ثلاث قصص للقاصة التونسية الشابة مشغولة بعالم المرأة في علاقتها بنصفها الآخر الرجل، الأولى تتناول علاقة انتهت إلى طريق مسدود وأثر ذلك على روح وعقل المرأة، والثانية عن أشواق علاقة قديمة تتجدد، والثالثة عن هواجس وأحلام كاتبة أنثى تعاني من تشتت القلب والروح.

ثلاث قصص

زيـنـب هـداجّـي

هندسة الروح
لا تستطيع الجلوس أو الوقوف. بركان من الغضب ينفجر داخلها . كل معالم المكان تتحول إلى قضبان حديدية شائكة. كل المفترقات لا تشبهها.كل صوت قادم من ذلك السجن لا يحتملها مسمعها.

وضّبت كل أمتعتها وتركت له صور تجمعه بها . كانت قد مزقتها قطعا صغيرة جدا ووضعتها في مطفأة السّجائر على حافة الطاولة وليمة للريح . لم تترك له رسالة أو أي مؤشر  يدل أنها سترحل.

لقد سئمت تلك الرجولة العنترية الزائفة التي أتت على زهور عمرها.لن تطالبه باستعادة هذا البيت رغم انه ملكها .ستتركه له ليستقبل فيه أصدقائه الذين كانوا يفرضهم عليها فرضا      وعشيقاته التي كانت تباغته وإياهن كلما سافرت. لديها خطط أخرى للمستقبل.

سيصدم عندما تغادر حياته نهائيا فهو يمقت كل شخص يلمس أحد أشيائه .ألم يعتبرها دائما أحد أشيائه؟ لم يعد يهمها أن تفكر في ما يحدث له بعد أن حدث لها كل شيء لا يشبهها .نفحة جديدة تطوقها وتحملها عاليا.

قادت سيرتها وخرجت من مأوى البناية وهي تدير المقود . رفعت صوت الموسيقى وبحثت في هاتفها عن رقم صديق لها يعمل مهندسا معماريا ضرب لها موعدا بعد ساعة.

خيّرت الانتظار على طريقها الخاصة أخذت تجوب الشوارع وهي تحس بأنها تتجول فيها لأول مرة .تلك المدينة التي عاشت فيها سنينا طولا لا تصبح أجمل حدائقها أكثر نضارة      وسمائها أصفى.

ركنت السيارة وصعدت إلى المكتب على السّلم بدلا عن المصعد الكهربائي فقد باغتتها شحنة من النشاط. استقبلها المهندس بوجه بشوش و هو يسألها عن أحوالها و أحوال زوجها ... فأجابته مستغربة من كلامه بأنها غير متزوجة . بهتَ ولم يشأ أن يحرجها رغم أنه متأكد بأنها متزوجة وعاود الابتسام وهو يرحب بها من جديد وهو يسألها عن سبب الزيارة. وضعت ساقا فوق ساق و قالت:

"أريد بناء بيت بلا نوافذ و لا أبواب ولا مفتاح و ليس له مساحة محددة...شفاف كالماء         وعاكس كالمرآة..."

نظر إليها المهندس بعينين مليئتين بالشقة والرثاء بينما راحت هي تقهقه قهقهة هستيرية        و تنظر إليه بحدقتين مفرغتين...

عمر الشّوق
تعتريني نشوة غريبة و أنا أرتدي هذا الفستان الأزرق لأول مرة. إنه يرسم جسدي بدقة متناهية، يستوقف النظر إليه عند كل تفصيل...ياقته الواسعة تكشف عن مفاتني ...أتجمل أمام مرآتي الكبيرة بأجود مساحيق التجميل  وأغلاها.ارتب ما تبعثر من خصلات الغرة السوداء التي تعلو جبيني .احافظ على تسريحتي القصيرة التي ترافقني منذ سنوات. إنها ذلك العنوان الذي يزداد بريقا رغم تقادمه. أضع قرطين صغيرتين و عقد اللؤلؤ .أرشّ قطرات من عطر اقتنيته مغامرة لعلّه يمنحني الجرأة في موعدي لهذه الليلة.

سأذهب الليلة لتناول العشاء مع الرجل الذي حسبت أنني شربت معه عدة كؤوس ونحن في عرزال معلق بين أغصان شجرة في غابة أمازونية. إنه حلم طفولي ساذج لم يفارقني وأنا أكبر في عيون الناس ...وأنا اكبر في عنيّ .أنا طفلة التي لم تكبر بعد.

بقي فقط ربع ساعة على الموعد. هل أذهب قبله أم أتأخر. أن ذهبت قبله سيكتشف لهفتي    وإن تأخرت ربما سيضيع إلى الأبد. سأذهب قبله.

دلفت إلى المطعم و قبلي يخفق كطير يقاوم القفص و لكنه لا يضمن أن تكون السّماء الرّحبة أكثر أمنا من القفص الضّيق ...عاينت هيأتي في المرايا التي تكسي الأعمدة. شعرت بالرضا كما لم اشعر به من قبل.

ذلك الجسد النّحيل الخفي أضحى اليوم جذابا و ساحرا. وأنا أمرّ بين طاولات الزبائن باحثة عنه، ألمح عيونهم المشدوهة وهي تنظر إليّ .جعلني ذلك أشعر بالثقة غير أن قلبي يدق بنسق عالي من شدة توتري.

وجده واقفا لاستقبالي.صافحته وجلست. إنه وسيم كالعادة وأنيق كذلك .حتى تلك الخصلات البيضاء في شعره لم تزده إلا وقارا وجاذبية لكنّها تذكرني بالزمن الذي انقضى: كان يمرّ بالقرب مني صحبة حبيبته ويطلقان ضحكتيهما العاليتين.  ذلك المشهد يحاول خنقي ومنعي من التحليق عاليا. لقد تخلصت منه بسهولة أكثر مما كنت أتصور. ثقتي بنفسي وامتلائي بذاتي لا يعرفان حدودا هذه الليلة.

لم انتبه وأنا شاردة الذّهن إلى نظراته التي تحاول محاصرة تقاسيم وجهي بعينيه الزرقاوين المتلهفين.

ابتسمت وقلت له:

- ألن تطلب لي شيئا لآكله؟

مرّر أصابعه على حافة الكأس الفارغة وقال:

- بلى ماذا تريدين؟

قلت :

- سأطلب أنا لكلينا نفس الطبق...سيعجبك كثيرا...نسيت أن أخبرك بأنني من الزبائن الأوفياء لهذا المطعم.

هز رأسه موافقا...أعلمت النادل بطلبي والنشوة تجرفني نحو شلال من النصر. الصمت يسود بيننا .لا نتخاطب إلا بالعيون لكنني قطعت الصمت قائلة:

- ها نحن نلقي مجددا بعد عشر سنوات...

فقاطعني فجأة:

- كم أنت ساحرة!

لم أقل شيئا. واصلت النظر إلى عينيه الزرقاوين الحائرتين والتائهتين ...ولهيب الروح قد أخذ مني مأخذا عظيما. واصل كلامه:

-عشر سنوات لا تعني لي الكثير، عشر تعج بالخسارات والفشل .أما أنت فمنحتك الجمال و النجاح . كل زملائنا القدامى بالكلية يتناقلون أخبارك الآن. في ما يتعلق بي، فما عاد أحد يذكر ذلك الشاب الوسيم الأشقر. أليس كذلك؟

-صحيح ما تقوله ولكنك مازلت وسيما ومازلت أذكرك دائما.   

ضحك بمرارة ثم قال :

-لقد تزوجت ثم طلقت زوجتي بعد خمس سنوات دون إنجاب وانهمكت في العمل في المؤسسة البنكية التي قابلتني فيها عندما جئت إلى مكتبي لقضاء بعض المعاملات التي تخص شركتك. في البداية لم أتعرف عليك ولكنّك صافحتني بحرارة وأنت تضغطين على يدي كأنك تذكرنني بشيء ما. حضورك كان قويا و أناقتك الفائقة لا تقاوم لذلك لم أستطع رفض دعوتك للعشاء هذه الليلة .إنني فعلا لا أذكر كيف كنت عندما كنّا زملاء في الكلية...

صمت فجأة، حدث شيء ما في ذهنه المشوش، شلّت حركته كليا.لا أعرف هل ما حدث له أمر جيد أم أمر سيء ولكنه يرضيني الآن على كل حال رغم أنني لا أريد الانتقام منه لسنوات عمري المظلمة فهو لا ذنب له في ذلك...رغم أنه جرحني دون أن يدري أو يقصد...

جاء النادل بالطعام وتمنى لنا شهية طيبة ثم غادر.ابتسمت له قبل أن أبدأ بالأكل وهمست له:

-سأحكي لك الليلة أكثر الحكايات تشويقا ...لكن قبل أن أبدا بالحكي، هل أعجبك المكان؟

منتصف الليل
انتصف الليل وهي تجلس في الشرفة ليس في الشارع المقابل لها سوى عمود الإنارة العمومي والقمر أو هي لا ترى سواهما لأنها جالسة تتلهى بقراءة كتاب حول تاريخ الأندلس أبان الحكم المسلمين توقفت فجأة عن القراءة. لقد سمعت رنين هاتفها. الهاتف مقلوب وهي تسمع الرنين فقط.

"هل يكون هو؟"

إذا كان هو ستتظاهر بأنها لم تشتق إليه...ستعاتبه ...ستلومه ...بل ستوبخه...ستشتمه إن لزم الأمر. ستفعل وستفعل و...

"اذ لم يكون هو؟"

من يكون إذن؟ من تذكر رقم هاتفها المنسي الذي يختنق من مذكرات الرجال تحت الآلاف من أرقام النساء الأخريات . ثم تساءلت : لماذا انتظر مكالمة من رجل؟ ربما إحدى صديقاتي أو قريباتي تتصل لتطمئن علي. لكن ذلك لا يحدث أبدا.

مازال الهاتف يرن . حيرتها تتواصل . يدها تمتد إليه وترتد آلاف المرات.الرنين لم ينقطع. يبدو أن المتصل مصر.ألقت الكتاب و أخذت الهاتف بين يديها. أمعنت النظر في الشاشة : إنه رقم هاتف غير مسجل عندها ...ترددت كثيرا، وأخيرا أجابت:

-ألو مرحبا

-مرحبا ...الآنسة وفاء؟

-أجل ...من حضرتك؟

-نحن مؤسسة "الأمل" .لقد قبلنا طباعة مجموعتك القصصية .نتصل لنطلب منك القدوم غدا على الساعة العاشرة صباحا لنتم الإجراءات اللازمة.

-...

-ألو

-أجل ...أجل أسمعك سأكون غدا في الموعد...شكرا، شكرا.

-حسنا إلى اللقاء ...

-في أمان الله...

لم تصدق أنهم قبلوا طباعة مجموعتها القصصية .فقد اعتراها اليأس: منذ سنتين وهي تنتظر هذه المكالمة .لكنّها أيضا تنتظر المكالمة التي لم تيأس منها أبدا.

انتابتها عدة خواطر. شردت بعيدا، وقفت في الشرفة و نظرت إلى الشارع :هناك أعمدة كهرباء أخرى بالإضافة إلى ذلك العمود الماثل أمام شرفتها .هذه الأعمدة ذات إنارة مختلفة...بدا الشارع جميلا هادئا...النور يطوقه من كل جانب. البيوت تتخاطب في صمت   و تتشارك في احتواء الناس داخلها وتقيهم برد الشتاء. وفاء مازلت شاردة. فجأة، انطفأ العمود المقابل لها. لكنها ترى الشارع الآن أوضح. لقد كان نوره الساطع يعميها عن رؤية الحي كما ينبغي. لامت نفسها كثيرا لأنها حرمت من هذا المشهد الرائع . مرت سنوات وهي تجلس في هذه الشرفة دون أن تحاول يوما الوقوف. كانت تخاف المرتفعات وتخجل من قصر قامتها.

أحست بالنّعاس يداعب جفنيها ويغريها بالنوم .جمعت متاعها .أخذت الهاتف لتعدل المنبه لتستيقظ باكرا استعداد للموعد. مرت على قائمة الاتصالات الواردة. تأملت جيدا زمن آخر اتصال : انه منتصف الليل. تساءلت عندها: هل توقيت العمل في مؤسسة الأمل يمتد إلى منتصف الليل؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من مجموعة قصصية بعنوان "متران ونصف" ستصدر في المغرب