لعل الطيب الصديقي كان راعيا مسؤولا عن رعيته. فهو الذي رعى المسرح المغربي، وخرج معظم إن لم نقل كل الفنانين من معطفه، بل فجر ظاهرة الأغنية الملتزمة من خلال مجموعة «ناس الغيوان»، و«جيل جيلالة». إذ مارس أصحابها على الركح إلى جانبه ردحا من الوقت. رحل عن عالمنا، مساء يوم الخامس من فبراير/ شباط عن عمر ناهز (79) سنة، هذا الذي تعددت ألقابه: «فارس المسرح»، «شيخ المسرح المغربي». ولكن رجلا قال لحظة دفنه: «دفن المسرح». هذه بعض لحظات من سيرة رجل يصعب اختزال شخصه وإبداعه في سطور.
هبة الصدف
يرى الطيب أن كل أحداث حياته «فضلة من الصدفة». فقد كان لقاء الطيب بالمسرح صدفة. كان يريد أن يصبح مهندسا معماريا، ولكن الحظ لم يساعده، اجتاز امتحانا، ولكن الأساتذة الفرنسيين يومها وجهوه وبقية زملائه توجيها مهنيا، فقد لاحظوا «أن لي استعدادات في مجال الاتصال. وكان يومها يسمى بالبريد. أخبرت أبي بالأمر فقال لي «نحن على أبواب الاستقلال، وأنا أمنحك سنة تفرغ للتأمل الذاتي». كان قرأ، يومها، في الصحافة خبرا عن تدريب في الفن الدرامي، فقال بينه وبين نفسه: «يشتمل المسرح أيضا على الهندسة، فلأبدأ من هنا ويفتح الله من بعد». وكان واحدا، من بين عدد ضئيل، من مزدوجي اللغة الذين قبلوا. بدأ الاشتغال بالترجمة، ثم انتقل إلى إدارة المسرح فالديكور. وبعد ذلك أصبح مخرجا، ومدير فرقة مسرحية، فمدير مسرح. «في الحقيقة، لم أخطط لأي شيء في حياتي. كل شيء حدث بشكل طبيعي». وشرع يدرس مادة أو مهنة مهندس الديكور المسرحي. «وأعتقد أن الصدفة كانت حليفي في هذه المسيرة المسرحية».
* * *
الطيب معلم الجمهور والفنانين:
لم يكن الرجل ظاهرة بشخصه، وثقافته المزدوجة (عربية وفرنسية)، وتلاعبه بالكلمات وعجنه اللغة، وسخريته المدمرة، كمعلمه الأول: الجاحظ، وثورته العارمة كمعلمه الثاني. يرى الطيب أننا لن نجد شخصا أغنى وأعمق من «الجاحظ». وكل ما كنا نحتاج إليه هو أن ينفتح الشخص منا على ثقافته، وينبثق من جذورها. «وحاولت أن أتعامل مع هذه النصوص، التي يسميها البعض بالتراثية. ولكن «الجاحظ» يخاطبنا اليوم. ولما مثلنا «أبي حيان التوحيدي»، في فرنسا، باللغة العربية، في عرض يومي لمدة شهر، ولجمهور في معظمه من الفرنسيين والأجانب، وكانت الحرب، يومها، دائرة بين العراق وإيران. كان «التوحيدي» يتكلم عن الحروب المشتعلة في بلاد فارس، والعراق، كان يتكلم عن السلطة. لم يكتب «شكسبير» عن شيء آخر غير السلطة، «فأبو حيان التوحيدي» يخاطبنا اليوم. كما يتحدث عن انحطاط الثقافة العربية الإسلامية، وكان هو و«الهمداني»، من الأوائل الذين شعروا بأن هذا الانحطاط بدأ يتفشى كنوع من السرطان في نسيج الثقافة العربية الإسلامية. كأنهما يخاطباننا الآن». التفت إلى التراث، ووقف على قيمه وشرع يعلمها للجمهور. كما علم الجمهور الذي يشاهد أعماله حقيقة المسرح، علمه ما معنى الكوستيم، والإنارة، ودقة الحوار، وكم من متردد على مسرح الطيب هاجر حضور مسرح آخرين لأنه تشبع بنوع من المسرح، وشرع يقارن وينتقد ويختار. كما علم الفنانين خارج مسرحه أيضا. من ذلك أنه ظل يحرص على دعم كل التجارب المسرحية التي يحدس فيها حب العمل، ولذلك ظل يحضر إعداد مسرحية «بوغابة»، لفرقة «مسرح اليوم»، وخلال ذلك الحضور علم الممثل الخمولي، مثلا، كيف يمزج بين الألوان، كما علمه وزملاءه كيف ينزلون الفرشاة من دون أن تترك دموعا على الخشب، وأن لا يصبغوا على مستوى العرض، بل على مستوى الطول. وقد علم فنانين مغاربة، لما اختارهم لأداء أدوار في ملحمة «أضواء وأصوات» ركوب الفرس.
* * *
هاجس التأسيس:
عاش الطيب هاجس التأسيس بكل مسام جسده. فقد انتقل عبر حياته بعدة مراحل تتجاوب مع ما ينتظره الناس، أو هي مفاجآت بالنسبة لهم. بدأ بالاقتباس، لأنه، باستثناء الراحلين «الطيب العلج»، في بداياته، و«البشير العلج» لم يكن المغرب يتوفر على نصوص، ولا على مؤلفين مسرحيين كثر. كان عددهم بعدد رؤوس أصابع اليد الواحدة. والاقتباس انفتاح على الثقافات الأخرى، وهو ضرورة، ثم إنه يعلم رجال المسرح ما هو المسرح، لأن المسرح، بمفهومه الإيطالي، دخيل على الثقافة العربية، كالرواية وغيرها من الأجناس الأدبية الحديثة، ذلك أن وسيلة التعبير الأساس في ثقافة العرب، هي الشعر. ولما كان عمر احتراف المسرح العربي قصيرا فمن الصعب أن نقول، حسب الطيب، إننا نتوفر على مدرسة مسرحية قائمة الذات. لأن عمر المسرح طويل وعمر الإنسان قصير. «المسرح يحتاج لقرنين من التقليد والممارسة لكي نقول إننا نتوفر على مدرسة قائمة بذاتها». ولما كان الاقتباس مدرسة تعلم المسرح، وقد اقتبس الطيب (12) مسرحية، منها مسرحيات تنتمي إلى مسرح اللامعقول لكل من «يونسكو»، الذي أثنى على الطيب حين التقى به لأنه سمع أن مسرحيته «كيف التخلص منه» قد عرضت (300) مرة، و«أرابال» ولكن للاقتباس حدوده، إذ اتضح بعد هذه التجربة، أن الاقتباس لا يساعد على نشوء مسرح مغربي، عربي مئة في المئة، ولا يمت بصلة للمسرح الأوروبي. «فلنكن واقعيين»، يقول الطيب، «فإذا قدمنا شكسبير فنحن لن نمثل شكسبير أحسن من الإنكليز. وإذا مثلنا موليير فلن نمثله أحسن من الفرنسيين. فتبين لي أن هذا الطريق مسدود». وهكذا اقتنع الطيب أن الواجب يلزمه البحث والتنقيب عن أشكال فرجوية محلية، أو خاصة؟ وقاده البحث عن الفرجة إلى أحضان الحلقة، والبساط، والخرافات… وهكذا كان أول عمل أنجزه، وكان «مغربيا مئة في المئة» هو مسرحية «ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب». وقد أكد «البحث في الخصوصية»، وتجاوز الاقتباس، واقتراف الإبداع تعطش الجمهور ونجاح التجربة. فقد عرضت مسرحية «الديوان» أكثر من خمسمئة مرة. وهو رقم قياسي في تاريخ العروض، حتى الآن، في المغرب. وفي العرض إقامة الدليل على أن كل شعب يريد أن يرى نفسه في فنونه، وإبداع أهله. ويعود الإقبال والتجاوب إلى أن المسرحية تتحدث إلى المجتمع عما يعانيه المجتمع في فرحه وفي خيبته. فاكتشف الطيب، وساعده والده على ذلك، أن هناك نصوصا عربية، هي ما يسميها بالذخيرة، أي الريبرتوار، ويقصد به التراث العربي، نصوصا قابلة مئة في المئة للمسرحة. ويؤكد الطيب: «المقامات، مسرحيات مكتوبة للمسرح. تشتمل على الحوار والشخوص والحبكة والبداية والنهاية».
* * *
الطيب والالتزام:
بعد أن أتم دراسته في فرنسا، حصل على إجازة في الأدب وتلقى دورات في المسرح، عاد إلى المغرب وأسس فرقة «المسرح العمالي» سنة (1957)، بطلب من نقابة العمال «الاتحاد المغربي للشغل»، ومساعدة أخيه الشاعر محمد سعيد الصديقي، حاول أن يرفع مستوى الوعي لدى العمال عبر المسرح. بالطبع، لا بد أن يراود هذا الحلم شابا يغذيه الحلم أكثر من الواقع. ثم إنه تلميذ جان فيلار الذي كان فتح المسرح الشعبي في وجه الجماهير العريضة، ثم سرعان ما علمته التجربة أن رجال السياسة يبحثون عن المصلحة، وعمن يقول كلاما لا يستطيعون قوله، فرفض أن يكون خادم رجال السياسة، وغير وجهته نحو الفن بدون دعوى «الالتزام». ومع نضج الشاب اتضح له أن «المناضل الحقيقي، إذا كان رجل مسرح، فالمطلوب منه أن يكتب مسرحا جيدا. والمطلوب من الشاعر أن يكتب شعرا جيدا، وهو ما يبقى في نهاية المطاف… أنظر إلى فولكنر، إنه سياسي كبير. ثم إنه، بالنسبة لي كان رجل قانون أيضا. ولكنه كان كاتبا كبيرا، قبل كل شيء. ولا يهم إن كان من «اليمين» أو من «اليسار».
* * *
الطيب والفرجة:
هو باحث عن الفرجة، وصانع فرجة، بحث عنها في التراث فعثر عليها وقدم بعضها للجمهور العربي كافة، ثم عاد إلى التراث المغربي في شكل الحلقة فلاحظ أن الناس تحتقر هذا البعد الفرجوي فأبدع جملة صديقية: «الحلقة فيها وفيها». ويدلل على قوة الفرجة في الحلقة بأن المتلقي حين يستمع إلى الراوي الذي يحكي «الأزليات» أو «العنتريات» أو أشياء يجتهد في إنشائها، تجد أنه ينشئ في مسرحه نصا ويروي نصه، ويبدع ديكورا. وذلك عندما يستعمل العصا، ويقول لامرأته، وهو يسلم عليها سأسافر ويركب على عصاه فتتحول العصا كأنها حصان. ولما يرحل ويسقط المطر تتحول تلك العصا إلى مظلة. ثم يعترض سبيله بعض قطاع الطريق، فتصبح العصا سيفا. ينتصر عليهم فيكتب إلى امرأته فتصبح العصا قلما. ذلك ما جعل الطيب يراهن ويفلح في صنع فرجة من شكل «تقليدي». وهو المثقف بامتياز قرأ أن الغربيين وقفوا عند قوة هذا الإبداع، وكتبوا في هذا الموضوع، في العشرينيات والثلاثينيات، أيام الحماية. كما كتب عن الحلقة رجال المسرح الفرنسي، في الثلاثينيات والأربعينيات، ومنهم كوبو ولوي جوفي. ويتفق راوي الحلقة ومبدع فرجتها مع رجال المسرح الإغريقي في الاعتماد على النص المكتوب، قبل أن يِؤدى أمام الجمهور. فهل بعد هذا تستحق الحلقة من المبدع الاحتقار؟ وهكذا اقتفت أثر الطيب كوكبة من المسرحيين المغاربة منهم الطيب العلج، وعبد الكريم برشيد.
وأخيرا، فالرجل مبدعا كان وسيبقى، فلم يقبل يوما لازمة وجود «أزمـة نص وأزمة مسرح» بل كان يلح على أن الأزمة أزمة الخيال والمـخيلة. فالدعم المالي الذي يحصل عليه رجال المسرح والسينما يمكن من شراء كل الآليات، ولكنه لا يمكن من شراء ذرة من الخيال لأنه لا ثمن له.
(أديب مغربي)