يعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر وحاول معالجتها من خلال اخضاعها لمجموعة من الآليات والمناهج النقدية، بغية مقاربتها مقاربة علمية دقيقة وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد تعددت القراءات واختلفت حد التناقض والتضارب، ما احدث خلخلة في البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية وساهم في حركية الإبداع بمختلف أنواعه سواء كان نقديا أو فلسفيا وشعريا ... الخ. وبغض النظر عن مرجعيات هذه القراءات وتنوعها، نستطيع القول أن الفكر العربي في هذه المرحلة استطاع أن يحقق ذاته من خلال بعض الممارسات والمشاريع النقدية والفكرية الجادة التي ساهمت في إثراءه؛ لكن الشي الذي يعاب على هذه الخطابات وعلى بعض المشاريع، انها اهتمت بالتراث من حيث انه زخم معرفي او تراكمي، تتحدد اهميته وفق مبدأ براغماتي ساذج مركب من موقفين: الاول ينبني على فكرة ما الذي نستطيع اخذه من التراث؟ وهو موقف انتقائي من خلاله يحاول الباحث او الناقد او المفكر ان يستند الى قاعدة معرفية اصيلة لبناء مواقفه ودعمها، أما الموقف الثاني فيرتكز على محاولة البحث عن البديل في هذا التراث من اجل اثبات الذات امام الاخر/ الغربي.
ولعل هذا الموقف الارتدادي النفعي الذي يخدم جزءا ضئيلا من عملية البحث، ليس الا نبشا سطحيا لا يقدم الحقيقة المطلقة، ولا يساهم في بلورة رؤية نقدية رصينة، بقدر ما يعمل على بتر هذه الحقيقة وتشويهها. لذلك من المفروض ان نتعامل مع ذلك الزخم المعرفي على انه وحدة كرونولوجية/ تتابعية مسترسلة وقائمة بذاتها، تبدا من الماضي لتستقر في الحاضر والمستقبل، أو بمعنى أوضح لا يجب علينا ان نتعامل مع هذا التراث على انه مرحلة منتهية في الزمن، ونحكم عليه بأن يظل رهين صفة الماضي وحبيسه؛ بل يجب علينا اعادة ربط السلسلة المعرفية حتى تؤصل لقراءة واعية ومنهجية، بعيدا كل البعد عن الموقف البراغماتي الساذج.
وهو ماحاول جابر عصفور طرحه من خلال ثلاث محاور "مالتراث؟" "كيف نقرا التراث؟" "ولماذا نقرا التراث؟"، وقد سعى بذلك الى اعادة قراءته قراءة جديدة، من أجل اضاءة جوانبه المسكوت عنها، والمغيبة تحت براثن القراءات النمطية، واعادة هيكلته وفق قانون الكشف الشامل، لأنه يرى ان الذين مارسوا فعلا القراءة "لم يمارسوا هذه الاسئلة بل مارسوا سؤالا اخر هو ماذا في التراث؟"1
فالتراث في ظل اختلاف بعض المشاريع الفكرية والنقدية يجب ان ينتظم داخل بوتقة الوعي العربي، على اعتبار انه مكون معرفي له تمركزه الخاص داخل الثقافة العربية، بحيث يمارس وجوده من منطلق الاستمرارية والتواصل لا من منطلق التحقيب السياسي والتاريخي والادبي. هذه التحقيبات التي بخسته حق التفاعل والإشعاع وحولته الى مجرد كتلة معرفية محدودة. وعليه فان التعامل مع التراث يشكل بصورة ضمنية او صريحة مفهوم الحداثة في الفكر العربي، إذ لا نستطيع الحديث عن التراث دون رصد الجوانب الحداثية التي يتمركز من خلالها كإرث له تجلياته الواضحة على جسد المكتوب والمنطوق، وهذا معناه التأكيد على تلك القوة الخلاقة التي تحيلنا على التفاعل وتكرس للفاعلية، ومن هذا المنطلق فقد حاولت الساحة الفكرية والنقدية العربية –كما سبق القول – ان تقارب التراث من خلال منهجيات ومقاربات مختلفة حيث،"يمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، وهم خريجو الجوامع الإسلامية (الأزهر - جامع القرويين - الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين من ناحية، والمفكرين العرب التابعين لهم توجهاً ورؤيةً ومنهجاً من ناحية أخرى، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبدالله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو، والقراءة التفكيكية كما عند عبدالله الغذامي وعبدالكبير الخطيبي، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح –مثلاً-"2
ولعل اختلاف هذه المقاربات وتنوعها يعود للأهمية البالغة لهذا التراث في بناء الثقافة العربية المعاصرة في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية والادبية، ودوره الكبير في المحافظة على الهوية وتحقيق استقلالية معرفية خاصة. ويعتبر موضوع التراث من اكثر المواضيع غموضا نتيجة لثرائه وتشعب مواضيعه التي تحولت الى حقول ملغومة، تطرح الكثير من التساؤلات، وتثير الكثير من القضايا التي يصعب حلها او الاجابة عنها من خلال دراسة او اثنين. ولعل الحديث عن التراث بمفهومه الواسع على اعتبار انه مجموعة من النصوص يدفعنا للحديث عنه كخطاب، لكن ليس في بعده اللساني وانما في بعده الفكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو)، وهذا حتى نتحدد ضمن مفهوم إجرائي يساعدنا في البحث عن مرتكزات هذا التراث، اذ ان "كل خطاب ظاهر، ينطلق سرا من شيء ما تم قوله، وهذا الماسبق قوله ليس مجرد جملة تم التلفظ بها، أو مجرد نص سبقت كتابته، بل هو شيء لم يقَل أبدا، إنه خطاب بلا نص وصوت هامس همس النسمة، وكتابة ليست سوى باطن نفسها ... فالخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله."3
والبحث في الخطاب من هذا المنطلق هو بحث في سلطة هذا الخطاب في حد ذاتها ومحاولة تفتيته واعادة بناءه بما يتوافق والرؤية المعاصرة، والسلطة التي نتحدث عنها هي سلطة ايجابية اذ لا يجب علينا ان نتخيل "عالما للخطاب مقسما بين الخطاب المقبول، والخطاب المرفوض، او بين الخطاب المسيطر والخطاب المسيطر عليه؛ بل يجب ان نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع ان تعمل في استراتيجيات مختلفة لان الخطابات كتل او عناصر تكتيكية في حقل علاقات القوى قد تكون هناك اشكال متباينة منها، وحتى متناقضة داخل الاستراتيجية الواحدة نفسها، وبالعكس يمكن ان تتنقل هذا الخطابات بين استراتيجيات متناقضة دون ان يتبدل شكلها".4
ويحيلنا هذا القول الى ان الخطاب تتعدد اشكال تمظهراته وتختلف، اذ تتناسل الخطابات فيما بينها وفي بعض الاحيان تنصهر لتشكل سلسلة متصلة تفرض نفسها ككل وكلحمة واحدة، وبهذا يتموقع الخطاب في اطار النظرة الشمولية حيث يمارس ثنائية التجلي والخفاء، ويغوص عميقا في التركيبة العامة من خلال اللغة التي تؤسس لمفهوم الاختراق الدائم، وبذلـك يمتد تحليل الخطاب من الآفاق اللسـانية والتداولية إلى ميادين واسعة، ترتبط بالأنظمة الثقافية، التي تنتج المعرفة وتوجهها، وتقنن تـداول مكوناتها، وتبسـط هيمنتها ومفاهيمهـا. اذا فالخطاب ليس "لغـة تضـاف لهـا ذات تتكلمها، بل هو ممارسـة لها أشـكالها الخصوصية مـن الترابط والتتابـع"5.
فالتراث معنى لموروث منقول عن الاجداد، وهو معنى وليد دفعت اليه المعرفة الحديثة، ولا ضير ان نقول ان التراث في اقرب تجلياته يتداخل مع مفهوم الموروث، ومن يتأمل الدلالة المعجمية لكمة التراث يجدها مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة وما يتركه الرجل الميت لأولاده. وفي هذا يقول ابن منظور: "ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك."6
من خلال ماسبق نستطيع القول ان مفهوم التراث لم يتبلور في الثقافة العربية القديمة بمفهومه الحداثي بل كان رهين معنيين: الأول مادي ويتمثل فيما تركه الميت لورثته، والثاني معنوي متعلق بالنسب، ويرى الدكتور محمد عابد الجابري ان العرب قديما لم يتوصلوا الى المفهوم الحضاري لكلمة التراث بمعناها الحديث، وان المحدثين لم يوظفوا هذه الكلمة بحمولتها المعجمية القديمة، وانما كانت بمثابة التوظيف المجازي للدلالة القديمة، كما ذهب في ذلك الدكتور جميل حمداوي. اما الجابري فيرى ان القراءة الحديثة للتراث يجب ان ترتكز على آلية الكشف عن طبيعة القراءات السائدة في الفكر العربي التي تحاول مقاربته، ويرى بان هذه المقاربات ماهي الا اصداء لمواقف اصحابها حيث عجزت عن تقديم رؤية علمية متكاملة لهذا التراث وغيبته في اطار التحيز واللادقة، وقد وصفها بانها قراءات تفتقر للموقف النقدي والنظرة التاريخية ومن بينها الموقف الإحيائي او القراءات التقليدية التي تهدف الى إعادة إنتاج التراث وفهمه وفق المناهج التراثية، بعيدا عن الحداثة ومناهجها. والقراءة الاستشراقوية التي تعكس جوهر الاستعمار الثقافي والمركزية الأوروبية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، والقراءة الماركسية التي تدخل في تشكيل حضور التراث بمفهوم أيديولوجي، وعليه فقد تحولت الماركسية من منهج علمي تطبيقي الى منهج مطبق يبحث عن كليات نظرية واثبات صحتها في مقولات واتجاهات ثورية فكرية وسياسية.
ويخلص الجابري أن كل هذه المناهج المختلفة التي تلتقي شكليا في سماتها المعرفية الأساسية؛ تفتقر للموضوعية، كما انها تفتقر للنظرة التاريخية، "فمن هيمنة النموذج الأوروبي أو الغربي على القراءات الليبرالية والماركسية، الى هيمنة النموذج التراثي على القراءات السلفية، لأنها مؤسسة على آلية قياس الغائب على الشاهد، والنتيجة المنطقية التي وصلت إليها هذه القراءات هو إلغاء الزمان والتطور؛ أولا بسبب لا تاريخية الفكر العربي الذي تتعامل معه، وثانيا بسبب الافتقار إلى الموضوعية بسبب هيمنة الموضوع على الذات واحتواء التراث للذات العارفة أو المفكرة".7
وقد انتهى الجابري الى ان جميع جميع القراءات المعاصرة للتراث قراءات مرفوضة كما فعل فيما بعد في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" الذي حاول ان يطرح فيه المنهج البديل والمناسب لتحقيق النهضة العربية. ويتضح في الاخير ان مقاربة التراث لا تكون الا من خلال قراءة موضوعية تحقق للموروث استمراريته المعرفية في الحاضر والمستقبل، بعيدا عن التصنيف والذاتوية والأدلجة المغرضة.
جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس
الهوامش :
1-جابر عصفور : الاحتفاء بالقيمة،دار المدى للثقافة والنشر لبنان بيروت،دط،2004
-2 - جميل حمداوي :اشكالية التراث والمنهج عند محمد عابد الجابري مجلة الكلمة مجلة الكلمة العدد 77 سنة 2012
3-نور الدين السد: الأسلوبية وتحليل الخطاب، دار هومة، دط، 1997، ج2، ص80.
4-الزاوي بغورة : الفلسفة واللغة، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت لبنان، ط1،2005 ص 287
5- ميشال فوكو : جنيالوجيا المعرفة، ترجمة احمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي،دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب ص 18
-6 - ابن منظور: لسان اللسان، تهذيب لسان العرب، هذبه بعناية: المكتب الثقافي لتحقيق الكتب، تحت إشراف الأستاذ عبد أحمد علي مهنا، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م، ص:728-729
7-زهير توفيق: نظرية التراث عند محمد عابد الجابري مدونة زوهير توفيق26مارس 2012