صدمت صدمة كبيرة، كما صدم ملايين المصريين، عندما أسقطت السيادة المصرية عن جزر تيران وصنافير. يتذكر الشعب جيدا التضحيات الهائلة التي قدمها للدفاع عنهما، والدم الذي بذل والثمن الغالي الذي دفعه شعب مصر وجيشه، في مواجهة العدوان الصهيوني والتآمر الإستعماري الإمبريالي، بالتعاون مع الرجعية العربية. ندرك جيدا أن الجزيرتين، مثل سيناء، لا يتمتع أي منهم بالسيادة الكاملة منذ اتفاق كامب دافيد المشئوم، والمعاهدة التي أطلق عليها زورا معاهدة السلام. هذه الاتفاقات التي وقعها السادات في غياب كامل للإرادة الشعبية، والتي صاحبها ما سمي بالانفتاح الاقتصادي الذي أدي إلي التراجع عن منهج التنمية المستقلة، هي السبب الرئيسي للمشاكل التي يعاني منها الشعب.
فقد إدي ذلك إلي وقوع مصر في حبال التبعية للحكومات الغربية والسعودية. هكذا صار التحكم في مصائرنا رهن المساعدات والهبات التي يستحيل، أكرر يستحيل، أن تؤدي إلي حل المشاكل الاقتصادية، ناهيك عن نهضة تنموية ترتكز علي قاعدة علمية وتكنولوجية متقدمة. لقد مضي أكثر من 35 عاما علي نهج كامب دافيد بشقيه السياسي والاقتصادي، وهاهي النتائج البائسة من بطالة وعدم انتاج ونمو خطير للفجوة بين السوبر أغنياء وبقية الشعب بفئاته المتوسطة والفقيرة.
من البديهي أنه عندما يكون جزء من الوطن غير مكتمل السيادة يصبح الوطن كله منتقص السيادة فيصبح علي رأس قائمة الأولويات استكمال السيادة الوطنية مهما كانت العقبات والوقت اللازم لتحقيق ذلك. لهذا فإن التقييم الموضوعي لأداء أي رئيس لمصر يستند كأحد المكونات الأساسية علي مدي استكماله لهذه السيادة، وبالقطع ليس المزيد من التنازل عنها، ممثلا في جزيرتي تيران وصنافير.
لقد أيدنا الرئيس السيسي عندما تخلص من حكم الإخوان الفاشي، ورغم عدم رضانا علي قرارات وأداء الرئيس السيسي في بعض الأمور، منها السماح بمشاركة مصر، ولو هامشيا، في الحرب الجائرة علي اليمن، ودفءِ علاقاته بالعدو الصهيوني، فقد انتظرنا قلقين نستطلع لإشارات نحو تصليح الأوضاع. ورغم إعلان استيائنا في رسائل مفتوحة للرئيس السيسي فقد آثرنا الصبر، لإدراكنا أن حماية الدولة الوطنية هي الأولوية في ظل التآمر الداخلي والإقليمي والدولي. ولكن عندما تُمس السيادة الوطنية نفسها، يتبدد تأييدنا لرئيس الدولة، وإلا نصبح مشاركين ضمنا في إهدار الكرامة المصرية، وهو الأمر الذي لاقي رفضا شعبيا واسعا وألما شديدا للمواطنين رغم محاولات التبرير المرفوضة والمغلفة بادعاءات قانونية زائفة لا بد أن تخضع للتمحيص وليس لأن مصدرها د. مفيد شهاب. كذلك الأمر بالنسبة لتوظيف ظاهرة تحرك القارات الجيولوجي لتبرير سعودة الجزيرتين.
لقد أضافت مشاهد التكريم لملك "السعودية"، بما في ذلك منحه دكتوراه فخرية من جامعة القاهرة، إلي الجرح الوطني، بعد انفراد الرئيس بقرار سيادي مفاجيء بتسليم الجزيرتين، دون أي اكتراث برأي الشعب. وهنا نتسائل لماذا هذا التكريم؟ هل هو لشن حرب عدوانية علي شعب اليمن بحجج كاذبة، والتي شملت جرائم حرب، منها استخدام القنابل العنقودية المستوردة من أمريكا. لقد بدأ العالم يتحدث عن هذه الجرائم والتي قد تؤدي إلي محاكمة دولية لجرائم الحرب لأعضاء التحالف السعودي. هل استحق الملك سلمان الدكتوراه الفخرية افتخارا بلغته العربية العريقة، أم لعلمه الغزير، أم لاحترامه الصارم لحقوق شعبه والشعب العربي عموما، خصوصا في سوريا واليمن. كم شعرت بالخجل والاستياء الشديد كإنسان ومواطن مصري وعربي، وكأستاذ جامعي لهذا المشهد المؤلم.
لقد اطلعت علي العديد من الوثائق والمبررات الرسمية، ولم أجد دليلا واحدا علي ملكية السعودية، أو الحجاز قبلها، لهاتين الجزيرتين. كما أن اختزال الأمر علي الملكية القانونية، التي يمنحها المستعمر البريطاني، هو انتقاص من خطورة الأمر، وتشويه للقضية.
أما تناول الإعلام الرسمي مثل صحيفة الأهرام (باستثناء مقال أحمد سيد النجار الهام علي موقع بوابة الأهرام الالكترونية) وبعض برامج التليفزيون، يفتقد المهنية، بل يصل لدرجة خداع المواطنين وتشويه القضية. فطرح خطابات د. عصمت عبد المجيد ومقال للدكتور البرادعي وشهادة د.مفيد شهاب (وثلاثتهم من طاقم كامب دافيد) يثير الاشمئزاز. وإن دققنا في محتويات هذه المصادر، لا نجد دليلا واحدا علي ملكية قانونية للسعودية للجزيرتين. إن سقوط الإعلام المشين، قد يعوضه بعض الشيء مواقف شخصيات وطنية مسئولة، رافضة للتخلي عن السيادة.
يزداد ألمنا عندما نشعر أن مصر أصبحت مباحة لقاء حفنة من الريالات السعودية. ولكن الشعب الفقير يرفض تماما هذا المنهج. وإذا كنا كمواطنين نتألم لفقدان أم الرشراش ونقص سيادة سيناء، فهل معني ذلك أن نسكت علي ضياع صنافير وتيران فيضيع أمن خليج العقبة ومن ثم أمن سيناء؟
كذلك فإننا نعتبر أن طرح القضية حسب المنهج التجزيئي، الاختزالي المعتاد، يخفي قضايا محورية ومخاطر كبيرة. نرفض تماما تعريف القضية فقط من خلال سحب السيادة المصرية الفعلية من الجزيرتين، علي اهمية ذلك. لابد أن نطرح السؤال الهام: لماذا الآن؟ هل كانت مصر بمثابة غفير يحمي الجزيرتين لحساب العمدة السعودي، الذي تذكر فجأة سيادته علي الجزيرتين؟ يبدوا أن الشعب المصري هو الوحيد المفاجيء فالتقارير تجمع علي مناقشات شملت الولايات المتحدة الأمريكية والعدو الصهيوني والسعودية والتي أدت إلي التزام السعودية بوضع الجزيرتين في منطقة ج كما نصت كامب دافيد. هل يعقل أن نتنياهو والمؤسسات الصهيونية تناقش القضية لعدة شهور بينما نبقي هنا في مصر مغيبين عن هذا الموضوع الحيوي، حتي نفاجيء به صباح ذات يوم؟ أين الشفافية واحترام إرادة الشعب، وحقه في المشاركة في قضاياه المصيرية؟
وماذا عن وثيقة التفاهم بين السعودية والكيان الصهيوني والتي وقعت عام 2014 من قبل العقيد دافيد سلامي الصهيوني ومن اللواء أحمد بن صالح الزهراني كقائد للقوات البحرية السعودية؟ يحدد الاتفاق أبعاد التعاون العسكري المشترك، والذي يشمل باب المندب وخليج عدن وقناة السويس وأيضا جزر تيران. فمن الذي يهدد الأمن القومي في البحر الأحمر؟
لا يمكننا أن نقع فريسة إعلام كاذب يعرض مسألة الجسر البري عبر الجزيرتين كإنجاز هائل سيؤدي للخير والرخاء. لابد إذا من معرفة حقيقة مشروع الجسر البري وخطورة أبعاده كجزء من مشاريع الشرق أوسط الجديد. وبحث جاد حول تأثير المشروع المرتقب الرابط بين الخليج والبحر المتوسط وابعاده دوليا ومصريا.
لن أتوقف كثيرا عند الأسلوب الرسمي لتناول القضية. أجمع غالبية المعلقين علي اداء مفرط في التخبط، وعدم احترام تفاعل الشعب مع القضية، ولكني أود أن أؤكد رفضي التام لمفاهيم يطلقها الرئيس مثل مطالبته بالثقة العمياء فيه، وافتراض عدم اخلاص من يختلف معه، ومن يبحث عن الحقائق. يبدو أن الرئيس السيسي الذي انتخبه الشعب، لا يدرك مثل سابقيه مدي اهتمام المواطن العادي بالكرامة الوطنية، وتمسكه بأرض وطنه.
نسعي إلي حوار جاد حول القضايا الوطنية التي يتجنبها البعض وكأنها من المحرمات لكننا نصر علي طرحها بهدف الخروج من نهج كامب دافيد، واسترداد الاستقلال الوطني. ونعيد إصرارنا علي مصرية الجزيرتين بكل المقاييس التاريخية والوطنية، مما يستدعي مراجعة الاتفاق الأخير.
يجب الاشارة إلي أن المعارضة الوطنية تفسح مجالاً للسلطة لتدارك الأمور، وتغيير مواقفها والاستفادة من سند الموقف الشعبي تجاه كافة القضايا، ويجب الحذر من القوي المتربصة من الاخوان المسلمين وحلفائهم، الذين يستغلون الظروف لتحقيق أهدافهم، وألا يظن أحد أن مواقفنا المتشابهه حول تيران وصنافير، تعني بأي حال من الأحوال إلتقاء في الأهداف معهم.
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشيجان (سابقا)