تكتب الروائية اللبنانية في روايتها المهمة تلك عبء الماضي الذي نحمله في المنافي والترحالات ولا خلاص منه، وآلام تجربة الحرب الأهلية اللبنانية التي لاشفاء منها، من خلال مرايا تلك الحيوات المتجاورة التي تعاني جميعها من جراح الحرب، ومن أوجاع استعادة الزمن المفقود.

حيوات أُخرى (رواية)

إيمان حميـدان

الى إنعام ومي

حاضرتين دوما رغم الغياب

 

When will you be back home?

سألني في طريقنا إلى مطار مومباسا. لم أقل له إنّني عائدة ولم أقل إنّني راحلة. قلت فقط إنّني مشتاقة إلى لبنان. أعلم أنّ الشّوق ليس إلى مكان محدّد، بل إلى ما أخسره كلّ يوم من داخلي، ما أخسره في الغياب، إلى ما أصنعه من الصّور التي احتفظتُ بها طويلاً في رأسي. كأنّها الآن لم يبق منها شيء. مضى أكثر من 15 عاماً على سفري. أعلم أنّني في عودتي إلى بيروت، لن أستعيد ما خسرته بل سأؤكّد خسارتي. سأؤكد أنّ ما اشتقت إليه كان في رأسي، في رأسي فقط ولن أستطيع إيصاله حتى إليه.

تركت كريس ورائي. كذلك تركت رسالته على الطّاولة قرب سريري دون أن أفتحها. أعلم ما بداخلها: نقود لا أريدها وسؤال عن موعد عودتي إليه. منذ زواجنا بقي يترك لي النّقود في مغلّف. لم تتلامس أيدينا ولو مرّة واحدة حين يعطيني مالاً.

في اليوم الّذي سبق سفري من كينيا إلى لبنان، كان كريس مشغولاً في المختبر حين اتصلت. أجابتني مساعدته وأقفلت السمّاعة لحظات ليتّصل بي كريس ثانية. لم يسأل عمّا أريد، كان مأخوذاً بما يريد قوله هو. أخبرني بصوت متهدّج كأنّه يبكي أنّه توصّل إلى نتائج مذهلة لاختباراته التي بدأها منذ سنة. بالطّبع كان سعيداً بنتائج اختباراته، إلّا أنّ سعادته لم تلهني عن قراري، ولا عن رغبتي المتوتّرة في تحضير حقائبي، وإقفالها ثمّ وضعها قرب الباب. أفتح الحقيبة الفارغة، وأضع فيها بعض ثيابي وأغراضي دون تفكير. أبدأ بفتح أدراج خزانتي، أنتقي منها ثيابي الدّاخليّة ثم التّيشرتات القطنيّة والجينز، أجمعها على السّرير، ثم أفكّر أنها كثيرة وأنّ عليّ أن أعتاد التخفّف من أثقال السّفر.

أقول لنفسي غداً السّاعة الثامنة تقلع الطائرة، أي يجب أن أكون في المطار عند السّادسة، أي أن أستيقظ السّاعة الرابعة صباحاً والآن الساعة تجاوزت منتصف الليل، وأنا لم أنم بعد. سأسافر أوّلاً من مومباسا إلى نيروبي. لا أعلم كم من الوقت سأنتظر هناك في المطار كي تقلّني الطّائرة إلى دبي ثمّ إلى لبنان. سيرافقني كريس في رحلتي حتى مطار نيروبي ثمّ يعود إلى مومباسا حيث بيتنا وعمله. لن أشتاق إلى أيّ شيء. هكذا أقول لنفسي وأنا أزور غرف البيت الذي سكنته طيلة إحدى عشرة سنة ولم أتركه سوى لعودة سريعة كلّ سنة إلى أديلاييد، حيث يسكن أبي "سلامة" المختلّ وأمي ناديا الصّامتة، أو لعطلة قصيرة في جنوب أفريقيا. لم أتركه أيضاً إلّا لرحلات متقطّعة في نهاية الأسبوع، كنت أسافر فيها من مومباسا إلى نيروبي كي آتي بالأغراض التي ترسلها لي أولغا من بيروت. ساعات اللّغة الإنكليزية التي كنت أعطيها في مدارس محو الأمّيّة التّابعة لليونيسيف في مومباسا لم تكن تكفي لملء الوقت الشّاسع كسهول كينيا، ولا الدّروس الخصوصيّة لتعليم اللّغة العربيّة. رغم ذلك لم أتعرّف على كينيا، ما عدا رحلات السّياحة المنظّمة إلى جبال كينيا والسّافانا المحيطة بها، كذلك إلى حدائق الحيوانات المفترسة.

بيروت ... كم هي بعيدة الآن. كم حياة عشت مذ تركتها، فكّرت وأنا أقفل الحقيبة الثّانية وأجرّها لأضعها قريباً من باب المدخل. هل عشت حيوات عدّة أم حياة واحدة تكفي عدّة نساء؟

أسئلة لا أدري لها جواباً. أعلم أنّني لم أحتج إلى كثير من الوقت لأعرف أنّ حياتي تغيّرت مذ تركت بيروت. كلّ شيء تغيّر منذ وصولي مع عائلتي النّاقصة إلى أستراليا، حتى مواقيت العطلات وأسماؤها. تحوّلت عطلة الميلاد إلى عطلة صيفية في أديلاييد، المدينة الأوسترالية حيث سكنت أربع سنوات قبل زواجي وانتقالي إلى كينيا. كذلك تغيّر تاريخ حلول الشّتاء وصار يأتي في تمّوز. كان عليّ التأقلم مع كل ذلك، ومع المكان، مكاني الأوّل الّذي تركت، ولم يعد كما هو.

لم نختر أديلاييد إلاّ لأنّ خالي يوسف يسكن هناك. سافر قبل أن تقع الحرب الأهليّة في لبنان. كان عضواً ناشطاً في الحزب القومي السوري وشارك في انقلاب 1961 وهرب قبل أن يعتقله الجيش اللّبناني. هرّبه رجل أوسترالي تعرّف إليه في التيرو قرب المطار وهو يتدرّب على الرّماية. ساعده في السفر إلى قبرص ومنها إلى أستراليا. كان ذلك عندما كنت في الخامسة. كأنّني ما زلت أذكر خوف أمّي ناديا وانشغال بالها على شقيقها الوحيد. ربما كانت هذه صدمتها الأولى قبل موت أخي بهاء بوقت طويل، إذ وصل إليها خبر كاذب عن اعتقال أخيها يوسف وتصفيته قبل أن تعلم في ما بعد بحقيقة نجاته وهربه إلى الخارج. ناديا تتذكّر الماضي مقروناً بحوادث مرّت في حياتنا. تقول لي إنني ولدت يوم العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956 وإنّها خافت كثيراً من فقداني وأنا ما زلت جنيناً في رحمها يوم حدوث الهزّة الأرضية في لبنان التي صدّعت الكثير من البيوت في البلدة ومنها بيت أهلها في حاصبيا. قالت إنّ أخي بهاء ولد بعد حوادث 1958 في لبنان بينما كان أبي مسجوناً بسبب هذه الحوادث. تقول أيضاً إنّ خالي يوسف سافر بعد انقلاب 1961 بأيامٍ قليلة. لا تختلف ناديا عن جدّتي نهيل والدة أبي، التي هي أيضاً ترى في شجرة العائلة تواريخ عامّة قبل أن ترى أسماءً لأفراد؛ فضلاً عن أنّ ذاكرتها تعود إلى تاريخ عام سابق لولادتي وحتى لولادة ابنها سلامة أي أبي ... كأنّ الفرد في عائلتي لا حكاية له إن لم تكن بداية حياته مقرونة بتاريخ كبير. لطالما اعتقدت بأنّ مصائرنا مرتبطة بهذه التواريخ التي رسمت حياتنا بغموض من الصعب فكّ عقده أو كشفه.

لا أعلم إن كان ما أتذكّره عن خالي يوسف هو ما رأيت وعشت، أم أنّ قصص شقيقته ناديا، أمّي، عنه جعلتني أخترع ذاكرة كبرت معي ولم تفارقني. يُخيّل إليّ أنّني أذكر يوم اعتقال خالي ولكن جدّتي نهيل تقول لي إنّني كنت صغيرة جدّاً ومن المستحيل أن أتذكّر. تقول لي إنّني لم أكن قد أكملت عامي الخامس بعد. برغم ذلك، حين أفكّر في خالي، أتخيّل كم كان غاضباً عشيّة الانقلاب، كم كان يلعن الحكومة والدولة ويقول إنّ بعض من فيها هم من يهود الداخل.

وصل خالي يوسف إلى أستراليا وسكن في بارادايز، ضاحية صغيرة من ضواحي أديلاييد. بدا لي الإسم مثيراً بعد أن علمت أنّ بقربها أكبر مقبرة في المنطقة، وأيضاً أوّل محرقة لجثث الأموات. هناك أيضاً بنى الدّروز الذين هاجروا إلى أستراليا أوّل مقبرة لهم. ربّما اختاروا هذه الضاحية لاسمها، ذلك أنّ الجنّة بالنسبة إليهم هي دائماً على الأرض أو حلم مؤجّل هو على مسافة متساوية بين الأرض والسماء.

كان علينا السّكن في بيته عندما وصلنا بداية عام 1980. لم أكن قد رأيت خالي مذ كنت طفلة. بدا كأيّ انغلوساكسوني ولد وعاش في أستراليا، خاصة بلكنته الإنكليزيّة الأوستراليّة العريضة التي سرعان ما اكتسبها بعد زواجه من أوستراليّة تعمل في مكتب للمهاجرين واللّاجئين. اشترى في أديلاييد بيتاً ولم ينتقل من منطقة إلى أخرى كما فعل الكثيرون من اللّبنانيين الذين وصلوا إلى القارة قبل سنوات الحرب وفي خلالها.

حين خرجنا إلى قاعة الوصول في مطار أديلاييد ركض خالي نحونا، ثمّ عانق أمي طويلاً وراح يسألها عن حالها وهو يبكي. تمتمت ببضع كلمات غير مفهومة وغصّت هي أيضاً بالدموع. راح يذكّرها بأمور بدا أنّها نسيتها أو ربّما دفنت تفاصيلها تحت ثقل ذاكرة أخرى أجبرتها على الصمت. فكّت أمي عقال صمتها وهي تعانق أخاها، تمتمت بضع كلمات وهي تدمع. صارت تحكي بضع دقائق ثمّ تعود إلى سكوتها الذي اختارته منذ مقتل أخي. في ما بعد، بدا صمتها منذ وصولنا إلى أستراليا كأنّه بات يتعبها وكأنّ ما اختارته لنفسها صار ثقيلاً عليها.

كلّ ما قالته أنّ يوسف ما زال كما كان. كلام أمي لم يفاجئ خالي رغم أنّه يعرف قصّة صمتها منذ مقتل أخي بهاء. أما أنا فجاءني كلامها كمطر صيف، أنعشني ونفض عنّي تعب رحلة مضنية استمرّت أكثر من يومين. لم يهمّني ما قالته عن خالي يوسف قدر اهتمامي بكلامها بعد صمتها الطويل. في السّيارة نحو البيت، صار خالي يعانقها وهي تبكي فيما راح أبي ينظر من نافذة السيارة إلى النّاس والعمارات والشوارع. وجهه محْمرّ، بينما يسيل العرق على جانبي رأسه ورقبته كأنّه في حمام سونا. بقي مرتدياً كنزته الصوفية التي سافر بها من لبنان. بقي مُصرّاً على أنّ الطقس شتاء، ولا يجوز خلعها برغم درجة الحرارة المرتفعة في أديلاييد. بدا لي حينها ضعيفاً هشّاً لا حول له ولا قوّة وهو يخرج رأسه من نافذة السّيارة ويحرّكه في كلّ الاتجاهات ينظر في العمارات والمارّة كأنّه يتابع فيلماً متحرّكاً بسرعة تفوق سرعته، مردّداً كآلة معطوبة "اسم الله، اسم الله، يخزي العين."

لم يتغيّر خالي، هذا ما تقوله أمي، لكنّه أصبح كثير الانتماء إلى بلاده الجديدة هناك. فمن قوميّ سوريّ إلى أوسترالي لا يختلف عن الأنغلوساكسونيين بشيء. هذا لم يمنعه من أن يكون أيضاً عضواً ناشطاً ومؤثّرا في جمعيّة درزيّة حملت أسماءً عدة في مراحل مختلفة من حياة الدّروز في أستراليا. تأسّست باسم الجمعية الدرزية السورية، ثم بعد استقلال لبنان، صار اسمها الجمعية اللبنانية الأوسترالية للدروز. بعد هجرة عدد كبير من الدروز إلى أستراليا في ستينيات القرن العشرين، وقبل الحرب الأهليّة في لبنان، تغيّر الاسم للمرة الثالثة ليستقرّ على جمعيّة الدروز الأوستراليين وليصبح يوسف مسؤولاً فيها.

بقينا أشهراً عدّة في بيت خالي قبل أن نجد بيتاً ننتقل إليه. استأجرنا بيتاً قريباً من بيته يقع في منطقة قليلة البناء، منازل معدودة متشابهة إلى حدّ كبير اصطفّت على جهة واحدة من الطريق. خرجنا من بيت خالي حاملين كثيراً من الأغراض اضطررنا إلى شرائها لكن مع حمل أخفّ من التواطؤ بين أمي وخالي. تواطؤ بدا لنا طيلة سنوات بعادنا عن خالي متّقداً وحيّاً.

لم نكن اللّبنانيين الوحيدين في الحي، إذ كثرت العائلات اللّبنانية وخاصة المسيحيّة والدرزيّة. 5 عائلات لبنانيّة كانت تسكن الشارع نفسه. عائلات لبنانيّة أخرى سكنت في ما بعد الشّوارع المتفرّعة من شارعنا. لم يأخذ منّا الأمر وقتاً كثيراً كي نتعرّف إليهم. حدائق المنازل كانت توحي أنّ ساكنيها لم يتغيّروا منذ زمن. تهتمّ تلك العائلات اللبنانية بحدائق منازلها وتزرع أشجاراً تذكّرها بقراها وربّما ببيوتها الجبليّة.

أديلاييد هي مدينة الكنائس. في الحيّ حيث نقيم أكثر من 4 كنائس صغيرة يؤمّ بعضها اللبنانيون المسيحيون كلّ نهار أحد. هؤلاء اضطروا إلى الهجرة بعد أن هجّروا أوّلاً من قراهم في الجبال اللبنانية. في الأحياء المجاورة تحوّلت بعض الكنائس البروتستانتية التي لا يؤمّها سوى عدد قليل من الناس إلى مصارف ومقاهٍ ومكاتب عقارية ومنازل لأشخاص كانوا هيبيين في السّتينيات.

ربما أكثر ما أفرح أبي في بيتنا الجديد أنّه يقع قرب الفرن اللبناني الذي فتح أبوابه منذ سنة واحدة قبل وصولنا إلى أديلاييد. صار يذهب بنفسه إلى فرن أوازيز في شارع فكتوريا المتفرّع من شارعنا لشراء الخبز اللبناني والمناقيش المغمّسة بالزعتر وزيت الزيتون. لم يكن الفرن يبيع الخبز والمعجّنات فقط بل أيضاً المخلّلات والزّعتر والسّماق الذي كانت تشتريه أمي ناديا لتضيفه إلى الفتّوش. بعد حين صرنا نرى على رفوف الفرن أشياءً أخرى مثل البنّ والقرفة والتنباك بنكهة التفّاح. أُضيف في بعض الأحيان إلى تلك الأشياء أعلام لبنانية صغيرة الحجم كان يأتي بها صاحب الفرن من الصين تلبية لزبائنه الذين اشتاقوا إلى لبنان.

* * *

 ليش رجعتِ علبنان؟ ليش رجعتِ؟ شو بدّك بهالبلاد؟

تردّد أولغا سؤالها منذ عودتي إلى بيروت كأنّها لا تعلم.

هل صحيح أنّ مرضها الذي لا أمل منه أعادني إلى بيروت، أم أخبار وزارة المهجّرين عن استعادة بيتنا، أم جئت لأنهي حساباً قديماً مع حرب قصمت العائلة، وقصفت الحلم، ومنعت أيّة إمكانيّة للاستمرار. هل عدت أفتّش عن صديقي جورج الذي لم يصل إلى أستراليا. انتظرت أن يلحق بي واختفى. قيل إنّه غادر لبنان من مرفأ جونيه إلّا أنّه لم يصل. ربما اخطتف. ربما لم يغادر أبداً وبقي في لبنان سجيناً أو مفقوداً أو قتيلاً، دفنت جثّته ولا يعلم أيّ من أفراد عائلته مكانها. لم يصل إلى المكان الذي أراد الوصول إليه، تماماً ككثير من الناس الذين غادروا أماكنهم إلى أماكن أخرى ولم يصلوا. في السفينة التي أبحرت يومها إلى لارنكا قالوا إن اسمه كان هناك لكن لم يره أحد. قالوا إنه ودّع أهله في البيت وغادر إلى المرفأ قبل إبحار السفينة بوقت طويل.

لشو رجعتِ؟ تعيد أولغا سؤالها، ثم حين لا أجيب تقترب مني تعانقني، فيما توزّع قبلاتها على شعري ووجهي وفمي وعنقي. زعلانة؟ تسألني وتكرّر سؤالها عن سبب عودتي: لشو رجعتِ؟

يعيدني سؤال أولغا إلى خوف سابق بدأ قبل رحيلي عن بيروت. منذ موت أخي بهاء الذي أعقبه اختفاء جورج. في رسالتي الأولى لأولغا من أديلاييد كتبت: "لا يكفي أن ننتقل إلى بلاد أخرى ونسكن بيتاً جديداً كي نقتل الخوف. صار يسكننا وصار قتله يلزم أولاً قتل جزء من داخلنا، صار يلزم ربّما قطع طرف من أطرافنا. شيء طالما شبّهته بالانتحار الصغير، كأن ننظر في عين الوحش مثلاً دون خوف، ننظر ونحاول قتل الوحش، ولا ندري حينها أنّنا نقتل الكثير من داخلنا. لكن ماذا يبقى بعد ذلك؟ ماذا يبقى بعد قتل الخوف؟ هل يبقى من ذاكرة مثلاً؟ أم تصبح كصفحة بيضاء، وبمَ نملأها حينئذٍ؟"

لم تكتب لي أولغا الكثير بل كانت تفضّل الهاتف. تتّصل كلّ خميس، هي اختارت اليوم وصار تقليداً بيننا. كانت تتّصل كلّ خميس، وكنت أكاتبها كلّ نهاية أسبوع. كان هناك حوار دائم بيننا تجريه كلّ واحدة منّا على طريقتها الخاصة. أنا عبر الرسائل وهي عبر الكلام. صارت كلّ مرّة تطيل الكلام على الهاتف بينما أضحك لأخبارها التي تكرّرها أحياناً محتجّة بأنني لم أُصغ إليها جيّداً أثناء حديث الأسبوع الفائت. تنهي مكالمتها قائلة "ما تنسي تجاوبيني بالمكتوب على أسئلتي". أحياناً يمرّ أسبوع أو أكثر دون أن أتلقّى مكالمة منها، وحين تكلّمني تقول لي إنّ الخطوط مقطوعة وإنّ لبنان أصبح بلد المعوّقين والضحايا والقتلة، وإنّ الوضع فيه زفت وإنّ وضعها هي أيضاً زفت بزفت.

"آخر مرة حكينا ما قلتيلي رح تيجي بهالسرعة .." تعلّق أولغا وتلحّ عليّ منذ وصولي إلى بيروت، كأنّها تشكّ في كلّ ما أقول، ولا تصدّق أنّ عودتي متعلّقة فقط باسترجاع بيت زقاق البلاط. لم أقل لأولغا إنني قرأت تقرير الطّبيب عن حالتها وما وصفه من علاج لها رفضته. قرأتُ أيضاً التحاليل والنتائج. جمعت ما لا يقلّ عن 13 حقيبة خلال هجراتي الموزعة بين لبنان وأستراليا وكينيا. وضعت في الحقائب ما أحتاج إليه. ما عدت أفهم حاجة الإنسان إلى إفراغ حقائبه. صارت حقيبتي بيتي. صرت خبيرة حقائب، حقائب مخصّصة لآلام الظّهر، وأخرى تسع الكثير إلّا أنّها خفيفة الوزن. صار عليّ إيجاد أماكن إضافية في البيت لوضع الحقائب، أماكن أمينة أصل إليها بسهولة إذا ما احتجت إليها.

What a surrealistic life! يعلّق كريس، زوجي الإنكليزي، مبدياً اعتراضاً مقتضباً حين يبدأ بعدّ الحقائب الموضوعة واحدة فوق الأخرى.

How many lives you need to fill all these?، يسأل ثم يضيف معلّقاً بأنّ عليّ أن أتقمّص وأعيش حيوات أخرى كي أملأ كل تلك الحقائب. بالنّسبة إليه، أنا لا أقوم بأيّ شيء في مومباسا سوى "محاولة إيجاد مكان ثابت لأدوات الرحيل"، كما يصفني كأنّه يطلق نكتة. كانت تعليقاته تستوقفني في بداية عهدنا معاً إذ كنت أظنّ أنّ فيها كثيراً من الشِّعر، وأنّ جملة كهذه تحتاج إلى قدر كبير من الخيال كي تولد. لكن مع الوقت ما عادت تعليقاته تثير فيَّ أيّ سؤال، ونكاته ما عادت تضحكني بل تغضبني، صرت أرى في تعليقاته عدم قدرته على أن يرى أنّ طريقتي الوحيدة في ترويض انتظاري وخوفي في مومباسا هي عبر اختراع أماكن مستقرّة لإقامة مؤقّتة ورحيل مؤجّل. صرت أضعEar plugs تلك الكرات الشمعية المغلّفة بالقطن في أذنيّ حين يبدأ بالحديث عن أبحاثه وأفكاره ولا ينتهي. أهزّ له برأسي موافقة على ما يقول كأنّني أسمع، أراه يستمرّ في الكلام والقيام بإشارات يصنعها بأصابع يديه وذراعيه. يبدو لي كخبير إشارات للصمّ والبكم، ذلك الذي كنت أراه في أديلاييد على التلفزيون خلال نشرة أخبار السّادسة. لا أسمع شيئاً ولا أفهم شيئاً حين يصنع بإصبعيه حركة مستديرة، وهذا معناه أنّ كلّ شيء يسير كما يريد وبانتظام. أضحك، ثم أغفو. لا بد أنّني أغفو وأنا أضحك.

تبدو حياتي كزمن متقطّع أو كمشاهد فيلم تتكرّر ثمّ تعود لتبدأ من حيث انتهت. لا أتذكّر كل ما جرى معي بطريقة متسلسلة بل بطريقة دائرية حيث أعود دائماً من حيث ابتدأت. عندما أخبرت طبيبي عن هذا الأمر طمأنني قائلاً إنّ الذاكرة الدائرية هي صفة نسائية، وإن الرجال يتذكّرون بطريقة مختلفة. لكنني لا أجد جوابه منطقياً. تلتبس عليّ العلاقة بين الأحداث والأماكن. أفكّر في يوم سفرنا من بيروت ثم أجد نفسي أقفز فجأة إلى السّنوات التي قضيتها مع كريس في كينيا. ربما لهذا الأمر تأخذ قصتي الآن شكلاً دائريّاً وأحياناً شكلاً لولبيّاً.

في أديلاييد عشت 4 سنوات كطعم الهواء، وفي مومباسا 11 سنة على حافة الرحيل. "حافة" هذه الكلمة التي تختصر حياة بأكملها توزعت بين أستراليا وكينيا. كنت كمن تنتظر الخروج لكنّها في الوقت نفسه ليست في الداخل. بين الداخل والخارج عشت حياة معلّقة كمن تنتظر في مطهر مقفل الأبواب لا جسر له ولا صراط. أتذكّر ما قالته ماري دوغلاس عالمة الأنثروبولوجيا في كتابها الذي قرأته في أستراليا وأنا أحاول إنهاء أطروحة الماجستير حين وصفت حالة "البين بين" “Inbetweenness”. قالت إنّ الناس يمرّون بتلك الحالة المرحليّة ثم ينتقلون إلى مرحلة أخرى أكثر وضوحاً بحيث تنتظم حياتهم وعلاقاتهم. وضعي لا يشبه ما تقوله دوغلاس بشيء، ذلك أن "البين بين" نمط حياة ثابت لديّ لا يتغيّر ولا ينتقل إلى أية حالة أخرى.

* * *

أعود إلى بيروت إذاً.

في مطار دبي، أمضي وقتي في بار في الطّبقة الأولى. اخترته بسبب سعة كنباته التي تتيح لي التمدّد والاسترخاء. سأنتظر 6 ساعات لتقلّني الطّائرة إلى بيروت. سأنتظر ما يشبه ليلاً بأكمله. يمرّ الوقت بطريقة غريبة هنا. لا أشعر بأنّه ليل ولا أغرق في النّوم. يبدو المكان كمحطّة فضائيّة عملاقة محشوّة بالمجوهرات والألعاب والهدايا والطعام. عالم مليء بالأضواء لا ينام. عالم أتخيّله يذبل ويموت لحظة خروج الناس منه، كأنّه عالم وهمي لا وجود له. كأنّه تلفزيون. تصدح موسيقى العالم كلّه في لحظة واحدة هنا. فليبينيون وهنود وسريلانكيون وأوربيون وعرب وأميركيون. أناس من كل بلدان الأرض يمشون في طبقات المطار وردهاته. يعيش المكان بهم ويضيء. برغم ذلك يأكل الخواء قلبه كما يأكل رمل الصحراء حياة المباني ويحوّلها إلى هياكل تشيخ بسرعة زمن ضوئي.

ألرجل الخمسينيّ الذي يجلس في الجانب الآخر من الأريكة، كان يقلّب صفحات جريدة إنكليزية، حين هممت بالجلوس صار يعدّل من جلسته ويضمّ ويطوي صفحات الجريدة كأنّه يتيح مساحة أوسع لي. لم أكن محتاجة إلى مساحة أوسع ولم تكن صفحات الجريدة تعوق حركتي. وضعت حقيبتي على المقعد قربي وكتابي وأوراقي على الطاولة، راح يلملم أغراضه كأنه يحضّر نفسه لرحلة غير مستعدّ لها. بدا مرتبكاً ومشغولاً بمعرفة هويّة تلك المرأة، أي أنا، التي جلست على مسافة قريبة منه، ليرفع رأسه بعد دقائق ويسألني مبتسماً traveling to Beirut? هززت له رأسي مبديةً تساؤلاً طفيفاً بعدما استدرت نحوه لثوانٍ للتأكّد من أنّ الصوت صادر منه. تابع مبتسماً، أنّه ساحر وأنّه يعرف بأمور الغيب. اتسعت ابتسامته وهو يشير بعينيه وبحركة طفيفة من رأسه إلى باسبوري الذي وضعته على الطاولة أمامي وبداخله بطاقة سفر صادرة عن الميدل إيست. "محاولة إغراء غير موفقة" قلت في نفسي بتعب. أحتاج إلى إغراء أكبر وأكثر قوّة كي أستعيد شغفي الذي لم أعشه منذ زمن، فكّرت. لكن برغم ذلك، شعور طاغٍ اجتاحني يشبه شعور الأطفال حين ينطلقون للبدء بلعبة جديدة. شعور بالخوف والإثارة معاً. استطعت أن أشمّ رائحة عطره عن بعد. قد تكون رائحة جلده. حين وقف واقترب نحوي بدا نظيفاً ومنتعشاً أكثر مما يحتمله مسافر.

My name is Nour

قال لي وهو يرخي ذراعه أمامه في الهواء كأنه يهمّ بالمصافحة.

نور .. ابتسمت. لم أتوقّع أن يحمل اسماً عربياً مع لكنة أميركية. كان يلبس بنطال جينز وقميصاً أزرق مخطّطاً بلون أبيض خفيف. بدا كأنّه استعد طويلاً لجولة التعرف إليّ. سألني إن كان باستطاعته مشاركتي شرب الشوكولا السّاخنة ثم أزاح بلطف حقيبتي الجلديّة إلى ناحيتي ليجلس قبالتي قبل أن أجيبه.

لا أدري كم من الوقت مرّ قبل أن أنظر في عينيه. ودون أن أمدّ يدي قلت ببطء وحياديّة: I am Myriam

"بطء وحيادية" فكّرت وأنا أرشف الشوكولا السّاخنة التي أحرقت سقف حلقي ولساني .. "ببطء وحياديّة" رحت أردّدها في داخلي ثم همست لنفسي إنّ سلوكي هذا من جملة تقنيات التّواصل مع الناس أو ربما من جملة تقنيات اللاتواصل التي تعلّمتها جيداً منذ رحيلي من بيروت.

قال إنّه يعيش في أميركا مذ كان في العاشرة من عمره، وإنّه ترك أميركا إلى لبنان هذا العام، وإنه زار دُبي لأسبوع فقط لعمل صحافي، وإنّه عائد إلى لبنان لأنّه ولد فيه ويريد التّعرف إلى البلد الذي لم يزره منذ عام 1967. عائد ليفتّش عن جذوره. بدا لي مضحكاً وهو يحدّثني عن جذوره مكرّراً جملته مرّات عدة، فيما تكوّرت شفتاه وبدا صوته أعلى وأكثر حدّة من ذي قبل I am searching for my roots!

نور فلسطينيّ الأب من أمّ لبنانية، لكنّه لا يتكلّم العربية. لا يعرف لغة أمّه، قلت في سرّي، وسيكون عليّ القيام بجهد كبير لأستمع اليه أو أردّ على أسئلته كما أفعل دائماً مع كريس. في لحظات بدت كزمن طويل أخبرني عن عائلته وحياته وزوجته الأميركية وابنته. بدا في كلامه المتدفّق والسّريع كأنّ حياته تلك أتعبته ويريد إيداعها لدى أول شخص يستمع إليه. للصدفة كنت أنا ذلك الشخص. امرأة التقى بها في مطار. فكّرت بأنه ليس لديّ مكان شاغر لحفظ حيوات الآخرين؛ ذلك أنّ حياتي تكفيني. تكفيني محاولتي الدائمة للملمتها وسط شعور طاغٍ بقلة الحيلة. تململ جسدي إزاء فكرتي هذه وبدا فجأة كمقاتل يستعدّ للردّ. شعرت بأنّه لا قدرة لي في تلك اللحظة على جمع نفسي في مكان واحد وذاكرة واحدة، وما يقوله يشوّشني ويجعل حياتي أكثر قلقاً. برغم ذلك سمعتني أقول له بالإنكليزية وبتهكّم واضح:

 why bother searching for roots, I can give you as much as you want, a surplus I want to get rid of! لِمَ عناء البحث، أستطيع إعطاءك قدر ما تريد، لديّ فائض من الجذور وأريد التخلص منها.

لم يكن ينتظر إجابة مشابهة، ولم أكن بدوري قد فكّرت بما سأقول بل خرجت جملتي دون إرادة منّي. ربّما بسبب فكرة عقيمة محيِّرة نمت وتغذت من تنقلاتي القسريّة بين لبنان وأستراليا وأفريقيا. إنّ الجذور أمر نعيد صناعته نحن ونغيّر من طبيعته تماماً كما نطهو الطّعام ونضيف إليه التّوابل وفق رغباتنا. خلال الحديث نشأ تواطؤ متوتّر وسريع بيننا، قام على جمل تبادلناها وعلى ضحك خفيف رفعنا برفقٍ إلى الأعلى.

ولد في لبنان عام 1945 وكان طفلاً حين هاجر مع والديه إلى الولايات المتحدة الأميركية. عاد بعد موتهما ليتعرّف إلى بلد أمّه. في بيروت استأجر شقة صغيرة تدفع إيجارها الجريدة الأميركية التي يراسلها. لا أستطيع العودة إلى فلسطين بالطبع، تابع نور، هناك دمّروا بيت جَدّي لأبي منذ 30 سنة. كان يزور بيت جدّه في فلسطين حتى عام 1967 ثم ما عاد يستطيع الدخول. قال إنّه نسي تقريباً كلّ شيء ولا يذكر سوى روائح الأطعمة التي يشعر بأنها حية وقريبة. هو عائد يفتّش عن تلك الروائح. في أميركا كان يطهو لنفسه وللأصدقاء الأميركيين الذين كانوا يقصدونه مساء السّبت للسهر عنده. كان يطهو الوصفات التي نقلها عن أمّه، كذلك اشترى كثيراً من كتب الطبخ التي تعلّمه وصفات فلسطينيّة ولبنانيّة.

يروي قصة عائلته كما حفظها بطريقة كرونولوجية كأنه قرأها في كتاب، كأنّ ذاكرته لا ألم فيها، بينما ذاكرتي تأخذ دائماً شكلاً لولبيّاً حين أروي. أبدأ بقصة وأجد نفسي أعود إليها. يروي بطريقة إكزوتيكية كأنني أنا الأخرى أجنبية أمامه، وعليه أن يروي قصته بتتابع زمني واضح كي أفهم. في الطائرة سرد لي نور قصّة حياته. حاجة عميقة لديه ليخبرني بكل شيء عنه. الكلام المباح يكون أسهل ونحن ننتقل من مكان إلى آخر. ربما لأنّه في حالة كهذه سرعان ما يصير الكلام خلفنا ولا يشعرنا بعناء ثقله.

في الطائرة تعلّمت أن أستسلم للخوف. أن أبقى مسترخية، مسالمة، مستسلمة لاحتمال الموت، لخوف يبتلعني ولا يخيفني.

ألقي برأسي على زجاج كوة الطائرة، فيما راح نور الذي نجح في الجلوس إلى جانبي يقرأ كتاباً أخرجه من حقيبته الصغيرة. وضع فيه كاتبه إيليا كازان جزءاً كبيراً من سيرته وسيرة عائلته التركيّة اليونانية الأرمنية، وقصة هجرتها إلى الولايات المتّحدة الأميركية وحكاية الهوية والتأقلم. على الغلاف قرأت عنوان The Arrangement.

فتح نور إحدى الصفحات وراح يقرأ بصوت أسمعه، مقطعاً من الرواية يطلب فيه العجوز المقبل على الموت أن يأتوه بعنب سميرنه، أو عنب أزمير، ذلك الذي لم يأكل منه منذ هجرته من أناطوليا. بعد رحلة عمر طويلة وتغيّر ونسيان وتأقلم وصنع حياة أخرى، بعد كل ذلك بقي عنب سميرنه شهوة شبه وحيدة في ذاكرة الأب. تتغلغل قراءة نور وينساب كلامه عميقاً فيّ، وأنا في الطائرة بين اليقظة والنوم، أحاول جاهدة البقاء مستيقظة كي أستمع إليه.

يتحوّل كلامه حين يدخل رأسي إلى صور ملوّنة آتية من ذاكرة وراء النسيان، صور طالعة من يوم سفر خالي ومن يوم سفرنا. يتحوّل كلامه أسئلةً تتوالد من قصص يحكيها عن هجرة عائلته. ما معنى أن نهاجر وننتمي إلى بلاد أخرى وحضارة أخرى. نهاجر ونبني حياة أخرى ونعتقد أننا نجونا. لكن في لحظة ما ينهار كلّ ما بنيناه ونعود إلى ماضٍ حسِبْنا أنّه اختفى أو أننا نسيناه عمداً ورميناه في مكان ما تحت طبقات سميكة من الذّاكرة.

فكرة وراء فكرة تنقر رأسي وتتداخل مع صوت نور بحيث يصعب عليّ معرفة ما إن كنت نائمة أرى افكاراً كالأحلام، أو مستيقظة أحدّث نفسي. لا بدّ أنّني غفوت. كنت دافئة ومغتبطة كهرّة صغيرة، خصوصاً أنني لم أشعر بوجع في رأسي هذه المرة. وجع مزمن هاجر معي من بيروت منذ 15 عاماً ولم يفارقني.

استيقظت في الطائرة وشعور بالاكتفاء الدافئ يغمرني حين وجدتني ملفوفة بغطاء صوفيّ أزرق وضعه نور عليّ وأنا نائمة. أخذت حبتين من دواء "الميغرين"، الذي بدأ قبيل سفري من لبنان. يرافقني الدواء دائماً، اعتدت تناوله حتى قبل الشعور بالألم. آخذه لأطمئن أنّ الألم لن يعاودني سريعاً.

حين سألني عن سبب عودتي إلى لبنان قلت له إنّها ليست عودة بل مجيء لاسترداد بيت حسبت أنّني أضعته. لا أعلم لماذا أصررت على أنّ عودتي مؤقتة، وأنّني لن أبقى في بيروت. هل سبب إصراري أمام رجل بالكاد أعرفه هو خوفي من شغفه حين يتكلم عن عودته وعن لبنان، الذي بدأ بإعادة اكتشافه منذ سنة فقط، عن مكان ولادة أبيه في فلسطين وعن قصص العائلة وطفولته في لبنان بلد الأمّ. قلت له إنّ زيارتي إلى بيروت مؤقّتة، وإنّني سأعود بسرعة. ردّدت له ذلك ربما لأقنع نفسي أوّلاً بأنّ شيئاً لن يغيّر قراري العودة إلى أفريقيا.

عاد نور ليفتّش عن جذوره. مهنته كصحافي ساعدته على اختيار المكان الذي يريد السفر إليه، فاختار لبنان البلد الذي أمضى فيه طفولته قبل هجرته إلى أميركا. أمّا أنا فجئت لأبيع المبنى الذي ورثته عن أهلي، وأعود إلى كينيا. سيكون بإمكاني بيعه بعد أن يتمّ إخلاؤه من المهجّرين. لم أرثه إلاّ لأنّ شقيقي بهاء قُتل. بالطبع أخي كان الوارث الأول للبيت، فهو رجل العائلة الوحيد، كأبي "سلامة" الذي ورث البيت عن جدّي حمزة. قُتل بهاء بداية عام 1978 بعد ثلاث سنوات تقريباً من بدء الحرب الأهلية في لبنان، مات إثر انفجار صاروخ تطايرت شظاياه إلى شرفة الطبقة الأولى من بيتنا في زقاق البلاط حيث كان يقف. لم نستطع التعرف إليه. جاؤوا بتابوت وقالوا لنا إنّ ابنكم في داخله. بعد الدّفن بيومين وجد شباب الحي أشلاءً من أطراف جسده معلقة على أغصان الأشجار القليلة في الحي، التي احترقت بفعل الانفجار. بقيت روائح جسد أخي المحترق مدّة طويلة في البيت. أحياناً أشعر بأنها قريبة منّي، وبأنّ حواسي منذ الحادث ما عادت تلتقط أيّة رائحة غيرها. ذلك اليوم أُصيب أبي في رأسه أيضاً ونجا، لكنّه صار بعد وقت قصير يتصرّف بغرابة. لم يشأ الطبيب نزع الشظية من رأسه لخطورة الجراحة. أما أمّي فما عادت تتكلّم. أفقدتها صدمة مقتل أخي القدرة على الكلام، وحين تريد أن تقول شيئاً صارت تشير لنا بإصبعها كأنّها ترسم دوائر فارغة في الهواء. هكذا تركنا لبنان إلى أديلاييد حيث يعيش خالي يوسف الذي هاجر قبل الحرب بسنوات كثيرة. سافرنا عائلة ناقصة مبتورة مؤلّفة من أب شبه مجنون، وأمّ ترفض الكلام، وابنة انتظرت رجلاً ليلحق بها إلى أستراليا، إلاّ أنّها لم تره منذ سفرها.

بعد سنتين من مقتل أخي بهاء ومحاولات جدتي نهيل الفاشلة حثّ أبي كي ينجب ابناً جديداً من زوجة شابة، تركنا لبنان إلى أستراليا. فكرة الهجرة أتى بها خالي يوسف الذي كتب في رسالته لنا أنّ وجودنا في لبنان هو انتحار بطيء، وأنّ صمت أمّي وشبه جنون أبي هما الدّليل على ما يقول. يوم السفر كان أبي المريض ما زال معتقداً أنّ أمّه نهيل مسافرة معنا إلى أستراليا إلّا أنّها قالت له: "هوني مثل هونيك لشو السفر؟" ثم أردفت، "كل بلدان الأرض بتشبه بعضها وين ما كان وكل ناسها متل بعضن كمان". لم تنتظر أمام الباب كسائر المودّعين لحظة سفرنا، ولم تبك أمامنا، بل أدارت ظهرها بعد وداع أبي، ودخلت غرفتها مغلقة الباب وراءها. بدت لمن ينظر إليها من الخارج أنّها غاضبة من ابنها سلامة، غاضبة من فشله في تربيتنا، غاضبة من فشله في زواجه الثاني الذي دبّرته له، ومن عدم قدرته على إنجاب طفل يحلّ محلّ بهاء. غاضبة من تفكّك عائلة طالما اعتقدت نهيل أنّها جهدت كثيراً في تخطيط مستقبلها. لكنّني أعلم أنّها لحظة وداعنا لا بدّ كتمت دموعاً في عينيها، وأنّها بعد أن أغلقت الباب وراءها أتت بكتاب الحكمة الذي تحتفظ به بعناية فائقة في خزانتها، لتفتحه وتقرأ الصفحة التي فتح عليها الكتاب صدفة. تروح تقرأ وتستشرف في الكلمات المنسوخة أمامها بخط متعرّج أسود عريض مستقبلاً كاملاً للعائلة. في تلك اللّحظات فقط يعود إلى نهيل إيمانها، ويزول غضبها، وتروح تردّد أنّ ذلك المستقبل الذي يظهر أمامها في الكتاب لا بد أن يتحقق. كأنّ المستقبل بالنسبة إليها فيلم يتكرّر عرضه، إلّا أنّ مشاهده تأتي كل مرة بطبعة أفضل من سابقتها.

لم ترض جدتي نهيل بالسفر معنا، كما لم ترض في الماضي بترك بيت الجبل، والنّزول مع جدي حمزة للسكن في بيروت، بعد شرائه مبنى عائلة الداماد التركية في زقاق البلاط. ربما لأنّها كانت تؤمن بأنّ جدّي منذ شرائه المبنى المؤلّف من طبقتين ما عاد يوفّق في عمله ولا في تجارته. "وجه البيت نحس بنحس"، هذا ما كانت تردّده دائماً مضيفة "أنّ الرزق الذي يؤخذ بالحيلة من فم أصحابه لا حلال فيه". إلّا أنّ معتقدات نهيل ومخاوفها لم تمنع حمزة من ترميم المبنى القديم، وإضافة غرف جديدة إلى الطبقة الأولى التي كانت عبارة عن سطح فسيح وغرفتين. كذلك زيّن الجدران والحواشي العالية للأبواب الجديدة بجمل حفرها نحّاتون أتوا خصّيصاً من الجبل لإنجاز هذا العمل، وإضافة جمل أخرى بأحرف مذهّبة تزيّنها ألوان خضراء وصفراء وزرقاء وحمراء، ترتفع كلّها فوق بوّابات البيت الخمس. ممانعة نهيل لم تدم طويلاً إذ تركت بيت الجبل بعد انتهاء حمزة من ترميم بيت زقاق البلاط، ولم تعد إلى الجبل إلّا بعد موته.

أضاف جدّي كلّ ما يمكنه الإيحاء بأنّ المبنى له، وأنّه ورثه عن أجداد لا نعرف عنهم شيئاً. ربما أراد بما قام به من تغييرات في البيت محو سيرة عائلته وسيرته، كيف أنّه أتى طفلاً من سوريا مع والديه الفقيرين، وعمل في بناء محطة القطار في صوفر، ثمّ سائقاً لدى عائلة الداماد التركية، التي أغدقت عليه المال والمساعدة وصار بعد ذلك تاجراً يبيع مسافري قطار بيروت – الشام، الذي يمرّ من محطة صوفر، مشروباً وخبزاً وثلجاً. وكيف اشترى البيت رخيصاً من أرملة الداماد بعد حادثة موت زوجها في حريق غالاتا في إسطنبول الذي أتى على كلّ ما يملكه الرجل. باعت بيتها بسعر التراب، كما ردّدت جدّتي نهيل، بسبب حاجة المرأة للنقود قبيل هجرتها إلى أميركا، لتلتحق بعائلتها هناك. إلّا أنّ لجدي حمزة حكاية مختلفة تماماً عن حكاية نهيل. لطالما ردّد أنّ الشراء كان خدمة يسديها إلى أرملة الرجل التركي، وأنّه بدل أن يشتري في بلدته أرضاً وافرة بأشجار الزيتون المثمرة، اشترى بيتاً مهترئاً وضيعاً وأرضاً صغيرة حوله مليئة بالصّبار، وسخر منه الناس في البلدة وقالوا إنّ هذا الرجل فقد عقله. قال إنّه اختار شراء البيت لإسداء معروف ولردّ دَيْن عليه لرجل ساعده، ثم مات تاركاً وراءه زوجة لا مال لديها، وتريد السفر للالتحاق بعائلتها في أميركا.

* * *

في كينيا كنت أحلم دائماً بأنني في لبنان، في البيت الذي تركت. أستيقظ مرات عدّة أثناء اللّيل، وأنام كل مرة على أصوات أمواج المحيط الهندي القريب من بيتي. يرتفع منسوب المياه حتّى يكاد يصل إلى حديقة البيت الرّطبة دائماً، ثم ينحسر في لعبة مدّ وجزر لا تنتهي. أحياناً أغادر الغرفة إلى الحديقة حين يكون القمر بدراً ولا حاجة لي لإنارة الطريق. يسطع ضوء القمر على المياه التي تنحسر شيئاً فشيئاً، وسرعان ما أغفو. أغفو على الرمل، أو على الكرسي القماشي في نهاية الحديقة قرب السور المصنوع من جذوع أشجار جوز الهند.

هناك طالما عشت أحلامي وكأنّها جزء من حياتي. تلازمني خلال ساعات النّهار ولا أنساها. أستيقظ صباحاً وأنا أفكّر بما حلمت في اللّيلة السابقة. وحين أروي لإيفا، جارتي النمساوية وصديقتي الوحيدة في مومباسا، حلمي شبه الوحيد، كانت تطمئنني ألّا أخاف وتقول لي إنّ سماء كينيا كبيرة والأحلام مهما تكن كثيرة تتبخّر في السماء.

ربما يجب وصف أحلامي بالكوابيس. أتذكّر الانفجار الذي قتل أخي بهاء في بيروت. أذكر أنّه منذ ذلك الوقت توقّف الله عن زيارتي في المنام. ربما حينها تحوّلت أحلامي إلى كوابيس. أردنا النّزول إلى الملجأ يومها، إلاّ أنّ أمّي ناديا أصرّت على البقاء في الطبقة الأولى. لم تصرّ يوماً على أمر كما فعلت ذلك اليوم. عاشت حياة شبه مستسلمة لإرادة نهيل التي كانت تدير حياتها كما تدير البيت وتدير حياتنا بمعزل عن رغباتها. عاشت ناديا مستسلمة وحين أرادت استرداد قرارها سرعان ما صمتت!! صمتت صدمة واحتجاجاً. أغضبني صمتها كما أغضبني في السابق شبه استسلام عاشته مع عائلة أبي "سلامة". لم تشأ النزول يومها وأصرّت على بقائنا جميعاً في الطبقة الأولى. كأنّها في يوم واحد أرادت الثأر لحياتها إلاّ أنّها بدل ذلك فقدت أخي بهاء.

في اللّيلة التي سبقت سفري من مومباسا إلى بيروت اقترب مني كريس والرّغبة تملأه وراح يقبّلني في وجهي وعنقي. مدّ يده ومرّرها على صدري الذي يحبّه فيما يده الأخرى تلتفّ حولي محاولاً تقريب جسدي إلى جسده مردداً:Oh Myriam, love me, love me please

أشعر بعجز تام يشبه الشّلل حين يبدأ كريس كلامه ونحن في الفراش. أستعين بخيالٍ غنيٍّ أتمتّع به لأتغلّب على مشاعر العجز تلك. كنت قد اعتدت ما يحصل بيننا من حين لآخر، اقترابه وترك يده تكتشف كلّ مرة جسدي من جديد. اعتدت أيضاً استعمال مخيّلتي بطريقة عمليّة ما إن يبدأ بتقبيلي ونزع ملابسي، وهو يتمتم بكلمات تزيد من رغبته. كنت أترك نفسي حرّة وأحرّك جسدي على إيقاع صوت أسمهان المنبعث من زاوية الغرفة. أدخل في لعبة الجسد المنفصل تماماً عن ذاكرة حبّ عميقة، وأفكّر أنّني في غياب رجل أحبّه لا بد أن أتأقلم مع وضع ارتضيته لنفسي مذ تركت بيروت. أترك نفسي تتقاسم اللذّة مع رجل لا أحبّه إلاّ أنّه مليء بالرغبة ويحاول إرضائي. حين يبدأ بمداعبتي أتخيّله جورج دائماً، أو جو الرجل الذي تعرّفت إليه في مطعم إيطالي في جنوب أفريقيا، والذي أقمت علاقة قصيرة معه لم تستمر سوى سنة، زرت فيها مدينة كايب تاون سبع مرات لألتقي به في غرفة أحد الفنادق. كانت صديقتي النمساوية إيفا تتركني عمداً حين يرنّ هاتف الغرفة في الفندق، وتقول لي قبل أن تقفل الباب وراءها إنّ الوقت قصير وعليها العودة مجدّداً إلى السّوق. تعانقني تاركة ذراعيها وقتاً طويلاً حول جسدي، كأنّها تخشى فقداني، تتمتم بكلمات يُفهم منها أنّها لا تستطيع قول أي شيء، ثم تتراجع إلى الخلف وهي تنظر إليّ وتخرج. لم تكن إيفا تعانقني بهذه الطريقة إلّا عند علمها بموعدي مع جو. عناق ملتبس فيه من الحب بقدر ما فيه من عتاب يصعب تفسيره، كعناق أمّ اكتشفت للتو أنّ ابنتها أهدت عذريّتها إلى ابن الجيران. نظرتُ إلى إيفا وأنا مستلقية على السرير فيما هي تغلق باب غرفة الفندق عليّ. لا أعلم حينها لماذا داهمتني بقوة فكرةُ أنّ غياب الحب هو صمّام أمان كل الخيانات. كان جو أيضاً يأتي إلى مومباسا للقائي في غاردنز أوتيل. بعد سنة من علاقتي معه قرّرت التوقّف عن رؤيته، وحين سألني عن السبب، لم أدرِ بماذا أجيبه. فتّشت عن كلمة واحدة أقولها له ولم أجدها. كنت قد تعبت، تعبت من التنقّل ومن التكرار، تعبت من ثقل علاقة صارت كمعوّق مريض لا يكبر.

The animal in you is tired of you..”

تقول لي إيفا معلّقة كالعادة بجملة أدبية وأحياناً ذات وقع موسيقي، على قراري إنهاء علاقتي مع جو. بينما أفكّر أنّه كان بمقدور إيفا أن تصبح شاعرة شهيرة إلاّ أنّها فضّلت أن تكون ناشطة بيئية تهتم بالحيوانات المنقرضة وأشجار الغابات المريضة.

أحياناً كنت أترك مخيّلتي تعود إلى فترات معيّنة من حياتي حين كنت أكتشف جسدي مع أولغا. نترك صوت اسمهان يصدح فيما تروح اولغا تقبّلني في فمي وصدري. حاولت جهدي استعادة لحظات سعادة عشناها معاً، أولغا وأنا، دون الشعور بأيّ ذنب. لكن لم أستطع في تلك اللّيلة إعمال مخيّلتي مع كريس. كأنّني أصبت بفقدان ذاكرة، أو كأنّ مخيّلتي ما عادت تسعفني على التقاط ملامح جورج أو جو. تلاشت وجوه جميع من تقاسمت معهم اللّذة، كأنهم مرّوا في حياتي بسرعة وبضربة نسيان واحدة. كأنّهم لم يكونوا أبداً. حاولت استرداد ملامحهم إلاّ أنني رأيت وجوهاً غائمة غير واضحة، وأعيناً زائغة لأشخاص ينظرون إليّ وأنا واقفة أمامهم فيما تدفعهم قوة خَفيّة إلى الخلف. بعد جهد أستعيد وجه أولغا فقط، أراه قويّاً وحاضراً كأنه أمامي. أشحت بوجهي ناظرة صوب الحقيبة ورحت أسرد لكريس حلم ليلة أمس. رأيتني شجرة، مرتفعة قامتها في الهواء تداعبها الريح. قلت له إنني في الحلم كنت شجرة وكان هو بعيداً عنّي لا يستطيع لمسي، وإنني كنت أشعر بنشوة غريبة كأنّ الريح هي التي مارست الحبّ معي. لا بدّ أنّني بلغت لذّتي ولا أدري كيف. كان يكفي أن أسمع حفيف أوراق الأشجار المتمايلة مع الرّيح الخفيف كي أشعر بتلك الإثارة التي لم يستطع أن يمنحني إيّاها رجل.

لم يكن صوت أسمهان وحده يعيدني الى ذاكرة أحبها ويساعدني على تحمّل الحياة في كينيا، هناك أيضاً الرّوايات التي ترسلها لي أولغا، وهناك ألوان السّماء القوية التي تنعكس في مياه المحيط حول بيتي. ألوان مضيئة أقوى من ألوان السماء في بيروت وأكثر سطوعاً.

تتغير أحلامي التّي نسيت معظمها ما عدا تلك التي تتكرّر وتجتاحني من فترة إلى أخرى، تتغيّر من سنة إلى سنة. فيما مضى كان فيها كثير من الأشجار والنباتات والجبال التي يسهل عليّ دائماً الطيران فوقها. أستعيد تلك الأحلام محاولةً النوم. كأنني أختار أحلامي كي أُبعد عنّي كابوساً عاش معي لسنوات. حلمي بأشجار صديقة ربما يشبه مكافأة لي. ذلك أنّني بعد مقتل أخي بهاء طالما رأيت اشجاراً محترقة تنتقل فوقها وجوه أناس ممحوّة المعالم ومشوّهة. أشجار صرت أخاف منها. ما عدت أحلم بأني أسير فوقها كأنني أمشي على الأرض. ما عدت أحلم بأنني أطير حولها ولا أقع أبداً. الأشجار نفسها صارت رعباً خالصاً.

أحياناً أستيقظ خائفة، ثم يزداد ألم رأسي ولا أدري إن كان استيقاظي سببه الألم أو الكوابيس. أغادر الغرفة ماشية على رؤوس أصابعي، أفتح باب البيت الذي يطلّ على المحيط الهنديّ في مومباسا، وأخرج إلى الحديقة. أجلس على الرمل الأبيض الذي يعكس ضوء القمر بألوان فضيّة متوهّجة. يمتدّ اللّون الفضّيّ على مساحة الرمل ويدخل معها إلى البعيد في عمق المياه. تختلط المياه بالنور اللّيليّ وتبدو من بعيد كقوس قزح لم يكتمل بعد. تتكرر أصوات الموج بوتيرة تشبه ممارسة الجنس بين حبيبين لا يصيبهما الملل. سرعان ما أغفو على الرمل لأستيقظ والمياه تغمرني من كل الجهات. لا شيء يهدّئ من ألم رأسي الحادّ سوى لعبة المدّ والجزر، لعبة الرطوبة والملوحة التي يمتصّها الرّمل، والتي تغمرني كفعل حبّ كامل. أجمل حدث عشته في مومباسا هو اكتشافي للعبة المدّ والجزر. لعبة تخفّف من قلقي كأنها تروّضه. مدّ وجزر كأنّهما لعبة بين الكوابيس والأحلام، بين حياتي هنا وحياتي هناك، بين صمت أمّي وجنون أبي. مدّ وجزر بين الماضي والحاضر. الماضي الذي ظننت أني نسيته، يجتاحني ثانية في كلّ حلم أراه.

تزول المسافة بين المدّ والجزر في عيادة المحلّل النّفسي سيتاجت في مومباسا. يختلطان ويتداخلان بقوة ولا يعود بمقدوري التّفريق بينهما. لم يكن هذا يتعبني، بل أكثر ما كان يتعبني التكلّم بلغة أخرى غير لغتي في أمور توجعني وتبكيني. كان عليّ التحدّث بلغة غير لغتي مع طبيب إنكليزي هندي الأصل. أشعر حينها كمن تحفر حقلاً شاسعاً بيد واحدة ضعيفة وهشّة. كنت أريده أن يفهم جيّداً ويُفهمني أيضاً ما بي وما يحدث لي. أريد أن يساعدني على التخلّص من ذنوب لم أقترفها، ذنب موت أخي، وذنب صمت أمي، وذنب جنون أبي. ذنب إجباري على التّخلص من جنيني الذي لم أعد أستطع بعده الإنجاب من كريس، كأنني معاقبة. إلاّ أنّني بقيت لسنوات ثلاث غير أكيدة من أنّ محلّلي النّفسي يفهمني. ظلّ أحياناً يتدخّل متكلّماً ومعلّقاً على ما أقول في لحظات أشعر فيها بقوة رغبتي في إسكاته. لم أعرف كيف أتكلّم بلغة أخرى وأبكي في الوقت عينه إلاّ أنّني لم أتوقّف عن زيارته. صرت أتكلّم الإنكليزية بلكنة هندية لأتأكّد من أنّ ما أقوله مفهوم وواضح. أحياناً كنت أجد نفسي أتكلّم العربية دون قصد مني، أنتبه إلى ذلك وأصمت فجأة كأنني فقدت النّطق. صمت يوجعني. كان الأمر يأخذ وقتاً كي أسترجع لغتي الثانية أو الثالثة. لغات تتصادم في رأسي وتعوق خروج الكلمات من فمي، ماعدا لغتي العربيّة الّتي تخرج واضحة لكنّها متشنّجة باكية. أرفع رأسي عن وسادة الديفان وأنظر إليه فجأة، لأجده مغمض العينين كأنّه مأخوذ في سهو عابر، أو كأنّه لم ينتبه أبداً إلى كلّ ما جرى وإلى كلماتي بالّلغة العربيّة التي لم يفهم منها شيئاً.

Look at me

أقول له خانقة دموعي ...

 look at me!, you are not with me….!

لا يعلّق! يفتح عينيه وينظر أمامه في البعيد متجنّباً التقاء نظراتنا.

"كبّيت جَنيني متل حشرة صغيرة، وهلق بدي إحبل ومش عم إقدر ...."! أهمس بصوت خارج من أحشائي وأنا أحاول الوقوف في نهاية الجلسة، ناسيةً أنّ من يجلس قبالتي لا يعرف لغة جلدي.

أرمي بنفسي على المقعد ثانية، ثم أغرق في بكاء طويل.

* * *

قبل إقلاع الطائرة شربنا كريس وأنا القهوة للمرّة الأخيرة معاً في مبنى المطار الصغير في نيروبي. كانت قهوة ثقيلة أشعرتني بالغثيان. يبدو المطار كأنّه ردم من مبانٍ محيطة، أو كأنّه معطّل لا يعمل فيه أيّ شيء. حتى الموظّفون القلائل الذين يجلسون في الغرف يبدون كأنهم زائرون للمكان، ولا يفهمون كيف تجري الأمور. يكفي النّظر إلى النّوافذ التي استُعيض عن زجاجها المكسور بالنايلون الشّفاف للتذكّر أنّ تلك البلاد الشاسعة تعيش حروباً متقطّعة لا تختلف عن حروبنا بكثير. الحروب الصغيرة تخلق بين البلدان المختلفة تشابهاً محزناً، فكرت من دون أن أنتبه إلى أسئلة كريس المتكرّرة.

When are you coming back home?

متى تعودين؟ يردّد ثمّ حين يفقد أمله في جوابي يسأل: هل ستعودين؟ بقيت صامتة ذلك أنّني لم أجد ما أجيب به عن السؤالين معاً. فكّرت بما قاله coming back home! وقلت في نفسي إنّنا كريس وأنا لم نتّفق على أي شيء ولا حتى على معاني الكلمات ذلك أنّ "العودة" هي تماماً ما أقوم به الآن. فكّرت أيضاً أنّني مسكونة برغبة العيش، وأنّ هذا الرجل يقضي وقته بتفكيك تلك الرّغبة. كأيّ عالم نشيط ومنظّم، يُبقي مسافة محسوبة من الحياة كي يفكّكها.

أذكر وصولي في المرّة الأولى من أستراليا إلى كينيا. وجدت كريس ينتظرني في المطار في نيروبي، كنت خائفة. إنّها المرّة الأولى التي لا أرى سوى أناسٍ سود البشرة. كلّهم أفارقة. سألت نفسي حينها لماذا أنا خائفة. هل خوفي منهم يعود إلى ذاكرة جماعية حملتها معي عن سرقة آبائي وأجدادي لثرواتهم ونهب مناجمهم وخيراتهم؟ هل خائفة من دفع فاتورة حساب هؤلاء الذين أتوا قبلي، ولأية جنسيّة انتموا، أتوا واستغلوا واغتنوا ولم يدفعوا ثمناً لأي شيء؟

بقيت الوجوه الأولى في مخيّلتي. لم أنس أحداً من أولئك الناس الذين رأيتهم لحظة وصولي إلى المطار، بقيت أتذكّرهم لسنوات، وكلّما سافرت فتّشت عنهم، أحياناً ألمح أحدهم وأجده قد كبر قليلاً وقست عيناه، صرت أتذكّرهم أيضاً حين يكون كريس فوقي. أغمض عينيّ وأفكّر بهم، أتخيّل صامويل العامل في حديقة بيتي أيضاً، أستعرض قسمات وجهه وبشرته السوداء التي تلمع، بينما يروح كريس بعد لذّته يخبرني عن أنواع الملاريا التي تصيب أولئك الناس واختلافها بين بلد أفريقي وآخر.

لكن لماذا أتذكّر كريس الآن؟ لماذا أتذكّر عاداته اليومية التي لم أشعر يوماً بتواطؤ معها؟ هل لأنني امرأة من دون عادات. هل لهذا السبب بقيَتْ السنوات التي قضيتها معه في كينيا كأنّها خارج حياتي، كأنني لم أعشها. أم أنّ السنوات هي التي بقيت خارج حياتي، أم لأنّني كنت خارج أيّ مكان يربطني بالحياة؟ أو ربما يعود السّبب إلى أنّ كريس منظّم بامتياز وعيشه مرتبط ارتباطاً مصيرياً بعقارب السّاعة. هو الذي يرى حياته مجموعة عادات لا تُخالف، بينما أنا أشرب القهوة عند الصباح. لا... بل أشرب الشاي. أدخن، لا! بلى نعم، أدخّن أحياناً. أمارس المشي كلّ صباح. لا ليس غالباً. أفضّل في كلّ الحالات أن أكون وحدي في البيت. وحدي مع رواياتي التي واظبت أولغا على إرسالها لي كلّ تلك السنوات.

قد تكون عادتي الوحيدة الّتي ارتبطت بذاكرتي هي شعوري الدائم بإقامتي المؤقتة مذ سافرت. في بيتي في مومباسا كنت أترك جزداني على طاولة المدخل، كأنني سأرحل للتو، أو كأنني في زيارة سريعة لأناس غرباء. "ميريام، هذا بيتك ... هذا بيتك وأنت سيّدته، لماذا لا ترتّبين أغراضك؟ لماذا تتركينها موزّعة هكذا في الحقائب؟" يردّد كريس أسئلته بلكنته الإنكليزية، وبفارغ صبر حين يرى أغراضي متروكة لأيّام في البهو الصغير قرب باب مدخل البيت. يرى دفتر الهاتف والحقيبة الجلديّة الّتي أضع فيها الرّوايات الّتي تصلني من لبنان. أنقلها معي في السّيارة أو أتركها في الحديقة أمام البيت حيث أجلس. إلّا أنّ كلام كريس لم يغيّر من شعوري بالغربة معه بل ربّما زاده. كنت أعلم أنّ عادة الاستعداد والاستنفار حملتها معي من بيروت الحرب، من ذاكرة الملاجئ والتنقّل من مكان إلى آخر أكثر أماناً. بقيت في داخلي ولم تبارحني طيلة سنوات التّنقل والتّرحال بين أديلاييد ومومباسا. كنت أعلم أيضاً أنّ قلقي صار كظلّي وطبع شخصيّتي منذ زمن.

وحده صامويل عامل الحديقة الكينيّ كان يعيد إليّ قليلاً من الأمان. يشعرني بطمأنينة حين يقول لي إنّ التّنقل قد لا يعني شيئاً وإنّ باستطاعة الإنسان أن يُبقي بيته في قلبه أينما حلّ. قال لي إنّه يشعر أنّ بمقدوره أن يعيش حيوات متعددة وهو في المكان ذاته. وحين يكون في مكان آخر، يستطيع أيضاً أن يشعر أنّ بداخله إنساناً آخر. يقترب صامويل من الكرسيّ حيث أجلس في الحديقة، ويقلّب الكتب الّتي تملأ الحقيبة الملقاة على العشب قرب قدميّ. كتب بعضها بلغة عربية تبدو له كأحجية. يترك الكتب جانباً ثمّ يرفع رأسه نحوي ويقول إنّ لكلّ كتاب حياة هنا وحياة هناك من حيث أتى. ثم يتابع قائلاً: "إنني هكذا أعيش في الدّاخل وفي الخارج معاً". لا أفهم تماماً ما يعني، لكنّني أربط ما قاله للتوّ بكلام سابق له حين حدّثني عن جدّه الكبير الذي ترك المناطق البريّة (Bushes) شبه عارٍ وجاء إلى مومباسا يسكن فيها ليلبس كساكنيها من الغرباء وليبني عائلة ويستقر، قال حينها إنّه يشعر بأنّني أفهم كلّ شيء، كأنّي أنا أيضاً، الغريبة عن هذه الأرض، صرت أحمل ذاكرته هو، كأنّني عشت هذه الحياة هنا وهذه التجربة. أبقى مع صامويل أكثر ممّا أبقى مع كريس. الأخير سحرته الحشرات الصغيرة الموضوعة بعناية في أوعية زجاجيّة تحت المجهر. يقول إنّ لها حياة كاملة، ومنطقاً كافياً كي تجهز على البشرية لو تكاثرت وملأت العالم.

في كينيا كما في أستراليا رحت أبتلع المهدئات والمسكّنات إلاّ أنّ الميغرين لم يكن يتركني. أستيقظ صباحاً ولا أستطيع أن أفتح عينيّ. أغلق ستارة النافذة ثانية طاردة نور الصّباح إلى الخارج. نوره يزيد من حدة الميغرين ويبقيني طريحة الفراش طوال اليوم. تبقى ستائر غرفتي مغلقة، ولا أرى من ضوء مدينة مومباسا النّهاري شيئا إلّا حين يخفّ ألمي وأشعر بتحسّن فأخرج إلى الحديقة أتفرّج على صامويل يجزّ الأعشاب، فيما المياه الغزيرة تتدفّق من الخرطوم فتُغرق قدميه الموحلتين وتروي النّباتات والأشجار.

كي أشعر بالارتياح، كان عليّ دائماً أن أحني رأسي قليلاً إلى الأمام، بهذه الطريقة تُشدّ عضلات رقبتي من الخلف، فيخفّ الألم قليلاً. حين أنام أحتاج إلى وضع مخدة تحت الرّقبة تماماً، كي يهدأ الألم، فأغفو. لكن الآن ما عاد شيء يخفّف الألم. أخفض رأسي إلى الأمام، فأتوجّع، أرفع رأسي إلى الخلف فيَشتدّ وجعي. ألوي رأسي شمالاً، ثم يميناً فأشعر به ثقيلاً لا يحتمل، أتناول حبّتي Advil ثم بعد ساعتين أعقبهما بحبّتي Diantalvic، وقبل أن أنام حبّة Toradol ثمّ Stilnox. أنام ولا يزول ألمي، لكنّه ينام، يتعب وينام، ثم يتقلّب مشابهاً لتقلّبات جسدي في الفراش.

ما إن يدخل كريس البيت حتى يبدأ بلملمة أغراضي الملقاة في كلّ ناحية ويرتّبها في أمكنتها، مردّداً كلمات كثيرة عن مدى قلقه عليّ، وكيف أنّه يريد بيتاً أكون فيه أكثر حضوراً. يقترب من جهاز التّسجيل ويخفض صوت أسمهان حتى يكاد يخنقه. اعتدت تعليقاته، واعتدت وجود سرعتَيْ وإيقاعَيْ حياةٍ في البيت. إيقاعه وإيقاعي. إيقاعي يشبه موسيقى هؤلاء الذين يأتي بهم صامويل كلّ يوم للعمل في البيت وفي الحديقة بنقود قليلة ليرحلوا عند المساء محمّلين بطعام أودّ دوماً أن أشاطرهم إيّاه. أما إيقاعه فثابت وهادئ ولا يغيّر من وقع حياتي الداخلية في شيء. فقط أشعر به في البيت حين يدخل غرفة المكتبة ليبقى إلى ما بعد منتصف الليل، أكون حينها في الفراش ملتفّة بغطاء خفيف وحولي روايات منثورة بدأت بقراءة بعضها ولم أكملها فيما صوت أسمهان يملأ الغرفة ويرافقني في نومي حتى الصّباح. لم يكن يفهم بالطّبع لماذا أبقي المسجّل مُداراً وأنا نائمة. لم يفهم أيضاً كيف أنّ باستطاعتي سماع التسجيل نفسه مرّة واثنتين وثلاثاً طوال الّليل. أشرطة أغنيات أسمهان تلك التي أتيت بها من لبنان. أشرطة أخرى بعثتها لي أولغا وأخرى نادرة ومن الصّعب إيجادها، تلك التي اشتريت معظمها من محلّ قريب من سوق الحميديّة عندما رافقت جورج خفية إلى الشّام قبل مقتل بهاء بقليل عام 1978. أنام وأحلم أحياناً بأسمهان، أفكّر في شابة عمرها 26 سنة تموت وهي في أوج مجدها. كنت في مثل سنّها تقريباً حين فقدت أخي بهاء، وحين قرّرنا ترك لبنان إلى أستراليا. منذ صغري أحاول أن أخلق نقاطاً مشتركة بيني وبينها. أقول نحن الاثنتين نحب الغناء، ونحن الاثنتين أتينا من مناطق جبلية، ونحن الاثنتين عشنا حروباً مختلفة غيّرت من مصائر حياتنا. إلاّ أنني أعود فأقول إنها تمتاز عني بأمور عدة، أهمّها أنّها لم تعرف الخوف قط، لم تخف المغامرة، ذلك الخوف الذي يسكنني منذ مقتل أخي، ومنذ اختفاء جورج، بل ربما قبل ذلك بكثير، حتّى أكاد أقول إنّه ربّما هو الخوف نفسه الذي تسبّب بمقتل بهاء.

أقف أمام أمّي ناديا وأنا طفلة على سور باحة البيت الخارجيّة، سياج أبيض عريض وأغني: "يا حبيبي تعالى الحقني وشوف ايه اللي جرالي ... من بُعدَك، سهرانة من وجدي بنادي خيالك ... مين قدّك، وانا كاتمة غرامي وغرامي هالكني....". يصفّق لي أبي الذي يجلس بعيداً عنّا كأنّني أسمهان، بينما تهزّ أمي رأسها قبالتي تشجيعاً، ثمّ حين أنسى أو أتلعثم بكلمة ما تتحرّك شفتاها من دون صوت. تبدأ بأول كلمة من مقطع الأغنية لتساعدني على التذكّر، فيخرج صوتها صافياً عميقاً كأنّه لم يستعمل بعد، ثمّ سرعان ما تصمت بينما أستعيد الإيقاع الذي فقدته للحظات وأروح أغني. أحياناً ترافقني في الغناء بصوت أقلّ حضوراً من صوتي، حينها تخرج جدّتي نهيل وتراني أتمايل على حافة السور دون خوف، بينما تقف أمّي قربي تنظر إليّ بعينين ضاحكتين تكادان تدمعان. تنهر نهيل ابنها سلامة كعادتها، وتتمتم بكلمات قاسية تصف بها رخاوة شخصية ناديا وفشلها في تربيتي.

تقول كلّ ذلك دون أن تنظر إلى ناديا متجاهلة وجودها قربي. تنزلني نهيل بيديها عن السّور طالبة منّي الدخول إلى البيت حيث درسي وكتابي مضيفة أنّ أسمهان ماتت صغيرة لأنّها لم تعرف ربّنا يوماً، وأنّ كثرة اللهو تودي بالبنات إلى الهلاك.

* * *

في مومباسا أمضي وقتي مع صامويل، الذي حين ينتهي من الحديقة يدخل البيت بطلب منّي، كي يعدّ طعاماً له أشاركه فيه أحياناً. لا يعود إلى بيته مباشرة بعد العشاء بل إلى المدرسة الليلية حيث يتعلم الرّسم.

في البداية وجدت بيتي في مومباسا غريباً، لا لشيء بل لأنّه بدا لي كنبتة صبّار مزروعة في الرّمل. لم يكن يفصل البيت عن الشاطئ سوى الحديقة الخضراء التي تنتهي بسياج دانٍ. كان غريباً منظر الحديقة الملاصقة تماماً للشاطئ الرّملي. منذ وصولي إلى هذا البيت الّذي يجب عليّ تسميته بيتي، وأنا أمضي نهاري في اصطياد مقارنات بين مومباسا وبيروت. الاثنتان مفتوحتان لغزوات تعاقبت وجعلت من كلّ مدينة ما هي عليه. الاثنتان أيضاً ممتدّتان على بحر. إلاّ أنّ بحر بيروت لا يتغيّر، لا تبخل مياهه ولا تنحسر. لا تفاجئ ولا تخيف. كانت مثيرة لي حركة المدّ والجزر في المحيط. لم أر هذا من قبل، أقول لكريس. لكنّه يضحك ويقول لي إنّ كل بحار العالم فيها مدّ وجزر، وبحر بيروت ليس مختلفاً. بلى! أقول له بغضب كأنّه ينتزع شيئاً منّي أو من ذاكرتي، ولا أرغب في مشاركته به. يقول كريس إنّ مياه المتوسّط هي تماماً عكس ما أفكّر به وإنّ بحّارة الحضارات كلّها منذ هوميروس كانوا يخافون المتوسّط، لأنّه متقلّب وغير متوقّع أبداً، بينما بحّارة المحيطات يعلمون ماذا تخبّئ لهم قبل أن يدخلوا عمق مياهها. أعلم ما أراد كريس قوله، كأنّه يقصدني أنا، إلّا أنّني لن أدخل مرة أخرى في نقاش سيغلبني فيه صبره وجَلَده على النّقاش من دون شكّ، لكن هذا لن يغيّر رأيي فيه وفي حياتي معه. أقف عن الكرسيّ لأدور حول البيت وأنا أنفث سيجارتي الّتي أشعلتها مرّات عدة، أصل إلى الحديقة الخلفيّة أفتّش عن صامويل ولا أجده. أسمع غناءً بالسواحيلي ينبعث من وراء سور الحديقة ويقترب نحو مدخل الحديقة فأعلم أنّ صامويل قد وصل. يأتيني صوت كريس من الحديقة قويّاً وحازماً، لا بدّ أنّه بدأ يغضب، أقول في سرّي. "بيروت بعيدة جداً، أنتِ هنا الآن" يقول ويردف بصوت يوحي بأنّ هذه هي جملته الأخيرة التي لا عودة عنها: "لا نحتاج إلى أسباب كثيرة كي نحب مكاناً ونسمّيه وطناً".

لم تكن صباحات بحر مومباسا متشابهة. الشيء الوحيد الذي واظبت على رؤيته منذ وصولي منظر الباعة من السكان المحليّين الذين يعرضون بضاعتهم على رمال الشّاطئ تماماً في ساعات هبوط مستوى مياه البحر وانحسارها في قلب المحيط. يأتون في الصّباح أو في ساعات الظهيرة وقت انحسار المياه، متسلّلين من جهة الشاطئ. لا يستطيعون الدّخول من الطّرق المؤدّية إلى البيوت المجتمعة على بقعة أرض مزروعة بالأشجار. بيوت متشابهة، كلّ منها مؤلف من طبقتين. بيوت كأنّ بانيها مهندس واحد كرّر هندسة البناء مرّات عدة. هناك الكثير من الكلاب أيضاً، كلاب مدرّبة على الهجوم على أيّ شخص غريب. يخاف البائعون أبناء البلد من الكلاب، خوفهم من أصحاب البيوت. كلاب أتى بها أصحابها من بلدان بعيدة وعاشت معهم في منازل كبيرة، بُنيت بطريقة توحي أنّ ساكنيها باقون هنا إلى الأبد. لا يعلم الوافدون الأجانب الكثير عن سكّان البلد الأصليّين، ذلك أنّ حشريّتهم تقتصر على إيجاد أسواق أكثر وأكبر لأعمالهم. الحقيقة أنّ أهل البلد أيضاً لا يعلمون الكثير عن الوافدين من بلدان عدة. الأمور القليلة الّتي يعرفونها تبقيهم بعيدين جدّاً عن أبواب البيوت الكبيرة. إلّا أنّهم يعلمون الكثير عن الطّبيعة وحركتها وتقلّباتها. يخافون منها أقلّ مما يخافون منّا نحن الغرباء في بلادهم. يعرفون جيداً حركة المحيط وسرعة الرّيح وتقلّبات الطّقس. يعلمون وقت المدّ والجزر ويختارون الساعات الست الّتي تكون فيها المياه ضئيلة وبعيدة عن الشاطئ. فينشرون بضاعتهم على حبال صنعوها بسرعة وربطوها بأوتاد قصيرة زرعت في الرّمل الأبيض كيفما اتّفق. هناك يعلّقون الأقمشة الملوّنة الّتي صبغوها والصناعات الخشبية الصغيرة التي تشبه حياتهم ببساطتها وقسوتها معاً. بعضهم يقف حاملاً ما يعرضه من أقمشة ملوّنة وأحذية هشّة صنعت من القشّ والجلد، كذلك يعرضون حقائب وقبّعات. قلّما يطلبون نقوداً مقابل أغراضهم، بل أحذية رياضيّة وتيشرتات مكتوباً عليها شعارات ودعايات استهلاكيّة لمشروبات غازيّة. يقايضون مصنوعاتهم اليدويّة بأخرى صنعت في الصين عليها صور عبوات الكوكا كولا والبيبسي أو أناس يبتسمون وهم يلتهمون مأكولات الكنتاكي فرايد تشيكن والماكدونالد. يطلبون أحياناً كحولاً وتبغاً.

في كينيا قضيت وقتي أملأ رأسي بما كان يصلني من لبنان. روايات صادرة حديثاً ودواوين شعر ومجلّات وأقصوصات؛ جرائد ودراسات عن الحرب وما بعد الحرب، واتّفاق الطائف واجتياح 82 ومحاكمات صبرا وشاتيلا، واتّفاق أوسلو والحرب العراقية الإيرانية، وحصار العراق. لم أترك كثيراً مومباسا، ومن وقت إلى آخر كنت أسافر بالطائرة إلى نيروبي العاصمة فقط، لأتسلّم طروداً وأغراضاً تصلني من لبنان. كنت في بداية الأمر أنتظرها في مومباسا، تأتي من مطار نيروبي إلى مطار مومباسا، لكنها كانت تصلني ناقصة، خاصة من العرق وماء الزّهر أو من بعض أشرطة الأغنيات والموسيقى الشرقيّة وأشياء أخرى كانت ترسلها لي أولغا.

في كينيا كنت أحيا كل يوم وكأنّ الغد غير موجود، أو أنّ المستقبل هناك أمامي ينتظر آتياً من الماضي. أذكر كلّ ذلك الآن ويخطر سؤال أولغا في رأسي، تكرِّره في حديثها معي على الهاتف: شو في جديد؟ وجدت سعادتك، أو عم تتذكّريها، أو عم تنتظريها ... أو عم بتعيشيها؟ تسألني ذلك وهي تعلم تماماً أنّ السّعادة أمر لا نحياه بل نتذكّره، ومن العبث أن نسأل أحداً عمّا إذا كان سعيداً.

تموت الأشجار في كينيا. لا، لا تموت. البشر يموتون قبلها بكثير. متوسط عمر الفرد أربعون عاماً. كان عليّ، مذ وصلت، اعتياد الحياة هناك والتخلّص من الشّعور الّلزج بأنّني سائحة. أحمل راديو الترانزيستور وأخرج في ساعات الصّبح الأولى إلى الحديقة. أسمع في ذلك الوقت أخبار لبنان على موجات إذاعية متوسّطيّة. أمشي على الرّمال الرّطبة حاملة الراديو معي. تصلني أخبار الحرب من لبنان كأنّها قدر يومي. أستمع إلى أخبار بيروت كأنّ السعادة متوقّفة هنا كإشارة سير. خبر تلو الآخر والسّعادة معلّقة بين خبرين. أخبار الشّقاء الّذي عرفته جيداً ولم أخرج منه بعد. شقاء علق بجلدي وروحي كلزوجة لا مفرّ منها. تذهب المياه بعيدة في قلب المحيط. يخيفني ذلك البعد الفجائيّ للمياه، بقدر ما يثيرني. يخيفني المحيط الذي فرغ من سوائله وبدا كصحراء تلمع على رملها أضواء السماء. أرى نفسي امرأة حافية ويداي فارغتان سوى من علبة صغيرة تعمل على البطّاريّة وتنقل لي أخبار لبنان. أمشي على الرمل الأبيض فيما المياه لا تزال في عمق المحيط. تنغرس قدماي العاريتان في الرّمل الرّطب. رطوبة دافئة تنتقل من قدميّ حتى أسفل ظهري فأرتعش. أخاف من نفسي ومن رغبتي العميقة في متابعة الدّخول في متاهة الصحراء والمياه. رغم ذلك أستمرّ في المشي. أمشي بعيداً في عمق المحيط الذي يبدو لي أبيض كوجه مريض مقبل على الموت أو كضيف يتأهّب للغياب. لكن سرعان ما تعود المياه، تعود على غفلة مني، لأكتشف فجأة أنّ الشاطئ ليس قريباً، وأجد نفسي في قلب المياه بقميص نوم مبلّل ملتصق بجسمي المرتجف وراديو صغير يطلق إشارات صوتية مبهمة.

* * *

أعود إذاً إلى بيروت لبيع المبنى والعودة إلى مومباسا. قضيت متنقّلة بين أستراليا وكينيا أكثر من إحدى عشرة سنة، هذا هو تقريباً عمر زواجي من كريس. كريس طبيب أبي الّذي ترك عيادته في أستراليا بعد زواجنا بشهرين ليدير في كينيا مؤسسة أبحاث بريطانية تعمل على تطوير اللّقاح ضدّ الملاريا، ذلك الفيروس الذي يقتل معظم من يصيبهم في تلك البلاد الشّاسعة والفقيرة. كان عليّ أن أبدأ هجرتي الثانية من أستراليا إلى كينيا لألحق بكريس.

لم أرفض دعوة نور لنستقلّ التاكسي نفسه من المطار في بيروت. نسيت دفتري الصغير بالطيّارة!". صرخت وأنا أهم بركوب التاكسي. تراجع نور عن باب التاكسي قائلاً لي إنه سيعود إلى المطار للسّؤال عنه. "إنسَ الموضوع إنسَ"! قلت بما يشبه فقدان الأمل وأنا أحرّك يدي باتّجاهه أدعوه لدخول السّيارة. كأنّ ما كتبته في ذلك الدّفتر غير مهمّ لي الآن. كأنّني صرت أقبل الخسارة كشيء طبيعي ولا قدرة لي على تغيير الأمر. لكنّي تذكّرت أنّ في دفتر الملاحظات هذا كلّ شيء عن جو، عن لقائي الأخير به، وعن قطع علاقتنا وعن عودتي إلى بيروت. كتبت عن رغبتي في طفل وعن فشلي المستمّر في الحمل، وعن الملل الّذي يكاد يوجعني كلما التقينا كريس وأنا في الفراش. واظبت على الكتابة باللّغة العربيّة، كنت أجد الأحرف والكلمات باللّغة العربيّة في مدينة غريبة كمومباسا مثيرة خاصة أنني بهذه الطّريقة لن أقلق لو وجد كريس دفتري يوماً وقرأ ما كتبت.

حين وصلت إلى بيروت لم أذهب إلى المبنى الذي كنّا نسكنه قبل أن نهاجر إلى أستراليا، والذي عدت لاسترداده بعد تسلّمي رسالة من أولغا تقول إنّ وزارة المهجرين تدفع تعويضات مالية للعائلات المهجّرة لإخلاء البيوت التي احتلّتها خلال الحرب. مررت في مكان قريب لبيتنا في زقاق البلاط، ولم أشأ الاقتراب أكثر. قلت لنور إنّني أشتاق إلى شدّة علاقتي ببيتي، كما كانت، وتغيرت. بدل زيارة بيتنا المؤلّف من طبقتين والّذي ما زال محتلّاً، طلبت من السّائق إيصالي إلى بيت جدّتي نهيل في الجبل. في الطريق إلى الجبل لا تتكرّر مناظر الصخور ووعورة الأرض. أرض غنية بالصور والألوان. يظنّها الناس جرداء إلّا أنّها تنبت صخوراً مختلفة الألوان والنتوءات. صخوراً مثمرة تطلع منها شجيرات صغيرة قاسية تبقى أوراقها خضراء طيلة أشهر السنة.

نهيل لم تتعرّف إليّ في البداية حين رأتني. رحّبت بي ببرودة وسألت أولغا عني همساً، إذ أخفت وجهها بغطاء رفعته بيدها إلى شفتيها ثم استدارت نحو أولغا تسألها من أكون. "هيدي ميريام!" قالت لها أولغا التي تعيش مع جدّتي نهيل منذ طفولتها، وتابعت وهي تعانقني موجّهة كلامهاً يشبه العتاب إلى نهيل: "شو بكِ نسيت حفيدتك ميريام، بنت سلامة إبنك!" يضيء وجه نهيل حين تسمع باسمي، ترفع رأسها نحوي وتشد قامتها كي تصل يدها إلى شعري. تمرّر يدها الهزيلة نزولا حتى رقبتي وتقبّلني. "سمرا يام عيون وساع" تقول لي بصوت ضعيف منكسر، ثمّ تبتسم وتردّد كعادتها أنّني ما زلت جميلة مثلها، إلّا أنّ قامتي كأمي لا تشبه قامتها الممشوقة بشيء. أعلم جيداً أنني تغيرّت بعض الشيء. صبغت شعري باللّون الباذنجاني، زاد وزني 7 كيلوغرامات، كبرت 15 سنة منذ آخر مرة رأتني فيها، وتخطّيتُ الأربعين، وصرت أضع الماكياج قبل خروجي من البيت. لكن برغم كلّ ذلك ظننت أنّني لم أتغيّر إلى حدّ كبير، وأنّ كلّ من يراني لا بدّ أن يعرفني. لا بدّ أن يعرفني من عينيّ الواسعتين السوداوين. هكذا ظننت لكن ربّما كنت مخطئة. هل يشي شكلي بالحقيقة؟ حقيقة أنّني لم أعش ما عاشه غيري، هل يشي بغيابي الطويل؟ هل أبدو غريبة إلى هذه الدرجة لأنّني لا أحمل ذاكرة مشتركة. ذاكرة لا بدّ أن تظهر في عينيّ وحركة جسدي ومشيتي وكلماتي. هل تراكُم العنف في غيابي أبعدني عمّن أحبّ إلى هذه الدّرجة، وأفقدني كلّ أُلفة أو ذاكرة مشتركة؟ هل الغياب لا يمحو ذاكرة الغائب فحسب، بل أيضاً ذاكرة من ينتظره؟

لم تسافر معنا. قالت إنّ الحياة هنا لا تختلف عن حيوات العالم في أمكنة أخرى، رغم أنّها لم تسافر إلى أيّ مكان إلاّ أنّها تستطيع تخيّل عواصم العالم كلّه. تستطيع تخيّل النّاس هناك كيف يعبرون الشّوارع وكيف يلبسون وماذا يأكلون، وهي ليست بحاجة لأن تنتقل لتفهم كلّ ذلك، فهي تراه من مكانها من بيتها الجبلي. بعد موت جدّي حمزة عادت نهيل إلى بيت الجبل وبقيت هناك تاركة بيت زقاق البلاط لأبي. حملت العالم كله في روحها دون أن تغيّر مكانها. لم ترد أن ترى شيئاً. قالت إنّها تتخيّل كلّ شيء. تبني الصّور من الأخبار ومن صور التلفزيون الّذي رضخت أخيراً لتدخله إلى غرفتها. عدت ووجدت نهيل كما كنت أتخيّلها، محاطة بكتب منسوخة بخط عريض لا أفهم كلماته. جالسة في سريرها وكتاب الحكمة بيدها. الكتاب الذي لم تحصل عليه بسهولة، ذلك أنّ وجود أولغا المسيحيّة معها في البيت خلق إشكالاً لدى رجال الدّين حين طلبت جدّتي كتاب الحكمة منسوخاً بخطّ اليد. لم أتصفّح كتاب الحكمة في حياتي، كان لدى أمّي كتاب واختفى حين تركنا بيت زقاق البلاط، بعد موت أخي بهاء. بدأت القذائف تتساقط على سطوح الأبنية وجدرانها وصار علينا الهرب من البيت والالتجاء في بيت الجبل. تركنا ولم نأخذ أيّ شيء معنا سوى ملابس قليلة، وباسبوراتنا، وأوراق نحتاج إليها عند السفر.

عدت ووجدت نهيل لم تتغيّر، كأنّها لم تكبر. فقط الباركنسون الخفيف، الذي يأتي ويذهب قلّل من حركتها. حين يأتي يرتعش جسدها كلّه ولا يهدأ. يتحرّك رأسها يمنة ويسرة دون إيقاع، يثقل لسانها، إلّا أنّها تبقى على التواصل والكلام. لم تتغيّر غير أنّها صارت تغطّي رأسها بمنديل أبيض طويل. هي في ذاكرتي امرأة مكشوفة الرّأس وذات شعر كثيف متمّوج بين الرّمادي والأسود. كانت تخرج مكشوفة الرّأس حتّى في فصل الشتاء تاركة منديلها الأبيض منسدلاً على كتفيها. تخرج أمام الناس من دون اهتمام ثم تعود مبتلّة بسيل المياه على رأسها وجسدها. يتوهّج وجهها قليلاً ثم يعود إلى سابق عهده كأنّه هناك في عمق رحمها تفور ذروة صغيرة سرعان ما تغور وتختفي. لم تكن تخاف أحداً بل كانت تشعر بأنّها أقوى من الجميع. ربّما شعورها هذا لم يكن سوى نتيجة ما كان يقوله الناس عنها. صارت أقوى من الجميع بسبب ما عرف عنها من قدرة قويّة على اللعنات. "الله ينجّينا من لعنة نهيل" هكذا يقول الناس، يقولون ذلك ويكرّرون الرّواية الشّهيرة عن موت الضّابط بسبب لعناتها. حدث ذلك عام 1958 عندما دخل أحد العسكريين البيت عنوة لاعتقال أبي والتّحقيق معه حول إطلاق نار في منطقة الحدث. راح العسكريّ يدفع أبي بقوّة للصعود إلى الجيب. اقتربت جدّتي نهيل لتكلّم الضّابط الذي ظلّ جالساً في الجيب، وصارت تلحّ عليه بإطلاق سراح أبي، وترجوه أن يسمح له بالبقاء مع عائلته لأّنه وحيد ولا شقيق له، ولأّنّ زوجته، أي أمّي ناديا، كانت في ذلك النّهار على وشك وضع طفلها الثاني، أخي بهاء. إلّا أنّ الضّابط لم يستمع إلى نهيل، فراحت تهيل عليه اللّعنات، وتردّد فيما تجمّع الناس حولها: "إن شالله تحلّ عليك اللعنة وترافقك عالقبر ... إن شالله ترافقك عالقبر ..." تردّدها مرّات عدة وهي تمسك رأسها براحتيها كأنّها تخاف عليه الوقوع. لم تطل مدّة احتجاز أبي في الّسجن إلّا أنّه تعرّض لكثير من الضّرب على رأسه. ولد أخي أثناء سجن أبي. يردّد رجال العائلة أنّه يوم إطلاق سراح أبي، دخل العسّكري إلى غرفة الضّابط حاملاً له فنجان القهوة كالمعتاد، فوجده ميتاً في الفراش.

تضحك نهيل حين تصلها بعض الأخبار، تروي قدراتها على التّأثير في مصائر البشر. قالت يوماً لي وقبل أن يُقتل أخي بهاء "لا سحر ولا من يحزنون، ما تصدقي، هيدا كلّو كذب. بس هالبيت ما عاد فيه خير من وقت طويل، من قبل ما بلّشت الحرب هون". هكذا كانت تخبرني وتتابع أنّه منذ انتقالها إلى بيروت وتوقّفها تقريباً عن زيارة السّيد عبد الله، والمقام الشّريف، والنّبي أيّوب في الجبل، وقع البيت وأهله في أزمات طالت الصحّة والمال والنّسل. توجّه جدّتي انتقاداتها إلى أمّي ناديا قائلة إنّ أمّي لم تعلّمنا أيّ شيء عن الدّين، وإنّها لم تفتح كتاب الحكمة يوماً، رغم أنّه كان تحت نظرها الدائم. لم تكن ناديا تجيب على أيّ من اتهاماتها كأنّها لا تهتمّ أو كأنّ ما يشغلها هو دائماً في مكان آخر، لا تستطيع نهيل ولا أيّ شخص آخر الوصول إليه. لم تقل نهيل يوماً إنّ حياة حمزة هي التي أدّت بالعائلة إلى هجر الدّين، ولم تُشر إليه بأيّ اتّهام في هذا الأمر. طالما اعتقدت أنّ حمزة كان بعيداً جدّاً عن كلّ ما يجعله مؤمناً بوجود مقدّس ما. بدا لي في القصص الّتي سمعتها عنه أنّه دائم الاستعداد لكسر أَيِّ مقدّس بهدف تحقيق غاياته. عاش حمزة حياته مقتنعاً بأنّ الحياة على الأرض هي الجنّة وهي النّار، وأنّ حيوات النّاس تبدأ هنا وتنتهي هنا، وأنّ كلّ ما لا نعيشه غير موجود. قال إنّ النّاس جملة أخطاء وهفوات. أَورث ابنه سلامة تلك النّظرة إلى الحياة والدنيا، ثم جاء دورنا بهاء وأنا. لم يعِ حمزة أنّه بسبب تفكيره هذا الذي أورثنا إيّاه، لم نعد نصدّق فكرة النبوّة ولا فكرة القداسة.

غاب المقدّس الذي عاشت جدّتي حياتها كلّها تبني له مكاناً في بيتنا، ليحلّ مكانه قلق وجوديّ صار ينام في سريرنا ويقاسمنا الأحلام. كان يردّني التفكير بهذا الأمر دائماً إلى صمت ناديا. يعمل خيالي أحياناً وأقول إنّ ناديا صامتة ليس بسبب موت أخي، بل بسبب أنّها لم تستطع أن تكون نبيّة كالرّجال. لم تستطع أن تحفر كلماتها على جدران البيت ليقرأها كل زائر، وما صمتها إلا احتجاج على ذلك. وجدت نفسي أسأل جورج ذات مساء في شقّتنا السريّة في الجامعة العربية، لمَ ليس بإمكاني أن أكون نبيّة مثل أيّ رجل. لم يجبني بل راح يتمتم بكلمات مضحكة من نوع لماذا دائماً أسئلتي لا تشبه أسئلة النساء. "ليش حظي إبتلي بمرا متلك؟" يسأل بشكل مسرحي اعتدته فيما يرفع يديه إلى فوق، كأنّه يخاطب ثالثاً بيننا هو الله! ثم يقترب منّي، ينحني على شفتيّ يقبّلهما، "أنت نبيّتي أنا" يقول، ثم يقفز عن السرير على عجل. لم أشعر بقبلته ولا بجملته ذلك أنّ رأسي كان مشغولاً حينها بمسألة النّبوة!

في طفولتي وفي مراهقتي كان صمت ناديا يشغلني ولم أفهم قطّ لماذا لم تقف بوجه نهيل وتدافع عن نفسها؟ لماذا لم تقل شيئاً سوى كلمات ضروريّة تسيّر بها أمور البيت والمدرسة والطّعام والصّحة. لم أعرف يوماً إن كانت سعيدة مثلاً، فرحة، حزينة أو موجوعة. لم تقل يوماً ما تشعر به. فقط أمور كانت خارج روحها وجسدها. أمور لا علاقة لها بها. كانت ناديا بالنسبة إليّ كزائر على الارض، كأنّها لا تريد أن تغيّر شيئاً، لا تريد أن ترث ولا أن تورث، لا أن تأخذ ولا أن تعطي. حين أفكّر بها الآن لا يخطر لي سوى ذلك الشّعور الذي أعطتنا إيّاه بأّنّها لا حول لها ولا قوّة، وأنّنا، بانتهازّيتنا الّتي تشبه انتهازيّة كلّ الأولاد في مثل سنّي وسنّ أخي، نستطيع أن نفعل بها ما نشاء، أن نقول لها ما نشاء دون رادع. ربما صمت أمّي نابع من اعتقادها أنّ الكمال أمر موجود في الكتب السّماوية فقط، ولا علاقة للحياة الحقيقيّة به. هي لا تختلف كثيراً عن جدّي في رؤيته للعالم الذي نعيش فيه، إلّا أنّها خلافاً له، ترى وتعلم ولا تفعل. لم أر ناديا يوماً تقرأ في كتاب الحكمة. رأيتها تقرأ الصّحف والكتب الأدبيّة والمجلّات وكل أقصوصة تقع تحت يدها. كانت في أعماقها تؤمن بأنّ الدّين هو الحبّ، هو ما تعطينا إيّاه دون مقابل وليس أيّ أمر آخر.

* * *

أعود من جنوب أفريقيا إلى مومباسا. ترافقني جارتي النّمساويّة إيفا بكتب بيئية جديدة حول التّصحّر والجفاف جمعتها من طاولات المؤتمر الذي اشتركت فيه. تعود أيضاً محمّلة بالأغراض والهدايا إلى زوجها. تعود مع ولديها اللّذين شاركاها في أوقات فراغها غرفة الفندق والمسبح وسيّارة الأجرة ونزهات الشلالات والتسوّق. أعود بحقيبة صغيرة شبه فارغة وجرو صغير هديّة من جو. أفتقد الأمومة حين أكون مع إيفا. أفتقد أمومة كانت ستحصل لو حافظت على جنيني ولم أجهضه خوفاً من الفضيحة والنّاس في بيروت. منذ ذلك الوقت وأنا أريد استعادته ولا أستطيع.

يلازمني الميغرين كظلّي. أسرع إلى سريري الذي افتقدته. يقترب مني كريس محاولاً مداعبتي، يحيطني بذراعيه ويقرّب جسده كثيراً منّي فيما يحاول نزع قميص نومي. يقاوم جسدي، ويلتفّ على بعضه كمن يغلق نافذة نسيها. أقول له وأنا أغطّي جسدي بالكامل إنّ الميغرين لم يتركني دقيقة واحدة. أقول له ذلك وأنا أعلم أنّها باتت طريقتي الوحيدة لإبقائه بعيداً عني. صرت أتجنّبه مذ علمت من طبيبي أنّ حملي مستحيل. يسألني مداعباً إن التقيت بأحد أعجبني هناك، مضيفاً بصوت من أسقط من يده أن لا مشكلة لديه في ذلك. لا أردّ، بل أفكّر وأنا بين اليقظة والنوم أنّ وحدتي وأنا معه باتت تتعبه. وحدتي التي يفضّل أن يسمّيها إخلاصاً، ورفض إقامة علاقات عابرة وأنا في الخارج. كان يتعبه ثقل علاقتنا الخرساء، ذلك أنّه في أعماق أعماقه كان مؤمناً بأنّ الحياة لا تحتمل كل تلك الجديّة. إلّا أنّه آثر لعب دوره، ذلك الّذي عليه أن يلعبه كزوج. فكّرت أيضاً بأنّني في تلك اللّحظة موجودة قربه بالصّدفة، معلّقة لا لسبب سوى لمعادلة عمياء: لم أحبّه بما يكفي كي أنسى أنّني معلّقة وأنّني أنتظر الرّحيل، ولم أكرهه بما يكفي كي أرحل.

This means it is over ; the relationship is over ! "هيدا يعني خلصت العلاقة ..." تعلّق إيفا عندما أخبرها بمشاعري كأنّها اكتشفت أمراً مهمّاً.

لكن من تكلم عن انعدام الحبّ أو انتهاء علاقة؟ أسألها، وأُفكّر أنّ ما أمرّ به أمر طبيعيّ، يشبه حركة مياه المحيط القريبة من بيتي في مومباسا، حركة مدّ وجزر، وإنّ ما أعيشه ليس انعدام حبّ او انتهاء علاقة، لا لا أبداً. فقط إعادة دائمة ومتكرّرة دون نهاية لترتيب بيتي العاطفيّ. ظننت في بداية زواجي بكريس أنّ سوء الفهم لا بدّ له علاقة بلغتينا المختلفتين، وأنّه سينتهي إذا اعتمدت الوضوح والصّراحة. إلّا أنّني اكتشفت أنّ أسلوبي هذا يعمّق الهوّة أكثر، ذلك أنّ الوضوح يزيل أيّ لبس حول إمكانيّة بناء شيء إيجابي بيننا، ويؤكّد أنّ المشكلة ليست سوء فهم بل غربة راحت تنمو مع الوقت وتأخذ مساراً لا عودة عنه.

Lost in translation”! يردّد بسذاجة عبارته دائماً في وجهي محاولاً إلقاء اللّوم على اختلاف لغتينا. يردّد ذلك محاولاً إيجاد نقاط مشتركة بيننا، لكنّ عبارته تصلني كشتيمة. صرت حين أسمعها أشعر كأنّه يسبّني بكلمات قاسية. ليس اختلاف اللّغة هو المشكلة بل انعدامها. طالما أتعبني سوء الفهم هذا؛ لكنّي استسلمت له بعد حين. "استسلمتُ" ليست الكلمة الصحيحة هنا، بل أكاد أقول إنّ سوء الفهم صار مصدر تسلية لي، حتى صرت أتعمّد قلّة الكلام. مضى وقت طويل قبل أن أكتشف متعة الغموض. اكتشاف رافق اكتشافاً آخر هو حاجتي وفقداني لمتعة أن يُضحكني رجل. حينها صرت أضحك من تلقاء نفسي، وأترك كريس يتكهّن سبب ضحكي. كنت أعلم أنّ هذا بات يوتّره، لكنّه أُسقط في يده. اعتاد الأمر في النهاية. صار يردّ سلوكي إلى اختلاف تجربتينا في الحياة الزوجيّة. ذلك أنّ زواجه ببريطانيّة أوّلاً، ثمّ بإيرانيّة، جعلاه ربّما يعتقد أنّ سوء الفهم بيننا سببه قلّة تجربتي، وعدم فهمي لشؤون الزّواج والعلاقة بين اثنين. من الصعب عليّ أن أفهم ماذا يعني له زواجه بامرأة ثالثة مختلفة في التجربة والثّقافة والسنّ عن زوجتيه السابقتين، لكنّي أفهم جيداً أنّه لن يفتقدني خلال سفري، ذلك الفقدان الذي أعيشه والذي أصبح جزءاً من حياتي. أعلم أنّه برغم ذلك، سيكتب لي رسائل كثيرة. رسائل يخبرني فيها عن يومه، ثم لا بدّ سيعرّج على ذكرياتنا معاً، كيف التقى بي أوّل مرّة في المطار حين استدعته الشّرطة لفحص أبي بسبب الشّظية المستقرّة في رأسه، والتي جعلت الفاحص الإلكتروني يرنّ كلّ مرة يعبر فيها أبي داخل الباب الكهربائيّ الذي يستعمله البوليس الأوسترالي في المطارات. سيكتب لي كريس كيف التقينا في المرّة الثّانية في عيادته وكيف صار يزورنا لمتابعة وضع أبي الصحّي، بعد انتقالنا من بيت خالي إلى بيتنا في أديلاييد.

في المرّة الأولى ولحظة دخوله الغرفة الجانبيّة في مكتب البوليس في مطار أستراليا اقترب منّي ومن والديّ محيّياً معتذراً عن تأخّره بسبب ظرف طارئ في المستشفى. لم أعد أذكر كيف بدأ الكلام مع والدي، وحين علم أنّنا وصلنا لتوّنا من لبنان أخبرنا أنّه هو أيضاً ولد هناك وأنّه يعرف بلدة شملان، وأنّه لم يزر لبنان منذ رحيله عنه عام 1958. ذكر أشخاصاً من شملان ممن عرفهم أبي. يهدأ أبي ويخفّ توتّره حين يزوره كريس. يقترب منه كريس ويروح يربّت كتف أبي بيده كأب حنون. نشأت بينهما علاقة سرعان ما توطّدت، وكأنّهما صديقان منذ زمن. لم تظهر على أبي شدّة مرضه بحضور كريس إذ كان يتذكّر معه قصصاً جرت في لبنان في زمن لم أكن قد ولدت فيه بعد. صار يتردّد للاطمئنان على صحّته ولعب طاولة الزّهر معه، تلك اللّعبة التي كان قد نسيها سلامة تقريباً منذ حادث موت بهاء. توهّمت أنّ وجود كريس بيننا قد يساعد على التئام جرح عائلة مفجوعة بالموت والفقدان. هكذا نشأت علاقة بيننا، كريس وأنا، لم أرد أن تكون أكثر من صداقة، تحوّلت مع الوقت إلى اعتياد مريح، لا شغف فيه ولا شوق. أذكر لقاءنا الجسدي الأوّل حين سألني إن كان يستطيع خلع ثيابه أمامي. وجدت ذلك غريباً ومضحكاً. تزوّجنا بعد 4 سنوات من وصولي إلى أديلاييد بعدما فقدت أيّ أمل برؤية جورج ثانية. بدا زواجي بكريس كمكافأة له لقاء اهتمامه وعنايته برجل هو أبي صار من الصعب عليّ تحمّل جنونه وحدي. أردت أيضاً إنجاب طفل يحلّ محلّ الجنين الذي فقدت في بيروت. ذلك الجنين الذّي أجهضته وأجهضت الفضيحة معه.

زواجي لم يكن نابعاً من حبّ بل ربّما من اقتناع. إنّه زواج من نوع "تخليص أمور حياتية عالقة"، تقول إيفا، كعمل الشركات التي تقوم بتخليص الشّحن وما شابه من بضاعة مستوردة. إيفا اعتبرت زواجي أيضاً أمراً مرتبطاً بالماضي أكثر منه بالمستقبل. قلت لها أنّها قد تكون محقّة. لم يكن حبّاً تجاه كريس بل استهواء وشعور وهميّ بالاطمئنان منحني إيّاه. ثمّ اكتشفت أنّ كلّ عوامل الاطمئنان التي شعرت بها لم تكن متعلّقة به بالذّات أو بشخصيّته أو صفاته، بل بسبب ما أحاطني من ظروف سيّئة غيّرت مجرى حياتي وحوّلتني من امرأة تحلم بالمستقبل إلى امرأة لا تقوم إلا بترميم الحاضر الذي تكفّل الماضي بتشويهه. كان كلّ منّا كريس وأنا في واد أقول لإيفا، وأتابع أن بعد زواجنا حسبت أنني سأنام أفضل وأنّ الخوف سيتركني، إلّا أنّني بتّ أشعر بالقلق قربه، قلق من قلّة حضوره ومن غيابه، قلق من غياب التواطؤ ومن وحدتي ومن ابتعادي عن أصدقائي في بيروت. تقاطعني إيفا وهي تحضّر عجينة الخبز مع الفاكهة المجفّفة، توقف الخفّاقة الكهربائية الّتي تحدث ضجيجاً عالياً وتقول إنّني أفلسف الأمور أكثر ممّا يجب. ترفع يدها المبلولة بالماء والمليئة ببقايا العجين إلى رأسها وتزيح بظهر كفّها خصلات شعرها الأشقر عن جبينها وتردف أنّني لا بدّ مجنونة. تقول ذلك تعليقاً على جملتي حول عدم فهمي لسبب حبّ كريس لي، وكم هو غريب ألّا أُحسن يوماً فهم طريقته في حبّي. قلت لها إنّي كل مرّة أفكّر في كريس أُشبّه نفسي بفاكهة الإكزوتيك، تلك التي يشتهيها حين يراها قريبة منه، وسرعان ما ينساها حين تغيب. كان عليّ دائماً أن أكون فاكهة الإكزوتيك تلك رغماً عني. كان عليّ أن أكون تلك المرأة الآتية من الشرق، من وراء المحيط، الّتي لا تشبه نساء عائلته في شيء. إلّا أنّني سرعان ما اكتشفت اللّعبة وانسحبت، انسحبت دون إخباره بذلك. ربما فاجأه أمر أنني لا أشبه نساء ألف ليلة وليلة بشيء، وأنني لا أحكي له حكايات كي ينام هو، وكي أنجو أنا. اعتمدت الصمت وسيلة نجاة. ربما هذا ما أفسد الاتّفاق الضّمني بيننا منذ زواجنا. فكّرت أنّه بعد سفري إلى بيروت سيكتب لي رسائل كثيرة، إلّا أنّني لن أردّ عليها. بين تبادل الرّسائل وتجاذب الكلام مع كريس اخترت التحدّث على الهاتف - إن كان لا مفرّ من الكلام - لا لشيء سوى أنّ الكلام سرعان ما يزول ولا يبقى منه أيّ أثر. كأنّ حياتي معه ليست سوى حفر على الرمل. تجمع إيفا الأواني التي استعملتها لصنع قالب الكاتوه وتضعها في الجلاية الكهربائيّة مرددّة: "أنت مجنونة، كلّ ما تقولينه أدب بأدب، ولا علاقة له بالحياة الحقيقيّة".

واظب كريس خلال سنواتنا معاً في كينيا على تكرار قول إنّه يحبّني، وإنّه لم يعد يحسن العيش مع امرأة أخرى. برغم ذلك بقي يحتجّ على ما أقوم به أو ما أقوله، معلّلاً ذلك بتقلّب مزاجي. قد يكون مصيباً. لطالما شعرت أحياناً بأنني لا أحسم موقفي في أمور كثيرة، لا أعرف كيف أرى العالم، كيف أصف الغسق مثلاً، هل هو بداية الظّلمة أم ما بقي من ضوء النهار أم الاثنان معاً؟ طالما شبّهت الاختلاف بيننا بشخصين، الأوّل فيهما عاش حياته وبنى ثوابته، مؤمناً بأنّ ما خبره وتعلمه هو الصّواب المطلق الذي لا جدال فيه، وبالتّالي يكفيه ما تعلّم، أمّا الشّخص الثّاني فقد فَقَد أيّ إيمان بأيّ ثبات، إلى درجة أنّ وجوده بات موضع شكّ وسؤال. أنا كنت الشخص الثاني.

أكثر ما كان يغضبه عدم قدرتي على التّخطيط لعطلات الصيف. كان يطلب مني أن أقرّر كيف ومتى سنسافر معا ًإلى أستراليا لرؤية أولاده في سيدني من زواج سابق، ولرؤية أهلي في أديلاييد، أو إلى بلد آخر. وأنا كنت أجيب دائماً "بكرا منشوف". وجد في جوابي هذا عدم اهتمام، وأنا لم أكن متأكّدة أنّ غداً سيأتي في أيّة حال. قلت له إنّ الحياة في لبنان لم تسمح لي يوماً بالتّخطيط إلى أبعد من شهر فكيف يريدني أن أقرّر برنامج عطلة الصّيف ونحن ما زلنا في شهر شباط. قلت له إنّ التّخطيط ثقافة لم أعتدها، وإنّ عليه استيعاب هذا الأمر. قلت إنّ أخي بهاء كان يحضّر نفسه لرحلة استجمام في إسطنبول، وكانت بطاقة السفر في جيبه حين قتل. إلّا أنّه كان يجد في أعذاري سبباً آخر للدّخول في نقاش، تستفزّه تبريراتي ولا يفهمها كأيّ شخص لم يعش الحرب في حياته. يقول إنّني بعيدة الآن عن لبنان وآن الأوان لأنسى وأعتاد حياتي معه في أستراليا أو في أفريقيا. يعلّل مزاجي السيّئ أحياناً بالألوان القاتمة التي واظبتُ على ارتدائها منذ موت بهاء، حتى تحوّلت إلى نمط حياة صار من الصعب تغييره، ولم أعد أعرف كيف أشتري ملابس زاهية. لماذا تلبسين هذا الفستان القاتم اللّون، تبدين تعيسة فيه! لماذا لا تأكلين اللّحوم الباردة والنّقانق معي على الفطور؟ هل هناك ما يكدّرك؟ هل قالت أولغا شيئاً آخر على الهاتف أحزنك؟ هل زرت طبيبك اليوم؟ أيّهما، الطبيب النّفسي أم الطّبيب النّسائي؟ كيف كان تعليم اللّغة العربيّة؟ والإنكليزيّة؟ يكرّر أسئلته، ثمّ يخرج بعد الاستماع إلى أجوبتي القصيرة المقتضبة التي لا تضيف ولا تغيّر شيئاً ممّا نحن عليه.

كنت أشعر أحيانا بأنّ عليّ القيام بجهد أكبر لأحسّن من وضعي ومن علاقتي مع العالم حولي، ومع علاقات كريس وحياتنا الاجتماعيّة. إلّا أنّه بعد أسابيع يبادر هو بالقول إنّني أتعبت نفسي أكثر ممّا يجب، وإنّه يعلم أنّ بقائي معه على العشاء كلّ مرة بصحبة أصدقائه ونسائهم أمر أحاول القيام به بدون رغبة على الإطلاق، خصوصاً التكلّم دائماً بلغة ليست لغتي. يبدي تفهّماً إلّا أنّني أشعر بأنّه تفهّم يخفي خيبة مريرة يحاول بكل ما أوتي من صبر أن يروّضها. حين تأتي نتائج محاولاته وأبحاثه في المختبر غير مرضية يحاول الإيحاء لي بأنّ عمله في الأشهر الماضية تراجع، لأنه لم ينم جيّداً بسبب قلقه عليّ. كنت دائماً السّبب لأيّ تراجع يصيبه أو يصيب عمله، وأنا في بداية عهدي كنت أصدّق كلّ ما يقول، وأقرّر مع شعور كبير بالذنب أنّني سأعطي كامل وقتي له، فها أنا في البيت معظم فترات ما بعد الظّهر، أمضي معظم وقتي بالقراءة والكتابة، كتابة لا يقرأها أحد سوى أولغا. أمّا ساعات الصّباح فأمضيها في دروس اللّغة الإنكليزية التي أُعطيها في صفوف محو الأميّة في مومباسا، إلى جانب الدّروس الخاصّة باللّغة العربيّة، بينما كريس يعمل ويأتي بالمال، لكنّي بعد سنوات اقتنعت بأنّه يوظّف كل طاقته في ما يعمل، وأنّه لحظة خروجه من البيت ينسى المكان الّذي تركه، ينسى من فيه وينساني. اقتنعت بأن نتائج عمله غير المرضية تتعلّق به وحده، ولا علاقة لي بها. برغم ذلك بقي حزني الدائم موضوعاً يردّده كلما دعت الحاجة أمام أصدقائه وزملائه في العمل.

كريس يحصي عدد المصابين بمرض الملاريا ويحاول إنقاذهم، وأنا مصابة بمرض الغضب الأخرس والمغلّف بالخوف، وهو لن يستطيع إنقاذي. مرضي يحتاج إلى كثير من اللّعب، وكريس لم يحسن اللّعب أبداً. لا يعرف كيف يلعب. لم يكن يلعب حتى مع الكلب الذي خاصمه مذ أتيت به من جنوب أفريقيا. كأنّه يعلم ممّن أخذته ويرغب بقوة في التخلّص منه. اللّعب أهمّ اختراع إنساني، قال صامويل وهو يمرّغ وجهه في رأس الكلب يوفو، لا ليس فقط إنساني، يتابع، انظري! كيف تلعب الحيوانات وتفرح! يقول لي صامويل بصوت مرتفع كأنّه يعلم أنني لا أسمعه إلّا عندما يغيّر نبرة صوته، بحيث يتعذّر عليّ عدم الاستيقاظ من أعماق تفكيري والالتفات إليه. كريس لم يكن يلعب ... له عاداته. ها هو يوم جديد من عاداته. الخروج إلى المختبر السّاعة السّابعة والنصف، العودة السّاعة الواحدة، النّوم بعد الغداء ثمّ العودة إلى المختبر الّساعة الثّالثة والنصف حتى السّابعة.

لا بدّ أنّ الملاريا تتكاثر بسبب هذه العادات، بسبب اعتيادها عاداته!

أمّا أنا فلست أكيدة من شيء، أقبل بأمر ما مثلما أرفضه، وكلّما أوغلت في سنوات عيشي في مومباسا وجدت أنّ من الصّعب أن يكون لديّ عادات. لكن ما معنى امرأة لا عادات لديها، ولا حتّى شرب القهوة في السّرير. يقترب مني واثقاً من أنّ ليده التي تحيط بكتفي سحر الأمصال التّي يقضي ساعات يومه معها. يفقد صبره بعد دقائق ويخرج بعد أن يَسمعني للمرة الألف أقول له إنّني اشتقت إلى اللّعب، وإنّ اللّعب لا عمر له، وإنّني أموت ببطء هنا. يتركني ويخرج. أعود وأشغل جهاز التسجيل فيرتفع صوت أسمهان مُلَعلِعاً كأنّه ينتقم. أعود إلى الكتاب الذي كان في يدي قبل دخول كريس. أقرأ: "كان محقّاً نيتشه حين قال إنّ الخطيئة الأولى تدفع بنا إلى شعور دائم بالضغينة، وإن الإله اختراع مميت، وإنّ من الصّعب أن نؤمن بإله لا يرقص".

كنت أروي حياتي البيروتيّة والأستراليّة لإيفا جارتي في مومباسا. الآن وبعد عودتي إلى بيروت صار سهلاً عليّ أن أروي حكايتي الكينيّة لأولغا، الّتي اشتقت إليها واشتاقت إليّ. لكن لماذا أتذكّر كلّ هذا الآن وقد صار خلفي؟ هل لأنّ الماضي يبقى على الدوام جزءاً من حاضرنا ولا يغيب؟ أروي حياتي في كينيا لأولغا وأنا أفكّر بنور وبالّذي جرى بيننا. غريباً كان أمر لقائي به. كأنّني تركت كينيا وعدت للقائه هو بالذّات، وليس لاسترداد بيت فقدته. أجد نفسي الآن عدت إلى بيروت أفتّش عن إله يرقص إلّا أنني لن أجد سوى رفيق لرحلة ضياعي. كريس بعث لي رسالة ثانية. لي هنا شهران فقط. أشعر بأّنه كتب كلّ رسائله حتّى قبل أن أتركه.

* * *

لم أكن أحب زيارة أستراليا مع كريس. ذلك أنّه كان عليّ أن أقضي وقتاً طويلاً معه وهو ينتقل من مدينة الى أخرى لزيارة أولاده وعائلته. كان يصرّ على أن أرافقه وأنا كنت أريد فقط البقاء في البيت مع أمي والاستماع الى ما تخبرني إيّاه عن أبي وعنها وعن عملها. نتكلّم الإنكليزية معاً أمي وأنا، ولم يكن هذا يزعجني. يكفي أنها عادت للكلام، ولا يهم في أي لغة كانت. في المرة الأخيرة التي زرت أديلاييد قابلتني ناديا بصمت أقل وبكلمات اشتقت إليها منذ زمن. تعانقنا كأن كل واحدة منا وجدت الأخرى بعد فقدان. تابعتْ دروساً مكثّفة بالإنكليزية وصار يختفي صمتها تماماً حين تتكلم باللغة الأجنبية. بدأت منذ بضع سنوات تعمل بدوام جزئي في مؤسسة تُعنى بالمهاجرين الذين أتوا من بلدان شهدت حروباً أهلية. أتتني بهرٍّ رماديٍّ صغير قائلة أنها وجدته أمام باب البيت ذات صباح. أدخلته، حمّمته وأطعمته وأعطته اسماً أجنبيّاً يدّل على لونه هو "غراي". هرّ بديل من هرّتها بوسي في بيروت. أفرح لأمي التي بدت كطفلة مشت للتوّ خطواتها الأولى. اعتادت أمي على حياتها في استراليا وعندما أقرأ لها شيئا عن لبنان تقول لي إنها لا تريد أن تسمع شيئاً، ولا تريد أن تعود الى هناك.

أرافق ناديا وسلامة الى الحديقة العامة. يسبقنا سلامة ببضع خطوات ويدخل الحديقة محيّيا البّواب وعمّال التنظيف. لا يجلس معنا وقتاً طويلا بل يخرج ويروح يعبر الطريق من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال. "هون بيحترموني أكثر. بشعر إني إنسان محترم هون"، كان يقول لي دائما فيما يمارس هوايته شبه الوحيدة في أديلاييد وهي عبور الشارع في تكرار لا ينتهي. يخرج سلامة، يعبر الشارع على مسامير المشاة جيئة وذهاباً، يُفاجأ به السائقون ويضغطون على فرامل سياراتهم بسرعة خوفاً من دهسه. تقف السيارات له، يكمل أبي سيره نحو الرصيف المقابل بفرح وزهو. تنطلق السيارات فيما يطلق السائقون شتائمهم ولعناتهم باللغة الإنكليزية التي لا يهتم لها أبي. لا يدري ماذا يدور حوله. فقط يعلم أن العالم كله يتوقف له لحظة خروجه من البيت أو من الحديقة إلى الشارع. سيارات تقف له، ثم تمشي، ثم سيارات أخرى تأتي، تقف ثم تمشي. سلامة لا يتوقف عن اجتياز عرض الشارع والتنقل بين رصيف ورصيف آخر يقابله. يتغيّر لون إشارة السير من الأحمر إلى البرتقالي ثم الأخضر، يستمر سلامة في تكرار لعبته بينما تبدأ السيارات بالتزمير. ويُخرج أحدهم رأسه من نافذة السيارة ويروح يلعن سلامة الذي لا يفهم ما يُقال له بل يدير رأسه إلى الأمام ويتابع السير. يقف في لحظات غضبه، وسط الشارع، ليقول للسائق الذي يقذف كلامه في الهواء "إنت مش عارف مع مين عم تحكي ولاه!". لحظات غضب قصيرة ما تلبث أن تتحوّل الى ابتسامات. يبتسم سلامة للسيّارات الملوّنة الزاهية التي تلمع برغم احتجاب الشمس. سيارات تلمع في الظلمة كعيون قطط شوارع بيروت. لكنّه ليس في بيروت، أفكّر وأنا جالسة قرب أمي التي تقرأ في كتاب. أمي التي اعتادت جنون أبي وقبلته كقَدَر. أراقبه بحذر فيما يفغر فاه عن ابتسامة أوسع. يكرر سلامة حركته بين الرصيفين بدون توقف. حركة تصيبني بإعياء لا أستطيع بعدها النظر إليه. "أتركيه أتركيه" تقول لي أمي التي اعتادت على جنونه، "ما تخافي" تتابع. تمطر بقوة إلا أنّ أبي لا يهتم. نحن في تموز في عزّ الصيف، يقول ويتابع إن المطر عابر ولا بد من أن يتوقف سريعاً. لم يقبل أبي أن الشتاء يأتي في تموز وأنه يستمر لأشهر هنا. يرفع رأسه نحو الفضاء الرمادي حيث الغيوم، التي لا تستطيع الوصول إليه، كذلك الكلمات، الكلمات التي تؤذي، كلمات جدّي حمزة التي بقيت مغروسة في رأسه وفي جسده وروحه. لم يشف سلامة من عنف الكلام رغم موت حمزة. لم يشف رغم أن كلمات العنف تلك ما عاد باستطاعتها الوصول إليه. أترك المقعد الخشبي على الرصيف وأمشي نحوه بينما تلتجىء أُمي الى كوخ قريب في وسط الحديقة هرباً من المطر. أحاول الإمساك بأبي. إلا أنه يستمرّ في اجتياز معبر المشاة من جهة إلى أخرى فيما المطر بلّل ثيابه بالكامل. لا أدري ماذا أفعل. أنظر إلى أمي وأراها مقبلة نحونا وهي تركض فيما تضع كتاباً على رأسها لحمايته من البلل. أمسك بذراع أبي الذي تسيل المياه من شعره على عينيه ووجهه. تصل أمي الى حيث نحن وتمد ذراعها نحو سلامة فيتوقّف بوداعة عن الحركة وهو يتمتم بكلمات مبهمة. يمسك بذراع ناديا ونجتاز ثلاثتنا حديقة الحي في بارادايز، نعبر الشارع فيما تُخرج أمي مفتاح البيت من حقيبتها قائلة إن الوقت سيصبح ليلاً وإن علينا العودة.

* * *

في الأيام الّتي تلت عودتي إلى لبنان كان عليّ تحضير الكثير من المستندات وتقديمها إلى وزارة المهجّرين. قالوا لي إنّها مسألة أيام. مضى على وجودي في بيروت أكثر من ثلاثة أشهر، وما زلت أملأ أوراقاً لا أفهم غايتها. في المرة الأخيرة ملأت أوراقاً كنت قد ملأت شبهها تماماً في مرّة سابقة. وحين أبديت اندهاشاً ممتعضاً أمام الموظّف، أجابني بتهكّم لم يحاول إخفاءه أبداً "معليش مدام هيك بتتمرّني على الكتابة".

لشو رجعت؟ قلت ألوم نفسي وأنا ألعن الموظف؟ ليش أنا هون؟ كان باستطاعتي أن أرسل توكيلاً لأولغا أو لأيّ شخص آخر. لكنّهم طلبوا حضور أبي شخصيّاً لأنّ هناك من يريد شراء المبنى لهدمه وبناء عمارة كبيرة مكانه تطلّ على وسط بيروت الّذي دمّرته الحرب وباشرت بإعادة إعماره شركة خاصة. إلّا أنّ أبي غارق في هذيانه وكان عليّ تهيئته لأيّام عدّة قبل زيارة الكاتب العدل في أديلاييد كي يوقّع على توكيل لي بهذا الأمر.

لم أر أحداً أوّل وصولي إلى بيروت. فقط زيارات نور الّتي بدأت تتكرّر بوتيرة شبه يومية. الشّقة التي استأجرت صغيرة وضائعة في نهاية رواق الطبقة الثانية من مبنى مهمل قريب من الجامعة الأميركية. حين دقّ الباب لم أكن أتوقع أن يزورني أحد اليوم. كان نور، عانقني كأنّه يعرفني منذ زمن. بتّ أفرح بلقائه كأنّه كان ينتظرني هنا. هذا الرّجل مفاجأة لي. بات لقاؤه ضروريّاً كي أعيد صلتي ببيروت، لقاء رجل عاد ليفتّش هو أيضاً عن صلة مفقودة!

خرجنا من شقّتي ومشينا حتى البحر، كان البرد خريفيّاً خفيفاً. اقترب نور ووضع ذراعه حول كتفي للحظة سريعة ثم أبعدها. بدا كأنّه أراد أن يقول شيئاً ثم غيّر رأيه، أو ربّما شعر فجأة بأنّه بدا في عواطفه مستعجلاً بعض الشيء. شعور خفيف شبيه بخيبة أمل أو ضجر خالجني. كنت أريده في تلك اللّحظة أن يترك يده هنا على كتفي وأن يقول ما يشعر به دون حساب.

غريب خريف بيروت، يبدأ النّهار بشمس واعدة، بسماء تُدمع العين لشدّة زرقتها، صافية. تتمدّد الغيوم على أطراف السماء كإطار لوحة، غريب خريف بيروت كيف تتغيّر ألوانه بسرعة. يتّسع إطار السماء ويجتاح ببطء ما بداخله. تغطّي الغيوم الفضاء وتتحوّل ألوانها من دون انتباه من أبيض إلى رماديّ شفّاف يثقل مع الوقت ويزداد قتامة. يهبّ الهواء فجأة كأنّه كان مختبئاً خلف جذوع الأشجار القليلة الباقية في المدينة. يهبّ من الأرض ويرتفع. وديعةٌ بيروت نهار الأحد. إنّ من يراها لا يصّدق أنّ بيروت النّائمة يمكن أن تستيقظ وأن تُخرج العنف من بين جدرانها كلّ صباح. تنشر عنفها كلّ يوم تحت الشّمس كما تشمّس النساء ملابس بقيت فصلاً كاملاً في الخزائن. يوم الأحد عطلة بيروت. كأنّ العنف في عطلة أيضاً، كأنّ مبانيها ترتاح من أصوات تخترق جدرانها المصفرّة. يبقى الصباح صامتاً نهار الأحد سوى من أصوات بعيدة لأجراس كنائس دون قلب. أجراس تطلقها كبسة زر. أصوات تقابلها من مسافة ليست بعيدة صلوات المؤذّنين. المدينة نائمة اليوم، كذلك البحر. كأنّني أتصالح مع بيروت اليوم. بيروت تغيّرت. إنّها مدينة أخرى، ولا أشعر بألفة معها إلّا نهار الأحد. حينها تعود مدينتي إلى ذاتها.

نهار الاثنين وصل نور ليصطحبني إلى العشاء. أضحكني حين قال إنّه اشتاق إليّ منذ أمس، وإنّني أصبحت بوصلته الوحيدة في بيروت. فكّرت بدوري أنّ بيروت موحشة لشخص مثله، لا أصدقاء قدامى له هنا ولا أهل. تحوّل العشاء بيننا من حدث عاديّ إلى مقابلة يجريها معي. قال لي إنّه يكتب عن اللبنانيّين العائدين بعد الحرب ويريد أن يستمع إليّ. لم أعد أجد ما أقوله، كأنني فقدت النطق، وخاصة بعد ملاحظته هذه، وبعد أن رأيته يخرج مفكّرته ويدوّن فيها بضع جمل أصف فيها عودتي إلى بيروت.

كان علينا أن نلتقي، نور وأنا، كلّ يوم كي يكمل حديثه معي. صرنا نلتقي معظم الأحيان في مكتبه الصغير الّذي استأجره قرب بيته في رأس النّبع. استأجره من طبيب أسنان هجر عيادته وسافر إلى الخليج. في اللّقاء الأخير طلب منّي مساعدته في المقابلات التي يجريها مع أناس لا يعرفون اللغة الإنكليزية. الوقت الطّويل الذي صرت أمضيه معه لم يكن يزعجني. بتنا نعمل حتّى وقت متأخر وما إن أدخل المكتب حتى يقدّم لي الكرسيّ الجلديّ قربه، ثمّ يعدّ الشاي. بدأ يخبرني قصصه الخاصّة، يقول لي أشياءه الجميلة، ولم أكن قد سمعتها قبلاً. لم أسمع أشياء الرجال الجميلة قبل الآن. لم أسمعها لأنّها لم تعن لي شيئاً، ذلك أنّ الكلمات لا تنفصل عن أصحابها. جلس قربي، كانت مسافة صغيرة بيننا. فكّرت بإيناس الشابة الّتي تأتي إلى مكتبه أحياناً لتفريغ التّسجيلات الصوتيّة. تقول إنّها ضجرة وإن جوّ العمل في المكتب الصحافيّ لا يلائم مزاجها. تتأفّف، تقوم وتفتح النّافذة إلى يسار طاولته. ثم تغلقها، تختلق الأعذار كي تدخل غرفته وهو يقدّم لها كرسيّاً مشابهاً للّذي يقدمه لي. رأيتها اليوم تدخل إليه لحظة خروجي. تساءلتُ كمراهقة كيف يستقبلها يا ترى. هل يستقبلها كما يستقبلني؟ هل يحتار أين يضع نظرات عينيه أم ينساهما ملقيّتين بقوّة وبلون السّماء والبحر على وجهي. أدير وجهي كأنّني لا أحتمل أسئلتي أكثر من لحظة. قوّة خفيّة سترفعني عن الكرسيّ وتدفعني إليه. تدفعني بقوة، لأقرّب المسافة الشاسعة بيننا، تلك التي لا تتجاوز المتر الواحد.

في موعدنا الصباحيّ اتصلت به قائلة له أن نلتقي في أيّ مكان على البحر بدل العمل في المكتب، ذلك أنّ شمس الشّتاء ساطعة وجميلة اليوم. في المقهى المتّكئ على شاطئ البحر رشف رشفة واحدة من café latte ثمّ أبعده فجأة عن شفتيه. قال إنّ الحليب الممزوج بودرة، وإنّه لا يستطيع شربه ويريد حلبياً طازجاً، ولم يفهم الغارسون ماذا عنى نور بذلك. "بس والله هيدا طازه يا مدام هلق خلطته بالمي"! ردد الغارسون هازّاً برأسه يميناً وشمالاً كمظلوم فقد الأمل، موجّهاً كلامه إليّ كأنّه يطلب منّي إنقاذه.

عدنا إلى المكتب وبقينا حتى المساء نعمل في ترجمة المقابلات وطباعتها. حين اقترح أن يرافقني إلى بيتي كان علينا أن نسير نحو شقّته كي يأتي بالسيّارة من هناك. كانت تمطر قليلاً وكنا قد اجتزنا الدّرج الطّويل المعتم معاً تحت مظلته، اجتاحتني رغبة في لمسه، في شمّ رائحته. إلّا أنّني بقيت على مسافة منه ملتذّة بشعوري هذا. مررنا قرب بيته الذي هو عبارة عن طبقة أرضية تسوّرها حديقة صغيرة وأراد أن يريني حديقته. كان ضوء خافت ينبعث من إحدى النوافذ المطلة على الحديقة. تساءلت هل هذا ضوء غرفته، كيف هو شكل سريره. أردت الدخول إلى هناك لأرى بيته، إلا أنني بقيت أنتظر أمام شقته ريثما يأتي بالسيارة.

أدار المحرك وجلست قربه، ثم راحت تمطر بقوة، كنت أحاول أن أسمع ما يقوله لي، ولم أنجح. بل كنت أراقب حركة يده على المقود وأفكر كم قصيرة هي المسافة بين جسدي وجسده. أخذ طريق الكورنيش في عين المريسة قبل أن يوصلني إلى بيتي في شارع المكحول. كان المطر يزداد على الزجاج وأمواج البحر تضرب الإسفلت على الكورنيش. مضى وقت قبل أن يوقف السيارة ويفتح الباب ويخرج. دار حول السيارة وفتح الباب الذي بجانبي. خلت أنني قلت أريد أن أبقى هنا في السيارة أتأمّل الموج، إلا أنني لم أقل ولم يسمع ما لم أقله، خرجت ونظرت إليه، لوّح لي بيده وهو يدخل ثانية إلى سيّارته. استدرت نحو مدخل المبنى فيما ترطبت عيناي بقوة رغبة متوتِّرة.

* * *

اليوم كان عليّ أن أزور وزارة المهجرين لتسليم الموظف مستندات جديدة. لم تكن لدي رغبة بالذهاب. اتصلت بنور ثم خرجت لملاقاته في المكتب. قطعت مسافة طويلة سيراً قبل أن أجد سيارة أجرة، لذا وصلت متأخرة. ليس من السهولة إيجاد سيارة سرفيس تقلّني من شارع بلس إلى رأس النبع. كان علي أن أنزل في شارع بشارة الخوري ثم أتابع سيراً. كان غارقاً في عمله أمام الكومبيوتر. طلبت منه أن نخرج لأنني أكاد أشعر بالاختناق. ترك كل شيء وخرج. ترك جهاز الكومبيوتر شاغلاً. خرجنا وقبل أن يقفل الباب، سألني هل الجو بارد في الخارج. قلت إن ما يلبسه أكثر من كافٍ، قال أسأل لأعرف إن كان عليّ أن آتي بالشال الصوفي. قلت إنّني سمعته مرة يقول إنه لا يحب البرد، فليأت به. ابتسم ثم أتى به. أحببت بساطته. أحببت طوعه. مشينا حتى سيارته. حكى ثانية عن عمله ومقالاته، وأهله، وغربته واقتلاعه، وعن بيته الذي يحمله على ظهره كسلحفاة. كان الجوّ بارداً وكان الهواء يدفعنا إلى الأمام، شعرت ببرودة أحببتها، هو اختار النزول بالسيارة صوب المنارة. قلت هناك نمشي قليلاً ثم نذهب لنشرب شاياً أو قهوة في مقهى الروضة. طالما أحببت هذا المقهى. قبل تركي بيروت، قضيت شتاءً كاملاً هناك في الغرفة الزجاجية أكتب شيئاً من حياة الآخرين، التي هي حياتي. أكتب ولا يقرأني أحد سوى أولغا.

منذ خروجنا من مكتبه كان ثمة شيء قسري يرتفع بيننا ثم سرعان ما يتلاشى، زيارة مدفوعة برغبة مبهمة، وسوء فهم، أو ربما تساؤل منه، ماذا أريد، ولماذا اتصلت به كي نخرج ولماذا أنا هنا. تركته يتساءل عبر صمتي الذي لم أشأ تبديده، لعلّ صمتي يدفعه إلى إخراج تساؤله المضمر إلى حيّز السؤال. لم يسأل ولم أشأ التفسير، لأترك حياتي هذه المرة تجد طريقها، لأترك رغبتي للهواء الذي يلعب بسطح الماء ويحوّله إلى أمواج عالية تضرب حافة السور الأبيض في المقهى. كنت أشاهده من مكاني حيث جلسنا، اخترت المكان الذي أستطيع أن أرى منه البحر. لم أشأ أن أدير له ظهري.

تغمرني رغبة أقوى منّي، أترك نفسي لها تأخذني ولا أعود أبصر ما يبصره الآخر. أترك نفسي لرغبة حسبت أنني فقدتها. كيف لي أن أعلم ما في داخله؟ يتكلّم بطلاقة. أستمع إليه وسط اكتفاء هادئ. أستمع إليه وأفكر به. تكفي رؤية أصابعه التي تمسك السيجارة ويهمّ بإشعالها لكي أرتعش. يتوقف ليتابع حديثاً بدأه. هكذا أيضاً أراه يراقبني حين أنسى سيجارة بين أصابعي، وأجد نفسي ممسكة بعود كبريت لم أشعله بعد. ثم أضع كل شيء جانباً وأشرب الشاي الذي برد. حين خرجنا من الروضة كانت الثامنة مساءً. رافقته إلى بيته. أمام الباب أردت أن أقول له: أدخلني إلى قلبك أو إلى بيتك، بدل ذلك قلت له أريد أن أرى حديقتك الصغيرة هذه المرة. فكرتُ هل أريد فعلاً الدخول إلى قلبه. هل سيكون باستطاعتي تحمّل عبء علاقة، أم أريد فقط أن أطل برأسي قليلاً لأرى مكانه وحياته، لأرى برغباتي وجسدي وعيني. أطيل النظر ثم سرعان ما أضجر فأدير وجهي وأستقبل الريح الآتية من الخط الأخير للّون الأزرق.

في بيته الصغير دخل المطبخ ليعدّ عشاءً لنا نحن الاثنين. وقفت أتأمله. كان جميلاً هناك وهو مأخوذ بإعداد أكلة أُحبُّها. أخرج كيس ثمار البحر المثلجة وسرعان ما أعدّ الرز والسلطة. روائح التوابل تنتشر في المطبخ وفي أنحاء الشقة، فيجتاحني جوع سريع. كان نور يعمل بسرعة فيما كنت أطلق أصوات جوع ورغبة في الطعام، وأروح أفتش عن قنينة نبيذ أبيض أشار لي بأنها موجودة في عمق البراد. مع الكأس الأولى شعرت بقوة وكأنني أعيش حياة أخرى. حياة لا تشبه أياً من حيواتي السابقة في بيروت أو في أستراليا أو في كينيا. حيوات أخرى لي، حيوات تشبه لقائي الأول مع جورج، حيوات تشبه محتويات الدفتر الذي نسيته في الطائرة. كأنني نسيته قصداً مني. حيوات تبدأ من مكانين أو أكثر، أو من لا مكان. قصص مختلفة لا تلتقي. حيوات مصدرها فائض من الحب وفائض من الرغبة، تلك التي قد لا يستطيع إرضاءها رجل. حيوات أفتح لها هلالين دائمين في قلبي. أفتح له أيضاً وأدعوه للدخول.

حين تعانقنا سؤال صغير لمع في رأسي: لماذا احمرّ وجهه حين تقارب جسدانا؟ لماذا يخاف الرجل من اللحظات الأولى، خوفاً متوتراً حاداً يشرّع جدران الغرفة ويعيد قلق عوالم الأرض كلها إلينا. لكن اختفت أسئلتي كلها في لحظة خاطفة تختزل عمراً بأكمله. حلّ محلها شغف خالص خُيِّل لي أنني فقدته إلى الأبد. في لحظة قلت له "حاسة حالي عم سافر!". أغمضت عينيّ. "إللي عم يصير بيننا أجمل من السفر" همس، دافناً وجهه في شعري ثم يروح يقبلني في وجهي وعنقي. هل ما يحصل لي الآن يشبه لقائي الأول مع جورج. لم نضحك كما فعلنا جورج وأنا. كان الحب حينها لعبة نلهو بها. كان سهلاً وخفيفاً ودون ألم. أما الآن فهو استعادة لرغبة خلتُ أنها ماتت منذ زمن. استعادة لا تخلو من نوستالجيا لا أدري سببها. صار يأتي كل ليلة إلى شقتي في شارع المكحول. تتحول الشقّة الهادئة إلى نوع من ساحة احتفال وحياة. لم أعرف الجنس في حياتي كما عرفته مع نور. صار يطبخ لي فيما أجلس في الصالة الصغيرة مقابل المطبخ أنظر إليه، وهو يحاول إيجاد الأوعية اللازمة للطبخ. كان وديعاً وهادئاً هناك حيث يقف. غاص قلبي حبّاً. أحببت ذلك الرجل الذي صار يطبخ لي. اختلطت رغبتي نحوه مع ذكريات لروائح التوابل الشهيّة التي كانت تنبعث من مطبخ ناديا وأنا صغيرة. كان أمراً لذيذاً ورائعاً أن أتذكّر أمّي فيما رجل يطبخ لي، هكذا تختفي أدوار الأنوثة والذكورة ولا يبقى حولنا ومعنا سوى الحب والرغبة التي تشتعل من جديد مع كل انطفاء. خيط رفيع بين تنهيدة الفراق وتنهيدة الوصال. الفرق تحدّده فقط تلك المسافة بين الجسدين، يحدده أيضاً الوقت بين اللحظتين.

أعود لأبحث عن مكان حسبت أنني أضعته، هل يبحث نور أيضاً عن مكان له هنا. قال لي لا أنتمي إلى أيّ مكان، لا هنا ولا هناك في البلاد الأخرى حيث تربيت. إلى أين ننتمي يا ترى؟ هل للانتماء شروط مسبقة؟ هل تُبدّدُ حيوات الهجرة والتنقّل من مكان إلى آخر تلك الشروط، أم لا علاقة للهجرات بها؟ هل الانتماء مقرون بالثبات، وهل انعدام الثبات هو سبب القلق الذي يرافقنا، أم الحرب هي السبب؟ هل ... هل ... ثم ذلك القلق، ليس الآن فقط، ليس منذ تركي بيروت فقط، ليس في أستراليا، ولا في مومباسا، قلق يرافقني كظل. قبل سفري كنت أنتقل من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا. من الجبل إلى المدينة ثم أهرب وأعود أدراجي، أجد نهيل تقرأ في كتاب الحكمة، أو أمام عتبة البيت ترمي طعاماً للعصافير. أجد أقفاصاً فارغة ومفتوحة أبوابها دائماً. كلما وجد عبدو، الذي يعتني بحقول جدّي، عصفوراً ملوّناً وضعه في قفص وأتى به إلى نهيل التي سرعان ما تُخرج العصفور من القفص، تضعه على كفّها المفتوحة إلى الأمام، ثم تتركه يطير في الفضاء.

أشعلت سيجارة وأنا ما زلت في الفراش. قال نور إن لديه حساسية ولا يتحمّل التدخين في غرفة النوم، لكن فقط هذه المرة. لم أجب. سألته وأنا أُطفئها إن كان يأخذني في سيارته غداً لزيارة عائلة جورج. اعتذر. كرّرت طلبي بإلحاح. قَبِل أخيراً!

*    *    *

رافقتنا أولغا لزيارة والدة جورج. صديقي الذي أبعدته الحرب عن بناء حياة لنا في أستراليا. وجدت أمه تنتظرني ومعها شقيقة جورج. السيجارة في يدها كأنها لم تتركها منذ وداعي لها قبل سفري منذ 15 سنة. بكت حين رأتني. قالت لي انها ما زالت تنتظره، وأنها تشعر بقرب موتها وأنها أوصت ابنتها على متابعة البحث عن جورج. "بعد الأم بس الأخت فيها تكمّل القضيّة" قالت وغصّت. بكيت أنا أيضاً. فهمتُ في تلك اللحظة سبب مجيئي لرؤيتها. هي الشخص الوحيد الذي برؤيته يمكنني الانتهاء من حِدادي المزمن.

في طريق العودة لم تتوقف أولغا عن الكلام. كأنها تريد محو آثار تلك الزيارة. "خلصت الحرب ... خلصت!" قالت أولغا بصوت غنائي مادّة ذراعها بطريقة استعراضية من نافذة السيارة التي يقودها نور ومشيرة بيدها إلى الخارج. "شوفي الشوارع ليكي عجقة السير .. ما في غرف فارغة بالفنادق". لا أدري في تلك اللحظات أين هي أولغا بالفعل، هل تمزح أم هي تغمز من قناة الشاشات المتلفزة، التي تهلّل طيلة اليوم بأن الحرب انتهت، في وقت ما زال فيه الرجال يختفون ولا يجرؤ أحد على السؤال عنهم. أعلم أن أولغا تكذب على نفسها وعلينا، وأن ما تقوله لا تؤمن به على الإطلاق.

"مش رح نخاف مرة تانية، خلصت الحرب"، تابعت إنهم أزالوا كل السواتر الترابية، ما زال هناك ساتر واحد على أوتوستراد جونية قرب نفق نهر الكلب. قالوا إنهم "سينظفون" المنطقة قريباً. أمس "نظفوا" أماكن "القوات اللبنانية"، واعتقلوا العديد منهم، قلت في سري. قبلها اختفى مسؤول في حزب الكتائب، وقالوا إن أجهزة الاستخبارات السورية أخفته، ثم بعد ذلك رجل آخر وآخر. كل ذلك يجري في زمن السلم. "خلصت الحرب" ردّدت ما قالته أولغا دون صوت، فيما نظرت إليها بلوم كأنها لا تريد أن ترى الحقيقة، كأن ما تقوله كذبة تريد هي أولاً تصديقها. أشرت لها بيدي أن تصمت. صمتت أولغا إلا أن كلامها أعادني إلى ماضٍ أردت نسيانه. لماذا ألوم أولغا إذاً. أنا أيضاً أريد أن أتذكّر ماضياً بلا ألم.

بيروت مثقلة بالألم، لكن ربما أولغا معها حق، ماذا تنفع الذاكرة؟ ليأتِ موج البحر ويغسل كل شيء، ليسحب على حكايات الماضي وقصصه، على الكراهية والحقد. بدوتُ لوهلة كأنني أعيش لحظات الحرب كما هي، تلك التي عشتها منذ أكثر من 15 سنة. كأنها نائمة في جسدي، ولا تحتاج سوى إلى دفعة صغيرة كي تستيقظ مرة أخرى، وتطفو على سطح ذاكرتي. لكن أريد أن أبدأ من جديد، أن أفتح عينيّ ذات صباح وأرى شمساً لا تذكّرني بأي أمس، بأيّ حرب.

عدت إلى بيروت فارغة اليدين، حيث بدأت خسارتي. خسارتي التي هي كل ما أملك الآن. في لحظة ما طلبت من نور فجأة إيقاف السيارة قريباً من المتحف. عمّال كثيرون وإعادة بناء وترميم. أذكر أنه هنا في هذا المكان أوقفني الحاجز! هنا! أجل هنا! هنا أوقفني الحاجز قبل سفري. "انزلي ولييه!" صرخ بي مصوّباً الرشاش نحوي. هو نفسه الذي اقتحم السوبرماركت وأخذ كل علب حليب الأطفال عن الرفوف، حتى عن عربات المشتريات التي كانت تجرّها نساء حوامل. أليس هو ذاته يا أولغا؟ أسالها فيما أشير بيدي إلى الخارج. انظري إليه يلبس قميصاً وربطة عنق ويضع شيئاً على خصره، ما هو؟ مسدس؟ لا ليس مسدساً بل هاتف خليوي، تقول أولغا. أليس هو ذاته الذي أوقف امرأة وهي تجتاز المعبر بين المتحف والبربير وأخذ منها 3 قناني مياه كانت تحملها إلى بيروت الغربية وقت الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت وجفافها من المياه.

أنتِ بعتّيلي قصاصات الجرائد والأخبار والصور وكل شيء شو نسيتِ؟ أسألها وأنا أحاول مقاومة الدموع في عيني. "إيه ... نسيت ..." تجيب أولغا بما يشبه من أسقط في يده. "أنا ما نسيت، ما نسيت" أردّد فيما يظهر نور خوفاً من شيء لا يستطيع التعبير عنه، فقط ينظر إليّ ويربّت فخذي بباطن يده كأنه فهم كل ما أقول. تقفز أولغا من مقعدها الخلفي وتمسك كتفي بهلع لإسكاتي كأنني مجنونة أهذي. "خلص اسكتي! إنتِ ما كنت هون، أنا كنت، أنا عشت الحرب وأنا من حقي انسى. تلات ارباع الناس اللي بضلّوا يحكوا عن الذاكرة، ما كانوا هون وما شافوا شي ... خلصينا بقى! بدنا ننسى، واللي بدّو ينسى خلّيه ينسى، النسيان مش جريمة!" تقول فيما تشدّ على كتفي بيديها كأنها تخاف عليّ من كلماتي، أو ربما تخاف على نفسها هي، ثم ترفع إحدى يديها عن كتفي ممسكة بوجهي طالبة مني أن أستدير ناحيتها كأن ما ستقوله مهم جداً وعليّ سماعه. تستريح قليلاً كأنها تعي أن ما قالته كان قاسياً عليّ "ما في داعي لكل هالحكي، تعي نغنّي لأسمهان، بعدك بتحبيها بعرف. قلت لها إنني لم أسمع أسمهان منذ وصلت إلى بيروت، كأنني تركتها هناك في بيتي في مومباسا. كان صعباً عليّ في تلك اللحظة تذكر أيٍّ من أغنياتها كأنها امّحت من رأسي تماماً. قرّبت أولغا وجهها من شعري وأحاطت كتفي بذراعيها هامسة "أكيد مش عم تسمعي صوتها"، لتستعيد صوتها المرتفع وتقول بما يشبه العتب "ليش هلق في شي براسك تفكري فيه غير الحرب؟" نظرت إليها وفكرت أن من حقها أن تعتب عليّ، أنا التي أتمتع بصحة جيدة، بينما هي تعلم في أعماقها أن وضعها الصحي لن يسمح لها بعيش حرب أخرى، ولا سلم يأتي بعد الحرب، لكن برغم ذلك تستميت في الدفاع عن سلم هشّ كاذب.

هي تعلم أن الحرب لم تنته تماماً كما تعلم أن استقرارها الصحي غير صحيح، كذبتان تعينان على الاستمرار. كأن الحرب انتهت، ومع ذلك بقينا نحتاج إلى كثير من الكره كي نعيش معاً. كي نعيش السلم. كثير من الكره كي تستمر العائلات ويكبر الأولاد، وتقوم المدن وتُبنى الأوطان. نحتاج إلى كثير من الكره كي نستمر، وإلا فسنموت ولن يدري بنا أحد.

قالوا الحرب انتهت!

لن أجد في العالم مكاناً تكون فيه الأفكار والكلمات كاذبة إلى هذا الحدّ كبيروت. لكن برغم كل ذلك أجد نفسي متورّطة هنا. تذكرت ما قاله لي صحافي صديق لنور، التقيت به منذ أيام، "في بيروت كل شيء يبدأ دراما ويتحول إلى كاريكاتير". من السهل على صحافي قول ذلك، فكرت. "هل كل ما يجري الآن كاريكاتير إذاً؟" سألته.

صرت أردّد كلام أولغا بصوت عال كأنه كلامي، خلصت الحرب مش رح نخاف مرة تانية، أزالوا كل السواتر الترابية، ما زال هناك ساتر على أوتوستراد نهر الكلب. قالوا إنهم سيطهرون المنطقة قريباً. فكرت بما قالته أولغا وبما قاله الصحافي وقلت إنني على كل حال، لن أستعمل هذه الطريق كثيراً خلال وجودي في بيروت. قد أستعملها في زيارة ثانية إلى أهل جورج قبل سفري إلى كينيا. لكن هل سأعود إلى كينيا، إلى بيتي هناك في مومباسا؟

لو فقط استمع جورج إليّ يوم سفري. لو فقط أصغى إلي. لو قَبِل السفر معي. ربما كان الآن هنا، ربما أنقذ نفسه من الاختفاء أو القتل أو التعذيب. ربما كان أنقذني أنا من رحلة طويلة من الانتظار، ومن زواج لم أرده منذ البداية. سنوات من الشك والانتظار بين أستراليا وكينيا. تساءلت لماذا أصررتُ على اصطحاب نور في رحلتي اليوم؟ لماذا طلبتُ منه مرافقتي لزيارة أهل جورج؟ هل لأنّني أريد دفن الماضي بتلك الزيارة أم لأنّني أريد أن يشاركني نور ذلك الماضي بقوّة؟

التقيت جورج منذ أن التحقت بالجامعة إلاّ أنّ صداقتنا لم تولد إلاّ حين عملنا مع الفلسطينيين في فتح. كان يقود سيارته كل يوم من بيته في سن الفيل إلى بيتي في زقاق البلاط، يصطحبني إلى مخيم شاتيلا حيث كنا نعمل متطوعين في المستشفى. كان هذا عندما كانت المعابر بين البيروتين لا تزال مفتوحة. مضى وقت قبل أن نلتقي كحبيبين. صرنا نلتقي في بيت انتصار ومالك وبعدها بفترة قصيرة في شقة استأجرها جورج في الجامعة العربية في مكان قريب من المستشفى. أذكر اليوم الذي قررنا فيه الانتقال إلى مكان أكثر أماناً، كنا في غرفة انتصار ولم يكن أي منهما، أي مالك وانتصار، في البيت. كنت مستلقية عارية وكان جورج راكعاً على ركبتيه يقبل كل جزء من جسدي، فيما يده تداعب برفق صدري، فجأة سمعنا فتح باب. كانت شقيقة انتصار التي تسكن معها عائدة من المدرسة. أما لقاؤنا الأول فبقينا نذكر كيف بدأ ونضحك معاً. كنا نتعشّى في بيت امرأة دنماركية تعمل متطوّعة في المستشفى في مخيّم شاتيلا. هناك بعد العشاء خلعت اسكربينتي وتركتها وسط الصالون قرب قدم طاولة السفرة. في نهاية السهرة كان على جورج أن يوصلني إلى بيتي وكان النبيذ حينها بدأ يثقل رأسي. طلبت منه أن يساعدني للوصول إلى السيارة ولم أعد أذكر ما حدث خلال الطريق. لا بد أنني نمت ذلك أنّني ما زلت أذكر كيف راح يربت وجهي وكتفي برفق كي أستيقظ قائلاً "ميريام ميريام يللا وصلنا". وحين لم أرد سأل مداعباً بتنامي عندي؟ وحين لم أرد أردف بخبث ظاهر بتنامي معي؟ استيقظت بكل حواسي حينها كأنّ جرساً في رأسي دقّ فجأة، وحين هممت بالنزول دسّ في يدي ورقة عليها رقم هاتفه قائلاً "منعرف بعض من زمان وما منتصل ببعض. لن أتصل أنا أولاً برغم رغبتي الكبيرة في لقائك مرة ثانية. أترك المبادرة لك". كنت نعسة لكن مستيقظة بما يكفي كي أسمعه جيداً وكي أحب ما قاله. أحببت بساطة تعبيره عن رغباته.

في لقائنا الثاني أخبرني كيف أن اسكربينتي ألهبت خياله وألف قصيدة ليلتها! قال هذا ضاحكاً ثم وقف متابعاً كأنه يقرأ من كتاب "كان يكفي أن أرى فردة اسكربينتك المقلوبة كي تقلبي حياتي رأساً على عقب"! نادراً ما التقينا من دون العودة إلى ذكرى تلك السهرة. كان يردّد وهو يقبّل كل بقعة في جسدي: كان يكفي أن أرى فردة حذائك متروكة بإهمال على البلاط العاري قرب طاولة السفرة، لكي أتخيلك في السرير هناك، عارية. كان يكفي هذا لكي أشتهيك، ولكي أُثار وأنا أتخيّل رجليك العاريتين تلتفان حول خصري وأنا فوقك".

بت أعتقد أن جورج لن يستطيع ممارسة الجنس من دون أن يعود الى تلك القصة. كان يأتي بالفواكه إلى السرير قبل ممارسة الحب ويروح يطعمني حبة العنب ثم يقبّلني ويدخل لسانه في فمي ليشاركني الفاكهة. أحياناً كنت أشعر ونحن في السرير بأننا نلهو كالأطفال وأن جسدينا يجدان طريقهما إلى اللذة دون خطيئة.

في المرة الأخيرة قبل سفري إلى أستراليا مارسنا الحب عند الصباح الباكر. هذه هي اللحظات الأكثر متعة له. همست له باسترخاءٍ ورضىً بعد الانتهاء من ممارسة الحب: مغفورة لك كل خطاياك الماضية، وتلك التي لم تقم بها بعد منذ الآن، وحتى 500 سنة. ردّ ضاحكاً: نعم نعم يا ربّتي يا إلهتي! قلت له بعدما وضعت يدي بين ساقيّ حيث ما زلت أسبح في ماء الحب الشهي وسحبتها مبتلّة "وهذا ماء نيروني خذه عمادة لك" ومرّغت جبهته ووجهه بيدي. قلت له إن الطقوس، من أي دين أتت، هي جنس خالص، وإن أفضل لحظات ممارسة الحب لديّ هي خلال أوقات الصلوات، ذلك أن في ممارسة الحب الشيء الكثير من الطقس الصوفي. استغرب جورج مقارنتي بين ممارسة الحب والصوفية، ورد بشيطنةٍ أُحبها: عدد الصلوات كثير ولن يقدر رجل واحد على أن يلبّي رغباتك. قلتُ بل عدد الصلوات أكثر ممّا تظنُّ، خاصة إذا جمعتَ طوائف العالم وأضفت إليها أوقات الصلوات لكل طائفة. لن يكون الأمر سهلاً علينا في لبنان يا حبيبي، فمن الصعب معرفة العدد! قلتُ بسخرية.

"من حُسن الحظ أن طقوسكم تتمّ بدون أصوات عالية". علّق ضاحكاً!

 خبيث وفاحش! قلت له فيما ارتميتُ فوقه.

الحرب خطفت جورج، وما زالت عائلته تنتظر عودته. لا هو بميت ولا هو بحيّ. هو بين المنزلتين. معلّق بين الحرب والسلم، بين الماضي والحاضر. أذكر يوم التقينا في شقتنا في الجامعة العربية، أخبرته أن الفحص الذي أجريته أثبت أنني حامل، وأن الطبيب نصحني بالإجهاض لأنني "بنت عيلة وناس ومش شرموطة" كما قال يومها، ولأنني ما زلت عزباء. أردت الصراخ في وجه الطبيب إلا أني بدل الصراخ أغمضت عينيّ بانتظار أن ينتهي من كلامه، ثم أبعدت يده عن بطني العاري، ونزلت عن طاولة الفحص، لأرتدي كيلوتي وأخرج على عجل. بعد أن أجهضت طفلي لم أعد أرى جورج. كنت غاضبة منه ومن نفسي ومن كل شيء. إلا أن فراقنا لم يدم طويلاً.

بعد سقوط تل الزعتر ما عاد جورج يذهب كثيراً إلى الحي في بيروت الشرقية حيث يسكن. يعرفون وجهه هناك. صار يخاف، إلا أن خوفه لم يمنع خاطفيه من إخفائه. لا أحد يعلم كيف اختفى وأين. أخبار كثيرة قيلت منها أنه خُطف في بيروت الغربيّة وتحديداً قرب شقّتنا في الجامعة العربية، ومنها أنه خطف من السفينة بين بيروت ولارنكا، أو ربما قبل أن يصعد إلى السفينة بدقائق.

*    *    *

كان عليّ أن أترك نور قبل الخامسة بعد الظهر. انتصار بانتظاري في مقهى الروضة. رحت أنتزع جسدي برفق من بين ذراعيه. بدوت في تلك اللحظة كمن تعيد حباً مسروقاً إلى أصحابه.

خرجت للقاء انتصار وقررت أن أمشي محاولة أن أجد طريقي بصعوبة بالغة بين غابة السيارات المتوقفة على الأرصفة بين رأس النبع والروشة. وصلت إلى مقهى الروضة وكانت انتصار بانتظاري مع مالك. لم أرهما منذ 15 سنة. كم تغيرت انتصار، بدا وجهها أكثر استدارة، لكنّه أكثر اصفراراً وذبولاً. بدا جسدها أكثر ثقلاً وأبطأ حركة، إلا أن لمعان عينيها وضحكتها المتوترة بقيا ماركة مسجلة لصاحبتها. عانقتني وهي تصرخ "حياتي ميمو"، هكذا كانت تناديني أيام الجامعة، "يا الله شو مشتاقة" تتابع وهي تقبلني محدثة صوتاً كالمفرقعات الناريّة. فجأة شعرت بأناس يحوطونني ويشكلون حولي حلقة كبيرة. أرادت انتصار أن تفاجئني فدعت كل الأصدقاء القدامى. ضحكات وأسئلة وقبلات ودموع، عناق ثم سرد قصص قصيرة ما زالت عالقة بقوة في الذاكرة. بعد تركي لبيروت مباشرة تبادلت الرسائل مع بعض هؤلاء الذين أراهم الآن، ثُمّ انقطعت الاتصالات بيننا بعد سفري من أستراليا إلى كينيا. انضمّ إلينا كثير من الأصدقاء والصديقات الذين لم أرهم منذ زمن. لم أتوقّع أن تجمع لي انتصار كل ذلك العدد من الأشخاص ترحيباً بعودتي. شعرت بأنني ضائعة معهم ولا أعرف ماذا أقول. "أكثر شي بتذكرو رسائل الحب اللي بعتناها لإستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة، يا الله عهيديك الأيام كنا مبسوطين، برغم الحرب!" بادرتني ريما ونحن نتعانق ضاحكتين. "كنا شياطين" قلت لها، فسألتني مداعبة "وإنتِ بعدك هيك"؟

رسمنا قلوباً وصوراً حمراء وقبلات قبل أن نودع الرسالة مكتب بريد الجامعة وعلى الظرف اسم استاذ العلوم الاجتماعية ورقم باب مكتبه في قسم الآداب والعلوم.

في مقهى الروضة رأيت معظم الأصدقاء. هؤلاء الأصدقاء الذين تغيّروا. لحظات صمت عبرت بيننا لم يُبدِّدها سوى حكايات الماضي، حكايات الزمن الذي كنّا فيه معاً. كان عليّ التركيز جيداً حين يتكلمون في السياسة وخاصة سياسة البلد. أُركّز على أحاديثهم ونقاشاتهم كي ألتقط الخيط كما يقولون لي. لكن برغم ذلك لم أفهم كل شيء. قالت انتصار "في هذه البلاد تجدين مجموعات مختلفة. في ناس بيحكوا عن الحرب كأنّها صارت ببلاد ثانية. كأنهم نسوا كل شيء. صارت سنوات الماضي حدثاً يُقرأ في كتاب. هناك من نسي كيف وقف الناس على الشرفات يصفّقون لشباب الميليشيا وهم يجرّون رجلاً أعزل حدث أنه من طائفة مختلفة. اختطفوه من على حاجز طيّار أو نقطة تفتيش. بالطبع يقولون الحرب انتهت، ربما لم ينته شيء. هناك مكان للجميع: لمن يريد النسيان ولمن يريد التذكّر. المهم تعرفي انت بالذات وين بدِّك توقفي. قالت انتصار وهي تنظر في وجهي بعينيها الواسعتين. بدت كأنّها تشير لي بإصبع إتهام لجريمة قمت بها، ولا أدري ما هي بعد. على الأرجح هي جريمة الذاكرة وخاصة ذاكرة أُولئك الذين تركوا البلد خلال الحرب. كأنّ من هاجر لا حقّ له بالتذكّر، تذكّر العنف وتذكّر الحرب. الحرب لم تنته. قلت في نفسي بينما تتابع انتصار حديثها الذي بدا كخطاب مُعدّ سلفاً. لا تذهب حكايات الحرب إلى أي مكان بل ترتدّ وتعود إلى المكان ذاته الذي انطلقت منه وتندلع لتأخذ أحياناً أشكالاً أكثر عنفاً.

تاريخ يعيد نفسه. هل ذلك بسبب طبيعة المكان؟ هل هو بسبب الجلول التي تتميّز بها الأرض هنا، أتى التاريخ على شاكلة الأرض مقطعاً متكسّراً لا يكتمل بل يعيد نفسه كخطوط مكرّرة. هل بسبب مُدننا التي تموت ولا تجد من يدفنها؟ لماذا هنا، في هذه البقعة بالذات من العالم يلد العنف نفسه مئات المرّات؟

وسط الأصدقاء والصديقات، وسط النقاش والصراخ ثم الصمت، فكرت أنني ألعب خسارتي هنا؛ هذا كل ما أملك في بيروت.

ريما التي تستعدّ لافتتاح مطعم في وسط المدينة تعلّق على كلام انتصار وتقول إنّ الحرب انتهت. لم أعر كلامها أيّ اهتمام. كأن الكلمات تستمد صدقيّتها مِمّن يتفوّه بها ولا قوّة لها خارج ذلك. تصبح مجرّد أصوات كأصداء ريح في غابة. قريبة لريما عادت من الخليج واستأجرت مبنى قديماً رُمّم حديثا كي تفتح سلسلة مطاعم أوكلت إلى ريما أمر إدارة أحدها. عظيم! قالت انتصار.

كل شيء يجري وكأنّ الحياة عاديّة هنا، فيما الحواجز ما زالت مرتفعة في أمكنة عدة. الناس في بيروت يقومون بكل شيء يحلو لهم، لكّنهم كي يهضموا ما يفعلونه يأكلون النوستالجيا بالشوكة والسكين، ثم يوزّعون ما بقي منها في الميديا. تتحوّل البيوت القديمة إلى ردم تقوم فوقها ناطحات السحاب، أو إلى مطاعم وملاهٍ ومراكز دينية. تميل وفاء قليلاً نحوي كأنّها تريد مشاركتي في سر ما، وتقول إنّها مثلي لا تفهم ما يجري. تعذّبني محاولتي الدائمة فهم ما يجري، تقول.

"الحواجز بعدها وين ما كان، ما في شي زابط. بعدها مش رايقة بس ... بيقولوا الحرب خلصت! مش عم إفهم، منشان هيك عم أعمل يوغا!" تقول وفاء بسخرية مريرة. أبديتُ رغبتي في مرافقة وفاء إلى صف اليوغا واتفقنا أن نذهب معاً الأسبوع المقبل.

"ما تحاولي تفهمي وركّزي على صفوف اليوغا حبيبتي أحسنلِك!" تقاطعها انتصار، التي سمعتها للأسف، بعدوانيّة مبطّنة، ثم "إنتِ كمان! ما بِيكْفينا ميريام! بس ميريام كانت مسافرة وانت شو هيِّ حجتك بعدم الفهم؟ ما بقى تربطي شي بشي ... السواتر والحواجز بعدها ... إيه شو يعني؟ بدّك تقولي إنو الأمور ما هدأت بعد، بس الحرب توقّفت. أوكي اقبلي إنّو هون هيك القصص بتصير: بتتوقّف الحرب وبيرجعوا السوّاح وتبقى السواتر مرتفعة!"

يرتفع صوت انتصار ثم يعود أكثر هدوءاً وتتابع "يمكن أفضل نشوف كل حدث مستقل عن اللّي سبقو. كل حادث ما خصّو بالتاني، هيك منتحمّل أكتر إللي عم بيصير. هيك أَريَح وأقلّ ألم.

"يللا خلص فيلم مرتي" قال مالك بشكل مسرحي، معلناً انتهاء انتصار من خطابها. "إيه خلص الفيلم، بس أنا ما خلصت بعد من الحكي!" تردّ إنتصار موجّهة الكلام إليّ.

تذكِّرني إنتصار حين تتكلم بسيتاجيت المعالج النفسي في مومباسا، رغم اختلافهما. تذكّرني به ربما لأنهما متشابهان من حيث ثقتهما بأنّ ما يقولانه هو الحقيقة بعينها، حقيقة لم تبدُ لي يوماً ثابتة ولا بديهيّة على الإطلاق.

تتوقّف الحرب وتبقى السواتر مرتفعة، عليّ أنا أيضاً القبول بذلك، عليّ التوقّف عن محاولة الفهم. سأتعلّم ذلك، أقول لنفسي. لا بُدّ أنّ التعاطي مع سير الأمور من موقع الخارج والبعيد ورؤيتها كأحداث مستقلّة لا ماضي ولا علاقة لها بما سبقها هو أمر فائق الصعوبة، لكن غير مستحيل. هذا مناقض لمبدأ التاريخ، ولكن حسناً لأفعلها ولو مرّة واحدة في حياتي، لأجرّب! ما في خيارات إلنا هون. ما في إلاّ شي واحد بس هوّي النسيان. قالت وفاء فيما أطفأتُ أنا سيجارتي الأخيرة في المنفضة الملأى بالأعقاب.

لكن ماذا عن هؤلاء الذين صنعوا الحرب وقتلوا وخطفوا ومثّلوا بأجساد الضحايا ... أين هم؟ أين ضحاياهم أيضاً؟ أسأل.

يأتي الغرسون بأباريق الشاي وصحون المناقيش واللبنة والخضار. تنادي انتصار عليه كي يعود طالبة منه زيت الزيتون البلدي كما تقول. زيت بلدي عمول معروف من الكورة ... ايه! ثم تتوجّه إليّ قائلة: الفرق بيننا وبينك يا حبيبتي أننا عشنا الاهتراء يوماً بيوم، خلص تعوّدنا، بكرا بتتعوّدي على كل شي، صدقيني". قالت ذلك فيما راحت تفرم رأس البندورة الكبير وتوزّع قطعه على الحاضرين الجالسين حول الطاولة. ثم استدارت نحو وفاء تسألها عن وضع زوجها الصحي، بعدما تعرّض لنكسة اضطرّته إلى إجراء عملية تمييل في القلب.

عودتك نهائية للبنان؟ سألتني وفاء. فاجأني سؤالها ولم أدر بما أجيب. هززت شمالاً ويميناً أي لا أعرف بعد، وبقيت صامتة. تابعت تقول "فتشي عن مكان تاني ما رح تقدري تعيشي هون، الحياة مقرفة كما ترين، البلد مقسوم بين قتلة و... قتلة، ونحن رهائن، شي بيقرّف!" قالت وفاء كلمتها الأخيرة ومالت برأسها قليلاً صوب انتصار كأنها تشير إلى رابط خفيّ بين كلام انتصار وبين القرف، أو ربما ببساطة بين القرف وبين انتصار نفسها. منذ أيام الجامعة هناك توتّر لم ينته بين انتصار ووفاء. ربما يعود هذا إلى العلاقة السريّة والقصيرة التي نشأت بين انتصار وشقيق وفاء المتزوّج، والتي حين اكتشفتها وفاء كان الوضع شبيهاً بالكارثة. دعتها وفاء مرّة إلى بيتها وتعرفت انتصار بالصدفة هناك إلى شقيقها وحدث ما حدث وصارت انتصار تتغيّب عن مواعيد ولقاءات الصديقات. كان الأمر بمثابة خيانة لوفاء.

مالك ما زال كما هو، يطرح أحلاماً كبيرة لا تركب على قوس قزح كما تقول انتصار. إنه محيّر بالنسبة إليّ. لم أكن أعلم متى يمزح ومتى يحكي بجديّة. كان "بين بين" يدافع عن المقاومة وفي الوقت نفسه يتكلم عن ضرورة بقاء لبنان كبلد مختلف عن محيطه العربي. كان في ما مضى يقول أحياناً إنّ الفلسطينيين خرّبوا البلد، إلا أنّه يقول إنهم حركة التحرّر الأخيرة في العالم ويجب دعم ثورتهم. صار يحكي عن أمله بإصلاح البلد، وبإزالة الطائفية، وآمال عريضة لا يسعها بلد كلبنان ثم يحكي عن أهمية دور الشيعة كطائفة طليعيّة في صنع ثقافة مغايرة في البلد.

"إنت خلّيك بأحلامك بتغيير العالم"، قالت له انتصار من دون أن تنظر إليه وكأنه حالة مستعصية لا أمل فيها.

شو ممنوع إحلم كمان! صاح مالك.

فكرتُ أن الأحلام بتغيير العالم لم ينتج عنها إلا الدكتاتوريّات. مع ذلك لا بد أن نحلم.

"المهم خلينا نحكي شي عملي"، تقول انتصار.

"بدٌّك شي عملي؟" يسأل مالك ثم يقول: "شو منعمل تانبطّل نقتل بعض؟ تفضّلي هيدا مثلاً سؤال عملي".

"لازم نتعلّم ندير حروبنا الأهلية" أُجيبه بمزاج أسود. لازم نخلق مصلحة عامة بالدولة نسمّيها مصلحة إدارة الحروب الأهلية، مصلحة ذات منفعة عامة".

"بل مصلحة ذات منفعة خاصة" تعلّق ريما.

لا أمل أكثر من ذلك! الاقتتال هنا هو نمط حياة. هو طريقة استهلاك مثله مثل الكحول والدخان والإعلام وقنوات التلفزيون والموسيقى. هناك الحرب الأهليّة وهناك الجميزة والداون تاون والمونو والحمرا وجونيه والمعاملتين ورأس بيروت ... هناك كل شيء. أشياء لا تتقابل، تتداخل! هذا صحيح، إلا أنها لا تتقابل، بل يتغذّى بعضها من بعض، فكرت.

خرجت من مقهى الروضة ومشيت باتجاه طلعة الحمام العسكري. تركت خلفي الأصدقاء والنقاشات الطويلة والصراخ والاختلافات التي لا تنتهي ولا تصل إلى أي مكان. بدت الشمس التي تنزل ببطء في البحر كأنها تودّعني في صعودي نحو منطقة الجامعة الأميركية. الدرّاجات النارية من خلفي وأمامي وقربي تشقّ الشارع جاعرة كحيوان بريّ. فجأة ظهرت واحدةً من خلفي ثم طارت مسرعة فوق سيّارة متوقّفة ثم خبطت بسرعة إلى الأرض ووقع السائق عنها. هوى جسده نحو الأرض فيما انقلبت الدرّاجة وبقي موتورها يعمل. أخذ سائق الدرّاجة الثانية بالصراخ في وجهي وهو يحاول إيقاف دراجته قائلاً إنني السبب وإن الحادث ما كان ليحصل لو لم أكن أمشي في وسط الشارع. قال إن السائق حاول تفادي الاصطدام بي فاصطدم بالسيارة المتوقفة أمامه. تجمّع عدد من الناس بينما السائق الجريح وقف وبدأ بنفض ما علق على ملابسه من غبار وأوساخ من دون أن يهتم للدم الذي يسيل من رأسه، ثم نظر إليّ كما ينُظر إلى مجرم نجح في الإفلات من محاكمة، وهو يلعن ويشتم. لا بد أن أمي نالت قسطاً وفيراً من شتائمه.

عدت إلى شقتي في شارع المكحول وكان الغروب، وكنت أعلم أن نهاراً آخر يُحتضر في عالم الله، وأن هذه البلاد ستمر عليها نهارات أخرى وستحتضر كلها، وأن الإله الذي يسكن سقف العالم فقد حاسة السمع، وأن صراخنا يصل إليه كنوتة موسيقية ضعيفة.

ها أنا وحيدة بعد عناء لقاء أصدقاء الماضي. كيف لي أن أتأقلم مع بيروت؟ بيروت الجديدة القديمة التي لم تتغيّر، رغم ذلك لم أعد أعرفها. بيروت لم تتغيّر، لكن برغم ذلك فقدت روحها.

*    *    *

أنام وأستيقظ كأنّني لم أنم قطّ. منذ سنوات لا أستطيع حسابها ما عدت أنام سوى دورة نوم واحدة. يقولون إن الإنسان لا يستطيع أن يستيقظ بنشاط ويجتاز نهاره بسلام إن لم ينم دورتين كاملتين أي 8 ساعات. أنام دورة واحدة، وحين أستيقظ أفكّر أن عليّ العودة للنوم إلا أنني لا أستطيع. ذهني متّقد وأمامي لائحة من الأمور التي عليّ القيام بها. أبدأ نهاري ويصاحبني شعور بالتعب الدائم، إلا أنه شعور تحوّل إلى أمر معتاد، كأنّ التعب جزء مني وليس شيئاً طارئاً عليّ التخلّص منه. أن أمضي أياماً وعيناي حمراوان أمر طبيعي. النوم أكثر من 4 ساعات بات أمراً غير طبيعيّ لديّ. أرى أيضاً أن ألم ساقيّ وقدميّ جزء من تعبي. بتّ أحسبُ أن الألم شرط لوجود جسد ما. أن نشعر بجسدنا يعني أن نتألم. بتّ أعتقد أنه هكذا هو الشعور، دائماً ممزوج بالألم، بالوجع الجسدي. إلا أنني ما ألبث أن أرتاح مع خيوط الفجر الأولى. أسمع دقّات الساعة المعلّقة على جدار الشقة المفروشة التي أسكنها والتي أفكّر كل يوم بالتخلّص منها. أنزل عن السرير إلى الشرفة المقابلة للجامعة الأميركية. كنت أسمع في ما مضى دقات ساعة الكوليج هول وذلك قبل أن يُدمّر المبنى عمداً نتيجة اعتداء منذ أعوام قليلة. لم أعد أرى البرج من بين جدران المباني التي أمامي. كذلك لم يبق من ذكرى السنوات الثلاث التي قضيتها في هذه الجامعة إلا القليل. برغم ذلك يفتح صدري. النور الذي يزحف من خلف السماء لا يرفع وشاح الظلمة الرقيق عن وجه الأرض فحسب، بل يبدّد مخاوفي ويرخي عضلات وجهي وجسدي. أعود محاولة النوم ولا أستطيع. مرّت وجوه كل الذين رأيتهم منذ عودتي في مخيلتي. شفاه محشوّة، وجوه متصابية، بشرة مشدودة، سهر، كؤوس، عيون منطفئة وحزينة حتى القعر.

لم أستطع النوم، برغم ذلك خرجت أتأمّل طلوع الشمس عند الفجر. منذ زمن لم أر ولادة شمس بيروت.

أعود إلى بيروت وأشعر بأنني عشت غربتي القسرية كحازوقة. حازوقة تستمر معي وتصبح جزءاً من حياتي. أخرج من شقتي وأصعد باتجاه شارع الحمرا. أسبق بائعي المحال الذين بالكاد بدأوا يومهم. تغيّر شارع الحمراء. حتى النساء اللواتي يمشين فيه تغيّرن. تبقى أرجلهنّ مستورة بكولونات سوداء حتى في عز الربيع. هل إحساسهنّ بالطقس ضئيل، أم هو الموت يسكن نساء بيروت، ويلفّ نفسه بسواد الملابس.

في الحصة الأولى لصف اليوغا كان عليّ أن أعاود التركيز على نقطة في أطرافي. بدأت بالتركيز على رأس أنفي، أغمضت عينيّ لذلك، بدأت أرخي نفسي. لم أستطع الذهاب بعيداً في الاسترخاء وفي التركيز في الوقت عينه. اكتشفت أن التركيز على أبعد نقطة من أطرافي ومن جسدي أسهل عليّ. رحت أركّز على إبهام رجلي اليمنى. أنتقل من حيث لا أدري الى اليسرى. أفكر، أسترخي، أتوقف عن التفكير. أدخل الهواء إلى صدري وأبقيه في الداخل أطول مدّة ممكنة. أشعر بالأوكسيجين يتغلغل داخل شراييني بصعوبة بالغة كأنّ جداراً إسمنتياً يعترض طريقه. وخز بسيط يعتريني كلما تغلغل الهواء أكثر. كأن هذا الوخز هو نتيجة ارتطام جدران روحي في داخل جسدي. لم أستطع أكثر من ذلك. خرجت من صف اليوغا ومشيت من الحمراء حتى عيادة دكتور آدم الطبيب الذي أجهضني خريف عام 1979. وجدت العيادة مغلقة. سألت عنه فأخبروني أنه قتل خلال السنوات الأخيرة للحرب.

فقدت طفلي منذ زمن. كنت في الحادية والعشرين، وكان جورج بمثل سني تقريباً، لا بل كان يكبرني بخمس سنوات، ولم أكن أشعر بفارق السن بيننا. كنت أكتشف جسدي معه، وهو برغم تجاربه التي بدأها قبلي كان يكتشف رجولته معي. كنا نكتشف جسدينا ورغباتنا حتى النهاية، مرة .. مرتين .. ثلاثاً. بعد مرور سنة على علاقتنا وجدت أنني حامل وأن عليّ التخلص من حملي. أخذني إلى طبيب قال إنه قريب له. طبيب معروف يملك عيادة خاصة وكبيرة في رأس بيروت. كان الطبيب جميلاً إلا أن جماله بدا لي كاملاً وخالياً من الشفافيّة. عدت بعد يومين إلى العيادة وحدي لأبقى فيها يوماً وليلة. خرجت في الصباح وحيدة إذ لم يأت جورج لاصطحابي. خرجت وحيدة بينما قبع طفلي الذي لم يتحقّق في وعاء كبير في غرفة العمليّات. لم أسأل شيئاً، ولم أر الطبيب بعد ذلك لكنّي منذ لحظة خروجي قرّرت أن أبتعد عن الرجل الذي شاركني اكتشافي لجسدي، وشاركني متعتي. لكنّه لم يدخل العيادة معي ولم يأت لاصطحابي عند الخروج. كأنّني كنت المذنبة الوحيدة في تلك اللحظة. أما هو فكان غائباً. لم يتمدّد على السرير البارد ولم تتلق ذراعه وخز الإبر ولم تنظر إليه الممرّضة العانس بعينين زجاجيّتين وتسأله باحتقار ممزوج بحقد واضح عمّا إن كان أحد أفراد العائلة على علم بالموضوع. هذه تجربتي أنا وليست تجربته. هو لم يشاركني فيها أبداً. قرّرت أن ابتعد، لكن لم يحدث هذا على الإطلاق إذ لم أستطع إبعاده عن حياتي إلا لفترة قصيرة من الزمن. ثم عدت أنتظره وأُحبه.

بعد عودتي من مومباسا أردت زيارة الطبيب نفسه. أردت زيارته لأشكو له عدم قدرتي على الحمل. اخترته هو بالذات ربما لحاجتي إلى أن أسمع أنني بخير وأنني أستطيع الإنجاب وأن المشكلة عابرة وسطحيّة، ومن يُسمعني غير هذا الكلام سواه، سوى من أخرج الجنين من رحمي الرطب الحيّ ورماه خارجاً. لكنّه ما عاد هنا، لقد قُتل.

أردت لملمة ذاكرتي عبر زيارة الأمكنة التي انطبعت في مخيّلتي. تركت في مومباسا رجلاً ورائي وعدت إلى بيروت. أريد استعادة حكايتي مع جورج لا لعيشها من جديد ولكن للملمة أجزاءٍ من جسدي، لكنّ حكايته مفقودة مثله. جورج لم يلحق بي وأنا لم أستطع أن أعيش حُزني علناً. لم أحزن ولم أختم جرحي. كيف أحزن علناً وهو ليس بزوج ولا أخ ولا أب ولا حتى خطيب على الأقلّ. كان احتمال أب لطفلي الذي لم يولد. هو حبيب فقط، وحين يموت الحبيب ندفن الحزن معه ولا نخرجه إلى العلن.

تركت رجلاً في كينيا وأريد استرداد حكايتي منه، لكن الحكايات لا تُستردّ، عليّ اكتشاف باقي حكايتي مع جورج، واكتشاف حكايته وسبب اختفائه. من أيّ قصّة أبدأ، وكلّها قصصي؟ عدتُ من أجل كل ذلك، لكن لم أعلم أنّ كلَّ عودة يصاحبها اختفاء، لأنّ الماضي لا يعود بل العودة هي تماماً علامة أخرى للغياب.

لكن ما بي أقوم بنبش حياتي كحفّار قبور لم يقتنع بعد بأنّ الأموات لا يعودون؟

جئت أيضاً أتسلّم مفاتيح بيتي، ذلك الذي ورثه أبي عن أبيه. مفاتيح بيت لا بوابات له. كان لبيت زقاق البلاط مداخل خمسة لوّن جدّي بوّاباتها بألوان مختلفة هي الأخضر والأصفر والبنّي والأزرق. تطلّ جميعها على ساحة تبدو من داخل البيت كأنّها تسوّره، إلاّ أنّها تشكّل أكبر من هلال بقليل. ورثنا البيت عن جدّي حمزة. جدّي الكبير الذي لا أذكر منه سوى صورة تُظهر قامته العالية وعصاه وطربوشه. كنت صغيرة جدّاً حين رحل. من حكايات نهيل أخترعُ له صوتاً هادراً وهو يدخل البيت فيما أتخيّلنا نختبئ في اليوك المبني في نهاية الصالة. أخترع لمفاتيح البيت أصواتاً أحسب أنها ترنّ في أذني. تقول نهيل إن حمزة وحده كان يحمل المفاتيح، يُعلّقها في حزامه القماشي العريض الذي تحوّل إلى حزام جلدي سنوات قليلة فقط قبل موته. لم يجرؤ سلامة على الطلب من أبيه يوماً أن يأخذ المفاتيح منه. بعد موت حمزة ورث سلامة البيت ومفاتيحه الخمسة. أول ما قام به كان فتح المداخل كلها طالباً من ناديا أن تبقيها هكذا لمدة 3 أيام، كان المعزّون خلالها يدخلون البيت، يصافحون الحضور، يواسون أهل الفقيد بكلمات قليلة، ثم يرحلون.

جُنّ سلامة بعد تعرّض بيتنا للقصف. جنّنته شظية صغيرة بحجم حبة عدس كما وصفها الطبيب. دخلت دماغه واستقرت هناك! نجونا ما عدا بهاء الذي كان على الشرفة آنذاك. أحاول استحضار تلك الليلة، أصوات جلبة وتراشق ونداء حاسم كي نترك البيت وننزل إلى الطبقة الأرضية إلا أن أمي قررت أن نبقى حيث كنا. لا أعلم لماذا قرَّرتْ صدفة أن نبقى تلك الليلة. آه لو كانت أمي تعلم أن أبي سيُجنّ وأن أخي سيُقتل.

استعمل المهجرون الذين احتلوا البيت بعد ذهابنا إلى الجبل مدخلاً واحداً فقط بينما بقيت المداخل الأربعة مقفلة. صدئت أقفالها وحديدها القوي الذي لم يقو عليه قصف ولا بارود. فتحوا ثغرة في الحائط وصاروا يستعملونها كمدخل أساسي لأنها تقيهم من القصف الآتي من بيروت الشرقية ومن مناطق قريبة في وسط بيروت.

طالما تساءلت لماذا لا تكون البيوت للاستعمال المؤقّت كما هي حيواتنا. كنت طفلة وكانت جدّتي تحكي لي كيف صار جدي يضيف إلى البيت الذي اشتراه عتبات كبيرة ويزخرف حواشي الأبواب بكلمات تشبه طلسماً. جاء برجال ليحفروا جملاً على الأعمدة التي ارتفعت فوق الأبواب بشكل أفقي. جملٌ لم أفهمها يوماً. بنى أيضاً غرفة كبيرة أقام في إحدى زواياها مدفأة حجرية عملاقة. تحكي نهيل أنّ بينما كان حمزة جالساً مع ضيوف يقرأُ لهم باعتزاز ما حفَره على أعمدة البيت وجدرانه من كلمات، دخلتُ إليه وكنتُ طفلة صغيرة وسألتُه: لماذا كل هذا التعب يا جدو؟ بكرا رح بتموت والبيت بيبقى وحدو. ليش ما بنيت بيت عمرو متل عمرك وبيموت معك؟" تقول نهيل إن جدي حمزة دُهش، ولم يقل شيئاً، وإنّه نادى عليها كي يخبرها بما قلت له. ربما لم يتوقع حمزة أن أسأل سؤالاً مشابهاً. لطالما اعتبر أن العمل الشاق والجهد المتواصل هما جزء من الحياة ولا يجوز طرح السؤال حولهما. العمل الشاق ورثه عن أمه التي سنوات دراستها الابتدائية في مدرسة أنغليكانية في الشام. هكذا تربّى سلامة أيضاً برغم درزيته التي لم تكن في أي حال بعيدة عن نظرة البروتستانت إلى العمل الشاق. إلا أنه لم يمتثل يوماً لرغبات أبيه بالعمل، بل ظل طيلة حياة حمزة رافضاً لمشاريعه ما جعل أباه ينتقده مردّداً أمام نهيل: إبنك لشو نفعو؟ لا بيندب ولا بيحمل على الأكتاف. تتدخّل نهيل للدفاع عن ابنها سلامة قائلة إنّه يعمل ويجهد في عمله، إلّا أن حمزة يهز رأسه نافياً ما تقوله نهيل، معللاً أن أي عمل يقوم به سلامة لا فائدة تُرجى منه، مُردِّداً بغضب "خبزو ما بيملِّح ... ما بيملِّح شو ما عِمِل"!

نبني بيوتاً تعمّر مئات السنين ولا نعيش فيها إلا القليل. نصنع أشياء تعمّر، ربما فقط لننسى موتنا الآتي. لم يشأ حمزة موته أبداً. بقي يصارع كما تقول نهيل حتى آخر لحظة من حياته. بنى وزخرف لمحاربة الموت. الكثير من الناس فعلوا مثله بالطبع. لو كان حمزة غنيّاً ربما استعمل الذهب لزخرفة بيته بدل الحجارة، ليصبح موته المُحقَّق حينها أكثر جلجلة ووقاحة.

*    *    *

أوصلني نور إلى بيت الجبل حيث أولغا ونهيل. أردته بقوة أن يبيت الليلة هنا إلا أنه اعتذر. قال إنه مسافر في الصباح الباكر إلى عمان ثم من هناك إلى بغداد. في بداية المساء تمدّدت على الكنبة في غرفة الجلوس، وحين استيقظت وجدت أن أولغا قد نامت باكراً. استيقظت على حلم غريب. في الصباح أخبرت أولغا عن حلمي هذا. حلمت بنور، الرجل الذي التقيت به منذ تركي لكينيا، وبكريس زوجي الذي ينتظرني في مومباسا، وبجورج المفقود الذي لم أره منذ أكثر من 16 سنة. حلمت بهم الثلاثة في غرفة الجلوس. المفقود يضع الحطب في النار ويحكي للاثنين قصّة حياته. رأيت نفسي ممدّدة على الكنبة الكبيرة أستمع، ثم غفوت وشعرت بدفء لذيذ أنّ رجالي الثلاثة أصدقاء وأنّني أستطيع أن أحبّهم جميعاً، كل بطريقة ما، وأنّني لا أتعذّب بسبب ذلك الحب المختلف الذي يتراوح في معناه ومضمونه بين رجل وآخر. كنت في الحلم دافئة ومغتبطة، وحياتي أمامي مستمرة من دون انقطاع كسهل منكشف لا أسرار فيه.

سألتني أولغا عن نور وهي تميل رأسها بتواطؤ ودفء محبّبين. قلت لها إنّه صديق فقط.

شو؟ رح تكوني قوية هالمرّة أو رح تبقي مثل ما انت رومنطيقيّة وهبلة؟ سألتني أولغا وتابعت يا حبيبتي لازم المرا تكون قحبة حتى تعيش مع رجّال. لم أجب بل رحت أستعيد ببطء وصعوبة بعضاً من مغامرات أولغا الفاشلة التي كنتُ شاهدة عليها في بداية مراهقتي. واكتشفت في تلك اللحظة أن أولغا لا تُكلّمني أنا بل تُكلّم نفسها. هي تُكلّم أولغا الشابة التي كانت يوماً والتي لم تُحسن اختيار رجل في حياتها. كأنّها اكتشفت الآن ما كان عليها القيام به سابقاً وتريد استرداده. إلا أنّ الماضي لا يُسترد ولا يسعنا تصحيح أخطائه. كلام أولغا جاء متأخّراً بعض الشيء، فهو يشبه اكتشاف المرأة لوسائل منع الحمل بعد تجاوزها الخمسين.

لم يكن اكتشافي اللذة مع أولغا في سنوات المراهقة المبكّرة هو السبب الوحيد كي أفكّر بأنّها امرأة شهيّة. برغم ذلك أرى حياتها عبارة عن خيبات أمل في الحب. مضى وقت طويل قبل أن تفقد أولغا الإيمان بأنّ الحب يصنع المعجزات.

لم أر نور منذ أسبوع. ما زال في عمان. أعجب أحياناً من حركته الدائمة وتوتّره الذي لا يستكين. يقضي وقته بمحاولة البحث وتجميع قصاصات لنسخ جرائد قديمة حصل عليها من مكتبة الجامعة الأميركية. يريد معرفة كل شيء، تاريخ العائلة والأملاك التي يعتقد أنها ما زالت موجودة وهي كانت ملكاً لجدّته والدة أمه الوحيدة.

*    *    *

اليوم 12 كانون الثاني 1996. صار لي هنا 5 أشهر. منذ 16 سنة، مثل هذا اليوم بالذات سافرنا من لبنان. لم يكن سفرنا سهلاً في ذلك اليوم. كان علينا الذهاب في السيارة إلى الشام ومن المطار هناك إلى لندن ومنها إلى أستراليا. كان ثلجٌ وكان علينا أن ننتظر قبل ضهر البيدر ساعات طوالاً كي يسمح لنا الدرك بالمرور بسبب العواصف الثلجية التي ضربت لبنان. كان من الصعب تحمّل سلامة طيلة السفر وناديا التي قرّرت الاستقالة من الحياة والمسؤوليّة والكلام منذ موت بهاء، لم تعد تهتمّ بسلامة ولا بجنونه ولا بتوتّره الدائم. تنظر إليه ثم تلتفت نحوي كأنها تقول لي "خلص أنا خلصت، ما بقى فيّا اتحمّل، هلق إجا دورك". ناديا ما عادت تتكلم منذ مقتل بهاء. ربما هي لم تشأ التكلّم. أحياناً يخطر لي أنها قرّرت عدم التكلّم وأنّ ما يحدث لها أتى جرّاء قرار واعٍ لا نتيجة صدمة. كأنّ موت أخي سهّل أمر الصمت عليها. أعلم أن أمي لم تكن تحبّ أبي حين تزوّجا، وأعلم أيضاً أنّ أباها أجبرها على الزواج من سلامة بعدما كانت مخطوبة لرجل تحبّه. فكّرت ناديا دائماً أن أباها أجبرها على تركه بسبب ذلك الحب. أعلم أيضاً أن حمزة سافر إلى حاصبيّا قرية أمي وطلبها من أبيها فما كان من جدي لأمي إلا أن وافق دون أن تعلم ناديا بذلك. قرابة بعيدة بين عائلة أمي وعائلة أبي فرضت ذلك الزواج. تقول جدّتي نهيل إن ناديا أغمي عليها ليلة عرسها، وتعلّل ذلك بسبب خوفها وبسبب أن سلامة لم يكن صبوراً معها، إلا أن سبب إغمائها هو ابتعادها عن الرجل الذي أحبّت. كان عليها أن تقبل أن الذي رقد فوقها ليلة العرس هو رجل آخر لا تحبّه ولا تحبّ رائحته. لم تر رجلها الأول إلا مرّات قليلة، إلا أنّها كانت كافية لتدلّها على رائحته. صارت تعرفه من رائحته. تعلم بقدومه لزيارة أبيها قبل أن يطأ عتبة البيت، كأن لرائحته صوتاً يسمع من بعيد. لا أذكر من ناديا التي تتكلم سوى جملة رددتها لنا وهي أنها لم تحب يوماً إلا رجلاً واحداً هو ذلك الرجل الذي خسرته يوم زواجها بسلامة. كان ينقص ناديا أن يموت بهاء، ابنها، كي تموت هي الأخرى. تموت وهي ما تزال على قيد الحياة. فاجعة موت بهاء بالنسبة إليّ لم تكن أكثر رعباً من صمت ناديا. تبقى صامتة فيما تموء الهرة قربها تريد أن تأكل. تقوم إلى المطبخ لتطعم بوسي التي تسير وراءها صامتة هي الأخرى، كأن تفاهماً بينهما بقي على حاله، لم يغيّره الصمت.

كان أخي يشبه أمي، يشبهها في شكل الوجه والعينين وفي لون البشرة. حتى الشامة الكبيرة على الأذن ورثها منها أيضاً. إلا أن قامته وطوله لأبي. أما أنا فورثت وجه نهيل وبشرتها السمراء، وعينيها السوداوين الواسعتين، وورثت القامة الرقيقة المعتدلة من أمي. كان بهاء ابن ناديا بامتياز كأنه قطعة منها. أبي الذي لم يبدِ في حياته أي عاطفة اتجاه أخي بكى في جنازته ثم صار مجنوناً. ربما لم يجنّ أبي بسبب تلك الشظية التي اخترقت رأسه وبقيت هناك، بل لأن أخي مات قبل أن تصدر عن أبي كلمة حب.

أمي الصامتة، رأيت كم هي صامتة حين قتل أخي. هل كان عليّ أن أنتظر موت أخي لأحتج على صمت أمي. سلامة ورث البيت عن حمزة، وبهاء لو بقي حياً لورث البيت عن سلامة، أما أنا فهل عليّ أن أرث الصمت عن ناديا والآن بموت بهاء، عليّ أن أرث البيت أيضاً، لكن كيف لامرأة لم تتعلم الكلام من امرأة أن ترث بيتاً. الآن فقط علمت كم أشبه ناديا. كان عليّ أن أقوم برحلتي كي أعلم. كنت أشبه ناديا إلى حد بعيد. لم أعِ ذلك الشبه لا مع جورج ولا مع كريس ولا مع الطبيب الهندي. رأيته فقط حين أمسكت قلماً وورقة وكتبت. بدأت أكتب ما صمتت لسنوات.

"لن أتألم بعد اليوم" كتبت حينها. كأن الألم في داخلي تحوّل إلى تحنيط فرعوني، ألم لا بد منه، ذلك أنه يشبه الهواء الذي نتنشق، والذي نحتاج إليه بكمية كبيرة، ولا نستطيع أن نكمل الحياة عبر خيط رفيع فقط من الهواء.

أتصل بناديا في أستراليا. أسألها عن سلامة. تحكي بضع كلمات معي ثم ما تلبث أن تصمت. تبدأ ثانية بالتكلم معي باللغة الإنكليزية، تلك اللغة التي صارت تتقنها منذ وصلت إلى أستراليا. تتكلم لوقت طويل. بدا لي صوتها كانه شفى من مرض مزمن. يتمدّد السرطان في جسد أولغا هنا، وتبقى لغة أمي صامتة هناك كأنّ لغتها الأصلية في منفى. صارت تحكي فقط بلغة أخرى. كلامها المتدفّق على الهاتف لم يمنعني من التفكير أنّ صمت أمي سرطان روحها. لم يكن الصمت صمتاً بل كان بتراً ونقصاً للغتها الأصليّة. هكذا صرت أرى صمت اللغة العربية لدى أمي، صمت امرأة مبتورة ناقصة. طالما حلمت بها مرات عدة، حلمت بها امرأة قوية تثور على العالم وتركب الدراجة وتسرع في عرض الشارع حانقة. تذكرت حلمي هذا عندما اتصلت بها في المرة الأخيرة. كأن حلمي صار حقيقة.

أخبرتني عن عملها في أديلاييد وعن المهاجرين الجدد الذين في سن بهاء. استطاعت أن تحكي أخيراً عن بهاء، أن تحكيه بلغتها الجديدة. كلام فيه من الرجاء قدر ما فيه من الحزن. بكينا معا لأول مرة، أمي وأنا.

كان كلام حمزة عبارة عن أفعال أمر، يكتب على الاحجار، يحفر الكلمات حفراً. لم أفهم الجمل التي نقشها على الأبواب. لم تفهمها ناديا أيضاً. قال إنها لحماية البيت والعائلة. ردّدها أمام الناس في اجتماعات الخميس مساءً. كتابة جعلت من حمزة أقوى مما هو عليه. كلمات جعلت من أُمي أكثر صمتاً. ربما لهذا السبب صدّق الكثير ان الكلام للرجال فقط. الكلام والكتابة للرجال، للرجال فقط، وليس للنساء الحق فيهما.

هل بدأ صمت ناديا من هنا ... بل من قبل أن تولد ... منذ أن حُفرت تلك الجمل على الحجر حفراً لا يقبل المحو ولا الزوال. حفراً بلغة عربيّة، حفراً في الحجر، في الجسد. في جسدها ثم في جسدي. كيف لي بإزالة تلك الكلمات. كيف لي تغييرها وجعلها كتابتي أنا، كتابة أمي.

*    *    *

لم أجد أحداً في الحي حيث بيتنا في زقاق البلاط .. لم أجد أحداً ممّن كنت أعرف. أنكينيه لم تعد هنا هي أيضاً. المرأة الأرمنيّة التي دخل المقاتلون بيتها، ضربوا زوجها، وسرقوا أمام عينيها السجّاد والتحف. حينها لم تقل شيئاً بل تركَتهم ينهبون لعلّهم يشبعون كما قالت. "جماعة جبريل سرقت بيتي وسجّادي" صارت تردّد. وحين سيُقتل ابنه جراء تفجير سيارته في بيروت بعد وقت ستقول أنكينيه: "والله مش عم اشمت بس شوفوا شو صار بإبنو!" الثريّات الكبيرة لم يستطيعوا إخراجها من باب البيت برغم وسعه فأخرجوها من الشرفة ورموها على الأرض من الطبقة الأولى فتناثرت قطعاً صغيرة كأجزاء شمس مبعثرة، وحين حاول أحد الجيران منعهم قائلاً لهم ما نفع أخذ الثريا إذا كنتم سترمونها عن الشرفة وتنكسر. لن تستفيدوا منها شيئاً، عندها حملوه ورموه هو الآخر ليقع على الأرض ويكسر رجله. قال البقّال الذي صادر محلاً تحت المبنى الذي كانت تسكن فيه أنكينيه، إنه لم يسمع باسمٍ كهذا الاسم مبدياً تعجّبه من أن تكون هناك امرأة تحمل اسم "أنكينيه". البقّال هو ابن الحرب ولائحة الأسماء التي اعتادها قصيرة ولا تتعدى أسماء أناس ينتمون إلى طائفة واحدة ودين واحد.

أنكينيه كانت صديقة لجدتي وطالما ذهبَت إليها في الجبل، وبقيت هناك أسابيع وخاصة أثناء موجة الحر اللاهب في بيروت. "انتو ما كنتو تعرفو تعملو شي، نحن جينا وعلمناكم". تقول أنكينيه وتردّد كلما رأت أولغا تُعدّ المعكرون، الحلوى التي اشتهرت بها. "كنتو تعرفو تعملو خبز وبس!" برغم تقدّمها في السن كانت ذكريات أنكينيه متّقدة وحاضرة. في كل مرّة أجلس قبالتها أطلب منها أن تخبرني قصّة مجيئها إلى لبنان بعد المجازر التي أودت بحياة الكثير من الأرمن في تركيا. وصلت عام 1921 إلى لبنان، في وقت كان فيه العالم كله يرتب أموره بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. جاءت أنكينيه مع والديها إلى لبنان وكانت في الخامسة من عمرها. أرادت العائلة الذهاب إلى القدس كمقرٍّ نهائيّ لها لوجود أقرباء هناك، لكنّها استقرّت في لبنان وأصبحت لبنانية. أضاعت العائلة كل شيء في تركيا. أخذ الجيش التركي منهم كل ما كانوا يحملونه عندما تركوا بيتهم. تشكر أنكينيه الله كل مرة أن أباها لم يأخذ العائلة إلى القدس لأنه عام 1948، خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، لجأ الكثير من الأرمن الذين كانوا في فلسطين إلى لبنان، ومنهم أقارب أنكينيه الذين سكنوا معهم في البيت نفسه. قليل من الأرمن ما زالوا يسكنون القدس. معظمهم هاجر إلى أميركا أو كندا، أو يستعد الآن للهجرة.

المنزل الذي يقع قرب بيتنا كان البيت الخامس الذي انتقلت إليه أنكينيه في فترة سكنها في بيروت. عندما وصلت مع عائلتها إلى لبنان أسكنوهم في وسط بيروت قرب المسرح الكبير. ثم انتقلت إلى كورنيش المزرعة عندما فتح والدها محلاً للمجوهرات. كان والدها يعمل صائغاً في قونيا في تركيا. خرج ووضع المجوهرات في الألحفة التي غطى بها الأطفال. تبنّت أم أنكينيه طفلين أرمنيين فقدا عائلتيهما، وذلك كي تستطيع تمريرهما معها في القطار ثم في السفينة وتحول دون أن يعتقلهما الجيش التركي. تم التبني هكذا وبسرعة. قالت لهما المرأة "أنا أمكما! هذا هو الجواب الوحيد الذي تجيبان به إذا سألكما أحد عن هويتيكما". عندما وصلوا إلى مرسين في القطار ليأخذوا السفينة إلى اللاذقية ثم إلى بيروت، منعهم الجيش التركي من أخذ الألحفة معهم إلى السفينة. أجبروهم على ترك كل شيء وراءهم كذلك على ترك المجوهرات التي بقيت مخبأة في قلب الألحفة. لجأ بعض الأرمن أولاً إلى بيروت ومن ثم هاجروا، "لأن بيروت كتير صغيرة" كما كانت تردّد أنكينيه، وفضّلوا السفر إلى شيكاغو ونيويورك ومونتريال. "بيروت كتير صغيرة" تردّد أنكينيه دائماً فيما تدير يدها المنغلقة ثم تفتحها راسمة على شفتيها وعينيها ابتسامة ضائعة بين الشفقة والكبرياء. تقول ذلك مشيرة إلى أنّ بيروت تشبه قبضة يد لصغرها. كلمة "صغيرة" كانت بالنسبة إليها تعني أمرين اثنين: أولاً أنّ الكل يعرف الكل وبالتالي كان الجميع ينظرون إليها على أنها الغريبة المهجرة أو "المهاجير" كما كانت تقول. وثانياً أنّ بيروت لم تكن تكفي كعاصمة تجاريّة وصناعيّة لرجال الأعمال الأرمن الذين ولدوا وعاشوا في إسطنبول واعتادوا حياة كوزموبوليتية لم تستطع بيروت أن تؤمنها لهم في ذلك الوقت فهاجروا إلى مدن الغرب.

ربما كانت أنكينيه من القلائل الذي أتوا بعد مجزرة الأرمن في تركيا وبقوا أحياءً في لبنان حتى نهاية القرن العشرين. تزوجت رجلاً أرمنياً يكبرها بـ16 عاماً ولم تنجب. حين كانت تحكي قصة تهجيرها من تركيّا وتقول إنّها بعد رحيلها سمعت أنّ إسطنبول، أو "كوستانتينوبول" كما يحلو لها تسميتها احترقت عشرات المرّات. بقيت تؤمن بأن تلك الحرائق من صنع الله انتقاماً لها ولعائلتها. "هيدا يا حبيبي غضب من الله"، كانت تقول لي بلكنتها الأرمنية المكسّرة لكن بثقة كبيرة كأنّها تمتلك اللّغة العربيّة امتلاكاً تامّاً ولا حاجة لها لأن تتعب نفسها في تفسير ما تقوله لي.

في المبنى المقابل أناس لا أعرف وجوههم ولا أسماءهم. هم أيضاً لا يعرفونني. البيوت تغيّرت من الخارج ومن الداخل. فقط امرأة واحدة هي إيفيت بقيت في الطبقة الأولى من المبنى مقابل بيتنا، بينما هاجر شقيقها إلى كندا بعد سفرنا بسنة واحدة. "ما بقى إلنا مطرح هون"، كانت إيفيت تردّد قبل سفري. حين رأتني لم تكرّر ما كانت تقوله لي في الماضي عن رغبتها في السفر والهجرة، بل فتحت فاها مشدوهة قائلة: "ميمو حبيبتي هيدا انتِ! الناس عم بتسافر وانت شو رجعتِ تعملي؟" وتتابع بابتسامة تشبه العتاب: "متل ياللّي رايح عالحجّ والناس راجعة!".

في الجهة الخلفيّة من المبنى يبست أشجار البرتقال والتين. فقط شجرة رمّان هرمة ما زالت واقفة. تتكئ قليلاً على جدار المبنى المزروع بثقوب متعدّدة الأحجام. تقول إيفيت إنّ شباب الميليشيات لم يتركوا غصناً أخضر في الحي. خلال فترات وقف إطلاق النار كانوا يصوّبون أسلحتهم إلى جذوع الأشجار يبقرونها كجسد بني آدم، وحين يفرغون من الأشجار يبدأون بالجدران المحيطة وأحياناً بالمارة في الشوارع الظاهرة لهم من الجزء الشرقي للمدينة.

أين اختفى أولئك الذين تحكي عنهم إيفيت؟ أين هم؟ لماذا لا يظهرون ويقولون شيئاً؟ لماذا لا يخبرونني ماذا حصل. أين اختفى من اختفى؟ كيف قُتل من قُتل؟ أين الذين ارتكبوا كل مجازر الحرب؟

كأنّ الأرض ابتلعتهم. كأنّ الأرض ابتلعت الجاني والشاهد والبرهان. "كلهم بعدهم هون" تقول إيفيت بحرقة "بس انتِ ما بتعرفيهم. صاروا شي تاني. عندهم وجوه جديدة وممنوع نتذكّر أو حتى نذكّرهم بوجوههم القديمة".

كأنّ لا مكان هنا لمن شهد بصمت على موت بيروت. لا مكان لمن هرب من الموت في بيروت. لا مكان لمن عاد ليفتّش عن ذاكرة ضائعة. بيروت موصدة الأبواب حزينة. كيف أدخلها، كيف أعود إليها، وأنا المتنقّلة من مكان إلى آخر.

*    *    *

عاد نور من عمّان. كانت بداية المساء وكنت مستلقية أقرأ في كتاب. يبدو أنّني غفوت ذلك أنّه انتظر وقتاً أمام الباب قبل أن أسمع صوت الجرس وأقوم من فراشي. حين فتحت الباب رأيته واقفاً هناك مستنداً إلى الحائط كما لو أنّه على وشك أن يفقد الأمل برؤيتي. كان يحمل لي أكياساً من ملح البحر الميّت طلبتها منه. قال لي إنه سيتوقف عن التفتيش عن جذوره. قال ذلك كأنه يهمّ بالبكاء. بدا محبطاً وفاقداً لأمل وجود أيّ من أفراد عائلته على قيد الحياة. لا بدّ من أنّه بدأ يكتشف أنّ الشّعور بالأمل خطير في بيروت، وأنّ بحثه من دون طائل.

كنت لا أزال شبه نائمة ومُعكّرة المزاج حين خرجنا معاً. لم أكن مستعدّة لمجيئه ولا لرؤيته هكذا فجأة. لم أكن مستعدّة للاستماع إلى خيباته في رحلة البحث عن جذوره التي في تلك الساعة بالذات لم تعنِ لي شيئاً. فتحتُ الباب له حتى قبل أن أنظر في المرآة وأرى كيف سأبدو له لحظة يراني. لازمني شعور كما لو أنه غدر بي بزيارته تلك، أو كأنّه دخل عنوة إلى مكان حميم لي لا أرغب في إدخاله إليه. مشينا قرب البحر في منطقة المنارة. صار يتكلم ولم أشأ الكلام، ثم قال لي فجأة كأنّه يقصد إغاظتي إنني ورثتُ الصمت عن أمي. أمي التي لم يلتق بها في حياته إلا أنّه عرفها من حكاياتي له عنها. قال ذلك ودعاني إلى أن ندخل مقهىً مجاوراً قبالة كورنيش البحر بعدما بدأت تمطر بلطف.

أراد نور المبيت عندي، لم يشأ العودة إلى بيته وقضاء ليلته وحيداً بعد زيارته المحبطة إلى عمان. أعطيته تي شيرت ليلبسها. هي بالأصل لكريس، ألبسها عادة للنوم لأنّها مريحة وقطنها ناعم الملمس. بدت عليه تماماً كما تبدو على كريس، ذلك أن له تقريباً نفس مقاسه إلا أن نور أقصر منه بقليل. لم أهتم كثيراً بأنه يلبس تي شيرت تخصّ رجلاً يسمّى حتى تلك اللحظة زوجي. بدا الأمر بالنسبة إليّ بسيطاً وبديهياً.

"أريد العودة إلى بلادي". قال لي في اللحظة التي كنت أفتش فيها عن كبريتة أشعل بها سيكارتي. ما زال يقول إنه يريد العودة إلى بلاده. الأحمق لا يعلم، لا يعلم أنّني أريد أن أكون بلاده.

عندما التقيتُ به في الشارع، بعد ساعات فقط من تركه شقّتي صباحاً، لم أصدّق أنّ هذا الرجل هو نفسه نور. نور الذي بقي معي في الفراش الليل بطوله. كان يمشي بتثاقل وقلّة ثقة بالعالم. ينظر حوله بقلقٍ كرجل يبحث عن أمل أضاعه. "نور، هاي" ناديته من الرصيف المقابل. سمع صوتاً إلا أنه لم ينظر بسرعة. مضت ثوانٍ قبل أن ينتبه ويميل رأسه قليلاً باتّجاهي مبدياً تعجّباً طفيفاً، ليقول لي فجأة من بعيد وابتسامة طافحة ارتسمت على وجهه Oh hello! is that you? ثم كأنّه يستدرك أنّ الجملة التي خرجت منه لا تليق بإثنين كانا منذ ساعات قليلة في فراش الحب، يضيف محركاً شفتيه بوضوح وبصوت أخف  you are my love…بدا غريباً لي وهو واقف هكذا في الجهة المقابلة من الشارع.

لم أر ظلّه. مضت لحظات وأنا أفتّش عن ظلّه خلفه.

كان منتصف النّهار تماماً. وكان واقفاً قبالتي كمنتصف نهار. فكّرت بكلّ ما فعلناه معاً، بالسرير الذي جمعنا وبالجنس الذي تمتّعنا به طويلاً والذي لم يكن يشبه الصعود إلى الله ولا النزول الى الجحيم، بل شيئاً آخر قد يكون ما بين المنزلتين. فكرت بكلماتنا الحيوانية التي تبادلناها والتي غدت نارية عدوانية تثير الشهوة. أفعال أمر لا تنتهي، أما الآن فلا أدري وصف اللحظة بيننا تماماً، كأن ما حصل كان حلماً، أمراً غير حقيقي. لحظات خارج الزمن تجد الذاكرة صعوبة في العودة إليها.

صرنا نتبادل الكلمات المتقطّعة من على ضفتي الشارع وكأنّنا نشترك في حمل ثقيل لا ندري أين نذهب به. حمل ثقيل يريد كل منّا التخلّص منه. ثمّة شعور غريب اكتنفني في تلك اللحظة بأن الكلمات التي تعكس داخله بقيت في أعماقه. بقيتْ ولم تخرج إلى العلن. وهي "كم الحياة ثقيلة وصعبة العيش".

لم أجد شيئاً في بيروت، فكرت، لم أجد شيئاً سوى رفيق لرحلة ضياعي.

*    *    *

قُتل أخي بهاء، وبعد مصرعه بأقلّ من سنتين وجدنا طريقنا إلى خارج لبنان. جرى كثير من الأمور بين الحدثين، أولها محاولة جدتي نهيل تزويج ابنها سلامة مرة أخرى من أجل اسم العائلة والميراث والبيت كي يبقى "مفتوحاً وما يتسكّر" كما ردّدت دائماً. كان على نهيل أن تجد صيغة تُقنع بها ناديا أولاً بخطّتها. زواج أبي يعني تطليق أمي أولاً، ذلك أنه في ديننا، ورغم أن قانون الزواج يتبع نظريّاً المذهب الحنفي، إلا أنّه لا يجوز الزواج في الوقت نفسه بأكثر من امرأة. لم تُبدِ ناديا أي ممانعة، ولم تترك البيت الكبير، ولم تعد إلى بيت أهلها المقفل منذ سفر خالي الوحيد يوسف إلى أستراليا. كأنّ زواج زوجها بالنسبة لها لعبة لا أكثر. هزّت ناديا بيدها أنّ الأمر لا يفرق عندها، فيما استمرّت جدّتي في الكلام وكأنّها تحاول إقناعها بكل الأسباب الداعية إلى مشروعها هذا. ربّما لم تعد أمي تريد أيّ شيءٍ من أيّ شخصٍ، كأنّها تحوّلت إلى صندوق بشري مغلق على نفسه ومكتَفٍ. كان يكفيها أن تجلس طيلة النهار على سرير أخي، وتتأمّل صوره العديدة. كان يكفيها أيضاً أن تعود الى كتبها القديمة التي أتت بها من ضمن ما حملته معها الى بيتها الجديد حين تزوجّت من أبي. لم يحصل طلاق سلامة وناديا، بل تزوّج أبي زواجاً إسلاميّاً سنيّاً. حدث ذلك كله بسرعة ضوئية. كان على نهيل أن تختار هذا الحل برغم إيمانها، حلّاً نتج عنه لغط كبير نشأ بين أفراد العائلة الكبيرة، وخاصة بين رجالها.

أتت نهيل بامرأة تجاوزت الثلاثين بقليل من الأردن حيث يقطن معظم أقرباء جدّتي. أرملة فقدت زوجها في أحداث الأردن عام 1970 بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني. زوّجتهما يوم وصول العروس، ذلك أنها كانت تخاف أن تغيّر المرأة رأيها حين ترى أبي عن كثب وتعلم كم هو مريض. كان عليها أن "ترش" المال على كل من كان في المحكمة يومها لتنهي الموضوع بسرعة. هكذا قالت لأولغا. بعد أن كتب الشيخ كتابهما عادت بالعروس إلى البيت، أدخلتها غرفة الجلوس وهي تمسك بيدها. قالت لها وهي تشير إلى أبي الذي سبقهما إلى الغرفة ووقف يحدّق في الحقيبة التي ركنتها زوجته الجديدة على الكنبة. "يللا هيدا جوزك وبدنا صبي بعد 9 أشهر!". حدث كل ذلك في وجود ناديا وتحت نظرها. لم يأت أحد من العائلة الكبيرة لحضور كتب كتاب سلامة. حضر أيضاً شقيق الزوجة الذي رافقها من الأردن برغم عرجه الواضح وألم ساقه اللّذين يجبرانه على الجلوس الدائم.

لم يحتمل أحد من رجال العائلة ما تفعله نهيل. قالوا إنها "تشيل وتحطّ" كما لو أن عائلتنا لا رجال فيها. قالوا أيضاً إنّ حمزة لم يفلح يوماً في تأديبها وإنّ سلامة ربما جُنّ بسببها لا بسبب الشظيّة في الرأس.

قالت نساء العائلة إنّه نهار شؤم وإنّ نهيل أخطأت بفعلها هذا. قلن أيضاً إنّها تتحدّى مشيئة الخالق، فلو كُتب لبيتنا أن يبقى فيه رجل يرث ويخلّف ويحمل اسم العائلة لما مات أخي. لكنّ نهيل لم تستمع إلى رأي أحد منهم، ذلك أنها لم تستمع يوماً إليهم، بل أدخلت الاثنين إلى الغرفة وأقفلت عليهما الباب. لم يجرؤ أحد من رجال العائلة على محاسبة نهيل على ما فعلت، وذلك خوفاً من لعناتها التي تتحقّق دائماً.

في الغرفة جلس سلامة لا يدري ماذا يحلّ به فيما كانت المرأة تخلع ثيابها ثم تطرح أبي على الفراش وتركب فوقه قائلة: أمّك تريد ابناً وأنا هنا من أجل ذلك. هيا! بقيت المرأة مع أبي ثلاثة أيام في الغرفة لا يراهما أحد، إلا لحظة خروج أحدهما إلى الحمام. ترسل نهيل دائماً أولغا محمّلة بصينيّة الطعام الشهي مع المقبّلات والهبرة النيّة والحلويات. فيما تجلس هي في الصالة في مكان قريب من الشرفة وتروح تصلّي بكلمات مبهمة دون كتاب. تدعو أحياناً لسلامة كي يُشفى ويعود إلى رشده وإلى روح بهاء، بهاء الذي تؤمن بقوة بأنه وُلد ثانية في مكان ما ليس ببعيد عنّا. أحياناً تفتح كتاب الحكمة وتروح تطلب الغفران من الله، قائلة أن ذنوبها كبيرة وأنّها سبب مصائب سلامة. صدّقت نهيل أن للعناتها تأثيراً كبيراً على مصائر الناس حولها. كذلك صدّق كل من يعرفها. تصلّي لسلامة كي ينجب رغم إيمانها بأن اللعنات التي أطلقتها في الماضي على حمزة فعلتْ فعلها. الله يقطع نسلك قالت لحمزة بعدما علمت بخيانته لها. علمت بخيانته من رائحته التي تغيّرت وما عادت تشبه رائحته القديمة.

"شو قصتها، ضلت تلعن جدِّك بقطع نسلو تاحتّى صار متل ما بدها، واليوم جايي بدما تزوّج بيّك ليجيب صبي؟" تقول لي أولغا بصوت خافت معترضة على سلوك نهيل إلا أن اعتراضها يبقى حيّز الهمس، وهي تهز برأسها غير مصدّقة ما يجري.

لكن لا صلوات نهيل، ولا خلوة سلامة مع المرأة أدّت إلى شيء. لم ينفع أي شيء ولم تحمل المرأة وبقيت نهيل سنة كاملة تُطلق تنهيداتها المتتالية وهي تكرّر على مسمع الجميع مثَلها الذي اشتهرت به: "نيّال البيت اللي بيطلع مِنّو بيت". كأنّ موت بهاء جعلها تنتبه فجأة أنّه كان الوريث الوحيد، وأنّ موته أغلق بيتنا إلى الأبد.

لم تقتنع نهيل بأنّ لا وريث ذكراً لبيتنا ولم تقبل فكرة أنّه في النهاية لا أحد غيري سيرث كل شيء. بالطبع هي تعلم أنّني لم أُرزق بولد من زواجي بكريس، ولا تعلم أيّ شيء عن جنيني الذي سحبوه من أحشائي في عيادة الدكتور آدم قبل سفري ورموه هناك.

"يا بنتي بدك الإنكليز يورَثونا؟" تسألني بعد عودتي فيما تحاول بمساعدة أولغا أن تنزل عن سريرها وتمشي قليلاً صوب الخزانة. قصدت بذلك كريس، قصدت أيضاً أولاده من زواجين سابقين. تقول ذلك فيما تنصحني أن أكتب البيت باسم أقرباء ذكور لأبي. إلّا أن هذا المأزق الذي وجدت نهيل نفسها فيه ألا وهو رغبتها في وريث ذكر، بينما من المستحيل أن تجد هذا الوريث، لم يمنعها من إعطائي ما هو لي.

فتحتْ درج الخزانة وأخرجت علّاقة مفاتيح برونزيّة اللون تتدلّى منها مفاتيح خمسة. أخرجت أيضاً صكوكاً ومستندات. ناولتني إيّاها قائلة بحزن شديد إن بيت زقاق البلاط أصبح ملكي الآن بعد موت بهاء، الوارث الوحيد، وجنون سلامة. ما زالت تنتظر عودة سلامة، وحين أُخبرها عن حالته في أستراليا تقول إنني أزيد الأمور تعقيداً وأبالغ في تصوير وضعه العقلي، وإنه لا بد سيُشفى إذا عاد إلى هنا. هنا، الأطباء أفضل، تقول، وما إن تطأ قدمه أرض المطار حتى يتحسّن.

لم تسألني نهيل ماذا سأفعل وهل أريد هذا الميراث أو هل يعني لي شيئاً. هي بالطبع لم يخطر على بالها أن تأتيني برجل كما فعلت مع أبي وتزوّجني إياه كي أرزق بصبي يحمل اسم العائلة والبيت. إلّا أنّ هذا لن يحدث أبداً ولو أنجبتُ ألف صبي. لن يحمل ابني اسمي بل سيكون منذ البداية خاسراً له كما خسرته أنا بعد الزواج. سنوات عديدة دون شك تفصلني عن نهيل، إلا أنّ شأن الاسم والميراث في زمنينا المختلفَين بقي على حاله. ما زالت الفتاة ترحل وحيدة من بيت أهلها إلى بيت الزوج وعائلته مُجرّدَة من كل شيء حتى من اسمها. إذن لا بدّ من ذَكَر لانتقال ميراث، لا بدّ من صبي حيث لا ينفع وجود بنت، ولا حتّى مئة بنت. ليس في زمني هذا فقط بل في كل الأزمان. لكن لماذا نهيل مهتمّة إلى هذا الحد بوريث ذكر؟ أليست امرأة؟ كيف لامرأة أن تدافع عن دفنها وهي حيّة؟

صفات نهيل المتناقضة تحيّرني، إلا أنّني بقيت أحتفظ لها بحبٍّ كبيرٍ في قلبي. أليسَت هي التي علّمت كل فتيات البلدة القراءة والكتابة، وذلك حين كانت صبيّة تدرّس في مدرسة الفرنسيين للبنات. كي يتم لها ما أرادت، ابتدعت حيلة ذكية في مجتمع مغلق أسهل على الأب فيه موت ابنته من أن يُقال إنّها تتعلّم الكتابة والقراءة. فتحت مدرسة للخياطة وهي التي لم تمسك بإبرة وخيط في حياتها. قالت إنّها تريد تعليم فتيات البلدة أمور البيت والشؤون المنزلية ومنها الخياطة. والخياطة كانت أحد الشروط التي تجعل من الشابة عروساً مطلوبة في ذلك الزمان. استدعت نهيل خيّاطة تتقن مهنتها وطلبت منها أن تعلم الفتيات ساعتين كل يوم في منزل والديها. وأفردت الصالة الكبيرة التي تطل على الطريق لتعليم الخياطة.

جنّ جنون الأهل حين طلبت من البنات ذات يوم أن يأتين بلوح ليكتبن عليه. زاروا والد نهيل ليعترضوا، وليسألوه عن مسألة تعليم القراءة والكتابة لبناتهم. ناداها والدها ليسألها عن الأمر فدخلت ترحّب بأهل الفتيات وتسألهم عن المواسم والعائلة، ثم دعتهم للجلوس وقتاً أطول وقدّمت لهم الحلوى التي أعدّتها بنفسها. قالت لهم إنها تعلّم بناتهم الأحرف المتعلقة بالخياطة والتفصيل والتدبير المنزلي فقط لأنها ضرورية لهنّ، أما الأحرف المتعلّقة بالحب والخروج عن العادات والتقاليد "فحاشا وكلا"! ذلك أنّها مثلهم، أي مثل الأهل، لا ترضى بتعليمها للفتيات!

كانت امرأة قوية، لكن برغم قوتها تلك استطاع زوجها حمزة أن يُبقي علاقته بامرأة من زحلة سرية لأكثر من 30 سنة من دون علمها. وحين مات حمزة نسيت نهيل كل شيء سيّئ عنه. ندبته وبكت عليه وطلبت السماح فوق جثته. الحقيقة اختفت لحظة موته. كأنّ الحقيقة تُمحى وتزول بلحظة كما لو لم تكن، كأنّها غير موجودة بالأصل. وحين كنت أحاول تذكيرها بأمور حمزة، وقصص عشقه التي تعرفها وتتجاهلها، تروح تردّد "يا بو إبراهيم، يا بو إبراهيم شو هالحكي"، فيما تحاول الوقوف عن الكرسي الذي صار يبدو عاماً بعد عام أوسع بكثير من جسدها الآخذ في الضمور.

لم تعنها قدرتها السحرية على معرفة تحرّكات حمزة. بقي يخبرها أنه يريد الذهاب إلى صوفر لتخزين الثلج، ثم لبيعه بالجملة خلال الصيف للتجّار ولركّاب القطار المسافر بين بيروت ودمشق، والذي يتوقّف في محطة عين صوفر. توقّفت تجارة الثلج في صوفر بعد انتشار البرّادات في كل مكان، توقّف القطار أيضاً ولم يعد هناك من محطّة؛ لكنّ حمزة بقي يقول إنه يعمل هناك فيما واظبت نهيل على التظاهر بالتصديق. بعد موته وجدت كثيراً من الرسائل بين أوراقه، كذلك أبيات شعر وقصائد غزل ربّما كان ينوي أن يرسلها إلى المرأة التي أحب وبقيت في حقيبته الجلدية المحفوظة بعناية في خزانة خشبية فوق الباب. حياته تلك لم تمنع نهيل، بعد موته، من الذهاب إلى استديو التصوير لتلوين صورته وتعليقها على الجدار.

يوم سفرنا إلى أستراليا كانت صورة حمزة الملوّنة لا تزال معلّقة في صدر الصالون. أَبقت نهيل حضوره قويّاً بيننا بكلامها عنه. أحياناً أفكر أنها صنعت من حمزة أسطورة رجل. رجل يخاف منه الجميع وخاصة أبي. حافظت نهيل على وجوده بيننا بحكاياتها عنه وبصورته التي أصرّت على تعليقها في الصالون.

بعد موته أخذت نهيل الصورة الأصلية بالأسود والأبيض إلى المصور هاروت القريب من بيتنا في زقاق البلاط وطلبت منه أن يصبغها بالألوان. في بداية الأمر تعجب هاروت من طلب نهيل وقال لها إن الرجال لا يطلبون تغيير لون صورهم، بل النساء فقط يفعلن ذلك. أصرّت نهيل على طلبها قائلة له وهي تكاد تفقد صبرها: حمزة وصّاني ومات وكيف إلك تعرف أنت شو كان بدّو؟". أخرجت من حقيبتها حزمة قماش صغيرة ولوّحت بما في داخلها من نقود إلى هاروت قائلة له: "بتعرف تلوّنها أو باخذها لعند فيكين"، وفيكين كان صاحب استديو في محيط الجامعة الأميركية. لم تكن تريد أن يختار هاروت ألواناً يريدها هو ويُلبسها لحمزة بل أرادت التدخّل في كل لون. وقفت أمامه والصورة في يدها وراحت تصف له لون القميص الذي يلبسه في الصورة، ولون البنطلون والطربوش أيضاً برغم شيوع لونه الوحيد. أرادت التأكّد من كل شيء قبل ترك الاستديو. وكان كل مرة يريها الصورة الملوّنة التي أخرجها من الصندوق الأسود خلف الستارة تهز برأسها مبدية عدم الرضى، طالبة منه أن يعيد الكرّة. صبغ هاروت وجنتَي جدي بالأحمر، كذلك شفتيه فبدا كمهرّجٍ بملابس مقاتل. أما السلاح الذي كان يبدو مخيفاً الأسود والأبيض، بات في الصورة الجديدة كأنه مصنوع من البلاستيك، ذلك الذي يحمله الأولاد حين يلعبون لعبة الحرب.

بموت أخي انتهت سلالة الذكور في بيتنا، وما عاد ينفع ما بقيت تردّده نهيل أنها أرادت لأبي أولاداً كثراً إلا أن ناديا رفضت إنجاب أكثر من ولدين اثنين: أخي بهاء وأنا. كانت تخاف أن ينتهي حملها بموت الطفل، فرفضت إنجاب عائلة كبيرة. رفضها حملته معها من طفولتها ورعبها الذي عاشته منذ ولادتها وحتى زواجها بسلامة.

كانت ناديا هي الوحيدة ضمن عائلة أنجبت فيها الأم أكثر من خمسة أولاد كلهم ذكور يموتون لحظة الولادة. كل مرة تنجب جدّتي أم ناديا طفلاً يموت لحظة ولادته أو بعدها بأيام معدودة، ولم تكن تكفي الأم أوجاع الحمل والولادة ثم آلام فقدان الطفل حتى كانت تتلقّى اتّهامات زوجها أنها انقلبت على الطفل أثناء نومها وقتلته. عاشت ناديا وحدها برغم ضعف بنيتها وهشاشتها. وكي تستطيع أمّها أن تأتي إلى الدنيا بصبيان يبقون أحياءً ولا يموتون، أخذوا ناديا، الطفلة الصغيرة، إلى شيخ في البقاع. قبل الوصول إلى هناك حملوها أولاً وزاروا مقام النبي أيّوب، أطعموها الحلوى والفواكه. ثم ركبت السيارة ثانية إلى مكان قريب من بيت الشيخ الذي أجلسها في سلّة كبيرة. وكان الطقس بارداً، وربط السلة بحبل طويل وأنزلها في بئر جاف. كانت ناديا صغيرة الحجم وبدت من فوهة البئر كأنها صرة ثياب ملفوفة ومنسية في السلة. عندما وصلت السلة إلى قلب البئر، طلب منها الشيخ أن تتمنى بصوت عال ما تشتهي، والله لا بد سيحقق كل طلباتها. قالوا لها في البيت أن تطلب أخاً وأن لا تطلب ألعاباً أو حلويات أو ثياباً. الجميع هيّأها مسبقاً للكلام المطلوب. "اطلبي خيّ إلِك وسمّيه يوسف" قالوا لها وردّدوا مراراً كي تحفظ الاسم. ردّد الشيخ سؤاله مرة أخرى: ماذا تطلبين؟ لم تستطع التكلم، لم تستطع الإجابة، ذلك أنها راحت تفكر ماذا لو طلبت أن يأتيها الله بأخ ثم يموت بعد ولادته كسائر إخوتها الأطفال. ماذا لو حملت أمها مرة جديدة بطفل يولد ثم يموت ثم بطفل آخر يولد ثم يموت. تراءى لها وجه أمها وهي مكوّرة على الأرض تئن من الوجع، كأنها سمعت بكاءها. بل سمعت فجأة صوت الشيخ ينزل عليها من فوهة البئر ويتحوّل إلى صراخ بسبب عدم قولها أي شيء بعد. صارت تتأتئ وتصطك أسنانها برداً وخوفاً. لكنها لم تطلب شيئاً، بقيت صامتة. علا صراخ الشيخ. خيّل لها حينها أن الذي يصرخ هو أبوها. بدا أن لهما الصوت نفسه. فجأة ارتفع صوتها من قعر البئر ضعيفاً خافتاً خائفاً. بدا كلامها يشبه الأنين. أمر واحد طلبته بتردّد وخوف: أن يميت الله أباها وأن يريح أمّها منه. ثم غرقت في بكاء متقطّع ومخنوق. حين ولد يوسف شقيق أمي الوحيد، ألبسته جدتي لأمي ملابس فتاة صغيرة لمدة 4 سنوات. قالت إنها الطريقة الوحيدة لردّ عين الموت عنه.

*    *    *

ماتت جدّتي نهيل. دخلت غرفتها في الصباح وظننت أنها ما زالت نائمة.

جئت إلى نور بعد فقداني لجدّتي نهيل بثلاثة أيام. أردت رؤيته، أردت رؤية وجهه وعينيه للاطمئنان أنّ أمراً ما يزال بخير، وحين رأيته ارتحت. مشينا معاً حتى بيته القريب من المكتب مسافة قصيرة خلتها العمر كلّه. حين وصلنا أغلق الباب وراءه. بتّ أعلم في تلك اللحظة ما معنى القول إن "القلب ينفتّ بالكف". غاص قلبي، لم أدر ماذا أفعل حين دخلت، تناولت الجاكيت التي كنت قد وضعتها على ظهر الكنبة حين دخلت ولبستها. فعلت تماماً عكس ما يُفعل عادة، ذلك أننا نلبس لحظة الخروج، وأنا لبست لحظة الدخول. كنت كمن أغطي شغفاً يفور في داخلي أحفظه، أخاف منه، وأدفعه ثانية نحو الداخل ... بملابس. لكن لحظة انتهيت من ارتداء الجاكيت اكتشفت أن لا شيء في العالم، لا شيء على الإطلاق سيمنع رغبة تملأني من الخروج نحوه وإليه. تركتُ ذراعيّ تلتفان حوله. تركت رأسي يرمي حزنه ورغبته فوق كتفه. دفنت وجهي في طيّات كنزته النبيذية. اجتاحت حواسي رائحته. دخلت مسامّي كفعل حب. قوّة تدفعني نحوه. نسيت بيتي في كينيا ونسيت ما جئت لأجله هنا في لبنان. نسيت كلّ من في العالم، فقط أردته تلك اللحظة بقوة. أردت رؤيته وحيداً. وحيدين معاً في مكان انغلق بابه علينا. أوصدت الباب، وتركت عالمي كله في الخارج. اقتربت منه. كان طيباً ودافئاً. بدأت رائحته تنفذ في كل بقعة مني. رائحة جلده وعبقه. قال إنه متوتر وخائف، ولم أقل شيئاً. قال إنه مع كل موت بشري يموت قليل من الله، وإن الحب والموت لا يلتقيان، وإنه لا يحسن ممارسة الحب في لحظات كهذه. لم أفهم ما أراد قوله. أعلم أمراً واحداً فقط: أنه خلال دفن نهيل اجتاحتني رغبة وشهوة تجاهه. قوة مبهمة دفعتني نحوه كأن لا شيء لديّ لمقاومة الموت سوى لحظة حب معه. تابعت رحلة يديّ الاثنتين في إعادة اكتشاف جسده، في لمسه.

بدا ضائعاً ومتوتراً ... قبلاته كانت كذلك، انزلق بها من وجهي إلى رقبتي وصدري وبطني ثم إلى فرجي. كان سريعاً تائهاً ولا يستقر فمه في مكان. أردته أن يدخلني بسرعة. شعرت بأنه يخرج ألماً عميقاً من أحشائي، ألماً استقرّ هناك وصار جزءاً من جسدي. وجدت نفسي أئن بينما يرتفع لهاثي كصدى صوت حيوان مجروح في غابة. ثم رحت أبكي. لم أستطع البكاء يوم موت نهيل. الآن فقط استطعت أن أبكيها. رحت أبكي فيما بدا نور كطفل صغير يحاول إرضائي.

*    *    *

في الليلة التي سبقت موتها نادت نهيل أولغا وطلبت منها أن تحمّمها، ولما حاولت أولغا تأجيل تحميمها إلى الصباح، هاجت وصرخت. حمّمتها وصبّت على شعرها المبلول ماء ورق الغار وعلى جسدها ماء الورد، وحين لفّتها بالمنشفة الكبيرة، أمسكت نهيل بيد أولغا وطلبت منها أن تساعدها على الوصول إلى فراشها.

بدت العجوز تعبة ولا تستطيع المشي، وحين وصلت إلى السرير انتعشت قليلاً ثم طلبت من أولغا أن تجلس قربها. أمسكت بيدها وأدنتها إليها ثانية، ثم أدخلت يدها إلى ما بين فخديها قائلة لها: "شوفي... كأني بعدني صبية". وحين حاولت أولغا الابتعاد ضغطت نهيل على يدها وهي تسألها "انت عرفت الرجال أكيد؟"، سحبت أولغا يدها وبدأت برفع المنشفة عنها لمساعدتها على لبس قميص نومها وقالت بقلة صبر وتعب مصدره مرضها هي الأخرى:

لأ!

 ما عرفت ماءه؟ سألتها نهيل.

 لأ.. هيك أحسن، أجابتها أولغا.

"هاي المرة الأولى إللي بتفقد عقلها"! هكذا قالت لي أولغا فيما يشير وجهها إلى قلق خفي على نهيل.

في اليوم التالي لم تستيقظ نهيل. كانت ممددة على فراشها كأنها نائمة.

*    *    *

أرى أولغا تذبل ولا قدرة لي على قول أي شيء. لست مستعدّة لخسارة أخرى. هذا كثير عليّ في سنة واحدة.

قبل أن أعود إلى لبنان بقليل بعثت لي انتصار بتقرير الطبيب الذي يتابع أولغا وبالصور كي يراها طبيب بريطاني هو صديق لزوجي. قال الطبيب عليها البدء بالعلاج الكيميائي، لكن أولغا ترفض الخضوع لهذا النوع من العلاج. كنت أطلب انتصار دائماً على الهاتف لأطمئن على حالة أولغا. لم أجرؤ يوماً على أن أفاتحها هي بموضوع إصابتها بالسرطان، كأن الأخبار السيئة تصير ألطف وأقلّ عنفاً إذا عبرت على أفواه الناس قبل أن تصل إليّ.

كان من الصعب تقبّل ما آلت إليه في هزالها وتغيّر هيئتها. رغم ذلك بقيت صورتها التي أعرف وأحب، كذلك طغت حركتها الدائمة وإطلالتها على ضمور جسدها واصفرار وجهها.

كنّا ننام معاً في فراش واحد في بداية سنوات مراهقتي. تمدّ يدها إلى أماكن في جسدي. تعلمني اللذة وتقبلني في فمي ثم تطلب مني أن أقبلها كما تفعل هي تماماً. في علاقتي الأولى مع شاب يكبرني بسنة اعتمدت على معرفة جنسية زوّدتني بها أولغا. هي التي أمدّتني بتعليماتها الأولى. وكان اكتشافي مفاجئاً أنْ أرى أنّ للرجل أشياء مختلفة عن تلك التي لديّ أو لدى أولغا. تخلع لباسها الداخلي قبل النوم، كما تعلمتْ في القسم الداخلي في مدرسة الراهبات التي كانت تديرها راهبة سويسرية تتكلّم الفرنسية. تروح بعدها تخبرني عن جدّتها المجنونة التي لا تُحسن الطبخ وتحضّر دائماً الأكل مسلوقاً بالماء والملح. تخبرني كيف أنها لم تر أياً من البهارات والأعشاب التي توضع في الطعام إلا حين انتقلتْ للسكن مع نهيل بعد موت جدتها ولم تكن قد تجاوزت السابعة من عمرها بعد.

في الفراش، تعيد أولغا قصة ولادتها وحكاية موت أمها ميريام، التي سمّتني جدّتي نهيل على اسمها برغم اختيار أمي اسماً آخر لي هو أسمهان. تعيد أولغا حكاية كيف ربّتها جدتها وكيف لحظة احتضار الجدة طلبت من جدتي نهيل أن تنتقل أولغا للسكن معها برغم استهجان العائلة تبنّي امرأة درزية لطفلة مسيحية. كعادتها دائماً، لم تصغ جدتي العنيدة إلى أحد، وتبنّت أولغا التي لا أهل لها، وأرسلتها إلى القسم الداخلي في مدرسة الراهبات لتتعلم مثلها مثل الفتيات المسيحيات في المنطقة.

سبب قبول جدّتي الاهتمام بأولغا، ومعاملتها كابنتها برغم فارق السن والطائفة بينهما، يعود إلى قصة قديمة من قبل أن أولد بسبع سنوات، قصة من عمر أولغا تماماً. بينما كانت ميريام تلد طفلتها أولغا في البيت، كانت عمّتي الشابة، والتي وُلدت بقلب مشوّه ناقص، تنازع وتلفظ أنفاسها الأخيرة في المستشفى. في الغرفة وقفت جدتي قرب ابنتها وفي الجهة المقابلة وقف الطبيب الذي نصح جدّتي بأخذ ابنتها إلى البيت كي تموت بسلام في فراشها وبين أهلها. غابت الشابة عن الوعي، ظن الجميع أنها ماتت لتعود بعد لحظات قائلة إنها رأت أمها تلدها في مكان ليس ببعيد عن منزل الأهل. رأت نفسها طفلة تحاول الخروج من نفق مظلم وضيّق. رأت نفسها واقفة للحظات في عتمة الرحم.

"عجلوا جملوني لبسوني، إمي عم بتخلّفني! إمي عم بتخلّفني والصليب إللي برقبتها عم بينقّط عرق"، قالت عمتي الشابة بعياء ثم لوت عنقها وصمتت. لم يكن صعباً على من كان حاضراً في تلك اللحظة معرفة هوية الطفلة التي ولدت لحظة موت عمتي. ماتت عمتي فيما كانت ميريام تلد طفلة صغيرة في منزلها وقربها الداية التي أتت خصيصاً من عاليه لمساعدتها. ماتت ميريام بعد وضعها طفلة جميلة بيوم واحد فقط. قالوا إنها تسمّمت بالخلاص الذي رفض أن يخرج من أحشائها. لبست الطفلة اسمها منذ لحظة ولادتها، نادتها أمها وهي شبه غائبة عن الوعي باسم أولغا. كل من آمن بالتقمّص صدّق أنّ عمّتي ماتت ثم وُلدت من جديد.

تبكي أولغا كل مرة تشعل فيها البخّور. حين كنت أسألها عن سبب بكائها تقول إن الرائحة توجع قلبها. هي تؤمن بأن الرائحة تؤلم إلى حد الموت، وإن حمزة مات من رائحة الخيانة، خيانته لنهيل. تبكي أولغا أيضاً حين تذكر نهيل فيما تحلف أن نهيل أخبرتها أنها اكتشفت خيانة حمزة لها من تغير رائحة جلده وأنفاس فمه كلما عاد إلى البيت بعد غياب. أخبرتها أيضاً أنها علمت بخيانته منذ البداية، إلا أنها آثرت عدم مفاتحته بالموضوع. كانت كل مرّة يعود فيها من زيارته للمرأة تسأله عن مبيع الثلج، وعن عمله، وتقول له إنّ تجارة الثلج صارت خسارة بخسارة، وإنّ عليه تغيير تجارته.

في صالة الإنتظار في المستشفى والتي تغصّ بالمرضى، لم يكن هناك سوى مقعد فارغ قريب من المنفضة العملاقة المليئة بأعقاب السجائر. أفردتُ المقعد لأولغا ووقفت جانبها أنتظر دورنا.

كنت أعلم ماذا سيقول الطبيب، وأعلم أيضاً أن الحلول السحرية لمرض أولغا غير موجودة سوى في كتب الأطفال، وبرغم ذلك كنت أنتظر ماذا سيقول، أنتظره وأنظر إلى ظهره فيما هو مشغول عنا بفحص صورة الأشعة التي علّقها فوق لوح أبيض شفّاف ينبعث النور من داخله.

لم أزر ضهور الشوير منذ سنوات تقول أولغا، بما يشبه الرجاء، هناك فندق قديم، بيت قديم حوّله أصحابه إلى أوتيل. خذيني إلى هناك، أريد أن نذهب معاً في نهاية الأسبوع.

لم نتحدّث أولغا وأنا عن علاقتنا أبداً، كأن الأمور بيني وبينها تحصل من تلقاء نفسها بدون كلام. تعلّمتُ كيف تخلع امرأة ملابسها أمام مخلوق آخر. كنت اشعر دائماً في قرارة نفسي أن علاقتي بها هي محطة مؤقتة بانتظار تجربة أخرى أكثر حقيقية بالنسبة إليّ. حين أخبرتها ذلك ضحكتْ وعانقتني. انتظرتُ منها أن تقول إنّ ما أعيشه معها سيكون الأكثر حقيقية في حياتي. إلّا أنّها لم تقل شيئاً. ابتسامتها التي بدت أشبه بالعطف على فتاة صغيرة وضعَتني في مكان اللايقين. سنوات كثيرة مرّت وما زلت أشعر بطعم بشرة أولغا على شفتيّ.

هيدا سحر ما هيك؟ سحر والله! كانت تقول لي بطريقة استعراضية وهي تعني روائح التوابل التي تعشقها، والتي تملأ جو البيت. ترفع غطاء القدر الذي على النار باليد اليسرى وتحرّك ما في القدر المغلية بيدها اليمنى، ترشّ البهارات التي تحب، ثم ترفع الملعقة الي شفتيها وتذوق الطعم. يا إمي شو طيّب! تقول. تغطّي القدر ثم تبدأ بالغناء. تنظر إليّ وتقول: عيونك بعدُن متل ما كانوا إنتِ وصغيرة. عيونك إللي ما بتشبع من الأسئلة. كأنن بياكلوا كل جواب، كل كلمة، كل حركة، بتطلع من إنسان أو من حيوان، ما بيشبعوا، متل شفاه مفتوحة وعطشانة لنقطة مَيْ".

وضعتُ في قعر الحقيبة الفحوصات الأخيرة لأولغا. وضعت كل أوراقها الطبية في قعر الشنطة وأقفلت عليها السحّاب كأنني لا أريد أن أتذكّر ولا أن أرى ما حلّ بها. في الطريق الى ضهور الشوير نامت أولغا. بدا جسدها صغيراً كجسد مراهقة. خفّ شعرها كثيراً، وكانت ضعيفة وواهنة.

في غرفة الفندق بدأت بخلع ملابسها قطعة بعد أخرى ويداها ترتجفان. أقتربت منها، لأساعدها على الوصول إلى السرير. كان الجو دافئاً والنوافذ مفتوحة على آخرها. لا حركة هواء على الإطلاق، ذلك أن الستائر ثابتة على حالها. أزحت غطاء السرير وأفردت لها مكاناً للنوم. بَقيتْ ممسكة بيدي للحظات، ثم شدّتني قليلاً صوبها وأشارت بإيماءة لطيفة إليّ أن أجلس معها في الفراش. أغمضتْ عينيها. خلعتُ ملابسي ورميتُها على سريري قرب النافذة. وقفت قليلاً، استدرتُ ورأيتُ أولغا تنظر إليّ. خلعت ما تبقّى من ملابسي ومشيت عارية نحو فراشها. رفعتُ الغطاء من الجهة الأخرى واندسست قربها بألفة شخصين لم يبدّد علاقتهما الغياب.

استدارتْ نحوي، لمحتُ شبه ابتسامة خفيفة على وجهها، وجدتُ نفسي أحوطها بذراعيّ. كان جسدها العاري بارداً جدّاً برغم حرارة الجو. بشرتها ملساء برغم جفافها. اقتربتُ أكثر، وكنتُ كلّما أقترب أشعر بحرارة تدّب في جسمها. دفنَتْ وجهها الرقيق في صدري العاري. مضى وقت هكذا قبل أن يبدأ تنفسنا معاً يأخذ وتيرة متجانسة ومتساوقة. مررت يدي على ظهرها كأنّني أتعرّف عليها من جديد. لم أستطع في تلك اللحظة استعادة ملمس جسدها، ولا لحظات الدفء التي لم تفارق رأسي خلال ابتعادي عنها. تلك اللحظات التي كنت أستعين بها كلما اقترب مني كريس في الفراش. أحطتها بذراعيّ ثانية وشعرت في تلك اللحظة بالذات كأنني فقدت أي ذاكرة سابقة متعلّقة بنا نحن الاثنتين.

رحتُ أستمع إلى تنفّسها الذي أخذ وتيرة منتظمة وهادئة فعرفتُ أنّها استسلمت لنوم قصير ما لبث أن قَطَعه ألم ليلي. في الصباح استيقظنا وكنت ما أزال أعانق جسمها الذي بدا لي كأنه جسم طفل لم ألده.

غداً سنبدأ العلاج الكيميائي قلت لها، وأنا أقبّلها قبلة الصباح.

*    *    *

انتظرُ نور ولا يأتي. أعلم أنّه ليس في مكتبه، وأعلم أنّه في مكان ما في الخارج، وأنا أنتظره هنا منذ ساعات، وغرفة نومه التي لا أحبّها أصلاً موحشة وباردة. لكنني سأنتظر، سأنتظر أكثر لأنني أعلم أنه تستحيل عليّ العودة إلى هنا مرّة أُخرى، إذا خرجتُ من هذا الباب قبل أن أراه.

لذا سأنتظر، هكذا أردّ ديون انتظاره لي. كأن الهواء بدأ ينقص في الغرفة. ربّما هذا ما يفسّر شعوري بالاختناق، إذا كان انتظاري في شقّته التي تجمعني به وحيدين يُسبّب كل هذا الاختناق، فما نفع الحب إذاً. هل أخرج وأسافر، أعود إلى مومباسا، لأرى الرجل الذي لا أريد، أم انتظر آخر لا يأتي. أؤجّل لحظة الخروج من هنا، وبفعلي هذا أؤجّل كل قرار وكل حركة. أؤجّل حياتي كلها، هكذا كي أطيل فترة الانتظار أكثر. أكتب وأميّع رغبتي له عبر الكتابة، أبدّدها وأنسى. أنظر إلى ساعة الهاتف الخلوي الملقى إلى جانبي على الفراش. كان من الأفضل أن لا أخلع ملابسي. عُريي كثير الوحدة ولا أحتمله. عارية في غرفة شبه عارية والعالم كلّه ورائي، وأنا وحدي أنتظره. لا أعلم لماذا تذكّرت ما قاله لي جورج في حديثنا الهاتفي ليلة سفري الى أستراليا بصوته الدافئ وبما يشبه فقدان الأمل: "أجمل ما فيك إنّكِ بقدر ما أنتِ حاضرة أنت غير ممسوكة وsoft، حاضرة وناعمة، حاضرة كتير وحنونة كتير، قوية ومستسلمة. تعطين بدون ضعف، هذا هو الديالكتيك خاصتك، تجعلين الرجل لا يحسن فكّ شيفرتك بسهولة". هل قال كل ما يفكّر به اتجاهي دفعة واحدة وذلك لشعوره أنّنا لن نرى بعضنا بعد ذلك. أكتب الآن ما قاله جورج. ولا أفكّر سوى بنور، الذي كلّما اقتربتُ منه ازدادَ غموضاً، وكلما أوغلتُ في جسده، ازدادَ وحشة. مشتاقة لعطر جلده.

لا يحتمل نور البقاء في مكان واحد لوقتٍ طويلٍ. ربما اختلق فكرة التفتيش عن جذوره كي يتحرّك دائماً، كي يسافر. لكنّ بحثه الدائم يُقلقني، كذلك غيابه. يبحث عن جذوره ويعتقد أنّه أمسك بشيء. إلّا أنّه في الحقيقة لم يمسك سوى بظلال الماضي، بأوهامه. "لا أنتمي إلى هنا" قال لي، أريد العودة إلى بلادي. لكن هل من موطنٍ لأحد، ألسنا نحن من نخترع أوطاننا. ربّما معه حق كريس حين قال لا نحتاج إلى أسباب كثيرة كي نحبّ مكاناً ونسمّيه وطناً.

نور الذي عاد ليفتّش عن جذوره ولما لم يجدها قرّر الرحيل. أما أنا فأرى نفسي أغوص أكثر فأكثر في دائرة الانتظار. لا بأس! قلت في نفسي. سأتعلّم مرّة جديدة كيف أترك، كيف أرحل بسلام. بسلام؟ هي الكلمة المناسبة الآن. سلام في داخلي، في جدار رحمي الذي يرتجف كورقة كلما فكّرت به. هناك حياة كاملة لا سلطة لي عليها تقريباً وتتغذّى بالحب.

في لقائنا السابق دخلت إلى شقّته. لم أره ولم أر حقيبته لكنّي أحسستُ به. علمت أنّه بلا شكٍّ في غرفة النوم. أزحت ستارة الواجهة الزجاجيّة، ورأيته جالساً على الشرفة الضيّقة التي لا تتّسع لإثنين. كان لا يزال يضع نظّارته الشمسيّة ويحاول إشعال الغليون مرّة تلو أُخرى. نظر إليّ من خلف نظارته، وابتسم فيما تابع محاولاته الفاشلة لإشعال غليونه. كان كمن يريد قراءة أثره على وجهي. يريد قراءة أثر كمال هيئته وبرودته المقصودة على عينيّ وجسدي. اقتربت ورفعت النظّارة عن عينيه، اشتقت لرؤية عينيه. اشتقت لذلك القلق الذي تلفحانني به كلما نظرت إليهما. أعلم جيداً أني بتّ أحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليّ، وأنّه بنى علاقة معي ضمن حسابات تشمل حياته وعمله وعلاقته بالمكان والنساء والعودة إلى الوطن والبحث عن الجذور. انتقى مكاناً لي ووضعني فيه. مكاناً محدّداً وضيّقاً.

ها أنا أنتظر مرة أخرى. انتظار آخر ثم آخر. ما زال طعم الانتظار السابق في فمي. منذ أسبوعين انتظرته في المقهى. انتظرت مخابرة منه يقول لي عبرها إنّه عاد إلى بيروت وإنّ الغرفة تنتظرني، وإنّه ينتظرني هو أيضاً. قال إنه سيعود بعد يومين ولم يعد. انتظرته ساعة في المقهى، ساعتين، ثلاثاً. انتظرته أكثر من ذلك. الويمبي يمتلئ، الويمبي يفرغ، وحدي على كرسي قرب اللوح الزجاجي البارد. بدوت كدمية منسية في فيترين. الثامنة والنصف، موعد عشائه، مرّ الوقت، إنّها العاشرة مساءً ولم يتّصل بعد. الغرسون يحوم حولي. أنا الزبونة الوحيدة الباقية هنا حتى العاشرة مساءً. في مقاهي ومطاعم سوليدير العاشرة مساءً وقت البدايات، أما هنا في هذا الشارع بالذات، شارع الحمراء، فهو وقت الإقفال، وقت النهايات. المودكا أمامي تحوّلت إلى Veromoda  مع عنوان عريض لـ Jack & Jones . فكّرت ماذا لو حملت الكرسي البرتقالي والأبيض الذي أجلس عليه على رصيف الويمبي واقتربتُ من Veromoda  المغلق وجلست هناك أمام بابه تماماً. سأبدو غير طبيعيّة لا شكّ لمن يراني هناك. أن يتحوّل المكان الذي كان مكاناً للجلوس إلى مكان يدخله الناس أو يتفرّجون على فيتريناته بحيث يصبح من الغرابة وضع كرسيٍّ على رصيفه. البوتيكات الأنيقة لا يجلس أمامها أحد، إلّا الغالية منها حيث يجلس رجل فقط كي يأخذ الأكياس من الداخلين، تلك التي أتوا بها من محالٍ أخرى. يأخذها منهم فقط للتأكّد من أنّهم لن يضعوا فيها شيئاً من داخل المحل خفية عن أصحابه.

*    *    *

لماذا أنا هنا؟ أسأل نفسي. لماذا لم يأت بعد؟ لماذا لم يتكتك هاتفي الخلوي؟ وضعت رنينه على صوت منخفض تماماً بحيث لا يسمعه أحد غيري. لا بدّ أنّ الجميع يعلم أنّني أنتظره منذ 3 ساعات وأنّني طلبت العصير والشاي والقهوة وسندويش الجبنة المسخّن، طلبت أيضا علبة دخان جيتان بلوند. قال لي الغرسون إنّ لديهم مارلبورو أحمر وأبيض فقط، فاخترت الأبيض. دخّنت 13 سيجارة وتوقّفت. تركت 7 سجائر أخيرة تحسّباً لعودتي إلى شقّتي في شارع المكحول، وخوفاً من أن أنقطع منها بعد العودة.

ماذا سأفعل حين أعود؟ سأضع نفسي في البانيو وأملأه ماءً ساخناً. سأخلع ملابسي التي بقيتُ ساعات طويلة أختارها وأبدّلها. تركت كل ملابسي التي أخرجتها من الخزانة ملقاة على سريري حين خرجت. كم سأحتاج من الوقت كي أعلّقها ثانية. لكنّي أشعر بنعاس فظيع ولا أستطيع أن أفعل شيئاً الليلة. لا أستطيع أن افعل شيئاً الآن سوى الانتظار. كتابة الانتظار. قلق الانتظار. صمت الانتظار.

متى سينتهي كابوسي هذا، متى أنتهي من معاملات المبنى وأعود. قالوا لي في الفاكس إنها لن تأخذ أكثر من شهر، وينتهي كل شيء. أنا هنا منذ تسعة أشهر وما زلت أنتظر.

*    *    *

أستيقظ بسبب صوت نسيته لحظة استيقاظي. لا أعرف ما هو، لكن متأكدة من أنّ صوتاً ما أيقظني رغم أنني أداوم على وضع كرات الشمع في أذني كي تنقطع أصوات العالم عن الوصول إليّ. برغم ذلك وصلتْ وأيقظتني. أجلس في الفراش وأحاول أن أنزل رجليّ وأترك السرير. لا أستطيع. أستدير إلى جانبي وأنظر إلى ساعة الهاتف الخلوي الملقى على الطاولة قربي. إنها السابعة صباحاً وهناك مخابرتان missed call. أُفتّش عن الأرقام، واحدة من كريس الساعة الواحدة والنصف ليلاً، وأخرى من نور الساعة الرابعة صباحاً. أوقات غلط! أمس لم أتلقَ اتصالاً واحداً من نور للاعتذار عن تخلّفه عن الموعد، والآن أرى أنه حاول الاتصال بي الرابعة صباحاً، هل يظنّ أنني بقيت أنتظره الليل بطوله؟

أحاول النزول من السرير وأشعر بأنني عاجزة، أحاول مرّة ثانية ولا أستطيع. لا بد أنّني أصبحت مشلولة.

"ليس لديّ أيّ شيء أعطيكَ سوى شغفي"، قلت له في لقائنا الأخير. قال لي إنّ هذا كثير عليه وإنّه ربّما من سوء حظي أن ألتقي به.

فكرت أنني محظوظة قليلاً، ولم أجبه.

جاءني بعد ثلاثة أسابيع ... تناولنا الغداء معاً، ثم ودّعني قائلاً إنه يريد أن يذهب إلى مكتبه ليفتح بريد رسائله الإلكترونية، ثم ليقرأ. كنت أنتظره منذ أسبوعين. قال أنه سيغيب اسبوعاً فقط إلّا أن رحلته طالت كدهرٍ كامل. حين وصل لم أشأ أن أقول أي شيء، لم أرد أن أشير الى أيّ عتاب. أردت شيئاً واحداً فقط: أن نتعرّى ونترك لجسدينا الكلام. لم يحدث هذا. كان تعباً ونعسان، وكنت قد بدأت أهدأ ويأخذ شوقي شكل إنسان عاقل وهادئ. حين تركته، لم أكن غاضبة، فقط حزينة وشعور طفيف بالألم يعضّ روحي.

عدت إلى شقّتي. لأستحم، هكذا أغسل عن جسدي آثار خيبة كئيبة. لم يمض أكثر من نصف ساعة حتى دقّ باب الشقّة. علمت أنّه هو، وكنت ما أزال تحت الدوش. خرجت ووجهي مليء بالصابون وشعري وجسدي مبلّلان. فتحت له الباب وأسرعت نحو البانيو ثانية. خلع ملابسه ولحقني. دخل معي إلى تحت الدوش، وتعانقنا .. كان لذلك الاتحاد الرطب طعم الجنة.

ثمّة شيء دراميّ في عينيه حين يدخل في جسدي. أنظر إليه، فيغمض عينيه خجلاً، أطلب منه فتحهما والنظر إليّ ... النظر إلى وجهي وجسدي الناضج تحته. جسدي المائج تحت جسده وعينيه ورغبته. يستمهل لذّته بحركة بطيئة مني ... يتلقّفها جسده ليتمهّل في حركته الإيقاعيّة المكرّرة منتظراً إيّاي، كي تتكثّف وتيرتي وتتجمّع لثانية ضوئية، فيعرف أنني وصلت إلى لذّتي ... يعرف ذلك حين تتراخى عضلات وجهي تحت عينيه وتتلاشى وتيرة حركتي ببطء، ويأخذ صوتي بالانخفاض كي يستوي مع وتيرة تنفّسي البطيئة والعميقة. قال إنه يعرف ذلك من ضوء عينيّ ولون بشرتي وإنّني أكون بألوان لا يستطيع أن يصفها. فقط يحسّ بها.

*    *    *

جلسنا في المقهى الذي أصبح جزءاً من علاقتنا. قال لي إنّه سيعود إلى أميركا الأسبوع المقبل. الناس الذين نحبّهم يبقون معنا في داخلنا إلى الوقت الذي يصبح فيه بمقدورنا تحمّل خسارتهم. لكنّه لن يبقى معي حتى ذلك الوقت، حتى وقت تحمّل خسارته. كنت أعيش احتفال الفراق في كل مرة يدخل جسده جسدي. أريدك أن تبقى. قلتها وبي خوف. خوف خسارته التي أنتظر. ثم تابعت: أعلم أنّ الحياة ستستمرّ إذا عدتَ الى أميركا. أريدك أن تبقى هنا، هذا صحيح، لكن لا تنتظر مني أن أُقاتل من أجل بقائك. كنت أحمي نفسي بهذا الكلام وكنت أكذب. تركني ومشى. بقيت على الكرسي في المقهى وحيدة. فنجان القهوة برد، ورحت أبكي.

جئت أفتّش عن رجل لم أجده، وتركت آخر خلفي، كمن تذهب في رحلة طويلة، ثم حين تعود تتذكّرها. أتذكّر الرحلة، ولكن لن أكون المرأة التي كانت. لن أعود المرأة التي كانت، لأنّ الرحلة تلك لم تكن ذكرى فحسب ... بل حياة أخرى.

جاء نور لاصطحابي إلى الجنوب لقضاء الويك إند الأخير معاً في البيت البرتقالي، فندق عائلي صغير تديره امرأتان. تأخّرتُ في النزول من شقتي، كان عليّ أن أجهّز حقيبتي. نسيت أن أفعل ذلك حين استيقظت. كان ينتظرني بسيارته أمام المبنى. بدت عيناه عن بُعد كمن أوشك على فقدان الأمل. اقتربت وكنت أشعر بشيء آخر ومختلف. كأنني قبلت بفكرة رحيله ثانية إلى أميركا. قلت في نفسي آن الأوان لينتظرني هو هذه المرّة. كأنّ فعل الانتظار يتغذّى من نفسه ويتجدّد كل يوم ولا يهمّ من منّا ينتظر.

الحب رائع لكنه لا يغيّر البشر. هكذا بادرني ونحن نمشي على الشاطئ الرمليّ أمام البيت البرتقالي، فيما الأمواج العالية تضرب الجدار الإسمنتي ويصل رذاذها إلى وجهي ورقبتي.

 الحب رائع، كرّر وهو يبتسم ابتسامة غير المقتنع بما قاله للتو. الحب أمر رائع لكنّه لا يغيّر البشر، ردّدتُ بصمت. يبدو أنكِ راهنتِ على الحب وخسرتِ الرهان، قلت لنفسي.

كنت على حافة أن أقول له كلمة واحدة فقط: أنقذ ما عشناه معاً، أقولها بصوت منخفض لا يكاد يُسمع. أقولها وعيناي لا تتوقّعان شيئاً. أقولها ربما كي أُبقي فقط خيطاً رفيعاً بيننا. أعلم أنّه لن يسمعني، ولن يستطيع القيام بأيّ شيء حيالنا. أعلم أيضاً أنّه لم يكن يبحث عن جذوره بل عن قشّة نجاة. لم أقل شيئاً. فكّرت بنهيل التي رحلت، وبما قالته في أيّامها الأخيرة لأولغا: "في إشيا ما بتنقال، مثل العينين بسيطة وكاملة".

ترتفع الموجة القويّة على الشاطىء حيث نمشي وينتشر رذاذها على شعري ووجهي. تمتلىء شفتاي بطعم الملوحة. أفتح جسدي للموجة برغم ملوحتها. أتفتّح بقوّة الحياة نفسها، رغم الخسارة.

حين نرحل نموت موتاً صغيراً. نموت بسلام، لا بدّ أن نرحل بسلام أيضاً. الفراق ليس موتاً صغيراً فحسب، بل عودة إلى أنفسنا التي نسيناها في غمرة الشغف.

أستيقظ باكراً وأنزل لأمشي وحيدة على الشاطئ. أردت النزول الى عمق المياه علّني أتخلّص من مشاعر ثقيلة منذ الأمس. فكرت بما قاله لي نور مساءً انه يريد السفر والعودة الى أميركا لتصفية حسابه مع ما تبقّى من عواطفه. أتساءل هل ما يشعر به هو بقايا عواطف لم يجد لها متنفّساً؟

Leftovers of emotions!

هل زار لبنان ليتخلّص منها فقط؟

البيت البرتقالي يطلّ على بحر يصعب السباحة فيه، بسبب كثرة صخوره المنتشرة، لكنّني أريد السباحة. أريد أيضاً رؤية السلاحف البحريّة التي تجد في شاطئه ملاذاً لها ومخبأ لصغارها. أمشي في داخل المياه وأجد صعوبة في الحفاظ على توازني. أحاول السباحة فتدفعني الموجة القويّة نحو الصخور. يرتطم جسدي وأؤذي رجلي. تأخذني موجة ثانية وثالثة. أعود مرّة جديدة الى عمق المياه فتدفعني موجة أكثر قوّة الى صخور أُخرى. أحاول الخروج من هناك إلّا أنني لا استطيع. أحاول جاهدة الإسترخاء وترك جسدي على سجيّته كما تعلّمت في صفوف اليوغا. أخرج من المياه برضوض في أنحاء جسدي وفي رجليّ وذراعيّ. أجلس على الرمل وأشعر للحظات أنّني لا استطيع المشي. أحاول الوقوف وأنجح رغم الألم.

أعود الى الغرفة وأجد أنّ نور ما زال نائماً. أدخل الى الحمّام وأغسل جسدي من الملوحة وأجد الرضوض صارت أكثر احمراراً.

أشعر بألم في رجليّ وذراعيّ المتورّمة. أنظر الى جسدي في المرآة العملاقة التي تغطّي جدار الحمّام كله فأجد أنّني مع صورتي هذه صرت أَليق أكثر ببيروت.

ألبس قميصاً فضفاضاً بأكمامٍ طويلة. أترك لنور ورقة صغيرة وأخرج إلى المقهى القريب لأتناول الفطور رغم ألَمي. لم يمض وقت حتى وصل وجلس قبالتي، قرّب جسده وألصقه بحافّة الطاولة التي تجمعنا. بدا كأنّه يضع كلَّ ثقله على الطاولة، كما لو يريد إزاحتها، أو يريد إلغاء تلك المسافة القصيرة التي تُبعد جسدينا. قال إنّ أحلامه تتضاءل في لبنان وإنّه قبل مجيئه كان أكثر تفاؤلاً. قال أيضاً أنّه يعيش حياة غير طبيعيّة وأنّ بينه وبين الجنون شعرة، شعرة يخالها كل لحظة في طريقها إلى الانقطاع، إلّا أنّ الحظ يحالفه. رفع فنجان القهوة، شرب قليلاً ثم أضاف "أو ربما من سوء حظّي أنّ تلك الشعرة لا تنقطع". كان يتكلّم كأنّه يعتذر عن أمر غامض. رحت أتأمّل شعره المائل إلى الرمادي والذي يحيط بوجهه، فبدا كفتىً صغير غزا رأسه الشيب باكراً. على شاشة هاتفي النقّال رسالة من أولغا. قرأت عبارة "كوني سعيدة". كوني سعيدة، ردّدتُها مراراً. حينها فقط قلت لنفسي لن أعود إلى مومباسا، لن أعود إلى كريس.

رفعت رأسي عن شاشة الهاتف، ووجدت نور يلهو ببقايا السجائر المنطفئة في المنفضة. كان شارد الذهن، حزيناً.

نمت معظم الوقت في طريق العودة من الجنوب الى بيروت. كان نور يقود السيّارة صامتاً ولا يرغب في الكلام.

****

اتّصل بي في بداية المساء لحظة عودتي مع أولغا الى البيت. لم أره منذ 5 أيّام. كنت أرافق أولغا الى المستشفى من أجل علاجها الكيميائي. كنت تعبة ولم أرد على اتصاله. بعث برسالة قصيرة sms يطلب لقائي للمرّة الأخيرة. سيسافر صباح اليوم التالي إلى شيكاغو.

Have a nice trip back home !

كتبتُ له.