لم يمرّ سوى شهر واحد حتى شعر أن نوعا من المطهرات يمنحه له الطقس الروحي الذي يمارسه في المسجد، وأن طبقات من النجاسات تزال شيئا فشيئا من على بدنه، وروحه أيضا، نعم (نجاسات) هذا هو التعبير الذي يسمعه لأول مرة من إمام الجامع، وكما فهمها (المختار)، هو نوع من التعبيرات التي تتسم بالشمولية، يؤدي معناه إلى الضرورة في تجنب مظاهره الشيطانية بعد تشخيصها كي يتم الاستدلال على الكنز مباشرة، والكنز هو القفزة المباركة التي سوف تمنح المرء فرصة أن يعرف جوهر الخير المحض وتمثلاته، ثم الحصول على هذا الجوهر الذي سوف تتحقق به السكينة الكاملة والرضا الذي لا تخالطه ذرة شك، واستجابة لهذا المعنى بدأ يشعر أنه في مفصل من حياته يشبه ما يحدث للفراشة، انه بالضبط يتخلص من عتمة الشرنقة والخروج إلى النور، أمر كهذا لوحده كان قادرا على شحن وجدانه بالفخر وقلة الصبر على الطيران.
يا صاحبي، اليهود الكافرين بله، يذبحون المسلمين في غزة، في العراق، في أفغانستان، في آسيا، وبكل مكان. هذه الجملة وجهت له، فقادته لمشاركته الحماسية في التظاهرة التي لفتت الأنظار إليه وجعلته من أكثر المشاركين حضورا في ذلك اليوم، نظرته كانت مشبعة بالقسوة والريبة والكراهية، ووجدانه يشير إلى فكرة اتهام موجهة إلى خليط متنوع من الأجناس المبثوثة في هذه المدينة، كل الأجناس حتى المسلمون، الغافلون منهم، المنحرفون، المبتدعون والمرتدون والمتشبهون بالكفار أيضا، موقف يشمل بشكل أوسع كلّ من لم يكن ضمن هذه الحفلة الطاهرة التي انسلخت برحمة الله كما خيّل له من فضاء واسع تزدهر فيه الآثام والتكوينات الدالة على الظلم رغم أن العديد من الأصناف التي شكل موقفا اتجاهها كانت موجودة في نفس المظاهرة، من بينها أحزاب اليسار، والمنظمات الإنسانية، وحتى المثليين.
بعد صلاة الجمعة يلتقي رجلا يلبس جلبابا قصيرا بلحية غير مشذبة كان في الصف إلى جانبه . بعد هذه المقابلة يشعر بالخزي و يغمره إحساس من كان في غيبوبة وقد استيقظ الآن ليجد العالم في صورة هي في قمة الوحشية، عالم عفن يحتاج للمطهرات، لأنه مليء بالسخافات التي هي قشور الحضارة، استولت عليه ما يشبه الرغبة بالخلاص ترافقها الكآبة، ولأول مرة يرى بروكسل تلبس قناعا، وأن هويتها تختفي تحت طبقة من الزيف، وجهها الحقيقيّ هو الحروب الصليبية، كانت هذه رؤية الرجل : نعم حرب صليبية . يؤكد لنفسه فيشعر( المختار) انه غريب، غريب تماما عن هذا العالم وعنده رغبة بمسح جزء واسع من ذاكرته، مستعينا بطاقة الجملة التي بقت تترد في كيانه كلّه : إنهم يقتلوننا في كل مكان، في كل مكان.
على الأغلب انه شاهد مئات الأفلام على(اليوتيوب) ملفات مرئية وسمعية تتضمن القيمة المأساوية، والتي تشير بإصبع طويل إلى اتهام العالم الغربي كله بعدم النزاهة، وأصحاب البدع من يدعون الإسلام، الأيام التي قضاها في الدار، الأيام الصعبة التي لم يخرج خلالها أبدا، كانت كافية جدا كي تعجّل في ظهور التطورات السريعة في سياق الأحداث، أيام تمركز خلالها الأسلاف النورانيين في قلب الحدث، حدثه الشخصي والذي بدأ يزدهر في منطقة التاريخ، المنطقة التي لم ينتبه للتحرك في داخلها بمثل هذا النشاط طوال عشرين عاما قضاها في هذه المدينة منذ ولادته دون أن يشعر رغم ذلك في أي يوم من الأيام بأنه ابنا كاملا لها. شعرية الحدث بلغت ذروتها في منطقة الحلم، ولابدّ انه سمع وتكرر عليه الأمر مئات المرات، انه نوع من الحكايات التي تروى كونها حقائق تخلو من الشك، حكايات تتضمن أن بعض ما يحدث أثناء النوم لا تنطبق عليه التصريحات المرحة والتي تدلّ على عدم الاهتمام أو حتى المزاح الثقيل، هذا النوع يعتمده الكثير من الناس كبرهان يرفع ما هو منتج في اللاوعي لمستوى الحقيقة والتي تتفرع منها تجليات هامة توصف بالنبوءة مثلا أو البشارة.
في ليلة الحلم الأولى. يستيقظ، يدخل الصالة فيجد (كاثرين) زوجة أبيه الهولندية على الكرسي، تقرأ في مجلة نسائية وتدخن، فخذاها كانا عاريان، أبيضان تتوزع على فضائهما العقد (الشحمية) ولأول مرة يراها كما لو أنها تعبر بجدية عن ضحالة البحيرة التي تزدهر فيها حياته، يشعر بالحزن إن أمه المسلمة لم تكن أفضل من كاثرين السكيرة، مثلها تماما كانت تدخن لفائف الحشيشة، حتى أنها لم تمانع عندما اكتشفته يدخن، حدث ذلك عندما كان عمره خمسة عشرة عاما، ابتسمت فقط ثم لوت شفتيها، كما لو أنها تعبر كعادتها بهذه الحركة عن عدم الاهتمام وان الأمر لا يعنيها، ولا يعنيها هذا المنزل المتعفن، ولا يعنيها أبوه الساقط الذي تزوجها، واتى بها إلى هنا مثل الخادمة، أو مثل واحدة من (الساقطات) اللواتي حرص على انتحابهن من أعراق مختلفة، لا يعنيها شيء سوى أن يأكل الأولاد حتى يصل الولد والبنت إلى السن القانونية لترتاح من معاناتها كعاملة تنظيف وترتاح لبعض الوقت وتهتم بحياتها التي أصبحت بائسة ولا تطاق.
في الليلة الثانية وقبل أن يتكرر المفصل النوراني من الحلم، تظهر صورة صديقته الفرنسية (آن) واضحة، أراد أن يقبّلها، دخل في زمن النجاسة، تحسس مابين فخذيه في هذا المنام الذي بدأ في نسج أحداثه الشيطان، تدارك هذه الحركة التي كادت تطيح بالحلم كله، أوعز لعقله العفيف لها بالذهاب فاختفت (آن) بسرعة ليتحقق بطلان المغامرة الشهوانية، وحين يصحو، يكون في حال هو أكثر ارتياحا واقل ارتباكا، حتى انه يشعر أن آثامه بدأت بالذوبان، بما فيها تلك الأعمال الشيطانية، التي كان يقوم بها منذ سنوات مع صديقه الألباني(مو راد) بكسر نوافذ السيارات وسرقة بعض الأشياء التي يمكن بيعها بأسعار زهيدة، لشراء المخدرات .
في الليلة الثالثة يأخذ المفصل النوراني مساحة اكبر من الحلم. يصحو، فيشعر بسلام كالذي أحس به عندما كان مسجونا في مؤسسة الأحداث قبل شهرين، بعد أن قبض البوليس عليه في الرابعة صباحا، في شارع (ماري كريستين) وهو يحاول كسر نوافذ إحدى السيارات، في المؤسسة، التقى بالقيرواني (بلال) كان هذا الشاب، هو الذي فتح له طريق النور. في الليلة الرابعة، كان بين يديه (البوم) صور كبير، الوجوه كلّها مشوّهة، حتى التي بالأبيض والأسود، صور عائلته، أصدقاءه والآخرين جميعهم، جعلته هذه الحركة مثل حلزون يقيم احتفالا صغيرا داخل قوقعته، يتوقف طويلا عند إحدى الصور، يخمّن أنها أخته التي يحبها جدا: تبدو كساحرة شريرة فاسقة . يزعجه احمر الشفاه الفاقع الذي على شفتيها، صدرها المفتوح، تنورتها القصيرة التي يظهر من تحتها فخذاها أبيضان مكتنزان، يتشكل لديه موقف سيكولوجي ينمّي عنده الرغبة بالقيء، يغلق البوم الصور قبل أن يدخل في مفصل يتكرر من الحلم والذي كان هذه المرة واضحا ومليئا بالتفاصيل. أيقظه العراك الذي بين أبيه و(كاثرين) شيء ما هيمن عليه في تلك اللحظة يشبه الرغبة بالهروب بسبب قاموس الشتائم البذيئة التي يسمعها من طرفي العراك والصفعات والركلات أيضا، تماما مثلما كان الأمر مع أمه قبل انفصالهما وزواجها من رجل آخر أكثر إهمالا من أبيه، تقول عنه، عندما قابلها قبل أشهر: انه أنانيّ ويفتقد للشعور بالمسؤولية، سافل مثل أبيك، تزوجته، ومنحته أوراق الإقامة بعد عشر سنوات من فقدان الكرامة بين معارفه، والنوم في محطات المترو، الوسخ، القوّاد، الرجال كلهم وسخون، حتى أنت.
- نعم كنت مهرجا.
هكذا خاطب صديقا له فظهر كما لو انه فيلسوف أثار ريبة الشاب: أرتدي الألوان الشاذة وأقوم بالحركات ذاتها كما لو إني اهبط إلى الهوة بسعادة المنتمي للطبقة الحيوانية الأكثر جهلا بمصائرها، هذا هو حال الإنسان في هذا العالم، بائس ولا اعرف سّر كل هذه الرغبة في البقاء، هذا الجلباب القصير، اللحية، ليست مظاهر ساذجة كما تتخيل، هذا هو التعبير الجوهري، عن فكرة الانتماء، نعم الانتماء، يجب أن نفكر في هذه النقطة، كي نكون في حالة تصالح مع ذاتنا الذائبة في عالم كل ما فيه، يجب أن يكون في موضع الخصومة، والخلل الذي ينبغي إصلاحه.
اتصلت صديقته الفرنسية لمرات عديدة، ثم تركت رسالة تعبّر فيها عن قلقها مما يحصل، يردّ عليها في النهاية، رغم أن الفقرة الشهوانية لم تكن بعيدة عن مخيلته: لقد عثرت على حياتي، أما أنت فحياتك فاسدة، اذهبي إلى غير رجعة .
تقول أخته (سلوى) عندما سألها ضابط الشرطة الفدرالية بخصوص اختفاءه : انه شاب طيب وظريف ولا اعرف ما لذي حدث له، لم يعد يأكل معنا، يتشاجر مع (كاثرين) ولمرات عديدة، ولقد كان بذيئا مع الوالد أيضا، طلب مني لمرات أن ارتدي الحجاب واللباس المحتشم وان أصلي، لم أكن مستعدة لطلب مفاجئ مثل هذا، لم أفكر أن افعلها رغم الدعوات الكثيرة، هذه حياتي وأنا أحبها هكذا، في النهاية قال لي: انك (قحبه). قالها بالعربية: وأمك لا تختلف عنك كثيرا. مع كلمات بذيئة أخرى، ضربته بالنعال على وجهه، لم أره بعدها.
قبل انتهاء شهر (مارس) جاء الرجل النوراني ذاته والذي تكرر حضوره في المرات السابقة، كان المختار نائما في غرفة طينية مغروزة في صحراء ضمن معسكر للتدريب، غرفة تضرب جدرانها الهشة العواصف الرملية، وتعبر نوافذها الريح، مد يده للرجل النوراني لكن بدون حماسة، بندقيته معه وسكينا طويلة في حزامه، لحيته طويلة بعض الشيء، يمشي مع الرجل وهو يرى الحديقة الواسعة التي لا تختلف كثيرا عن أي (بارك) من تلك المنتشرة بكثرة في بروكسل وضواحيها، حتى النساء شبه العاريات اللواتي كن ينتشرن هنا وهناك على بحيرات صغيرة، لم تكن أي منهن تختلف كثيرا عن نساء شاهدهن في بروكسل، أوفي ليال الرقص الساخنة، صديقته الفرنسية (آن) كانت من بين النساء العاريات أيضا، عرفها لكنه لم يتخيل أبدا أن تكون هنا، في هذا المكان الذي كان من المفروض أن يكون طاهرا من هكذا نجاسات، رغم ذلك شمّ رائحة النبيذ الأحمر و اشتهى أن يدخن سيجارة قبل أن يستيقظ، المشهد كله لم يكن مثيرا، مشهد يفتقد لعنصر التشويق أو الإغراء، ما هو أكثر إثارة كان في اليقظة، شعور بالخيبة، هيمن عليه، تمنى أن يلقي نظرة على وجهه، لم تكن هناك مرآة . شعر بالحنين لأنه ابتعد كثيرا إلى الحد الذي صار طريق العودة مستحيلا، نعم مستحيل، كررها وهو ينظر إلى الصحراء الواسعة والوجوه الغريبة القاسية، اشتاق لكل شيء هناك، حتى لأهله الذين طالما كانت المشاكل تعصف بحياتهم، ولأصدقائه اللصوص ورواد المراقص، ول(آن ) وللموسيقى، ولمشاهدة كرة القدم، تذكر أخته، تمنى أن يعتذر منها الآن، ولن يمانع حتى في التعبير عن مشاعره الطفولية في حضن أمه، ولأبيه الذي طالما اعتبره ساقطا، كانت صور حياته تجرّه بعنف، شعر بالخوف، وبالفراغ الذي يملأ حياته، تمنى أن يحصل على فرصة للبكاء وهو يرى نفسه يمشي إلى الهاوية، لم يفعلها، بل عالج هذه الهشاشة باستحضاره لسحر الكلمات، تلك البواعث الخارقة التي سددها أمام الجامع إلى منطقة رخوة من وعيه فتمكنت من كيانه كله حتى انه تنازل عن الأهمية التي تحملها الجنة وتمسك بالفخر الذي يحصل عليه المرء بمرافقة سرمدية للرجل النوراني، ربما كان الأمر كله في هذه اللحظة يعبر عنه وجود المرء في موضع لا بديل سواه، وهذا ما يجعله باحثا عن الأوهام التي تقوده لما يجعله متصالحا مع الموقف الذي وجد نفسه فيه، الكلمات كانت تنساب بوضوح، كما لو أنها نداء يحرض المرء على التقدم بسرعة قبل أن يحدث ما يفسد كل شيء: انه هو، هو بعينه، هذه أوصافه، وهذا هو صوته، ومن رآه فقد رآه.
شاعر وروائي عراقي - بروكسل
zuheraljobory@hotmail.com