يأخذنا الناقد الفلسطيني هنا في رحلة تفصيلية شيقة مع رواية باولو كويلو التي تدور بين شخصيات انتهى بها الأمر جميعا في مصحة للأمراض العقلية، لكن الرواية تكشف لنا عن مدى حيوية هذه الشخصيات وقدرتها على سبر أغوار سر الحياة والموت، ومعرفة أن الخلاص لا يكون إلا بالحب.

باولو كويلو في «فرونيكا قرّرَت أنْ تموت»

حتى نرفضَ الموت ولا نفكّر فيه، علينا أنْ نحبّ

نبيه القاسم

ما الذي يدفع بواحدنا إلى التفكير بالموت والتخطيط له رغم إدراكنا أنّنا بذلك نتحدّى إرادةَ الربّ وكلّ المفاهيم الاجتماعية والدينية، ونجلبُ الحزنَ والألم لأقرب الناس إلينا؟ قد تكون دوافع عدّة تدعو الواحد ليقرّر أن يضعَ حدّا لحياته. أحدها: الشعور بالوحدة والانقطاع عن الجميع. وثانيها: انحسار الأفق العقلي إلى درجة كبيرة وخطيرة. وثالثها: الهرب من مواجهة صعبة غير واثق من نتائجها، تكون النهاية بالنسبة له في علاقته بالحياة ومَن فيها. ورابعها: حبّ المغامرة والبطولة والتجربة بدخول العالم المجهول، عالم ما بعد الموت، الذي كثيرا ما يُثيره في ما يُخفي من أسرار.

يُعالج باولو كويلو في روايته "فرونيكا قرّرت أن تموت" العلاقة المتشعبة التي تربط الانسان بالحياة، ويقف عند لحظة الانكسار عندما يصل الواحد إلى قرار صارم ونهائي أنّه لن يستطيع الاستمرار أكثر. وهو يفعل ذلك من خلال تناوله لعدّة شخصيات مختلفة التقت في مكان واحد "مركز الأمراض العقلية" مما سمح لها بالتعارف والتحدّث والتأثّر.

وقصّته هذه لم تأته فكرتها عفو الخاطر، وإن كان موضوعها يُراوده ويشدّه ويستدعيه بين حين وآخر. فقد كانت بنت صدفة إذ كان يجلس وصديقة سلوفانية اسمها فرونيكا في مطعم جزائري في باريس عندما روت له هذه الصديقة ما سمعته من والدها الطبيب من قصة فتاة تدعى فارونيكا عالجها في مستشفى للأمراض العقلية كان يُديره. ويخبرنا باولو كويليو أنّ ما شدّه لقصة فرونيكا المريضة أنه هو أيضا كان والداه قد أدخلاه، رغما عنه، ثلاث مرات في سنوات عمره الأولى للمعالجة في مستشفى للأمراض العقلية، لأنّ تصرفاته لم ترق لهما. ولهذا شدّته قصة فارونيكا ووجدها المتنفس الذي يبوح عبره بأسراره وهمومه، كما أنه أحسّ بالتعاطف الإنساني مع شخصيات روايته لأنهم ذكّروه بمُعاناته وأعادوه إلى أيام خوال كان مثلهم نزيل مستشفى للأمراض العقلية.

الشخصيّة الأولى والمركزية في القصة هي فرونيكا الفتاة التي عانت من العلاقات السيئة بين والديها منذ الصغر. ورغم الحبّ الذي أحاطاها به إلا أن خلافاتهما طغت وقرّرا الافتراق، مما دفع بفرونيكا لمواجهتهما بكل عواطفها الجيّاشة واستطاعت أن تقنع والدها بالبقاء في البيت رغم ما يعنيه ذلك من عذاب لكلا الوالدين. عملت في مكتبة عامة واستأجرت لها غرفة في أحد الأديرة، وحلمت أن تعطيها الحياة زوجا قنوعا تعيش معه بطمأنينة في بيت بسيط. وألزمت نفسها في علاقاتها مع الرجال أن تمنح الواحد قليلا من السعادة لا أكثر ولا أقلّ ممّا هو اللازم فقط. لم تغضب على انسان لأن الغضب كما اعتقدت يحتاج إلى ردّ الفعل لمحاربة العدو ولتحمّل نتائج لا نتوقعها مُسبقا.

وبعد أن حققت معظمَ ما أرادت من الحياة وصلت إلى قناعة أنّه لم تعُد لحياتها أيّةُ قيمة لأنّ كلّ أيامها أصبحت متشابهة مكرّرة لا جديد فيها، وإذا تابعت حياتها ستأخذ بعد أيام الشباب بالتدهور إلى حالة العَجز والأمراض واختفاء الأصدقاء وزيادة الأمراض والعُزلة والعذاب. وسبب ثان لقرارها أنّها قرأت الصحف وشاهدت البرامج التلفزيونية وتابعت كلّ ما يجري في العالم واقتنعت أنّ كلّ ما في العالم معطوب ولا تستطيع أن تُغيّر الموجود أو تُصلحه. ولهذا قرّرت أن تضع حدّا لحياتها وتموت لتخوضَ تجربة الموت، التجربة الأخيرة في حياتها. لقد حاولت أن تتخيّل مغامرات الموت ولم تصل لنتيجة. كثيرا ما كانت تتساءَل عن حقيقة وجود الربّ، خاصّة وأنّ أمّها كانت تُكرّر على مسامعها أنّ الرب يعرف ماضي الانسان وحاضرَه ومستقبله، وإذا كان كذلك فالله هو الذي أوجدها في هذا العالم بمَعرفة سابقة أنّها ستضع حدّا لحياتها ولن يُفاجَأ بذلك، وكان بإمكانه أن يتجاوزَها ولا يوجِدُها.

اختارت فرونيكا الموت بتناول حبوب النوم. لكنها بعد ساعات وجدت نفسَها في مستشفى للأمراض النفسية تخضعُ للعلاج وللقيود الصارمة التي تفرضُها إدارةُ المستشفى. تعرّفت فرونيكا خلال الفُسحات الممنوحة للمرضى، وما بين جَلسة علاج وأخرى، على بعض النُزلاء وأقامت معهم علاقات مُتمايزة. وأوّل هؤلاء كانت امرأة باسم زدكا، كانت تُتابع الكلام بين فرونيكا وحارسة باب المستشفى حول تَحديد مفهوم كلمة مجنون. فسألت فرونيكا:

- أنتِ لا تعرفين ماذا يعني مجنون؟

وفي جلستهما معا قالت لها فرونيكا: أنا لست مجنونة، أنا منتحرة فشلت في تنفيذ رغبتها. وشرحت لها زدكا مفهوم المجنون بأنّه الانسان الذي يعيش عالمه الخاص أمثال المُنفصم الشخصيّة والمضطرب عقليا ومَن فقد الذاكرة ، هؤلاء أناس يختلفون عن غيرهم.

كانت زدكا في أوّل حياتها شابة جميلة وقعت في غرام شاب لم يُبادلها الحب، لكنها أصرّت على أن تجعله يُحبّها ويتزوجها فتتبّعتْ أخبارَه ولحقت به للضفة الثانية من المحيط وبذّرت أموالها عبثا حتى يئست وعادت إلى بلادها سلوفانيا وعملت على استعادة حياتها الطبيعية. وبالفعل نجحت في إيجاد عمل ومقابلة شاب أحبّها وتزوجته وأنجبا أولادا. الحرب التي انفجرت بسبب قرار سلوفانيا الانفصال عن يوغسلافيا استدعته للقتال، ولكنه بعد انتهاء القتال عاد إلى بيته وأسرته. عادت الحرب وانفجرت بين كرواتيا وصربيا وانتشرت أخبار أعمال الصرب الوحشية فتضايقت زدكا، كصربيّة، من تشويه سمعة شعبها وكتبت المقالات التي تُدافع فيها وترفض الاتهامات. لكن حدث أن مرّت يوما أمام تمثال شاعر سلوفانيا العظيم واستعادت قصة حبّه ليوليا التي رآها صدفة في الكنيسة وسَبته من النظرة الأولى، لكنه لم يستطع الاقتراب منها، فخصّص لها أجمل أشعاره التي يُرددها الناس حتى اليوم.

وتساءلت زدكا: وماذا كان حدث لو أن هذا الشاعر غامر بكل قوته من أجل الفوز بمحبوبته؟ وشعرت زدكا بخفقة قويّة في قلبها، وعادت إلى البيت لتستغرق في حالة نفسية صعبة وسؤال واحد يعذبها: هل هي أيضا صمدت وغامرت بما فيه الكفاية للفوز بحبيبها؟ هكذا تحوّلت حياة زدكا وأفراد بيتها إلى حياة لا تُطاق. وبدأت في عملية بحث مرهقة وراء محبوبها البعيد. فصرفت الأموال وهاتفت العشرات، وفكّرت بالسفر للبحث عنه عبر المحيط في أمريكا. كل هذا يحدث وزوجها لا يدري بما يجري في بيته. وبعد فشلها استولت عليها حالة نفسية صعبة جعلت الطبيب يقرّر نقلها إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث التقت بفرونيكا.

الشخصية الثالثة كانت ميري محامية ناجحة تعمل في مكتب محامين مشهور، متزوجة ولها أولاد. كانت تحضر فيلما سينمائيا حول حالة الفقر في بلاد السلفادور عندما داهمتها أفكار غريبة: لماذا لا تترك عملها الروتيني وتكرّس سنوات عمرها الباقية للخدمة في جمعية خيرية تمدّ يدَ المساعدة للمحتاجين؟ الحروب كانت منتشرة في الكثير من مناطق العالم مثل سلفادور حيث الأولاد يعانون من الفقر والجوع وتضطر الفتيات للعمل في الدعارة لكسب لقمة العيش. قررت ميري أن تُفاتح زوجَها بما تفكّر حالَ عودتهما للبيت.

لكنها فجأة شعرت برعشة في قلبها وثم بألم أخذ يزداد ويشتد، فقررت ترك القاعة بهدوء. خرجت وزوجها وشعرت للحظات أنّها ستفقد الحياة، فسارع زوجها بإيقاف سيارة أجرة نقلتهما إلى البيت بعد رفض ميري التوجه للمستشفى. في الغد ذهبت للعمل، وفي جلسة لها مع زميل لها صارحته برغبتها في ترك العمل والتفرّغ للأعمال الخيرية. وعاد قلبها ليفزعها وهي وحيدة في مكتبها. وفي البيت صارحت زوجَها بما حدثَ لها واتّفقا على إجراء الفُحوصات الطبية. غابت شهرا عن العمل عاوَدتها دقاتُ القلب والأوجاعُ والمخاوفُ حتى انتهى بها الأمر ودخلت مستشفى الأمراض العقلية لتلتقي بفرونيكا وزدكا والآخرين.

أدوارد كان الشخصية الرابعة المهمة، وهو ابن سفير يوغسلافيا في البرازيل. لم يجد سعادته في عاصمة البرازيل، فكان وهو في السابعة عشرة من عمره يومها يقضي وقته في الدراسة، لا أصدقاء له ولا اهتمامات، مما أقلق أمّه وجعلها تخاف على مستقبل ابنها الذي كانت تريده أن يتابعَ خطى والده في سلك الخارجية. ثم كان وأحضر ادوارد معه للبيت فتاة برازيلية مما أفرح والديه وطمأنهما على ابنهما، لكن جلساته مع الفتاة وتعاطيهما الأرجيلة أثار شكوك والدته في تصرفاته وخافت أن يكون ابنها متورطا في إدمان المخدرات. ثم صارح أدوار والديه برغبته في شراء دراجة ولما شعر بعدم استجابة والديه ومحاولة والده توجيهه في الطريق الأمثل التي يعتقدها غضب أدوارد ودخل غرفتَه وقضى الساعات مع الأرجيلة حتى أرغمَ والديه على شراء الدّراجَة.

وبينما كان في طريقه إلى فتاته فقدَ السيطرة على مقود القيادة وسقط مما سبب له عُطلا قويّا أقعده في المستشفى فترة طويلة، فيها قرأ كتابا يروي حياة أشخاص كانت لهم أحلامهم ورؤاهم التي تحقّقت أمثال السيّد المسيح وداروين وفرويد وكولومبوس وماركس. وحياة قديسين وكثيرين من الذين انطلقوا وراء أحلامهم كي يحققوها. هؤلاء لم يدعوا الحياة تمرّ هباء. لقد تصدوا لكل المُعَوّقات وتمرّدوا على كل المفاهيم الاجتماعية وانطلقوا ليُجسّدوا أحلامَهم في الواقع. ومثلهم أراد أدوارد أن يكون، واختار طريقَه، وانطلق ليُحققَ الحلمَ بأن يكون قدّيسا، واختار تعلمَ فنّ الرّسم، فصادق الرسّامين والفنانين الذين باتوا يزورونه ويُسامرونه كل ليلة، وتحولت غرفته إلى استوديو كبير.

فشلت كل محاولات والديه لثنيه عن طريقه هذه، ودافع أدوارد عن تعلقه بالرسم والفن. لكنه ضعف أخيرا أمام إلحاح والده وتوسلاته ووعده بالعمل برغبته والانصياع لنصائحه. فرح والداه بهذا التحوّل الكبير وظنّا أنهما استعادا ابنهما من ضياعه الذي كان مؤكدا. لكن ادوار كان قد فقد السيطرة على نفسه، فلا هو نجح في أن يكون الابن الذي أراده والداه، ولم ينجح في أن يستعيد حلمه الذي قرّر التنازل عنه. ولم تمض خمسة شهور حتى كان يُعاني من انفصام في شخصيته ممّا دفع بوالده، الذي عاد إلى سلوفانيا بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في يوغوسلافيا، إلى إدخاله لمستشفى الأمراض العقلية، حيث تعرّف هناك على ميري وفرونيكا ونزلاء المستشفى كلهم.

مستشفى الأمراض العقلية (فيليت) هو المكان الذي جمع بين شخصيات الرواية وكان مسرح الكثير من الأحداث. وكويهلو يثبت لنا أن لا مكان مقطوع عن المحيط والعالم الذي يحيط به، ولا إنسان، حتى المقيم في مستشفى الأمراض العقلية، يكون معزولا عن عالمه الخارجي والناس الذين يُعايشونه في الداخل وهؤلاء الذين في الخارج. فالتفاعل المتبادل قائم، ومهما علت الجدران وعُزلت الأمكنة تظلّ الأفكارُ المُحلّقة والأحلامُ الكبيرة أقوى، وإرادةُ الإنسان قادرة على تجاوز كلّ الحواجز ومُواصلة سَعيها لتحقيق الهدف الذي تُريد. فقد كان حضور فرونيكا للمستشفى هو العامل الذي أخرج نزلاءَ المستشفى وعامليه من روتين نظام يومهم الذي اعتادوه، وكسَرَ نمطَ التفكير الذي سَيطر على عقولهم.

وبذكاء يوقفُنا كويلو أمام المفارقة التي تُثير الدهشة وتشدّ انتباهَ القارئ، ففرونيكا أدخلت المستشفى بعد قرارها بالانتحار الذي اتخذته ونفّذته وفشلت في تحقيقه، وظلّت متمسكة برغبتها في الموت وتقبّلت قولَ الطبيب لها بأنّ ما بقي لها من الحياة خمسة أو سبعة أيام فقط ببساطة وهدوء وراحة. فرونيكا هذه الراغبة في تَرك الحياة كانت مَن غيّر نمطَ نظام المستشفى وقَلبت أفكارَ، وحتى سلوك نزلاء المستشفى الذين كانوا قد ارتاحوا لروتين أيامهم، هؤلاء النزلاء الذين أدخلوا إلى المستشفى لأنهم حضنوا أحلامَهم الكبيرة وسَعوا لتحقيقها فعاكستهم الحياة، وأرغمهم أقربُ الناس إليهم بالابتعاد والاعتزال في مستشفى الأمراض العقلية ليحموا مجتمعَهم من نتائج ما يقترفون من عمل ويبثون من أفكار.

وكويلو يبيّن كيف أن تعلّق الإنسان بالحياة وشدّها له وانجذابَه نحوها أقوى وأثبت من كره الانسان للحياة نفسها وملله من روتينها ورغبته في هجرها والتّخلي عنها بوضع حدّ لحياته. ففرونيكا التي قامت بمحاولة الانتحار الفاشلة راغبة ومُقتنعة ومُصرّة، سرعانَ ما أخذتها الأفكارُ والأحلامُ، بعد تأكدّها من بقائها في الحياة، ورسمت لنفسها نمطَ حياتها المستقبلية، وأملت أنّها بعد أيام من العلاج ستخرجُ من المستشفى وتعودُ للحياة الصاخبة، للعمل في المكتبة حيث عملت، وللبارات والمقاهي والنوادي الليلية، تُحادثُ الناسَ عن متاعب الحياة ومشاكلها، تزورُ دورَ السينما، وتتفسّحُ على شاطئ الخليج، وسوف تجدُ المُحبين وتُضاجعهم، وفي غرفتها في الدير ستُشاهدُ برامجَ التلفزيون وتقرأ كتابا، وسوف تقبلُ نصائحَ أمها وإلحاحها عليها بالزواج، فتتزوّج وتنجب أطفالا، وسوف تُعاني من روتينية حياتها الزوجية، ويزداد وزنها وتسمن وتعاني من حالات الاكتئاب والشعور بالوحدة والمرارة ، وبعد مدّة تكتشفُ خيانةَ زوجها لها وتَتوالى خياناتُه وتصبحُ عادية بالنسبة لها ولا خلاص من حياتها إلا بالانتحار ولكنها لا تقوم بذلك لتعلقها بأولادها.

وتتوقفُ فرونيكا عند هذا الحد من التفكير وتُطفئ الضوء وتتظاهر بالنوم وعندما تسألها الممرضة: ألا تريدين التعرّف على حالتك الصحية؟ تُجيبها فرونيكا: أعرف حالتي، وهذا لا علاقة له بجسدي الذي ترينه بعينيك وإنّما بما يتفاعل في نفسيتي عميقا.

ويؤكدُ كويلو الحقيقةَ التي يريدُ اثباتَها بأنّ جَذْبَ الحياة للانسان وتَعلّقه بها تتمّ من حيث لا يدري هذا الانسان حتى ولو كان يريدُ الخلاصَ منها. فمجرّد أنْ تُفكّرَ فرونيكا بإمكانية الهرب من المستشفى (ص 40) أو أن ترغب في التنصّت إلى ما يقوله أفرادُ المجموعة المُتحلّقة، وأنْ تشعرَ بالإهانة والخوف والألم والبكاء لاستهانة أحد أفراد المجموعة بها (ص 44)، وأنْ تعودَ بعد فترة لتُواجه الرجلَ بثقة وقوّة وإصرار وتصفعُه على وجهه وتبتعدُ وهي تشعرُ بالانتصار وأنّها قامت بعمل لم تفعله طوالَ حياتها (ص47)، ثم تتملكها بعد مرور ثلاثة أيام مشاعرُ النّدم على ما فعلت وتخاف أن يجعلها كلّ ذلك أن تجدَ قيمة وأهمية للحياة ورَغبة فيها، وهذا ما سيُسبب لها الألم لأنها على إدراك تام بأنها لن تعيش إلاّ أياما معدودة. كل هذه الحالات التي مرّت بها فرونيكا والمشاعر التي خالجتها فعلت مفعولها وجذبتها إلى التعلّق بالحياة والرغبة باستمراريتها والشعور بالألم والحزن لإدراكها أنّ ذلك غير ممكن لأن ما بقي لها أيام معدودة.

كويلو في ولوجه إلى أعماق فرونيكا يكشف بعضا من سرّ الانسان، ففي كل واحد توجد عدّة شخصيات مختلفة وفرونيكا، كما تعترف للممرضة، أرادت عندما تناولت حبوبَ النوم أن تقتلَ فرونيكا التي تعرفُها، ولكنها لم تكن تعرفُ أنّ هناك في داخلها تُقيمُ فرونيكات أخريات بإمكانها أن تُقيم معهن علاقات وتُحبّهن. وعندما تسألها الممرضة: ما الذي يدفع بالانسان إلى كراهيّة نفسه؟ تقول فرونيكا: لربّما الخوف أو الاعتقاد الدائم بأنه مخطئ، وأنه لا يقوم بما يتوقعه منه الآخرون. (ص 65)

هذه الجلسة مع الممرضة جعلت فرونيكا تستعيد حياتها الماضية وعلاقاتها مع الناس الذين عرفتهم وتعيشُ حالات الألم ومَشاعر الوحدة والعزلة والرفض التي قاستها والتي دفعت بها أخيرا إلى محاولة الانتحار. فرونيكا شعرت فجأة بكل مشاعر الكراهية تتملكها، كراهية لكل ما يُحيط بها وما تقع عليه عيناها وتلمسه يداها، كراهية لنفسها لوالديها للعالم ولنمط الحياة الذي عاشته دون أن تكتشفَ مئات الفرونيكات الأخريات اللواتي كنّ يُقمن في داخلها، فرونيكات مُثيرات، مجنونات، مُحبّات للتعرّف على كل شيء، واثقات من أنفسهن وتَملُكنَ الشجاعة ولا تَخَفْنَ من مُواجَهة المَخاطر.

كانت مشاعر الكراهية هذه تتفاعل بقوة في داخل فرونيكا وهي تتوجّهُ نحو القاعة وتدفعُ البابَ وتسير نحو البيانو الكبيرة. ضربت بيدها المفاتيح الموسيقية وعلا الصوتُ وعادت وضربت مرة أخرى وثانية وثالثة وفجأة تملكتها حالة من الهدوء والراحة العميقة، وأدركت أنّ لا نهايةَ للزمن فهو باق أبدا. جلست هادئة تعيشُ واقعَها الحاضر تاركة مشاعرَ الحبّ تملأ الفراغَ الذي خلفته مشاعرُ الكراهية المُبتعدة، تطلعت إلى القمر وعَزفَتْ له سونيتا، وحتى لا تُثير غيرةَ الكواكب عزفت لها سونيتا وأخرى للجبال. وفجأة تكتشفُ أنها بعَزفها استطاعت أنْ تخترقَ، ليس القمرَ والنجومَ والجبالَ وتشدّها إليها، وإنما أيضا عالمَ أدوارد الشاب المُصاب بانفصام شخصيته حيث رأته يقفُ يُتابعُ عزفَها ويُبادلها البسمة (ص 70).

وكانت هذه البسمة بداية قصّة حبّ لم يسعَ إليها أيّ منهما. وانعطافا حادّا في حياة كليهما. أصبح أدوارد شاغل فكر وعواطف فرونيكا، وأصبحت فرونيكا مَرصدَ اهتمام أدوارد، يُتابعُ خطواتها ويريدُها دائما إلى جانبه تعزف له على البيانو. فرونيكا تُصارحُه بأنها تريدُ التعرّف على ما يجري في العالم، وعمّا يتحدثُ الآخرون، وأنها بدأت تتمتعُ من الشمس والجبال وحتى المشاكل. وتعترف له أنها المسؤولة وحدها عن فقدانها لمعنى الحياة ولذتها، وأنها ترغبُ في أنْ تعودَ للميدان وسط المدينة وأنْ تستعيدَ مشاعرَ الحبّ والكراهية واليأس والملل، كل تلك الأشياء البسيطة التي تُعطي للحياة طعمَها. (ص90)

وبالفعل بدأت فرونيكا تتغيّرُ وشاركت المجموعة في جلسة حول معرفة الذات، وأثارتها كلمات المحاضر: "استمروا في أن تكونوا مجانين ولكن تصرّفوا كأناس عاديين. عليكم أن تُخاطروا وتكونوا مختلفين، ولكن تعلّموا أنْ تفعلوا ذلك دون أن تُثيروا انتباهَ أحد. تَركّزوا في الوردة التي أمامكم وافسحوا المجال للأنا الحقيقية أن تنكشف". وسألته مقاطعة: وما هي هذه الأنا الحقيقية!؟ فأجابها وسط استغراب الجميع:  الأنا الحقيقيّة هي ما أنتِ في الحقيقة، وليس ما فعل منكِ الآخرون. (ص 95).

هكذا أخذت فرونيكا تندمج في حياة المستشفى وتفرضُ وجودَها على الجميع وتُؤثّرُ على نمط تفكيرهم ومواقفهم وتوجّههم وعلاقاتهم بالحياة. (ص 102 - 103). ولكن المهم أنّها وقعت في الحبّ الحقيقي، الحبّ الذي يُغيّر ويُنسي ويُبعد ويَقلبُ حياة المحبّ. الحبّ الذي يقفُ حياله الزمنُ عاجزا والموت مَنْسيّا والوجودُ سَرمديّا. وقعت في حبّ أدوارد الرجل المثالي الحسّاس المثقف الذي استطاع أن يهدم عالما لامباليا وأن يخلقه في خياله من جديد بألوان جديدة وشخصيات جديدة وقصص جديدة ، عالما فيه امرأة وبيانو وقمر يكبر دائما. "بإمكاني أن أحبّ الآن"، هكذا خاطبت أدوارد عندما اعترضَ طريقَها في ساعات الليل المتأخرة وأصرّ على أن تعزفَ له على البيانو.

"بإمكاني أن أعطيكَ كلّ ما أملك. إنّكَ تطلبُ منّي قليلا من الموسيقى، ولكنني أملك أكثرَ مما فكّرتَ، ورغبتي أن أقاسمَك أشياء أخرى الآن فقط بدأتُ أعرفها". وتابعت بانسجام كامل: "أنتَ الرجل الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي بإمكاني أنْ أحبّه. اليوم عزفتُ لكَ كامرأة مُحبّة. كان رائعا. كانت أجمل وأروع لحظة في حياتي". ولم تشعر فرونيكا بما تفعل، دخلت في حالة حبّ سَرمديّة، خلعت بلوزتها واقتربت من أدوارد، أمسكت يدَه محاولة جذبَه نحو الكنبة فمانع. قامت بمحاولات لإغرائه وهو يُمانع. خلعت كلّ ثيابها ووقفت أمامه عارية تُمارس الحبّ وحدَها بشَبق لم تعرفْ لذّتَه من قبل. وأدوارد يتابعُ حركاتها وصوتَها صامتا وبريق مُختلف وعَميق يلمعُ في عينيه.

وعندما عادت إلى طبيعتها وجدت ميري تراقبها فبادرتها قائلة: "فعلتُ ما اقترحتِ عليّ". وسألت: "لماذا لم أفعل ذلك حتى اليوم؟ "أجابتها ميري وهي تُغادرُ المكان: "أعتقد أنه يُريدُ أن تعزفي له، إنّه يستحقّ ذلك منكِ". وعزفت فرونيكا طوال الليل، وتذكّرت كلّ الأغاني التي كانت تَحفظها. شعرت وهي تعزفُ بخفّة، لم يُراودها شعورُ الخوف من الموت، لقد عاشت اللحظات الجميلة التي طالما أخفتها حتى عن نفسِها، شعرت مشاعرَ فتاة بَتول، ومشاعرَ عاهرة، مَشاعرَ عَبْدة ومشاعرَ مَلِكة، وكانت في قمّة سعادتها. لكنها في ساعات الصباح الأولى كانت أمام غرفة الطبيب لتسأله كم بقي لها لتعيش، ولتطلبَ أن يُعطيها دواء يُبقيها طوالَ الأربع والعشرين ساعة الباقية لها يقظة وقادرة على الحركة، وأن يسمح لها بالخروج من المستشفى لتموتَ في الخارج.

فرغبتها أن تتسلق قلعة المدينة وأن تُكلّم المرأة التي تبيع بقربها، وأن تسير على الثلج بدون معطف لتشعرَ بالبرد وأنْ تُحسّ بالمطر على وجهها، لتبتسم للرجال الذين يُثيرون اهتمامَها، أنْ تقبلَ الدعوةَ لشرب القهوة، وأن تُقبّل أمّها وتقول لها إنّها تُحبّها، ولتبكي في حضنها دون أن تشعر بالخجل في إظهار مشاعرها التي كانت دائما موجودة وعملت على إخفائها. أن تدخل إلى الكنيسة وتنظر إلى الشخصيات التي لم تُثر فيها أيّ معنى في السابق، لربما وجدت فيها بعضَ الشيء. وتابعت كلامَها للطبيب "وإذا دعاني رجل لناد ليلي سأقبل دعوته وأرقص كل الليل حتى ترتخي قواي وبعدها أذهبُ لأضاجعَه لا كما ضاجعتُ غيرَه من قبل ، وإنما أريد أن أهبَ نفسي لهذا الرجل وللمدينة والحياة وأخيرا للموت".

وعندما طلب منها الطبيب أن تذهب وترتاح وتنام وتعود إليه في الغد قالت له: "لقد قلت أنّ لا غدَ لي بعد!" وتابعت: "لديّ سؤال مُلح، بالأمس وللمرّة الأولى في حياتي مارستُ العادة السريّة بحريّة تامة وفكرتُ في كل ما لم أجرؤ على التفكير به طوال حياتي، لقد تمتّعتُ من أشياء أخافتني في الماضي وأبعدتني عنها. شعر الطبيب بنوع من الارتباك، سارع للتخلص منها طالبا منها الذهاب للنوم فلدَيه مشاغل عديدة. (ص128-129). وما كادت تخرج من عند الطبيب وإذا بأدوارد أمامها فيرفّ قلبُه ويشعر برغبة في الاقتراب منها والتحدث إليها ومُقاسمتها أحلامَه. وكشفَ أسرارَه أمامها كما كشفتْ جسدَها له أمس.

فأحلام الجنّة التي سيطرت عليه وكانت السبب في دخوله إلى المستشفى عادت لتتراقصَ أمام عينيه وهو يُنصت إلى عزف فرونيكا الرائع وسأل نفسه: ما الذي أعاد هذه الأحلامَ إليّ؟ أهي الموسيقى أم الفتاة أم القمر أم الزمن الطويل الذي عاشه في المستشفى؟ كانت نظراته إليها تقطر حبّا. أرادت أن تحضنه وتقبله لولا مراقبة الممرض لهما. وبدأ أدوارد لأوّل مرة يفكر بالهرب من المستشفى وصارح ميري أمينة سرّه وراعيته بذلك. وبالفعل عندما التقى فرونيكا صارحها بحبّه لها وبأهميتها بالنسبة له. شكّت فرونيكا بمصداقيّة أدوار وصارحت زدكا بمخاوفها، وأنها لا تستطيع أن تحبّ رجلا يعيشُ في عالم آخر. فقالت لها زدكا: كلّ منّا يعيش في عالمه الخاص، ولكنّك إذا نظرت إلى السماء المزروعة بالنجوم سترين أنّ كلّ العوالم المختلفة تتعالق وتتداخل وتتوحدُ وتتشكل في مجموعات متآلفة.

أجابتها فرونيكا وهي تُمَسّدُ شعرَ أدوارد: "قبل سنوات عندما أرغمتني أمي على تعلم عزف البيانو قلتُ في نفسي إنني أستطيع أن أعزفَ جيّدا فقط عندما أعيشُ حالة حبّ، وأمس ليلا، للمرّة الأولى في حياتي شعرتُ وكأن النغمات تتدفّق من أناملي دون أيّ سلطان لي عليها. أيّ قوّة دفعتني؟ لقد استسلمتُ للبيانو تماما كما استسلمتُ قبل ذلك لهذا الرجل دون أن يلمسَ شَعرة من شَعر رأسي. أمس لم أكنْ أنا، وأيضا لم أكن أنا عندما استسلمتُ لمُمارسة الجنس أو عندما عزفتُ على البيانو. ومع كلّ ذلك أعتقدُ جازمة أنّني كنتُ أنا". نظرت إليها زدكا بودّ كبير وقالت: "قبل أن تقولي ثانية إنّك ستموتين، أريدُ أن أقول لك شيئا ما: هنالك مَن يقضون حياتهم يبحثون عن لحظة كالتي عشتها أنت أمس، ولم يستطيعوا الحصول عليها. لذلك أقول لك إذا كنت لا بدّ مُواجهة الموت الآن فَلْتموتي بقلب مَليء بالحبّ."

ولأنّ الحبّ هو الجنون الأكبر عند الرجل والمرأة انطلق كل من فرونيكا وأدوارد في سَعيهما للقاء والانطلاق والتّوَحد. ففرونيكا منذ اللحظة التي عرفت نفسها وأناها الحقيقية حين تجاوزت حدودَها بامتلاك حريّتها في فعل ومُمارسة ما تريد أيقنت أن أدوارد هو الرجل الذي تُحبّ وتُريد. كذلك أدوارد رغم حالة الانفصام التي كبّلته أحسّ من حيث لا يدري أنّ هذه المرأة هي التي يُحبّ وهي التي يُريد. ولهذا قَبِلا عرضَ الممرضة وخرجا للتنزّه في الحديقة وهناك كان انفتاحُ الواحد على الآخر. قال لها أدوارد: ما رأيك في أن نخرجَ من هذا المكان. وإذ ذكّرته بأنّ ساعاتها في الحياة معدودة قال لها واثقا: ستستمر إلى الأبد أكثر من كل الأيام والليالي التي قضيتها هنا. أعتقد أنّ أحلامَ جنّة عدن التي حاولتُ كلّ الأيام الماضية تَناسيها تَعاودُني الآن. هيّا لنخرجَ. المجانين يقومون بأعمال مجنونة.

وخرجا تاركين المستشفى ونزلاءَه خلفهم، اختارا مَطعما فخما لتناول الطعام وشربا الخمرَ الجيّدة، وصخبا وأثارا انتباهَ الحضور فأخرِجا من المطعم وتوجّها إلى ميدان المدينة. نظرت فرونيكا إلى حيث كانت غرفتُها في الدير، تذكّرت أنّها قد تموت بعد قليل، تَسلّقت مع أدوارد قمّة التلة إلى حيث توجد قلعة صغيرة، وفي لحظة ما حضنت فرونيكا أدوارد وقبّلته قبلة طويلة وقالت له: "أنظر في وجهي، أذكره في روحك حتى تستعيدَه في أحد الأيام وتَرسمَه وتكونَ هذه البداية. عليك أن تعودَ للرسم. هذا طلبي الأخير منك، أنّك بعد أنْ ترسمَني تُتابعُ الرسمَ. وبعد أن أقسمَ لها أن يفعل تابعت: لقد أعطيتَ لحياتي مَعنى، لقد قَدِمْتُ إلى هذه الحياة لأمرّ بكلّ ما كان وأقومَ بمُحاولة الانتحار، لتحطيم قلبي، للقائك، لأصعدَ معك إلى هذه القلعة، ولأدعك تحفرُ صورةَ وجهي في روحِكَ. هذا هو السببُ الوحيد الذي من أجله قدِمتُ لهذا العالم، كي أجعلكَ تعودُ للطريق التي خرجتَ عنها، فلا تجعلني أشعرُ أنّ حياتي لم تكن ذات فائدة.

وفي لحظة اندهاش ونشوة قال أدوارد: قد يكون هذا سابقا لأوانه أو متأخرا ، وكما فَعلتِ وكنتِ صريحة أنا أيضا أصارِحُك بأنّني أحبّكِ. وحَضنته فرونيكا وطلبت من الربّ أنْ يأخذَها في هذه اللحظة. أغمضت عينيها بينما أخذ أدوارد يُمَسّد شعرَها ثمّ أغمض عينيه ورائحة النبيذ تفوحُ منه، ولم يشعر إلا ويد تلامسُه وصوتُ الحارس يقول له: أنتما تستطيعان الذهاب لمسكن البلدية، إذا بقيتما هنا ستَجمُدان. فتح أدوارد عينيه، نظرَ حوله، وتذكّر كلّ ما كان. كانت فرونيكا تنامُ بين ذراعيه. نظر إليها مذعورا وصاح: هي.. هي ميّتة". فتحت فرونيكا عينيها وسألت: ماذا حدث!؟ لا شيء أجاب أدوارد بفرح. لقد حدثت عجيبة ولنا أن نعيش يوما آخر.

الخاصيّة التي تتميز بها رواية كويلو هذه بساطة السّرد وسلاسته وعفويته وعرض القضايا والأفكار والتغلغل إلى دواخل الانسان. يتطرّق لما عانته بلادُ الصرب من حروب على أثر انهيار الحكم الشيوعي وانقسام يوغوسلافيا، وما تركته هذه الحروب من أثر على الناس العاديين. ويتناول قضايا فكريّة وحتى دينيّة بذكاء وقُدرة مثل قضيّة وقوع آدم وحواء في خطيئة أكل التفاحة وطردهما من الجنة، وقضية وضع القوانين التي تُكبّل واضعيها ومن كثرتها تؤدي إلى الخروج عليها ومخالفتها. ثم يتغلغل في نفسية الانسان ويكشف من خلال شخصيات الرواية ما يُمكن أن يُواجهه الانسان في حياته من مشاكل تنحرف به عن طريقه الموضوعة له. وأنّ في كلّ واحد تختبئ شخصيات أخرى مختلفة لا يعرفُ منها الناسُ غيرَ التي يَرونها بأعينهم. وأن حقيقةَ الأنا عند كلّ انسان تكمنُ في ما يعرفه هو عن نفسه وليس فيما يُريده الناس منه وما يتصورونه عليه. وأنّ حبّ الانسان للحياة وتعلقه بها هو الأقوى مهما كانت الحياة قاسية بمصائبها، ومهما تألّم وشكا ورغب في مفارقتها. وأن الحب هو القوّة العظمى التي لا تُقهر، فإذا أحبّ الواحد ملك حريّته وملك الدنيا وأحسّ أنّه يقهرُ كلّ ما يمكن أنْ يتعرّضَ له، وأنّه بالحبّ يقهرُ الزمنَ وحتى الموت.

شخصيات رواية كويلو استطاعت من بداية ظهور كلّ منها أنْ تكتسبَ وُدّ ومَحبّة وانحيازَ القارئ، فكل منها تمتاز برؤاها وخاصيّتها وجاذبيتها وتناميها ومركزيّتها وتأثيرها وتأثّرها، شخصيات ليست مُجردة ومُمَوضعَة، وإنما هي شخصيات من لحم ودم تُحبّ وتكرهُ، تتألم وتصبر، تبكي وتضحكُ تحقدُ وتُسامح. شخصيات مثقّفة متعلمة، تطرحُ وتُعالج القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة والدينيّة، وتُعطي للقارئ الكثيرَ من المعلومات، منها التي يعرفُها والكثير من التي لا يعرفُها. حتى طبيب المستشفى لم يُبقه كويلو في إطاره المهني وإنّما منحه الحريّةَ في أن ينطلقَ ليتصرّفَ كما يريد وليكشفَ عن مَشاعره تجاه مَرضاه والناس الذين عرَفهم. وتَركَ الممرضة تخرجُ عن وظيفتها المُحدّدة وتتفاعلُ مع فرونيكا في الكثير من المواقف وأن تحثّها وأدوارد على الخروج والتنزه في الحديقة بعيدا عن جوّ المستشفى الخانق.

حتى الزمن الذي كان يترصّد فرونيكا ويُحدّدُ لها الأيامَ والساعات التي بقيت لها في الحياة، ويضغط على أعصاب الكثير من الشخصيات وتترصده، استحال، رغم ما كان مجرّد ذكره يُثيرُ من فزَع وخوف وتَردّد ليكون الأنيسَ المُتواري الذي لا يُزعجُ العاشقَين في خلواتهما، والغائبَ الذي يجعلُ الخائفين منه ينسَونَه حتى أنه يتنازل عن إلحاحه السابق وتَدقيقه في اليوم والساعة، ويقف ليتركَ العاشقين فرونيكا وأدوارد يعيشان بحبّ دون أيّ إزعاج.

فرونيكا بطلة الرواية قررّرت أن تموت وقامت بمحاولة الانتحار لأنّها فقدت كلّ لذّة في الحياة، ويئست من كل جديد أو تغيير للأفضل، وخافت ضجرّ الأيام وتَكرارَها وغدرَ الزمن وخَواء الأمكنة. وأرادت بموتها تجاوزَ الحياة التي تعيشُها وملّتها إلى حياة أخرى تكون أكثرَ إثارة وحيويّة. لكنّ فرونيكا هذه، رغم فشلها في محاولة الانتحار واستمرار رغبتها في الموت، سرعان ما تعلّقت بالحياة وأرادت الانطلاقَ فيها، ورسمت لنفسها الآمالَ والأحلامَ التي تريدُ تَحقيقها عندما لفَحها الحبّ ووجدت الانسانَ الذي أحبّته بصدق وبادلها الحبّ. فرونيكا هذه التي قرّرت أن تموتَ في لحظة يأس وانقطاع رجاء هي نفسها التي ترفض الموت وتجد أنّ خلاصَها منه لا يكون إلاّ بالحبّ. فالحبّ هو النقيض للموت. فإذا أردنا أن نرفضَ الموتَ ولا نفكر فيه .. علينا أنْ نُحبَ.

www.nabih-alkasem.com