يعيد القاص والروائي العراقي سليم مطر تأمل الحياة من خلال طرفيها الرجل والمرأة من خلال حكاية ثلاث بلدات هندية سعت لتأطير العلاقة وعزل طرفيها لتخفيف الصراع وتحقيق السلام، لكن مستحيل قيامها من دون هذه العلاقة بكل ما بها.

بلدة الإناث وبلدة الذكور

سليم مطر

اثناء تجوالنا السياحي عند سفوح جبال الهملايا بجانبها الهندي، بلغنا واديا عظيما تملئه الغابات والأنهار والبحيرات الصغيرات، اسمه وادي(الناس janatā ). ومن بعيد يمكن للرائي أن يشاهد بسهولة ثلاث بلدات منتثرة في هذا الحيز الكبير، تبعد عن بعضها البعض بضعة كليومترات.  توقفنا لنستمع الى شروحات دليلنا الهندي وهو يسرد لنا القصة العجيبة لهذه الوادي:

قبل حوالي القرنين، لم يكن في هذا الوادي غير بلدة واحدة، هي التي نطل عليها  واقربها الينا. اسمها الحالي بلدة(شيفا ـ فشنا) ولكنها قبل ذلك تسمى بلدة(الانسان مانافيا mānavīya). قبل قرنين انتشر في الوادي الجفاف وعم القحط فعانى سكان البلدة من ازمة شاملة لم تمر في تاريخهم من قبل. تفاقمت المشاكل بينهم وكثر الشجار خصوصا بين الازواج وكثر الطلاق والهروب من البيت وحدثت جرائم انتقام وغسل عار. ساد اللغط والجدال بين الناس وتكاثرت التهديدات والاعتداءات بين العوائل، وبلغ الأمر من الحدة بحيث ان خطر الحرب الأهلية صار شاخصا أمام الجميع. اخيرا اجتمع حكماء البلدة وظلوا يتداولون بأمرهم سبعة أيام وليالي دون انقطاع، حتى توصلوا اخيرا الى القرار الاجماعي التالي:

((ان فصل الجنسين في بلدتين مختلفتين افضل حل لتخفيف الخلافات بين العوائل وفي داخلها)).

 منذ اليوم التالي شرعوا ببناء بلدة ثانية تبعد بضعة كيلومترات لتكون خاصة بجميع الاناث، امهات وعازبات وطفلات. ويبقى في البلدة الاصلية، فقط الذكور، آباء وشبان واطفال ذكور. في الوسط بين البلدتين بنوا بلدة ثالثة لتكون مكان لقاء الجنسين من الاقارب، ازواج واخوة واخوات وغيرهم، ليجتمعوا يوما واحدا في الاسبوع، ثم يعودوا في اليوم التالي، كل جنس الى بلدته.

وعندما تحمل المرأة وتنجب، اذا كان الوليد انثى تبقى دائما مع امها، وتلتقي ابيها مرة في الاسبوع. واذا كان ذكرا فأنه يبقى مع امه حتى نهاية سن الرضاعة، ثم ينقل بعدها الى بلدة الذكور ليعيش دائما مع ابيه واخوته، ولا يلتقي امه واخواته الا مرة في الاسبوع.

وقد كلفت النساء بمهمة انجاز الاعمال الحرفية للجنسين، من حياكة وخياطة ثياب وعمل السلال والافرشة والاحذية وغيرها من الاحتياجات المعروفة.

اما الرجال فقد تكفلوا بالزراعة ولواحقها من امور الري والتنظيم والبناء. وكانت اهم الصعاب التي واجهت الذكور مشكلة الطبخ وتنظيف الدار. وهي بالحقيقة عمليا لم تكن صعبة، ولكن المشكلة تكمن في المانع النفسي والاخلاقي، إذ إانهم منذ آلاف الأعوام تعودوا ان يكون الطبخ والتنظيف من مهمات المرأة، وان تدخل الرجل بمثل هذه المهمات يعتبر اهانة لرجولته. وبعد مداولات واحتجاجات وجدالات، تمكن الحكماء من اقناع الرجال بأن الطبخ والتنظيف عمل مقبول ولا يتعارض مع كرامة الرجل. بالحقيقة ان الذي حسم الامر، هو الحكيم(شافا) الاكبر سنا الذي اعتزل ثلاث ليالي في الغابة، لكي يستشير "الاله شيفا Shiva "(اله الذكورة والحكمة) في هذه المسألة العويصة. وقد عاد في صباح اليوم الرابع ومتاعه على ظهره. اندهش جميع ذكور القرية المجتمعين لاستقباله، عندما شاهدوا حكيمهم يخرج من عليجته قدرا ومكنسة. في البدء ظنوا ان الاله قد عاقبه وافقده عقله. لكنه جلس بهدوء على الارض وشرع بالكلام:
ـ اسمعوا يا أبنائي واخوتي، ان (الاله شيفا) يسلم عليكم ويحيكم على قراركم بفصل الاناث عن الذكور، ويقول انه نفسه منذ حقب طويلة، اتخذ نفس القرار بخصوص زوجته (بافاراتي Parvati ـ الهة الخصب والاخلاص) . لكنه يعاتبكم على ازعاجه بمثل هذه المسألة التافهة. ويقول لكم حرفيا: (( الا تخجلوا على حالكم من التردد بانجاز مثل هذا العمل البسيط. فانا بكل شموخي وفحولتي وحروبي التي لا تنتهي، اطبخ بنفسي طعامي وكل يومين اقوم بتظيف وكنس مقر عرشي السماوي)). وقد بعث لكم هدية من قصره الالهي هذا القدر وهذه المكنسة، لتوضع عند باب البلدة ويسجد لها كل ذكر يمر بها.  

                                              *      *     *

 فعلا مع مرور الزمن والاعوام اثبت قرار الحكماء عقلانيته، حيث خفت كثيرا المشاكل وعم السلام وساد التعاون والتفاهم بين الناس، سواء بلدة الذكور او بلدة الاناث، مما سمح بالقيام بانجازات مهمة في مشاريع الري وتنظيم الانهار والبحيرات والمزارع، فتم التغلب على مخاطر الجفاف والفيضانات، فأنتشر الأمان والرخاء.

لكن بين حين وآخر كانت تحدث بعض المشاكل، كثيرا ما أثارت الضحك، وأحيانا الغضب والعقاب. إذ يلاحظ الرجال ان هنالك رجلا زائرا في بيت رجل آخر، على اساس أنه من اقاربه المقيمين في بلدة بعيدة. لكن يكتشفون فيما بعد ان هذا الزائر بالحقيقة زوجته متنكرة بهية رجل لكي تمضي الايام براحتها مع زوجها وابنائها الذكور. نفس الامر يحصل في بلدة الاناث، إذ يكتشفون زوج او خطيب متنكر بهيئة إمرأة لكي يمضي الايام مع زوجته او خطيبته.

لكن مع الزمن بدأت حالة خاصة تنمو وتنمو حتى اصبحت خطيرة وادت الى قلب الامور راسا على عقب:

هنالك دائما رجال ونساء يملون من هذا التقليد، ويرفضوا البعاد والفراق من احبائهم، والعيش الدائم مع امثالهم من نفس الجنس. ثم يقرروا التمرد العلني، من خلال البقاء الدائم في البلدة الوسطية المخصصة للقاءات الاسبوعية.

طبعا ان ردود الفعل من قبل رجال ونساء البلدتين ضد المتمردين كانت قوية ومؤذية تبدأ بالتهديد الشفهي  ثم النبذ من العشيرة، ثم اخيرا العقاب البدني واجبار الازواج المتمردين على العودة الى بلدة كل منهما. ولكن بمرور الاعوام واضطرار الكثير من الازواج المتمردين الى هجر الوادي كله والرحيل مع عوائلهم الى بلدات بعيدة، بدأت تخف حدة الرقابة والعقاب. حتى اصبحت البلدة الوسطية بلدة كبيرة عادية مختلطة تضم اناث وذكور مثل جميع بلدات الارض.

 أما البلدتان الاخريتان فقد استمرتا بتقاليد الفصل بين الجنسين، ومن يرفض هذا التقليد ما عليه الى الانتقال الى البلدة الوسطية المختلطة. ودون ان يخطر في بال احد ابدا، ان بلدة الذكور لم يبق بها سوى الذكور الشاذين الذي لا يرغبون الا بالذكور من امثالهم وحملت اسم(شيفا ـ فشنا)* ، وبلدة الاناث ايضا تحولت الى بلدة خاصة بالنساء اللواتي لا يرغبن الا بالنساء من امثالهن، وحملت اسم(ساتي وبارفاتي).

 
  • شيفا Shiva وفيشنا Vishnou ، الهي الذكورة في الهندوسية. وحسب بعض الاساطير ان هنالك علاقة جنسية بين الالهين الذكرين.
  • بارفاتي Pârvatî وساتي Satî. بالاصل كانت (ساتي) الهة انثى وزوجة الاله شيفا، ثم ضحت بحياتها وحرقت نفسها من اجل انقاذ زوجها. بعدها استحالت الى الهة انثى ثانية باسم(بارفاتي).