ماذا لو قابلتَ حُبَّ حياتِكَ وأنت متزوِّج أصلًا؟ هل ستدعه يمرُّ هكذا؟؟
فالمتزوِّجونَ بالغالِب بارعونَ بالكذب على أنفسهم وعلى الآخرين…
“قاعدة لوحدك ليه يا فندم؟” هكذا بدأتُ حديثي معَها عندما رأيتُها تجلس بمفردها بالمؤتمر لأوَّل مرّة, قلتُها حينَها بدافع مِن الفضول, حقيقة كنتُ أودُّ معرفة مَن هي؟ ولماذا تجلس وحدَها في مؤتمر علميٍّ يضمُّ العديد مِن الشخصيّات المشهورة؟ توقَّعتها مِنهم, كان يبدو عليها الهدوء والرزانة كأيِّ عالِم يقضي أوقاته بين التجارب. هكذا كانت البداية.
نَظَرَتْ إليَّ بهدوء عينيْها وصفاء وجهها الباسِم المُشرق قائلة: نعم !
رَدَدْتُ الجملةَ مرّة أخرى بشكل مُباشِر مِن لهجتها الآمِرة: قاعدة لوحدِكْ ليه يا فندم؟
لم تردَّ فأكملتُ حديثي: “بالمناسبة أنا الدكتور سالم مصطفى أستاذ بكليّة العلوم جامعة القاهرة وأعمل حاليًّا بكاليفورنيا, تسمحي لي اقعد؟
ما أدهشني أنَّ كلَّ هذا لم يُثِرْ اهتمامها وكأنِّي لا شيءَ أمامها, بَدَتْ غير مُبالية تمامًا قائلةً وعينُها تبرز مِن فوق نظارتها حمراءِ اللون: أتفضَّل؟! ثمَّ أغلقتِ الأوراق التي كانتْ تتصفَّحها قائلة: وبعدين؟.
تابعتُ حديثي: آسف إذا كنتُ قاطعتُ شيئًا هامًّا. ابتسمتْ… لأُتابع حديثي: “هو حضرتِكْ دكتورة؟ عالِمة؟ صحفيَّة؟ نظرتْ إليّ وقد ضاقتْ ذرعًا منِّي, إلّا أنّها لم تعبِّر عن ذلك قطّ قائلة: هو حضرتَكْ مهتمّ ليه؟
ضحكتُ من جرأتها قائلًا: شكلي ضايقت حضرتك؟
ردَّتْ بسرعة وكأنّها أدركتْ خُشونة حديثها: لا أبدًا يا فندم. وقدَّمتْ لي نفسها قائلةً: بالمناسبة أنا سلمى بشتغل بدار للمُسنِّين. ابتسمتُ لها مُتعجِّبًا وكان وجهها كالبدر: أهلًا وسهلًا, إنتِ في كليّة طبّ؟ أكيد شكلك دكتورة؟
لا أبدًا أنا مش في كليّة طبّ ولا حاجة، تابعتُ: يبقى أكيد في كليّة علوم طالما مهتمّة بحضور مؤتمر عن السرطان .
بابتسامة واثقة قالتْ: لا أنا دبلوم تِجارة مجموعي مجبش ثانوي، يعني الظروف مساعدتنيش.
وهنا أُقسمُ لكَ يا ولدي أَخَذَتْني الدهشة والفضول، تساءلتُ: أُمّال بتعملي إيه هنا؟؟
سَأَلَتْ: إنت دكتور مش كده؟
رَدَدْتُ: نعم.
تابَعَتْ: أنا بحبِّ العلوم وكان نفسي أدرَّسها, إنت عارف حبّ العلوم مرضي، تقدر تقول لا تراجع ولا استسلام .
ضحكتُ لحديثها البسيط التلقائيِّ مؤكِّدًا حديثَها: فعلًا إلِّي يحبِّ علوم يموت في علوم.
ضحكَتْ هي الأخرى وكانَتْ ابتسامتها فاتنة للغاية لدرجة أنَّها أخذتني لعالم آخر, كانَتْ فتاةً صغيرة كما يَبدو عليها, تبادَلْنا الأحاديث وعلِمْتُ أنّها تحبُّ الأعمال الخيريّة وتُشاركُ بالعمل المجتمعيّ والجمعيّات الخيريّة, أمّا عن عملها بدار المُسنِّين فجاء لأسبابٍ، أوّلًا لأنّها تُحبُّهم كعائلتها, كما أنَّ عائلتها تخلَّتْ عنها وطبعًا لكسب العيش، فأُسرتها كانَتْ منفصلة حيث تزوَّجَ أبوها وتركها لأمِّها, وعندما تزوَّجت أُمُّها تخلَّت عنها هي الأخرى، كانَتْ فتاةً وحيدةً تمامًا لا أخ ولا أخت. رفضَتْ عائلة أبيها رعايتها عِندًا بأمِّها, ورفضَتْ عائلة أمّها رعايتها مُعلِّلينَ: أهل أبوها أولى بيها .
المؤتمر كان يومين، دا كان اليوم الأوّل، واتَّفقتُ معها أنْ أراها اليوم الثاني, وباليوم الثاني وبالرغم من أنّها كانَتْ تبتعد عن مكان المؤتمر حوالي ساعتين إلّا أنّها كانتْ على الموعد المحدَّد مُسبَّقًا، العاشرة صباحًا. وَصَلَتْ قبلَ وصولي وعندما اتَّصَلَتْ عليَّ أخبرْتُها بأنِّي في الطريق .
وبالفعل في غُضون ربع ساعة وَصَلْتُ وكلَّمْتُها ورأيْتُها وجلستُ معها وتبادَلْنا أطراف الأحاديث وأهدَيْتُها مجموعةَ كُتُبٍ كنْتُ قد وَعَدْتُها بها مُسبَّقًا تُثقِّف نفسها, أَحْضَرْتُ لها ثلاثة كُتُب، ووعدتُها عند رؤيتي لها في المرّة القادمة بأنّه سيكون هناك المزيد, ولكنْ بالمُقابل عليها أنْ تعطيَني كتابًا هي الأخرى (تبادل معلوماتيّ) هكذا أسمته, وبالفعل أذهَلَتْنِي أَخْرَجَتْ مِن حقيبتها كتابًا كانَتْ أعدَّته لي، أتدري ما كانَ عنوان ذلك الكتاب؟
ردَّ الصحفيُّ الذي كانَ يُجري الحوار معَ العالِم المِصريِّ سالم مصطفى في عيد مولده (75) وبعد فوز اسمه بجائزة نوبل للعلوم: أتشوَّق لأعرف.
العالِم المِصريُّ يشرُدُ بعينيه قليلًا قائلًا: كانت مسرحيّةَ الملك لير باللغة الإنجليزيّة ومَعها كشكول, فسأَلْتُها: ما هذا الكشكول؟ ردَّتْ بكل ثقة وكانَتْ تُلهِمُني ثقتها بنفسها كثيرًا: إنَّها مسرحيّةٌ لشكسبير باللغة الإنجليزيّة وهذا الكشكول ترجمتي لها .
نظرتُ لها بكلِّ استغراب قائلًا: معرفش إنّهم بيدرَّسوا إنجليزي بالدبلوم؟!
هزَّتْ كتِفَيْها في لا مُبالاة: إنّها علوم الحياة سيّدي الفاضل. وقالتْ هذه الجملة التي لا يزال صداها يرنُّ في أذني الآن: All I Want is a fact.
وأغمض العالِم المِصريُّ سالم مصطفى عينيه وكأنّه يستمعُ إلى الجملة منها قائلًا: أسمَعُ صوتها يا ولدي في أذني الآن، لقد مرَّ عليَّ هذا قبل (28) عامًا إلّا أنِّي أسمعُ صوتها وكأنّها بجانبي الآن.
ثمَّ يفتحُ عينيه ناظرًا للصحفيِّ فسألتُها: يعني إيه؟؟
ردَّتْ والبريقُ بعينها: أَلم تقرأْ من قبل لتشارلز ديكنز؟؟
تعجَّبتُ قليلًا: “أتقرئينَ لتشارلز ديكنز؟! ابتسَمَتْ: “الجملة دي كانت بداية رواية اسمها (أوقات عصيبة) أو (.(hard times
لمعَتْ عيوني من ثقافتها ونضوج عقلها، فسألتُها بكلِّ فضول: :how old are you miss pretty?
ابتسمتْ… لا لا لا لا… بل ضحِكَتْ ضحكةً صداها لا زال بأذني إلى الآن: لا تسألِ المرأة عن شيئين سيِّدي الفاضل .
سألتُها ضاحِكًا: وإيه همَّ سيّدتي الفاضلة؟
ردَّت مبتسِمةً: السِّنّ والعمرُ طبعًا .
وهنا يقاطِعُه الصحفيُّ بفُضُول: وهي كان عندَها كام سنة يا فندم وقتها؟
ضحكَ العالِم مُقهقهًا: أنا لم أعرف بسهولة، لذلك لن أخبرَكَ بهذه السهولة .
يسألُه الصحفيُّ: ألم تكن مُتزوِّجًا يا دكتور بهذه الفترة بحياتِك؟
العالِمُ المِصريُّ: نعم كنت مُتزوِّجًا حينها, إلّا أنِّي لم أكُنْ سعيدًا بزواجي, كثيرًا ما كانَتْ تُعِيقُ طريقةُ زواجي التقدُّمَ في عملي، دعْنِي أكمل لك.
الصحفيُّ: تفضّل سيِّدي .
مرَّ اليومُ سريعًا لا أتذكَّرُ متى سَعِدْتُ على هذا النحو، فقد كانَتْ حياتي بئيسة مُملَّة ضَجِرة مِن العمل والأبحاث، كنتُ قد تجاوزتُ الأربعينَ مِن عُمري حينَها، وأشعرُ بالهرم، أعادَتْنِي سلمى لِحَياتي, واتَّفقنا على إكمال أحاديثنا بالإنترنت, كانَتْ تدخلُ على الإنترنت يوميًّا بعد السابعة مساءً فورَ الانتهاء مِنْ عملها برعاية المُسنِّين, كنتُ أُحدِّثها يوميًّا على مدار خمسة أعوامٍ، أحادِثُها وتحادِثُني، وأعرِفُ أخبارَها، وأصبحْتُ أبلِّغُها أخباري بشغف، وأنتظِرُها في موعدنا بكلِّ لهفة، كنتُ أحادِثُها وأنا بِمِصرَ وبالصين وبالولايات المتّحدة وإنجلترا، أينما ذهبت أحادِثُها وأرسِلُ لها أخباري وصوري وهي أيضًا كذلك .
في حقيقة الأمر الإنترنت ساحرٌ, تعلَّقْتُ بها بشكل ساحِرٍ وهي أيضًا, إلّا أنِّي كنتُ أَكبُرُها بعشرينَ عامًا، كنتُ بالخامسة والأربعين مِن عُمري وهي بالخامسةِ والعشرين، لم تكُنْ علاقةً متكافئةً على الإطلاق من ناحية السنّ، غير ذلك ما شَعَرْتُ يومًا معها بهذا الفرق ولا هي أيضًا, كنّا نُكَمِّلُ بعضَنا البعض على نحْوٍ جميلٍ وغريبٍ في الوقت نفسه .
يُقاطِعُه الصحفيُّ: معذرةً سيِّدي، متى تزوَّجْتُما بالتحديد؟
دعني أُكمل حديثي، إنِّي رجل عجوز، اعذرني.
الصحفيُّ: تفضَّل سيدي، يُكمِلُ سالم مصطفى حديثَه: خلال خمسة الأعوام لم أَزُرْ مِصرَ ولا مرّة، انشغلْتُ بعملي وأبحاثي خارجَ مِصرَ وتركَتْنِي زوجتي، لم تكُنْ سعيدةً معي ولا أنا أيضًا, لم نُنجِبْ أبناءً؛ ما سَهَّلَ الانفصال أكثر، لم يكُنْ هناك ما يُعيقُ انفصالنا على الإطلاق, جاء أسهلَ مِمّا توقَّعْتُ. زوجتي الأولى كانَتْ تُريد الطلاقَ أكثر منِّي… وتزوَّجتُ عَمَلِي ثمَّ يَضْحَكُ قائلًا: طلَّقتُ زوجتي بِعِيد زواجنا العاشر.
الصحفيُّ باستغراب: العاشِر !
نعم يا بنيَّ، لا تتعجَّب مرَّ على زواجي الأوَّل عشرة أعوام.
الصحفيُّ: وبعدها طبعًا تزوَّجتَ السيِّدة سلمى.
يضحكُ سالم مصطفى: أنتم الشباب دائمًا في عجلةٍ مِن أمركم دائمًا.
يشعُرُ الصحفيُّ بالإحراج: تفضَّل بروفيسور سالم.
يُكْمِلُ سالم حديثَه: لم تَذْكُرْ سلمى يومًا لي شيئًا عن علاقاتها العاطفيّة أو أنّها مُرتبِطة, فتشجَّعْتُ يومًا وسألتُها: تعرفينَ نحنُ نتكلَّم منذ أربع سنوات، رأيتُك خلالها مرَّةً واحدة، أعتقد أنّك مُرتبطة؟ صحيح؟
تضحَكُ سلمى ضحكةً يجْهَلُها أبناءُ جيلِك قائلةً: أنا لا عُمري حبِّيتْ ولا ارتبَطْت بحَد, الحقيقة محدِّش عِرِف يعلَّقني بيه .
ينظُرُ العالِم المِصريُّ إلى الصحفيِّ: تعرَفْ، اطمئنَّ قلبي قليلًا حينها, وسألتُها لماذا؟؟
أجابَتْ بأنَّها لم تَجِدِ الشخص المناسب إلى الآن.
الصحفيُّ بكلِّ فُضُول: وماذا بعد؟
يبتسمُ سالم: أبلغْتُها خبر انفصالي عن زوجتي وأنِّي مُعْجَبٌ بها، وأُدْرِكُ تمامًا فرقَ السِّنِّ الكبير، ولكنِّي أحتاجُها بجانبي, كنت أُدْرِكُ في قرارة نفسي أنّها سَتَرْفُضُ حتمًا، إنّها صغيرة… جميلة، أمامها العمر طويل .
يُتابِعُ الصحفيُّ بعيون لامِعة: ووافَقَتْ؟؟
يبتسمُ العالِم المِصريُّ من الشابِّ المُتلهِّف، السابق للأحداث: غابَتْ أسبوعًا كاملًا عن الإنترنت، لا أعرِفُ عنها شيئًا, فحاوَلْتُ الاتِّصال بها على الهاتف وتذكَّرْتُ حينها أَنِّي لم أَسْمَعْ صوتها منذ أوِّل مرّةٍ رأيتُها بها، أيّ منذُ خمس سنوات، الإنترنت ساحرٌ فعلًا, إلّا أنّه كانَ مُغلقًا, كِدْتُ أُجَنُّ إلّا أنّه لم يكُنْ باليَدِ حيلة، مرَّ الأسبوع وكأنّه دهرٌ، كنْتُ أنتظِرُها كلَّ يوم في الموعد نفسه، انتظرْتُها كثيرًا.
أَتعلمُ يا بنيَّ ماذا يحدثُ عندما يخافُ الرجل؟
لم يجدِ الصحفيُّ الردَّ المُناسب فسكَتَ مُنتظِرًا الإجابة .
لِيُكمِلَ العالِم المِصريُّ حديثَه: يَبْكِي بُكاءً حارًّا صامتًا, كنتُ أخشى خسارتها للأبد .
الصحفيُّ بكلِّ تأثُّر: أنت عالِم مِصريٌّ مشهور جُبت أنحاء العالَم، ألم تُعْجِبْكَ أيُّ واحدة؟! ما سرُّ هذا التعلُّق؟
يبتسمُ العالِمُ المِصريُّ: إنّه الحُبُّ… ثمَّ يتابِعُ, وأخيرًا أنارَتِ الإنترنت فسارَعْتُ وبادَأْتُها الحديث بكلِّ لهفةٍ وخوفٍ وقلقٍ: كنتِ فين؟؟؟
ردَّتْ عليّ قائلةً: إنتَ ليه مُعجب بيّ؟
أخبرتُها بكلِّ جديّةٍ وحزمٍ: لأنِّي أُريدُ الزواج منكِ .
أجابَتْ: أنْتَ تعلَمُ جيِّدًا أنَّ الإنترنت مُجتمع افتراضيٌّ لا يُنشِئ علاقات…
الإنترنت يُقرِّب ويقوِّي العلاقات، لقد رأيْتُكِ من قبل, علاقتنا ليسَتِ افتراضيَّة، إنّها واقعيّة .
فكانَ ردُّها مفاجأةً بالنِّسبة لي: موافِقة .
حينَها ابتسمتُ واطمئنَّ قلبي، فسأَلْتُها: أين كنتِ على مدار الأسبوع الفائت؟؟
أنت تعرفُ أنِّي فتاةٌ وحيدة احتجتُ وقتًا للتفكير.
لقد قَلِقْتُ عليكِ كثيرًا…
أتذكُرُ تلك الشركة التي طَلَبَتْ مُترجمينَ؟ أعتقِدُ أنِّي أخبرتكَ؟
طبعًا أتذكَّرُ، هل تقدَّمتِ للعمل بها؟
نعم تقدَّمْتُ وقُبِلْتُ أيضًا.
ألف مبارك.
كانَتْ تُحِبُّ أهلها بدار المُسنِّين كثيرًا، لم تعرفْ غيرهم لفترة طويلة، وحذَّرُوها منِّي كثيرًا، كانَتْ دائمًا تقولُ لي -ويُغمِضُ عينيه ليستمِعَ إلى صوتها وكأنّه بداخلها-: إنِّي أثِقُ بقلبي كثيرًا.
أخبرتُها أنِّي سأزور مِصرَ بعد شهرين بمؤتمر، وأوَدُّ رؤيتها، ومرَّ الشهرانِ كأنَّهما دَهْرٌ، وقابَلْتُها، كانَتْ كأوَّل مرَّةٍ رأَيْتُها فيها منذ خمس سنوات. جميلةً… بل فاتنة، وتقدَّمتُ لِخِطبتها, أُمُّها لم تَكُنْ تُبالي كثيرًا, اعْتَذَرَتْ لأنّها معَ زوجها بالخارج, وأبوها كانَ مريضًا وأنجبَ أبناءً ولم يعُدْ في حاجة لِمزيد من المسؤوليّات, أبلغني أنّه لديه الأولاد ولا يستطيع تجهيز عروس، فلديه قائمة أولويّات، لم تكُنْ ابنته على رأس هذه القائمة .
أَخْبَرْتُهُ أنّه لا يُهمُّني ذلك، أريدُها فقط، فأجابَ: إذا كُنْتَ تُريدُها فقط فهي لكَ.
كانَتْ فتاةً حَيِيَّةً جدًّا, شَعَرَتْ بإحراجٍ كبير أَخبَرَتْنِي مُبتَسمةً: إنَّها مَعها نقودٌ كافية لتجهيز عروس: لنْ أُحمِّلَكَ فوق طاقتك، اطمئنَّ .
تمنَّيْتُ لو احتَضنْتُها وقتَها إلّا أنِّي احتضنْتُها بِعُيُوني لِأَشْعُرَ بِدُمُوعها المَحبوسة .
ومنْ ثَمَّ سافَرْتُ لعملي بالولايات المتّحدة مدَّةَ شهرٍ، وتركتُها تستعِدُّ للزواج في تلك الفترة، على أنْ أعودَ للزواج بها, وَعُدْتُ بعد شهر وتزوَّجْنا، وسافَرَتْ معي للخارج، عملها بالترجمة أفادَها كثيرًا فوجدَتْ عملًا سريعًا.
الصحفيُّ بتأثُّر: لم أرَ رجلًا يُبْكِيهِ الحُبُّ مِن قبلُ؟
لأنَّكَ لم ترَ الحُبَّ أو لم ترَ امرأةً مثلَ سلمى من قبل, مرَّتِ الأعوام سريعًا والنجاح بعملي مستمِرٌّ تَدفعني زوجتي إليه يومًا بعد يوم.
الصحفيُّ مُقاطِعًا: صحيح أنت أهدَيْتَها جوائزَكَ كلَّها ودائمًا تذكرها بنجاحك؟
طبعًا؛ لأنَّها لم تَدَّخِرْ وُسعًا لسعادتي وحثِّي على النجاح، كنتُ سعيدًا مَعها بأيِّ حال, عندما فُزْتُ بجائزة الدولة التقديريَّة لم تكُنْ معي حينَها.
سافَرْتُ لعملٍ بالخارج ووعَدَتْنِي أنْ تكونَ بجانبي وأنا أستلِمُ جائزةَ نوبل، وها أنا الآن… يختنقُ صوتُه بالدموع.
الصحفيُّ: تبدو قصّةً نادرةَ الحدوث… أليس كذلك؟
العالِم المصري يضحكُ مُقهقِهًا قائلًا: لو كان الإنسان لديه المقدرة والقدرة على أنْ يفعلَ ما يُريد وقتما يُريد ما عَرفَ الندم، فنادرٌ أنْ يستطيعَ الإنسان إرضاء نفسه وفِعْلَ ما يُريد, والأندر أنْ يكونَ سعيدًا فِعلًا في حياته، فكثيرًا لا يُسعِفُ القَدَرُ الرجل أنْ يرتبطَ بمن يُحِبُّ أو يرغبُ, ولكنِّي رجلٌ مَحظوظ, وقصَّتي واقعٌ يُعاش في كلِّ وقت ولكنْ بأشكال مختلفة .
الصحفيُّ: هل نَدِمْتَ على شيء خلال هذه الرحلة الطويلة؟
ندمْتُ على وُجودي هنا الآن بفيينا وزوجتي ليستْ بجانبي، رَحِمَها الله, لقد كانَتْ تدَّخِرُ النقود مِن أجل مصاريف الرحلة، كانت تستعِدُّ لها أكثر مِنِّي .
أتعلمُ ما الطريفُ يا ولدي؟؟
الصحفيُّ بلهفةٍ: ماذا سيِّدي؟
تلقَّيْتُ خبرَ فَوزي بالجائزة وأنا أَدْفِنُ زوجتي الحَبيبة, مصادفةٌ غريبةٌ سأستلِمُ الجائزة غدًا وأُهْدِيها لرُوحي، زوجتي، أَعْتقد أنِّي اكتفيتُ مِن الحديث اليوم .
وفي الصباح يذهبُ الصحفيُّ لغرفة العالِم المِصريِّ ليصْطَحِبَه لاستلام جائزة نوبل فيجده مُتألِّقًا في حُلَّتِهِ الفاخِرة التي اشْتَرَتْها له زوجَتُه ومُلْقًى على السرير، يحاوِلُ أنْ يُحرِّكَه أو يوقظَه إلَّا أنَّه قد وافَتْهُ المَنِيّة, ووجدَ بِيَدِهِ ورقةً يبدو أنّه أَعَدَّها ككلمةٍ كَتَبَ فيها “حُبِّي أَوْصَلَنِي لِنُوبل، زوجتي الحبيبة سلمى…”.