بجامعة عبد الملك السعدي، المدرسة العليا للأساتذة، وبفضاء شعبة اللغة العربية تحت إشراف د/ عبد الرحيم جيران، التأم لقاء مفتوح مع الكاتب المغربي شعيب حليفي، وذلك يوم الجمعة ثالث عشر نوفمبر 2009 في إطار سلسلة "تجارب إبداعية"، لما أسهم به من جهود في صياغة السؤال النقدي، ومد رحابته نحو عوالم جديدة، ولِما تميز به من تفرد على مستوى السرد في إنتاج نصوصه الروائية.
كاتب توسُّعي
وبعد التقديم الذي مهد به الباحث عبد الرحيم الصليعي لهذا اللقاء، تناول الكلمة شعيب حليفي متحدثا عن تجربته، ومما جاء فيها:
"كنتُ أريد أن أكون واحدا من أهلي وشعبي، وكنتُ وما زلتُ أعتقد أني جزء منهم لا أستطيع الحياة خارج عوالمهم".
أدركتُ منذ فترة مبكرة جدا قيمة الكتابة، قبل أن أكتشف قيمة المعرفة... وأنا ابن مدينة صغيرة على مرمى بصر من كازابلانكا، اكتشفتُ أن الكتابة سلطة، كما الكلام عندي سلطة.. إنه التماهي الحر مع بداوتي المفرطة في الانتشاء.. لكنني اكتشفتُ سلطة أكبر هي الكتابة، وذلك من خلال:
ـ قدرتها على اختزال حلم ما،عبر لغة وممكنات صور.. تتيحُ لي العمل مثل صوفي مجرب يدقق في الكلام حتى يُلائم روحه وحياته الظاهرة والباطنة.
ـ وفي كونها ثورية، حينما تؤرخ وتفضح وترسم للخفي وجوهه من كل الوضعيات.
لهذا وغيره دنوتُ من الكتابة عبر جل أبوابها، فكانت الصحافة والانخراط في العمل الثقافي ثم النقابي وفي الجامعة..عوامل ترجمتها رغبتي في اختيار سبيل الكتابة، عبر كل أشكالها..
لهذا كنتُ وما زلتُ أعتبر نفسي كاتبا محليا برؤية توسعية.
في بداياتي الأولى، ومن خلال مقالات اجتماعية موقعة باسمي أو بأسمائي المستعارة أو غفلا من التوقيع.. كنتُ، فقط، كاتبا يهم "سكان دوار أولاد سليمان بفلاحيه الذين لا شُغل لهم سوى الأرض وانتظار أمطار الرحمة".
ثم وبسرعة، صرتُ كاتبا يهم كل قبائل المزامزة وبعد ذلك انطلقتْ كتاباتي تستحوذ شيئا فشيئا على مساحات أخرى واسعة حتى بلغتُ كل أراضي الشاوية في خرائطها القديمة والجديدة.ومن حين لآخر، وكلما واتتني الفرصة، أقوم بضم أراض جديدة إلى ممالكي السعيدة.
"أنا شخص مثل كل الناس والغيوم والغابات.. أحيا وبداخلي عشرات الأشخاص، منهم الكاتب والفلاح والأستاذ والمواطن والأب والساكن والمتمرد..."
ثم انتقل بعد ذلك شعيب حليفي للحديث عن تجربته الروائية متوقفا عند تأويله لمسار نصوصه منذ مساء الشوق إلى "زمن الشاوية" "ثم رائحة الجنة"، قبل الانتقال إلى "مجازفات البيزنطي" و "أنا أيضا". كما تحدث عن تجربته الجديدة في نصوص اليوميات.
"إن رحلتي مع السرد هي تجربة مع التخييل وطرائق التعبير، تحولت من النص الذي أكتبه كاملا إلى النص الذي أكتبه في أجزاء وفصول وعبر نصوص وفترات زمنية، يُقرأُ جزئيا وكليا".
في الجزء الثاني من كلمته تطرق شعيب لمساره النقدي من خلال أربعة مؤلفات في النقد الروائي والرحلي.
تجربة كاتب
بعد ذلك، تدخل عدد من الباحثين والحضور حول محاور تهم تجربة شعيب حليفي، روائيا وناقدا وفاعلا ثقافيا، وعلاقاته بالمكان والزمان والتاريخ والمتخيل عموما، وقد اختتمت هذه التدخلات بكلمة لعبد اللطيف محفوظ استهلها بالحديث عن تجربة د/ حليفي مركزا على ثلاثة جوانب حددها في المسار العلمي والإبداعي والإنساني، موضحا أن المنجز العلمي لشعيب الباحث يتميز بالرصانة العلمية المتجلية في ثلاثة خصائص:
الأولى، تميزه بالوضوح النظري الذي ينعكس في الوضوح اللغوي مما يجعل كتاباته تُزاوج بين العمق المعرفي وصفاء الفكر، فتتحول القراءة جراء ذلك إلى سيرورة من الاستفادة والمتعة المعرفية، وهي سمة يقول د/ محفوظ عنها اننا قلما نجدها عند بعض النقاد الذين رغم عمق طروحاتهم، لا يستطيعون تحيين آليات التواصل التي تمكن مختلف طبقات القراء من التفاعل مع نقودهم.
الثانية، قدرته على التركيب الخلاق والمتجلي على مستويات عدة متضافرة، ذلك أنه يستطيع تركيب معرفة متناسقة انطلاقا من توليفة من المعطيات المعرفية، نظريا، ومن توليفة من النصوص على المستوى التطبيقي..
وثالثا، تلك الجدة في الطرح والنزعة الموسوعية داخل التخصص من خلال قدرته على معالجة الموضوعات بدءا من ما قبل تاريخها مرورا ببداياتها وتشعباتها وصولا إلى إعادة بنائها نسقيا، مثلما يتجلى ذلك في توظيفاته وتحليلاته للنصوص ـ وهو يدرس ظاهرة ما ـ والتي تتجاور عنده رغم تباعد أزمنتها واختلاف خلفيات وأسئلة إنتاجها، وذلك بفضل انسجام الموضوعة التي تصبح دائما عنده مصفاة لتحقيق النسقية والاتساق.
وحول الجانب الإبداعي أكد أن حليفي رغم حرصه على تشخيص أشكال حيوات محصورة في دائرة محدودة لا تتجاوز منطقة الشاوية التي يلح على التأريخ لها تخييليا، فإنه بفضل بصماته الإبداعية يعبر عن واقع ذهني وتصوري وعقدي لتجاوزذلك إلى التعبير عما هو وطني وقومي وإنساني.نجده مثلا ينحاز إلى التشخيص السياسي للواقع في رواية "مساء الشوق" وخلق البُعد الأليغوري لبناء المعنى عن طريق استعادة التاريخ في رواية "زمن الشاوية"، والتوصيف الاجتماعي والثقافي في رواية "رائحة الجنة"، والميل إلى تشخيص المعتقد والمعيشي بكل إسهاماتهما وحقائقهما في الروايتين الأخريتين: "مجازفات البيزنطي" و "أنا أيضا"، مع ميل إلى استثمار التقنيات الحديثة وخاصة الميتا سرد والتشدير والتقطيع...
كما أشار د/ محفوظ إلى ميزة أساسية تسم كتابات شعيب حليفي الإبداعية والمتمثلة في قدرته على التوليف بين التفاصيل البسيطة والأحداث العادية والطريفة، مع تجريدات وصور بالغة البذخ الفكري، تمضي أحيانا إلى حدود التفلسف. لينتقل أخيرا إلى تجربة المذكرات الشهرية التي وصفها بالسنن الجديد في التخييل السردي المنفتح على الحقيقة المعيشة للكاتب بلغة شفافة ذات منحى يعمد إلى تطويع اللغة لكي تعبر بعمق وسلاسة عن تفاصيل وأحداث تبدو مستعصية عن التشخيص اللغوي المبدع...
وانتهى في الأخير إلى الحديث عن الجانب الإنساني عند شعيب حليفي مركزا على مفهوم الصداقة عنده والالتزام المعرفي والأخلاقي، وعلى تشبثه بقيم الديمقراطية في تسيير المختبر وغير من المراكز التي يشرف عليها على المستوى الأكاديمي والجمعوي، معتبرا هذه الشيم هي التي تعطي للمختبر والمراكز الأخرى الفاعلية والاستمرارية.