الكلاب والبعثيون الذين يلاحقون انشداد أرواحنا إلى المقصلة.
أصل علاوي الحلة مهاجرا من جانب الرصافة إلى الأحياء الحلزونية والفئران والاستلئام الذهني، واجد عند مطعم باجة صديقي ميري وهو يهذي قائلا : إنه اصيب بالسفلس والزهري الذهني. وانه الآن أشبه بصنم بابلي والملائكة الساقطة تتلقفه من الشوارع الباهتة. أسير معه وهو يحمل أوراق مشروعه الفلسفي. نسير مثقلين بكؤوس العرق المستكية، لكنه فجأة وبعد سقوطه على الأرض يصرخ، إنه مصاب بمتلازمة عقلية ويقول : إننا في الزمن الخطأ والكان الخطأ والوطن الخطأ والثقافة الخطأ. و أحمله بين الأصابع، كدودة، كأم، كنسر، كحشرة نادرة والسماء تلتهب، تبرق، تتغير ثم تبرد ولا ضوء، لاضوء مع انحسار النظر وتحوله إلى خيط واهن، ضعيف، شفاف، دبق وأملس، واصل به إلى البيت وينهار عندما أضعه على الأرض أمام جدتي، أمام نظراتها، أمام هوسي وتلعثمي واحتشادي وينتبه إلى ميتافيزيقا الحزن اللاذع في وجه الجدة ويصرخ ثانية وتعمل له جدتي كمادة ويقول لي : انه خرج مطرودا من اتحاد الأدباء بعد استحلال واستذئاب واستضراط واستحمار واستحياء واخصاء وابتلاع واستلئام و فشار وقذع وسباب حميد وعبد المنعم عندما يكتب شعر هندي ومنذر ونوري وعبد الأمير وباقي حثالات البعث المقدسة من الأدباء، ولأنه أراد طرح مشروعه الفلسفي هناك، مشروعه عن الحياة المتخيلة والفلسفة عندما تدخل تكوين العقل الجمعي العراقي. أصرت الحثالة وعشرات من خصيان الاتحاد وأربابه ومستذئبيه ولوطيته ومستضعفيه، على أن تكون كل فلسفة نابعة ليس من تراث فكر البعث انما من عقل القائد. ويزداد السعار واللوكيميا وفقر الدم المعرفي.
لوكيميا في كل شيء، في العقل والحياة والوجوه والأصابع والأذرع، ويخيل لي أني أمام عفاريت وسحرة ومشعوذين وحلقات هنود حمر ترقص حول الضحية والضحية ميري والذئاب تنتظر والذئاب تعوي وتبكي ودموعها مثل شقائق النعمان وورد الجوري والجوري احمر وشيوعي وبعثي وطز في حزب البعث وثقافته وتراثه ومفكريه، حيث انك أمام فكر القائد المستوحد الواحد الأحد الصمد، الفوهرر حادي الركب ومضرط الحجارة ولو إن هناك عقلا ايدلوجيا لله لانقلبوا عليه وحطموه ووضعوا بدلا منه فكر القائد وعليك تخيل الميلودراما التي ستحدث عندما يحكم هذ ا الشئ - القائد الدودة - ويرسلنا جميعا إلى الجحيم وبحيرة الكبريت المتقدة لأننا لم نمجد عقله وطيزه وخراءه ولأننا لم نسبّحه هو هو، ونهابه هو هو، ونسجد له، ولابنه وابن ابنه وأخوته من أمه ومن أبيه وأبناء عمه وعماته وخالاته وكل عورات أبناء قبيلته ومنطقته وخصيانهم.
ويبكي ميري، يبكي على ضياع الفلسفة والغباء والاستقلاب ويمسك أوراق مشروعه الفلسفي ويمزقه وينثره وينقعه بالماء البارد والمطر والعاصفة والحيونة والتماهي ويشربه مبلولا ولا بائل على حائط. ياللجحيم !! نحن في الهباء، في الصفير، في العاصفة، العراق في اللاشي واللاشي مطلق في الحيز، والحيز يولد ويتضخم ويغزو مقتربات عقولنا وأذهاننا ولان البحث عن المعنى لايبرر الالم ونمر مطرودين ومداسين بالنعل والأحذية وأنت تسأل كل لحظة في الهباء المعرفي للحياة عن انتماءك للبعث.
واترك ميري مسجى واخرج إلى الشارع، اشعر إني أريد أن أتنفس، ياللجحيم !! الهواء و الريح و التراب و الغباء، ولا اعرف أين يمكن لي أن اذهب مع تفسخي من لوثة ميري وأم وليد وأمي. و مع التيه الذي يصيبني. اذهب إلى قريبي وأتوسل مساعدته للذهاب مرة أخرى إلى فراش الأمن، لكني أُطرد من قبل زوجته وأعود إلى البيت واجد ميري قد هرب واشعر بالقلق عليه وتقول جدتي : كان يهذي مرددا انه سيقتلهم بفلسفته، سيناور مثل ربان على سفينة الخراء هذه، سيحارب مثل فوكنر وسبينوزا ونصيف الناصري وسعد جاسم وجليل القيسي ومحمد خضير وهنري ميللروصباح العزاوي واراغون وكافكا وأقول لجدتي، ماذا؟ هل قال كافكا؟ وتصرخ متوترة نعم، كافكا، كافكا. واصرخ بدوري : فوكنر، فوكنر وتقول : لا، لا، كافكا كافكا. دم، دم.
أصل اتحاد الأدباء هاذيا ويقال لي، إن ميري خرج قبل قليل. ابحث تجد، اسأل تُجَب، اطرق يفتح لك. مت فيُبال عليك. أين أجده اذن؟ ياللخصاء !! وأجد ميري مرميا كحصان عربة نفط مقابل مطعم إحسان أبو الكبة في ساحة الأندلس وجهه ممرود، رموه خارج الاتحاد عندما أراد أن يقرأ اخر شذرات من مشروعه اللغوي والمعرفي عن تكوينات الثقافة في أزمنة العواء الكلبي والارتكاض في ساحات وهمية من الجوع والهستيريا. أبناء القحبة قذفوه بلا رحمة كحيمن، كمحرمة نسائية. أطلقوا عليه رصاصهم الكلامي. انه مصاب، جريح، ملفق، يتوسل الجنون في اشتهاء مهبلي عميق..
ندخل بارا لا على التعيين مفكرين بإنا نرتكز إلى المغالطة الأبدية في حياتنا. يقول لي ميري : أرجوك، أتوسلك، اذهب بي إلى مستشفى الأمراض العقلية. لا احتمل، لا احتمل واحمله مكللا باللعنات والاستنباطات وأجول به في باص مصلحة نقل الركاب ونصل مستشفى الكرامة، قسم الأمراض العقلية واتركه هناك. اتركه كأمير بين رعية، فراشة بين العناكب، شبه نور يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار.
البيت بعيد و لا املك نقودا. أسير عابرا المنصور. أسير بجنب سياج مخابراتهم وتلفونات مخابراتهم وحياة مخابراتهم وخراء مخابراتهم. أكاد انفلق من فرط إحساس عدم إيجاد أمي، أريد أخبارا عنها. كل شيء مغلق، مغلق بين عشرات محلات المخابرات في المنصور التي تبيع الطرشي والكتب والكيك والجرائد والطائرات الورقية والصوصج و اللوف والصمون الفرنسي الذي لم نعد نستمتع به، إنها دائرة مغلقة.
أصل البيت منهكا واجد قريبي في انتظاري. أهمله لأني اشعر بانغلاق عقلي وتبلد المشاعر. لأنه هكذا تبتدئ الأوجاع، لأنه هكذا كُتب في العقل الجمعي، أن يجري الناس مثل الوحوش ليقبلوا الوحش وسمته وسمته فوق رؤوسنا، على الجباه والوجوه. يجري قريبي نحوي ويقول : هناك سيد في الكاظم يمكن أن يساعدنا. وجهي إلى الأسفل: هاطل، ممدود، مجزأ، أعاني من هلوسة. إنها هلوسة ماقبل انفلاق الوجدان مع إحساس عارم باللاجدوى. يقول : اسمع لنذهب ونسأل عنها مرة أخرى في السجون، لنجرب، لنجرب. واصرخ بوجهه، اصرخ كطائر أبي الحناء، كأبن عرس، كعضو جنسي يتنمل، كأعرابي يقرفص محاطا بعباءته من اجل التبول. المصير هو عقل عدمي ولا مسؤول يُسيّر العالم نحو الهاوية والانسداد الذاتي للشرايين بفعل النهلستية والعدمية، واسكت بعد الصراخ، لا اجيب. عيناي فقط تنظران إلى السراب. وجهي هاطل، ممدود، ببوز طويل يقترب في طوله من طول بوز اخوة الرئيس. انه زمن التنهدات و القذى يفر من عينيك وفمك إلى الأصقاع الثلجية، يهرب حيث السناجب والطيور على أنواعها تصرخ، الجميع يصرخ بك يجب أن تصاب بالرهاب العراقي. هل جربت الرهاب العراقي؟ اشك. انه رهاب غريب، متماسك، بلا فجوات. إني أعاني منه ومن تموج ذهني، انفلاق ذاتي، قنبلة موقوتة في ساحة الرشيد أو الباب المعظم أو السنك أو شارع الأميرات او الصابونجية. آه أيها الموت أين لسعتك*؟! تسقط جدران كبيرة على راسك، انك مهموم، طولي، عرضي، ناتج ثانوي في الوطن.
فقط التكارتة واخوة الرئيس والرئيس، والرئيس عندما كان نائبا، هم ناتج لا عرضي. أما أنت و الوطن فنتاج قذر. يجب أن تضحك على نفسك أمام المرآة لأنك عراقي، مهان. إني اشعر بالاستنكاف، بالاهانة حتى لو كنت في قمقم شيطاني وتطير عبر البحار لتصل إلى أبراج أورشليم وسليمان الحكيم والعرب العاربة والمستعربة والمنحطة بالقتل. سفلس، فوكنر، كافكا. طيران في موجة الارتعاد.
اترك قريبي الذي يتوسلني و تقول جدتي بتبرم : اذهب واحضر لنا بطاطا وطماطم وبصل وبيض، هناك أزمة. أزمة يا أبناء القحبة في بلد متخم بالنفط. إني أصاب بعقدة اسمها عقدة التفاعل مع الضحك الهستيري واضحك كأكبر ضاحك في نرجسية البعثيين وقبلهم الشيوعيين، الذين علموا العالم القتل الاحترافي والتسقيط الاخلاقي والنرجسية وأسموها نزق الثوار. اترك قريبي يشرب الشاي مع جدتي واترك المنزل والغرفة والمطر المؤدلج والحميمية المفتعلة ووجه جدتي الناحل، إلى طيور التسمم في الوطن بذروق البهاء الأخير لشمس التعود على إخراج الطيز أمام الجميع. اصرخ هللويا أيها الوطن الجميل. وعندما أكون في نزق الشارع مارا ببناية الفرقة الحزبية أشاهد سعد المخبل يغازل قرينته المجنونة ايضا عبر سياج البيت واصرخ به. سعد، سعد، بارود سكين وملح ويلتفت فزعا ويترك قرينته،ويخرج سكينا و يترك مغازلاته الدينوسية واضطراب العقل الجمعي في استرضاء الزمن السماوي ويركض خلفي، واقفز الى باص يسير ويتعب سعد ويتوقف و أشاهد وجهه يتضخم، يعوي والسكين في يده ويمر باص نقل ركاب ويبدأ مرة أخرى في الركض، لكنه يتركني ويتسلق الباص ويقتل أول رجل وأول امرأة وأول طفل وأول حلم وأول انتقام وأول هباء وأول انبوبة سيكوتين وأول عصفور وأول تحقيق وأول من اعترضه صارخا : مجنون، مجنون، اقتلوه، اسحلوه، اقطعوا رقبته وعضوه الحيواني وأذنه واجدعوا انفه، تختفي الفوضى التي احدثها سعد و أبحث كذبابة روث عن محال بيع البطاطا، عن البيض، عن لاءات تجردنا. أي محل أدخله يقال لي لابطاطا في الوطن ولا بيض. أسير وكل خبزي ذهب وخمري وبذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، اصعد باصا اخروانظر إلى الوطن بنظرة مهلوسة، فلسفية، نائية. عوائية، لا شيء يشغل فكري إلا البيض والبطاطا والبصل، أريد، أريد، وفيما الباص يسير أشاهد طابورا أمام احد المحال واهبط واندفع بين الحشود بعد انهيار الطابور. تدافع، حشرجة، قتال بالأيدي، بالأذرع، بالمناكب. عجينة إنسانية مكوَّنة من الرجال والأطفال والنساء واصل بعد ساعة إلى شباك التوزيع من دون أن اعرف ما يوزعون، وأمام الشباك يصرخ بي البائع والناس والحشرجة والتأويل والصراع والضرب، واستلم طبقة بيض مع كتاب خيرا لله طلفاح. إني اشعر بالانهزامية، وعندما أريد الخروج يسقط البيض على الأرض وتدوسه الأقدام وأداس أنا واصرخ : يا أبناء القحبة، وفي النهاية استطيع الخروج من المعركة بلا بيض، فقط كتاب خير الله طلفاح.
أمام باب جامع أقف. أنظر إلى الوراء والجوانب وأضع الكتاب على السلم، إلا إني أخاف وارجع لآخذه، أشاهد ومعي الكتاب معركة أخرى، تدافع آخر، بعثرة ثانية، زحام شديد، لعنات، انسحاق، تمرد، اعتوار، صراخ، هلوسة، تدافع، عباءات. ادخل المعركة بلا تفكير، التفكير تركته. أنا الآن عبارة عن حيوان فقري، لبني، هلوسي، اندثاري، من أصحاب الدم البارد. من ذوات الدم الأزرق، الكستنائي. أتدافع، أبعد الآخرين بمنكبي، أضع كتفي في أفواه الآخرين، أدوس على الأقدام واضرب الركب واندفع بلا هوادة، أصل الشباك واجدهم يوزعون قيمر المصلحة. البائع يسب المشترين وهم يسبونه وكلنا يسب كلنا. الزمن مخصي ولا تستطيع أن تلعن من تشاء. هناك أشياء محدودة يمكن لعنها فقط من بينها الدين، وحتى الِأنبياء، لكن ليس القيادة السياسية، ولا ثورة ٧ ١- ٣٠ تموز، القائد الرمز. يمنح البائع يدي التي تندفع من خلال ثقب في جدار دون أن يستطيع رؤية وجهي، قدح قيمر وكتاب آخر لخير الله طلفاح، وفي طريق الأوبة انحني إلى الأرض واخرج من بين الأرجل والأقدام والأرض، وعندما أصل خارج الكومة البشرية أجد القيمر انسكب ولم يبق إلا قدح فارغ وكتاب خيرالله. أني اصرخ متوجها إلى السماء قائلا : هو، هو. ويتصور احدهم إني اكفر فيضحك بفم كبير وأنياب وانف مثل مغارة بلا أبواب ولا حجر، فأدخل إلى الصخرة واختبئ في التراب. ارض من تراب ووطن من أجهزة واعتقالات ونساء يوشوشن في آذان بعولتهن ورجال دين يحرقون مسمناتهم على باب البعث.
إننا نعيش في العصر الميتاني أو العصر الحديدي. في شارع صغير مكون من عشرة بيوت، تسعة منها تابعة للأمن والعاشر أنا صنم متوحد وإعاقة ذهنية. كلنا بعثيون وان لم ننتسب للحزب. إني أعيش الآن مايسمى بلحظة الاعتراف الكلي للعقل المسنودة بجدائل الذوب القاتل والانتهاك المر لخصخصة ذاتك. انتهاك واقتحام وتفلش المفردة الواصفة لنزوع شهوة روحك لأن تعيش في وطن يحفظك وليس في وطن ينتهكك ويقتحمك ويهينك من الصباح إلى المساء. أغاني، أناشيد طوال الليل والنهار وشعارات في كل مكان ضمن عقل الانتهاب لتحويلك إلى حيوان قندس، فراشة في درجة الموت، خفاش ليلي. عار أنا الآن، ملابسي ممزقة. أعيش اللحظة الكونية بلا أزرار للقميص، بائس، حاملا كتب خير الله طلفاح ولا استطيع التخلص منها.
أعود مهشّماً إلى البيت. أضع الكتب أمامي. انها تقتلني، تولد المخص القاتل والصاعق في تبدلات الزمن وتحولاته الاودينسية وتنظر جدتي نحوي بالريبة، بالشك. افهم نظراتها التي تؤرجحني بين المقولات الفلسفية الأولى في الكون لتقول لي : انك … وتضرب وجهها وتغسله بالماء لتقول كل لحظة : فاشل، فاشل، لم تستطع الحصول على طبقة بيض ولا قيمر ولا بصل في الوطن الأكثر غنى في العالم. نحن نطير مثل الخفافيش، واروي لها إن الشعب كله في الشوارع يبحث عن البيض. يسيرون مخدرين. وتصرخ بقوة الخرالوجيا، الاست لوجيا : قم لعنة الله عليك، اخرج ثانية وابحث لنا عن بطاطا وبصل وبيض، واصرخ أنا أيضا، اصرخ بوجه جدتي وأقول لها سأخرج، سأخرج، لكن ليس للبحث عن البصل والبطاطا إنما بفكرة الذهاب إلى الجحيم، إلى الجحيم، إلى قسم الأمراض النفسية والعصبية في مستشفى الكرامة. واخرج ضاربا الباب بساقي وساقي بمؤخرتي ومؤخرتي تنفث سموما وضراطا بكبر الوطن.
الفصل الحادي عشر
شوارع اليرموك باهتة. لا مزيد من الضباب، بل عرق مستكي، تهتك وخبال بفكرة التوائم الذهنية والتناص المعرفي والبحث عميقا في الذات. تقفز إلى ذهني وأنا أتسكع، صورة، خيال، سعد المخبل، اشعر بالافتقاد، أتلهف لرؤيته، مشافهته. أقف على ناصية قريبا من بيته، تصلني أصوات بعيدة، أحدق في الاتجاه نحو الشمس. طلائع حزب البعث تجري تمرينات على الأسلحة، أطفال في ملابس مرسوم عليها خارطة الوطن العربي، أشرطة ملونة، قبعات، دود مثل دود القبور على الوجوه. الضحكات الهزيلة تتنافى مع الوضع الإنساني. أشاهد وجوههم وهم يضربون بأحذيتهم الأرض، ضربات أرجل. هزات سيرهم العسكري تولد في داخلي هاجسا للنحر. لا استطيع الابتسام، فمي لايتمدد بما فيه الكفاية لأرسم ابتسامة. الرفاق في الجيش الشعبي يجرون أيضا تمارين السير العسكري. أصوات الأرجل والأحذية العسكرية تعبث بداخلي مثل عاهرة.
أينما تذهب تطحنك الشعارات، شعارات وهلاهل ولا من يمسح دمعتك في هذا الوطن والمظاهرات المؤيدة للسلطة وجنون شعراء عراة في البرد الأخلاقي يتدثرون بالمنح الرئاسية التي تتفجر عليهم أموالا وسلطة. أقف أمام منزل سعد مع إحساس بالطيران أو الانسحاق بالأرض، لا فرق. أفكر فيك يا سعد، أفكر بالبارود والسكين والملح. شعار البعثيين والشيوعيين في مرحلة ولادتك الستينية. أنا لا أفكر بسعد فقط. إنما بميري وأمي وأم وليد أيضا. إني حزين على الطريقة التايوانية والصينية والهندية والكنفوشيوسية لموت الفلسفة. بوذا في داخلي يؤرجح الزمن وأنا في أرجوحة الوقت والوقت ضائع، متراخ، هزيل، مستوحش. يصل الباص مترنحا، انه باص ايكاروس طويل جدا ومؤخرته تشحط الإسفلت وانظر إلى الناس من حيث أكون، أصل الحيدرخانة، مع الشهوة المتجذرة في...
أقف في نهاية شارع المتنبي وأقوم بطقوس غريبة، طقوس البلادة أمام البنايات، أمام القشلة، أمام مجمع المحاكم. إني أقدسكم أيها الانكليز. دجلة نائم، احسده، احسده لأنه يسمع وينسى، أما نحن فلا ننسى. يجب أن ننسى، يجب أن نصاب بمتلازمة داون، والزهايمر والشلل الرعاشي ومرض التوحد. يجب أن نضع الأسلاك الكهربائية حول رؤوسنا. نريد أن ننسى، نريد أن نذوب إلى الأبد في مجاري المياه القذرة. تبتلعنا ماسورات المياه وتداهمنا المجارير وتسكبنا قرب جسر ديالى حيث نعقم ونعاد من جديد، بوجوه مغسولة، ليستطيع التكارتة نكاحنا من جديد. اشعر بالشفقة علينا، بالخذلان كوننا أعلنا الثورة على الانكليز- الكفرة - نحن نريد أن نظل مأسورين، نشرب الارتغاءات البعثية والشيوعية والبدوية وهي تؤطر حياتنا. اشتراكية ودكتاتورية وانهزامية وتغول ومعتقلات. أبوس طيزكم أيها الانكليز وآسف جدا وأقدم اعتذاري أمام الجميع كوني شاركت في هدم تمثال مود. آه مود، لمَ تبكتني بالأحلام؟ لمَ تبكتني بقضيب شديد وتدمر حياتي كعاهرة؟ كامرأة مشتركة، كعاملة جنس. أسير واعبر جسر الشهداء واصل علاوي الحلة واتشمم الروائح الحامضة للتعفنات. إني أتنقل مثل ذبابة في بغداد، بين الجيف المكومة في الشوارع. في علاوي الحلة في النهضة، حيث تضربك دائما رائحة القاذورات والحشرات الميتة والجيف المنتهبة.. عند مكتبة صغيرة أجد ميري، مستحيل.
اصرخ به : حبيبي وانحني أمامه مثل بوذا. لكنه مشغول، أشبه بحيوان تحت المطر. يقف تحت هلوسته والظنون. اسأله عشرات الأسئلة، ملايين الإشارات من عيني وفمي. أتموَّج مثل دائرة نار حوله وبه. لكن ميري ينظر نظرات باردة، يسوطني، لايعيرني أهمية. لا أفكر، لا أريد أن أفكر إن كان يعرفني، أشاهد كدمات صغيرة على وجهه. يستمر في تقليب مجلة الوطن العربي، عينه ثابتة تعكس ألقا أخاذا ولا اهتمام بالعالم. ميري ضحية أخرى مثل امي لشنق تمثال مود في بغداد. يتركني وحيدا ليطلب الانتجاع. كفه في جيب سترته وشعره منثور بين الرياح والمآتم الحلزونية. ألحقه، انه يسير مثل رجل تحت المطر - يتدهده - إلى بيمارستان الكرامة حفظك الله، وطول الطريق يصر على الخرس، نصل البيمارستان بعد أن نمر بين التنكجية وباعة الدجاج والحيوانات الصغيرة وقناني مياه معالجة المغص. ندخل المستشفى سوية ونتجه إلى قسم الأمراض العقلية. أقف أمام الصالة الخارجية منبهرا، يقف ميري دقائق وينظر في عيني مباشرة دون كلام، دون نأمة، دون ارتعاشه، دون خفقان. انه مصاب بصمم العالم وانقطاع الألسن في الزمن التكريتي.. أتوسل دكتورة جميلة وصغيرة ومثيرة أن تدخلني إلى القاعة وامثّل لها دور المصاب بالشيزوفرينيا والصرع والليشمانيا والكآبة ثلاثية الأقطاب وسحجات على وجهي وتورمات في أطرافي وخدوش على شفتي. ادلف في الممرات البيضاء بين روائح الأقطاب الكهربائية والمعقمات وصرخات مهلوسة تنفجر.
اركض بين المتراكضين واشم الجنون ككلب، وتسحبني يد وتدخلني إلى القاعة الموسيقية، القاعة الحيوانية. أفاجأ، يا إلهي، من؟ مستحيل !! أم عليوي البربوك، سعد المخبل، دكتور سميسم، ضمير الصيدلي، أبو كفاح، معلم التربية الرياضية البعثي، انا، أم وليد، إمام الجامع. أصرخ وأضرب باب القاووش، هل من مزيد يا أبناء القحبة، وتندفع مجموعة كبيرة من الممرضين. نحن نتراكض في القاعة مثل دجاج منفلت، بين أنابيب السيكوتين والممرضين خلفنا يجلدوننا بالسياط (ستسبح الوحوش المفترسة عبر الأنهار وستحشد الجيوش في منخفض الدانوب ) هكذا تكلم نوسترداموس، نضحك. إننا نتساوى بين الغيمة والسياط. الممرضون يضربوننا بالسياط وجلودنا تلتهب. إنها ليست ثورة. نقف في طابور طويل، طابور معجون بصخام الأيام والاسوداد الذهني والعرق المتصبب من أصداغنا ونتناول الحبوب المهدئة، وبعد ساعة ننعم بالألق الشفاف لغيوم تسير في حياتنا ووجوه خرافية تنبثق من خلال الأحلام ونضحك ملء الروح، ملء الوجوه المطاردة في الصبوات الصباحية والاشراق الكلياني لحياة مبجلة.
أرتمي على الأرض مثل ملاك وأتقيأ سعادة تلوح من كل أرجاء الوطن، مع البعثيين والشيوعيين والنظريات البرجوازية والطبقة الكادحة والطبقة الكادحة الوسخة والعيون الجاحظة والأفواه المتقيحة والأسنان الساقطة والعويل اللاذع، وعندما أشعر بالدوخة الكليانية والانبطاح على الأرض الباردة، أتبول على نفسي، أتبول بشكل غريب وأغرق في بحيرة صغيرة من هذا الناتج العرضي في حياتي ويأتي الممرضون ويشاهدونني منبطحا على الأرض وينهال علي احدهم بقبضته، والغريب إني لا أحس، لا أحس بالعالم ولا أشعر بالعار ولارد فعل يصدر من جسمي. إني انفلت باستسلام مذهل لبواهظ الأثقال و سؤدد التفاهة وانهيار التدبير العقلي، وكل ماهو آت آت. يتحول نظر الجميع إليَ. أصدقائي معتكفون برعب على أسرتهم والممرضون فوقي وأنا اغرق تسحبني خطوط البلاط إلى الم من الدقائق التكتونية والنمل الذي ألمحه يسير على وجهي وتنمل غريب يضرب فكي.
أُترك غارقا في البول ويتقدم احد أصدقائي ويمنحني قطعة صمون، اجلس القرفصاء على بولي والوك، انظر إلى طرف القاووش حيث صورة الرئيس تشبع روحك وعينك، ماجدوى وجودها بين مجانين؟ واشعر بالتوسل له وملايين المشاعر المختلفة تتصارع في ذاتي ولا افهم، لا افهم تكوين روحي الجديد والغرق مع الأدوية النفسية في برك من الدموع المنزلة من العيون المتوسلة، يساعدني صديق ونتجه نحو صورة الرئيس، أقول له خذني إلى هناك حيث حذائي يغرق في البول وعيني ترف وفمي يسيل منه اللعاب. أريد أن اقترب من الصورة أكثر، أريد أن أراق في حبيبات التصوير (اسجد لقرد السوء في زمانه)، وأقف شاعرا بالهزيمة والتوسل. اصعد سريرا واقترب من الصورة ثم أنزعها وآتي بها إلى فراشي. يحدث ضجيج وتتطاير الوجوه كريش منثور، نجوم متوحدة تنفلق فجأة في النار، غربان تطير إلى نقطة جوهرية في السماء، واجد هنا في القاعة كمية كبيرة من السوائل التي تهرب من الأفواه ويتراكض الممرضون، وأضرب بالنعل والأحذية، وتؤخذ مني الصورة وأقول لهم أريد أن اقبلها فقط ولا من مصدق، واهددهم بقبضتي لكني اضحك في داخلي، لا احد يمنحني فرصة استثنائية لان اغير مكونات روحي والبهاء الأرق في وجهي، ويقودني ممرض إلى خارج القاعة، ويقف على بوابة القسم ويقول لي : اذهب إلى بيتك يا ابن القحبة، لانريد مشاكل. اشعر بالمرارة والأسى وانحني له وأقول : قل إي شيء لكن لا تقل ابن قحبة، فأنت لاتعرف، ويقول لي : كس اختك، لا اهتم، اذهب من هنا قبل أن يتم إبلاغ الشرطة عنك وأقول له : لكني أردت أن اقبل الصورة فقط. أنت لا تفهم ماتعنيه لي؟ يتأفف ويقول صارخا : اذهب لخاطر الكاظم، لخاطر الكحاب، اذهب إلى أي مكان. اترك قسم الأمراض العقلية والنفسية واتجه إلى باب المستشفى. في المدخل اجلس قرب امرأة قادمة من مدينة الثورة تبيع قناني ماء وجع البطن. لا أتحدث، فقط أجلس شاعرا بخيبة كبيرة، شاعرا بهزيمة وانسحاق و أحس بنوع من الحياة وأنا أقترب من علاوي الحلة، أدور بين الهزيمة النفسية وبين الشوارع الوسخة وروائح التخمر مبثوثة في كل مكان، في العيون والوجوه والبيوت العتيقة والأطفال الذين يلعبون لعبة الشرطة واللصوص والحرب. أنا أحارب أيضا ولكن على طريقتي الخاصة في اجتراح ذاتي وهي تعبر فوق ارض الحرب والانهزام والخسارة الكبرى والهذيان. لا استطيع أن أفكر، ولمَ التفكير أصلا؟ حيث لاتحتاج إلا إلى الاستسلام وعدم النهوض.. أقف قرب كشك لبيع الجرائد، لاتزال الهزيمة مرة، الشعور بالهزيمة صعب، الشعور بأنك كائن خرافي يوحي لك انك فوق هذا العالم.
انظر إلى سيارات الشرطة، إلى سيارات رجال المخابرات، أريد أن اقترب منهم، كلا لا أريد الاقتراب، أريد فقط أن أعيش في عالم مصنوع من الوهم والوهم هو أنت بكامل قياساتك الكونية والفكرية. فكرت أن اذهب إلى البيت، لكن شعور الوحدة الذي ينام في داخلي يؤرجحني بين هذه وتلك من الأفكار. أريد أن أضيع في بغداد. أصل كراج علاوي الحلة. اجلس على رصيف قذر، لا أهتم بملابسي. الشيء الوحيد الذي أريده، أن انظر إلى البشر وهم يفرون في العوالم الماورائية والنغمات الساحرة لصوت بريق سماوي، أفكر قائلا في ذاتي “ مَنْ صَعِدَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَنْ جَمَعَ الرِّيحَ في حَفْنَتَيْهِ؟ مَنْ صَرَّ الْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَنْ ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ الأَرْضِ؟* واضحك.
أصل البيت وارتمي على السرير من دون أن اكلم جدتي التي تقف أمامي، أمام حياتي، منكسرة، صامتة وكاتمة وجعها وهي ترى حفيدها مرميا بالقتل والبهجة مصادرة. لكن المطر ينفجر، ياللكارثة !!، ينفجر وتغرق بغداد في مياه المجارير. اندفن في السرير، اخترقه كما لو إني مثقب ولحافي على الوجه، وتقول جدتي : وماذا بعد؟. ماذا بعد؟ لا شيء ياجدتي، لا شيء حتما، لا شيء مؤكد، كل شئ غامض، مريب. إني أفكر في جارنا والجار الآخر
ــــــــــــــــــ
* مقطع من العهد القديم - الكتاب المقدس
والآخر، كلهم يعملون في الأجهزة الأمنية. غريب جدا هوس السلطة هذا الذي نتمتع به كعرب بمحض الإرادة للحاكم.. لا يا جدتي لا أريد، يئست من هذا الوطن. أريد فقط أن ادفن رأسي، وجهي، لأني لا أريد أن أشاهد العالم مع الاندحار الذي أعيشه وضياع أمي في بحر القلق والتعذيب. أكاد اشتعل كل لحظة أو انطفئ، لافرق. كلما كانت المرارة واسعة، تفقد قدرة الأحلام وتتحول إلى الكوابيس ويبدأ العقل بصناعة تركيبات مؤلمة لوجع، لاضطهاد، لتقيؤ. إني أعجب للخداع العقلي، كيف يحوِّل أهل العوجة إلى كلاب، وأنا أتذكر حكايات أم وليد عن وطبان وبرزان وخريان وسبعاوي ودهام، وهم يتلوون أمامها ويدفعون الأزهار والياس وأغلى أنواع العطور في مؤخرتها، ويصرخون ملء العالم : إنا هستيريون، ملعونون، مبجلون ومقدسون، القداسة الميكافيلية للانحطاط البشري. لا استطيع وغير قادر على تخيل وطن بدون تكارتة وشيوعيين وانهزاميين وشعب مليء بالمخبرين السريين، وفيما أنا أفكر بالوطن، بالأم، بميري، بسعد المخبل بأم وليد وأفكر في أهل العوجة الذين يكرهون كل شيء بما فيه أنفسهم، وتصلني أصوات دربكة، صراخ، ركع بيبان، رصاص، سب، لعن وبصاق وصوت جدتي يقول : من انتم؟ من انتم. وتنطلق بصقة وصفعة وارتطام جسد ويعود الصوت خفيضاً : إلى أين؟ ويهدر صوت من بين الأسلحة والصفعات والبصاق والتفال وشحط الأرجل.
هل ابن القحبة موجود؟ نقول لك هل هو موجود؟. عملاء..
واسمع الهمهمة وجارتنا تنشر الملابس على حبل الحديقة، ونبراس يكش الطيور عن السطح، وستار يلعب الجعاب في الطارمة وأحدهم يتبول على الحائط، وتقتحم الغرفة مجموعة من رجال الأمن. واختبئ تحت اللحاف وادخل خزانة وأعطى مخبئاً وتكون الرئاسة على كتفي والعويل يستمر والمسامير تخرج من الحيطان ويقشعر البدن واسمع اختراط الأسلحة والأصوات الآمرة، واختبئ بعيدا عن العيون. وفيما أنا اعدّ على الأصابع محاولا تذكر أرقام التقويم القمري ودورة البدلاء وغطيط الشمس واهتياج القمر وساعة الحظ ولحظة النحس، تمتد اذرع وأنوف وتسحبني خارج الغرفة واُصعد سيارة الفرقة الحزبية وأهدئ سحجات وضربات على الفك والعين، و تسير السيارة بين المنعطفات بين الوهدات، في الشوارع الضبابية نستدير إلى اليمين والى اليمين الأقصى وأنا أتمايل، ويقال لي : ابن قحبة. إننا نعيش ربع الساعة الأخير، قبل أن يسدل الله الستار وتنتهي الحفلة اللتنكرية. إني أهذي وسيارة الفرقة الحزبية تدخل كل لحظة في متاهة معينة ولا يغطون عيني، لأنه لا حاجة تستدعي و لأنهم ليسوا خونة ولا لصوصا ولايفعلون شيئا يستحون منه.
وإثناء حديثنا الهمجي في رحلة المليون ميل، تتفجر الحرب على إيران مثل بالون مليء بالغائط، وأشاهد رصاص المضادات الجوية وأناسا يتراكضون في الشوارع ومسدسات وظلمة وطائرات إيرانية وأكياس عنبة صفراء...... وأمواس جوليت وصابون رقي و جمال وعطور وجنابر منثورة وقياطين أحذية و لاستيك بجامات بازة مقلمة ودوة حمام لهلس الشعر وزنبك لتشنج العضلات وحمام نائم ومطيرجية وباعة أرصفة وطعم لاذع لفلافل وطرشي بالعنبة وطرشي النجف وزيتون مصلاوي ولبن اربيل.
كله في الشوارع والوجوه والشلغم ودكاكين مغلقة وعجائز يلطمن وعميان وعوران ومشلولين يزحفون وقحاب في الكرادة وفروخ في قمارات لوريات الحمل وحليب نستله محلى وبسكويت الجميلي وسيرلاك وأطفال بالمخاط وانقطاع كهرباء وأشباح في الشوارع وجيش شعبي وسيارات ملوثة بالطين وساحات مليئة بالخيم وجنائزعلى الأرض ولافتات سوداء وهجومات كونية ومدافع وراجمات صواريخ ورشدي عبد الصاحب وبيانات القيادة العامة وتلفزيونات مشوشة وكلاب تتبول في حديقة الأمة وكتـّاب يلوذن بخيمة القائد وهروب شعراء من الحرب وجنود يحرقون وفرق إعدامات خلف الخطوط ودبابات تنفجر.
وعلى باب غرفة بائسة في بداية ممر بجانب رجال الحزب أقف. رائحة الاسفنيك تنبعث من المكان واسمع صراخا ينبثق من الغرف الأخرى وتوسلات، ارتعش واشعر بالآلام في بطني. اسأل الحراس للذهاب إلى المراحيض لكن دون فائدة و انظر إلى الممر، انه طويل وبقعة ضوء تتدحرج وتمنح الحياة صفة الغرابة واللزوجة والبلاط اسود من دعس أعقاب السجائر. والأشخاص الذين يتم التحقيق معهم يسحلون. إني أشاهد وطنا آخر، وطن بذرة زهرة بنت الصبح التي سقطت على صحراء عروبتنا فأفسدتنا. وتتردد هذه العبارة في ذهني، وعندما أريد أن انهض ارفس بقوة من قبل المطي الذي يحرسني وانظر إلى وجهه محاولا فهم كائنات الليل هذه متذكرا كلمات سليمة حزقيل في تنائي الليل وانصراف النهار، أردت أن اعرف سبب انهمار الثلج على وجهي، سبب الابتراد، لكن المغص يعربد في بطني واشعر إن خروج الغائط بآلياته الموسيقية سوف يحدث الآن، حيث الزمن نسبي والمطلق هو وجودك في هذا المكان بين الصيحات الهستيرية ولوي الأصابع وتقطيع الرموش والجلوس على البطل وتمزق طيزك.
ارتعش كلما أتذكر إني الآن في بناية الحزب أو بناية الأمن، لافرق. هنا سيحطموك تتاليا، تباعدا، سيحطموا كبرياءك واضحك، وهل بقي من كبرياء؟ هل بقي شيء من كرامتك؟ إني مهزوز وأريد أن اعرف لمَ أنا هنا وفق المفهوم الاعتباري للوجود وفي ثنائيات تفكير عقلك وعقلك الباطن. اسمع أصوات تكسر العظام، أتذكر يوم أعلنوا إنهم أغلقوا قصر النهاية، وفرحت أمي وفرحت معها دون أن افهم، ثم نفاجأ إنهم فتحوا بعد ذلك عشرات القصور. الشئ الوحيد الذي يهمني الآن أن اعرف بأي جرم أنا هنا؟ لكن صوتا يقول لي : لاتسأل، إذ لا احد سوف يجيبك وعليك أن تمص لعابك بنفسك وتعالج ذاتيا تيبس فمك. واسمع احدهم يصرخ بي ويرفعني الحرس وافعلها بالبنطلون وتهرب العصافير الضاجة وأتلوى ورأسي إلى الأسفل في طأطأة الحياة الغائية.
ويدفع بي الى غرفة التحقيق وانتظر بهلع مؤكد الضربات التي ستنهال على ظهري، لكني افاجأ إذ يرمي المحقق بوجهي ورقة قائلا : وقع هنا ويشير بقلمه ودائرا وجهه عني. أوقع وأقول : ماهذه الورقة؟ ولايجيب. احمل النسخة الثانية واخرج ويدفع بي إلى الممر وأخطو بالوحشة والدهاليز الملتوية.. أجد نفسي بعد دقائق خارج البناية، خارج الزمن. أسير وأنا اقرأ الورقة التي سلمت لي. اقرأ بصعوبة، اقرأ إقرارا مني بأني عرفت منهم بان أمي تم إعدامها، اما الجثة فلا إشارة عنها.
ليس مهما الجثة يا أبناء القحبة. ليس مهما بعد أن تسير القطط على الأسلاك والكيبلات المعدنية، ليس مهما عندما تعبر الغربان حياتك مودعة وتاركة عيونك المبحلقة في السماء، ليس مهما أن تركض في وطن الازبال وتماثيل هارون الرشيد وزبيدة والخيزران وعلي بابا والقائد. مغارات الدهشة المستيقظة على ابتلاعك ورميك إلى مزاريب الموت الأحمر والأخضر والأبيض والأسود، مزاريب المطر، والمطر لايسقط في العراق ولاينهمر في بغداد ولايتساقط في الرياح. ابتلاعك وانبهارك وأنت أمام الأوراق تقرأ عالمك وهو يرحل بك عبر الزمن المتوحش إلى الزمن الكلبي. عواصف من الرمال وعواصف من السموم و القيظ اللاهب والصحراء المجتحفة بسيل الجفاف الفموي.. اشعر إني لا افهم مايدور وماالذي يدور فعلا؟ ولم يدر اصلا؟. أقول هللويا أيها العراق، هللويا وأنت تسفحنا على المنصات الرئاسية وصوت القنابل والحروب والشهداء والشعب الفرح بموت ألابناء، لأن بموتهم تنال العائلة سيارة جديدة مكرمة من القيادة ويزداد النهلستيون ويزداد المخبرون السريون والشعراء والكتاب. الوطن يغص، يفيض بالعسس والادباء والأمن والشرطة وأضيف شيئا جديدا، هو الانضباط العسكري - الشرطة العسكرية - المبثوثون مثل الصراصر، المبثوثون مثل الكوابيس، برؤوس حمراء، في الزوايا والشوارع والأركان والساحات والمبولات والخانات والفنادق وفي شارع الرشيد وفي شارع النضال والنهر والباب الشرقي وأمام المطعم الهندي في نفق ساحة التحرير، واشعر بالخيبة الكلية لروحي في وجود الانضباطية في نفق ساحة التحرير واصرخ أين يمكن أن نبول بعد الآن؟ أين تذهب عندما تخرج من البار وتريد التبول؟ بغداد مملوءة الآن بالشرطة وأخوة وأبناء الرئيس والجيش الشعبي والانضباطية والأمن والمخابرات والجهاز الحزبي وشيوعيون يتاجرون حتى بعرضك ووجهك ونعلك ومربطك ومبلغك ومنتهاك.
بغداد كومة من الزنابير الملونة بسخافة حياتك واشعر بالرهبة، اشعر بالرهبة للطريق الذي وضُعنا عليه، لسكك القطارات الملتوية التي لاتستمر في حياتنا، للطيور الواهنة التي ماعادت تطير في هذا الوطن والانسحاق كلما اقرأ في الأوراق الإشارة إلى إعدام أمي. أتذكر أقوالك يا سليمة حزقيل، أتذكر هروبك المخيف عبر ديالى وخانقين والسليمانية ثم إيران ومن طهران إلى إسرائيل حيث تعيشين الآن التذكارات المؤلمة عن بغداد والفرهود. لقد غادرتِ حياتنا مثل طائر الرخ، اما نحن فنغرق هنا، نموج بالحروب وأقوال القائد والقائد عندما كان نائبا ً والاعتقالات العشوائية والسفاح وزنا المحارم وكتب المادية التاريخية والبيان الشيوعي والبارات والقصخون والملالي وقراء المقام والموالد المحمدية والمتصوفة وحفارو القبور يدورون في المقابر يبحثون عن أية مساحة ممكنة لدفن القتلى.
أدور في شارع الرشيد وقنبر علي والميدان والصابونجية وعكد الجام والبتاوين وسيد سلطان علي وأمر على القشلة وباعة لفات لسان بقر مع الطماطة في صناديقهم الزجاجية البيضاء والعاهرات البائسات يجلسن على عتبات البيوت وأقول أبوس طيزكم أيها الانكليز، لأنكم حلمتم يوما ما بان تجعلوننا ليبراليين مثلكم، لكننا لانستحق.
أسير في شارع الرشيد مترددا واهما بعد أن اعبر محال خياطة الملابس العسكرية و اتجه إلى الاورزدي باك، وهناك بين الحشا والحشايا، بين التي واللتيا، بين الطيور وهي تهرب من صوت رصاص الصياد وبين الغيوم المنفلتة على انبساط الهباء الصحراوي، أجد الآف يحتشدون أمام بوابة الاورزدي باك، أقف وانظر للهياج والتدافع والتقاتل، وتفتح بوابات الاورزدي ويصرخ الناس وتعم الفوضى والهياج والتدافع والضرب بالأكتاف والأذرع، ويدخل الناس في همجية الحضارة البائسة القائمة على التحول إلى الدور الحيواني بعد المرور بمرحلة الايدلوجيات، ويخرج الناس من الاورزدي وهم يحملون الأغراض في لهفة غريبة وانتصار شيطاني. الهث، وأنا اتأمل الجماهير الرثة فرحة بالحصول على قنينة عرق لبناني وسيجار واحد ولباس داخلي وعصير راوخ. فرحة بالفول والفلافل والطعمية وليس لسان البقر لان باعة هذه السندويشات ذهبوا إلى الحرب ولن يعودوا منها أبدا. لكني لا افعل أي شيء أمام هذه السيكوباثية. وما الذي تستطيع فعله؟ لاعليك، دع كل شئ. حل تجة بنطلونك واجلس الى الشط وفكر في النوم بلا أحلام ولا كوابيس و لا طائر الكاو ولا أغاني ديمس روسوس و باري وايت وحديقة الزوراء والأمة وفؤاد مسعود وسينما الوطني.. ما الذي بقي إذن؟ أوجه السؤال إلى نفسي مدركا أن لا جواب، ولمَ الإجابة اصلا؟ طالما تعرف انك لاتعرف قبر أمك لتقرأ على روحها سورة يس وتأكل الجِرَك وتتأمل الوطن وتستمع الى وليد الفلوجي يقرأ ماتيسر له من سورة يوسف؟ !
Hamilton.on April 16- 2011
salah352@hotmail.com
الإصدارات
تحت ظل المطر - قصص قصيرة - ١٩٩٣ بغداد - طبعة خاصة
تحت سماء الكلاب - رواية - ٢٠٠٥ - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت
بوهيميا الخراب - رواية - ٢٠٠٩ - دار التنوير - بيروت
أوراق الزمن الداعر - رواية - ٢٠١٠ - دار التنوير - بيروت
مكان لممارسة الحلم - قصص قصيرة - ٢٠١٠ دار الحضارة - القاهرة