على غير عادتها تنشر (الكلمة) هنا الفصل الأول من رواية الكاتبة العمانية التي رسخت روايتها السابقة (سيدات القمر) مكانتها ككاتبة متمكنة من أدواتها، وقادرة كما يكشف هذا الفصل من روايتها الجديدة على رسم خيوط الشخصيات بسلاسة توحي بالتوتر الدرامي بين الهنا والهناك والذي تشف عنه التفاصيل المرهفة.

نارنجة

جوخة الحارثي

أفتح عيني فجأة فأرى أصابعها. أراها إصبعا إصبعا، ممتلئة ومتجعدة بأظافر خشنة، بخاتم وحيد من الفضة، وإبهام تنتهي بظفر صلب أسود إذ احتفظت بآثار جرح بليغ كاد يقطعها، لم أكن أرى الظفر الغريب غريبا، كانت تطلب مني تقليمه لكن أضخم قلامة أظافر تعجز عنه، تهز رأسها في كل مرة وتقول: "خلاص، جربي السكين"، وتكون هناك سكين صغيرة فعلا تظهر فجأة من مكان ما، ولكني لا أجربها، أقلم باقي أظافرها السليمة بالمقص، أترك لها مهمة الظفر الأسود الصلب في الإبهام المشوه.

أكون في سريري الضيق في غرفتي الجامعية في الطابق الأخير، أستيقظ وأرى الثلج يتساقط عبر النافذة، أقف حافية القدمين على الأرض الخشبية بمنامتي الطويلة، أحدق في الثلج والظلام، وفجأة أرى الظفر الأسود المعقوف. أراه بوضوح وأندم. أعود لسريري الضيق، تتلاشى أصوات زملائي الصينيين في المطبخ، ويخفت صوت الموسيقى الصاخبة في غرفة زميلتي النيجيرية، وأتلوى من شدة الندم.

كان بوسعي فعل شيء ما للظفر الأسود بدلا من تركه يطول هكذا، مُهملا ومعقوفا. كان يمكن لكلمة "التجاهل" ألا توجد. لكنها وُجِدَت، وُجِدَت وَنَمَتْ واستطالت كأي إظفر سليم واثق، يخدش ولا يخدش، كإظفري أنا، المحتفظ بآثار الطلاء من حفلة عيد ميلاد صديقتي الباكستانية أمس. نعم، استطالت كلمة "التجاهل" بلا قلّامة أظافر، وبلا طلاء حتى، وحين أختنق داخل منامتي الطويلة، في سريري الضيق، في الليلة الثلجية، فإنما أختنق بالندم. أختنق من التجاهل. من الغفلة. من التغافل.

هل سألتها يوما: "ماذا حدث لإصبعك؟"، ربما. لكني لا أتذكر ماذا حدث. كنت أجمع الأهلة الخشنة المقصوصة من الأظافر السليمة وأرميها، كانت تريدني أن أدفنها في التراب، وكنت أتجاهل. أتغافل. تسحب كيس أدويتها الأبيض من تحت ساقها الممدودة وتعطيني إياه، لم يكن هناك ما يُقرأ؛ ثلاثة خطوط بالحبر أو اثنين على كل كيس، الحبوب البيضاء مرتان في اليوم والحبوب الوردية ثلاث مرات. فيم كانت الأدوية؟ لا أعرف. لم أسأل. كان هناك عشرون مسألة في كتاب الرياضيات يتوجب عليَّ حلُّها، ولم أسأل عن الدواء بخطوط الحبر العجلى على أغلفته.

أنسى الأصابع، أنسى الأدوية، ثم في ليلة ما، بلا أرق، بلا حزن، بلا ذكرى، ليلة ما، أي ليلة، سأراها في المنام.

جالسة، كما ظلت في العشر سنوات الأخيرة، وجهها جميل ومليء بالتجاعيد، وابتسامتها مشرقة وطيبة، وذراعاها ممدودتان لي. حين تمتد ذراعاها باتجاهي تتثنى طرحتها الطويلة زاهية الألوان عشرات الثنيات، يلمع خاتمها الفضي في الخنصر السليم، يتوارى الظفر الأسود المصاب، وأنا سأرتمي في حضنها.

سيكون الخريف قد حَلَّ، الأشجار الضخمة المحيطة بالسكن الجامعي اصفرَّت وتساقطت أوراقها، عمال النظافة يكنسون الأوراق الصفراء عن الممرات، تتباهى الطالبات بتحمل بدايات البرد، ويخطرن بالتنانير القصيرة، وأنا كنتُ هناك، قبل لحظة واحدة فقط، قبل اللحظة التي فتحت فيها عيني وحلَّ الخريف، كنت في حضنها. كنت أشم الزباد والعود والتراب القديم، وكنا نتبادل الأدوار؛ كنت أردد الكلمة التي طالما رددتها هي: "لا تذهبي"، لا، لم يكن تبادلنا الأدوار محكما، كانت تبتسم بحنان، ولم أكن أفعل هذا حين كانت هي من يقول: "لا تذهبي".

لقد ذهبْتُ. لقد ذهبَتْ. لا يمكن تغيير شيء فما خطَّته يد القضاء قد خطَّته، "وكل دموعك وتوسلاتك لا تمحو خطا واحدا". لقد ذهبتُ، لم أبتسم، ذهبتُ بسطوة الجهل والتجاهل، الغفلة والتغافل. والندم، الندم العاتي، هو ما يجعلني أضعف من الأوراق الصفراء الخريفية تكسرها مكنسة العامل تحت نافذتي.

كان لصديقتي الباكستانية النحيلة أصابع متناسقة، وأظافر لا يمسسها الطلاء. كان اسمها "سرور" وكانت سرورا كلها. ترسل شعرها الطويل الأسود على ظهرها وتضحك بإشراق، تمد أصابعها النحيلة بأظافرها المقلمة وتخلل بها شعرها، كانت سرورا كلها، ولم يخدش أصابعها خدش، كأنما احتفظت بها الحياة في رَفِّهَا النائي عن الأنواء، في عليين، بلا خدوش ولا ندوب، وكنت أمازحها بالقول: "أنت عاشقة يا سرور"، فتضحك. كنت أستشهد بـقيس لبنى:

             وللحبِّ آياتٌ تبين بالفتى    نحولٌ وتعرى من يديهِ الأشاجِعُ

لم تحب سرور كلمة أشاجع، ولم تكن عاشقة، أختها كانت.

في عيد ميلادها الذي طليت فيه أظافري بالأحمر كانت سرور غائبة الذهن، أختها العاشقة تزوجت حبيبها زواج متعة سرا. لا أحد يعرف، وكان على سرور، الأخت الصغرى، كتمان السر غير السار، لكنه كان ثقيلا، وكانت سرور- التي نشأت في فيلا أبيها الفاخرة في كراتشي لا تتحدث بغير الإنجليزية- يُبهظها السر، لا تفهم كيف انتقلت أختها من عبث الغزل إلى فداحة الزواج، وممن؟ رجل لم يتعلم الإنجليزية إلا في ثانوية قريته النائية بأقاصي باكستان. لم يكن أبوه مصرفيا مرموقا كأبيها، وأمه الفلاحة لم تسمع عن مدينة اسمها لندن. لكن أختها، كُحْل، الطالبة في السنة الأخيرة في كلية الطب، وجدت شيخا يعقد عليها وحبيبها سرا زواج متعة. وسرور، في عيد ميلادها الثاني والعشرين، تحمل السر، تجره بداخلها مثل إصبع مشوه بظفر أسود معقوف.

شعرها الأسود الطويل منثور على كتفي وهي تنشج: "تصوري يا زهور، تصوري، أختي، أختي أنا تتزوج هذا الفلاح"، كانت سرور أجمل من أختها، تشبه أمها التي نشأت في لندن وكادت أن تكون نجمة مسارحها لولا زواجها، لم تكن تضع أي زينة على وجهها فكانت دموعها حبات صافية ونقية، لا تختلط بسواد الكحل ولا تلطخها البودرة، كانت حبات كبيرة ولامعة ولائقة، في حين كانت دموعي خيوطا منسابة على وجهي المترب، وكانت هي، بإصبعها ذي الظفر الأسود، تكشط الخيوط عن وجهي، وتناولني العصا: "اذهبي الآن واضربيهم"، أتظاهر بالذهاب وأختبئ في المصلى خلف البيت. كان ذلك في الصيف، قبل أن تُقعَد، كانت ما تزال تمشي عصر كل يوم بين بيتنا والبساتين قاطعة كل الحارات التي كنا نلعب فيها، وفي ذات يوم رأت المشهد الذي كان يتكرر كثيرا دون علمها: أنا مرمية في الأرض، تمرغني فطوم بالتراب، وأخوها عليان يجذب شعري، وخيوط دموعي المتربة تسيل بلا حول. اقتربت هي بهيكلها الضخم، طولها الفارع، وجسدها الممتلئ، وأهوت بالعصا التي تتوكأ عليها على فطوم وعليان، هربا فلاحقتهما، انسلا داخل بيتهما فرفعت عصاها ودقت بها الباب الخشبي، كادت أن تكسره، فتح أبو عليان الباب ونجا بأعجوبة من أن تفقأ عينه بعصاها، قالت له: "إذا ما أدبت أولادك نحن بنأدبهم"، وقفلت راجعة إلى بيتنا دون أن تلتفت إلي.

كانت بقايا الكيك على الطاولة وأكواب العصير الورقية، لم تقدم سرور الكحول في حفلتها، فحضر القليل من الزملاء. كانت تدرس اللغة العربية عبر نصوص كلاسيكية، فلطالما تمكنت من قراءة الطبري أكثر مما تتمكن من قراءة الجريدة، قرأت بعض التفاسير واقتنعت أن أباها كان مخطئا في تقديم الكحول بحفلاته الصاخبة في فيلا كراتشي وشقة لندن. فكرتُ بأن علينا تنظيف المكان لكن سرور لم تتوقف عن الشكوى من أختها: "فلاح، أمه وأبوه أُميَّان، فلاح". لم يكن حبيب أختها فلاحا، كان طالبا في كلية الطب، كأختها.

قلتُ فجأة: "جدتي كانت تتمنى أن تكون فلاحة". وندمتُ. رفعت سرور رأسها: "جدتك؟"، نعم، لقد خرجت الكلمات ولا يمكن استعادتها، ولقد قلت فعلا "جدتي". لماذا لا تتعلق بالكلمات خيوط لنجذبها إلينا ونعيدها إلى جوفنا؟ لا. ليس ثمة خيوط، فقد قيلت وانتهى الأمر.

 

الفصل الأول من رواية (نارنجة)، تصدر قريبا عن دار الآداب.