نقاش حول ثورة يناير في مصر:
أين البديل؟ كان أحد الأسئلة المركزية للضغط على ثوار يناير وترسيخ العجز والعوار في قدرة الثورة على تحقيق شعارتها وما طرحت من أحلام. إلا أن المشكلة لم تكن في وجود نخبة عاجزة عن طرح بديل، بل في وجود نخبة عاجزة عن خوض صراع حقيقي وعنيف حول السلطة وأسئلتها المختلفة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الشكل الهش من القيادة الذي جسده البرادعي. فقد أتيحت للرجل كل المقومات المطلوبة لخوض صراع على السلطة: مجموعات شبابية تتنوع بين الطبقة الوسطى العليا والدنيا، قادرة على الاشتباك والصمود في وجه ماكينة الدولة وآليات القمع، وحتى بعض الشرائح البرجوازية. غطاء دولي وترحيب به، إمكانيات مالية، وفرصة سياسية تاريخية، حيث انهيار النظام السياسي لمبارك وسقوط جانب كبير من الدولة (هزيمة الداخلية المصرية في 28 يناير) وارتباك مؤسسة الجيش. إلا أن البرادعي آثر النضال القانوني والدستوري، في أوج المخاض الثوري والتغيير الاجتماعي الضخم في مصر، وكانت معركته تتجسد في "الدستور أولاً".
ويمكن القول بوجود محاولة للهروب حتى داخل أروقة الثورة من مساءلة السلطة في العمق، والاكتفاء بشعارات كثيراً ما كانت معلَّبة ولا ترقى لمستوى احتدام الصراع السياسي والاجتماعي، مثل الشفافية، والإجراءات، والديموقراطية. وكان النَفَس الإصلاحي والتقهقري هو أحد المعوقات أمام خلق بديل، لأنه لا يوجد بديل بدون صراع وتصادم مع التشكيلة الاجتماعية للسلطة وطبيعة الدولة. هذا بالتأكيد لا يعني تمجيد النزعات الراديكالية الطفولية والتصادمية، والتي قادت هي الأخرى إلى حالة من الاستمناء الثوري، تجسد إما في الهوس بالحشد الجماهيري بلا هدف أو رؤية لهذا الاستدعاء الشعبي، أو في إلقاء بعض الحجارة على قوات الأمن مثلما تجسد في ذكرى محمد محمود الثانية وأحداث سيمون بوليفار.
الديموقراطية هي الحل!
وفي أثناء الثمانية عشر يوماً بميدان التحرير، ساد اعتقاد وتصور مفاده أن كل شيء قابل للإصلاح السريع، وأن جل ما تحتاجه الثورة هو إزاحة النظام السياسي المتجسد في مبارك وأسرته والحزب الوطني. وحدث انقسام كبير بين حركة النخبة والقوى السياسية، وبين حركة الشارع. فالأولى كانت تواجه بنية السلطة والدولة بشكل مباشر في الشارع، ولكن دونما أي وجود لأفق سياسي ومحاولة جادة للاستحواذ على السلطة أو طرح أسئلة حول ما سوف يسفر عنه غيابها. وتجلى ذلك بشدة في اختيار المعارك. فالنخب من كل التيارات اختارت معركة الدستور والعلمانية مباشرة بعد خلع مبارك، بينما خاض بعض شباب الثورة معركة شرسة ضد أمن الدولة بالإسكندرية في 3 آذار/ مارس، وانتقلت شرارتها إلى القاهرة وعدة أماكن أخرى.
إلا أن كلّاً من النخب والحركات الثورية لم يقم بتحديد مستويات الصراع بشكل جيد، وكان هناك تصور فضفاض حول الديموقراطية الإجرائية كحل سحري وبديل لنظام مبارك، الذي اتسم بطابع سلطوي غير شمولي.
بدءاً من هذه اللحظة أُخذت الثورة إلى متاهة السياسة كلعبة إجرائية، وبالفعل استنزفت طاقات وجهود كبيرة لمحاولة إيجاد تمويل لتأسيس أحزاب سياسية قادرة على خوض الصراع الانتخابي خوفاً من استيلاء الإسلاميين، أو فلول النظام القديم على البرلمان. هنا توقف الصراع الجاد ضد السلطة والدولة، وكيفية إزاحة الحكم القديم لصالح صراع بين القوى السياسية على مساحة ضيقة يجسدها البرلمان. بل حتى لم يجتهد أحد في التصدي لسؤاليّ كيف كنا نُحكم، وكيف نريد أن نُحكم (صلب تكوين البديل الاجتماعي والسياسي). وظلّت منظومة السلطة قادرة على التمترس في أهم خطوطها وهي احتكار معرفة إدارة المجتمع، وأين تقع أوصال الحكم، ومع من وكيف. فمثلاً نحن نعلم أننا دولة أمنية، ولكن لا نعلم كيف تعمل هذه الماكينة علينا، وكيف تُدار. ولم تنجح الإنتلجنسيا المصرية في تحطيم أسوار الدولة التي تغلف تاريخ مصر، كي نعرف ماذا حدث ومن كان مسؤولاً عن ماذا. لقد نجحت السلطة بالكلية، بقيادة المجلس العسكري آنذاك، في تحويل الثورة عن المسار الجذري، وقطع الطريق على محاولات تكوين بديل اجتماعي وسياسي سواء للحكم المدني أو للنخبة العسكرية، أو إزاحة الدولة البوليسية وتحالفها مع النيوليبرالية في أواخر عصر مبارك.
وهم البديل الجاهز:
تاريخياً، لا يوجد نموذج بديل فوري، باكتماله وطرح تطبيقه تتم إزاحة السلطة القديمة وأفرادها. فمثلاً، تؤكد أديبات دراسة الثورات أن الإيديولوجيا والبرامج السياسية لا تلعب دوراً رئيسياً في مرحلة الثورة نفسها، ولكن تأتي كتأطير للثورة في مرحلة لاحقة وإضفاء معنى على الحدث. بينما يقع الفارق الحقيقي في إمكانية مجموعة ما، أو نخبة ما، من خوض الصراع مع المجتمع وتنظيمه لإزاحة السلطة القديمة وانتزاع حقوقه لا المطالبة بها. إلا أن الإطار الإيديولوجي مهم في طرح فكرة ملهمة على المجتمع ليتحرك في أفقها. بمعنى ليس المطلوب بناء إيديولوجية كاملة وبديلة قابلة للتطبيق الفوري، ولكن هناك احتياج لطرح موضوع يملأ الخواء الذي يتخلف عن المعركة التصادمية مع النظام والدولة ويكون قادراً على رسم خط لصراع من شأنه الشروع في بناء البديل. فمثلاً شعار الثورة الفرنسية «الحرية والإخاء والمساواة» كان بمثابة تصور لعالم جديد.
كان شعار الثورة المصرية "عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية: هو الآخر قادرا على هذا، ولكنه أولاً تقهقر إلى المطلبية، وثانياً تراجع إلى هوس الحل الديموقراطي على حساب الصراع السياسي والاجتماعي. وبما أن الثورة أعلنت الحرب على منظومة السلطة كاملة في وقت مبكر، لم تكن الحركات الثورية على إدراك بعواقب إعلان حرب كهذه. فالثورة أعلنت صراعاً مفتوحاً، ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث، من أجل الحرية بمعناها الواسع، وهو ما أدى إلى الصدام مع العسكر وأجهزة الأمن، والمنظومة الأبوية، والحركات الإسلامية والشرائح المحافظة من البرجوازية والطبقة الوسطى. وكذلك التصادم القيمي مع وجهاء الريف والدلتا والصعيد. كما أن الثورة لوّحت بالحرب أيضاً على الظلم الاجتماعي والاقتصادي من دون أن تحدد مفاصله والقطاعات التي يجب محاربتها. وبالتالي ناصبت الثورة الحرب لعدو لم تحدده، بينما يستطيع العدو أن يحدد الثورة والثوار بشكل واضح. وهكذا لم تعلن مثلاً أيّ من العائلات الكبرى في مصر مناصرة الثورة، مثلما حدث في ثورة 1919، أو حتى في الثورة العرابية. ولم يحمل لواء الثورة المصرية شرائح من التجار أو الحرفيين، ولم تحاول الثورة استمالة كوادر من الأجهزة الأمنية، واكتفت بمطالبتهم أخلاقياً بكف الأذى عن الثوار.
ثورة بلا وعد وبلا خريطة:
لم ترسل الثورة أي رسائل للقطاعات الجغرافية المهمشة مثل سيناء والإقليم الغربي والواحات (سيوة) أو النوبة، وهذا بسبب غياب التصور المادي لحدة الصراع وتحديد مَنْ هي الأطراف التي يمكن أن تخوض المعركة الثورية، بشكل شرس ويكون لها القدرة (والحاجة) لاستكمال الحرب ضد النظام. غاب عن أفق الثوار الصراع المادي كجوهر للعملية السياسية، وتراجع الثوار إلى مطلب الديموقراطية كحل تمثيلي لهذه الجماعات، من شأنه أن يقوم بإصلاح أوضاعها في المستقبل. لم تقم الثورة ببناء وعد سياسي واجتماعي مادي ليكون حافزاً حقيقياً لجذب قطاعات واسعة للمعركة مثل إعادة توزيع الأرض، أو عودة النوبيين إلى قراهم، أو تدمير الشبكات الزبونية، لمصلحة قطاعات جديدة من أبناء الأحياء الشعبية أو المحافظات.
وبدلاً من الكشف عن خرائط الصراع اكتفى الثّوار ببعث مندوبين لهم في بعض المحافظات في مراسم احتفالية للحديث عن عظمة ونقاء ثورة يناير، أو لإلقاء بعض الندوات أثار بعضها الضيق، وقد تركزت على تناول عدم سقوط النظام بالكلية وأنه علينا مواصلة المزيد من الحشد والاحتجاج حتى نسقط النظام. فمثلاً لم يعتن ثوار الإسكندرية بالإقليم الشمالي الذي يمتد حتى الكيلو 60 على طريق الساحل، أو الإقليم الغربي الذي يمتد من الضبعة حتى مرسى مطروح، أو حتى لم يلتفتوا لسؤال البلطجة والاقتصاد السياسي للجريمة، فكان هناك تصور يساري ساذج يرى أنه بمجرد سقوط النظام، ستكمل الجماهير الغفيرة مسيرة الثورة وتهدم آخر أركانه.
كان من الممكن استبعاد هذه الدوائر من الصراع لو أن التجربة بعد شهورها الأولى أثبتت أنها ثورة سياسية فقط تسعى لإعتاق النظام من القيود القمعية والسياسية المفروضة عليه. ولكن المشكلة الأكبر كانت في النظام الاجتماعي وطبيعة الحكم والدولة في مصر. فقط نموذج الثورات أو التمردات التي تقوم ضد نظم سميت "نيو باتريمونيالية (neo patrimonial)، أي الأنظمة التي تظهر واجهتها وجود مؤسسات دولتية "موضوعية" لكنها تقوم فعلياً على ركائز تقليدية مثل الولاءات القبلية أو شبكات الزبائنية. هي التي يمكن أن تكتفي بالديموقراطية ومكافحة الفساد كحل. وتختفي أهمية السؤال والإيديولوجيا في هذه التمردات، لأن الهدف المركزي منها يكون مجرد إطاحة شخص أو مجموعات أشخاص بعينهم ولا تكون ثورات معنية بتغير الأنظمة وتركيبة السلطة والواقع الاجتماعي.
الحالة المصرية، بما تطرحه من خواء مخيف نعيشه حتى هذه اللحظة، يعيد الاعتبار لمسائل الأفكار وتحديد الصراع ومساءلة السلطة والأبنية الحاكمة. هذا إذا أردنا حقاً أخذ سؤال البديل بجدية. كما أن تجربة السنوات الخمس الأخيرة تفضح زيف سؤال البديل الجاهز، حيث قدمت بالفعل مئات إن لم يكن آلاف المشاريع والبرامج الإصلاحية، مشاريع صغيرة ومشاريع عملاقة لمعالجة كل الأزمات من الطاقة إلى الصحة.
العداء للتنظير وعدم بلورة محاور الصراع:
أعاق العداء الطفولي للتنظير إمكانية خلق استجابات جادة لما كشفت عنه الثورة من وضع، أثبتت سنوات النضال أنه يتخطى إزاحة رأس السلطة، كي ترى مصر تغيراً عميقاً للحياة. كان هناك استسهال في افتراض امتلاك معرفة بالمجتمع، وكان قطاع كبير من النّشطاء يكتفي بترديد أننا بمواجهة "دولة ديكتاتورية"، أو بإدانة الداخلية بسبب التعذيب والعنف، وليس مساءلتها عن الإدارة والحكم. وكذلك الحال حينما انتقل الصراع إلى التّصادم مع العسكر والإسلاميين. ونحن هنا نتحدث عن أبنية عميقة وممتدة داخل أنسجة المجتمع المصري، وتقوم بأدوار ووظائف عديدة لا يمكن الاكتفاء بشعارات في الصراع ضدها. بالأخص أنه بعد سقوط الداخلية في خضم الحدث الثوري، كان يجب التنبه إلى أن الحواجز التي كانت تحول دون الصراع الاجتماعي سقطت، وأننا على أعتاب لحظة مواجهة شاملة.
في حقيقة الأمر: المواجهة الثورية وقعت بالفعل ولكن على مستوى أخلاقي، وليس على أسس مادية، وهو ما جسده أحد أهم شعارات الثورة: «يسقط كل من خان، عسكر فلول إخوان». والخيانة كانت تصلح كغطاء ومركز لصراع أخلاقي، ولكنها ليست كافية لصراع على الحكم وحول السلطة.
الثورة المضادة ترتب أوراقها:
هل بُعث جهاز المخابرات الحربية المصرية ووُضع على الخطوط الأمامية للمعركة؟ يبدو أن ذلك هو المعنى الأبرز لصعود المشير السيسي إلى الحكم. عشية "28 يناير" 2011 انتهى وجود "الداخلية"، وهي اكتفت بالتمترس في خط دفاعها الأخير بين الشيخ ريحان ولاظوغلي بعابدين. وفشلت هناك كل محاولات الشباب الثائر لاقتحامها. وعلى الرغم من وقوع عدد كبير من الشهداء والمصابين في هذه المحاولات، إلّا أنها لم تكن جادة بالمقدار الذي يتيح تهديد ذلك الحصن الأخير. وفي مساء 29 يناير، استكملت قوات الجيش حصار الداخلية بالكامل، ووجهت فوهات الدبابات إلى المبنى، في إنذار واضح. تراجعت الداخلية وتُرك الأمر للجيش.
صراع الجيش والمخابرات وأمن الدولة
من الصعب معرفة حقيقة ما حدث داخل المبنى التاريخي الذي كان مركز ثقل الحكم في عصر مبارك. ولكن، وأثناء الـ18 يوماً (ما بين 25 يناير و11 فبراير 2011)، بدا أنّ ثمّة خلافا حادا بين الجيش والمخابرات العامة وأمن الدولة. سريعا، خرج أمن الدولة من المعركة بحكم تهشيم وسحق الداخلية من قبل الناس، وبقيت المخابرات والجيش في الميدان، وسريعاً أيضاً تمت تنحية عمر سليمان (نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز المخابرات العامة). وسرت إشاعات كثيرة عن محاولة اغتياله من قبل الجيش، وسواء صحت هذه الأقاويل أم لم تصح، كان من الواضح، على أية حال، خروج المخابرات وقائدها من المشهد، بل أُقصي عمر سليمان مرة أخرى من قبل المجلس العسكري، حينما حاول العودة من خلال انتخابات الرئاسة.
المؤسسة التي خرجت دون أدنى إصابات أو هجوم عليها كانت المخابرات العسكرية بقيادة المشير السيسي. فمنذ اندلاع الثورة، وبالأخص بعد انتهاء الـ18 يوماً تلك الحاسمة، عمّق السّيسي من علاقاته ولقاءته بكلّ القوى السّياسية الموجودة (شباب الثورة، الإخوان، القوى السياسية القديمة) ونُشرت له العديد من الصور معهم، كما عمّق من علاقته بالإعلاميين والصحافيين أيضا. لم يمر أكثر من شهر حتى بدأ الهجوم على مقر أمن الدولة بالإسكندرية، وهي كانت معركة حقيقية خاضها ثوار المدينة بالدم والنّار. استغلت المخابرات العسكرية والجيش ذلك الهجوم في الإسكندرية وقامت بتيسير الأمور للسيطرة على مبنى "مدينة نصر"، مقر أمن الدولة في القاهرة في اليوم التالي. ليس اقتحامه وإنّما دخوله، حيث لم تحدث أي مناوشات، ولو خفيفة، بين الثوار وقوات الأمن. في هذه الموجة من الهجوم على مقرات أمن الدولة، انتقلت ملفات الجهاز بالكامل إلى المخابرات العسكرية: كان الثوار يقومون بتسليم كل ملفات أمن الدولة، إما لبعض قيادات الجيش التي حضرت ميدانياً، أو لقوات الشرطة العسكرية.
كان المشهد شديد الإرباك في الإسكندرية. كان الجميع يعلم بأن تظاهرات عدّة تتّجه صوب مبنى أمن الدولة بالفراعنة. ولكن لم يتوقع أحد أن المشهد سينقلب وسيكون بهذا القدر من الدموية. فمع حلول أول خيوط الليل، انفلتت أعصاب ضباط أمن الدولة الذين اعتبروا مجرد تعرضهم للحصار بتظاهرات (بدأت سلمية)، غير مقبول وغير معقول، فجهازهم اعتبر نفسه سيد البلد الأول، والمتحكم في مقاليد الأمور. وبالفعل أطلق بعض الضباط الرصاص الحي وبعض قنابل الغاز، لتنقلب الأمور ويندفع الثوار نحو اقتحام المبنى حتى تمكنّوا منه. وحضر قمر الانتقام لينير ظلمة هذه الليلة بالدماء.
كانت العلاقة بين الثوار والجيش لم تصب بالتوتر بعد، وجسور الثقة بينهم كانت ما زالت مشيّدة. وأثناء نقل الملفات، أصيب العديد من ضباط الجيش بالصدمة والغضب حينما اكتشفوا تجسس جهاز أمن الدولة عليهم. كان هذا أمراً معلوماً لدى البعض قبل الواقعة، ولكن يبدو أنّه كان جديداً على البعض الآخر. وأصيب ضباط الجيش بقدر كبير من التناقض. فهم من ناحية يودون السيطرة على الوضع، وفي التحليل الأخير فاقتحام أحد مباني الدولة أمر غير مقبول بالنسبة لعقيدة الجيش. ومن ناحية أخرى، أعرب بعضهم عن فرحه الشديد لانهيار هذا المبنى. لم تكن جماعة الإخوان حاضرة في هذا المشهد الملحمي، وفضلت الاحتفال في ستاد الإسكندرية، بحضور المطرب حمادة هلال، وبعثت ببعض أفرادها في آخر الليل بحثاً عن بعض الملفات، وبالفعل نجحت مهمتهم في الحصول على بعض الملفات وخرجوا بها.
المخابرات العسكرية:
انتهت الليلة عند هذا. انتهى آخر ما تبقى من دولة مبارك. ولكن في الصباح، كان هناك موعد ولقاء مع قلب دولة يوليو! عادت المخابرات العسكرية بكل قوتها للمشهد. وتسلمت الحكم على مرحلتين: الأولى حينما فوّض مبارك المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد. والثانية، حينما انتقلت ملفات إدارة البلاد من أمن الدولة إلى المخابرات العسكرية. امتلك السيسي الملفات الكاملة الخاصة بإدارة البلد، وأخضع أهم جهاز أمني فيها لسيطرته. وبما أنها كانت فترة اضطراب عنيفة، كان الجيش في منتهى الحذر والخوف من حدوث أي انشقاق أو تصدعات بداخله. وبالفعل جاءت أحداث نيسان/ أبريل 2011 لتؤكد وجود هذا الخطر، وقام الجيش بأول عملية قمع حقيقية ضد بعض ضباطه الذين عرفوا لاحقا بـ "ضباط 8 أبريل"، حيث حاولوا الانضمام علانية لصفوف الثورة، في تمرد واضح على قيادتهم. وتم الاحتفاء بهم وحملهم على الأكتاف، ثم شيّدت خيمة لهم في الاعتصام القائم وقتها بميدان التحرير.
قادت هذه الأحداث، والوضع المختلّ أصلا لبنية السّلطة (بوجود صراع سابق على الثورة بين الأجهزة الثلاث، وكان محسوماً وقتها لمصلحة أمن الدولة)، وعجز الثورة عن الحسم، وتحالف الإخوان والسلفية العملية ("حزب النور") مع العسكر. قادت إذاً إلى تعاظم دور السيسي وجهازه. فهو الوحيد المتبقي من الأجهزة الأمنية، وهو الوحيد القادر على مراقبة الجيش من الدّاخل، وهو الجهاز الأخير محل ثقة المؤسسة العسكرية وأفرادها. أضف إلى ما سبق قرب السيسي الشديد من طنطاوي، واعتبار طنطاوي السيسي خليفته، وموضع ثقته الكبيرة على المستويين الموضوعي والشخصي. والسيسي كان أحد المقربين من الأميركان، ومعروف منهم بحكم الدراسة والمنصب، كذلك الحال بالنسبة للسعودية، بحكم عمله هناك كملحق عسكري. لم يلتفت الإخوان لكل هذه التعقيدات في شبكة علاقات السلطة وبنيتها، واختاروا السيسي ليكون وزير دفاع مرسي، بناء على مظهره المتدين، وصغر سنه نسبياً، وبناء على خوفهم من مطامع قيادات المجلس العسكري وإمكانية مناطحتهم لهم على شرعية الحكم. السيسي كان الشخص المناسب لتتلقفه الجماعة ببلاهة منقطعة النظير. فهو محافظ ورجعي، وعائلته هي الأخرى من النوع الذي يثير إعجاب الإخوان المسلمين على المستوى القيمي، ولا يثير لديهم أيّ مخاوف، حيث يعمل والده بحرفة الخزف في الجمالية، وهي منطقة شعبية، وأسرته محافظة وفي الوقت نفسه تعد من وجهاء المنطقة.
الذعر من الإسلاميين:
في هذه الفترة، انتقل السيسي من سيطرته الخفيّة على الجيش والملفات المختلفة إلى سيطرة علنية وصريحة على الجيش كلّه كوزير دفاع ("بنكهة الثورة" كما لقبه الإخوان). وفي أثناء حكم مرسي، مثّل الجيش زاوية الأمان لكثير من القوى السياسية التي دخلت في معركة صريحة مع حكمهم، إذ أصيبوا بذعر وهلع من صعودهم، ولفزعهم العام من الإسلاميين. ولكنّ الأهم هو تحفظ بقية أطراف الدولة على الإخوان، وبالأخص القضاء. منذ الثورة، لاذ القضاة بالجيش، حتى بالمعنى الجسدي المباشر، حيث كان يتولى تأمينهم ونقلهم. وهذا على الرغم من أنّ العديد من قوى الدّولة أبدت قدراً من التحفظ على السيسي، وذلك حتى لحظة "30 يونيو"، إذ كان هناك تخوف من أن يكون إخوانيا متخفيا، تم زرعه منذ سنوات داخل الدولة المصرية. انقلبت الأمور كلها بالوصول إلى محطة 30 يونيو. وهنا كان كل شيء متاحاً لأي تحرك من قبل السّيسي: كان الشرط الموضوعي لقبول أي تحرك من الجيش متحققا على نطاق واسع اجتماعيا وسياسيا وحتى ثوريا. على الصعيد الاجتماعي، كان هناك شبق لظهور سيد ومخلّص، يتولى أمر الإخوان والثورة. وعلى الصعيد الإقليمي، كانت الفرصة الذهبية لانتصار الحلف السعودي - الإماراتي على الحلف القطري - التركي. لم يكن السيسي يملك كل خيوط اللعبة فقط، بل أيضا تحققت له كل الشروط المطلوبة للعصف بخصومه وتسيّد المشهد. أما على الصعيد الدولي، فقرار الانقلاب العسكري لم يؤخذ من دون علم CIA أو إسرائيل، وهذا مشار إليه في ما صدر حول تلك الفترة. وسياسياً، فالإخوان حلفاء الولايات المتحدة الجدد بينما العسكر هم حلفاؤها القدامى والحاليّون، والخسارة بالتالي لن تكون فادحة في حال قبول الولايات المتحدة اطاحة الإخوان، بل ربما كانت تلك الخسارة جسيمة في حالة عدم القبول بذلك. حيث تعني احتمال فقدان مصر كحليف استراتيجي بالغ الأهمية، في ظل تفجر المنطقة بشكل خاص. أما بالنسبة لروسيا، فالمصلحة الإقليمية كانت تقتضي القضاء على الإخوان لدعمهم أعداء الأسد في سوريا، وكذلك كان الحال مع إيران. وهي مفارقة كبرى، حيث ولأول مرة، اتفقت طهران والرياض، وكان ذلك على إطاحة الإخوان. وبالفعل حضر كلاهما حفل تتويج السيسي على عرش مصر بعدها بعام.
دورة التاريخ، وانهيار مشروع الوطنية المصرية قادا الدولة لتُخرِج قلبها الأمني الصلب إلى العلن، ولكن هذه المرة بلا أي مشروع سياسي أو افق أو خيال عما يمكن أن يكون، وما ينبغي أن يحدث. فقط كتحذير عنيف من مخاوف السقوط والانهيار. هذه المرة، لم تكن "إما الفوضى وإما الاستقرار"، ثنائية مبارك حيال الانتفاضات العديدة التي وقعت في عهده، هي ما طُرح على طاولة التفاوض والمساومة الاجتماعية، وإنما ثنائية الوجود أو الانهيار الكامل. ثمة عطب شديد أصاب الدولة في مقتل. وهي الآن عارية من أي ادعاءات أيديولوجية أو أحلام ووعود عن المستقبل.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية