يؤكد الناقد ضرورة المنظومة المعرفية والمعيارية للسلوك، ويرى أن الاختلاف في النتائج سببه اختلاف في منهج التفكير المعتمد، وهو اختلاف لا يمكن حصره لأنه من المتغيرات، ولكن يمكن اجماله باختلاف المنهج، واختلاف الناس في الميول والأهواء الفطري، والتعصب، ورفض الجديد.

دواعي الاختلاف في الفكر الاسلامي

عبدالصـمد الراغي

خلق الله الإنسان وجعله مشتركاً مع بني جنسه في صفة الإنسانية، ولكنه في نفس الوقت، ودليلاً على عظمته، جعل هذا المخلوق متصفاً بتنوع القدرات والامكانيات، فحصل الإختلاف بين الناس، انعكاساً لاختلاف الناس في الادوات والميول التي يتحصل الإنسان من خلالها على المعرفة، فكان الاختلاف هو أول الصفات التي تدل على تميز الانسان عن الحيوان، ولكن هناك من ينكر الاختلاف ويسعى لتعطيل أعظم نعمة من نعم الله على الإنسان وهي العقل، فيكون بدون هذه النعمة قد هبط الى مستوى الحيوانات التي تعيش وفق غرائزها وحاجاتها العضوية فقط.

لقد اتفق الناس جميعاً على وصف اللون الأبيض بالأبيض والأحمر بالأحمر ولكن لا يمكن ان يتفقوا على ايهما أجمل الأبيض أم الأحمر، لذلك لم يكن الاختلاف بين الناس في المحسوسات، وانما وقع الاختلاف في وصفها ووصف ما يتعلق بها، فالكون والإنسان والحياة كانت هي مادة التفكير عند الفلاسفة والعقلاء منذ نشأة الإنسان، ولكن التفكير في هذه المحاور الثلاثة أنتج نظريات فلسفية واجتماعية مختلفة، فمن قال بأن الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق قَبِلَ بالعيش وفق نظام معرفي وعملي وسلوكي من وضع الخالق كما هو حال المسلمين مثلاً ومن قبلهم اتباع الأنبياء، أما من قال بأنه ليس هناك من خالق خلق الكون والانسان والحياة فإنه لجأ الى نظام قيمي في المعرفة والسلوك من صنع الإنسان نفسه؛ لأنه لا يمكن للانسان أن يحيا بدون منظومة معرفية ومعيارية للسلوك، وهكذا نجد الاختلاف في النتائج التي يتوصل الانسان اليها بسبب اختلاف منهج التفكير الذي يعتمده، وهذا الاختلاف يمكن اجماله في عدة نقاط ولا يمكن حصرها وتفصيلها؛ لأن هذا الامر من المتغيرات، وحصرها امتهان للعقل البشري وتضييق عليه فيما وسعه عليه عقله:

أولاً: اختلاف المنهج: فقد اعتمد الانسان مناهج متعددة في الوصول الى المعرفة، فمنهم من يعتمد المنهج الحسي المطلق، وقد أشرنا إلى ان الاعتماد على المنهج الحسي فقط دون ربطه بالطريقة العقلية، لا يوصل الى نتائج مطابقة للواقع في غالب الأحيان، فالحواس يمكن أن تخدع، كالذي يرى السراب فيظنه ماء، او كالذي يرى العصا منكسرة اذا وضعها في حوض ماء، الى غير ذلك وهو كثير، فمن حكم اعتماداً على الحواس قد يخطيء في النتائج التي يتوصل اليها، إضافة الى أن المحسوس لا يحاط به للفرد من البشر، فيختلف الحكم باختلاف الواقع المحسوس وإن كان موضوعه واحداً، وقد اشار الى هذه الحقيقة افلاطون فقال: "إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهة. ومثال ذلك عميان انطلقوا الى فيل، وأخذ كل منهم جارجة منه فجسها بيده، ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مستديرة شبيهة بأصل الشجرة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره، فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل يكذب صاحبه، ويدعي عليه الخطأ والجهل فيما يصفه من خلق الفيل، فانظر الى الصدق كيف جمعهم، وانظر الى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم". من هنا كان الاختلاف مثلاً في فهم الكتاب والسنة بين من كان منهجه يقول أن القران فيه مجاز وبين من يقول ان كل الفاظ القران على الحقيقة، فمن قال بالمجاز فقد فهم آيات الصفات على خلاف ما فهمها القائلون بنفي المجاز؛ إذ ليس الخلاف في ثبوت النص القرآني، بل في المنهج الذي يُنْظَرُ فيه الى النص.

ثانياً: يختلف الناس في ميولهم وأهوائهم الفطرية، فتجد من الناس من طبع على الكرم والجود ومنهم من جبل على الشح والبخل، ومنهم شجاع مقدام ومنهم جبان رعديد الى غير ذلك من الصفات التي يختلف الناس تبعاً لها، وطبيعي أن هذه الصفات والميول تؤثر في فهم نص من النصوص على وجه من الوجوه، فليس كل عالم فهم نصا ما على نحو معين، معناه أن النص يقتضي ذلك الفهم قطعاً، ومن أبسط الادلة على ذلك ما نراه من تفسير قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {4/59}، فستجد عالماً يفسر قوله تعالى : "َأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" بانه من تولى أمر الناس على الإطلاق، فيدعوا الناس لطاعة الحاكم سواء كان مؤمناً أو فاسقا، وفي المقابل تجد عالماً منتمياً لجماعة من الجماعات الإسلامية التي تعمل على استبدال الحاكم والإطاحة به، ودعوة الناس للخروج عليه. يقول عكس ذلك.

ثالثاً: المغالاة في التقليد، فقد ينتمي انسان الى مذهب او ديانة بحكم مولده، ولا يكون له رأي فيما يعتنقه، فقد ينشأ يهودياً أو مسيحياً أو بوذياً بسبب مولده في بيئة كذلك، فيتعصب لمذهبه أو ديانته دون نظر وتدبر فيقلد في عقيدته وفكره، وكلٌ على الأغلب يفعل ذلك فيقع الاختلاف بين الناس، ومن ضمن ذلك المسلمون، فقد تجد منهم من قلد اماماً دون ان يعرف أدلته على ما قلد، ويقلد شخص آخر اماماً آخر دون أن يعرف أدلته، وكل من المقلدين يعتقد أنه على الحق الذي لا حق سواه، ولا حجة له الا تقليده واعتناقه لهذا المذهب، وطبيعي أن هذا ليس دليلاً على الحق المطلق، فالناس تعتنق افكاراً مختلفة، ولو كان كل من يعتنق فكرة دليلاً على صوابها لأصبح الحق والصواب متعدداً في المسألة الواحدة، وهذا مستحيل، سيما إذا كانت الأفكار متناقضة؛ لأن العقل السليم يجزم بأن اجتماع النقيضين محال.

رابعاً: تكريم القديم مطلقاً وذم الجديد: وهذا أمر مهم فقد تجد من يعتبر أن العلماء السابقين قد استكملوا فهم النصوص بما لا مزيد عليه وفيه، وهذا من أعظم الزلات التي وقع فيها كثير من الناس، فالمعرفة الانسانية تراكمية، فلا يصح أن يكون فهم نص قد وصل الى نهايته، فالفهم غير النص؛ إذ النص لا خلاف عليه ولا خلاف على تعظيمه لأنه وحي من الله، أما الفهم، فهو فعل بشري ممن يصيب ويخطيء للعوامل التي نحن بصددها، فقد يشير فهم نص الى كذا، ثم يأتي العلم مثلاً ليثبت أن المسألة ليست كما اعتقدها السابقون، فلا يجوز لنا ان نفهمها على نحو ما فهمه السابقون، وكمثال على ذلك أن من الوهابية من يقول حتى الآن بقول ابن القيم وابن باز أن الارض ثابتة، بل قال بعضهم بكفر من قال بأن الأرض تدور والشمس ثابتة، فهذا عندهم مخالف لفهم قوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" {36/38} فجريان الشمس في الآية غير الجريان الذي فهموه مشابها لما نراه، ولكن المخجل ان يبقى هذا القول حتى يومنا هذا ونجد من يدافع عنه اعتقاداً أن السابقين على صواب، حتى لو ظهر لنا قطعاً خلاف ذلك، ولكن يبدو أن إصرار علماء الوهابية ومن قبلهم ابن القيم وموافقة ابن تيمية على عدم دوران الأرض مردُّه أن هذه المعلومة تفسد عليهم عقيدتهم، فإذا كان الله في السماء وهي جهة فوق، فكيف يستقيم هذا مع من اصبح فوقُهُمْ غير فوق غيرهم،حيث أن دوران الأرض وكرويتها يجعل جزءاً من الناس يتوجهون الى الله في دعائهم ومقصودهم أنه في جهة حسب المجسمة، ولكن في الجزء المقابل لهم على الأرض فإن جهة فوق بالنسبة اليهم غير جهة فوق بالنسبة لغيرهم، وهذا من أشد الردود عليهم أن الله تعالى ليس في جهة ولا يجوز اثبات الجهة، سيما وأنه ليس هناك نص قطعي وإنما هو تمحل من عقول مريضة ناسب عقيدتها أن يكون الله في جهة.

بعد هذا كله، لا يجوز أن ننكر على من خالفنا، اذا كان الأمر مما يجوز الاختلاف فيه، وقد تقبل العقلاء الاختلاف وأقروه للأسباب السالفة الذكر وغيرها، فالذي لا يجمع عليه المسلمون لا يجوز اعتباره قطعياً، وإلا فإننا نقع في محظور التكفير، فالذي ينكر القطعي كافر، وإذا اعتبرت أنت هذا الأمر قطعياً ووجد من يخالفك فأنت تكفره، لذلك لا قطعي الا ما اتفق المسلمون على أنه قطعي. وصلى الله وسلم علي سيدنا محمد وعلى آل وصحبه وسلم تسليما،اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

والله أعلم!