حين تدخل في بلاغة النصّ النثري، عليك أن تخلع بردتك المقدّسة المكتسبة من تلقيك الطويل لبلاغة النص الشعري؛ لأنك في بلاغة النص النثري تدخل في فضاء بلاغةٍ لا شطآن لها غير ما يقترحه عليك النوع الأجناسي من جهة، وقدرتك على القراءة والتأويل، مستعيناً بموسوعتك المعرفية، من جهة أخرى.
غير أنّ ذلك الفضاء الرحب لا يمجّد "الاستدعاء الحر"؛ لأنّ رياح القراءة تشدّه إلى مَراسٍ قوية وعميقة في المنحيَيْن؛ علم البلاغة، والنص المقروء، بوصفه نصاً نثرياً، يقبل القراءة والتأويل، والانفتاح على حقول معرفية متعدّدة.
مِن هذه الرؤية يمكن أن تدخل مع الباحث محمد مشبال في كتابه "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ، مقاربة بلاغية حجاجية"، في أفق حقلين معرفيَّيْن متجذّرَيْن في الثقافة العربية، الأوّل بلاغي نقدي، والثاني إبداعي نثري. وإذا أردنا الدقة وفق العنوان، وترتيب وحداته المعرفية، سنقول: الأول إبداعيّ نثري، والثاني بلاغيّ نقدي. وأمام الحقلَيْن، تصبح مهمة القارئ البحث عن إجابة للسؤال الفضولي المسبق؛ كيف سيؤطّر الباحث الخطاب النوعي في إرث الجاحظ، مع الحقل المعرفي في البلاغة العربية؟ ولكنّ العنوان التفصيلي للبحث "مقاربة بلاغية حجاجية" يفتح المجال لوضوح الرؤية، من خلال التحديد الذي اقتضته الدراسة، كمشروع علمي أكاديمي مصقل بعناية شديدة. هذا إذا كان التوجه الجوهري في وعي الباحث بلاغياً؛ حيث يكون النص المقروء مجرد أرضية خصبة لقراءة البلاغة في النثر العربي، بعامة.
وبذلك تخلص الدراسة إلى إنتاج معرفتين عميقتين في الحقلين؛ بلاغة الحجاج، ورسائل الجاحظ. بمعنى أن مقاربة رسائل الجاحظ في البحث ستكون أسّاً ثابتاً في المرجعية الثقافية لأية قراءة أخرى، تالية، لرسائل الجاحظ، ونثره، بشكل عام؛ لأنّ الدراسة في هذا الحقل حفرت بشكل عمودي في وعي الجاحظ تجاه العالم، الذي اتكأت عليه كتابته للرسائل. وهو عالَم تحكمه قيم اجتماعية وأخلاقية ودينية، وقناعات فردية أحياناً، تدخل في رؤية الجاحظ للمكوّنات الاجتماعية، والأفكار التي تؤطّر علاقاتها بالعالم، كموقفه من الجواري والغلمان؛ إذ يقول الباحث: (يحاول الجاحظ أن يوهمنا، كما فعل في غير هذا الموضع من رسائله، بأنه يكتفي باستدعاء النصوص، ولا يعبّر عن موقفه من المجون، ولا يردّ على من ينكر النظر إلى المرأة ]...[ وكأن الجاحظ يتحاشى الإفصاح عن مواقفه صراحة في أمور قد تتعارض مع الدين)(25) وفي قول الباحث "يوهمنا" إشارة ضمنية إلى عدم اقتناعه بموقف الجاحظ المعلن، ويقدّم تفسيره لذلك عبر تفكيك النص، والبحث، بوسائله الحجاجية أيضاً، عن تفسير حضور متواليات أخرى، تخالف إعلان الجاحظ، وتدفع بشكّه إلى نهايته، إذ يقول: (بيد أنّ الجاحظ، على الرغم من إنكاره أن يكون قصد بهذه المفاخرة ]الجواري والغلمان[ إثبات موقفه المبيح للمجون، فإن استشهاده أقوالَ رجال يحظون بمقام ديني رفيع لإباحة الحديث الماجن، يتعارض مع هذا التصريح، ويوحي للقارئ بأنّ ذلك كان منه على سبيل الحذر، والرغبة في الظهور بمظهر الشخص الحريص على الدين)(ص25) وبذلك يمتاز النص المستدعى، من قبل الجاحظ، بسلطة دينية قاهرة وإقناعية، في الوقت ذاته، وذلك وفق وعي المتلقي، مما يؤسس لخطاب مختلف عن الخطاب المعلن من قبل الجاحظ.
بتلك الحفريات لا يقرأ الباحث رسائل الجاحظ أفقياً، تلك القراءة التصنيفية والوصفية لما هو ظاهر، ومعلن في الخطاب السطحي، وإنما يبحث في المخفيّ، والمستور، بين المتواليات الدلالية، التي ينشط خلفها وعي الجاحظ للعالم، وبالتالي هو يعمل على إعادة قراءة الرسائل، أو على إعادة النظر في الصورة النمطية المتداولة، عن نثر الجاحظ ووعيه.
وفي سياق تداخل البلاغة والمعرفة، ينجز الباحث معطًى هاماً في الإجابة على سؤالنا الفضولي المسبق، حول التأطير البلاغي للدراسة؛ حيث المكان المنحاز إلى المعرفة الجغرافية في التواصل السطحي، والقراءة الأفقية في رسالة "الأوطان والبلدان" ولكن رسائل الجاحظ المنحازة إلى النوع الأجناسي الأدبي تربك تلك القراءة، وتدفع باتجاه القراءة العمودية، حافرة في وعي الجاحظ آفاقاً رحبة للقراءة، بوسائل تعبيرية بلاغية، لا يمكن تحييدها في الفهم والتأويل؛ ولذلك أدرك الباحث أن الجغرافيا عند الجاحظ ليست مقصودة لذاتها، وهي لا تشكل في وعيه رحلة في معرفة المكان، بل هي موطن للتعبير عن الإنسان؛ إذ بدونه نكون أنا وأنت وهو حياديين، قد نشعر بقيم جمالية تجاهه كالجلال والجمال وما يدور في حقل ذلك،أو القبح والاشمئزاز وما يدور في حقله أيضاً، ولكننا لسنا ـ بالتأكيد على مستوى ما يريد الجاحظ قوله في المضمر من حقله المعرفي الجغرافي، يقول مشبال: إن تشكيل المكان هنا في (سياق حجاجي ينبني على التقييم والمفاضلة والمفاخرة ]فالجاحظ...[ يعمد إلى نقل موقفه من الموضوع الموصوف، وعلى هذا النحو تلتبس في النص المعرفة العلمية بالمقام الحجاجي ويتداخل الخطاب الجغرافي بالخطاب البليغ)(ص223-225).
ولكن البحث ينهض من إطاره الأدبي، وهذا ما يفرضه التوجه البلاغي فيه، ليدخل في الدراسات البلاغية، على الرغم من تشاكل العنوان، إذ قُدّم الأدبي على البلاغي. ولأن البلاغة نهج في القراءة، كانت وظيفتها في البحث قائمة على الكشف عن أمرين:
الأول، مقصود لذاته وهو الوعي الحجاجي والقدرة على تمثله في الكتابة عند الجاحظ. ولكنّ ذلك يولّد السؤال الآتي: هل كان الجاحظ يفكر حجاجيا في عرض أفكاره عبر وسائل تعبيرية ترتبط بانتماء النص إلى خطابه البلاغي؟ يقول الباحث في مقدمة كتابه: (إن اختيار المنظور البلاغي الحجاجي لمقاربة نصوص الجاحظ النثرية "الرسائل" لا يعني نفي المقاربات الأخرى ... بل يقوم على تأكيد نجاعة ذلك المنظور في الكشف عن طبيعة الخطاب الأدبي فيها، وهي طبيعة بلاغية)(ص7) فكأني بالباحث،وإمعانا منه في الموضوعية،يقف موقفاً حياديا تجاه منهجه في القراءة ليقول،هي قراءة لا تلغي القراءات الأخرى،وبغض النظر عن فكرة الإقصاء والإلغاء غير الواردة في القراءات، إلا أنه يجب التنويه إلى أن اختيار منظور الرؤية المنهجية في قراءة النصوص تقوم ـ وهذا غير بعيد عن توجه الباحث ـ على رصد هيمنة أسلوب تعبيري ما، أو على هيمنة حقل معرفي ما، أو على هيمنة صورة انزياحية ما، على النص،دون أن تلغي تلك الهيمنة الفواعل الأدبية الأخرى في تشكيل النص.ومن هذا المنطلق كانت قراءة رسائل الجاحظ من منظور بلاغة الحجاج، وهذا ما أثبتته تفاصيل تفكيك الوحدات البلاغية الحجاجية في الرسائل، والوظائف التي قدمتها قراءة مشبال نفسه.
غير أن قراءة "موضوعية الباحث"، بحسن نية، أشارت إلى ما ذكرناه في "مقصود لذاته وهو الوعي الحجاجي والقدرة على تمثله في الكتابة عند الجاحظ" بمعنى أنه يمكن أن يتمثل الوعي الحجاجي في أي كتابة أخرى، وهنا يتخلص الباحث، دون قصد، من فكرة هيمنة البلاغة الحجاجية على وعي الجاحظ في رسائله، على الرغم من أن جهدا كبيراً قدمه الباحث وهو يبيّن هيمنة ذلك الوعي على الرسائل. ويغني القول أن نقتبس قوله (يتألف خطاب الرسائل الحجاجي عند الجاحظ من صوتين؛ صوت المتلفظ، وصوت الآخر المعبَّر عنه أو غير المعبَّر عنه. لا وجود لرسالة لا تتوجه إلى خطاب آخر تبني عليه خطابها؛ قد تستدعيه في صيغة دعوى أو حجج أو أقوال؛ لتقوّضه تارة، و لتؤكّده تارة أخرى، وقد لا تستدعيه، بل تتركه في طي الكتمان، ولكنه مع ذلك يظل حاضرا يوجّه خطاب الرسالة، ويصوغ ملفوظاتها)(ص40).
إن حلّ شفرات تلك الحيادية القادمة من الموقع الأكاديمي للباحث، والتي بدت ضعيفة مع الدخول في تفاصيل قدرته على تفكيك الخطاب الحجاجي، هي التي ستسمح له بعرض الوعي الحجاجي عند الجاحظ، كما فصّله في وحدات درسية، أظهرت من حيث التصنيف انزياحا إلى الدرس الأدبي؛ ويمكن ملاحظة ذلك من تفاصيل فهرس الموضوعات، الذي يلاحق موضوعات الرسائل، وكما هو في العنوان أيضاً، وأظهرت من حيث التحليل انزياحا إلى الدرس البلاغي في تفاصيل القراءة، وفي تفاصيل الدرس البلاغي، وتطبيقه الأكاديمي على الرسائل وموضوعاتها.
الثاني، غير مقصود لذاته إلا في إطار الوعي المعرفي في الحقل البلاغي؛ وهو امتلاك الأدوات الإجرائية في تشريح النص النثري، وإنتاج معرفة دقيقة في قراءة النص بلاغياً، عبر تفكيك وحداته الحجاجية. مما يؤسس لإنتاج المعرفة الجديدة، ليس في حقل البلاغة فحسب، بل في حقل قراءة النثر العربي القديم أيضاً؛ من أجل إنتاج منظومة معرفية، تعيد النظر في المتماهى به نقدياً، عبر الدراسات التراكمية التي أسست، بتكرار المقولات، لبدهيّات نقدية؛ بعضها كان مسطحاً، ولم يقم على أساس معرفة إقصائية وتفكيكية للنوع الأجناسي، وبعضها كان إنشائيا وبعضها كان احتفائياً، وبعضها كان وصفيا للخطاب الظاهر والوعي الظاهر، بغضّ النظر عن مقولات الخطاب المستور، والبياض الذي يتركه الكاتب للمتلقي؛ لمشاركته في الكشف والتأويل.
من ذاك الوعي المعرفي تبرز مبررات إعادة القراءة في المقروء، لتقديم فهم مختلف لآلية تركيب الخطاب النثري، وبالتالي لطبيعته، يقول مشبال: إن على المحلل البلاغي (إخراج التحليل البلاغي من دائرة توصيف النص، وإنتاج معرفة بخصائصه)(ص120) من خلال فك وحداته الحجاجية البلاغية للوصول إلى المقولات الأكثر نسقية في البنيات العليا للنصوص، من جهة،وللحضور الموضوعي للقراءة، بعيداً عن المنظور الأفقي للمعرفة بمكونات النص.
وعلى أساس ذلك يمكن أن نقرأ كيف استخدم الجاحظ البلاغة في خدمة الأخلاق(ص129) وكيف بنى حجاجياته على الحوارية، والأسباب والنتائج، واستدعاء النصوص السلطوية (84) وغير ذلك من أساليب البلاغة الحجاجية، مما يعمق معرفتنا بنصوصنا التراثية، والوعي المعرفي الذي أنتجها.
(باحث وأكاديمي سوري مقيم في المغرب)